سِجل المدونة

السبت، 27 فبراير 2010

صدى يتردد أبداً، في فرسخ فراغ(أفكار،أحداث،مشتريات،قصائد)

بسم الله الرحمن الرحيم





يا لمسالمة الأيام الخاتلة، يا للهدوء غير المطمئن لحياة طبعها الخيانة. هكذا أشعر مؤخراً، والترقب والقلق لا يمهلاني لحظة.


ما بال الشباب الصغار هذه الأيام؟ الكل يشكو منهم، ولم يكن الناس يشكون منا بهذا القدر حينما كنا أصغر، أنا وأبناء جيلي. بطبيعتي لا أحب المراهقين. لكن يبدو أن كراهيتي وضيقي صارا يمتدان إلى فئات عمرية أكبر، ليس بسببي، إنما لأن الفئات العمرية الأكبر، الشباب، ارتدو إلى المراهقة، وربما صعد الأطفال إليها قريباً. في برقر كنق، صار الشباب يأتون كثيراً في الأيام الأخيرة، وصاروا ينتقون الجلوس قربي في أحيان كثيرة، بكل إزعاجهم وصفاقتهم، ودخانهم، وعاداتهم السيئة بالأكل والتحدث، بكل ما فيهم من سوء. إنهم يتحدثون وكأنما هم في مجالسهم، يرفع الواحد منهم صوته حتى لتخال أنه قد رزع له حنجرة حمار، ويختارون أسوأ ما يقال أمام النعمة وأقذره بلا احترام، على نحو يصدم، ويجعل المرء يتساءل، هل تعرضوا لأي نوع من التربية؟ وهم لا يحترمون النعمة، فلا يحترمون السامعين بطبيعة الحال. جلس بقربي قبل قليل ثلاثة منهم، يتحدثون بصوت لم أعلم بأن لديهم أعلى منهم إلا حينما صاح أحدهم بطريقة آلمت أذني بلا مبالغة، وأفزعت قلبي، فلما رفعت عيناي عما أقرأ، وجدت أن من صاح هو من يقابلني، فأرى وجهه الذي لا يدري المرء كيف يصنفه، فقد بدا كصبية قبيحة، وإلى ذلك يتيمة لا تجد من يسرح شعرها كما يجب، بشاربيه الخفيفين، وشعره الذي ليته كان أطول أو أقصر، إنما يشعر المرء أنه توقف بأبشع حالاته، فلا يمكن تخيل أن وضعه سيسوء أكثر لو طال أو قصر، وقد لبس تي شيرت بأكمام قصيرة، في هذه الليلة قارصة البرد، وبانت يديه الملونة بأكثر من لون بشعتين، تجعلان القرد يعجب بنفسه ويتمرد على قدره فوق الشجر. ولا أجد فيما يقولون إلى بعضهم ما يستدعي كل هذا الحماس والزعيق.



أبحث بلا كلل طوال الوقت عن عنوان لروايتي، التي طال مكوثها بلا نشر. على أني لا أدري هل أحمل هم النشر، أم هم الموافقة عليه.



من النادر ما يصاب المرء بحلم يجعله يتفكر بمعناه، أو يطرح عليه تساؤلاً يحار به في يقظته. لم يكن الأمر نادراً لدي إلى هذا الحد قبل سنوات، لكنه الآن كذلك. قبل شهور، حلمت حلماً رأيت فيه رجل يشبه شخص أعرفه، يشبهه بحيث يذكر به، لكن ليس شبه مطابق. بدا الشبيه مخيفاً، ليس لقبحه، بل إنه أجمل من الأصل، لكن لأنه أعور، ويتكلم وكأنه لا يعرف الماضي فقط، إنما ما سيأتي. وكان يتكلم بهدوء واثق، وقد بدا أصغر عمراً، وأضعف صحة، وأجمل شكلاً من معرفتي. كان يتكلم وكأنه مضطر للكلام، وقد


الثلاثاء، 2 فبراير 2010

لأجل آخر ما بقي ليقال(أحداث،قصة قصيرة)

بسم الله الرحمن الرحيم






يحار المرء لو ترك الأمور المجردة، وفكر بما يكسبها قيمتها. بعكس المادة، للمعنويات قيم مختلفة باختلاف الأشخاص، ولأنها قيم غير واضحة، وغير متفق عليها، يقيم الناس جزئياً من خلال طريقة تقييمهم لأمور جزئية هي الأخرى. إن الناس يصدمون أحياناً، لاختلاف قيمة معنويات معينة يشتركون بها، أو تؤثر على علاقتهم. لأن إعطاء الأمور المعنوية بالواقع لا يكلف شيئاً، أجد نفسي كريماً في مجتمع بخلاء، أو عاقلون.



لدي زميل جديد، من بين الزملاء الجدد. هو شخص غريب ومختلف. لست أعرف عنه شيء تقريباً، فبقدر ما رأيت أنه يود أن يتكلم معي بشدة، بقدر ما وجدته يجد صعوبة في ذلك، حتى استسلم مؤخراً، وما زادته محاولاتي للمساعدة سوا إحباطاً، يغطيه بابتسامات مصطنعة.
في المرة أو المرتين التي تكلمنا بها، كان مفتعلاً، ولا يدري ماذا يجب أن يقول، إلى درجة بدا مجرداً وطفولياً بريئاً. لكني شعرت من خلال التفاصيل الصغيرة الصادقة، التي عرضت بسذاجة، أن له قصة، وظروف مميزة. يمكنك أن ترى الأمر في عينيه، وتلمح الطفولة المختبئة في كيانه، رغماً عن لحيته الطويلة، تطل برأسها حينما لا ينظر أحد، بينما يتعالى صوته الشجي بغناء كلمات لا يتبينها السامع، ولكنه غناء يحمل المرء على الإصغاء. 
لكن، لا أعتقد أني سأعرف أكثر. ومن خلال تجربتي، بعد فترة، سيفقد الرغبة بإخباري.





اليوم هو اليوم النهائي في انتظار حدث، صغير، ولكنه حدث، في حياة تخلو من الأحداث. سأدعو اليوم الناس إلى العشاء، ويبدو هذا كحدث موت أو حياة، لأنه جاء في وقت لم أتوقع أن أجد فيه من أدعوه إلى المنزل.


