الخميس، 15 مايو 2014

حرية النسيان (رحلة علاج،قصائد،أجهزة،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم







مداهمة ذكرى...
حملتها ريح عطرية...
وحيرة استجدت...
هل كان النسيان حرية؟...
كان حرية...
اقشعرت لصلصلة قيود قلبية...
ثم استكانت...




لا بد أنه ذوقي البسيط، لكن الصعب تفهمه من الآخرين، بالعطور، وإعطائي أهمية كبرى لحاسة الشم المهملة غالباً، ما يجعلني أربط بين الكثير من الأشياء وروائح، بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة.
تداهمني ذكريات عزيزة أو غير عزيزة على نحو صادم أحياناً، ودون أن أعلم بأني ربطت بينها وبين رائحة معينة حتى اللحظة في أحيان أقل.
أحياناً، يبدو أن رائحة معينة تضعني على حافة مجال زمني آخر، حتى أكاد أن أرى ما قد مررت به وحصل قبل سنوات.
قد يكون عطر أجده مبتذلاً، لكن الذكرى المرتبطة تحيلني إلى شعور أكثر عمقاً، وكأن الرائحة كانت مجرد بطاقة عبور إلى ما هو مهم، بطاقة عبور وجدتها فجأة، وحالما لمستها أخرجتني، أخرجتني من مكان ما، أو كادت.
أنتزع نفسي دائما بشعور مختلف من ذلك المجال، أحياناً بأسف، أو حتى ندم، أحياناً بحس حميم، وأحياناً بالعودة إلى تنشق ريح الحرية، بعيد عن عطر مبتذل، في أغلب الظن.


كنت قد حكيت من قبل عن بطئ الإدراك لدى صديق طيب قديم وتدرجه، حتى يدرك خطأ شنيع قام به، ويندم...
أعتقد أني أتسم بهذه الصفة كذلك، بطئ الإدراك. تصاعدياً، أشعر بخسارة أمر ما، وأستوعبها شيئاً فشيئاً، ويتقلص قلبي ألماً، شيئاً فشيئاً، ويفيض يأسي، أكثر فأكثر، حسياً. لم أخطئ، لكن، لبعض الأمور دورة، فتصل إلى نهايتها.


أفكر أحياناً بالندم، الفكرة الواضحة والمخيفة في حالات، المختبئة بغموض بين طيات القدر والرجاء في حالات أخرى. مع العمر، صار يبدو لي شيئاً فشيئاً أن الندم مجرد فكرة أو قيمة كادت أن تندثر، أمر يتحدث الناس عن وجوده وكأنما عن علم وتجربة واطلاع، بينما يكاد أن يكون بالواقع أشبه بعنصر أرضي نادر، يُعرف بوجوده، لكن نادراً ما يُرى.
لا أتخيل بأن هناك من يندم على شيء عموماً، إلا قلة قليلة لا أظن أني قابلت أحد منها. أعتقد أن القلوب أقسى مما يتصور أصحابها. أتصور بأن الندم من أوضح الإشارات الإنسانية على الوعي الذاتي، وأعتقد أن الضمير يتفرع عن الوعي الذاتي. عدم القدرة على الندم جعلت الناس أشبه بالحيوانات في فئاتها الأبسط.


عموماً، هذا أنا أبتدئ الكتابة، من بلد العلاج والغربة القصيرة -بإذن الله- سويسرا، بعد يومين من الوصول.
كانت رحلة القدوم متعبة، بحقائب كثيرة للانتباه إليها، وإزعاج تلاميذ في رحلة مدرسية من أحد المدارس العالمية. لكنها لم تخلو من حظ جيد، بعض الشيء.
وصلنا إلى جنيف، ونبهتني امرأة عاملة إلى أني يجب أن أطلب خدمة المساعدة من رجل ينتظرني عند باب الطائرة، دون أن أنتبه إليه. كنت أحمل ابنة أختي، وكنا في الجسر الرابط بين الطائرة والمبنى، حيث ينزل الناس في نهايته عبر درج إلى قسم تدقيق الجوازات. كان الرجل قد جاء حينما هممت بالعودة أدراجي، وفتح لنا باب غرفة في رافعة، حيث أنزلنا مع أمي وأختي وأخذنا إلى قسم من الجوازات لا يوجد به غيرنا. كانت الأمور ميسرة إلى حد بعيد، كان الرجل الذي رافقنا لطيفاً، لكن موظف تدقيق الجواز كان ينظر تجاهنا بكراهية وضيق واضح، ربما لملابسنا جميعاً، فأمي وأختي يغطين وجوههن، وأنا ألبس الثوب والبرنوس.
في استقبالنا وجدنا شاب مليح وقصير، أوروبي الملامح، اسمه أحمد، بريطاني الجنسية لكن من حمص في سوريا أصلاً، وهو رجل بكل ما تحمل الكلمة من معنى طيب. سرعان ما بدأنا بتبادل الأحاديث، وقد تركنا أهلي بالسيارة لنشتري أرقام محلية للجوالات. فهمت منه، وهو واسع التجربة، أن الناس هنا على جانب كبير من العنصرية، وبعد يومين، لا أراه سوا محقاً منصفاً. عاش أحمد معظم سنواته في أوروبا في بريطانيا، التي يحمل جوازها، وقد جاء إلى سويسرا منذ سنتين لأجل زوجته التي لم تستطع التأقلم مع الحياة في بريطانيا، حيث أنها من مواليد سويسرا. قال بأن البريطانيين أفضل بكثير، وهو بهذا يعني الانقليز فقط على الأغلب. في حين أني أرجح حسن الذوق في الايرلنديين والاسكوتلنديين مما سمعت.
أخذنا أحمد إلى مدينة بيرن، وهي العاصمة وتقع بالمنتصف وفي الشق الألماني من البلد. كنت قد استأجرت شقة لدى أسرة هناك عبر الانترنت، قبل مجيئنا إلى هنا بفترة، وكنت أفكر بأننا على الأغلب سنبقى في الشقة فترة وصولنا حتى نجد مكان آخر، أرخص وأكثر ملائمة لظروفنا الصحية؛ والدتي التي تتعب في ارتقاء الدرج، وتصعيد الكرسي المتحرك ثم النزول لتصعيد ابنة أختى، والعكس، كان أمر مرهق جداً بالنسبة لي، حيث أن الشقة في مكان منخفض من المنزل، يؤتى من درج صعب قليلاً وليس بالقصير. لكن يبدو أننا سنظل هنا، حيث لا يبدو أن هناك شقق ملائمة بأسعار يمكننا دفعها، ونحن بالكاد ندفع سعر هذه. لكن لعله من العدل الإشارة إلى أن هذه هي النقيصة الوحيدة في مكان الإقامة، أما خلافاً لهذا؛ فالشقة ممتازة ومجهزة على نحو غير متوقع، وذات موقع ممتاز.
لكن الجانب الطيب من الموضوع هو أن صاحب المنزل وزوجته أناس طيبون جداً، على خلاف من صادفت من أهل ذلك البلد. لديهم استعداد كبير للمساعدة وإجابة الأسئلة وتوجيه النصائح. وهم يميلون للطف الشديد وإبداء التعاون والتعاطف (ربما لهذا يؤجرون للأجانب جزء من منزلهم).
مترجمنا ومنسقنا، رجل طيب اسمه ابو يوسف، بدا مذهولاً من السعر الذي رأيناه مرتفعاً للشقة، إذ قال بأنه رائع وعلينا التمسك بها، حتى أنه طلب هاتف صاحب الشقة.
الشقة نفسها لا يمكن أن تكون أفضل، باستثناء الدرج بالطبع. إنها دافئة، بغرفتين جيدتين، ومطبخ مجهز تماماً، وطاولة طعام وحمام. يوجد جكوزي في الشرفة، لكني أخبرت صاحب المنزل بأننا لن نستخدمه بالطبع. يوجد انترنت، مما يبسط أمر التواصل ويقلل التكاليف كثيراً، ويوجد تلفاز، ببضع قنوات عربية، وبلايستيشن ٣ لن ألعب به، ومشغل دي في دي مع دولاب كامل من الأفلام. غرفة الغسيل مستقلة عن منزله، وإلى جانب باب شقتنا، ويمكننا استخدامها بما فيها من مواد تنظيف. حتى المطبخ مجهز بآلة قهوة مع عليباتها، حيث توضع العلبة في مكان معين من الآلة، ويضغط زر لتُجهِّز القهوة، وغلاية، وفرن، ومايكرويف، وحماصة خبز، وبهارات، وأنواع مختلفة من الشاي، وعليبات حليب للشاي والقهوة، وزيوت، زيتون ونباتي للطبخ، وأشياء متفرقة. هذا سهل الأمور علينا كثيراً.
أما أهل بيرن، فهم بالمجمل غير متحضرين كما قد يفترض المرء، كثير منهم وقح، يحملقون بازدراء، وقد يضحكون، أو يتصنعون الضيق والقرف، وكأنما ليقنعون أنفسهم أنهم شيء آخر مختلف. إن ما خطر على بالي في اليوم الثاني لوصولنا هو أننا قد نكون قد وصلنا إلى مهد العنصرية في العالم.
إني أتفهم الفضول، ولا خلاف لدي حوله، لكن الفضول واضح، والعنصرية واضحة، وبطبيعة الحال، يبدو أن الناس هنا أساساً يعانون من قصور في فهم حسن الذوق والتأدب، وتقدير أبسط الإشارات الإنسانية، كالابتسامة أو الترحاب.
ربما باستثناء صاحب المنزل وزوجته، لم أصادف سوا شخص واحد بدا أنه يريد إظهار نوع من الإحترام وحسن النية. كنت أدفع عربة ابنة أختي، لآخذها إلى متحف قريب للحيوانات، وقد كنت في منطقة المتحف لكني لم أكن متأكداً من أني سلكت الطريق الصحيح، فرأيت رجل في عمري على ما يبدو، معه طفلة تسير إلى جانبه، وسألته عن المتحف. كانت لغته الانقليزية ضعيفة، ولغة الناس الإنقليزية هناك عموماً ليست قوية، أخبرني بأنه في نهاية الطريق، واقترح بأن نسير معهم. سار أمامي للحظة، ولكن يبدو أنه توقع أني سأسرع لأجاوره، ولما لم أفعل، توقف هو ليسير إلى جانبي ويسألني إن كنت سائحاً، ويخبرني عن نفسه. بعد تبادل القليل من الكلمات وصلنا، وأخبرنا بأن نذهب من الخلف حيث الطريق مجهز للعربات، وبالداخل نبه امرأة في الاستقبال لتفتح الباب لنا.
خلافاً لهذا الرجل، لم أصادف إلا ربما شخص أو شخصين تحملا إظهار ابتسامة أو أداء تحية بارتباك، دون التصدد بقرف أو الحملقة والضحك، أو النظر باشمئزاز.















