الثلاثاء، 4 يونيو 2013

رحلة قلبية إلى توانتنسويو (سفر،أحداث،قصيدة)

بسم الله الرحمن الرحيم







كانت مهمة أخذت أكثر من نصف سنة إعداداً، هذه الرحلة، وقبلها سنوات قراءة واطلاع، حتى جاء القرار الأول من نوعه.
كنت سأذهب إلى البيرو. عدت الآن، ولكن بروح مقسومة، وبذهن عاشق آسف وسعيد بذات الوقت؛ لقد عشقت ذلك البلد، عشقت تاريخه البعيد، عشقت أهله الأصليين، عشقت وجودي هناك، عشقت امنياتي التي تحققت فيه. إنه حديقة صنعها الله سبحانه، وزينها بكل نعيم دنيوي.

لأهلها الكرام انقلوا عني سلامي...
وغلّظوا عن عودتي وعدي وأقسامي...
وإن سبق القدر أيماني...
ففي حمى واديها المقدس ادفنوني...
وازرعوا نخلة في جواري...
تؤنس وحدتي في طول مقامي...
وبجذورها الطاهرة تواسي منامي...




(يحوي موسيقى)

اشتريت التذكرة في نهاية 2012، قبل سفري بحوالي 6 أشهر، بعد بحث وتمحيص لأفضل الخيارات. لحسن الحظ، كانت التذكرة رخيصة نظراً لطول الرحلة. أما البرنامج هناك، فقد كان أمره أكثر تعقيداً. كنت أخطط للقيام بكل الحجوزات بنفسي، لكني خلصت في النهاية إلى أني سأضيع الكثير من الوقت والجهد، وسأخاطر كثيراً براحتي ومالي بهذه الطريقة. قررت الاستعانة بشركة متخصصة من ذلك البلد الذي لم أتمنى زيارة مكان أكثر منه في حياتي. راسلت شركة سياحية معروفة، بنموذج بسيط على موقعهم، يسأل المرء عن اهتماماته، ماذا يريد أن يرى ويفعل، وكم سيمضي. فكرة الشركة هي بناء برنامج بمشاركة العميل، وبتخصيص موظف لكل عميل للعمل معاً. سرعان ما ردت امرأة لطيفة، وزودتني بعرض مبدئي، وذلك على صفحة مخصصة لي على موقعهم، تحوي كل بيانات برنامجي ومدفوعاتي وأي تفاصيل أخرى، بحيث يمكنني التعليق على الصفحة والبريد، والبدء من هذا النموذج. كان البرنامج تقليدياً، وبسعر معقول، أو حتى مغرٍ جداً. سأبقى هناك لشهر كامل، ولدي ميزانية محددة.
كنت قد قلت بأني أريد أن أرى الطبيعة، والآثار ما قبل الاحتلال الاسباني، والثقافة. البرنامج الذي أرسلته الموظفة كان ما يسمونه طريق القرنقو على ما أعتقد، وهو الاسم الذي يطلقونه على الأمريكيين عموماً. لم يشمل كل ما أريد رؤيته، فقط الأشياء التي يعرفها السياح بالعادة، ويسهل عليهم الوصول إليها بخط رحلة غير مكلفة. كان هناك الكثير مما أريد رؤيته ومعايشته ولم يكن البرنامج يأتي على ذكره، على نحو مفهوم.
ربما استغرق العمل على البرنامج حوالي 4 أشهر من المراسلات المستمرة والتعديل، حتى وصل عدد العروض إلى تسعة.
بالنهاية، توصلنا إلى اتفاق جيد، وكانت المرأة، واسمها كارلا، صبورة إلى حد مذهل، فأنا بصراحة مزعج من حيث الاهتمام ببعض التفاصيل بهوس، وكثرة الأسئلة التي تجيبها إجابات وافية ومستهلكة للوقت. وكانت الأماكن التي أريد رؤيتها على بعض التناقض مكانياً، فكان التخطيط لزيارتها متعب لها. وبعض الأماكن التي تهمني كثيراً اتضح انها غير معروفة إلى درجة أنه لا تذهب إليها مجموعات سياحية، رغم أنها اماكن أثرية مذهلة، فكان الذهاب إليها أصعب، خلافاً لاستنزافه للوقت. كنت أعتذر منها كثيراً على أمور كثيرة، حيث أني بطيء الاستيعاب بطبيعتي، وأحتاج إلى قراءات مستفيضة حول أي اقتراح، وهو ما يتمخض عن نقاش ممل على الأغلب بالنسبة إليها. وكنت أفكر، بعد تلك المراسلات الطويلة، كيف لم تسأم؟ وكيف لم تلمح أو يخطر في ذهنها أني غير جاد، وقد أكون مضيعة كلية للوقت والجهد؟. إنها مذهلة بصدق.
بعد الاتفاق على برنامج، يشمل رحلة على ثاني أعلى قطار بالعالم، اتضح أن الشركة المشغلة أوقفت القطار، الذي سيأخذني بالواقع إلى منطقة لا تهمني كثيراً، لكن تجربة القطار بحد ذاتها ذات أهمية قصوى، نظراً للأماكن المميزة والتي نادراً ما تُرى من الأجانب. مشكلة القطار، أيضاً، أنه غير مشهور جداً بين السياح، فقلة من يذهبون عبره أو يهتمون لأمره، ربما لطول الرحلة التي تصل إلى 11 ساعة، وهو قطار سياحي مجهز بكل أشكال الرفاهية. سيعاد تشغيل القطار بعد شهرين أو ثلاثة من عودتي من ذلك البلد. لا أخفيكم أن هذه المفاجئة كان لها أثر محطم. حاولت تعويضي، واقترحت الذهاب بسيارة، وهي لن تمر بالأماكن التي يمر بها القطار بطبيعة الحال، ولن تكون نفس التجربة، خلافاً للوقت الذي ستستهلكه. أخبرتها بأن رحلتي لتلك المنطقة كانت لأجل القطار فقط، فكان علينا أن نغير الخطة.
على الأقل، أتيح لي الآن الذهاب إلى بعض الاماكن التي تخليت عنها مكرها، لضيق الوقت. فهذا البلد من أكثر بلدان العالم تنوعاً من كافة النواحي، إنه يحوي كل التضاريس والاجواء، أشكال مختلفة من الحضارات الغابرة والبديعة. اخترت الذهاب إلى بحيرة مشهورة، مقدسة لدى السكان الأصليين، وتجربة برنامج مميز هناك.
بعد أيام، اتضح أن كارلا قد أشفقت علي، وظلت تفكر بالأمر كما قالت، أي أمر القطار الذي ألغي، وقد أحزنها أنها لم تتذكر أن تقترح قطار آخر، لم أعرف عنه بصراحة، وهو غير معروف على وجه العموم لغالبية السياح، لأنه لا يظهر على مسار القرنقو. بالطبع، وافقت سعيداً، ودون جدال. كان القطار حتى يسهل علي الرحلة، حيث لن أخرج عن طريقي. وقد انخفض السعر الإجمالي على نحو جذري حتى، فقد وفرت أكثر من ألفي ريال.
كنت شاكراً إلى أقصى حد. وكنت قد وعدتها، حتى قبل التطورات الأخيرة، بالإتيان بهدية من هنا لها ولابنتها الصغيرة، وسألتها أن تختار ما تريد. وبالواقع، اشتريت لها أكثر مما اختارت، لأنها تستحق.
لكن، واجهتني لاحقاً مشكلة تحويل الأموال. كنت أريد أن أرسل المال عبر وسترن يونيِن، وهو مكان مزحوم وفوضوي، أحول من خلاله بالعادة لأهل الخادمة نيابة عنها. لكن بسبب المشاكل، وأخطاء بالتسجيل من قبل وسترن يونيِن، وضيق الوقت بسبب هذه الأخطاء التي اتضحت بشكل متأخر (حيث ان المرأة الطيبة قد دلتني على خطة سداد أحصل بمقتضاها على خصم جيد من شركتها، بعد حوارات حول ميزانيتي). بالنهاية، كلفني التحويل المستعجل الكثير، ثم حولت الدفعة الأخيرة عن طريق بنكي، الفرنسي، ويا ليتني فعلت ذلك من البداية، رغم أني واجهت هناك مشكلة كذلك، على أن مدير الفرع الرائع، اسم عائلته فهيم، وهو اسم على مسمى، تفهم انزعاجي وقام بكل الأمر لأجلي.
كان يجب أن تعود إلي الدفعة التي أخطأوا وسترن يونين في تسجيلها، لكن ما حدث هو أني تلقيت رسالة من الموظفة، تخبرني فيها أن تلك الدفعة قد وصلت إليهم بالنهاية، وإن تكن قد تأخرت كثيراً، وهكذا، أكون سددت لهم أكثر من حقهم بكثير، وستعيد إلي المال الزائد حالما أصل إلى عاصمة البيرو؛ ليما. حيث أنه من سياسة شركتهم أن يلقاك الموظف الذي ساعدك على تخطيط الاجازة بعد وصولك بقليل، ليرتب معك التفاصيل النهائية، ويعطيك نسخة نهائية عن البرنامج، بالإضافة إلى التذاكر والكروت التي ستستخدمها بالمواصلات، والتأمين الصحي وخلافه. أعجبتني هذه الأمانة والمباشرة. إني أثق بهذه المرأة أساساً.
كان من الممكن أن تكلفني الرحلة أقل بكثير، حتى عن طريق الوكالة السياحية، لكني شئت أن لا أبخل بشيء على ما يهمني رؤيته والقيام به، ورغم أني لم أتدخل بالسؤال عن الفنادق، طالما أنها من فئة مقبولة، إلا اني اخترت فندق واحد قرأت عنه، هو من المباني العتيقة التي بنيت على أسس مباني الانكا البادية من الخارج، وكنت قد قررت منذ البداية ترك أي يوم زائد لقضائه هناك، في مدينة كوزكو، عاصمة الإنكا قديما، التي خربها الهمجيون الأسبان.

وهكذا، تشكلت الأمنية، التي أسأل الله أن تكون خير لي.
كان خبر سعيد جداً لعدة أشخاص، قراري بالذهاب إلى هناك في إجازة، فقد ظل البعض يلح علي بالسفر وقضاء وقت لنفسي منذ سنوات، أهمهم وأكثرهم إلحاحاً الدكتور الألماني، وقد كان الأكثر سعادة بالخبر، إلى حد أنه أصر كثيراً على المساهمة بتكاليف الرحلة، وللقاءات كثيرة، وهو ما رفضته بالطبع، رغم تأثري الشديد باهتمامه.
لعل الأكثر تعاسة في هذا الشأن هو أمي، رغم أنها حاولت جاهدة أن لا تقنعني بعدم الذهاب، لكنها كانت أحياناً لا تقاوم، فتقترح ذلك فقط، قائلة: "أغديك بس ما تروح؟". تحول الأمر بالنسبة إليها بالنهاية إلى شر لا بد منه، وبدأت تعطي الوصايا التي يجب أن ألتزم بها هناك، وإن أتيت بزوجة معي، وإن لم تكن مسلمة، حتى الكتابية ستكون كابنتها كما وصفت، على أن تكون امرأة محترمة أهلها طيبون، أقول إن أتيت بزوجة معي، فستكون سعيدة. على أن أحد أخواتي تجد في فكرة إحضاري لزوجة من هناك أمر مثير للامتعاض.
كما يجب أن أهاتف أمي كل يوم من هناك، كان هذا أشبه بشرط.
وبالواقع، لست أدري ما رابط الزواج بالرحلة بالنسبة لأمي، حيث أني حينما أريتها صورة الموظفة الطيبة كارلا مع ابنتها الصغيرة، في سياق حكيي عن خدماتها ومساعدتها لي، أوصتني أمي أن أسأل إن كان لها شقيقة أصغر لأتزوجها! فقد أعجبتها، وفي وقت لاحق، حتى ابنة عم لها ستكون جيدة.


أما الدكتور، فقد رحل. ذهبت إليه، في بيت صديق له حيث يقيم في غرفة، وهي مقتطعة من المنزل نفسه بمدخل مستقل، لآخذه للمطار قبل أيام. صديقه رجل لم أرى أطيب منه بخلاف الدكتور نفسه. هو مصري بجنسية ألمانية، ومتزوج من امرأة ألمانية طيبة، ولديهم ابن مليح ما شاء الله، يذكرني بابن أخي في أمريكا. كان حضوري مبكراً، لذا طلب مني الدكتور الدخول لنجلس قليلاً، فقد أرهقه تحزيم الأمتعة وتجهيزها للشحن لاحقاً، وكان الهواء أروع ما يكون، على نحو نادر، فجلسنا بالحديقة. كنت قد أحضرت معي انبوبيّ كحل طبيعي، من النوع الذي تحبه أمي وتستخدمه لكونه صحي ولا يتعب عينيها، ذلك لعلمي بوجود والدة صديق الدكتور المصري في زيارة إليه.
لم أرها من قبل، لكني كنت قد أرسلت إليها عطراً كهدية، تقديراً لحسن تربيتها لابنها، ولما سمعته من الدكتور عن طيبتها ورقيها رغم بساطتها، فردت بأن أحضرت لنا هدية من مصر، حلويات أطعم بكثير مما يباع لدينا، بعلبة كبيرة وأنيقة جداً.
أعطيت الكحل لابنها، ليعطيه لوالدته وزوجته. بعد قليل جاء ليخبرني بأن والدته تريد السلام علي، فقمت معه. كانت امرأة كبيرة بالسن، فليس عمر ابنها بأقل من الأربعين، وكان لها وجه من أجمل الوجوه ومن أكثرها بعث للطمئنينة، وهي، كابنها، سوداء اللون، حيث يبدو أنهم من النوبة أو جنوبها، ولديها وشوم قبلية جميلة تزين وجهها، تزيده تعبيراً وتميزاً.
كانت تعتب بذوق على إتعابي لنفسي، وتسألني عن حالي وعن أمي، وسألت إن كنت متزوجاً، فرددت مازحاً: على يديك ان شاء الله يا خالة. ضحك ابنها، قالت بلطف بأنه يسعدها خدمتي " يا ابني".

جاء صديق ثان للدكتور، واتفقنا على أن نلتقي بالمطار، أخذت الدكتور معي. هناك، ساعدناه بإنهاء إجراءاته، ووقفنا أخيراً بعدما لم يتبقى سوى أن يذهب عبر مكاتب الجوازات إلى صالة الانتظار، فسلم على كل من صديقيه واحتضنهم. كنت قد رأيته كثيراً يحتضن أصدقائه، ويقبلهم كما يقبل العرب ببعضهم عند السلام، لكن لم يحدث أن سلمت عليه سوا مصافحة من قبل. مددت يدي لأصافحه، لكنه تجاهل يدي وأحاطني بيديه، واحتضنني بقوة، ومطولاً. شعرت بأن الموقف بات أصعب، وكدت أن أبكي.
كانت أضلعي قد بدأت تؤلمني حينما أفلتني، وذهب. لوح إلينا حينما أنهى الإجراء الأخير، ومضى داخلاً الصالة.

"إنها صداقة غير عادية يا سعد، لن تنتهي بذهابي، إني أعلم هذا الآن"


يريد أن يعلم عن رحلة البيرو، كيف ستجري الأمور؟ لقد تابع الإعداد لها منذ البداية. قال بطريقته التي يفصح بها عن مكنونات نفسه؛ بأنها ستكون البداية فقط. أوضح بأني بعد ذلك، سآتي إلى ألمانيا، لا بد أن آتي، وأنه لديه الكثير من الخطط لأجل هذا الأمر.



الآن، أكتب بعدما عدت من البيرو بفترة. ولم تكن نيتي أن أتأخر بالكتابة، أو أن لا أكتب إلا بعد انتهاء الرحلة؛ حيث كنت أخطط لكتابة تدوينتين على الأقل في الرحلة نفسها. لكن؛ فسد كمبيوتري الكرومبوك في بداية الرحلة تقريباً، ولم يكن هناك مجال للتدوين عبر الجوال بالنسبة إلي، فطريقتي بالكتابة لا تسمح بهذا، وتصورت بأن كتابة مقتطفات بالغة الصغر أمر غير مجد، ولن يكون له معنى.
سأصلحه لاحقاً إن شاء الله وأتصرف به، بينما اشتريت آخر مؤخراً سيصل قريباً إن شاء الله.