تم. كان هذا أمس، دعوت الناس، وكانت كل الأمور على ما يرام، ولله الحمد، بل أفضل مما توقعت بكثير. 
كان المدعوين أربعة، اثنين من ألمانيا، واثنين من الصين. كان الصينيون ظرفاء، ولكن بدا لي اختلافهم الثقافي جلياً، وفهمهم للتهذيب والتحضر بالتعامل والمراعاة مختلفاً، موجود بكل تأكيد، لكنه يختلف. إن فهمنا لهذه الأمور على اختلافه قليلاً عن فهم الغرب إلا أنه ينتمي إلى نفس العائلة. أحدهم يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ويسمي نفسه بإسم عربي، ولكنه ليس اسمه الحقيقي، وقد عرفت منذ زمن بعيد عن مرونة الصينيون بتبديل أسمائهم أو ترجمتها أحياناً للمساعدة على التغلغل بالمجتمعات، لأسباب الصداقة أو المعايشة، لكني لم أتخيل امتداد هذا إلى اللغة العربية، فدفعني هذا إلى الشك بأنه مسلم، ولكن لا يبدو أنه كذلك. وقد دهشت من ترتيب أحدهم حضور الآخر دون قرار من عندي، وقد بدا الأمر بالنسبة لي غير منطقي، ولكنه يعطي شعور بالأريحية. حيث أخبرني بأنه سيرسل زميله للتفاهم معي حول حضورهم للوليمة، وبينما أنا لم أدعو هذا الصاحب ولا أدري إن كنت قد قابلته، ولكن أسعدني أن يحضر، وقد كان ضيف ممتع ومهذب، وكانوا جميع الضيوف بصراحة رجال مهذبون، وعذبي المجالسة. كنت قد أخذتهم من أماكن مختلفة لأوصلهم إلى منزل أختي. وكان الصينيون أولاً. تكلمنا كثيراً بالسيارة، وبدا أنه لديهم نهم بالتعرف على الأمور هنا. أخبروني عن بكين، من حيث يأتون، وحيث يعيش سكان يمثلون ثلث سكان المملكة أو أكثر في مدينة واحدة. وهي مدينة بديعة حسبما أعرف، ولكنها مزدحمة الآن وملوثة. لكن مع ذلك، تزخر بالآثار، والجوانب الثقافية الراقية، وهي مركز ثقافي لهم. يوجد فيها المدينة المحرمة، وساحة تيان آن من التاريخية، حيث سمعت أنها أجمل ميادين العالم، وحيث وقعت الأحداث المأساوية قبل عقدين تقريباً للشباب في الثورة الطلابية، وقتل الكثير منهم هناك، لإخماد الثورة. إن الصين لا تمزح، وبقدر ما أن هذا أمر مثير لاطمئنان أهلها فيما أحسب، إلا أنه مثير كذلك لذعرهم، أيضاً فيما أحسب. فبينما نعطي نحن هنا الفرصة للتوبة، والتفاهم، يحل لديهم القلق على سير الأمور فوق كل اعتبار. لقد غضب الغرب من الصين، ودائما ما يغضب على كل أحد، حينما اخترقت بعض الخصوصيات على الانترنت لشركاتهم، وهم غاضبون من هذه الناحية أيضاً بسبب الرقابة الصينية، والشروط التي تفرضها على شركاتهم.  مع أني أعلم بأن الغرب لن يتوانى عن اختراق خصوصيات أي شيء لأسباب أقل أهمية من الأمن القومي أو الأمن الإجتماعي، إن كان الأمن الإجتماعي يعني الكثير للغرب؛ فهم ضد منع الصين للمواقع الإباحية على حد علمي. الصين، التي لا دين رسمي لها، ويدين معظم من يدين بها بدين غير سماوي، تحرص على شبابها، وتعارض المواقع الإباحية. وهذا أمر فطري، أتصور أن كل شعب نقي يطلبه، وعلى أني لا أفترض أن أطول حضارة ممتدة على الأرض لا زالت نقية، إلا أنها لا زالت تتمسك بمبادئ محترمة. 
من الجميل أن يسترسل المرء، ولا يجد من يقاطعه، إن وجد من يسمعه. وعليه، أعود إلى الوليمة.
أخذت الصينيين من الجامعة، بسيارة أخي، التي اقترح علي أخذها لحسن الحظ. فرغم أن سيارتي تكفي بالعادة مثل هذا العدد من الناس، إلا أننا حينما وصلنا للألمان، عرفت أن تقييمي لبنيتهم لم يكن واقعياً، فقد اتضح أن المكان ضاق بثلاثة أشخاص في الخلف، في سيارة عائلية. ونحن في الطريق إلى الألمان، مضينا عبر طريق الملك عبد الله نريد أن نأخذهم من معرض التعليم العالي، وقد كانت صدفة حسنة وموفرة للوقت أن كانوا جميعاً هناك، رغم أنه لا علاقة بينهم. حيث أن المحاضر يقوم بمهمة عارض بالمعرض في المساء لجناح دولته، أما الدكتور، فقد كان هناك للتعرف على الناس من الجامعات الاجنبية، في محاولة لعقد اتفاقات لصالح جامعتنا. كان في نيتي أن أدخل في سيارتي إلى مواقف المعرض لأجدهم، فلم أرد أن أترك الدكتور بعمره الكبير يسير لمسافة طويلة، رغم أني قبل أن أدري أنه بالمعرض كنت قد اتفقت مع المحاضر أن يقابلني خارج البوابة اختصاراً للوقت. لكن لما علموا من خلالي بأنهم يتواجدون بنفس المكان، وجدوا بعضهم، وخرجوا من داخل المعرض معاً إلى البوابة. صافحونا، وركبوا. قال المحاضر بأنه يريدني أن آخذه إلى سيارته، ولم يبدو متأكداً أين هي. حينما ذهبنا إلى حيث يقول، ونزل، استدرت بالسيارة لآخذ مسار الخروج، ورأيناه، وبدا أنه لم يجدها، فضحك الصينيون. لم يكن الأجدر بهم أن يضحكون، وقد بدا أنهم يجدون مظهره وهو يبحث مضحكاً. قلت: أنا أيضاً دائماً أضيع سيارتي في مواقف الجامعة، التي أقف بها كل يوم، فلا أجدها بسهولة حينما أخرج. قال الدكتور بهدوء: هل هذا صحيح يا سعد؟ لا تجد سيارتك في مواقف الجامعة؟ لا أدري لماذا سألني، لكني قلت: نعم، لأن المرء يوقف سيارته كل يوم في أماكن مختلفة من نفس المكان، فيخلط بالنهاية ولا يدري أين أوقفها. ساد صمت بسيط، وكان المحاضر لحسن الحظ قريب من سيارته، ولم يدم بحثه شيء يذكر. ركب معنا، ولما وجدت أن المكان ضيق على نحو غيرمتوقع في الخلف، رغم أنها سيارة عائلية ورحيبة جداً، اقترحت أن أنزل المراتب الخلفية. لكنهم أصروا على أن الأمر عادي، وقال المحاضر الألماني الأصغر مبتسماً: كلما أسرعنا بالمسير كلما وصلنا أبكر. سألني الدكتور الألماني الكبير إن كانت هذه سيارتي؟ ضحكت وقلت له: لا، لقد رأيتها من قبل وتعرفها يا دكتور، فهي سيارة صغيرة، ألا تتذكر؟. قال أنه يتذكر. أخبرته بأن هذه سيارة أخي، أعارني إياها لحسن الحظ. ثم سألني عن بيتي وموقعه عن الجامعة، قلت بأنه قريب جداً، ولكننا بالواقع سنذهب إلى منزل أختي، وهو قريب جداً كذلك. قال مازحاً: إذا استعرت كل شيء اليوم من إخوانك؟ رددت باسماً بأننا بالواقع نتشارك الأشياء هنا. سألته عما كان يعمل بالمعرض، هل هو عارض؟ أخبرني بالسبب. وانشغل الجميع بالمحادثات، ولكن الدكتور الألماني حينما تحدث مرة أخرى وحكى أنه بينما كان بالمعرض، أكمل الدكتور الصيني ممازحاً: تبحث عن تواصل، مستخدماً عبارة الدكتور التي قالها بالبداية. وكانت هفوة أخرى، لا يبدو أن الصينيين مدركين لطبيعتها. لكن الدكتور تكلم بشكل عادي، وكأن شيئاً لم يكن.
عند الإشارة، إستدرنا من أمام جامع العويضة، الذي أذهل الصينيين جماله، الذي أراه غير متناسق رغم تقديري للمجهود، ولو رأوه من الداخل، لعرفوا أنه قبيح بقدر ما  بذل به من مجهود كبير مع الأسف الشديد، فذائقة من اختار الألوان والزخارف سيئة. كان الطريق سالكاً، وأعجبهم الحي الذي دخلناه، حيث بيت أختي، وأخبرتهم أني كنت أعيش فيه. وفي الطريق أخبرتهم عن القطة التي دهستها، ولما أخذتها للطبيب اكتشفنا بأنها سليمة لا تعاني من شيء!!، وقلت بأن للقطط سبعة أرواح، ولا أدري إن كان لهذا مقابل في ثقافاتهم، لكن القطط هي القطط في كل مكان، يصعب أن تموت أحياناً.
حينما وصلنا المنزل، وكان الباب مفتوحاً لنا، دخلنا الفناء ووجدت أن انتباههم شد لجمال المكان على بساطته في الفناء، حيث النافورة والحديقة والأرضية الجميلة. لما دخلنا المنزل نفسه، امتدحوا المكان الصغير، ولا ألومهم، فأنا أذهل به، حيث اجتمع ذوقان رائقان على تجميله (لا أنافق، فلا أعتقد أن أختي ستقرأ هذا). قال الصينيون مجاملين بأن هذا كالقصر،  ولما استعدينا للجلوس مزح الدكتور منهم، وهو يبدو صغير سنه بالمقارنة، وسأل: أين الملك؟. طلبت منهم أن يأخذوا راحتهم، ودخلت إلى أختي، وأخذت التمور، ووزعتها، ثم أتيت بالقهوة وسكبتها لهم، وأعجبتهم مباشرة، ثم دخلت وأحضرت الشوكولاتها اللذيذة التي تصنعها أختي الأخرى. قلت للألماني الأصغر، أن هذه شوكولاته سعودية، وصناعة منزلية بالواقع، وقد أهمني ما يقوله لأنه مثلي يحب الطعام، وأحب شيء إليه الشوكولاته، مثلي كذلك، ويبدو لي أنه يعطيها وزناً ثقافياً. لم يصدق حينما أخبرته، فإتقان أشكالها يجعل المرء يتشكك، وتساءل الآخرين كذلك، ولكني أكدت لهم أن أختي صنعتها. تذوقوها، وامتدحوها بشدة، ولما تذوقتها، وجدت أنها أفضل مرة وأكثرها إتقاناً من بين كل المرات التي صنعتها لي أختي، حيث كان الحرص هذه المرة على كل التفاصيل لأجل ضيوفي، ولأجل همي منذ أسابيع لجعل كل شيء على أفضل ما يكون. وأكل منها الجميع، بقدر ما أكلوا من التمر الجيد. قال لي الألماني الأصغر مازحاً، أنه أساء فهم طعم القهوة حينما قدمت له في مكتب عميد الكلية كلفتة جيدة، وقد قدر اللفتة، ولكنه لم يقدر القهوة قبل الآن. وقد شرب منها جيداً كالآخرين، على أن الدكتور الألماني الأكبر، لديه خبره كبيرة بهذه الأمور، وكان كسب إعجابه أصعب كما توقعت، لكني كنت قد تصديت مسبقاً بالإعداد لهذه الحالة.