وسط بيرن التاريخي جميل إلى حد كبير. ليس أجمل ما يمكن للمرء تخيله، لكنه جميل مع ذلك. وربما للموسم، وللظروف، دور بعدم تقديري الكامل لما رأيته من معمار. أخذنا المنسق أبو يوسف، وهو فلسطيني سويسري طيب، في جولات حول المدينة. أبو يوسف هو من كنت أنسق معه وأتواصل قبل مجيئنا إلى سويسرا من حوالي الشهر. كان يجد أمي ظريفة، فكان يحاول أن يفاجئها ويصدمها بما ترى، فيضحك على تعليقاتها التي تشبه تعليقات والدته كما يقول. أخذنا إلى الكنيسة القديمة، حيث في واجهتها يوجد تماثيل ورسوم تمثل الجنة إلى جانب النار، وفي الوسط الحساب. كنت قد رأيت بعض التماثيل العتيقة جداً بالمتحف، الذي زرته وحدي، وهي نسخ طبق الأصل مما رأيت في الواجهة فوق باب الكنيسة، سوا أنه يبدو أن النسخ في الكنيسة أحدث.
يوجد تماثيل مروعة من العصور الوسطى، تمثل الشياطين في جهنم، وهي تعزف، وفي بعض جوانب أجسادها عيون محملقة، يصعب فهم سبب وجودها سوا بث الرعب في قلب الناظر، وتحتها رجل يتعذب يطل من كوة ضيقة. كانت والدتي تتسائل لماذا لا يدعو أحد السويسريين إلى الإسلام. قال أبو يوسف بأنه يتمنى أن يثبت المسلمين على دينهم في هذه الظروف. سألت أبو يوسف أن كان بالإمكان دخول الكنيسة. بدا أنه أخذ على حين غرة، لكنه سأل البواب ذو اللبس الغريب فوافق مباشرة. دخلنا وتمشينا. كانت فكرة دخول الكنيسة مفاجئة لوالدتي أيضاً، ولو لم تؤخذ على حين غرة لرفضت الدخول بدافع القلق والخوف من المجهول على ما أتصور. كانت تتسائل إذا كانوا سيوبخوننا بالداخل.
تمشينا قليلاً، وكانت والدتي قد تعبت من المشي، فلم نطل البقاء كثيراً. بيد أن فوجئت حينما وجدت الكنيسة مليئة بالكراسي، وتسائلت كيف يصلون على هذا النحو.
أخذنا أبو يوسف كذلك إلى منزله، حيث قابلت أختي ووالدتي زوجته وبعض أطفاله، فيما جلست أنا وهو في مكان منفصل نتحدث.
حينما كدنا نخرج كانت زوجته قد تبعت أهلي مودعة، فسلمت عليها وأنا أحمل ابنة أختي، وطالبتنا المرأة الطيبة بأن لا نحتسب هذه الزيارة وأن نأتي مرة أخرى. كانت خطة والدتي هي دعوتها وأبو يوسف وأبنائهم، أكبرهم بالجامعة، إلى العشاء قبل مغادرتنا سويسرا، وقد بدأَت بالفعل بتحديد أماكن جلوس الرجال؛ في الغرفة حيث أنام، وجلوس النساء في سائر المنزل.
لكن؛ قيل لنا في موعدنا مع الطبيب الذي جئنا لأجله أنه لن يرانا، حيث يجب أن يرانا طبيب من تخصص آخر، في مدينة أخرى، حسب نصيحة الطبيب، الذي تمكن من فتح الأشعة من السعودية التي أرسلناها قبل وصولنا، وقالوا لنا بأنها غير قابلة للتشغيل على أجهزتهم، وهكذا، كان يجب أن نرحل من بيرن، أبكر مما توقعنا. ذلك أننا كنا ننتظر رؤية هذا الطبيب ليحدد مدة بقائنا، لكننا لم نتوقع هذا الرأي.
أصبنا بإحباط شديد، ضاع أسبوع كامل من التحضيرات، والإنتظار الطويل، بلا فائدة. وكنت محرجاً من صاحب المنزل. إن السكن في الشقة التي تشكل جزء من منزله مكلف، لكن يعتبر مقبولاً مقارنة بمن مثله، خصوصاً لقربه الشديد من مركز المدينة والمستشفى، والأهم من هذا كله جودة المنزل، وطيبة أهله؛ الرجل وزوجته كانا أكثر من رائعين. حاضرين دوماً للمساعدة والاطمئنان. كرماء، حتى مطبخ الشقة مجهز بالكثير من الأشياء بحيث لم نحتج لشراء كل شيء. كانوا متعاطفين مع حالة ابنة أختي، وقد عرض علي توصيلنا للمستشفى في حال تواجده، مما فاجئني وأشعرني بالامتنان، وتخفيض الاجار بما يساوي عشرة بالمئة، ورفض عرض بالاستئجار من عائلة أخرى، وذلك رغم أني أخبرته بأننا غير متأكدين من كوننا سنستمر هناك. كان ينتظر لقائنا بالطبيب المختص لنعرف مدة بقائنا ونخبره. وهكذا ضاعت عليه فرصة شغل الشقة بأحد آخر. حينما اعتذرت عن إضاعة هذه الفرصة عليه، قال بأن المال ليس كل شيء، وأنه يتمنى أن تشفى ابنة أختي وأن تكون أمورنا على ما يرام. وجاء وزوجته لتوديعنا في يوم مغادرتنا إلى المدينة الأخرى.
المدينة الأخرى أشهر وأكبر بكثير من بيرن، هي زيوريخ، وبشكل ما، أجدها أريح وألطف من بيرن رغم ازدحامها، وكرهي للازدحام، وحبي للمدن الصغيرة والمتجانسة، لكن أهالي بيرن كانوا صدقاً لا يطاقون، وليس أن أهل زيوريخ لطفاء، لكنهم أكثر تحضراً على ما يبدو لي، مع اشتراكهم ببعض السمات التي لاحظتها على أهالي بيرن، كعدم استيعاب أبسط اللفتات الإنسانية عموماً.
أخذنا أبو يوسف إلى هناك، رغم أنه ليس عمله لكنه أراد الوقوف على كل شيء معنا لنشعر بالاطمئنان، لأنه استوعب أن معنوياتنا اهتزت كثيراً بعدما لم نرى الطبيب الذي انتظرنا فترة طويلة رؤيته، منذ أن كنا بالسعودية، وخصوصاً أنه لم يسمع منا ولم نسمع منه، فكان أمر محير ومحبط، رغم أن الأمور اتضحت على نحو أفضل مع الوقت.
وصلنا أبكر مما أراد أبو يوسف إلى زيوريخ. كان لدينا موعد في نفس اليوم، فكانت الخطة هي ترك والدتي وأختي وابنتها مع مترجمة عراقية ثبت أنها رائعة وقديرة، والذهاب مع السائق المغربي الذي سيتولى إيصالنا ومساعدتنا، ويسمى أبو يوسف كذلك، لرؤية شقة كان أبو يوسف منسقنا من بيرن قد حادث صاحبها عبر الهاتف واتفق معه. لكن بما أننا وصلنا مبكرين، ذهب بنا أبو يوسف إلى البحيرة الشهيرة في تلك المدينة. وأعطانا رجل من أهل زيوريخ بطاقة وقوف اشتراها وقد انتهى من الوقوف بالمكان، فكانت هذه لفتة كريمة زادت من تفاؤلي بالمدينة. بالطبع، كان أبو يوسف مهتم برأي أمي بكل شيء أكثر من آراؤنا. ولم يبدو الذهول أو الإعجاب على أمي، بل إنها شككت بنظافة الماء. ضحك كثيراً أبو يوسف وقال لوالدتي بأن هذا المكان الذي لا يهمها يدفع الكثير من الناس ما دونهم وما خلفهم لرؤيته، وقال بأن رد فعلها نفس رد فعل والدته. ثم شرح بأن والدته أصلاً ترفض الخروج كثيراً، كما لاحظ على والدتي. ثم بالطريق إلى المستشفى، مررنا بساحة تحيط بها مباني جميلة ومحلات تسوق وتماثيل. لم يبدو الإعجاب على والدتي أو الانبهار. فقال أبو يوسف بأنه لو كانت والدتي من جنسية معينة، لفقدت صوابها وقالت بأنها بالجنة وأنطلقت بعبارات المديح والانبهار، لكن، من مثل والدتي ووالدته هم أناس لا ينبهرون بسهولة، قناعتهم كبيرة ومقاييسهم مختلفة غير شكلية.