بعد بعض الأخطاء الفادحة والمخجلة لشخص لم يتعود على السفر، وصلت إلى البيرو. كنت مذهولاً، وغير متواصل مع المكان تماماً، غير مستوعب بشكل ما. أعتقد بأن الطيران على وجه الخصوص يسبب صدمة لبعض الناس حينما يتغير المكان فجأة.
بالمطار، كانت فتاة من الجوازات تتأكد من جواز سفري، حينما صاحت بذهول: أرابيا سآوديتا! (السعودية) ونظرت إلي متأملة وهي مبتسمة بذهول، ثم صاحت بزميلاتها عن السعودية، فأطلين من مكاتبهن، وتأملنني للحظات، وقد تركتهن ينظرن ملئ فضولهن، ثم سُمح لي بلطف بالمرور. لم أقابل شخص هناك رأى عربي من قبل. ورغم معرفة الكثيرون بوجود جالية فلسطينية بالعاصمة هناك، إلا أنهم كانوا ينظرون إلي على نحو مختلف.
استقبلتني امرأة لطيفة بالمطار، خفيفة دم على نحو غير عادي، اسمها الزابيث، وعرفتني بالسائق ميقيل. كانت لها ملامح مخلوطة بين الآسيوية والمحلية للسكان الأصليين، بينما يشبه السائق ممثل مصري قديم اسمه محمود عبدالعزيز بعينيه الشفافتين. كانا لطفاء جداً، وبالواقع، بدت الإثارة عليهما لرؤية شخص عربي لأول مرة. وهذا أمر استمر كثيراً على مر رحلتي عبر تلك البلاد.
ونحن في الطريق إلى الفندق، رأيت بضع فتيات حسناوات، وإحداهن تهرب من الشرطة، بينما استوقفوا اثنتين. تسائلت ما أمرهن؟ فقالت الزابيث بأن هؤلاء هم رجال منحرفون بالواقع، يبيعون المتعة. صفقت يدي على فمي لا إرادياً، فضحكوا. ليس الأمر أني لم أتوقع وجود مثل هؤلاء الناس، لكني حسبتهم بالفعل نساء.
كانوا يسألون كثيراً عن السعودية، والإسلام، وكيف يعيش الناس، ويتأملون بشكلي باستمرار. ميقيل لم يكن يتحدث الانقليزية، لكنه كان يفهم ما أقول على ما أظن بشكل عام. وقد طلب من الزابيث أن تسألني عن البرقع. أخبرتهم عن أمره، وأن الناس يختلفون في رؤيتهم له واستخدامه، وأن عائلتي عائلة ملتزمة، يغطين فيها النساء وجوههن عن من لا يسمح لهم برؤيتها. تسائلوا إن كنت أرى وجوه أخواتي، بالطبع أفعل، أخبرتهم بذلك.
بعد الكثير من التحدث، والنكات والضحك، وصلنا إلى الفندق، وتركت لأرتاح، حيث في اليوم التالي صباحاً سأعود إلى المطار لأسافر إلى الشمال. لكني قابلت كارلا هناك، حيث حضرت حينما علمت أني وصلت. ويالها من امرأة فاتنة، لقد أُخذت بجمالها، حيث لم توفها صورها على الموقع والوتساب حقها. وهي ذات ملامح عربية، بحيث يسهل على المرء أن يحسبها من المنطقة، بل ربما قد يجنح المرء ويقول بأنها عتيبية خليصة.
كان السفر في اليوم التالي لوصولي أمر زاد من غرابة الأمر في نفسي، كنت أتسائل إن كنت في البيرو حقاً. إنه حلم ذو عمر طويل، لا يصدق المرء أنه تحقق بسهولة.
في الطائرة، تذوقت مشروب غازي يعتزون به كثيراً، اسمه إنكا كولا، وهو ذو لون أصفر شفاف مائل للذهبي، وهو من المشروبات القليلة بالعالم التي لم تتمكن كوكاكولا من التغلب عليها بالمبيعات والشعبية، حتى اضطرت إلى شراء الشركة في النهاية واتخاذها كموزع لكوكاكولا بالبيرو. ورغم وصف الناس الأجانب له دائما أنه بطعم العلك، لم يكن هذا سوا سمة بسيطة فيه. هل تعرفون شاني؟ المشروب القديم لدينا بلونه البنفسجي أو الأحمر؟ (لا أعرف ماذا يسمى لونه). إنه بذات الطعم، لكن وكأنما معه نكهة علك بدون نكهة محددة. لم يكن سيئاً، إنه مثل شاني تماماً، فإن كنت تحب شاني فستحبه.

بالشمال، استقبلني بالمطار سائق ذو ملامح تميل لأهل الأرض الأصليون أكثر من سواهم، اسمه خوان، وهو أب في أواسط عمره لبضعة أبناء. كان السائق لا يتحدث الانقليزية، لكن، له وجه وحضور أبويّ مطمئن على نحو غير عادي، ولعلي لم أرى مثله من قبل، يمكن للمرء أن يخمن طيبته وحسن نواياه، وهذا سحر خاص ببعض الناس، وإن يكن من النادر أن يكون حضور المرء بجمال حضور خوان الهادئ والمريح. أخذني إلى المدينة، وهي تسمى تروهيليو، وكان يريني المعالم بقدر ما يستطيع من إيضاح في طريقنا. المدينة تقع في الأطراف الصحراوية من البيرو، أي على ساحل المحيط الهادي، لكنها مليئة بالمزارع، والآثار البديعة.
وصلنا إلى ساحة من ساحات المدينة، وهي الساحة الرئيسية على ما يبدو. مدنهم وقراهم كلها تتميز بهذه الساحات الرائعة، حيث تتمركز غالباً مرافق المدينة أو القرية الحيوية، ويتواجد حديقة ونصب تذكارية غالباً، وتجد الناس العاديون يتمشون هناك، يلتقون، ويتواصلون اجتماعياً، بكل فئاتهم. وتقام كذلك الأنشطة العامة في هذه الأماكن غالباً.
نزلنا من السيارة، وأشار علي خوان بأن أتمشى هناك وألتقط الصور. كنت مرتبكاً إذ مشيت، فما إن ابتعدت قليلاً حتى التفتُّ للخلف لأنظر إليه، فأشار مشجعاً بيديه على نحو أبويّ أن أذهب، فهو هنا.
كانت ساحة بديعة، محاطة بالمنازل والمباني الأثرية المجددة، هذه بعض الصور:



مر بعض الوقت حينما لمحت خوان يتحدث مع امرأة في اواسط العمر، فذهبت إليهم، إذ خمنت بأنها مرشدتي في هذه المدينة. سلمت على المرأة، وعرفتني بنفسها، اسمها جوديث، وركبنا السيارة ذاهبين إلى معبدي الشمس والقمر؛ معبدين أثريين يعودان إلى حضارة الموتشيكا. وكانت الطرقات مميزة في تلك المدينة الهادئة، إذ ترى سواقي وقنوات صغيرة خلفتها الحضارات القديمة ولا يزال أهل المدينة يستخدمونها في أمورهم بعد تعديلها على ما يبدو لتناسب شوارعهم، يسقون بها مزارعهم الجميلة، ويغسلون بها بيوتهم، وهي تمر أمام البيوت وخلفها في بعض الأماكن. هذه القنوات عمرها 800 سنة على الأقل، أي قبل حضور الاسبان بكثير، يغذيها نهر ينزل من جبال الانديز في الشرق من المكان، وفي مواسم الأمطار وبعدها يجلب النهر معادن وطمي يزيد من جودة الزرع:






لا يزال المعبدين تحت التنقيب والعمل، وبالواقع، معبد القمر لا يوجد حتى الآن ما يرى منه سوا ما لا جدوى من العناء لأجله. في الموقعين يوجد علماء الآثار والمنقبون، وتوجد ورشهم، ويبدو شكل المكان عموماً بأنه لا يجدر السماح للسياح بالقدوم إليه لهشاشته، سوا أن تخطيطهم وعنايتهم ممتازة، فالمسار محدد، ولا يمكن للسياح أن يفسدو المكان، بالإضافة إلى أن معظم السياح أصلاً لا يعرفون عنه، أو حتى عن الشمال الثري بكل شيء جميل أي شيء، إلا فيما ندر. حينما جئنا لم يوجد سوانا، وجائت لاحقاً مجموعة صغيرة من السياح الأوروبيين المسنين، ربما خمسة، مع مرشدتهم.
والمكان على وجه العموم رغم انبهاري به كان قد سبب لي بالعمق شيء من عدم الارتياح؛ شعور غريب بشر المكان، شر يجعلك تشعر بأنك ربما لم يكن يجدر بك أن تكون هناك لو علمت أكثر. وكنت أعلم مسبقاً أن الموتشيكا من الحضارات التي اعتادت التضحية بالبشر، لكن هذه الحقيقة ليست بحد ذاتها ما جعلني أشعر برهبة ووجود أمر خطأ؛ إن المكان نفسه يبث شعوراً غير مريح. هل لأن طقوس التضحية المعقدة كانت تتم في معبد الشمس حيث تمشيت وتفرجت؟ الله وحده يعلم. وقد يكون شعور خاص بي، لن يخامر سواي.
وعموماً، حسب علمي، توقفت التضحيات البشرية بالمنطقة، ربما بعد انهيار هذه الحضارة حتى، حينما امتدت حضارة الإنكا وضمت الدويلات في الشمال، حيث لم يكن الإنكا من المؤيدين للممارسة بشكل عام. وكان أمر هذه الحضارة مؤسف، في عبارة عن دويلات متجاورة، ومتناحرة رغم تشابه الديانة والثقافة وأسلوب الحياة.

قلت لجوديث بأن نقوشهم بالمعبد، والجو العام، يذكرني بحضارة المايا في أمريكا الوسطى، يوجد نقاط التقاء قوية لا يمكن تجاهلها، وأشرت إليها مفصلاً؛ حيث أنه خلافاً للشكليات والطابع العام وبعض السمات الثقافية، الأسلوب بالبناء فوق الأبنية بدون هدمها، أي إضافة طبقة جديدة للجدران، إشارة لتغير الحقبة الزمنية أو احتراماً لملوك وقوم سابقون، هي من سمات المايا. ابتسمت جوديث ونظرت إلي وكأني تلميذ أصاب أمراً، وقالت بأن هذا صحيح، وأنه يُعتقد بوجود اتصال ثقافي بين الحضارات شمال البيرو وأمريكا الوسطى. وربما كان، حسب بعض الأساطير، من بدأ هذه الحضارات شخص، أو قوم، قدموا إلى أهل تلك المناطق من أمريكا الوسطى عبر البحر.
ترى على النقوش صور للآلهة، وهي ذات وجه حي ومخيف، وما يزيد الأمر غرابة هو تصورهم لوجه الآلهة بمختلف التعابير، رغم تكرار النقوش وتشابهها. كذلك، يوقع الفنانون أحياناً عملهم على الجدار، برسم شعار صغير، إذ لم تكن الكتابة ضمن ميزات حضارات أمريكا الجنوبية، على عكس حضارات أمريكا الوسطى.
والمعبد عجيب، حيث أن علماء الآثار قد كشفوا عن عدة طبقات، وكلما تعمقت بالطبقات كانت الزخارف محفوظة على نحو أفضل، بل على نحو مذهل، بألوانها وكأنها طليت منذ عهد قريب.
ويشتهر الناس هناك بفنهم بالأواني الفخارية، وهم مبدعون إلى أقصى حد، بتصويرهم لحياتهم وأحداثها، وطقوسهم، وطرقهم بالعيش على نحو مؤثر. بعضها أشبه بالتماثيل المجوفة على شكل آنية، وبعضها مرسوم عليها بفن وحرفية قل نظيرها، وهي ذات شكل معتاد، كما يرى المرء من آثار اليونان، وإنما على نحو أكثر حرفية؛ ربما لأنها أسلوب التعبير الأكثر فاعلية، نظراً لغياب الكتابة.

ثم مشينا إلى المتحف القريب، ورأينا أشياء رائعة، أعجبني تمثال لغزال على وجه الخصوص.


بعد ذلك، أخذنا خوان إلى هرم يقع في وسط المدينة. المدينة مريحة، بأشجارها وهوائها الطيب، ولطف أهلها وحسن لقياهم. لاحظت بأن القوم أيديهم صغيرة على نحو لم أتعود رؤيته. بحيث أن يديّ متوسطة الحجم، المائلة للكبر والانبساط، تبدو عملاقة أمام أيديهم، ويصبح الأمر مضحكاً حين المقارنة مع أيدي النساء، التي تبدو كأيدي الأطفال، وهي أياد جميلة حقاً.
وبوجه العموم، أرى بأن الناس جميلون في شمال البلاد، وقد خلب لبي على وجه الخصوص جمال السكان الأصليون، أعينهم جميلة، كحيلة غالباً، ومميزة، برموش كثيفة. بشرتهم خمرية، على بعض الحمرة أحياناً، ولكن ليسوا بحمرة أهل الجبال، خصوصاً أهل الجنوب، الذين لهم نوعية خاصة من الجمال كذلك. إني أحب البشرة الأغمق من بشرتي غالباً. وحينما تكون من درجة لم أرى مثلها من قبل أو لم أعتدها فإنها تأسرني.
لاحظت كذلك بأنهم يتميزون بأنوف قوية، جميلة وتوحي بالصلابة. وأهل الشمال من السكان الأصليين لهم نظرات معبرة ونفاذة.


الهرم كان وسط حي سكني، وهو أقرب لمبنى منه لهرم معتاد، واهرامات أمريكا الجنوبية ليست بإبداع اهرامات أمريكا الوسطى، فهم مبدعين بالمباني الأخرى والطرق والهندسة على نحو أكبر.
وهو محاط بجدران عالية، لا تزال قائمة، ومزود أصلاً ببطحاء تصعد إلى قمته المستوية. بالقمة؛ نظرت إلى البيوت الكثيفة المجاورة، وتعجبت من الوضع. ذلك المكان القديم، النابع عن حضارة قديمة، وهي حضارة التشيمو، وسط هذه البيوت الحديثة، وكأنه أكثر مكان عادي.
قبل خروجنا توقفنا لدى بائعة، وهي صديقة لجوديث، امرأة في أربعيناتها من السكان الأصليين، جميلة الملامح. تكلمنا معها قليلاً وتمازحنا، يميل الناس هناك للمرح والبهجة. ورأينا لدى حارس الهرم بضع كلاب بيروفية أصيلة، وهي كلاب متوسطة الحجم، عجيبة السمات غريبة الحضور. لم أسمعها تنبح قط، وقد قرأت بالفعل أنها لا تنبح إلا فيما ندر في حالات خاصة، حيث أنها من أكثر الكلاب هدوءاً، وهي سوداء فاحمة تكاد تخلو من الشعر، سوا أن بعضها لديه القليل على رأسه، وبعض الشعر يبدو بلون شبيه بالذهبي. وهي تتميز كذلك عن سواها من الكلاب بدرجة حرارتها العالية، أعلى من المعدل الطبيعي للكلاب، ربما لافتقارها للفرو الذي يدفئها في مختلف البيئات هناك، وهي حارة إلى درجة أن البعض ينام محتضناً إياها حينما يعاني من البرد والمرض، وهذا أمر من طبهم الشعبي على ما يبدو.




كانت قدمي مجروحة بشدة من قبل مجيئي للبيرو بأسابيع، وكان الجرح لم يلتئم رغم مرور حوالي اسبوعين على نحو غريب. وقد بدأ يؤلمني بشدة. سألت بخجل حينما عدنا إلى السيارة، بعدما اشترينا بعض الماء ومازحنا البائعة الجميلة، وهي صديقة لجوديث، سألت إن كان بالإمكان أخذي إلى مستشفى أو عيادة لأجل قدمي. أخذنا خوان بسرعة إلى مستوصف يقع أمام ساحة جميلة، بأشجار جميلة، يستريح تحتها بعض الناس، وتلعب الكلاب قريباً منهم، والقوم هناك يحبون الكلاب أيما حب.