   
كنت أعلم بأن الدكتور الألماني الكبير، قد أحضر لي هدية، ليس لأجل مناسبة أني دعوتهم، ولكنه كان يريد إعطائي إياها قبل أسابيع، وهي كتاب عن قلعة ألمانية مشهورة، والملك الذي بناها، وقد أحضر لي الكتاب لأني أعلمته في أول مرة خرجت للقاءه قبل أسابيع طويلة، أني مهتم جداً بهذه القلعة. لم يستطع إعطائي الكتاب رغم أنه اتصل ليسأل عن مكاني ليعطيني، ولكني كنت في إجازة. كنت أريد أن أوضح هذه القصة في حال أعطاني إياه، كي لا يشعر البقية بالإحراج، ويحسبون أنه كان يجدر بهم إحضار هدية، وهي أمر غير مطلوب طبعاً. وكان الأمر، أخرج الكتاب الجميل، ومده إلي، شكرته وأنا أقف أمامهم جميعاً، وحكيت لهم أنه كان سيعطيني إياه بعدما حضر من أيام رأس السنة التي قضاها بالخارج، ولكن لم تحن فرصة لإجازتي وانشغالنا قبل الآن. بدا الاقتناع والابتسامات المرتاحة على وجوه الجميع. لكن حدثت صدمة مفاجئة، حينما قفز الصيني الظريف الذي يتحدث العربية، مخرجاً تعليقة صينية صغيرة جداُ، وبديعة جداً جداً، وقال بعربيته الحلوة بأن هذه هدية منه ومن الدكتور فلان، الصيني الآخر. شكرتهم بارتباك، وشعرت بالإحراج الشديد، وباستراق نظرة، رأيت الألماني الأصغر متغير الوجه ولونه، محرجاً بحق.  