تركنا النساء مع المترجمة، وذهبنا مع أبو يوسف الآخر. كان أبو يوسف المغربي يعرف صاحب الشقة، وهو محامي تركي الأصل يدير بضع عمارات، لكن أبو يوسف من بيرن كان لأول مرة يلتقية، ويبدو أنه أخذ رقمه من أبو يوسف الآخر. التقينا الرجل التركي، لعله في بداية الأربعينات، ضئيل البنية، جاد الملامح على بعض النزق. صعدنا لرؤية الشقة، فوافقت، كانت ممتازة، ليست بالطبع كشقة بيرن، التي لم يعيبها سوا الدرج الطويل، لكنها كانت ممتازة على كل المقاييس؛ أي مقاييسنا.
نزلنا للاتفاق على السعر، في مكتب يستخدم لإدارة العمارة، خلافاً للمكتب الرئيسي. كان أبو يوسف قد أخبرني بأن السعر رائع، لكن، كنت حراً بالمفاصلة، وكانت هذه اشارة أشبه بالتحفيز. سألت ببساطة إن كان يمكن للسعر النزول أكثر، أو السماح لنا بأخذها بهذا السعر لأقل من أسبوع حتى نسمع قرار الطبيب قبل التورط بالدفع. فشرح لي التركي بأنه لم يؤجر أحد من قبل بمثل هذا السعر، وأنه لن يكون مجدياً أبداً لأقل من أسبوع، وكانت نظراته إلى أبو يوسف البيرني منذ البداية تشي بنوع من المرارة. ثم تدخل أبو يوسف ذاته باللغة العربية، لنصحي بقبول العرض. وأبو يوسف من النوع المسهب بالكلام، فكان أمر محرج جداً بالنسبة لي، التحدث بلغة لا يفهمها أحد الأطراف، على هذا النحو المسهب. لم أكن رافض للعرض، كانت محاولة حفزني هو إليها، شعرت بأن الموقف كوميدي بشكل ما. قاطعت أبو يوسف حينما حانت فرصة، متوجها بالانقليزية إلى الرجل التركي، وقلت بأني أدرك جيداً منذ البداية بأنه أعطانا سعر جيد وأقدر هذا الصنيع صدقاً، لكني فقط أشعر بالقلق بسبب خروجي من بيرن أبكر من اللازم، وقد خشيت من مصير مشابه هنا، لكني أشكره على لطفه ومرونته وأود استئجار الشقة. بدا راضياً ومرتاحاً لما قلت، واتفقنا على أن يصعد بعد فترة إلينا بالشقة، بكروت فتح الأبواب وآلة الدفع عبر الشبكة.
كانت هناك معضلة، كان هناك مكان للنوم لوالدتي وشقيقتي والطفلة، لكن ليس لي، كنت سأنام على كنب عريض، يبدو أنه أختير لهذا الغرض، فلم أرى أعرض منه من قبل، إذ يبدو كالسرير لولا التفاصيل التصميمية. قال أبو يوسف من بيرن أن أسأل الرجل حينما يأتي أن يزيدنا بطانية، لأن الفتاة الصغيرة قد تبرد (!!)، وذلك لأن طلب فراش زائد قد يزيد القيمة أكثر من اللازم، فللأمر حساباته.
جلسنا معاً لبعض الوقت بالشقة، وأدينا الصلاة، وأجرى أبو يوسف من بيرن الكثير من المكالمات، منها مكالمة إلى شاب سيأتي ببقية حقائبنا من بيرن إلى زيوريخ. قال بعدما انهى المكالمة بأن الشاب اشتكى من أن أحد الحقائب كادت أن تكسر ظهره لثقلها. ولكنه أعقب، بحب، بأنه يريد الشاب هذا أن يتعب، وذلك بعدما أبديت قلقي عليه. قال بأنه علينا أن نتركه يأتي بالحقائب بنفسه إلى أعلى، وأن لا نساعده، قلت باستنكار لماذا؟ قال ليتعب، قلت بشفقة ونفس طويل: حرام. فضحكوا. بالطبع، نزلنا لمساعدته بعدما غادر أبو يوسف البيرني الشقة. كان أبو يوسف قد حدثني عن هذا الشاب عدة مرات، وكان يصفه بمحبة بأنه شاب طيب ورائع، لتوه بدأ العمل معهم. أعتقد أن إتعاب الشاب هي طريقة أبو يوسف لصنع رجل.
بقيت أنا وأبو يوسف المغربي نتكلم. أبو يوسف المغربي موجود في سويسرا منذ أكثر من 35، وهو رجل مسن لديه أولاد. لديه موقف سيء جداً من العرب بعمومهم. كنت قد استغربت صراحته حينما رآني لأول مرة، وقال لي بدون تردد بأن لا ألبس الثوب، وألبس ملابس غربية. سألته لماذا؟ قال بأني قد أواجه مشاكل هنا، قد يلحقني البعض ظناً بأني أملك مال الدنيا. قلت بأني لم أواجه مثل هذه المشكلة في بيرن، قال بيرن ليس فيها عرب، هنا الكثير من العرب، أما السويسريين؟ فلن أواجه منهم مشكلة هنا ولن يكرهوني للباسي(قد لا يفتعلون المشاكل، لكني أشك باحترامهم للباس مختلف)، إنما المشكلة بالعرب هنا، وهم من يخاف علي منهم. نبه علي أكثر من مرة في ذلك اليوم بأن أغير ملابسي حالما أستطيع، وهو يتذمر من العرب. في الشقة حينما بقينا لوحدنا، سألته إن كان يريدني أن أعد له قهوة أو شاياً. لم يُرد. وصار يحدثني عن حياته المثيرة للاهتمام، أعني تاريخياً. كان قد غادر المغرب وهو ابن السابعة، ونشأ في أسبانيا وتعلم حتى شب، ثم جاء ليعيش في سويسرا. وهو يعتبر أن اسبانيا، وخصوصاً المدينة التي نشأ فيها قرب بلنسية، أجمل مكان بالعالم، أجمل من المغرب وسويسرا والسعودية، التي يقدر مكانتها، بلد الأولياء كما يصفها، لكن تلك البلدة التي يحملها في قلبه أجمل.
جرنا الحديث إلى العرب، وأخبرني بأنهم أكثر خلق الله كذباً، وأضعفهم ضميراً. حدثني عن والده رحمه الله، الذي مرض بالمغرب، وذهب إلى هناك ليشرف على علاجه. أخبروه بالمستشفى أن عملية بالبروستاتا ستكلف أكثر من 60 ألف ريال، وأخمن بأنهم علموا عن معيشته في سويسرا. وقد دفع وظل يدفع، حتى اكتشف بأن والده الذي منعوهم من زيارته بحجة العناية الفائقة كان متوفى منذ يومين أو ثلاثة، وقد اختفى الطبيب المسئول. صُدمت بالقصة، واغرورقت عيناي بالدمع، وفهمت مدى تعقيد مشاعره. قال وأنا أجفف عيناي بسلهامي بأنه لهذا يعتقد بأن العرب عموماً بلا ذمة أو ضمير، حيث لن يكذب عليك طبيب أوروبي لأجل المال.


الحمد لله، لم أقابل سوا الرائعين من العرب حتى الآن. أحمد السوري، أبو يوسف، وأبو يوسف، ورجل طيب ساعدني في بيرن في محطة الحافلات، اتضح أنه فلسطيني، وآمل أن أتواصل معه قريباً لشكره على الأقل. لا أحد كامل بالطبع، لكن ما رأيته منهم كان أفضل مما توقعت بكثير، أو حتى نقيض ما توقعت وجربت من قبل.


ها نحن بالشقة منذ يومين. لا يمكن أن أصف حالنا بالسعادة، فالأمر صدقاً شاق، والظروف الصحية على الأقل صعبة. لكني أجد زيوريخ أكثر قبولاً بكثير من بيرن، وأهلها الأقل تجانساً أفضل إلى حد بعيد، رغم فكرتي السيئة عن المدن غير المتجانسة كالرياض وليما.
مررت من أمام مطعم تركي، ورأيت أتراك بالداخل شواربهم كثة كالمكانس، ولسبب ما شددت انتباههم، فأشاروا إلي وأقتربوا من الزجاج لمتابعتي، لم يكن بالمطعم زبائن. ربما اشتبهوا بأني هندي يعرفونه، حيث أرى الهنود هنا بنسبة غير قليلة. حيّنا عموماً يشتهر بكثرة اليهود فيه، اليهود المتدينين، بقبعاتهم ولحاهم. أحدهم رأيته مرتين إذ يبدوا أنه يسكن بالجوار، يشبه جارنا في حيّنا القديم بالرياض تماماً، بنفس اللحية والملامح وربما حتى درجة اللون، سوا أن الجار كان أقصر من هذا.
ضعت لفترة وجيزة، حينما عدت بالخطأ من طريق آخر من المحل الذي أشتري منه الخبز والحاجيات. هنا في سويسرا، أدركت القيمة الكاملة للجي بي اس بالجوال. صحيح أني غير متمكن تماماً من استخدامه حتى الآن، لكنه أنقذني بضع مرات، وهو يشعرني بالاطمئنان، ويمنحني بعض الشجاعة في استكشاف المكان.
كنت قد أشتريت جوال جديد قبل سفرنا بأسبوع. وهو جوال ممتاز حتى الآن، بسعر أكثر من رائع لمزايا غير متوقعة، من لينوفو. أحضرت جوالي السابق كذلك معي كاحتياط، وهو قد بدأ بالتوقف عن العمل فجأة أكثر من مرة باليوم، وإعادة تشغيل نفسه، وتصعيب الأمور. العجيب أنه بدأ القيام بهذا بنفس الوقت الذي بدأ به جهاز ابن أختي، من نفس الشركة، سوني، ونفس الجيل، إذ اشترينا الجوالين بفارق أقل من شهر. أعتقد أنهم يصممون الأجهزة لتعطب بعد فترة معينة من الاستخدام.


















































السويسريون في الشق الذي نحن فيه من البلاد، بيرن وزيوريخ، متحفظين، وباردين، في أحسن الأحوال، وبعد المجاملة، إذ أرجح أنهم عنصريون وبشدة. وأعتقد بأن التواصل البصري يربكهم، إذ أنهم يتفادونه بشدة كما لاحظت، حتى بين بعضهم.
لكن سويسرا رغم حجمها الصغير جداً هي بلد على جانب من التنوع. هنا أربع لغات؛ الفرنسية، الألمانية؛ متكلمة في زيوريخ وبيرن ومدن أخرى كثيرة، والإيطالية، والرومانش، وأهلها قلة قليلة في الجنوب الشرقي حسبما أتذكر من قراءاتي.
ولا يتحدث معظم الناس هنا اللغة الانقليزية إلا على نحو مبسط جداً، وإن تحدثها أحد ما فإن هذا يكون بصعوبة وبلا إتقان، عكس ما سمعته عن ألمانيا.
ما أحب أن أراه هنا هو الجنوب الفلاحي، منطقة تسمى فاليه، أو فالوا، حسب اللغة، أحب أن أرى أهله وتقاليدهم، وبالواقع، يخطر في بالي الجبن كثيراً، وهم يشتهرون بصناعته، وهو من أحب المأكولات إلى قلبي. مشكلة الأجبان الأوروبية هي أنها طبيعية عموما، وأقول بأن هذه الميزة مشكلة لأننا إجمالاً لم نتعود على هذا الشيء، إن الشيء الطبيعي ستكون له رائحته المميزة، وهي رائحة أحبها عموماً، لكن أهلي لا يحتملونها، لقد تعودنا على الأجبان المصنعة والمعالجة أكثر من اللازم، لتكون قابلة للدهن وبلا رائحة، لكن هل هذه أجبان فعلاً؟.
هنا كل شيء مرتفع الثمن، لا أعتقد أني رأيت ما يباع بفرنك واحد. لكن مع ذلك يوجد تدرج بالخيارات، وبالتعود على تقييم السلع هنا شيئاً فشيئاً يجد المرء ما يعتبر رخيص نسبياً وجيد. الفراولة هنا على الأقل أرخص مما لدينا، وهي أطعم فراولة تذوقتها. أعشق الفراولة، لكنها لا تتوفر كثيراً بالرياض بسعر معقول، ولا أدري الآن إن كان ما يتوفر في الرياض سيعجبني بعد هذه هنا، لكني سأنسى بالتأكيد مع الوقت.
مع ذلك، شكلت سويسرا لي نوع من الصدمة، أعتقد أن أهلها إجمالاً متكبرين، جافين جداً. لم أحبهم، ولم يحبوهم أهلي.