كنت خجلاً من إقحام خوان وجوديث بالأمر، فهو ليس ضمن الخطة، وليس ضمن ما يتلقون رواتبهم عليه، لكن الألم بات لا يحتمل، كما أن الجرح بات يفرز سوائل غريبة وسوداء، وقد تورم سطح قدمي واحمر وصار جلده رقيق وكأنما تعرض لحرق.
نزلت معي جوديث، وقامت بكل شيء لأجلي، اهتمت بتسجيل المعلومات، وتقديم تأميني الصحي، الذي زودتني به وكالة السفر، ويغطي حتى ألفي دولار. رأت قدمي طبيبة، وجاء طبيبين آخرين ليطلعا عليها. اتفقوا على أنها مصابة بالتهاب حاد، عدوى بكتيرية تحتاج إلى مضادات حيوية قوية. كانت أمي قد أعطتني دواء شعبي يسمى الصبر. قالت الطبيبة بعدما فحصت آثاره بأنه ممتاز، لكنه غير كاف لوحده نظراً لسوء العدوى. أوصت الطبيبة بأن لا أسير كثيراً، وأن لا آكل السمك في البضعة أيام القادمة، وأن أبقي الجرح مغطى دون أن أضغط عليه بحذاء مغلق. كتبت لي بعض الأدوية، وذهبت مع جوديث إلى الصيدلية في العيادة لأخذها. أعطوني عدة أنواع من الحبوب، وكريم، وشاش طبي وأشرطة لاصقة، وقيل لي بأن التأمين سيتحمل كل التكاليف.
كانت الطبيبة تسأل وهي تنظف الجرح عن مختلف الأمور، لماذا اخترت البيرو؟ وكم سأمكث؟ وماذا أعمل؟ كان التنظيف مؤلماً جداً، بل إن مجرد تذكر التنظيف يشعرني بالألم الآن، حيث كانت الطبيبة تقص الخلايا الميتة في الجرح وتسحبها. لغتها الانقليزية متوسطة، وتجمع جملتها بصعوبة أحياناً، فكنت أبسط ردودي كثيراً. جاء طبيب وأراد أن يستملح نفسه عارضاً أن يترجم، ولم يكن هناك حاجة لهذا، ولم يبدو عليها التقدير لهذا التدخل. أشفقت عليه بصراحة.
شكرنا الطبيبة ومضينا. اعتذرت من خوان وجوديث، قال خوان بأن الأمر كان ضرورياً، ولا يجب علي أن أعتذر، إنما كان يجب أن أخبره منذ البداية ولا أعاني بصمت. سرعان ما اتصلت كارلا، التي نسقت برنامجي في الوكالة في العاصمة، وهي مسؤولة عني حتى أعود إلى بلادي، وسألت جوديث عن الأمر. كان قد بلغها من شركة التأمين أني ذهبت إلى عيادة. أوصت جوديث علي كثيراً، وجعل هذا من جوديث أكثر صرامة. ذهبنا إلى تشان تشان، أكبر مدينة طينية بالعالم، رغم أن جزء كبير منها متهدم، وهي من أهم المحطات التي خططت لرؤيتها بإصرار. قالت جوديث بأنه من غير المسموح أن أسير كثيراً، لهذا سنلتزم بالخطة فقط ولن نذهب إلى مختلف الأماكن كما أريد، أي كما فعلت في الموقعين السابقين، ويجب أن أتكلم حالما أشعر بالألم.

كانت المدينة بديعة، لا، إنها تفوق الخيال، إنها قصة مروية، أسطورة، لكنها موجودة ببساطة وقابلة للمس والرؤية بعين الحقيقة، وليس الحلم والتخيّل، شأنها في هذا شأن الكثير، إن لم يكن كل، ما في هذا البلد الساحر، ولست أتخيل بلد يجمع كل شيء مثله؛ لقد أعطاه الله من وفي كل شيء جميل حق.
جدران المدينة فائقة الضخامة، طولاً وعرضاً، وبذاتها ومن الخارج تنم عن ابهة غير عادية، وقدرة على الإذهال حتى باستخدام الطين للبناء، رغم تغيرها عن ما نواه أهلها، بفعل الزمن والريح والمطر، مع أن مجهودات الترميم تسير على قدم وساق، وبإتقان وعناية وخبرة قل نظيرها، ليتنا نستفيد منها في مدننا الطينية، ما المانع؟.
من الداخل تملأ الزخارف العجيبة، أسماك وحيوانات متكررة كزخرفة، وأشكال هندسية متوازية، ويصعب على الفهم تخيل كيفية سير الأمور في تلك المدينة العجيبة. الكثير منها تحت الترميم، أو ما يمكن ترميمه منها، إذ أنها للأسف ومع طول الإهمال سابقاً عبث بها المطر، والمطر يصعب الأمور كثيراً، فكلما نزل كان عليهم الانتباه. وفي سابق العهد وقبل قدوم الاسبان الهمج كانت المدينة مقسمة على نحو دقيق إلى أحياء، حي ملكي، وحي إداري، وحي للأعمال، وهكذا. وكان الناس يؤدون ضريبتهم إلى الدولة بطرق مختلفة، بتوفير الطعام، وبالبناء وصنع الأشياء، وبأداء المهام.
حينما وصل الأسبان كانت المدينة قد خلت على عروشها، إذ يُعتقد بأن أهلها حملوا كنوزهم وفروا متفرقين، حيث وصل خبر الاسبان قبل وصولهم أنفسهم؛ بأنهم يبيدون الناس ويحطمون مدنهم في سبيل الذهب. ولعل فرارهم أحكم ما قاموا به أمام اؤلائك الوحوش. حضارة أخرى قريبة ظنت الاسبان آلهات نزلت لتنقذهم من حكم الإنكا، فوقفوا إلى جانبهم متسببين بانتهاء دولة الإنكا، أو تحديد مصيرها على الأقل. ولما عاد الاسبان أحرقوا مدينتهم، أو القلعة حيث يقيم علية القوم.

تمشينا داخلها، وقد أصرت جوديث على العودة إلى السيارة عند حد معين، فرجوتها أن نكمل قليلاً. كانت قد رأت الجرح، وقد كان بشعاً ويبدو خطيراً، مما جعلها تشعر بمسئولية تجاه الأمر. وصلنا إلى العين التي تسقي المدينة، وهي لا زالت تنضح بالماء الصافي، وقد نمت عليها الحشائش المائية. كان هناك بعض الطيور المائية فيها، وكان أمر مذهل أنه بعد هذه القرون لا زالت العين تسقي المكان الخالي. فهمت لاحقاً بأن أهل هذه الحضارة قد برعوا بهندسة مصادر المياه، وقد استفاد الإنكا بعد ضمهم إلى مملكتهم من خبرات التشيمو، بعد دمجها بخبراتهم، في مختلف بقاع الامبراطورية، إذ كان استيعاب الثقافات والخبرات والعلوم لدى الثقافات والحضارات الأخرى من أهم ميزات الإنكا. لكن ألا يذكركم هذا بشيء؟.
كان بوسعي من هناك شم المحيط في ذلك النسيم العليل، وحتى سماعه، إذ كان قريباً، وكان أهل تلك المدينة يعيشون على صيد الأسماك، إلى جانب الزراعة.




خرجنا من ذلك الجزء من المدينة إلى السيارة، وأخذنا خوان إلى مطعم يطل على المحيط. هناك، ساعدتني جوديث بالطلب، ومضت قائلة بأنها ستعود، لكنها لم تعد، إذ ظلت بالأسفل مع معارفها وخوان. كان الغداء ضمن الجولة، فلم أدفع شيئاً، وربما لأنها لا ترد شراء الغداء لم تعد، كما خطر لي لاحقاً. كان النادل شاب ظريف، اسمه لويس، ولم يكن يتحدث الانقليزية إلا لمما. أحضر لي مشروب شعبي لديهم، لونه بنفسجي، وهو يصنع من الذرة. سألت إن كان يحوي كحولاً أو يدير الرأس، فأكد لي بأنه لا تأثير له من هذا. وكان المشروب لذيذاً. لم أمتلك الخبرة بعد لأعرف أنه أنواع مختلفة، ويعرف المرء المسكر منه بلونه الأصفر أو الشفاف، وكله يصنع من أنواع الذرة، ولديهم حوالي 4000 نوع من الذرة، فهي جائت من الأمريكيتين أصلاً، ومثلها البطاطا، التي تأتي بأشكال وألوان، ولها نكهة تشعر المتذوق بأن ما يباع لدينا إنما هي تلميحات عن طعم البطاطا، وليس طعمها الحقيقي، والبطاطا أصلها من البيرو حصراً. وكثرة الأنواع عائد إلى الجهود العلمية للإنكا والحضارة التي ورثوها؛ الواري. إذ كانوا يدرسون النباتات ويهجنونها في أماكن خاصة يصممونها لتحاكي مختلف الاجواء، حتى يتمكن الناس من أنحاء الامبراطورية التي تغطي كل الأجواء من زراعة مختلف النباتات.
كان الغداء رائع على نحو غير عادي، تذوقت أرز من أطعم ما تذوقت في حياتي. وهم يزرعون الأرز إذ جاء به الاسبان، لكني لم أتذوق مثله. ولديهم أكلة من المقبلات يسمونها كاوسا، وهي عبارة عن طبقتين من البطاطا المهروسة شديد الصفرة، وبين الطبقتين دجاج او سمك مدقوق ومخلوط بصلصة تقليدية، وهي من أطعم النعم التي تذوقت في حياتي. هناك في البيرو، تذوقت نكهات جديدة، لم أتذوق مثلها في حياتي، وشممت روائح رائعة، لم أعرفها من قبل.
كنت أتناول غدائي على الشرفة، وأطالع المحيط، وأنا أفكر بنوع السعادة الذي لم أعرفه من قبل؛ إنه شكل جديد علي. كان على الشاطئ أناس يتمشون، ويسبحون، ويلعبون، ولم يكونوا كثيرون على نحو منفر، كان منظر يسر القلب ويحييه. حينما فرغت من تلك الوجبة الرائعة، نزلت ومضينا تجاه المحيط. ترى شكل من الشباب هناك، وحول كل البلد تقريباً، يخيل إليك بأنك ربما حينما تعود إلى الرياض فستجدهم يتسكعون في شارع التحلية، لفرط الألفة التي تجدها في أشكالهم، فهم يشبهوننا تماماً، وهؤلاء على ما أتخيل هم من الأسبان ومن جائوا بهم معهم من المورسكيين؛ عرب وخلافهم. وبالطبع، تجد الكثير من المخلطين، بل يقال إنه يندر أن تجد صافي العرق هناك، لكنك تعرف الأصليين من أشكالهم وعاداتهم بطبيعة الحال، مهما خالطهم من دماء مختلفة.

على الشاطئ، رأينا القوارب التقليدية المصنوعة من نوع من القش، وهي قوارب نحيلة لشخص واحد، خاصة بصيد السمك، لا يركبها الصياد إنما يمتطيها كما يمتطي المرء الحيوان، رغم أن المرء يخمن حينما يرى تجويفاً في نهايتها أنه مكان الصياد، لكن التجويف خاص بجمع السمك. ولا تدوم القوارب أكثر من شهور، حيث يأكلها ملح البحر، فيتوجب على الصياد صنع قارب آخر أو شارؤه، وهي تصنع منذ قديم الزمان، قبل وصول الأجانب.



أخذني خوان وجوديث إلى محطة الحافلات، حيث سأسافر إلى مدينة أخرى قريبة نسبياً، وإن طال السفر لبعض ساعات. بالمحطة، أخبرتهم جوديث، بما استطعت فهمه مما تقول، بأني عربي، وأني لا أتحدث الاسبانية ولن أفهم النداء وقد تفوتني حافلتي، وأن قدمي مجروحة على ما يبدو. نظروا إلي بفضول وابتسامة عريضة، وأخذت موظفة لطيفة جوازي لمطابقة بياناتي مع التذكرة. وكانت تخبر زملائها، ممن لم يحضروا مؤتمر جوديث، بأني عربي من السعودية، وتريهم إياي. كانوا قد طلبوا مني أن أجلس قريباً منهم، حتى يعتنون بأمري. ودعتني جوديث، وكنت قد ودعت خوان الطيب مسبقاً.
نادوني لاحقاً قبل الجميع، للتأكد من أني سأركب الحافلة الصحيحة. ومضيت إلى المدينة القادمة.



ما لاحظته هناك، بعد رحلتي التي امتدت شهراً، أن الناس هناك يتعاطفون معي كثيراً حينما يرون بأني لا اتحدث الاسبانية، وهم دائماً ما يفترضون مبدئياً أني أتحدثها، ربما يحسبونني من البيرو، أو سائح لاتيني، أو حتى اسباني كما قيل لي كثيراً. تعاطفهم يبدو واضحاً لكوني عربي كذلك من السعودية، فلسبب ما، يجدون في الأمر سحر على ما أعتقد، أو ربما لأنهم لأول مرة يرون عربي كما أسلفت، فهم لا يعرفوننا أو لم يعتادوا علينا. أعتقد بأني عموماً حظيت بتعامل أفضل مما يحصل عليه الأمريكان من حيث حسن النوايا واللطف العفوي، أو في أسوأ الأحوال نُظر إلي بعين التعاطف أكثر مما ينظر لأمريكي بنفس الظروف على ما أعتقد.
فنحن على سبيل المثال؛ قد نهتم لشأن صيني أكثر مما قد نهتم لشأن اندونيسي له نفس الظروف.
وبشكل ما، وجدت أنهم ينظرون إلى ملامحي على نحو مختلف، فيبدأون بتأملها وتحليلها، حتى عندما لا يبدو أنها كانت مهمة قبل معرفة أني عربي. سمعت تعليقات كثيرة هناك على شكلي وحضوري.



(يحوي موسيقى)




سأكمل إن شاء الله في تدوينة لاحقة.



سعد الحوشان

السبت، 16 مارس 2013

سلاسل خفية عبر الأرض(أفكار،أحداث،قصيدة)

بسم الله الرحمن الرحيم






ما قيمة تجارب الناس، حينما نجرب بأنفسنا ونرى أمور مختلفة؟. لا شك بأن التعلم من الناس أمر بالغ الأهمية، لكن، يجب أن لا يمنعنا هذا من التجريب، وتفحص الأمور والآخرين بأنفسنا. خصوصاً الآخرين؛ هناك الكثير من الناس الذين سيخبرونك بشتى الأمور السيئة عن الآخرين، والمواقف المريعة، لكن قد تقودك الصدف إلى رؤية العكس مما يقولون، ربما لم يكونوا كاذبين، لكن ظروف خاصة قادت إلى ما بدر عن الآخرين من سوء تصرف أو موقف، أو ربما كان هناك تفاصيل لا تعلمها، أو ربما كان هذا أسلوبهم مع أشكال معينة من الناس، لا تدخل أنت ضمن دائرتهم. يمكن للمرء أن يظل على الحياد، لكني أعتقد أن الأفضل هو أن يظل المرء على الود مع بعض الحذر، حتى يرى ما لا يسره لينتقل إلى الحياد. أما اتخاذ موقف لأن الآخرين اتخذوه، فهذه غلطة وظلم.

يوجد مثل أحبه منذ أن سمعته، أعتقد بأنه مصري؟ لست متأكداً، يقول: إحذر، ولا تخوِّن.








مررت بتجارب مميزة خلال هذه الفترة، قد يكون بعضها تافهاً أو بسيطاً، لكنه علمني الكثير.