بعدما شربوا القهوة، جاء زوج أختي مرحباً بالعربية، وسلم عليهم جميعاً وعرفتهم على بعضهم، وهو من النوع الذي ينشر الإرتياح من المرة الأولى. كان أحد الصينيين يتكلم العربية كما أسلفت، وأخبرته عنه، وتكلموا كثيراً. كان الصينيين مرحين على نحو غير عادي، ولهم اهتمام بالمجاملات الحميمة، وإبداء الإرتياح والرضى. أما الألمان، فكانوا مبتسمين ومقدرين ومجاملين، لكنهم أكثر خجلاً بقليل فقط. 
لاحقاً دخل أبناء أختي، الكبير في الصف الثاني الثانوي، والصغير في الأول المتوسط، وعلت أصوات الترحيب بهم من الضيوف، وقد أسبغ حضورهم المليح شعور من الألفة في المكان. قبل أن يخرج إبني أختي، أشرت للأصغر، ناصر، وقلت للألمان بأن ناصر مفتون بألمانيا، ابتسم الدكتور الألماني الكبير بلطف بينما قال الألماني الأصغر وهو يرفع قبضته عالياً: فلّه!! وهو شخص كثير الحركة والكلام والتعبير، مرتفع الصوت، متغير النبرة باستمرار. كنت قد علمته كيف ينطق فلّه بشكل صحيح، حينما حاول أن يخبرني بها، وكان ينطقها: فظه. ولما أخبرته بعدم وجود كلمه هكذا دون أن أدرك ما يقصد، قال بأني على الأغلب أكبر من أن أعرفها، لكن اكتشفت أنه يقصد فلّه فصححت نطقه بجهد.
بعد قليل، وقف محمد، ذو الثلاث سنوات ونصف، بالباب، فتعالت أصوات الجميع يدعونه للدخول والسلام، مما أوقع البهجة في نفس والده بوضوح، فأتى به لأنه خجل (ليست عادة بصراحة) ومد يده للناس للسلام، وقف الدكتور الألماني الكبير للسلام بلطف على يد محمد، وقد كانت يد الدكتور ضخمة على نحو استثنائي، مقابل يد محمد التي يمكن أكلها بقضمة. حينما سلم على الألمان وصل الصينيون، وسألني الألمان عن عمره، وكررت اسمه لهم، بينما احتفى به الصينيون بقوة، وأخذه الدكتور الصيني الذي لا يتحدث العربية، ونومه في حضنه وهزه كطفل رضيع ممازحاً، بينما استسلم حمودي، وضحك الجميع. ما إن أنزله حتى طلبه الصيني الآخر، وبقي يحادثه ويمازحه عن جاكي تشان، والباندا، والكونق فو. جئنا بالشاي والنعناع. وأخذ الدكتور الألماني ما اشتهى أولاً كما حدث مع القهوة، بحكم السن. وللعجب، كان الدكتور الصيني غير عارف للنعناع حتى باللغة الانجليزية، أما الذي يتحدث العربية فقد استغرب عزل النعناع عن الشاي، وقال بأنه زار الكويت ذات مرة، وقدموا له الشاي بالنعناع. شرحت له أن هذا لا يحدث هنا عموماً، خاصة في المناسبات ، إلا بالمقاهي، أما في المنازل هنا، فلا تخلط لأن البعض من الضيوف قد يفضل الشاي وحده، أو النعناع وحده. تسيد النعناع الموقف، وأعجبهم. وجيء بالمعجنات، وهي أقماع لبنة بشكلين، نصف بالورقيات والخضار، ونصف بالسماق. أكلوا منها، وسأل الدكتور الألماني الكبير إن كانت مصنوعة بالمنزل، وأجبته بأنها كذلك، ثم سأل بفضول عن السماق. جرب أكثرهم أكثر من واحدة، من كلا الشكلين. حتى محمد أخذ واحدة، وهو يجلس إلى جوار الصيني ذو اللغة العربية، يناقشون أمر بجدية. طلب محمد الشاي، فأخبرته بأنه سيجده بالداخل، وطلبت منه أن يذهب إلى أمه، ولكنه رفض. لم أمهله كثيراً، رفعته معتذراً عن إزعاجه، فقد أطال الكلام، وأخذ راحته بالنصب كالعادة. الغريب أنهم كانوا يظنون كل ما تقدم أنه هو الوليمة. فلما قلت بأن العشاء جاهزاً تساؤلوا بذهول عما أكلوه قبل قليل، فقال زوج أختي أن أخبرهم أن هذا كان مقبلات. بشكل غريب، لزم زوج أختي والدكتور الألماني الكبير على بعضهم البعض بالتقدم أولاً، مما يحملني على الاعتقاد أن الدكتور الألماني يتعلم كل التفاصيل بسرعة، مقارنة بعمره الصغير في السعودية. دخلنا للعشاء، وبدا أن الدكتور الألماني احتار أين يجلس، فهي طاولة وليست أرض. وقد كنت مضمراً النية لجعله يجلس في صدر الطاولة، كنت أريد أن أوصل أننا يمكننا أن نغير مكان الجلوس، ولكن عاداتنا في اختيار أماكن ضيوفنا وفقاً للأولويات لا تتغير، بدا أن الأمر حيره للحظه، حيث جلس حيث كان يجب أن أجلس أنا في منطقهم، بينما جلس زوج أختي في الجهة المقابلة كما يجب أن يكون. أخبرتهم بأننا نقدم الطعام هنا دفعة واحدة، وليس على مراحل مثل الآخرين. ابتسموا، ووزعت الطعام الذي كان أرز مشخول ولحم، من إعداد أمي، وسلطة تبوله، وصينية بطاطس مهروس باللحم، وشوربة حريرة، وقد رفضت اقتراحات أخواتي بإضافة أصناف أخرى، لأني لا أريد أن أشتتهم بالكثير من الأصناف، فلا يأكلون الكثير بالنهاية. بدا أنهم مذهولون، وكان الصينيون أكثرهم ذهولاً، وقد استأذن الدكتور الصيني بجلب كاميرته من المجلس ليصور الطعام!!. لم يأكلوا، استغربت، قلت لماذا لا تبدأون؟ قال الدكتور الألماني الكبير بأنهم ينتظرونني أفرغ وأقدم لنفسي الطعام. جلسنا وبدأنا، فتعالت آهات التلذذ، وتكررت الأسئلة عن ماهية المكونات. وكاد المحاضر الألماني أن يأكل اللومي، الليمون الأسود، فأخبرته بأن لا يأكله، بل يعصره على الأرز. بينما كان الدكتور الألماني الكبير فقط شرع يضع السلطة مع الأرز، كما يفعل الناس هنا. الصينيون أعجبهم كل شيء، خصوصاً الشوربة، وسألني الدكتور إن كنت قد طبخت أياً من هذا؟! ضحكت، وقلت لا، إن هذا كله طبخ  أمي وأخواتي. سألني ماذا أعرف أن أطبخ بالعادة؟ قلت بأني لا أعرف حتى كيف أقلي البيضة!. وهذا بصراحة تجميل لحقيقة أني لا أعرف أصلاً كيف أكسر البيضة. وأعقبت شارحاً: "كما ترى، أنا مدلل، فأمي وأخواتي لا يقلن لي لا أبداً، ويعددن لي ما أشتهي، وعليه، لا أعرف كيف أطبخ". قلت الأمر ببساطة، ولكن لما التفت، وجدت الدكتور الألماني الكبير قد ترك الأكل، وصار ينظر إلي مبتسماً. فكرت، هل كنت غبياً حينما وصفت نفسي بالدلال؟ ولكنها الحقيقة من هذه الناحية على الأقل. أخبرني الألماني الأصغر بأن بعض الطعام هذا مشابه لما لديهم في ألمانيا، في إتفاق مع ما قاله زوج أختي، ولكنه قال بأن هذا أفضل من وصفاتهم بكثير، شعرت بأني ليس لدي شك.
ولما كان زوج أختي قد كسب إعجاب الجميع بوضوح وارتياحهم، ولما كان يرى الصينيين ظرفاء كما يرونه على وجه الخصوص، سأل إن كان الجميع قد أحضر زوجته للسعودية؟ قلت بأن الألمانيين لم يحضرا زوجاتهم، بينما الصينيون غير متزوجين. سأل الصيني ذو اللغة العربية لماذا هم غير متزوجين، متجاهل أني أنا أيضاً غير متزوج، فقال الصيني: الله كريم!! وضحكنا، وسألني الصيني الدكتور عما يقال فأخبرته، ولكن زوج أختي سأل محتجاً: لديكم مليار إمرأة في الصين ولم تتزوجوا؟ لماذا؟. بدا سؤالا مضحكاً جداً، فهم مليار شخص، وهكذا جعل زوج أختي كل الصينيين نساء!. لما ترجمت الأمر، ضحك الألماني الأصغر بشدة، بينما التفت الدكتور الصيني إلى زوج أختي وقال: استمتع بطعامك. فانفجر الجميع ضاحكاً، حتى زوج أختي لما ترجمت له الأمر مباشرة. أكلنا لمدة طويلة، وكثر التعليق على الطعام، والسؤال عن صنعه، هل هرست البطاطا باليد؟ من أعد الأرز؟ كانت أمي. لاحقاً، سألني الدكتور الألماني، ماذا أرى نفسي في المستقبل؟ قلت، أني في المستقبل القريب لا أستطيع تنفيذ أي خطط، حتى الانتهاء من خطة أخبرتهم عنها، وبعد ذلك، أرجو أن أدرس الماجستير في جامعة أهلية بالرياض. تكلمنا حول الأمر، فأثرى معرفتي ووسع مداركي إلى درجة لم أكن لأطمع بها، أو أتخيلها. بعد فترة طويلة جداً، بدا أن الكل شبع، ولكن لم يعرف أحد كيف يغادر المكان. فوقفت وأمسكت بالمغرفة، وسألتهم واحداً واحداً إن كانوا يريدون المزيد، من أي شيء، ولكنهم شبعوا، فاقترحت أن نتناول الحلوى في المجلس، حيث وضعت هناك بينما نحن نتعشى. نظروا إلي بذهول، وقال الألماني الأصغر: ليدحرجني أحدكم! خرجنا بجو من المرح، ودخل الصينيون المجلس أولاً، بينما اتجه البقية إلى المغاسل، ثم إلى المجلس. وجدت الدكتور الصيني ينظر إلى الحلوى مخلوب اللب، واستأذنني بتصويرها، بينما وقف الآخرين حولها، يتطلعون إليها بإعجاب، فقد كانت مزينة على نحو فريد، غير مبالغ فيه، وبذوق عال أفخر به. سألت الدكتور الألماني الكبير، مماذا أقسم له؟ فقال بأنه ممتلئ ولا يستطيع أكل المزيد من السكر، ولكن بعد إصرار، طلب أن أعطيه قطعة صغيرة من حلوى  لها قصة مأساوية بالنسبة إلي في تلك اللحظة. قسمت له، و اختار عصيراً وسكبت له منه. اتسعت عينيه بعد تذوق الحلوى، وناولت الآخرين ما طلبوا، فسأل الدكتور الألماني الكبير إن كانت هذه الحلوى مصنوعة بالمنزل؟ وكرر سؤاله الألماني الآخر، فقلت بأن كل شيء على الطاولة من صنع أهلي، عدا العصيرات فلم نعصرها. قالوا بأنها رائعة، وتلذذ الصينيون بالحلوى ولم يستطيعوا الجلوس طوال الوقت. نصح الدكتور الجميع بتجربة الحلوى التي جربها، فانصاعوا لرأيه، وفاجئني بطلب تذوق الحلوى الأخرى، وقد ظننته لا يريد، لكني كنت أعلم بأن هذه الأشياء ستعجبهم حد الخبل، فأنا أعرف سحر أهلي. جرب الجميع من الشكلين، وقد صمت عن الشكل الثالث، وهو شيء فريد من نوعه، حتى يتذوقوا الاثنين. حينما بدا أنهم فرغوا من الشكلين، قلت: ولكن لم يتناول أحد منكم من الشكل الثالث، هكذا ستغضب جداً أختي التي أعدته. صحح لي الألماني الأصغر: تقصد ستحزن؟ قلت: لا، ستغضب مني، لأنها ستعتقد أني روجت لحلوى أختي الأخرى، وأهملت عملها. فأسرع الدكتور الألماني الكبير، وتناول واحدة من العلب وهو يقول بجديه وهدوء: "لا، إذا يجب أن لا ندعها تغضب". وكانت الحلوى هذه عجيبة فعلاً، ليس طعمها فقط، ولكن ترتيبها. فهي عبارة عن عليبات صغيرة جداً، شفافه وجميلة، تظهر الطبقات الجذابة والمتناسقة الألوان من داخلها بوضوح، ومغلقة بغطاء شفاف محكم، ثم لفتها أختي بشريط قماشي ذهبي، عقدته في الأعلى بشكل شديد الأناقة، على ملعقة بلاستيكية طويلة على نحو غير مألوف، قاسية وجميلة، من نوع خاص، ورأس صغير غريب. قال متوصفا وهو يفض العلبة: أنظر إلى الشريط والعلبة، والملعقة، لما تذوقها الدكتور، اتسعت عينية مرة أخرى، وأكملها بحماس، ونصح من لم يجربها بتجربتها، كان الدكتور الصيني قد أخذ واحدة بالفعل. سألني الدكتور إن كانت هذه بالفعل من إعداد أختي؟ بلا تدخل خارجي؟ أكدت له. أخبرته أنها من النوع الذي يحب الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة في الأمور، فسأل إن كانت فنانة (!!) قلت لا. في تلك اللحظة، كان الجميع قد تناول واحدة من الصينية، وبدأ يأكل، جاء الدكتور الصيني، وقال مقترحاً بأننا يمكننا بدء عمل تجاري من هذه الأشياء، بشراكة أختي، وبعد النجاح هنا يمكننا حتى التفكير بالتصدير، ففي الصين لا يعرفون هذا، وهم يحبون الصنع المنزلي، أونفتتح معملاً هناك لأختي (!!). كان شرحه مسهباً، فقلت ضاحكاً: إنك صيني بالفعل!!. فقال بصوت عال للآخرين بتكرار: نعم إنه يعرف الصينيين!!. البعض لم يكتفي بعلبة واحدة، مما أثلج صدري تجاه رضاهم. سألني الدكتور الصيني أن يصور معي، وأنا لا أحب أن اصور بالعادة، فلدي عقدة من الأمر، ولكني لم أمانع، ولكني حذرته بأني لست فوتوجينيك، إلا أنه أصر، فصورنا الصيني الآخر، وبدى شكلي بالصورة مريعاً!!. حينما فرغ الجميع، وادخلت الحلوى لأفرغ الطاولة، قلت بأنهم كانوا يتشكون جميعاً منذ أن دخلوا المنزل من الامتلاء، وهو أمر لم يعجبني (ضحكوا) وعليه، سأصلح وضعهم الآن. دخلت وسط ابتسامات دافئة. عدت بالحبق، مشروب الحبق، مثل الشاي أو النعناع، ولكنه صحي ومهضم بشدة، وله طعم مميز، ومحسن للمزاج. أخبرتهم بماهيته، وقدمت للدكتور الألماني، الذي رفض السكر، وتذوقه، وثار اهتمامه، فاخبرني بأنه خبير بالمشروبات العشبية، ويحتفظ بمجموعة كبيرة في ألمانيا من الأعشاب، وهو يشك بأنه تذوق هذا من قبل. قال بأنه نعناع، فقلت بأنه مختلف، قال بأنه ضرب منه، فقلت بانه نبات آخر، فأوراقه مختلفة، طويلة، وأكثر امتلاء. قال بأن فيه نكهة من النعناع، خالفته مرة أخرى، وقلت بأن فيه ريح من الزنجبيل بالواقع، فوافقني وكأنما قبض على حقيقة المشروب. شرحت لهم عنه، من أين يجاء به. أعجبهم جداً، ووجده الألماني الأصغر مهضم جدا، ولكن الدكتور الألماني الكبير ظل مشغول البال بالنبتة، فأخبرته بأني سأحضر له عينة منها، فانفرجت أساريره. أخذ بعضهم أكثر من جرعة منه، ودخلت وهم مشغولون به، وطلبت من أختي أن تلف أربع حزم صغيرة من النبات ليأخذوه معهم. جاء به بعد قليل ابن أختي، يحملها على صينية، ملفوفة ببلاستيك شفاف. أخذ الجميع، وتفحصها الدكتور باهتمام. قلت لهم بأنهم يمكنهم غليها بالمنزل وشربها، فقال الدكتور الألماني الكبير متفاجئا: آخذها لي؟! قلت: طبعاً، إنها لك!. ثم تكلمنا عن شتى الأمور. تكلمنا عن الجامعة، وقلت بأني لست راض عنها، أو مديرها، وشرحت أسبابي. وتكلمنا عن اسباب نجاح الأشياء، وأخبرني الدكتور الألماني الكبير أن نجاح الأشياء يعتمد على بنائها من الأساس، لا البدء بها من القمة، فقلت إن البدء من القمة هو ما يجري في جامعتنا، ففي حين كان يجب الاهتمام بالطلاب والمناهج والتحصيل، نجد أن الاهتمام ينصب على أمور استعراضية، غير مستدامة بالنسبة للتعليم، وقلت بأن هذه بروبجاندا للحصول على الإعجاب والمديح، والضحك على الناس. لم يكن لدى الدكتور الألماني الكبير خبرة حول الطلاب ومناهجهم، لأنه ببساطة ليس هنا ليدرسهم، إنه استثمار من نوع آخر، ولا أتجاوز الحد إن قلت أنه ربما الاستثمار الصحيح الوحيد، أو من الاستثمارات القليلة الصحيحة. قال بأن تصحيح أمور الطلاب والمناهج أمر يحتاج إلى وقت طويل، لا يمكن للمرء أن ينهيه بفترة واحدة من الإدارة، كان رفيقاً بوجهة  نظره، لكني رددت بأنه هذا إذا أنانية، وتقديم للإنجاز الذاتي على صالح الجامعة، فالأجدر هو البدء بالأمور التي تستغرق طويلاً، حتى يكملها الآخرين. تكلمنا عن أمور كثيرة جداً. وتكلمنا كذلك عن الأدب، والكتب، والقراءة، والجميع يعلم بأن العرب لا يقرأون فعلياً، وهو أمر مؤسف، ومُهمل بشدة. حكيت عن أنه قيل عن افتتاح مكتبات عامة في الأحياء، ولم نسمع عنها شيء بعد ذلك. وتكلمت عن إصلاح الأمر، والأمور الاجتماعية، وصححت بعض المفاهيم لدى الألماني الأصغر، بينما كان الألماني الاكبر أكثر دراية، أما الصينيون فهم بالغوا الجدة في المكان، فلم يكن لديهم سوا الاستماع بشكل عام. تكلمنا عن الكتب والكتاب والأدب، وخطر في بالي أن أعطيهم وجهة  نظري بكاتب مشهور لديهم، اسمه قونتر قراس، وقلت بأنه ممل حقاً، يذكرني بالكتاب العرب المعاصرون، بدا أن التعليق أصابهم بالذهول لثانية، ولكنهم ضحكوا، أوضحت بأني أجده مملاً لأنه يسهب بلا فائدة، وكثرة ما يكتب لا تقود القارئ إلى شيء، وليس أني لا أحب النصوص الطويلة، وأعطيتهم مثال عن نص طويل قرأته وأعجبني، لكن قونتر قراس لا يعجبني. بعد القليل من التحدث عن الكتب وهذه الأشياء، وجدت الدكتور ينظر حاني الرأس إلى الأرض، مبتسماً وكأنما يتفكر بشيء، ثم علق على اطلاعي، وسأل إن كان هناك شباب آخرين مهتمون بالقراءة؟ أخبرته بأني بالواقع لست بقارئ كبير، ويوجد العديد من الشباب ممن يقرأ أكثر بكثير. فاجئه هذا، وبالواقع، فكرة الغرب أننا لا نقرأ في محلها، لكن الاستثناءات لا ترد على بالهم غالباً. تكلمنا عن مشروع يهمني كثيراً، وتناقشنا حوله، وأخرجت إحصائية في ورقة مهترءة من جيبي، أحتفظ بها منذ فترة طويلة، وأقنعت هذه الإحصائية الدكتور الألماني الكبير بوجهة نظري، التي كان يجادل حولها. كنت تحوم حول التعليم والقراءة، وأعطانا الدكتور فكرة عن الكثير من الأفكار الإبداعية التي يعمل عليها، وأتمنى أن يتمها، فهي ذات فائدة كبيرة جداً لنا. استشرته بخصوص تعليمي، وهو يعلم بظروفي، لكنه قال بتأكيد بأنه يعتقد بأن علي الدراسة في الخارج. كان هذا بعدما اقترح أن أدرس ونحن على العشاء في جامعتنا حينما أخبرته بأني لن اخرج للدراسة، وقلت بأن تعليمها سيء فقد تخرجت بها وأعرفها وأعرف وضع كلية علوم الإدارة، ولكنه دافع بأن الدراسة فيها ستمنحني شهادة، فعلق الألماني الأصغر بأني لا أريد ورقة فقط، وهو يضحك. تكلمنا عن التخصص الذي أريده، وهو من عائلة تخصصه، فصدمني بنصيحته أن لا أدرسه، وإصراره على النصيحة. ولم يختلف لديه قولي أني أعتقد بأن لدي الموهبة، فقد وجد أن دراسته للماجستير مضيعة للوقت في حين يمكن للمرء أن يتعلمه بلا ماجستير، إنما يدرس فرع آخر أكثر أهمية. حزنت بالواقع، لكنها كانت نصيحة واقعية.
بعد التحدث عن وضع البلد من حيث التعليم والإعلام والوعي، سألني الدكتور باسماً لماذا لا أعمل لأصبح وزيراً؟ أو سياسياً؟ قلت بأن هذه الأمور تتطلب من المرء أن يصبح دكتوراً هنا، وهذا ما لا أنوي القيام به، قال لا؟ قلت: لا. مر وقت طويل، وتحدثنا فيه عن شتى الأمور، وأثرى الدكتور معرفتي بشكل غير مسبوق، وأشعر الآن بأني أذكى وأكثر اطلاعاً على أمور مهمة، وجدت الصدود والغرور حينما سألت عن أشياء مماثلة دكتور سعودي متخصص لديه مدونة. بعد وقت طويل، سألني الدكتور الصيني أن نمضي، حيث تأخر الوقت، فقمنا. قال لي الدكتور الألماني الكبير، أني يجب أن أطلعه أكثرعن روايتي، وما هي حوله، وكنت قد حدثته عنها باختصار في وقت قديم.
في السيارة تكلمنا عن أمور كثيرة كذلك، مع الآخرين أحياناً، لكنه كان قد تعب، فهو رجل كبير. أوصلنا الصينيون أولاً، ثم بقيت أنا والألمان. سألت الألماني الأصغر، إن كان الدكتور هو نفس الشخص الذي قال بأنه يعتقد أن يعرفه حينما أخبرته عنه؟ ابتسم الدكتور، وقال الألماني الأصغر بأنه هو بالفعل. تذكرت  أني حينما  أخبرته، في عملي بالجامعة حينما جاء إلي، بحضور الدكتور الألماني الكبير واسمه، قال الألماني الأصغر بأنه يعتقد أنه قابله، ووصفه لي وقال بأن شعره قصير وأبيض، فقلت لا، ليس هكذا، قال، كيف؟ قلت بأن لديه شعر جميل، ونظرت لا شعورياً إلى رأس الألماني الأصغر، الأقرب إلى الصلع بشعره الخفيف المتناثر بتباعد، القصير. شعرت حينها بأن ملاحظتي أثارت غيرته بشكل ما!!. ولا أجزم بأنه يغار، أم أن طبيعته احتجاجية، أم أن الأمر إقليمي، فقد كان حينما يتحدث الدكتور الكبير عن أراءه وأفكاره يعطي أحياناً نظرات ساخرة، أو مستخفة، ويميل إلى مخالفته، وأخذ دفة الحديث، أم لعله شعور لا أساس له، لا أدري.
حينما وصلنا قرب بيت الدكتور كانت بعض الشوارع مسدودة، لأن التحلية ممتلئ بالشباب التافة بأغلبه. فاقترح أن أقف في مكان ما ليسير إلى منزله، وقال بأن منزله قريب من تلك النقطة، ولكني قلت: لا يا دكتور، أنا أعرف أين بيتك فقد رأيته، هل نسيت؟. اقترح مرةأخرى في مكان آخر أن أدعه يسير، ولكني أصريت على إيصاله إلى منزله، وقلت بأنه أخذ كفايته من المشي اليوم، وقال متى؟ قلت حينما خرج من المعرض، فقال لا، لا يمكنني أن آخذ كفايتي من المشي ابداً. قلت بأن عليه أن ينصح والدي إذا. أنزلناه، وكان يبدو عليه التعب، وودعناه.
حينما ذهبنا إلى المعرض حيث تقف سيارة الألماني الأصغر، ظل بالسيارة حينما وجدنا سيارته يحدثني عن امور كثيرة، وعن خططه. ثم نزل وشكرني، وقال بأنه لم يكن يعلم بأني مطلع على الكتب، وأن هذا ربما ما جعلني لطيفاً(!!). 
كانت ليلة لا تنسى، ليلة كنت فيها حياً، خلاف كل وقت.