على الأقل، تحسن الأمر من ناحية ما أتى بنا إلى ذلك البلد، وبتنا نسير في طريق أكثر وضوحاً تجاه هدفنا، فخطوات علاج ابنة أختي تم تحديدها أخيراً بعدما قابلنا طبيبنا. ولعل أطبائهم لطفاء جداً كجزء من المهنية، إذ أني لا أصدق بأن ثقافتهم قائمة على اللطف والاحترام. وقد أوضح لنا كل شيء، وأشعرنا هذا بالاطمئنان.


أكمل الآن بعد عودتنا من سويسرا بأسابيع. كانت رحلة طالت لثقلها أكثر من طولها الحقيقي.
خلصت إلى أن السويسريين في الشق الألماني على الأقل من ذلك البلد ليسوا ممن قد يحب المرء رؤيتهم والتعرف إليهم. لم أرى شعب بهذه الغطرسة.
عدنا ولله الحمد وقد حققنا غرضنا في النهاية، وهذا هو المهم، وما يستحق كل عناء. أجرت ابنة أختي العملية، وكانت عملية ناجحة جداً والشكر لله، أتمنى أن تكون فاتحة خير على حالتها الصحية، إذ أنها البداية فقط. إننا نرجو أن يتمكن الأطباء هنا من إكمال باقي الإجراءات، القيام بما تحتاج إليه من عمليات، حيث أن ما كان يعترض طريقهم حسب فهمنا هو ما أرسلونا إلى سويسرا لأجله، عملية معقدة تتعلق بالأعصاب. لكن إن لم يتمكنوا، فسنضطر للعودة في العام المقبل إلى سويسرا.


لم أكون صداقات، لكني أحببت البعض كثيراً. لم أتوقع بأن العرب هناك سيكونون بهذه الطيبة والتعاون صدقاً، إنهم ليسوا مثل من نرى في بلدنا أو في بلدانهم حسبما أسمع.
في المستشفى، حيث لم يشاهد مريض عربي منذ فترة طويلة، حازت ابنة أختي على الكثير من الاهتمام من قبل رجلين عربيين يعملان هناك. قابلت أحدهم، وهو رجل لبناني كبير، طيب جداً وكثير الظرف، يقيم في سويسرا منذ أكثر من ثلاثة عقود (ما أكثر من يقيمون هناك منذ فترة مماثلة، لابد أنها فرصة أتيحت للهجرة في ذلك الوقت على نحو لا يمكن تفويته). تكلمنا كثيراً، وكان يرى بأن السويسريين ليسوا بالسوء الذي أتصوره، لكنه لم يقنعني. أصر على تبادل وسائل الإتصال، حيث أن شقيقه رجل أعمال يزور الرياض، ويتمنى هو أن يزورها، حينما يزور شقيقته ووالدته في جدة، مثلما أتمنى أنا أن يفعل، من كل قلبي. أرسلت إليه بطاقة بريدية حينما عدت، أشكره على اهتمامه ولطفه، وأتمنى أن أراه وشقيقه وأستضيفهم في حال زاروا الرياض. كما أرسلت إلى أبو يوسف، الظريف لكن المراوغ، الطيب جداً لكن الصعب، أشكره وأسئله أن ينقل سلامي إلى كل من ساعدونا هناك، السكرتيرة فاطمة، والعزيز جداً، جداً، أحمد من حمص، وهو من لم أره سوا مرة واحدة لبضع ساعات، لكني أحببته من قلبي وقدرت حسن أخلاقه وحضوره النادر.


هناك، تعاملت مع شركة سيارات أجرة، فتحت فرعها مؤخراً في الرياض، اسمها أبر Uber ، وهي خدمة معقولة السعر بالمقارنة في غيرها في زيوريخ. ليست أرخص من النقل العام، لكن والدتي لم تستطع مواصلة استعمال النقل العام لأن المشي من وإلى المحطة القريبة أتعبها كثيراً، خلافاً إلى تغيير محطات الترام. لكن أعانني الله على مصاريف التاكسي على نحو لم أتوقعه، فقد بت أتنقل به مجاناً. حينما يشترك المرء بالخدمة، يزوده البرنامج على الجوال برقم ترويجي، يمكن للمستخدم نشره كيفما شاء، وحينما يستخدم أحد الرقم الترويجي، يحصل على رصيد مجاني لأول رحلة بـ ٢٠ فرنكاً (الفرنك يساوي حوالي ٤ ريالات ونصف)، وتضاف مثلها على حساب صاحب الرقم، فوصل ما حصلت عليه إلى حوالي ٤٠٠ فرنك. ورغم أنه تبقى معي الكثير منها، إلا أن قانون الشركة يقول بأن الرصيد لا يستخدم إلا في البلد الذي حصل عليه فيه الزبون. رقمي على Uber هو: RT5Z3
لست أدري كم سيوفر من أول مشوار على مستخدمه في جدة أو الرياض، لكني أرجو أن يساهم.
يحدد المرء موقعه على البرنامج بالخريطة أو البحث عن العنوان، ويحدد إذا شاء وجهته كذلك، وخلال دقائق، حيث يمكنه رؤية السيارات على الخريطة تتحرك، تصل إحداها لنقله. يمكن حتى اختيار نوع السيارة، لكن ليس في الرياض، حيث الخدمة لا زالت تجريبية على حد علمي. الدفع بالبطاقة الائتمانية، فالمرء لا يحتاج إلا إلى الركوب والنزول في وجهته، وإن كان لديه رصيد قد ربحه فالخصم منه تلقائي.


لا ترى بالطبع سائقين سويسريين عموماً. يوجد عرب، وأتراك، وأكراد غالباً. الأتراك أقل ما يقال عنهم أنهم بغضاء، أبغض من السويسريين حتى، متكبرين أنذال، لا مروءة لهم قاتلهم الله. العرب، كغالبية العرب هناك ممن صادفت، رائعين. لكن الأفضل على الإطلاق كانوا الأكراد.
لا نعرف الأكراد تماماً، جل ما نعرفه عنهم هو نزعتهم الانفصالية، التي ثير في الناس دائما الحمية تجاه العراق على وجه الخصوص. قابلت كردي واحد من أكراد تركيا في بلدي، وكان دكتوراً في جامعتنا. كان رجل كريه بصراحة، ولم يعطني انطباع جيد. لكنه رجل واحد.
قابلت ثلاثة أكراد في زيوريخ، وأسهبت بالتواصل مع اثنين. الأول من أكراد تركيا، والآخر من أكراد ايران. كليهما رائعين، بشوشين ورقيقي الطبع. كانوا لطفاء على وجه الخصوص تجاه والدتي، محاولين التحدث إليها بالعربية، واستدراجها للدعاء لهم. لم يتجاهلا وجودها بسبب حاجز اللغة، وقد أتيا بكل ما يعرفان ليقولا لها شيئاً، وهذا سلوك أحاول الإتيان به كذلك حينما يصطحب أحد معارفي الأجانب في الجامعة والده الذي يكون في زيارته لسبب أو لآخر.
صادف أن أوصلني الكردي الإيراني ثلاث مرات، من خلال طلبي لسيارة عبر تطبيق الشركة بالجوال. كنا نتحدث حول مختلف الأمور، وكان الرجل بنفس عمري. يعيش هناك منذ فترة طويلة، وهو متزوج من امرأة سويسرية تعمل محاضرة بالجامعة، متخصصة بثقافات الشرق وتتحدث الفارسية حسبما فهمت. سينال الجنسية السويسرية قريباً كما يأمل. قال بأني أذكره بالفرس، وهو أمر مضحك، سألته لماذا؟ قال لأني راغب بالتحدث والتعرف والضحك، على عكس معظم العرب الذين أوصل من قبل، بالإضافة إلى الشكل. ضحكت، وسره أني وجدت الأمر مضحكاً. قال بأنه يود أن يراني قبل أن أسافر في يوم إجازته، لنجلس ونتحدث. كنت قد تعرفت عليه قبيل انتهاء فترة العلاج وعودتنا إلى السعودية. أخبرني باليوم الذي يريد أن يراني به، وأعطاني بطاقته. لكنه في ذلك اليوم للأسف انشغل بمقابلة في الجامعة، مع أستاذ زميل لزوجته متخصص كذلك بثقافات المنطقة.
لكن بعد يوم أو اثنين، صادف أن ذهبت إلى حديقة الحيوان، وحينما طلبت سيارة لتعيدني، بما أنها ستكون مجانية، ظهر لي على التطبيق أن هو من سيأخذني، حيث أن التطبيق حينما يجد أقرب سائق أو السائق المتفرغ، يظهر صورته واسمه ومعلوماته ووقت وصوله المتوقع. بعد دقيقة اتصل على جوالي فرحاً، وقال بأنه قادم في الحال.
كان الطريق طويلاً، وقد تكلمنا كثيراً خلال الرحلة. قال بأنه سيأخذني للتمشي قرب بحيرة زيوريخ، حيث يحب أن يمشي ويتأمل بالعادة، فهو يمكنه الاستراحة من عمله قليلاً.
توقفنا، واشترينا ايسكريم ومشينا. كان الرجل غاية باللطف والكرم. تكلم عن عائلته في إيران، والحياة هناك. إنه مثلي، أصغر إخوته، سوا أن إخوته أكبر منه بأكثر مما يكبرني إخوتي، حيث أن أحد أبنائهم يماثله بالعمر. سألني عن رأيي بالسويسريات، فقلت بأني غير معجب بهن بشكل عام. يبدو أن هذا فاجئه، ضحك وسأل لماذا. قلت بأني أشعر بأنهن مغرورات، غريبات الأطوار، مفتعلات ومفرطات بالاهتمام بالمظاهر، وحدثته عن ما لاحظته بالفتيات بالهند، والبيرو، من أنوثة بالطباع، وحضور عفوي لطيف.
بعد التحدث عن مواضيع كثيرة، وقضائنا لوقت أطول بكثير مما خططنا له، إذ أخذتنا الأحاديث الطيبة دون أن ندري، عدنا إلى السيارة وأعادني إلى المبنى حيث أقيم.
الحي الذي أقمنا به في زيوريخ يشتهر بأنه حي يكثر فيه اليهود. واليهود الذين يُرون هناك هم من النوع المتدين، ذوو اللحى والظفائر والقبعات متنوعة الأشكال. بعضهم لهم أشكال مألوفة جداً. أحدهم يسكن بالقرب منا، ذكرني كلما رأيته بجارنا بالرياض في حينا القديم، نفس الشكل إلا اللهم أن هذا الرجل في زيوريخ أطول.
كانوا إجمالاً يتفادون النظر إلينا، وإن يكن بضيق حينما يكتشفون وجودنا فجأة. لكن بعضهم كان ينظر بإزدراء وقح، لكن هذا يسري على الكثير السويسريين كذلك، وبعض العرب للأسف، في حالتين صادفتهما في بيرن.
كما يرى المرء في زيوريخ الكثير من الهنود، أكثر مما توقعت. والكثير من الاثيوبيين والصوماليين. قرب منزلنا هناك كنت أرى مقهىً اسمه الحبشة، وكان يبدو مهملاً أو غير مجهز إلا بأسوأ ما يمكن من أثاث ولوحات خارجية، يملؤه الشبان الأحباش يلعبون على الطاولات، وتتعالى ضحكاتهم إلى خارج المحل.