تقدمت بطلب تأشيرة إلى أمريكا، حيث قد أزور أخي هناك إن شاء الله في وقت ما. لكن، يا الله، ما أسخف الإجراءات المطلوبة قبل الحضور إلى السفارة.
يكتب المرء طلب التأشيرة على الانترنت، يجيب الأسئلة ويكتب في الفراغات، ويرفق صورة بمواصفات معينة. الأسئلة كثير منها سخيف، ومصاب بالهوس. أما أسخف الأسئلة على الإطلاق فكان السؤال عن القبيلة. إن كنت قبيلياً، فمن أي قبيلة أنت؟. هذا سؤال لا يوجهه الناس هنا لبعضهم إلا في ظروف خاصة. لا أدري لماذا يُسمح لهم بتوجيه هذا السؤال بصراحة. لكن، إن كنت تريد أن تمر في مطارهم، أو تزور بلادهم، فلا يمكنك أن تشترط الكثير، إما أن تقبل أو لا.

عموماً، ملأت الاستمارة بسرعة، أسرع مما توقعت. لكن بعد ملئ الاستمارة، عليك أن تذهب إلى موقع آخر لهم على الانترنت، لتحجز موعداً للمقابلة، ولأجل هذا يجب أن تدفع. بالواقع، عليك أن تتعود على الدفع حينما تريد تأشيرة منهم، فأنت ستدفع رسوم عالية للتأشيرة، و٤٥ ريالاً للموعد، و٦٥ ريالا ليرسلوا جوازك عبر فيديكس. في الموقع الآخر، وجدت معلومة حيرتني، فأرسلت إليهم أسألهم قبل أن أمضي بالأمر. أجاب شخص بجلافة، مما جعلني أعتقد بأنه شخص عربي، وأتخيل بأنه موظفة هناك على وجه التحديد، نافياً المعلومة الواردة بموقعهم.
رددت عليهم بأني سأحجز موعداً، لكن ما خلط علي الأمر هو شيء موجود في موقعهم للمواعيد كما أسلفت، وليس من عندي، وأرفقت إليهم الرابط، مرة أخرى، وأرفقت كذلك صورة من الشاشة للعبارة في موقع المواعيد هذه المرة. ردوا علي لاحقاً برد مقتضب: حسناً، سنتفحص الأمر.
كانت بداية غير مبشرة، هذا الأسلوب الجاف والسخيف والمتعالي. لكنه يذكرني بصراحة بأساليب العرب أكثر من أي أحد آخر.

المهم، ذهبت إلى البنك، واكتشفت هناك أن للسفارة الأمريكية وصولات خاصة للدفع، تسهيلاً للمهمة ربما. دفعت 608 رايالات، ثم انتظرت موعدي، القريب جداً بصراحة. أمر مذهل، وليس كما سمعت، المواعيد قريبة جداً، في الرياض خصوصاً. قد تصل مدة الانتظار في الظهران والحجاز إلى ما يقارب الاسبوع بالكثير، لكن في الرياض مدة الانتظار لا تزيد عن يوم واحد، بخيارات وقتية متعددة كذلك خلال اليوم.

حضرت بالموعد المحدد، ملتزماً بالتوصيات في موقعهم، لا تحضر أجهزة الكترونية، ولا مشروبات أو خلافها، وإن كنت رجلاً، فاحضر حاسر الرأس، بلا قبعة أو غترة. بالواقع، لم أحتج إلى التوصية الأخيرة، فأنا أفضل دائماً الخروج بلا شيء على رأسي، باستثناء القبعات في بعض الأحيان، حينما لا يكون شعري مرتباً. 
عموماً الحضور بأقل القليل دائماً أفضل، فلن يتعبك التفتيش، ولن يكون معك إلا ما تحتاج من أوراق وإثباتات وأموال بقدر الحاجة.

عند البوابة، كان الكثير من الناس ينتظرون، لكن ليس كثير إلى حد الإحباط، يبدو أنه ليس بموسم لطلب التأشيرات هنا. وكان الكثير من الرجال قد حضروا بالغترة أو الشماغ، ولم يردهم أحد، مما أعطاني فكرة بأنهم ربما لم يعودوا بنفس التشكك والتزمت القديم إلا على الورق أو الموقع الالكتروني (كنت متخيل انهم بيكتبون على الباب: يُمنع دخول المغاتير). كنت قد جئت بثوبي فقط وجاكيتي الأحمر الذي أحب، لأن الجو كان بارداً.

حينما وصلت إلى النافذة على البوابة، كان هناك فتاة عربية، لعلها فلسطينية أو لبنانية، تتكلم برسمية وبأسلوب أمريكي صلف، طلبت الأوراق التي يريدون، ورتبتها بطريقة معينة وبسرعة احترافية، ثم أعادتها لي، ووجهتني إلى النافذة الأخرى. كانت تتكلم بطريقة آلية، ورغم تهذيبها الشكلي إلا أنها كانت مستفزة الحضور والأسلوب، بحيث لا يشعر المرء إلا بالتوتر والتشاؤم.

في النافذة الثانية، كان هناك هندي يسأل إن كان معي جوال، لم يكن معي. دخلت من الباب، وكان هناك هنود يعملون حراس أمن، وكانوا مبتسمين وبالغي اللطف، وكأنما تم توجيههم بتهدئة روع الداخلين، وأعتقد أن هذا أمر ممكن، خصوصاً بعد تلك الفتاة المثيرة للأعصاب. أخذوا أوراقي وما في جيبي، قلم وأموال بمشبكها، وأدخلوها في آلة صغيرة كالتي في المطارات، ليفحصوها بالأشعة، ثم أعادوها إلي. حينما خرجت من الغرفة الملحقة بالبوابة، رأيت بالداخل حارس هندي أيضاً، بصديرية مضادة للرصاص ويحمل رشاشاً، وكان متعاوناً يؤشر للناس إلى المكان الذي عليهم التوجه إليه.

دخلت من بوابة القسم القنصلي، وجاء سوداني مبتسم ولطيف، وفحص أوراقي وأعطاني رقماً، وأخبرني بأن أنتظر في الصالة القريبة، ولأني مرتبك منذ أن قابلت تلك الموظفة على البوابة لم أستطع استيعاب الأمر، فترددت بين مدخل قريب وصالة أبعد، فدلني حارس أمن هندي مسن جداً، وكانت الصالة بجانبنا بالواقع، وهي صالة صغيرة ومضاءة جيداً، بها نوافذ زجاجية خلفها مسئولين، ومن جهة المراجعين يوجد سماعات وميكروفونات، وأجهزة لأخذ البصمات. ويوجد تلفاز يعرض السفير الأمريكي وهو يوجه كلامه للموجودين، مرحباً ومجاملاً. إن رؤيته لا تشعرني إلا بالقهر، ليس منه، لكن من الذين أعطوه سيف أثري كهدية في منطقة الجوف. كم أحترق من الداخل حينما أتذكر هذا، هل التراث ملك لأحد حتى يهديه كما يشاء؟ هل سيهدوننا شيء أصلي من تراثهم؟. ذاك سيف خرج ولن نراه مرة أخرى، لم يسرق، لم يؤخذ قسراً، لكنه أعطي. رغم كل شيء، كان للسفير الموجود على الشاشة حضور متواضع إلى حد بعيد، مريح ولطيف. صورته بلا لحية تشعرني بأنه من أهل الوشم، شقراء أو القصب ربما.
لم انتظر طويلاً، إذ جاء الحارس الهندي المسن واللطيف، وناداني برقمي وهو ينظر إلي، وأخبرني بأن أذهب إلى الصالة المجاورة، حيث يوجد المزيد من النوافذ، وإحداها تنتظر رقمي الظاهر على الشاشة. هناك، كان خلف الزجاج امرأة مصرية ترتدي الحجاب، ولعلها أم لبضعة أطفال شبوا عن الطوق. منذ البداية، كانت ترمقني بنظرات متقطعة، وغريبة، وشيئاً فشيئاً، بدأت بالتصرف على نحو أكثر عفوية ولطف بالغ. لم أفهم بالبداية لماذا استدعت المشرفة، وهي فتاة لبنانية على ما يبدو، وقد رمقتني كذلك بنظرات لم أفهمها. عموماً، بغض النظر عن طريقة النظرات، اتضح أن المرأة المصرية اللطيفة استدعت المشرفة لتريها بأني ملأت طلب تأشيرة ليست من النوع الدارج، بينما يمكنني التقدم بتأشيرة زيارة تمتد إلى خمس سنوات بنفس القيمة. شرحت المشرفة هذا لي، بعدما سألتني عن السبب، ثم نصحتني بتغيير الطلب إلى تأشيرة سياحية، فهذا سيكون أفضل لي بكثير. كان هذا لطف بالغ، وبصراحة طيبة واهتمام لم أتوقعهما هنا. سألتها إن كان يجب أن أتقدم بطلب آخر، لكنها قالت بأنها ستغير طلبي من النظام. فرحت بصراحة بموقفها الطيب أكثر من فرحي بالتغيير الذي لم أبحث عنه. غيروا الطلب، وذهبت المشرفة. بدأت الأخت المصرية بطرح الأسئلة التي تنم عن فضول مجرد. كانت تجدني غريب بوضوح. وبينما هي تعمل على طلبي وبصماتي، جاءت المشرفة اللبنانية، ولم أنظر إليها، إذ خطر لي بأنها ربما جاءت لتتأكد من تغير الطلب. لكن لما نظرت تجاهها بعد لحظة، وجدتها تنظر إلي بتركيز غريب، فلما التقت عينينا رَحَلَت. يرجح البعض ممن أخبرتهم بأن العاملين بالسفارة قد يتفحصون الناس ليعرفوا طبيعتهم، وقد يكونون يبحثون في صور معممة لديهم، والله أعلم. اعترفت المصرية اللطيفة في النهاية بأنها حسبت بأني طالب في كندا بالبداية. طالب في كندا، أليس هذا غريباً على حياتي؟ لكن، مجرد السفر غريب على حياتي بأي حال. شكرتها على حسن تعاونها، وفاجأتني بدعوات طيبة ولطيفة، وطويلة، لم أتوقعها، وقد ظللت أسمع الدعوات تأتي من السماعة حتى بعدما أوليتها ظهري وابتعدت. كان أمر مطمئن، ذلك الدعاء، الذي لا أدري ما سببه سوا حسن النوايا وتمني الخير للناس، كنت ممتناً لها، وقد شعرت بالارتياح في ذلك المكان الغريب، حيث الغالبية متضايقين ومتوترين.

لكن لم ينتهي الأمر، كان علي الانتظار في تلك الصالة حتى ينادى على رقمي للمقابلة، أما ما سبق فقد كان لأخذ البصمات وتسجيل المعلومات.

انتظرت لوقت طويل جداً، وكان هناك تلفاز تعرض عليه برامج متنوعة عن أمريكا، وكلها معقولة، وإن كانت خيارات غير ذكية، باستثناء برنامج واحد غبي. كان البرنامج عن أماكن ترفيهية في لاس فيقاس لتأجير مختلف الأسلحة ليجربها الناس، بمختلف أعمارهم، على أهداف في تلك المنشآت المؤمنة. ترفيه لا معنى له، ولعب سخيف بأشياء مميتة، والأسوأ؛ توقيت عرضه الآن بعد تلك المذبحة المؤسفة في سانديهوك لديهم، التي كان غالبية ضحاياها أطفال صغار بعمر الخمس والست سنوات وربما أقل. يمكن للمرء أن يفترض بأن تلك الأماكن موجودة واقعياً، لكن هل قلّت الخيارات وقصرت عن جوانب أكثر مسالمة في بلادهم وثقافتهم؟ الطبيعة؟ أهل البلد الأصليين؟ وخلاف هذا.

بعد وقت، جائت الفتاة العربية المخيفة، التي رأيتها في البوابة، وبدأت بمساعدة الحارس على نداء الناس بأرقامهم وترتيبهم. نودي على رقمي، وكنت أول مجموعة من الأشخاص نودي عليهم. وقفت لأنتظر قليلاً حتى تخلو نافذة المقابلة. شعرت بالشفقة على فتاة البوابة في تلك اللحظة، شفقة صادقة وشعور بالأسف، شعرت بأنها لا تفهم الأمر على نحو صحيح، لا حاجة لهذه الرسمية والجفاف، لا حاجة للتكلم بطريقة مبرمجة، لا حاجة لاصطناع حضور فائق المهنية، يمكنها أن تؤدي أفضل بكثير لو كانت مبتسمة وهادئة، لو كانت لا تتعامل وكأنها مسئول هجرة على حدود المكسيك، كما أرى في الأفلام. يجب أن يخبرها أحد، لصالحها، ثم لصالح السفارة، التي يبدو أن أهلها يعملون جاهدين لتحسين صورة نمطية يتناقلها الناس، بغض النظر عن الإجراءات الورقية السخيفة.

حان وقت المقابلة، وذهبت إلى النافذة حيث وجدت فتاة أمريكية مليحة، مبتسمة وعفوية. بدأت التحدث باللغة العربية، إذ كنت قد حددت لغتي المفضلة للمقابلة باللغة العربية في الطلب. كنت أتخيل وجود مترجم أو مترجمة، ورغم أني أنا مترجم، إلا أني بالطبع أفضل اللغة العربية، ولسبب آخر وجيه: أخاف أن أفقد ثقتي بلغتي في حال خاطبت متحدث أصلي للغة، فهذا يحدث أحياناً معي لسبب ما. لغتها العربية كانت جيدة بلا شك، لكني واجهت صعوبة في استيعاب نطقها للكلمات والحروف، فبدأت أنا بالتحدث باللغة الانقليزية. بدأت بأسئلة عن الأماكن التي سافرت إليها. ماليزيا قبل وقت طويل جداً، والهند. سألَت: البحرين؟ دبي؟. شعرت للحظة بأني أتعرض إلى اتهام، وهذا بالطبع غير صحيح، لكنها الفكرة العامة عن تلك الأماكن، خصوصاً البحرين، حيث أن والدتي تتعامل مع ذكر البحرين بريبة دائماً. أخبرتها بأني لم أذهب من قبل إليهما، ثم تذكرت، فأخبرتها بأني نزلت مع العائلة ترانزيت في دبي، وخرجنا من المطار قليلاً، فعقبت بتفهم؛ لتروا ما حوله.
بدأت بطرح بعض الأسئلة الأخرى، أين أعمل؟ أين تعلمت اللغة؟ ماذا أعمل؟ و أسئلة أخرى، وبدا لي بأنها تريد أن تتكلم فقط. كانت لطيفة ومهذبة جداً. 
قالت بابتسامة ودودة بأنها ستمنحني التأشيرة، وستصلني في غضون اسبوع أو عشرة أيام عن طريق فيديكس. شكرتها بصدق، فقد كانت لطيفة وذات حضور طيب ومتواضع.