في يوم الجمعة، وكانت الوليمة الأربعاء، زرت معرض التعليم العالي، وحينما دخلته، تساءلت؛ ما الذي أتى بي إلى هنا؟ فلم أكن لأستفيد منه فعلياً. ولكني مع ذلك تمشيت، ومررت على أجنحة جامعات الدول التي تثير اهتمامي، ولم أتوقف كثيراً امامها، كوريا، السويد، وفنلندا التي زارنا وزير منها مؤخراً، الصين، ايرلندا، وهكذا. ثم قررت البحث عن الألماني الأصغر، حيث أنه يقابل الزوار في جناح لدولته، ووجدته. سلمنا وتكلمنا، وأعطاني كتاباً، ولم أشأ تعطيله فمضيت.
وفي يوم السبت، وصلتني رسالة شكر من الدكتور الصيني، على الطعام والحلويات، ويصف الليلة بأجمل ليلة له منذ أن جاء للسعودية. ويسأل عن بريدي الالكتروني. أخبرته بانها من أفضل لياليي أيضاً، وعن أملي بأن نعيد الكرة. وأعطيته البريد. اليوم، وجدت أنه أرسل إلى صورتي معه!! ولم أكن بالقبح الذي بدوت عليه بالبداية، بدوت قبيحاً، لكن لست مخيفاً، وإن كان لون عيناي فيها مضحكاً. رددت أخبره بأني سأكتنز الصورة.