في سوق معروف ومنتشر للمواد الاستهلاكية، تعرضت إلى موقف عبر لي عن مشكلة الناس في ذلك البلد تجاه ذوي السمات الشكلية المختلفة، مثلي. كنت أتفرج وأجمع ما أحتاج، وكنت قد دخلت ذلك الفرع لأول مرة، إذ كان هذا حينما بدأنا بزيارة أختي وابنتها حينما بقيتا بالمستشفى، فكنت أستغل بعض الوقت للخروج وتسوق الاحتياجات.
اختارتني موظفة كبيرة بالسن، دوناً عن أي شخص آخر في المحل المزدحم، لتسألني لماذا أنظر إلى مختلف الأشياء؟ تصورت بأني أنوي أن أسرق شيئا، ورغم أن الجميع كان يتسوق مثلي، إلا أن الجميع كانوا ذوو سحنات أوروبية. أخبرتها بأن تنادي مديرتها فوراً. جائت المديرة، وشرحت لها ما جرى، وهي لا تتقن الإنقليزية تماماً. أخبرتها بأنه لمجرد كون بشرتي أغمق لا يعني تلقائياً أني هنا لأسرق، أما الأشياء التي كنت أحملها فهاهي، لن أشتريها بسبب هذا السلوك الوقح والعنصري. اعتذرت، لكن بلا اهتمام حقيقي.
حينما عدت إلى المنزل، كتبت إلى الشركة شكوى، وأضفت بأني لا أتوقع رداً، لكن ليعلموا بأني سأنصح كل من لديه حس بالعدالة والمساواة أن لا يشتري من محلاتهم. بعد فترة طويلة، جائني رد باللغة الألمانية، وبعد ترجمته تبين أنهم يحققون بالأمر. ولا أدري لماذا لم يردوا بلغة أفهمها في شركة عالمية الطابع، منتشرة في عدة دول في أوروبا. جاء ردين بنفس المحتوى على مدى أسابيع، حتى جاء رد، بالألمانية أيضاً، بعد أن عدت إلى السعودية، يحمل اعتذار، وبشكل ما، يشكك بفهمي الصحيح لما جرى. رددت على هذه السخافة بعدم قبول الاعتذار، والسخرية منه، وتوبيخهم على حسهم المتعالي بالتواصل.


إن تصوري عن عشاق سويسرا من السياح هو أنهم لا يخالطون الواقع الذي خالطته. أعرف عموماً أن سياحنا يذهبون إلى البلدان دون أن يلتقوا أهاليها أو يهتموا. هكذا، لا يرى المرء إلا موظفي المنتجعات والمطاعم الراقية غالباً، الذين سيحاولون بطبيعة الحال المجاملة والتلطف.
وللأنصاف، يسيء كذلك بعض الخليجيين إلى سمعتنا الجماعية بسوء تقديرهم للأمور. قيل لي أكثر من مرة عن مبالغاتهم بالإكراميات التي تظهرهم بمظهر الأغبياء، وهي اكراميات لا يعطونها للعرب كما فهمت من أكثر من شخص حينما يكونون عاملين في مكان ما هناك. بل إن بعضهم يرفض التعامل مع العرب هناك على وجه الإطلاق، إذ يجدون متعة خاصة على ما يبدو في التعامل مع السويسريين والتظاهر أمامهم بشتى المظاهر.
أخبرني أحمد عن أسرة اماراتية عاملته بإستعلاء قاس، وكان يرى أنهم ينفحون السويسريين إكراميات بالمطاعم قد تصل إلى الألف فرنك، في حين أنهم بعد شهر من إيصالهم بالسيارة لم يعطوه حينما أوصلهم إلى المطار أكثر من ٥٠ فرنك. قال بمرارة بأنه يتمنى لو لم يعطوه ذلك المال، إنما لو عاملوه كما يجب.
افترضت بالبداية بأن الأمراء والشيوخ هم من يسيئون التعامل ويتعاملون باستعلاء، لكن أحمد نفى الأمر قطعاً، قائلاً بأنهم بالواقع الأفضل تعاملاً وتقديراً إنسانياً، والأكثر انضباطاً بالمواعيد، قائلاً بأننا نذكرهم بهم. بصراحة؛ لم أقتنع بالبداية، ليس هذا هو تصوري عنهم، إني لا أرى فيهم خلاف الاستعلاء. لكني حاولت التأكيد لاحقاً من أبو يوسف من بيرن، بينما كنا نتناقش حول أنواع الناس الذين يتعامل معهم، فأخبرني جوهرياً بما أخبرني به أحمد، بعد قال كذلك بأننا نذكره بهم، خصوصاً لانضباطنا بالمواعيد وحسن ذوقنا.
لعل النظرة الاستعلائية يتم توفيرها حتى العودة إلى الوطن بالنسبة إليهم.


عانت والدتي في محطات الترام من أمر مضحك. كنت أحياناً أتركها على الكرسي لشراء تذكرة، أو لشراء طعام من السوق عند المحطة عند عودتنا للمنزل. وحينما أعود أجد أحياناً أنها رأت رجل وامرأة انشغلوا بتقبيل بعضهم أمامها، مما كان يصيبها بالذهول والصدمة. تقول بأنهم ربما يرون خمارها فيتعمدون القيام بذلك أمامها. لا زلت أضحك حينما أتذكر الأمر.
لكن بصراحة، لم تكن هذه الاستعراضات العاطفية شائعة جداً، ربما كان الناس هناك على بعض التحفظ، أو أقل ميل إلى لفت الانتباه، ربما كانوا خلاف هذا في مناطق أخرى كذلك، كما رأيت من اختلاف بين الناس من حيث المحافظة والتحفظ في البيرو بين مختلف المناطق.


كنت أتمنى لو استقبلنا أحمد في محطة القطار في جنيف، حيث يتوقف القطار في المطار نفسه من حيث سنغادر إلى الرياض. حينما اتصلت بأبو يوسف لأرتب الأمر، إذ كان يجب أن أحصل على أوراق من الملحقية عبر مكتب أبو يوسف قبل أن نسافر، تفكر لبعض الوقت من سيقابلنا في المحطة. قلت مقترحاً: أحمد يستقبلنا، أحمد حبوب. ضحك أبو يوسف مطولاً، ويبدو أنه فوجئ، وقال بأن أحمد أصبح بيبي سِتر، ولا يمكنه القدوم. ربما رزق بمولود، الله أعلم. كان يوم مقلق، كان علينا التوجه من زيوريخ إلى جنيف بالقطار، في يوم سفرنا عائدين إلى الرياض. واحتاج الترتيب للأمر إلى أكثر من شراء تذاكر القطار. كانت حقائبنا كثيرة وثقيلة، وكان من المستحيل حملها معنا على القطار. لهذا، ذهبت إلى محطة القطار المركزية قبل أيام، بمعظم حقائبنا، وشحنتها لتصل إلى مطار جنيف قبلنا.  لم يكن الشحن مكلف نسبياً، لكن طبعاً كان هناك شروط للوزن. للأسف، فشلت بإقناع أمي وأختي بالاستغناء عن بعض الأشياء مسبقاً، لكن هذا الفشل لن يتكرر، مهما كان، في الرحلات القادمة إن حدثت إن شاء الله. بعد شحن الحقائب، ذهبت إلى المحطة لتسوق بعض حاجات المنزل، بعض الخضار وخلافها قبل العودة إلى المنزل بالترام. لكن فوجئت باتصال من مكتب الشحن يدعوني للعودة، إذ أن وزن بعض الحقائب كان أعلى من المسموح. سمحوا لي مشكورين بالدخول لفض الحقائب وتوزيع بعض الأشياء بينها، لمعادلة الوزن. كان الأمر مرهق جداً واستغرق وقتاً طويلاً، وكنت ممنوناً لمرونتهم والمساحة التي أعطيت للعمل بحيث حاولت بقدر الإمكان أن لا أترك أحد من أهل المكتب يحمل الحقائب لوضعها على الميزان. شعرت بحنق شديد على من بالمنزل حينما فرغت أخيراً، وكدت أن أنفجر وأنا أجاهد نفسي حينما تلقيت اتصالاً منهم بعدما فرغت من الحقائب، وأنا أدعو الله بأن تتكسر (الزمزميات) بالحقائب. (برادات الشاي والقهوة).