مضيت مخترقاً الصالة حيث كنت أجلس، وعدت إلى الممر الذي أعطاني فيه الرجل السوداني الطيب رقم الانتظار. في نهاية الممر يوجد طاولة استقبال فيها عامين من فيديكس. قبل أن أصل إلى هناك، وأمام الباب الذي دخلت منه إلى القسم القنصلي، وقف الحارس الهندي المسن، وإلى جانبه عسكري أمريكي، ذو منظر غريب. يصعب تقدير عمره، لكنه يدور في فلك الأربعين على الأقل. كانت أكمام لبسه قصيرة، وقد رسم على عضلاته القوية وشوم غريبة، ليست مبالغ بها، لكنها منفرة بطبيعة الحال. مررت من أمامهم، وقد كان ينظر منذ البداية في الاتجاه الآخر، فلم أرى وجهه أو يرني. حييت الحارس الهندي هازاً رأسي مبتسماً، وفي هذه اللحظة التفت العسكري وحياني هازاً رأسه كذلك، بينما أنا كنت أدير وجهي عن اتجاههم. كان له وجه مميز من حيث غرابته، يكاد يكون بلون واحد مع شعره الفاتح، وعينيه الرماديتين الفاتحتين، سوا أن بشرته مسمرّة وكأنما لوحتها الشمس. شعرت بالإحراج، إذ سيكون واضحاً مباشرة بأني كنت أحيي الشيخ الهندي. مضيت، وحينما وقفت منتظراً دوري أمام استقبال فيديكس التفت تجاه الممر فوجدت العسكري يراقبني، بتعبير لم يتغير عن حياد وجهه حينما حياني، ويكاد المرء يحسب أن وجهه صخرة نحتت على هذا النحو، لجمود تعابيره. صددت، وانشغلت قليلاً بالتأكد مما معي من أوراق ومال، كنت قد رأيت طاولة كافيتيريا ففكرت إن كان لديهم ماء، لما التفت وجدت العسكري لا زال يراقبني. إن شكله الغريب، إضافة إلى حضوره المهيب، ذكراني بالنسر الأمريكي الذي يفخرون به كثيراً، إنه يكاد أن يكون ذلك الطائر. صددت سريعاً. وبينما كنت أعرض أوراقي وأكتب على استمارة، استرقت نظرة، فوجدت الرجل لا زال كذلك يراقبني. تساءلت إن كان حضوري لسبب ما غير مريح، هل هو متحفز لأمر ما؟. حينما فرغت، وكنت فرح بهذا، وهممت بالمضي، وجدت الرجل أيضاً لا يزال ينظر، بنفس التعبير الجامد الذي يشعرني بالتوتر. فكرت؛ لعله شعر بالإهانة لإني لم أوجه إليه التحية بينما ردها هو؟ لعله يتوقع تعويضاً، ربما يريدني أن أحييه كذلك. وجدت صعوبة بالنظر إليه رغم هذا، وهو يحملق على ذلك النحو، فصرت أقلب بصري في الأرض والجدران خلال اتجاههي للخروج، وأنا أفكر باللحظة التي سأصحح بها سوء الفهم، حينما أقترب من مكانه. لكني حينما وصلته نظرت إليه فابتسم فجأة وهز رأسه مرحباً، أُخذت فلم أرد اللفتة. كان غباء بالغ مني.

كنت أفكر بينما كان يتابعني؛ هل أنا شبهة؟.

بعد يوم واحد، اتصلوا بي فيديكس وأخبروني بأن جوازي لديهم. كانوا أخبروني بأنه قد يستغرق اسبوعاً إلى عشرة أيام. أعتقد بأنهم تحسنوا بسرعة، أو أني محظوظ فقط.

بشكل عام، كانت تجربة غريبة، لكن لم تكن سيئة أبداً، كانت جيدة، أفضل مما توقعت بكثير.


أرجو أن أزور أخي هناك في وقت ما.






صرت مؤخراً أقل ميلاً للمبادرة، على قلة ميلي بالأساس. شعرت بأن المبادرة لا تجد تقديراً من قبل الناس بشكل عام، وبدت أشبه بمضيعة للوقت والجهد، استثمار غير مثمر مع معظم الناس.
ما لفت انتباهي إلى امتلائي من الأمر كان تعليق قلته عفوياً، وإن كان مشحون بالشعور، لصديق ترك كل المبادرات لي. حينما نلتقي صدفة، أنا من يجامل ويطلب اللقاء لاحقاً، وحينما يطول الانقطاع، أنا من يبادر ويتصل، وحينما نتواجد على الانترنت في نفس الوقت، أنا من يبادر بالسلام والسؤال. قلت له: لقد مللت من المبادرة.
بعد أيام اتصل تطييباً للخاطر، ودعاني للقاء، لم أجد في نفسي رغبة به.
لعله أرادني أن أمل من المبادرة؟. لست ألومه، لكني أشعر بالأسف على نفسي.
تسبب هذا الموقف بمراجعتي الحاسمة للكثير من العلاقات. إنها عملية أشبه بتوقفي بعض الأحيان وفرز ما بجيبي من أوراق، لأتخلص مما لم يعد لي حاجة به، لكن المقياس هنا يأتي على نحو معاكس؛ من لا يرى حاجة لي، بحيث يترك المبادرة لي دائماً.

صديق قديم، قديم جداً من الخليج، وجدت أنه لن يبادر مهما كان بالسلام، ولعله حتى لم يعد يأخذني على محمل الجد حينما أبادر أنا. ورغم الذكريات الطيبة المحفوظة، ما الداعي لعلاقة كهذه؟. علم هو على ما يبدو عن انتهاء صلاحيتها قبلي.

بالطبع، لا يعني ما أقوم به قطع للعلاقة، إنما هو وضعها بحجمها الصحيح، أو تجاهلها حتى.
وجدت أني أزيل من قائمة المسنجر في بريدي من كنت دائما أبادر تجاههم، ولكن لم أتلقى أي مبادرة منهم، وكان هذا الصديق من الخليج آخر من أزلتهم منها، حتى الآن.
أما في الحياة الواقعية، فقد كفيت عن المبادرة فقط تجاه معظم الناس، لأني لا يمكنني أن أزيل الناس من المشهد.

إن إفشاء السلام لا قيمة له في هذا المجتمع، لا قيمة له في محيطي على الأقل. ناهيك عن السؤال والابتسامة. هذا جعلني انتقائي جداً مؤخراً. وجدت أن الأغلبية لا يستحقون الإبتسامة، أو السلام، أو حتى رده حينما يبدر عنهم عن طريق الخطأ، كزلة لسان.
بالواقع، وجدت أن بعض الناس، وهذه معادلة أكتشفتها منذ زمن بعيد، سيعدلون عن صدودهم حينما يجدون منك الصدود بالمقابل. مثلاً، يجد المرء شخص كف عن رد السلام، أو حتى التعامل معه، وحينما يقوم المرء بالمثل، تجد ذلك الشخص، الذي ربما صار أكثر تصلباً في موقفه، يعود بارتباك واستغراب للمبادرة بنفسه للتواصل أو السلام.
هكذا، وجدت أن شخص تغير منصبه مؤخراً لم يعد يرد السلام، ويتفادى النظر حتى، دون حدوث أي موقف يمكن للمرء أن يشتبه به، عاد حالما عاملته بجفاء مماثل، أو ربما أوضح من حيث البرود، لكن لا حاجة لي به، ولا حاجة له بي.








أستخدم الكرومبوك الجديد منذ فترة الآن. كنت محظوظاً بالحصول عليه بسعره الأصلي في فترة عيد الميلاد في أمريكا، حيث أصبح أكثر كمبيوتر مطلوب في موقع أمزون. كانت مشكلتي هي أني لا أريد النسخة العادية باتصال لاسلكي، التي تكلف حوالي ٩٤٠ ريالاً (لابتوب أنيق بـ940 ريال، شيء رائع) لكني أريد النسخة الأخرى، التي لا تختلف بشيء سوا بوجود مدخل لشريحة جوال، حتى يمكنني الاتصال من حيث أردت. كان السعر يزيد هكذا بحوالي ٤٠٠ ريال، لكن لم يكن لدي خلاف، فسيظل السعر رخيصاً. عموماً، كنت قد ذكرت القصة في تدوينتي السابقة.


الجهاز رائع، نحيف وأنيق، بشاشة غير صقيلة مريحة للنظر، خصوصاً للقراءة والكتابة. أشغله فيعمل بسرعة بالغة، لا صوت له، إذ لا يوجد داخله مروحة أو قرص صلب متحرك، حتى معالجه مقارب لمعالجات الهواتف الذكية، وهذا يحد من استهلاك الطاقة فتعيش البطارية لساعات طويلة، وقدرة المعالج جيدة وكافية نظراً لبساطة النظام وخفته.
يوجد مخارج مهمة في الجهاز، مخرج USB3 و USB2 و HDMI و SD READER.
وأنا سعيد بأولها كثيراً. كما أن النظام يتطور باستمرار بتحديثات رئيسية لا تنقطع كل بضعة أسابيع، ربما كل ٦ أسابيع، فتضاف ميزات مهمة ويتحسن أداء الجهاز والبطارية. فمثلاً، بعد التحديث الأخير أصبحت البطارية تدوم إلى حوالي ١٠ ساعات، والأداء أسرع، وأضيفت ميزات جديدة رائعة.
إني سعيد به جداً، ويمكنني العمل على نحو مريح خارج المنزل الآن.









في انتظار حدث حزين، أجد نفسي أتفكر بالفترة السابقة، التي على بؤسها، لم تخلو من أمور جيدة، على رأسها الصداقات التي لم أحض بمثلها من قبل.
سيرحل صديقي الدكتور الألماني قريباً، عائداً إلى بلده، حيث رفضوا تجديد عقده في إدارة التعاقد لبلوغه سن معين، رغم حاجة قسمه له. ماذا بوسع المرء أن يقول، إنه بتمام صحته والحمد لله، وها نحن نفرط بخبرته الكبيرة.
حاولت إقناعه بسلوك كل السبل لحل المشكلة، لكن لا يبدو أن هناك حل. قد يتردد على البلاد بضع مرات بالسنة، لكن هذا حل لا أدري عن إمكانية تطبيقه. أما هو، فيقول بأني علي أن آتي لزيارته في بلاده، فهو يريد أن يريني الكثير هناك.
لكن المرء يعلم في قرارة نفسه، في مثل هذه الظروف، أنه مقبل على خسارة لا تعود إلى قرار، ولكن إلى حظ سيء وظروف يعجز عن علاجها. لن تكون صداقتنا كما هي عندما يذهب. وبالواقع، أخشى على نفسي ولا أخشى عليه، فهو لديه الكثير من الناس والأصدقاء، ويمكنه دائما اكتساب المزيد، وأنا... وأنا؟.
إني أحاول أن لا أفكر بالأمر قبل أن يحدث، وهو ليس بعيد الحدوث. لكن حتى حينما أحسب بأني خالي الذهن، أجد نفسي أقوم بأمر يبدو وكأنه من أعراض القلق والتعاسة التي سببها الخبر. وجدت نفسي اليوم أكتب على بطاقات بصور لآثار محلية جميلة رسائل وعناوين إلى بعض أصدقائي الذين رحلوا من هنا ولم يعودوا. لم أكن أفكر بأمر الدكتور، إذ أحاول أن أنسى، لكن النسيان المُغتصب لأمر ما يجر ذكرى لأمر مشابه.
فكرت للحظة، هل بإمكاني تخيل بأني لم أصادق أي من هؤلاء؟ لكني أتصور بأني سأشعر كشخص فاقد للذاكرة، مقتطع التاريخ، ناقص بشكل واضح ومؤلم.
أستعيد ساهماً باستمرار ذكرياتي مع هذه الصداقات القصيرة والجميلة، التي جاءت متأخرة جداً في حياتي، ثم أفطن لعلامة الحيرة واليأس؛ حينما أجد اصابعي تلوي وتعبث بشعري من خلف أذني.

لكن، ماذا بوسع المرء أن يفعل...

بائع هندي، في دكان ميد قريب من حيث آتي كل ليلة لشرب الكولا، يروح عن نفسه بإبداء الملاحظات أو طرح الأسئلة علي. سألني ذات مرة إن كنت سعودياً؟. كان سؤال غريب، يطرحه على رجل يرتدي الثوب دائماً. قلت بأني كذلك، لماذا يسأل؟ قال بأن الشباب السعوديين صاخبين، وأصواتهم عالية.
قبل أيام، سألني سؤال غريب، بلا مقدمات، حينما جئت لأتأكد من وجود العدد الجديد من ناشونال جيوقرافيك. قال: هل لديك أصدقاء؟. أجبته بأني لدي أصدقاء، لماذا يسأل؟ قال بأنه يراني دائما لوحدي، وكل يوم آتي إلى تلك المنطقة دون أصدقاء. قلت بأني أقابل أصدقائي في أوقات معينة من الأسبوع، وليس كل يوم.


لكن، كم تبدو هذه الإجابة هشة الآن، لن يطول حالها كوصف صادق.


لكن لا بأس.





سلسلة عُقد لن تنقطع...
تلك التي نمت بين روحينا...
تتمدد عبر الأرض كما الأعصاب في الجسد...
مهما حالت المسافات بين عينينا...
فأخبر قومك حينما يحتفلون برجوعك...
أن لك قوم خلّفتهم بين جُناحينا...
فإن نسيت فلا عتب...
فلطالما تَذكرنا في حين نُسينا...
لكني أعلم بأنك مختلف...
إذ ستفطن إذا ما أحاطتك أمانينا...
حيث بجمال الطبيعة وصنيع الله شغف...
وبما يبدع الناس من إحساس وما يتركون من أثر...
فهذا مما سمرنا به ليالينا...
وإن واساك أو واسيت من أحد...
فتذكر أن هذا كل ما كان لبعضنا بأيدينا...
وداعاً يا صديق علمنا الكثير...
وأهلاً بحسرة ذكرى صداقة...
ستظل تملأ قلوبنا حنينا...








من الأمور التي تشعرني بيأس ومرارة، حينما أرى استخفاف الآخرين بمقاصد أو مشاعر الآخرين. في مجتمعاتنا هذا أمر شائع جداً، لأن الآخرين لا قيمة لهم، فالأنانية والاعتداد الزائد بالذات أكثر السمات شيوعاً ووضوحاً، خصوصاً في المواقف التي لا تتطلب شجاعة حقيقية أو مخاطرة.
كنت أبحث عن دورة لأجل أمر أريد أن أتعلمه، ووجدت الكثير من الناس يريدون نفس الأمر. لكن، وجدت فتاة كانت من السذاجة أنها أوضحت بأنها فتاة، وسألت إن كان هناك من يعرف إن كان هناك معهد أو مكان يعلم هذه المهارة. توالت الردود التافهة، لرجال يدعون أنهم يعرفون معهداً، لكنهم يريدون من الفتاة أن تراسلهم أولاً، أو تتصل بهم، وهذا السلوك يثير اشمئزازي على نحو خاص. كانت ردود الفتاة تنم عن خيبة ظن. 
شخص آخر، افتتح موضوع في منتدى ليقول بأنه يعرف معهداً يعلم كذا وكذا، ومن يريد أن يعرف، فعليه مراسلته ليوافيه بالتفاصيل، لأنه مشغول!. ومع ذلك، يجد الوقت ليرد على الناس ليوضح لهم أنه مشغول وأن المعهد موجود بالفعل لكنه ينتظر رسالة خاصة ممن يريد أن يعرف، لأنه ليس لديه وقت ليدخل المنتدى!. لكن هذا موضوع آخر. 
في قوقل بلس، تجد بعض العرب، سعوديين وغيرهم، يبحثون عن الأجانب ليسخروا منهم بالعربية، خصوصاً العمالة التي تستخدم هذه الخدمة، وقد يكتب بعضهم أمر محترم باللغة الانقليزية، ثم يعقبه بسخرية وسب بالعربية. بعضهم، ما إن يجد امرأة غير عربية، يحاول بلا حياء، وربما باستخدام اسمه الحقيقي، إقناعها بمقابلته أو الاتصال به. وبعضهم يستغل حسن نوايا الناس فيسخر منهم، كأن يجد امرأة مسنة، ويسألها عن عمرها على نحو فج، ثم يتساءل كيف تبدو شابة على هذا النحو؟، ثم يأتي أمثاله كالذباب ليضحكوا على الأمر. 

وفي بعض الصحف، أو المواقع على الانترنت، يكتب بعض أصحاب الأعمدة عن شئون أرقى من أن يفهمها أو يقدرها القراء المهتمون بالصحيفة، يتساءل المرء كيف اختاروا الكتابة هنا؟. مثلاً؛ تكتب امرأة اسمها خلود العميان في جريدة الرياض منذ فترة، وهي رئيسة تحرير مجلة فوربس النسخة العربية. هي امرأة غير محجبة، لكنها عميقة الهم بوضوح، تكتب عن أمور مهمة وغير معتادة، راقية وحساسة. أشعر وأنا أقرأ مقالاتها، التي قد لا يرد عليها أحد، أنها تهدر مجهودها على نحو مؤسف، إنها لم تقيم جمهور الجريدة قبل أن تكتب بها. لكن يصل أسفي إلى مداه حينما ترى أحدهم يترك ما تقول ويسخر من شكلها مثلاً، كم أشعر بالحزن، كم أشعر بالقهر. يقول أحدهم في تعليقه بأن الحجاب لطالما ستر فضائح، ويقول آخر بأن الأفضل لها أن تتحجب، مع العلم أنها ليست امرأة دميمة، إني أرى أنها جميلة، وشكلها أساساً ليس أهم مما تقول. العجيب أن هذه التعليقات لا تُنشر إلا بعد مراجعة وموافقة من أحد ما بالجريدة، حينما أقرأها أشعر بأن هناك من لا يرضيه أنها تكتب في الجريدة التي يعمل بها، إذ كيف يوافق على نشر هذه التعليقات بالمقام الاول؟.