حينما علم أخي الكبير بأمر دعوتي لهؤلاء الناس، احتج في اليوم التالي لماذا لم أدعوه؟، أجبت بصدق؛ أنه كان سيأكل الجو علي. أقنعته الإجابة(!!) وبدا سعيداً كذلك أني على الأقل لم أنسه، أنه كان لدي عذر. بالواقع، خطر في بالي أخي، لكن لم يخطر في بالي أن أدعوه، أي لم أفكر أن أدعوه وأغير رأيي، فلم تكن دعوته واردة للسبب الذي أخبرته به، حيث أتيت بالناس لأتعرف عليهم أكثر، ولا أستطيع أن أتخيل الوضع لو أتيت بأخي، ودخل في أمور أكاديمية مملة مع الدكتور الألماني الكبير، لا سيما مع تشابه التخصص، أو، فرض وجهة نظره في الأمور الأخرى، ومال إلى تخطيئي، وهي طبيعة في مجموعة من إخواني، أن يحاولوا بقدر الإمكان إظهار القصور بوجهة نظري، أو التوسع فوقها حتى تبدو وجهة نظرهم هم بالنهاية. خفت من الوضع الذي يخالفني فيه أخي في كل تفصيل، لإختلافنا بالتفكير، ولثقته الزائدة بنفسه واستبعاد صحة رأيه عن المناقشة. وهذه طبيعة تثنيني عن نقاش الناس منذ فترة طويلة، أقصد الناس هنا، بينما وجدت الدكتور الألماني منفتح على النقاش ووجهات النظر، رغم فارق العلم(عن أخي) وفارق العمر(أيضاً حتى عن أخي) وفارق التروي(أيضاً، عن أخي) وفارق الإطلاع(أيضاً،،،، عن أخي). إن بعض صفات أخي هذا تعجبني، وما يعجبني فيه أنه يتحسن مع الوقت من حيث تقبل الأراء الأخرى، وهي نقيصة لا تخصه وحده، ولا تخص بعض إخواني، إنما هي تنتشر كوباء بالمجتمع، لكنه لم يصل بعد إلى المرحلة التي تجعلني أدعوه بلا خوف للمرة الأولى أو الثانية التي أدعوا بها الناس، لكني أعلم بأني في مرات مقبلة سأرغب بدعوته. هذا لأنهم أجانب، ولأنهم مثيرين للاهتمام، لو كانوا دكاترة سعوديون، لربما دعوته من أول مرة وتركته معهم، وذهبت أقرأ جريدة أو شيء، إن لم أهرّب أخي إلى الخارج وأقفل عليهم الباب، وأحرق المجلس من النافذة.
كان سيأكل الجو علي، بكل تأكيد، عموماً.