ذهبنا بالقطار فجراً، كنا ننوي الذهاب إلى المحطة باكراً حتى نغادر في الساعة السابعة والنصف. لكن هناك، وجدنا قطار سيغادر في تلك اللحظة، فاستقليناه. في طريقنا إلى المحطة، أخذنا أبو يوسف المغربي عبر حارة مليئة بالحفريات وإصلاحات الشارع والتحويلات على نحو غير مألوف هناك. أسميتها حارة الرياض.
لحسن الحظ، كان مستودع العفش في أعلى رصيف المحطة حينما وصلنا، ورغم أني كدت أن أواجه مشكلة في استلام الحقائب لكثرتها وعدم وجود عربات كافية أو حتى قريبة، إلا أن العامل بالمستودع تعاون معي، وأتى بالحقائب على عربتهم الكبيرة حتى مكان جلوسنا.
للأسف، كانت ترتيبات شركة الفرسان لعودتنا غير تامة، وهو أمر صدمني صدقاً حينما أخبرني موظف الخطوط، جزائري على ما يبدو، بأن تذاكرنا لم تصدر، وأن الحجوزات التي معي لم يتم تأكيدها. لا أدري لماذا لم يكونوا أكثر دقة. تخيل لو لم تكن الطائرة مليئة بالمقاعد الشاغرة، مثلما كانت ممتلئة عن آخرها حينما جئنا. لحسن الحظ، تدبر الرجل الأمر لنا جيداً، فجزاه الله خير الجزاء.
كان حمل الحقائب بتلك الأحجام والكمية معضلة أخرى. ليس الأمر ببساطته في مطار الرياض. لكن موظف الخطوط دلني على مكان الحمالين. وقال الحمال بأنه من غير المسموح له أن يصل إلى صالة محطة القطار المجاورة، لكنه سيجعل لنا استثناء.
الإكراميات ليست جزء من الثقافة السويسرية عموماً، لكن البعض يتوقعها، خصوصاً العاملين الأجانب، وهي أمر ينظر إليه كحق مرهون بكرم وذوق العميل أو الزبون، ولكن هذا لا يجعل منها أمر قليل الأهمية، فبعض الناس تشكل بالنسبة إليهم جزء مهم من الدخل يعينهم على الحياة كما تعلمت مع الوقت. هي ثقافة مثيرة للإهتمام، ربما لأنها ليست جزء من ثقافتنا، أو أنها أمر مستجد عليها، مع تزايد تعاملنا مع الأجانب وتوقعاتهم.
أعجبني أن حقائبنا وزنت لدى مقر الحمالين وأعطينا ورقة لأخذها إلى موظف بطاقة الصعود، ليس كما أرى في سفري القليل. بعد أخذ بطاقات الصعود، عدت بوريقة إلى الحمال، فأدخل الحقائب من عنده للتحميل إلى الطائرة.
كان علينا كذلك أن نخاطب مكتب مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، لأخذ ابنة أختي بعربة إلى الطائرة باستخدام الرافعة، واختصار الصفوف بالذهاب عبر طريق مخصص. لن تصدقوا سعادتي حينما رفضت المفتشة دخول بعض الأغراض إلى الطائرة معنا، وهي الأغراض التي رفض أهلي الاستغناء عنها حينما كنا بالمنزل، وتعذبت كثيراً في مكتب الشحن في زيوريخ حينما فتحت الحقائب، وعدت بها معي للمنزل، بعدما لم أجد لها مكاناً دون أن تؤثر على الوزن.
لكن قبل الدخول، جلسنا ننتظر، وقد رأيت رجل مسن أحمر البشرة له لحية أنيقة ويعتمر قبعة، حسبته أوروبياً لأول وهلة، يتجه إلى المنطقة التي جلس فيها أهلي في انتظار وقت الرحلة الذي بات قريباً. حينما عدت، وكنت ذهبت لأسئل عن شيء، وجدته يداعب ابنة أختي، ويحاول أن يتواصل مع أمي وأختي. سلمت عليه، وعرفت أنه تركي. كان مقيم في فرنسا منذ سنوات وهو متقاعد الآن، وهو يتحدث القليل من اللغة العربية، والقليل من الانقليزية. حاولت التواصل معه بشتى الطرق لتستمر أحاديثنا، واستخدمت الترجمة بالجوال لأخبره بما أريد. كان سعيداً بالمحادثة. سأل إن كنا من إيران. وهذا سؤال غريب واجهناه كذلك من امرأة مسلمة هناك من البلقان. وتقول أختي الأخرى التي زارت تركيا أنها سؤلت إياه. أعتقد أن الناس يخلطون ويظنون أن النساء اللاتي يغطين وجوههن يكن من إيران، رغم أن الإيرانيات لا يغطين وجوههن. كان يحفظ الكثير من الأحاديث والآيات، التي لا يدري معناها تماماً، وقد كانت تبدو عليه سيماء التدين، ويقول بأنه يقضي وقته بالاطلاع وقراءة القرآن. أخبرني بأنه درس العربية حينما كان صغيراً، ويحاول أن يمارسها حينما يستطيع. كان ذاهب لزيارة أبناءه في اسطنبول.
تسائل لماذا تغطي أمي وأختي وجوههن، لماذا لا يتحجبن فقط؟ واصفاً غطاء الوجه بأنه ثقيل. قلت بأنها الطريقة التي نراها صحيحة، فقد قال الله: يدنين عليهن من جلابيبهن. قال بأنها مذاهب. ولا أدري لماذا تدخل طالما أنه يدري أنها مذاهب. يجد الناس من مختلف البلدان الحق بالتدخل الوقح، رغم أنه لا يأتي أحد إلى بلدانهم ليقول بأن على النساء أن يغطين وجوههن، إننا نقدر هذا الإختلاف، وهم لا يقدرونه، ويتهموننا بالنهاية بكافة التهم التي تنم عن غباء وضيق أفق. لست أحب قول هذا في سياق حديثي عن ذلك الشيخ الطيب، لكني فعلاً أقرف من هذا التدخل الفج وغير المطلوب.
عموماً، أخذنا الحديث إلى أمور كثيرة. أخذ رقم هاتفي ليتصل حينما يزور السعودية. أتمنى أن أسمع منه إتصال في يوم ما، أتمنى من قلبي.
لاحظت بأنه ينظر إلى قوارير الماء في أيدي المارة وهو يتحدث. فسألته إن كان عطشاناً، وقمت لأبحث عمن يبيع الماء. حاول أن يعطيني مالاً قبل أن أذهب، ولم أقبل، كانت مجرد قارورة ماء. حينما عدت بالقارورة، أخرج كؤوس بلاستك ليصب من الماء لنا، وبالكاد أقنعناه بأننا معنا قواريرنا التي نشرب منها.
قال في وقت لاحق: ابحثوا عن أهل التقوى، وأضاف بأن لديه ابنة متعلمة ومحجبة، وأنه يود لو تزوجتها. شكرته باسماً. إنها لا تعدوا كونها مجاملة بالطبع، فمن سيختار لابنته زوجاً لأول مرة يلتقيه في مطار، وبالكاد يتواصلان؟. أخبرت والدتي وأختي لحظتها، فسألني إن كنت أخبرتهن، وضحك.


حان موعد رحلتينا بنفس الوقت. مضيت وأهلي بسعادة تجاه الطائرة، يدفع عربة ابنة أختي رجل حاول بقدر ما يستطيع أن يكون متعاوناً. كان الأكثر عبوساً هم الأشخاص الذين يختمون الجوازات، حينما جئنا وحينما مضينا.
كم كانت رحلة سعيدة، صدقاً، ونحن نعود من ذلك البلد الذي لم نحبه إطلاقاً.


لا أتمنى أن أرى الباقي من سويسرا. بالواقع، أشعر بأني فهمت بعض الأمور على نحو أفضل عن بعض أنواع الأوروبيين. أعتقد أن تعاملي مع السويسريين قد هز اتزاني بعض الشيء، لقد حزنت كثيراً هناك، تألمت وبدأت بالتساؤل حول الروابط الإنسانية. إنه يسهل على المرء أن يأخذ الطريق الأسرع والأوضح، طريق الحقد والكراهية وتبريرها، لكن هذا طريق لا أرتضيه لنفسي، لذلك، وقعت في دوامة الحيرة بما علي القيام به تجاه ما رأيت واكتشفت، ولعل هذا ما زاد في جعل التجربة نفسها وتذكرها لاحقاً أمر ضاغط ومثير للكآبة.


وفي كل الأحوال، أشكر الله سبحانه على تيسيره. كانت رحلة ميسرة إلى حد بعيد، على طولها.


تجملي يا سويسرا قدر ما شئت...
فجمال البلدان بأخلاق أهاليها...
وإذا ما قال قائل أنك جنة سأقول خسئت…
أو كفانا الله شر جنة أهلك هم ساكنيها…


اكتشفت منذ فترة الآن أن قرار شرائي لابتوب قوقل المكلف كان أسوأ قرار شرائي في حياتي. كنت قد عملت على نظامهم الكروم منذ سنوات الآن ولم أجد ما يلائمني أكثر منه. لكن الجهاز هذا بقوته الزائدة، وما يرافقها من تجهيزات، يحدان من بعض أهم مزايا النظام البسيط، أي عمر البطارية، وكونه لا يحتاج إلى هذه التجهيزات أساساً فتكون الأجهزة خفيفة بالعادة، خلافاً لهذا الجهاز الثقيل الذي يكاد أن يخلع كتفي حينما أحمل الحقيبة.
زاد من سوء الأمر التحديثات الأخيرة التي أفسدت الطباعة باللغة العربية، وهي أهم ميزة بالطبع بالنسبة لي. بالبداية كان الإشكال في علامة ترقيم، ثم بتحديث آخر زالت امكانية الطباعة بحرف الذال، ثم توقفت عن استخدام الجهاز قبل التحديثين الأخيرين، حيث لم يعد يهمني صدقاً أي حرف آخر أو علامة لن أتمكن من طباعتها.
ولسعره المرتفع جداً لم يكن لدي استعداد لشراء جهاز آخر بسعر مرتفع، ولو من نظام آخر، ناهيك عن كوني لم أعد أحب استخدام نظام الويندوز خصوصاً خارج المنزل، أو أي نظام تقليدي آخر. لقد أفسدني الكروم، بسرعته بالعمل وخفته وبساطته.
انتظرت لفترة طويلة، بيأس بصراحة. وبدا لي أنني لن أجد ما يلائمني لفترة طويلة، بعدما صرفت النظر عن كروم كلياً بسبب مشكلة الطباعة باللغة العربية التي حدثت مؤخراً.
لكني رأيت جهاز رخيص أثار اهتمامي. لابتوب بنظام أندرويد من لينوفو، شركتي المفضلة منذ سنوات. لم أتحمس بصراحة كثيراً لأندرويد خارج إطاره المعتاد، الجوالات (مثل جالكسي)، واللوحيات. ورغم أني قرأت من قبل عن لابتوبات صغيرة الحجم بنظام أندرويد من شركات غير معروفة، إلا أن انطباعي كان أنها مجرد أجهزة تجريبية، موجهة لصغار السن بالدرجة الأولى.