لقد بدأت أسأم من الاستغلاليين، الكثير من المتظاهرين بالضعف والفقر، الذين يمتلئون صحة، وانعدام حياء عجيب، فيحاصرون الناس في الأسواق والشوارع والمطاعم وحتى البيوت، سائلين بجرأة وقوة عجيبة، وبثقة مطلقة بأنك ستعطيهم، ولا يرضيهم كذلك القدر المعقول والممكن. إنهم يحترفون التسول على نحو مثير للاشمئزاز، ويفسدون على ذوو الفاقة الحقيقية وسوء الحظ تعاطف الناس معهم. 
أعتقد بأنهم يجب أن لا يعطون شيئاً، إلا حين وضوح الحاجة، وتمييز الحاجة أمر يحتاج إلى مراقبة وفهم لسلوك هؤلاء الناس، فما لا يستطيع النصابون هؤلاء القيام به هو التصرف كمسكين حقيقي. إنهم يسلكون مسالك أخرى للحصول على مالك، يبدأون بتبيان حاجتهم دون إعطائك فرصة للكلام، ثم تبيان قدرتك الواضحة على مساعدتهم لإحراجك، وبالتحدث معك بتفخيم لذاتك وإيضاح لحسن ظن لا تدري كيف خرجوا به، وإن لم يكف هذا فسيلحون ويلفتون نظر الآخرين لوضعك في موقف أسوأ. ولا تتوقع شكراً حقيقياً وامتناناً حينما تعطيهم ما يريدون، فلا أحد يشعر بالامتنان لغبي. 

لقد بت أسمع الكثير من شكاوى الناس منهم، حيث بات التسول سوق وتجارة، يتفنن فيه المتسولين بإيذائك وإحراجك. لكن الحل هو أن لا تشعر بالاحراج، وكما يتدربون هم على إحراجك تدرب أنت على فهمهم، ومعرفة الكاذب منهم. كن واضحاً، لا تنهر، لكن قابل الدعاء بالدعاء المقتضب، وقل بصريح العبارة بأنك لا تستطيع المساعدة. إني أقوم بهذا تجاه من أشتبه بهم، اولائك الذين يداهمون بإصرار وقوة، والمذهل أن هذا يصدمهم، لأنهم اعتادوا على استجابة الناس هنا لابتزاز المشاعر الخسيس هذا. وحينما ترى صدمتهم، لا تحسب الأمر انتهى، ففي حيرتهم الواضحة بك سيحاولون محاولة أخيرة، بطلب أي نوع من المساعدة. لكن، أُرفض كذلك. 

إن أكثر من سيقتنصون هم الشباب صغار السن، خصوصاً حينما لا يكونون لوحدهم، ليحرجونهم أمام أصدقائهم، والنساء مع أطفالهن، ليحرجونهن بلفت الانتباه إليهن. ولهم معايير في اختيار الأفراد الذين قد تحسب بأنهم متساوون في نظرك، حيث سينظرون لشكلك، وهيئتك، ولما معك، فإن كنت في مقهى مثلاً ومعك حاسب تعمل عليه، فلن يذهبوا لآخر يقرأ جريدة مثلاً، أو لمجموعة صاخبة قد تبدو اكثر استعداد لاستقبال مداخلة مزعجة، لأنه سيطمع أن لديك أكثر، وأنك لن تجادل، وأنك شاب ساذج. 

قبل قليل، دخل رجل لعله في آخر أربعيناته، وأعتقد بأنه غجري من الشمال. لم يتواجد في المطعم سواي ورجل آخر يتناول وجبته، بينما أنا أعمل على الكمبيوتر وأشرب جرعتي اليومية من الكولا. يبدو أنه رآني من خلف الزجاج واختارني مسبقاً، إذ حينما دخل رمق ذلك الرجل، الذي ربما يماثله بالعمر، بنظرة لا مبالية وجاء إلي، مصراً على مصافحتي. حاولت تبيان لا مبالاتي تجاه مباغتته هذه (هذه من أساليبهم كذلك؛ المباغتة)، لكنه قاوم هذا بإصرار، ولم يترك لي الفرصة لأتكلم، وبدأ بمحاولة إخراج أوراق من جيبه قائلاً بأنها موقعة من مشايخ، لكني أوقفته، ودعوت الله بأن ييسر له أمره، وأخبرته بأني لا أستطيع مساعدته. نظر باستغراب، وكرر الكلام عن حاجته وكونه رجل مسكين ومحتاج (هيئته وبنيته تدل على عيش مريح ورغيد)، فأعدت الكرّة ببساطة. نظر بحيرة، وقال أسخف ما يمكن للمرء أن يسمع: "شكلك ولد نعمه وتقدر تعطيني شي"، كان يقول هذا باستجداء من سيرضيه الحصول على خمسة ريالات مثلاً، في حين أني أثق بأني لو أعطيته عشرة في البداية لما كفاه ولحاول إحراجي. قلت له أن يعذرني، فأني لا أستطيع إعطاءه شيئاً. فسألني وهو يمضي بشبه غضب أن أعذره أنا أيضاً، وخرج من المكان بسرعة. جاء شاب سعودي جديد يعمل هنا، وكان يريد أن يتحدث معه لكن الرجل مضى بسرعة. سألني الموظف باستغراب: ماذا كان يريد؟ قلت بأنه أراد مساعدة. 

أمر عجيب أن يرى بأن مجرد كون النعمة بادية علي، وأنا بصدق لست ثرياً، فمن حقه أن يسألني المال، وأن أعطيه، مهما بدا حاله مشبوهاً. إن المتسول الكذاب ينظر للأمور من هذه الزاوية السخيفة، دون أي تقدير لنفسه أو كرامته. بل إن بعضهم أشد خسة، حيث استوقفتني ذات مرة امرأة في سوق، معها أخرى، وكانت رخيصة إلى درجة أنها كانت تقترب من جسمي حتى تراجعت بحدة، فسألتني بسخرية إن كنت خائف منها. ماذا كانت تريد؟ كانت تمسك بعلبة حلوى غالية، وتريدني أن أشتريها لها!. 

قبل سنوات، كان جميع المتسولين هم، وهن، أناس مسافرون، تقطعت بهم السبل هنا، وهم لن يذهبوا بإدعاءاتهم إلى أبعد من مكانين فقط، فهم إما من المدينة المنورة، ذلك المكان المشهور بأهله الطيبين والمثير للمشاعر، أو من وادي الدواسر، المكان البعيد كذلك والذي لا يعرف عن أهله هذا الطبع، حتى يحسب المرء بأنهم فعلاً في مأزق. الأمر المضحك أنك قد ترى النساء يستوقفن المارة، كما حدث معي أكثر من مرة، ويخبرن بالقصة، ويرينك سيارتهن وفيها يجلس رجل ينتظر بصبر. هل سيترك رجل سوي من المدينة أو وادي الدواسر نساءه ليطلبن المساعدة؟. بالأساس، وبغض النظر عن الطبع الواضح، يعلم المرء من أشكال هؤلاء القوم وحضورهم بأنهم غجر. أما آخرين يسلكون مسالك مختلفة بالتسول، فهم من خلفيات مختلفة. إذ أنه غني عن القول بأن هناك فئات كثيرة غير الغجر، فليس كل الغجر من أهل هذا الطبع، وليس كل أهل هذا الطبع منهم. 

أتذكر رجل مسن، ولكنه قوي البنية على نحو مذهل، قد طرق بابنا ذات يوم في رمضان، قبل الإفطار تماماً. حسبنا بأن والدي يعرفه، وقد دخل وأفطر، ثم تحدث عن حاجته للمال. كان أمر عجيب. 

وللأسف، حينما بدأ الضعف يصيب والدي، بدأ الكثير من الناس باستغلاله، وسحب الأموال منه. لا يدري المرء كيف يمكن لأحد أن يستغل إنساناً يبدو عليه الاعتلال بوضوح، فمن لا يعرف الشيخ الخرف حينما يتكلم معه. قبل أشهر، طُرق باب المنزل بالليل، ففتحت الباب لأرى رجلاً سورياً، لا يبدو وكأنه ممن يجدر احترامهم، حيث أخبرني رجل سوري كبير ذات مرة عن هذا الصنف من السوريين وهيئتهم. وحالما سلم، حاول الدخول إلى المنزل بثقة وبلا دعوه، وهو يسأل عن والدي. هل تخيلتم وقاحة بهذا الحجم؟ أنا لم أتخيل. طبعاً، رددته بيدي دون تردد، وسألته ماذا يريد؟. لم يكن لديه وقت لي، لكن طالما رأى أني وقفت في طريقه كان لابد أن يشرح لي. أخبرني بأن والدي عودهم على منح صدقة ليوزعها على مجموعة من الفقراء (!!)، ومع علمي عن فعل والدي للخير حينما كان صحيحاً، إلا أن هذه ليست طريقته حتماً، فهو إما يوزع الصدقة بنفسه، أو يعطيها لأحد نعرفه جيداً ليقوم بالمهمة. عرفت مباشرة بأنه أحد الذين استغلوا ضعفه كثيراً، فأخبرته باقتضاب بأن والدي مريض، وكأنما ليس هذا ما أتى به، وأن والدي لا يقابل أحداً. أصر على رؤية والدي، وحاول أن يفاوضني (!!)، وكنت أشعر بأني أغلي من الداخل. أخبرته بأني سأسأل والدي عن هذه الصدقة لاحقاً، فأخذ رقمي. طبعاً، لم أسأل والدي، فقد كان قد وصل بالفعل إلى مرحلة حرجة من سوء الإدراك. اتصل الرجل لاحقاً، وسألني، بشك، إن كنت قد سألت والدي، فقلت نعم، وأننا ليس لدينا ما نمنحه. لم يرضه الكلام، وهذا أحسن ما بالأمر، ثم سأل إن كان يمكنه رؤية والدي، فقلت لا. ودعني وانهى المكالمة. 

أما من لا يجب أن تعطيهم المال فهم الأطفال، لأنك هكذا تجني عليهم. إن أكثر ما يشعرني بالحزن هو استغلالهم والإتيان بهم من أهاليهم للتسول هنا. يأتي أكثرهم من اليمن، ولا أدري كيف يرسلونهم أهاليهم. رأيت أحدهم بالتلفاز يقول بأنه يرسل أولاده الصغار إلى السعودية للبحث عن الرزق، حيث أنه معدم وفقير. لكن، ألا يفكر بما قد يحدث لهم؟ لا شك بأن أكثرهم يستغلون جنسياً، بل إن بعضهم يتعرض للإغتصاب والقتل قبل الوصول إلى حدود السعودية من قبل عصابات تبحث عن هؤلاء المساكين. 
إن ما أفعله حينما يأتي الأطفال إلي في مكان عام، وتكون حالتهم تدل على تعب أو بؤس، هو ان أسألهم إن كانوا يريدون طعاماً، وأحاول شراء شيء لهم، لكني لا أعطيهم المال قطعاً، فهو لن يؤول إليهم، وسيشجع تلك العصابات على استغلال المزيد منهم. وحتى حينما يكون الطفل سعودياً، وربما دفعه أهله لامتهان التسول، وراقبوه عن كثب، فإني لا أعطيه، فهذه جناية على طفولته ومستقبله. يجب أن لا يكون التسول مجزياً، خصوصاً لمن لا يبدو عليه الفقر المدقع، فهؤلاء فرصتهم في التعلم أكبر لتحسين حياتهم، وربما عدم إعطائهم سيجعل أهاليهم يعيدون النظر في هذا السلوك الذي يربون عليه طفلهم. إن شعرت ببؤس طفل، وحاجته، فليكن عطائك لمن معه، والدته على الأغلب، وليس له، وهذا في أضيق الحدود. 
أعتقد أن هؤلاء الذين يرسلون أطفالهم من اليمن للتسول هنا يجب أن يتم التحدث معهم بالأمر، يجب أن تتم توعيتهم بفداحة الأمر، وأن تتم إعانتهم وضمان تعليم أطفالهم. أما الذين يقومون بهذا هنا فحالهم أكثر تعقيداً بالتأكيد، ولهم حل مختلف. 

إني لا أدعو بالطبع إلى منع المساعدة عن الناس، إني أدعو إلى تقييم الحال قبلاً وبأفضل المستطاع. 








هذا مقال قرأته مصادفة في جريدة الوطن قبل أيام. يكتبه وليد فتيحي، الطبيب المشهور. المقال مثير للاهتمام، ومقلق بشكل ما، جعلني أفكر بالكثير ممن أراهم في حياتي العملية، وأحاول تقييمهم من وحي المقال.
لكن ما لفت انتباهي كثيراً، كان أسلوب فتيحي بالتعبير. بدا لي من الواضح على نحو يصعب تجاهله أنه يكتب بمرارة واستحضار لتجربة أو تجارب على نحو حيوي، وكأنما لم يستطع أن ينسى، أو لم يُشفى من جرح معنوي.







ذهبت والدكتور إلى مطعم فندق المطلق، في أسبوع مهرجان المأكولات العالمية. دعوته إلى المطلق، الذي يقدم طعام المطبخ الاسباني خلال الأسبوع، ليس لأني متحمس لهذا المطبخ، لكن لترافق العشاء مع عروض لرقص الفلامنكو، الرقص الذي شدني وتمنيت لو تمكنت منه منذ أن كنت صغيراً. جئنا مبكرين، من أوائل من حضروا، وكنت قد حجزت مسبقاً، منبهاً على إجلاسنا في أقرب طاولة من العرض. وضعونا بالتي خلفها، لكني قلت بأننا نريد الأقرب، فلم يخالفوا. كان الطعام عادي، ربما أقل من عادي. قال الدكتور بأن الطعام يعتبر جيداً، لكن المطبخ الاسباني هكذا أساساً، يعني غير مميز. كان الشيء الذي أردت تذوقه هو أكلة الباييلا، لكن لسبب ما لم تكن موجودة، رغم أنها الأشهر. الحلويات هي الشيء الوحيد الذي يمكنني وصفه بالجيد، وبعضه ممتاز، لكن لا شيء لم أتذوق مثله. إن أفضل ما أعجبني كان الفراولة، وهي متوفرة بكثرة، ولذيذة، لكن هذا صنع الله.
لكن رغم كل شيء، لست أندم على الذهاب، ولو عاد الزمن لذهبت، لأن العرض كان جميلاً جداً، كان الراقصين، رجلين غجريين من اسبانيا، متمكنين، ورائعي الأداء، بحس مختلف ومميز لكل منهما. استمتعنا كثيراً بمشاهدتهما.
هذا فيديو مشاهدت مما صورته هناك. بالطبع، يوجد موسيقى:








حصلت على كاميرا، هي الأولى منذ أيام الجامعة، حينما اشتريت كاميرا رقمية رخيصة. هذه الكاميرا من ماركة سوني، أخذتها لأن ما أريد من مميزات يتوفر بها. بالطبع، ليست اخترافية، لأني لست محترفاً، ولا نية لدي على دفع مبلغ كبير على كاميرا احترافية ولو كنت سأتعلم، يمكنني التعلم على هذه، وستفي بالغرض لأجل احتياجاتي البسيطة؛ الذكريات ومشاركة اللحظات.
ما أعجبني هو أنها قوية بسعر رخيص نسبياً، وما كنت أبحث عنه هو كاميرا يمكنها التصوير بالأبعاد الثلاثية. إن جوالي يمكنه القيام بهذا من خلال ميزة البانوراما، وهي ميزة ذكية ورائعة، لكنها غير دقيقة تماماً وكأنها تجريبية أو للعب فقط، بالإضافة إلى أن كاميرا جوالي ساء مستواها مع الأسف بعد آخر تحديث من الشركة.