أنا معجب بشخصية هذا الدكتور الألماني على وجه الخصوص. إنه متواضع، ولطيف، ومتبسم كما يجدر بمسلم أن يكون، لكنه ليس مسلماً، وحينما أقارن بينه وبين مسلمي الغرب مثلاً، أجد أن الفرق شاسع، رغم تلقيهم نفس التعليم. لا أدري ما العلة. كما أن الدكتور الألماني هذا لامع الذكاء، وحكيم بقدر ما رأيت، وواسع الإطلاع، ومثير للاهتمام. إنه يثير اهتمامي وإعجابي، وأجده شخص مريح جداً. وهو يفاجئني بوجهات نظره، مثلاً تكلمنا عن الممنوعات في أوروبا، فعلق الألماني الأصغر على حكاية السماح بالحشيش في هولندا، دوناً عن باقي أوروبا، فتكلمت عن فضاعة الأمر، واستغرابي له. لكن الدكتور الألماني الكبير أخبرني بجدية؛ أن الحشيش أقل ضرراً من الخمر والمخدرات. هو يقول هذا مع علمه بأن الخمر جزء من ثقافتهم، وأمر لا خلاف حوله اجتماعياً، لكنه يتكلم عنه بضيق، وقد أعجبني بمنطقيته، كما أنه يبدو لي أنه لا يشربه إن كانت هذه هي وجهة نظره. كذلك، تكلم بصراحة من قبل عن مشكلة الحرية الزائدة لديهم. 
كذلك، إنه لا يمانع، رغم كل صفاته، والفارق الواضح في المواهب والفكر، من معاملتي باهتمام وطيبة، ومن الرد على اهتمامي، ومن السؤال عني ومعرفتي أكثر، إنه يعطيني الفرصة، ويقبل مبادرتي، وحينها، يبادر هو بأمور أخرى، ليس لأنه يجدني مثير للاهتمام بنفس القدر بالضرورة، فلست أدري، لكني متأكد أنه ينطلق من منطلق إنساني على الأقل.
عرفت أناس أقل منه موهبة وذكاء بكثير، وأقل بريقاً في الشخصية وصقلاً حتى تجدهم باهتون، مع ذلك، بدا لهم دائماً أني لست بالمستوى. وقد يكونون أمامه بالمقارنة: لا شيء.
يمكن لبعض الناس أن تخيلوا أنهم جوائز، وما أكثر ما صادفت من هذا النوع من الناس، وهذا أمر خاطئ. يكون الإنسان أقرب ما يكون إلى كونه جائزة بالفعل، حينما لا يعامل نفسه على هذا الأساس، حينما لا يتعالى على الناس، يعطيهم فرصة، يعرفهم ويقدر ما فيهم كما يقدرون ما فيه. لا يتمنن بنفسه واهتمامه، لا يكافئ الناس المحبين والمقدرين له في منحهم انتباهه حسب ما يبدون مما يوافق مزاجه، وكأنما يحتاجونه وهو لا يحتاج إلى أحد.


ابن أختي الذي دخل عدة مرات علينا ليساعدني بحمل الأشياء أو بإعادتها أو توزيعها، قال بأن الدكتور الألماني الكبير يبدو وكأنهم وضعوه في فرن، لشدة حمرته. ضحكت أنا وأمه على تعليقه، ورغم عدم موافقتي على مثل هذه التعليقات، إلا أني لم أستطع أن أخالف، فقد كان أحمراً بالفعل، على عكس الألماني الآخر الأصفر، الذي قلت سابقاً بأنه يمكن إعتقاده سورياً بالخطأ، أو تركي كما يقول زوج أختي. حيث يبدو لون الدكتور الكبير أحمراً على نحو لا تخطئه العين، وحينما أتذكر يده الكبيرة، حينما يمدها للسلام، كانت تبدو حمراء الجلد، وكأنها لحم بينَ ما يكون مكسواً أو لا يكون، مع شعرات شقراء متوزعه بخفة عليها، تزيد المرء شعوراً بغرابة المنظر.



خاتمي الأسود، الذي ضاع لأسابيع دون أثر، ظهر فجأة، في مكان أستخدمه كل يوم، حيث أترك ساعاتي الثلاث، وأختار واحدة كل صباح. كيف ظهر فجئة؟ لا أدري، لماذا طال غيابه هذه المرة؟ لا أدري. ربما كان أحدهم يشاركني الخاتم، تخيل. حينما أخبرت أختي، قالت: بسم الله الرحمن الرحيم. على نحو يشوبه خوف. لا يمكنني قول أن أحد أعاده، لأن غرفتي مقفلة دائماً. لكن ربما عميت عنه طوال الأسابيع، الله أعلم، ربما كان للخلفية السوداء حيث تستلقي الساعات والخاتم بالعادة، دور في عدم رؤيتي له، رغم أني أراه بالعادة بلا مشاكل، ولكن، أنظر كل يوم لأسابيع ولا أراه؟. عاد قبل الوليمة بيوم أو يومين.


هذه قصة قصيرة، أكتبها بعد انقطاع لفترة طويلة عن كتابة القصص القصيرة. كنت قد بدأت أحرص على العودة لكتابة الخواطر أو الأشعار النثرية، سمها ما شئت، منذ فترة الآن، لأني أهملت الأمر لفترة طويلة، وهو شيء مفيد. وقد فكرت أن العودة لكتابة القصص القصيرة أمر ضروري بالنسبة إلي كذلك.
أرجو أن يستمتع بها أحد ما.




"لأجل آخر ما بقي ليقال"