الشاشات الصغيرة ليست غريبة علي، إذ ظللت لسنوات أعمل على نتبوك لينوفو بحجم ١٠ انشات، ولا زالت أختي تعمل عليه دون مشاكل. كنت غير متأكد من ملائمة أندرويد لاهتمامي بالكتابة، رغم تطور البرامج عليه، مثل درايف وخلافه، وكتابتي على الجوال لقطع الوقت عند الانتظار بالمستشفى مع أمي.
سعره بـ٨٠٠ ريال، وهذا سعر جعلني أشعر بالأمان من خيبة أمل أكبر من التحمل، بعد أكثر من ٤٠٠٠ ريال للكروم الأخير. قرأت الكثير من المراجعات التي وصفته بالمعقول، وبدا أن ميزة البطارية التي تعيش لأكثر من ٩ ساعات أكبر من أن أتجاهلها، بالإضافة لمدخل الشحن الذي يماثل مداخل الجوال، فيمكنني الاستفادة كذلك من البطاريات الاحتياطية التي أحمل للجوال.
جربته في مكتبة جرير، وتأكدت من طباعة كل حرف. وقررت الشراء.
أستخدمه الآن لبعض الوقت. يمكنني القول بأنه غير كامل ولكنه ممتاز مع ذلك. لوحة المفاتيح جيدة، يشتغل الجهاز بسرعة، وإن يكن يعمل لاحقاً أبطأ مما يجب، رغم وجود معالج رباعي معقول حسب ظني. عدلت لينوفو نظام الأندرويد بعض الشيء ليعطي الشعور بنظام تشغيل مكتبي، والشعور يصل بالفعل، لكن لا يخلو من منغصات غبية، مثل لوح المهام أسفل الشاشة غير القابل للإخفاء، رغم أن الأيقونات عليه يمكن إخفاؤها.
الشاشة دقتها ضعيفة، لكنها مريحة للقراءة والكتابة جداً، وفي اعتقادي وحسب تجربتي، وكما قرأت للبعض وهو يقول، أن الدقة الأضعف أريح للكتابة والقراءة. أعتقد أن الدقة العالية ملائمة أكثر لمشاهدة الفيديو والصور وتعديلها.
حسبما أعرف، لا يمكن الاعتماد كثيراً على أمل التحديث في أجهزة لينوفو، باستثناء الحاسبات التقليدية. الجوالات مثلاً لا يعلن عن تحديثها، كما الحال مع جوالي الحالي من لينوفو أيضاً، وهذا الحاسب أقرب للجوالات من حيث النظام. ربما لو يتم تحديثه لأراد الناس تحسين لوحة المؤشر (الماوس) وعملها لتكون أكثر من اصبع افتراضي على جهاز لمس، بالإضافة إلى استغلال المعالج على نحو أمثل، وإخفاء لوح المهام.
لحسن الحظ، المتصفحات للجوالات باتت أكثر تطوراً، ويمكن طلب صفحات الانترنت كما هي على الأجهزة المكتبية، وهكذا أجد أني أعمل إلى حد بعيد في بيئة مشابهة لأجهزة الكروم.
يمكن ثني شاشة الجهاز بزاوية حادة لتكون لوحة المفاتيح قاعدة، فيصبح الجهاز أكثر ملائمة للعامل مع اللمس، ولكني لا أقوم بهذا عموماً، مع أني أتخيل بأنه سيكون وضع جيد للتواصل عبر الكاميرا لو وضع على مكتب أو طاولة. ويأتي بلونين، لدي الأسود، أما البني، فرأيت بأن الجهاز يبدو أكثر رخصاً به على خلاف عادة هذا اللون (الجهاز أساساً لا يبدو لافت للانتباه أو غالي المظهر).
يحتوي على بلوتوث مثل معظم الأجهزة، وقد صرت أربطه للدخول على الانترنت بجوالي حينما أكون خارجاً بدلاً من تحويل جوالي إلى نقطة اتصال لاسلكية (واي فاي، أو وايرلس)، إذ وجدت هذه الطريقة تكاد أن لا تستهلك شيء من بطارية الجهازين خلافاً لنقطة الاتصال الاستنزافية، ووجدت أن السرعة هي نفسها، خصوصاً ان اتصالي أساساً من الجيل الثالث، وهو أكثر من كافٍ بكثير لاستخداماتي خارج المنزل.


وبذكري مسبقاً للجوال من لينوفو، اشتريت قبل سفرنا بأسبوع هذا الجوال، حيث لم يعد الانتظار مجدي، لكون جوالي السابق بدأ يفقد الوعي أكثر فأكثر في أسوأ اللحظات.
كنت أخطط لشراء جوال من ألكاتيل، تابعت مع وكالته الجديدة لأشهر في انتظار نزوله، وكانوا يؤجلون الأمر، وبدا أنهم لا يقدرون اهتمامي من خلال أسلوبهم بالرد، فقررت عدم الشراء منهم.







كان لينوفو هذا لتوه نزل بالسوق، وقد جذبني وجود واقي خلفي له يحتوي على قطعة مطاطية تلتوي بالسحب فتكون قاعدة ليقف عليها الجهاز عرضياً. مزاياه معقولة جداً، خصوصاً بالنظر إلى سعره الجيد، ٨٠٠ ريال كذلك. لا زلت سعيد به. كاميرته معقولة جداً، ٨، وسرعته ممتازة بمعالجه الرباعي، ووزنه خفيف، وشاشته واضحة على سعره المعقول، ومقاومة للخدش. لا أجد فيه عيب غير موجود بكافة الجوالات التي أرى؛ كلها صارت تتشابه، ولا يوجد شيء مميز فيها إلا فيما ندر.
أستغرب من شراء معظم الناس لأجهزة مرتفعة الثمن، من شركات لا يحيدون عنها، في حين أنهم لا يستفيدون من مزاياها، إما لا يعرفون أو لا يهتمون، فيصبح الشخص الكبير يملك جهاز مثل جهاز صبي أو صبية بالمتوسطة. حينما يرى بعض الناس استخدامات مفيدة للأجهزة الذكية، مثل مسح الوثائق أو تبادلها أو التعامل الصوتي، ينظرون للأمر وكأنه معجزة، فيتسائل المرء؛ لماذا يشترون هذه الأجهزة أساساً إذا لم يكن لديهم الاستعداد للاستفادة القصوى منها، لماذا لا يوفرون نقودهم، او على الأقل لا يبالغون بشراء أجهزة مرتفعة الثمن جداً؟.






أشعر بالألم دائماً حينما أقرأ اسم سخيف لا يمت للعربية بصلة، يعطى لمولودة على الأغلب، في مباركات الجرائد، أو أسمعه من الناس. قرأت قبل يومين مباركة لشخص اتفق هو وزوجته على تسمية ابنته "جوانا". وغير هذا من الأسماء الأجنبية. مثل من يسمي ابنته روز، ما المشكلة في اسم وردة؟. وبمثل درجة السوء أشعر حينما أقرأ أو أسمع عن اسم غير مفهوم أو بلا معنى واضح. مثل "رادا". كنت دائماً أقول بأنه غالباً النساء يؤلفن أسماء غريبة، ثم إما يؤلفن لها معنى أو يبحثن عن معنى بعيد لهذه الأسماء، معنى بعيد غير مطروق ولا مؤثر لأسماء عجيبة وسخيفة، غالباً برنة أجنبية. أو يأتين بإسم لا يستخدم لتسمية الناس، لكن لكونه يتشابه مع اسم أجنبي يقلن حينما يسألن عن المعنى معناه الأصلي؛ مثل جودي، يقلن الجودي في القرآن الكريم، إذاً البنت سفينة؟ هل سنسمع عن طفلة اسمها سيارة؟ فإسم سيارة اسم صحيح كذلك. إن ما يثير تعاستي هو كوننا قلب العرب، نحن العرب بلا بشك، منذ عصور سحيقة ونحن العرب، أي أننا الأصل، فتجد حرة عربية اسمها اسم لا يمت للعربية بأصل، وبلا مبرر. حينما أرى رجل متزوج من أجنبية أو يعيش في الخارج، قد أفكر بأنه ربما لديه عذر، رغم أني أتمنى أن لا أقوم بالمثل لو وقعت في يوم ما في مثل ظروفه، لكن قد أفكر بأن مثله لديه عذر، يريد اسم غير مستغرب، أو أن زوجته مؤثرة على نحو خاص ويريد أن يراعيها، أو يريد تكريم شخص مهم جداً، هذه أسباب مفهومة بالنسبة لي ومعقولة. لكن ما يثير استغرابي هو أناس بظروف عادية، بلا مؤثرات إجبارية واضحة على وضعهم الثقافي، يلجأون لهذه السخافة والتفسخ من الثقافة الأصلية. ما المشكلة في البحث عن الأسماء العربية الصميمة القديمة، إن كان الشائع ليس من رغبة الوالدين؟. كما تجد أناس يختارون أسماء عرب الشمال السخيفة، تالا ومالا ولالا، على نحو لا يمت لبيئتنا وثقافتنا بصلة.
سيفكر الناس بأني ليس لي علاقة بما يسمي الناس أبناؤهم، لكن الثقافة، والأسماء جزء منها، هي أمر يهم الجميع؛ إن تسمية الأبناء بأسماء أجنبية هو انهزام، وليته انهزام بعد حرب أو غزو، لقد انهزمنا من مناحي كثيرة ونحن لم يغزنا أحد، ولم يحتلنا أحد، ومع ذلك هانحن مهزومين من نواحٍ كثيرة، إننا ننهزم باستمرار بلبسنا، الذي لا نطوره أو نكتفي بتطعيمه، لكننا نتخلى عنه تماماً في ظروف كثيرة في عقر دارنا. إننا لن نصبح شيء آخر إذا غيرنا ملابسنا، ناهيك عن أسماؤنا، فلدينا أسماء جيدة بمعانٍ متفائلة إن كان الأمر يتعلق بالنصيب من الاسم، فما نصيب جوانا أو رادا من أسمائهن؟.
إن المؤسف أكثر أن الأطفال لم يعودوا يربون على الاعتزاز بثقافتهم، صارت الثقافة لبس في العيد فقط، ومن يسمى بإسم عليه اعتراض، كما أثير قبل فترة حول أسماء ذات مدلولات غير ملائمة مستوردة من ثقافات أخرى، لا يهمهم سوا أن اسمهم مختلف، ويسعدهم الجدل حوله ويشعرهم بالتميز، لأنهم للأسف تربوا على أن يكونوا تافهين على الأغلب، سيطرت عليهم ثقافة الفردية الزائدة عن الحد في رأيي.

إن البنات لسن ألعاباً لأمهاتهن، يسمين أسماء غريبة لمجرد أنها بدت مليحة، إنهن كيانات ستصبح منتجة وربما والدة ومربية لأجيال في المستقبل، يجب أن تعتز بما هي عليه وما تكون بالأصل. لن تصبح البنت أجمل أو أملح لأن اسمها أجنبي أو غير مفهوم، بل ربما بدا الأمر مثير للسخرية.
يوجد أسماء أصلية لا أرى فيها خلاف وإن لم أحبها على وجه الخصوص، لكني أحترمها وأقدر من يختارها لتسمية بناته بدلاً عن الانسياق خلف موجة التفاهة واللا مسئولية هذه.