بدون ميزة البانوراما، التي تحرك فيها الكاميرا أو الجوال من جهة إلى أخرى بسرعة معينة، لا يمكن بالعادة تصوير صورة ثلاثية أبعاد بلا كاميرا بعدستين، ناهيك عن تصويرها ثابتة، لترى بالأبعاد الثلاثة كما يرى الإنسان بعينيه. التصوير ثلاثي الأبعاد مثير للاهتمام، وهو خيار مهم بالنسبة لي، لأني أرى به المستقبل، وإن لم يكن، فلأنه سيعطي صور مميزة، وناقلة للإحساس، لمن سيشاهد الصور لاحقاً، أكثر من الصور العادية.
المميز بهذه الكاميرا التي حصلت عليها أنها يمكنها تصوير صور ثابتة ثلاثية الأبعاد، مثل الكاميرات بعدستين، رغم أنها لا تملك غير عدسة واحدة. هذه تقنية جديدة خاصة بسوني على ما أعتقد، تعتمد على قدرة الكاميرا على قياس وتحليل أبعاد المنظر، لتصف مكونات المشهد بأبعاد مختلفة، وهكذا يحصل المشاهد على عمق في الصورة. ويمكن كذلك التقاط صور ثلاثية أبعاد بتقنية البانوراما.

كما أعجبني أنها بسيطة إلى حد بعيد، وتحوي خيارات ضبط ذاتية جيدة، وهذا مهم بالنسبة لي كشخص غير ضليع بتقنية التصوير. كما تحوي ميزات لتعديل الصورة، وهذا أمر ممتع. لعلي ألتقط بها بعض الصور لاحقاً بهذه الميزات الغريبة، التي لا يبدو أنها مهمة، لكني أحبها.

أجمل ما في أمر هذه الكاميرا هو أني لم أدفع مالا للحصول عليها. هي تكلف ٦٠٠ ريال، دفعت هذا المبلغ على شكل نقاط جمعتها في موبايلي، شركة الاتصالات التي أستخدمها في جوالي.

DSC-WX50







كما اشتريت ساعة، ليست فريدة الشكل أو الفكرة، لكنها بميزات سأحتاجها حينما أسافر إن شاء الله، حيث أرجو أن أزور أخي في وقت ما. الساعة من كاسيو، وهي حديثة. يمكنها تحديد القبلة من أي مكان بالعالم، وأوقات الصلوات، والتاريخ الهجري والميلادي طبعاً، ودرجة الحرارة، وميزات أخرى. تحوي على شاشة رقمية بالإضافة إلى العقارب، وهي مثيرة للاهتمام حينما يتحرك العقرب ليشير إلى القبلة عند ضغط الزر، أو إلى الشمال المغناطيسي، أو الصلاة القادمة، في حين تضيف الشاشة إلى المعلومات. ضبط الساعة كذلك تلقائي، فالمستخدم يختار المدينة التي يتواجد فيها، أو يدخل أبعادها إن لم تكن ضمن الموجود مسبقاً، وهي حوالي سبعين مدينة حول العالم، فيتم ضبط الوقت تلقائياً، وكذلك اتجاه القبلة، وأوقات الصلاة، تتحرك العقارب بسرعة على نحو عجيب ومذهل. وحينما يكون هناك حاجة لتعديل الوقت، فالتعديل يكون على الشاشة الالكترونية، ثم تتوائم العقارب تلقائياً. وإن لم يكن توائمها مقنعاً، فيمكن التأكد من معرفة العقارب لوضعها، بضبطها تجاه الثانية عشرة، ثم تتعدل تلقائياً.
تباع الساعة لدينا، وفي كل مكان على ما يبدو، بما يتراوح بين 450 و570، , والسعر الأخير هو الغالب. يوجد عدة أشكال، ولحسن الحظ، وجدت الشكل الذي أريد بخصم كبير على موقع امازون، حصلت عليها بحوالي 250 ريالاً. كان التخفيض على كمية محدودة جداً، وعادت الآن إلى السعر القديم، حوالي 540.










تلقيت اتصالاً قبل أيام من صديق قديم جداً، كنا أصدقاء منذ الصف الثالث الابتدائي وحتى الثالث الثانوي. أشعر بأن هذا غريب نوعاً ما، لكون أننا لا نسكن في قرية، فالمدارس كثيرة، مع ذلك، استمرينا بنفس المدارس أنا وهو، بالإضافة إلى شخصين أو ثلاثة. هو فلسطيني، وتجمعنا الكثير من الذكريات الجيدة. شقيقه كذلك صديق لي، وهو يصغرنا بسنة. لم أعرفه بالبداية، فلم يتصل من هاتفه المسجل لدي، ورفض أن يذكر اسمه، مكتفياً بإعطاء معلومات عن نفسه وعن صداقتنا، وهي لعبة متعبة بالنسبة لي. لكن معلوماته لم تكن دقيقة، مما جعلني لا أعرفه. شعرت بالسعادة حينما أخبرني من يكون، وبالارتياح لأنه لم يكن شخص آخر، لا أحب أن أسمع منه أو عنه. اتفقنا على اللقاء في نهاية الاسبوع القريبة.
في لقاؤنا، الذي لم يتم منذ سنوات، تكلمنا حول الكثير من الأمور. وجدت أنه تغير كثيراً عن آخر مرة رأيته أو حتى تكلمنا بها. لقد أصبح أفضل من كل النواحي، إن كشخص أو كشكل. فرح حينما أخبرته بأن شكله صار أفضل، وقد كان يعاني من تساقط شعره وبداية الصلع، لكن مع العلاج بدا شعره جميلاً وبحال أفضل.

أخذتنا المواضيع الكثيرة من جهة إلى أخرى، ذكريات وحاضر، لم يبدو لي سعيداً، لكنه كذلك بحال أفضل. ثم تحدثنا عن أيامنا في المدرسة الابتدائية، وأحداث قديمة جرت، لا زال أثرها ممتداً. كنت أعرف الكثير مسبقاً، لكني لم أقدر كم كان الأمر شاقاً عليه، كم عانى، كم أحبط، كم تعب وتألم، كانت هناك حقائق جديدة صغيرة وصادمة بالنسبة إلي. تجمع الدمع في عيني، وحاولت أن أتماسك، وأن لا أدعه يلاحظ باستماتة، فلم يكن ظرف لائق، ولم يكن أمر يقدره كذلك. كان ألمي لأجله ولأجل طفولته فوق الاحتمال، كانت المرارة تتحدث بلسانه. كان لدي ما أخبره به مما لم يعلم عنه، وقد كنت سعيداً أني أحمل أخباراً قديمة لا يعرفها، دون أن أدري طيلة العمر الذي مضى أنها أخبار سعيدة بالواقع، لكنها فقدت بريقها مع الوقت والتقادم. كان هناك ضعف بالتواصل فيما بيننا حول المشكلة، فلم تلتق نهايات ما نعرف إلا في تلك الجلسة. تمتم حينما أخبرته بأحدها، وهو ينظر جانباً، بابتسامة بسيطة لكن مترددة: فيه الخير، فيه الخير. كان هذا حينما أخبرته بما قاله أحدهم عنه، وكان هذا الشخص قد مات منذ فترة طويلة.

وجدت ما وجدته بعدما كبرنا، ربما منذ أيام الثانوية، وقد تعمق أكثر، صار التواصل بيننا أصعب، ويزداد صعوبة مع الوقت، لا نلتقي كثيراً بالأفكار، والرؤى.
تحدثنا عن أمور كثيرة، أكثرها كان عن حياتنا الآن، قبل أن نترك المقهى، وندخل إلى السوق لنتمشى قليلاً. بالداخل، أضحكني حتى شعرت بالإحراج من الناس، رغم محاولاتي للسيطرة على ضحكي. دخلنا إلى محل ملابس، لينظر لجديدهم، فيما كان الأمر لا يعنيني لكوني لا ألبس هذه الملابس. قلت بأني لا أحب هذه الملابس، ولا أدري ما السبب، تساءل، فأجبت بأنه ربما العمر. قال بسخرية بأني أقولها وكأن عمري 40 أو 45، قلت بنكد؛ وما الفرق. أضاف بأن أناس بهذا العمر بدأوا التوجه إلى هذا اللبس، وأنه يرى بأنه التوجه العام، يقصد للسعوديين. شعرت بأنه أمر مؤسف.

ودعنا بعضنا، على وعد اللقاء قريباً إن شاء الله. في طريقي إلى سيارتي، استرجعت كل ما أخبرني به ولم أكن أعرفه، وشعرت بانطفاء وكآبة.


كذلك، استعدت صداقة قديمة، لم تستمر طويلاً، وكانت قد توقفت فجأة كذلك، وبهدوء، قبل سنوات، بسبب غبائي مع الأسف. كنت أفتش عن رسالة قديمة في بريدي، فوجدت مراسلة قصيرة بيني وبين ذلك الصديق، قبل وقت طويل من انقطاع صداقتنا. أرسلت إليه رسالة، أسأل عن الحال، وأعتذر عن غبائي في ذلك الحين، وما سببه من إزعاج. رد قائلاً بأنه لا يتذكرني إلا ذكياً. بدأنا بالتواصل مجدداً، والآن، نلتقي على نحو منتظم، وهو رجل رائع، ذكي وعميق التفكير، رغم ميله للفكاهة فوق الحد أحياناً.

مذهل التغير الذي يطرأ على حياة المرء خلال بضع سنوات. من حال إلى حال. البعض إلى الأفضل، البعض إلى الأسوأ، والبعض يراوحون في مكانهم، ولا أظن هذا أمر جيد في غالب الأحوال.








يوجد شكل جديد من الشوكولاتة مميزة الطعم. مرارتها تجعلها تجربة مختلفة، إذ أن نسبة صافي الكاكاو فيها حوالي 60، وقد جربت النوع الغامق. هي لذيذة ورخيصة، أعتبرها تجربة مختلفة بالمقام الأول، حيث قد يتذوق المرء شوكولاتة ألذ منها، لكن ليس مثلها، فهي مختلفة إلى حد بعيد.



اشتريتها من بندة.








قبل فترة، ذهبت إلى وكالة رينو لشأن لشخص آخر، وكالعادة، يؤلمني قلبي حينما أفكر بسيارتي الحلم (اكتشفت بأنها حلم)، لاقونا كوبيه. سألت عنها هناك، وأزعجت البائع الطيب، مصري اسمه خيري، وقد تحملني جيداً حيث انه اسم على مسمى. علمت بأن الوكيل لم يعد يأتي بها إلى السعودية، لأن الشباب هنا لا يسألون عنها، إنما يسألون عن الميقان الكابريوليه، وهي سيارة مكشوفة السقف وذات حجم أصغر بقليل، وأكثر شبابية. هذا أمر أتفهمه، رغم أني وصفته بانحدار بالذوق، مما أضحك البائع. أخبرني مع ذلك أنهم يبيعونها في عمان، والوكيل في الخليج واحد. يبدو لي أن الإدارة الرئيسية في عمان. وقال بأني لو رغبت بها، يمكنهم إحضارها من هناك بنفس السعر، فالوكالة واحدة. يا إلهي، كم أتمنى لو كان بإمكاني شراؤها.

لكن، كالعادة، لدي أولويات أهم.










بسبب شخص تافه، استفزني في موقف تافه، قمت بأمر تافه، وربما تعدى بتفاهته تفاهة متلقيه والموقف نفسه. لا أتذكر أني قمت بشيء أسوأ وأتفه. للأسف، لم أدرك خطأي، بحق نفسي، إلا متأخراً. لم أشغل نفسي بما يستحق ذلك الشخص الذي استفزني كثيراً، لكني تساءلت إن كنت أنا أستحق أن أتصرف على ذلك النحو التافه. تذكرت قول الرسول عليه الصلاة والسلام، بأنه ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.







لا أحب صدقاً البرامج التي تسهل تواصل مجموعات كبيرة من الناس معي بشكل مباشر، مثل الوتساب. إنها توقعني في ورطة مع توقعات الناس ورؤيتهم للتفاعل الملائم. إني لا أحب بصراحة استخدامه سوا مع أخواتي وأخي في أمريكا والقليل جداً غيرهم، وبشكل متقطع، حيث يكون التواصل معتدل، وله معنى. لا أحب استقبال الرسائل العامة المضيعة للوقت دائماً، والمشكلة أن من يرسلون هذه الرسائل يريدون رداً، تفاعلاً تجاه ما أرسلوا، وهذا أمر صعب بالنسبة لي، حيث أني أحياناً لا أطلع عليها كاملة حتى، كما أني أكون مشغول بأمر آخر. كذلك، يريدون استجابة مباشرة لتحدثهم معك، والردود المتأخرة على أمور غير ضرورية تشعرهم بالإهانة.

والأسوأ، حينما يرسل إليك شخص برسالة لا قيمة لها، في حين يكون السماع منه هو آخر ما تتوقع. قبل فترة، وجدت رسائل تأتيني من رقم لا أعرفه، وكانت مقالات لم أقرأها بعدما عرفت من عناوينها أنها لا تعنيني، وعبارات انتقادية للبلد والمجتمع من النوع الذي يكال بريال. سألت الشخص هذا، من يكون؟ لم يجب سريعاً، شعرت بأنه تردد، لكن حينما أجاب، وجدت أنه شخص قطع علاقته بي دون أن يوضح السبب، ولو تقديراً لسؤالي، بل وصار يتفادى السلام علي وكأنه جائزة لا أستحقها، ثم أجد أنه يرسل هذه الرسائل إلي!. لم أتردد للحظة حينما حظرته من مراسلتي. إني أتفهم إرسال مثل هذه الرسائل من شخص آخر حدث بيني وبينه سوء فهم، لكنه أرسل بمثل هذه الرسائل لمجرد التواصل، وإرسال رسالة بالاهتمام، أما حينما يكون المرسل قد نأى بنفسه من قبل تماماً بدون سبب واضح، بل بقسوة هوجاء، فماذا يريد أن يقول بالضبط؟. لم يعد الأمر يحزنني، حينما لا يقول شخص لماذا لا يريد التواصل معي، خصوصاً حينما لا يكون مهماً بطبيعته، بل صار يثير اشمئزازي من هذه الدراما غير الجديرة بالرجال.

عودة لموضوع الوتساب، إن ما ينطبق على غيره من سبل التواصل ينطبق عليه بالنسبة لي، إني أهتم بما يقال لي عبره على نحو شخصي ومباشر، وإن احتجت إلى وقت للرد أحياناً، ولكني لا أحب الرسائل العامة، ولا أحب أن أنشغل به كثيراً من الأساس، بل إني أحياناً أحمل هماً حينما أرى وصول رسالة جديدة عبره، على عكس البريد الالكتروني الذي يعطي فرصة أكبر للرد. قد أتكلم بموضوع طويل عبره في ظروف خاصة مع بعض أفراد عائلتي، وربما لهذا السبب أبقيت على وجودي بالبرنامج، الذي لم أكن لأستخدمه لولا ضغوط أخي في أمريكا.

لكني اكتشفت متعة جديدة فيه؛ النظر إلى صور وحالات الناس التي يسجلونها بأنفسهم، حينما أختار البحث عن جهة اتصال. الكثير من الناس لا يملكون رقمي، لكوني قد غيرته قبل بضعة سنوات، بينما عهدي بهم أبعد. أجد صور مبالغ فيها، وصور متزنة، ومثل هذا الحال مع الحالات المكتوبة. إن أكثر حالة اثارت اهتمامي هي قول زميل قديم بالجامعة، عن نفسه طبعاً:More than meets the eye..، أي أنه أكثر مما يبدو للناظر أو المقابل. هل هو محق؟ ربما، وربما لا. عموماً، يضع صورة سيارة كصورة شخصية، وهو من أكبر المهتمين بالسيارات. كان دائما ما يبدو لي ذو اهتمامات محدودة جداً، وثقة كبيرة بالنفس، وربما غرور، على نحو لا يتوافق مع محدوديته. لكن من يدري، لعله تغير.