بسم الله الرحمن الرحيم

"وصل سلامك، دعني أرتاح"
لم يعد يصدمه شيء، لملم نفسه وأشيائه بهدوء، وخرج من الغرفة البيضاء، بصمت. لقد جهز نفسه لكل الإحتمالات. رغم أنه لم يقطع كل تلك المسافة من مدينته القصية لأجل هذا الاحتمال، إلا أنه توقعه. ما كان يأمله هو؛ أن يتم استقباله على نحو أفضل. لم يكن أمراً وارداً، ولكنه أمل ذلك فقط.
لم يكن قراراً سريعاً، أو قد كان، إذا ما نظر المرء إلى الوقت الذي استغرقه، لكنه لم يكن سريعاً على أعصابه. هل أذهب؟ إنه بخير، إنه لا يحتاجني. لكن، سرعان ما خطر في باله؛ "أنا من يحتاجه". استغرقه الأمر ربع ساعة ليحزم أمره، ويحجز أقرب رحلة إلى المدينة الأخرى، ليرى صديقه. صديقه؟ عدوه؟ مشروع صداقة؟ أم ضحية؟. هذا الإنسان الوحيد الذي لا يعرف كيف يصنفه في حياته، لكنه يعلم بأنه يحبه كثيراً.
حادث سيارة شنيع، ولكنه سالم، ولكنه وحيد. هل لأنه وحيد أتى ليزوره؟ لقد كان وحيداً منذ سنوات، ولكنه لم يأت لزيارته، أو يسأل عنه، أو يجب عن أسئلته. لعلها كانت فرصة محتملة فقط، لشيء ما. لم يعد يريد أن يتعب نفسه بتبرير موقفه هذا.
جاء إلى المستشفى، وسأل عن غرفته. لقد أقام لفترة طويلة فيها قبل أن يعلم ويقرر المجيء. حينما حضر، طرق الباب، وأُذن له بالدخول. كان يريد أن يرى تعابير وجه رفيقه حينما يراه، بعد انقطاع التواصل لسنوات، رغم أن رؤيتهم لبعضهم لم تنقطع إلى هذا الحد، كانت الصدفة كثيراً ما تجمعهما في مكان واحد حينما يحضر للمدينة، دون أن يتكلما.
كانت التفاتته بطيئة، بدا أنه كان يتوقع أحد آخر، من قد يكون؟. هكذا فكر صاحبنا. لم تظهر المفاجئة على وجه طريح الفراش، لكن صاحبنا جزم بأنه صدم، إنه يشعر به، ولكنه يعلم بأنه يتمالك نفسه بقوة ورباطة جأش كعادته. تقدم هو بدوره ببطء، ومد يده، مبتسماً، ابتسامة نصف صادقة، نصف مصطنعة. صافحه الشاب بصمت. وضع طبق حلوى مزخرف وثمين، أثمن ما استطاع إيجاده في محل الحلويات العالمي، إلى جانب المريض على الدولاب، وقد برزت بطاقة نصف مفتوحة أعلاه، على نحو مقصود. قرب كرسي وجلس. مرت لحظة صمت، قدر بأن هذه اللحظة ضرورية ليخفف توتر رفيقه الشاب، ليشعره بأنه مقدر لمشاعره، لغضبه. كل شيء بدأ بسوء فهم، سوء فهم يكبر مع التقدير، علاقة متناقضة حقاً.
"كيف حالك؟"
رد الشاب: " أنا بخير". كان رد مقتضب، ولم يحمد الله حتى. صمت آخر. ثم قال صاحبنا "حمد لله على سلامتك". قالها بتأثر صادق، ليس لأجل أن الشاب خرج من الحادث حياً، لكن، لأنه يمكنه أخيراً يقول له شيئا صادقاً، يعبر عن مكنون قلبه، أن يعامله بالقدر الذي يستحقه، ولو بمجرد إظهار الشعور. لكن الشاب رد "هل أتيت لعمل؟". أسقط في يد صاحبنا، فهذا الشاب ليس وحيداً ومستوحشاً بلا سبب. هل يقول الحقيقة؟ قد يعتبرها وقاحة عقب القطيعة، قد يعتبرها انتهاز لفرصة سيئة بالنسبة له، فالجيد بالنسبة لغيره سيء بالنسبة له على نحو غير مفهوم. أم يقول بأنه جاء لعمل، وسمع عن الأمر، وجاء ليطمئن، أي ليقوم بالواجب، كما قد يفهم الشاب؟. لقد كان صادقاً مع نفسه، وما أحضره، ولم يعد للقطيعة فائدة. أجاب:"لقد حضرت لأراك". رد الشاب بسرعة حتى كاد أن يقاطعة، ولكن بهدوء: "ومتى ستعود؟". إنه يعلم بأنه كما يمكن لهذا الشاب أن يكون قاسي القلب، بارد الشعور، يمكنه حينما يرضى أن يكون أطيب إنسان، إنه حساس ومقهور فقط. السؤال الأخير ملغوم، وعكس الأسئلة الفائتة، لا يوجد له إجابة حقيقية. إنه لا يدري، هل سيمكث أم يذهب؟ ليس لدى الشاب هذا غيره. كل شيء يعتمد على قراره. إنه دوره الآن ليبادر، وهاقد جاء ليبادر، لكن، هل سيعامله الشاب مثلما عامله هو في وقت سابق؟. خاف من هذا الاحتمال. قرر أن يكون صادقاً على طول الخط، وذلك لأول مرة، لأول مرة. قال:"لا أدري، أود لو بقيت، من سيهتم بأمرك ويراعيك؟". تسارعت أنفاس الشاب، وتأجج الغضب في صدره. أجاب الشاب"ألهذا أتيت؟ الآن؟" خاف صاحبنا، ولم يدري ما يقول. فتح فمه وأغلقه، تكررت الحركة لفرط التوتر، فشعر بالإحراج؛ لقد بدأت تنحدر الأمور. سأل الشاب بغضب واضح:"لم يتغير شيء، لماذا تهتم الآن؟" أجاب صاحبنا على نحو ساذج:"لأنك أخ، وابن آخ". ضحك الشاب ضحكة مجنونة، ولكنه فغر فاه فجئة وجحظت عينيه بألم، فشعر الزائر بالشفقة تسحق قلبه، فقام بسرعة ماداً يده إلى صدر المريض. الذي قبض يده وأبعدها، ونهره بقرف: "اتركني في حالي". أراد الزائر أن يشرح، ولكنه وجد نفسه يقول:"أنا آسف". قالها بصدق، وقد عرف بأنه صادق، بعدما  صمت الشاب ولم يرد، لو كان يكذب، لما صمت، إنه أخبر منه بصدقه. كررها، بتأثر واستجداء. رد الشاب بحزم وهو لا ينظر إليه:"أخرج من هنا، ولا أريد أن أراك مرة أخرى" ثم التفت إليه الشاب المريض، والمكسور فوق التصور، بنظرة  قليلة الحيلة، ولكنها رغم ذلك مترعة بالكبرياء، واليأس، وقال:"وصل سلامك، دعني أرتاح" كأنما يعزيه عن القدر، رغم كل شيء. أطاع، بسهولة، فرغم أمله باستقبال أسهل، وسماح يسير، إلا أن محاولته الحقيقية تقبع فوق صحن الحلوى. لكن، جاء صوت الشاب قائلاً: "اصبر، خذ معك ما اتيت به، لا أريد شيئا منك". التفت، ووجد نظرة التصميم والغضب تتوهج فجأة من تينك العينين المعبرتين. عاد، وحمل الصحن البديع، وأوقع الورقة باصبعه فوق الدولاب. لكن الشاب قال بهدوء: "وخذ كلماتك معك، فما لم يسعفك به لسانك قبل سنوات، لا حاجة لي به الآن".
مد يده باستسلام، وأمسك وريقته بمهانة، واستدار نحو الباب بقلب كسير.
بيد أن شيء ما أوقفه أمام الباب. استدار، وقال: "لطالما رجوتني أن أسمعك، أن أفهمك، أن أعطيك فرصة". لم يجب المريض، إنما ظل ينظر بغضب وكراهية. "كنت تطلب هذه الأشياء، وكأنها كانت من حقك، وقد كانت  من حقك، لقد تعلمت هذا منك، إلى جانب ما تعلمته منك. فإن كنت قد حرمتك حقك في وقت سابق، فقد كان هذا جهل مني، ونظر يغشاه ما يغشاه من كبرياء، ولكني الآن أعلم بخطأي، وقد تعلمت منك هذا النبل، فهل ترضى أن تعلمني النبل، وتتعلم مني فراغ الكبرياء؟ لقد علمتني الكرم، فكن كريماً معي الآن، ولو للحظة."
كانت أنفاس الرجل المريض تزداد عمقاً، وهو يجتر ذكريات طويلة، أليمة، من التخلي، والنكران، والقطيعة، من كل أحد. 
لما لم يجد رداً، وجد الرد الذي ينتظره، فعاد، وجلس، وفتح الوريقة، ليقرأ من خطه الجميل:

"أخي الحبيب.
فرقتنا الدنيا، وآذينا بعضنا، وأنفسنا. لم يبقى شيء ليقال أو يفعل، أكثر مما فعلنا. ماذا بيد المرء تجاه قلبه، رغم كل التوافه التي تمنعه من اتباعه؟. لقد كنت دوماً نعم الأخ، وابن الآخ، حتى في غضبك. لقد حاولت أن تصلح الأمور، لأنها كانت تهمك، وغضبت، لأنها كانت تهمك أكثر. لقد استنفدت كل حيلك، بينما جهدت أنا لأبقيك خلف الجدران، لأسباب دنيوية، للدنيا. لم تكن تريد الدنيا، وكنت أرى هذا، لكني كنت أخاف، كنت انانياً، وحسبت أن الضمير سيرضخ. لقد كنت دائماً على حق، يا صديقي الحبيب، وها أنا قد أتيت، كما تنبأت.
أتيت، لأحقق نبؤتك، ولأذكرك بها، أنا نبؤتك، وأخوّتي قدرك، شئت أم أبيت؛ لن أتخلى عنك.
أنا آسف، أنا آسف، أنا آسف."

غسلت الدموع كل حزن. 
وكانت قبلة على الجبين هي الخاتمة، والبداية.

تمت بحمد الله.


ظهر موقع جديد، مثير للاهتمام، يختصص بالالكترونيات. وهو ليس موقع موجه فقط إلى مجانين التقنية، ولكنه يعرض أيضاً أشياء واكسسوارات تهم المستخدم العادي، وبعضها ظريف حقاً. من لا يفهم بالتقنية، ويجد نفسه على الجانب المتأخر من الأمور، سيجد ضالته في هذا الموقع، فمتابعته ممتعة، وأسلوبه خفيف على نحو معقول. اسمه الكتروني. هنا:


أعتقد أن متابعة المتقنية بحد أدنى على الأقل أمر ضروري، فهي تسهل الحياة بين حين وآخر.


حالما أبدأ بالتفكير بعنوان، أصاب بالصداع.


سعد الحوشان