منذ شهور طويلة، توقف التميمي عن جلب الكينوا لسبب ما. ولم أستطع إيجادها في أي مكان آخر. لكن مؤخراً، افتتح الدانوب فرع صغير وقريب من منزلنا. هناك، فوجئت بوجود نوعين لم أجربهما رغم قرائتي عن مختلف أنواعه. إني لم أجرب سابقاً سوا النوع التقليدي الأكثر انتشاراً. وجدت النوع الأسود والنوع الأحمر. يوجد نوع لؤلؤي كذلك من شركة النوع الأسود، آمل أن يتوفر لاحقاً. لكن المفاجئة كانت حينما وجدت الأمارانث، وهي حبوب من نبتة من عائلة قريبة من الكينوا، لكنها تأتي من المكسيك، وكانت طعام أهلها الأصليين، الازتيك على وجه الخصوص، وهي تعتبر من الأطعمة التي تصنف مجازاً بالأطعمة الخارقة، وإن كانت أقل شأناً من الكينوا على وجه العموم. 



هي حبوب كروية بالغة الصغر، تأتي من شجرة أهم ما يذكر عنها أنها شجرة بالغة الجمال، تحافظ على زهاء ألوانها حتى بعد قطعها. منع الاسبان، كعادتهم، زراعة هذه الشجرة على العباد حينما استولوا على بلدهم، وذلك للربط النبتة بأساطير دينية لدى الشعوب الأصلية. وبالواقع، أتصور بأنها ظلت تزرع على نطاق ضيق في المناطق النائية، مثل الكينوا، التي كانت محل ازدراء الاسبان المتكبرين، بوصفها طعام الفلاحين.
لم أتوقع صدقاً أن أجد الامارانث أبداً، فذكره أساساً نادر. بالطبع، اشتريت علبة منه، إلى جانب الكينوا السوداء والحمراء. مشترياتي الأخيرة سببت تشويشاً لوالدتي، فهي ليست الكينوا التي تعودت على طبخها، حتى أنها صارت تتفنن وتطبخ أطعم كبسة يمكن تخيلها بالكينوا التقليدية.

بدأت والدتي بطبخ الكينوا السوداء، ورغم تأكيدي على عدم طبخها لأكثر من نصف ساعة طبختها لثلاث ساعات، لأن قوامها رفض أن يرق، وقد تساقطت الجذيرات الصغيرة التي تمتد إلى خارج الحبة بالعادة عند الاستواء، لطول فترة الطبخ وإضافة الماء. الكينوا السوداء أساساً ذات قشرة قوية، ليست قاسية تماماً لكنها متماسكة، يشعر المرء بها تتكسر تحت أسنانه، وهو شعور ممتع صدقاً. طعمها جيد، لكن لعل المتعة تكمن في قوامها الغريب أكثر من طعمها. في المرة الثانية كانت الطبخة ناجحة، بعدما فهمت والدتي أنها مختلفة عن الكينوا السابقة




. أما الكينوا الحمراء فهي أطعم بوضوح، أغنى نكهة من السوداء، وتقع بالمنتصف من حيث القوام بين البيضاء العادية والسوداء. وجدتها لذيذة جداً، لكني لم أتذوق الكينوا العادية منذ فترة طويلة، فلست متأكداً أيها أغنى بالنكهة. بيد أن السوداء أكثر قابلية للإضافة على الاطعمة الأخرى في رأيي، وقوامها غير المعتاد مصدر متعة عند المضغ لا يمكن تجاهله.




وجدت  أن طبخ الكينوا غامقة اللون مع الأرز يجعله منه أطيب، فحفاظها على قوامها مقابل طراوة الأرز يجعل التجربة مختلفة، وهي تضيف كذلك العناصر التي يفتقدها الأرز، وهو بالواقع يفتقد الكثير بما أنه مقشور، بينما تملك الكينوا الكثير.
أما الأمارانث، فهو لذيذ وجيد، ولكنه أكثر حياداً من حيث النكهة من الكينوا، وأكثر قابلة للتنويع بالأطباق منها. تشبه الكينوا بالعادة بالكسكس لدى الغرب، رغم أني لا أرى الشبه من حيث الطعم صدقاً، أو حتى الشكل، إلا اللهم بالحجم، لكنهم يقصدون إمكانية إضافتها إلى مختلف الأطباق، كالسلطة والمرق، خلافاً لطبخها كالأرز. أما الأمارانث، فلا يستغرب المرء إن طبخ كالأرز، أو قدم كالمهلبية، وهو سريع التأثر بالطبخ. أول مرة كان قوامه غير متماسك بقدر الجريش، إذ أن والدتي لم تصدقني حينما قلت بأن الماء يكون ضعفي كمية الحبوب، وأضافت أكثر بكثير. لكنه كان لذيذ جداً في كل الأحوال.


طلبت لوالدتي من الخارج قبل فترة بذور الشيا، وهي كذلك من الأطعمة الخارقة، وذلك بعدما بحثت بالأمر، وقرأت لها عدة مقالات أثارت حماسها حينما كنا في سويسرا، إذ أنها تحوي الكثير مما تحتاج إليه والدتي من مغذيات، خصوصاً الاوميقا ٣ والكالسيوم، إلى جانب فوائد كثيرة أخرى. وهي قابلة للإضافة إلى أي شيء. لكن حينما وصلت البذور خافت والدتي من تناولها لفترة مما أحبطني جداً، لكنها اقتنعت شيئاً فشيئاً بإضافتها إلى طعامها بكمية صغيرة. هذا أفضل مما جرى لزيت الساتشا انتشي، وهو زيت ممتاز وخارق، تذوقته لمرة واحدة قبل تركه.
المشكلة هي أن السمك هنا غير عملي ومكلف، وفي ظروفنا يصعب حقاً التنويع كثيراً، حيث أن طبخ السمك يحتاج إلى إعداد على خلاف طريقتنا المعتادة، وهو مجهود لا قبل لوالدتي به، ولا أظن الخادمة لديها الالتزام الكافي. أتيت بسمك سلمون، أطعم سمك تذوقته وأحبه، لكن والدتي رفضت تناوله، لأنه ذكرها بالتونة (غطت خبزة ذات مرة في التونة بالخطأ فزعقت زعقة مدوية دون أن تستطيع رفع يدها من الصحن، فوبيا ربما). عرفت أن المشكلة لدى والدتي تقع في الأسماك الدهنية ككل، رغم أنها الأكثر فائدة على حد علمي. والسمك الآخر يصعب أخذه طازجاً، أما المجمد المستورد من آسيا فيحذر منه لسبب ما.








توفي عمي، رحمه الله، قبل أسبوع. حينما أخبرتني والدتي، كان ما خطر في ذهني هو ابنته الصغرى، كيف ستشعر؟، إنها الأخيرة غير المتزوجة، وفي نظري، ولفارق العمر، لا زالت طفلة. كانت والدتي تشاركني الإحساس على ما يبدو، إذا لا زالت تخصها بالدعاء، خلافاً للجميع، وهي تبكي. ذهبنا للصلاة عليه، وكانت والدتي تمشي بصعوبة، بمساعدة أختي. لم أتمكن من تقديم العزاء بالمسجد أو مرافقة الجنازة، إذ كان يجب أن أعيد أمي وأختي إلى المنزل. ذهبت في اليوم الثاني، إلى منزله الثاني، حيث تقيم ابنته الصغرى وخالتي، زوجته الثانية. كنت قد دخلت ذاك المنزل مرة واحدة قبل سنوات طويلة؛ كنا قد ذهبنا أنا وابن عم لي لإيصال غرض إلى عمي رحمه الله رحمة واسعة، وكان لتوه اشترى البيت وبدأ بتأثيثه، فأخذ ابن عمي، وأنا بالتبعية، إذ لطالما كان الآخر أقرب إلى قلبه، ليريه المنزل. مازحنا وهو يرينا المكان، وقد كان سعيد بخياراته. قلبت نظري بالمجلس، حيث أجلسونا في العزاء، بدا أنني رأيت المكان منذ عهد قريب، حينما أفكر به على نحو مجرد. احتج أحد أبناء عمي بأنه لم يرني منذ زمن بعيد، وهو يقوم بهذا بالعادة لتبيان تقصيري على ما أعتقد، وهو محق، صدقاً. فوجئت بآخر يسألني عن حالي، لم يكن هذا معتاداً، لكني سعدت به. في تلك المناسبة، يتمنى المرء لو تصفوا القلوب، ولو قليلاً، ولو لبعض الوقت.
في وقت لاحق، اتصلنا بخالتي الأولى، سلمنا عليها وعزيناها، إذ أنها ليست بالرياض. سألتها عن ابنتها، التي رُدت إليها لفرط تأثرها، قالت بأنها بخير. لطالما بدت لي ابنة عمي هذه قوية من حيث الشخصية حينما كنت صغيراً، قوية على نحو خارق.


لقد تباعدنا كثيراً. كانت المناسبات والزيارات العائلية بالطفولة مدعاة للاحتفال بالنسبة لي، وكان يخيل إلي بأني أحب الجميع والجميع تقريباً يحبني، شأن كل الأطفال فيما أحسب، وأرجو. لكن، لقد تغير الكثير مع العمر، لقد عرفت أكثر، وقد اتخذت الكثير من المواقف، وصار علي أن أتحمل أكثر، ولم يبدو أني بحاجة للتحمل طوال السنوات الفائتة، ولم يبدو أن هناك ما يستحق الجهد. لكني أتمنى الآن أن أحاول أكثر، مجرد محاولة، لأرى، هل يمكنني القيام بالأمر؟ هل يمكنني أن أعود بالعلاقات والمعرفة إلى حالها بالطفولة؟. لا أظن أن هذا ممكن، إنه يشبه الآمال السخيفة التي يعقدها البعض حينما يحالفهم الحظ، أو يكونون سعداء على نحو مفاجئ، هذا يذكرني بتغير إخوتي المؤقت حينما يتزوجون، أو يحصلون على بعثة دراسية، أو حتى مديري، حينما يتحقق أمر أراده، فيسعد. لم أكن آخذ هذا النوع من التغير والمحاولات المرافقة لتصحيح الأمور المشكلة على محمل الجد، إذ أني أدرك وقتية هذا التغير وسذاجته.
بيد أني وجدت نفسي للأسف راغب بالتغيير للأفضل كذلك حينما واجهني هذا الحدث الحزين، وليس بمواجهة حدث سعيد شأن ما كنت ألاحظ على الآخرين، لكن ما الفرق؟، أعتقد أني حزين، حتى في أبلغ حالات سعادتي. السعادة لحظية، والرضا أكثر ديمومة.




سعد الحوشان