يوجد برنامج آخر، مختلف، لكن بفكرة قد تبدو لأول وهلة مثيرة للاهتمام. هو خاص بالجوالات، اسمه Circle ، وهو يعتمد على ما تختار من اهتمامات وانتماءات ليريك أشخاص حولك بنفس الاهتمامات، ويمكنك التواصل معهم حينما يثيرون اهتمامك. البرنامج له مظهر أنيق وطريقة استخدام سلسة وإن لم تكن واضحة تماماً بعد التعمق، وهذا أمر يغري بالتجربة. لكن المشكلة هي أنه لا يوجد في رأيي ما يمكن مناقشته مع أحد، لأن الاهتمامات المعروضة عامة، وربما يكون جيداً أكثر للمهنيين. اليوم، أرسل إلي موظف كبير في شركة مشهورة رسالة، يقول: هلا.
أنا: هلا بك (ابتسامة).
هو: وش عندك من علوم. سولف.
لم أجب، ماذا أقول؟! أضحكني الأمر، فكرت بأنه ربما قرأ اسمي شهرزاد بالخطأ.
فكرت بأن البرنامج قد يكون جيداً للترويج لأمر ما، كمنتج مثلاً، أو كتاب، لكن ماذا لدي؟. كنت قد وضعت عنوان مدونتي في تعريفي، وفيها ما يكفي من "سواليف".
ربما لافتقاد البرنامج للمشاركات وما يشبه التدوينات يصعب على المرء نقاش شيء فيه.
أكثر المشاركين بالبرنامج هم من الأجانب، سوريين على الأغلب، وبدرجة أقل لبنانيين وآسيويين. يوجد القليل من السعوديين الذين يظهرهم لي البرنامج. لكن أعتقد أن البرنامج عموماً له حسابات خاصة فيمن يقترحهم عليك، بناء على الاهتمامات والمكان.

لكن العجيب، هو أن الكثير من الناس لا يستحون من وضع الخمر أو الرذيلة من ضمن اهتماماتهم، أمام الملأ، ومع صورهم وأسمائهم. صدمني الأمر، ليس لوجود أناس واقعون بالخطأ، حيث أن ابن آدم خطاء، لكن لمجاهرتهم ولا مبالاتهم. إن كان الله قد ستر على المرء، لماذا يفضح نفسه؟.







المجلة الوحيدة التي أنتظر كل شهر هي ناشيونال جيوقرافيك. هي أفضل الموجود، رغم أن الكثير من تحقيقاتها ليس بالعمق الذي أريده، أو عن المواضيع التي تهمني. النسخة العربية هي ما أشتري، رغم أن اهتمامها مؤخراً بدول الربيع العربي صار يجلب لي الملل والأسف على ضياع الصفحات على شئون سياسية وحياتية. تتأخر النسخة العربية كثيراً، أكثر من أي وقت مضى. لفتُّ انتباه المجلة ذات مرة، فاتصل بي الموزع ليبرر تأخير المجلة. في العدد السابق للأخير أرسلتُ إلى المجلة كذلك، وحصلت على مبررات واهية منهم ومن الموزع. تصدر المجلة في الامارات في أول الشهر الميلادي، وتتأخر لدينا بما يصل إلى أسبوع، وهذا لم يكن يحدث.

اشتريت مجلة أخرى، باللغة الانقليزية، تعنى بالآثار، وهي تستورد من أمريكا. دخلت موقعها لاحقاً لبضعة أيام متتالية، وفي أحد الأيام تبين صدور عدد جديد غير الذي معي. بعد ذلك بيوم أو اثنين، وجدت المجلة في التميمي، وهي التي تأتي من أمريكا.


لم أقرأ هذا العدد بعد، لانشغالي بقراءة مواد أخرى والعمل على بعض الأمور. لكن العدد الفائت كان جيداً، وأعجبني تحقيق عن هندسة إدارة المياه المذهلة لدى حضارة الإنكا. أعجبني كذلك ما يمثله الماء بالنسبة إلى تلك الشعوب من الناحية الروحية.








قبل أيام، كنت أهم بدخول القسم حيث أعمل، وكان الحارس الذي يتواجد عند الباب جديداً، فلم يكن يعرفني. استوقفني، فأخرجت بطاقتي ليرى أني أعمل بالقسم. كان هناك أحد آخر يخرج بالمقابل، لكني لم أرى من يكون، توقف وقال للحارس: هذا موظف هنا ما تعرفه؟ هذا علَم!. لم ألتفت، ومن نبرة صوته لم يمكنني أن أحد إذا ما كان يمزح أم يسخر أم جاد. لكن هذا وصف غير معتاد، وغير واقعي، أفترض أنه يمزح.
بالواقع، لم يلفت هو انتباهي بقدر ما لفت انتباهي أني لم يعد لدي الفضول الكافي لألتفت.
امتصت بيئة عملي، بكثير ممن تحوي، أي فضول أو حيوية أملكها. صار يبدو أن الابتسامة تأتي من رصيد، أصرفها بحرص، وحتى السلام، أو الاهتمام برده، بعدما كان الحال مختلفاً تماماً.

ما أصرفه بكرم، فيما أحسب، هو الاحترام. الاحترام حق لكل الناس، لكن التقدير لمن يستحقه فقط.







أحاول منذ سنوات طويلة إقناع والدتي بالسفر معي. لطالما تمنيت أخذها إلى نيوزيلاند، حيث أشعر بأنها سترتاح وتستمتع بوقتها. كان الرفض هو الرد دائماً.
قبل فترة، قرأت مقال لفهد الأحمدي، وهو رجل يكتب بانتظام في جريدة الرياض عن أمور عالمية وإنسانية وعلمية (في نفسي، أسميه كاتب علامات التعجب، لكني أهتم بما يكتب عموماً). كتب يتحدث عن رحلته إلى نيوزيلاند، حيث أخذ والدته إلى هناك، ووصف ردة فعلها عند أحد العجائب الطبيعية، وهي ردة فعل وقورة، معبرة عن إيمان عميق وتأمل. ذكرتني بوالدتي.
حكيت لوالدتي لاحقاً عن هذا، ونحن عائدين من المستشفى ذات مرة. أخبرتها أن هذا الكاتب أخذ أمه إلى نيوزيلاند، وأنها استمتعت بوقتها هناك، وأن أم الأحمدي "شاطرة" تطيع ابنها وتسافر معه. قالت أمي: "بس أنا منيب شاطرة". لم أكن قد أكملت بعد ووصلت إلى عقدة الموضوع.










راودتني ذكريات عن زميل لي بالجامعة قبل فترة، حينما جاء رجل أمريكي أسود يشبهه إلى الجامعة، كمتعاقد جديد. ذلك الزميل كان من القبائل الأفريقية المرموقة، التي استقر بعض أفرادها هنا في الأوقات المتأخرة (فلاته، هوساوي، تراوري،إلخ). وقد كان رجل شديد الهدوء واللطف. كان يلفت انتباهي باستقلالية رؤيته رغم بساطتها، كان مثلاً يحب ويقدر دكتور سعودي كان الكل تقريباً يكرهه في الكلية، يحرص على مصافحته والسلام عليه، رغم شكي بتقدير ذاك الدكتور لمثل هذه اللفتات. وكان بعيد عن الجدل، والصخب، ورأيه دائما أكثر رزانة واتزان من الآخرين. لم يكن حضوره لافت للانتباه كشخص، ما إن تعتاد على طوله الفارع وشكله الغريب المميز، بسواده الفاحم على انطفاء، ونحوله الشديد. لكن، جاء وقت وصار يدعوني لرؤيته في مطعم للعشاء، أو لنمشي فقط ونتكلم. كان يفتح قلبه لي، معبراً عن ارتياحه. اتضح لي بُعد عميق لوجوده، ربما ليس لشخصيته، لكن لوجوده وحساسيته تجاه ما يجري وجرى في حياته.
كنا نمشي ذات مرة حينما أخبرني بضيقه وحزنه على غلطات يكررها في حياته، حتى أصبح طبع له، طبع سيء، دون أن يقول ما هي، ودون أن أسأل. أخبرته بأن يحاول تركها بقدر ما يستطيع، رد بأنه حاول، تركها لفترة، لكنه عاد، وأن العودة أمر حتمي. أخبرته بأن يحاول دائماً، حتى لو عاد في النهاية، فهذا خير من يستمر عليها، حيث أنها في هذا الحال لن تكون طبع له، سيكون طبعه هو تركها، بينما الغلطة الاستثنائية هي العودة لتلك المواقف الخاطئة، وهكذا، يكون طبعه مختلفاً، ومع الوقت، قد لا يعود. عقد حاجبيه، وصمت مفكراً، بدا عليه أن هذا الحل السهل، أو المطروح بطريقة سهلة، يضايقه بشكل ما. قال بأنه لا يعتقد بأن هذا سينجح، لكني أصريت على الحل، فبدا أنه بدأ يقتنع به.

لم يكن بيننا اهتمامات مشتركة، لكني كنت أجده مريحاً، سليم النية، رقيق الحاشية. لكن، لعل صداقات مبنية على مجرد الارتياح لا تدوم. حينما تخرجنا، تواصلت معه عدة مرات، ورغم أنه كان يرحب بذوق وطيبة، إلا أنه بدا واضحاً أنه ليس لديه وقت، أو اهتمام.







قبل فترة، سيطر على حديث الناس واهتمامهم أمر رجل قضى بالسجن ٣٠ سنة، وهو مدان بقتل آخر، وهو أمر لم يثر اعتراض أحد على ما يبدو. وقيل بأن إقامة الحد تم تأجيلها ١٧ مرة، ولم يتساءل أحد لماذا. كانت نظرة الناس إليه، رحمه الله، أنه ضحية عدم تفهم أولياء الدم، وعدم رحمتهم لحاله وقد قضى ثلاثة عقود مسجوناً.
في رأيي، يوجد أكثر من ضحية في هذه القصة. هو ضحية الأمل غير المشروع، وأولياء الدم ضحايا القهر والألم وتشويه الصورة، وقبيلة المتوفى وأهله ضحايا سوء التدبير طوال تلك الفترة، حينما يلامون على عدم تغيير رأيهم بينما هي غلطة أحد آخر بقاء الجاني على قيد الحياة طوال هذه المدة، رغم رفض أولياء الدم العفو.
بالواقع، لا أخفي شفقتي على أهل المجني عليه رحمه الله، وهو رشيدي، قبيلة تعاني من عدة مشاكل، أكثر من أهل القاتل رحمه الله، ومن القاتل نفسه، رغم تعاطفي معه، ومع ما ذكر عنه من حسن خُلُق.

يمكنني تخيل لو كان الأمر معكوساً، وكان القاتل رشيدي، والمقتول شمري، وهي قبيلة الجاني بالواقع، يمكنني تخيل بأن الرشيدي في هذه الحال لن يمنح كل هذه الفرص، ولن يترك أهل الشمري ليعانوا لثلاثة عقود، خصوصاً في حائل.
أشعر بالأسف حينما أرى التأليب واللوم وعدم التفهم لموقف أهل الرشيدي، خصوصاً والدته، بسذاجة وتغافل عن المسئول الحقيقي عن امتداد معاناة أهل القتيل والجاني على حد سواء.

قبل فترة ليست بالقصيرة، هاجم شاب شمري رجل رشيدي وابنه، وقتل الابن، وعمره ١٦ سنة، أمام والده، رغم ترجي الوالد لترك الصبي وشأنه. رفض والد الصبي رحمه الله العفو أو الدية. وحينما قُتل الجاني حداً، ظهر من يتسائل باستهجان ومرارة؛ هل يُقتل شمري برشيدي؟. مثل هذا الموقف، وحقيقة بقاء الشمري الآخر بالسجن طول تلك الفترة دون تنفيذ الحكم، تجعلني أرى بأن الرشايدة بالواقع ضحايا كمجتمع، شأنهم شأن مجموعات أخرى في مناطق أخرى ربما.












حضرت قبل فترة زواج قريب لي، شاب صغير لتوه تخرج بالجامعة. كنت قد ذهبت باكراً إلى العرس، وكان هناك حضور جيد منذ البداية. سلمت، احتفى بي والده، وشقيقه الكبير الذي كان لفترة من أعز أصدقائي، لكنه كان تلك الليلة مشغولاً بطبيعة الحال، فلم نتكلم كثيراً للأسف. ثم وجدت نفسي بلا شيء أفعله. كنت آمل أن يأتي خالي من القصيم، ذلك الرجل الذي زرناه أنا وأمي في منزله مرتين، وأن يأتوا أولاده. لكني شعرت بأنهم لن يأتوا، تسبب هذا بإحباطي.
كانت نيتي هي البقاء حتى العشاء، وذلك فقط لأن صديق جددت عهدي به مؤخراً، تحدثت عنه بالأعلى، تكلم عن الأمر، حيث قال بأن الناس باتوا يأتون إلى الأعراس كمجاملة شكلية، لا كمشاركة بالفرحة، حيث لا يمكثون أكثر من عشر دقائق.
لكني لم أقوى على البقاء أكثر مما بقيت، شعرت بنوع من الضيق والسأم، وربما حملت هم السلام على شخص غير مريح ومجاملته، بعد سلامي على آخر.
هل سبق وصافح أحدكم شخصاً، وشعر بأن تأثير المصافحة عليه كان أشبه بقبض كائن غير متوقع، وليس يد؟. شعرت بأن يداً أمسكت بها كانت أقرب إلى عنكبوت كبير، يلتف بأطرافه الطويلة جداً على يدي، بحيث تلمس أطرافها أبعد من رسغي. بل خُيل إلي للحظة بأن تلك الأصابع الطويلة والغريبة هي أفاع صغيرة، ستستمر بالزحف على يدي، عابرة ذراعي وعضدي، فتتسلل من إبطي وما أسفله إلى داخل جسدي، وربما تعصر قلبي فتقتلني.
لم يكن هذا الشعور بسبب كراهية، إنه عدم إرتياح تعدى الاشمئزاز، فلم يعد يعرف حداً.






أشغل بالي سؤال وجهته لي ابنة أختي، ذات الخمس سنوات. قبل اسبوعين، طُرق باب المنزل فذهبت لأفتح، وكالعادة، كان الأطفال حاشدين حولي. دخل خالي، شقيق والدتي من القصيم، وهو رجل كبير بالسن، بلحية بيضاء. التفتت إلي ابنة أختي الحبيبة وسألت إن كان هذا خالي فلان، خال والدي الذي كان يعيش في منزلنا لفترة وتوفي قبل مدة رحمه الله. أخبرتها بهدوء بأنه ليس هو. كانت تسأل مذهولة، ربما لأنها لم تره منذ فترة الآن.
مات ذاك الخال المسن دون زواج، فلم ينجب. كانت حياة طويلة، أفناها بالعمل والكد، والحرمان إلى حد بعيد.
بكته والدتي كثيراً، رغم أنه خال والدي، لكنها كانت تعتني بهما معاً، والدي المصاب بالخرف، وخاله المصاب بتعب العمر الذي ربما قارب المئة، والمرض الذي أقعده. ولا زالت تبكيه، وتدعو الله له، حتى حينما أتصل بها من العمل ويصادف أن تتذكره لسبب أو لآخر.
كان يقول أنها بمثابة ابنته، لكن، كم يروع قلبي أن ابنة حقيقية له لم تبكه، لأنها لم توجد، ولا ابن.
هل بكاه أحد آخر؟.
أتذكر ذهابي مع أمي وأبي، قبل أن أدخل المدرسة، ومرورنا ببيته الشعبي، قرب سوق الخضار، ليتوقف والدي ونسلم عليه.
لم أبكه حينما قالوا لي أنه توفي، شعرت ببعض الحزن ودعوت له بالرحمة، ربما بسبب الضغوط المزمنة والمستمرة.
لكن، سؤال ابنة أختي جعلني أفكر أكثر بأسف على حياته ووفاته، رحمه الله رحمة واسعة.




سأكتب مرة أخرى قريباً إن شاء الله، انتظروا.




سعد الحوشان