الخميس، 18 يوليو 2013

عِبرة يلفها السحاب (الجزء الرابع من الرحلة إلى البيرو،المعتاد)




بسم الله الرحمن الرحيم







كنت قد توقفت لفترة عن عرض ما أراه مهماً من رحلتي على المدونة، حيث بدأت أتساءل عن الجدوى. لم يكن عامل انعدام الردود والتفاعل أمر جديد، على العكس، إني أرى بأن الاستثناء هو الرد. لكن، بدا لي أني أتحدث عن أمر مهم لأول مرة، ثم فجأة بدأت بالتساؤل؛ من أُخبر؟ من يسمع؟. فكرت؛ لا زال هناك من يبحث عن مدونتي كل يوم تقريباً بإسمي، ويوجد شخص من المغرب يتابع ما أقول بالبحث هكذا: رحلتي إلى البيرو. وهذا الدليل الوحيد على أن هناك من يهتم بشيء ما.
ولعل العامل الأهم هو أن الدكتور الألماني، صديقي الحقيقي الوحيد، قد غادر منذ أشهر الآن. وبمغادرته، أصبحنا نتراسل، صار ما أكتب يجد رداً، وصار هناك من يقول بأني تأخرت، وأني يجب أن أكتب أكثر.
حينما كان موجوداً، كنت أكتب كثيراً للمدونة، ولا يضيرني أني أجد صديقي يرد صوتي نهاية كل أسبوع. لكن، يبدو أن علتي هي بالكتابة، وليس التحدث بحد ذاته. إذا ما وجدت مجال أكثر جدوى للكتابة، فإنه يأخذ الأولوية، وهكذا صارت الكتابة إلى إنسان يرد فعلاً، وليس يرد فقط حينما يجد في مدونتي ما لا يعجبه مثل بعض الناس، أقول صارت الكتابة إلى إنسان يرد فعلاً أكثر جدوى من الكتابة إلى من يشبه المتلصص بصمته المثيل لصمت الموت.
على أني لا أتصور بأننا سنستمر فعلاً بالكتابة المنتظمة لفترة طويلة.

مع ذلك، وجدت بالنهاية من يعبأ فعلاً، في ردين في تدوينتي السابقة وما سبقها. أعرف أحدهم، عبدالعزيز خشيل، واهتمامه شديد الأهمية، فهذا الرجل كان قد راسلني قبل سنوات، لعلها ستة سنوات، حينما كنت أكتب في مدونتي الاولى، لعله كان أول من شجعني وقال بأنه يهتم، خلافاً لصديقتي الصدوقة وشقيقتي الكبرى.
إني أقدر كثيراً، رغم كل شيء، اهتمام شخص من المغرب، يبحث عن رحلة البيرو فيصل إلى مدونتي كل فترة وأخرى، ذلك أننا نحب نفس الشيء.


أتابع الرحلة.

أخذتني المرشدة في رحلة طويلة مع السائق إلى كويلاب، وهي قلعة يعلم عنها قلة قليلة من السياح للأسف، تعود إلى حضارة التشاتشابوياس. وكان هؤلاء القوم بالنسبة إلى الإنكا على جانب من التوحش، رغم تقدمهم بالبناء والزراعة، حيث أنهم كانوا شرسين، وعلى حد علمي قتلوا رسول الإنكا الذي جائهم مفاوضاً، فزحف الإنكا إليهم وحاصروهم في قلعتهم تلك، حتى أوفدوا التشاتشابوياس نساء لمفاوضة قائد الإنكا، والإعتذار منه، ذلك أن قتل مرسال على ما يبدو أمر محرم فطرياً، وليس فقط في حضارات العالم القديم فقط. قبلوا الإنكا الإعتذار، وعقدوا صلحاً كذلك، وأعلنوا الغابة التي تم بها الصلح مكاناً مقدساً تقديراً للمناسبة، وبهذا ضموهم إلى دولتهم بسلم ولم ينكلوا بهم.
وحكم الإنكا التشاتشابوياس، وكشأن كل من حكموهم، حرصوا على تقديس ما يقدسون ما لم يكن متطرفاً، وقدموا التقدمات إلى آلهاتهم، وأبقوا على حكامهم تحت ظلهم.
لكن التشاتشابوياس كانوا على جانب كبير من الحقد الذي أعماهم. يفهم المرء الحقد على الحكم بالإرغام والقوة، رغم الحفاظ على مقدساته والتمازج معه، لكن في تصوري أنهم ذهبوا إلى أبعد من هذا.
حينما جاء الأسبان، وكانوا قلة قليلة، حسبهم التشاتشابوياس بغباء آلهات، وكان الأسبان بطبيعة الحال غير قادرين على القضاء على دولة الإنكا وهم حوالي 300 رجل. وعدهم الاسبان بإعطائهم أمر أنفسهم وحكم بلادهم إذا ما ساعدوهم على القضاء على الإنكا. وافق التشاتشابوياس، ولم يفكروا بالفائدة التي سيجنيها الاسبان هكذا، وبأنهم أنفهم قد لا يكونون قادرين على ردع الاسبان لاحقاً، ببنادقهم وخيولهم.
وهكذا انتصر الاسبان على الإنكا، ثم عاد الأسبان وأحرقوا قلعة كويلاب، فخر التشاتشابوياس التي صمدت في وجه الإنكا، وحكموا التشاتشابوياس بظلم كبير كما فعلوا مع سائر أهل الأرض الأصليين.
في الأمر سخرية مريرة، ودرس واضح وجلي. وبالواقع، مثل هذا الدرس تكرر على مدى الغزو الاسباني للحضارات القائمة في الأمريكيتين وما بينهما، فقد قاموا بالمثل مع الازتك، وإن يكن باختلاف طفيف. لكن من حيث المبدأ، يميلون إلى إشعال الفتنة بين الناس الموجودين أساساً معاً منذ آلاف السنين.

يحاول الكثيرون بالشمال مقارنة كويلاب بماتشو بيتشو، ويتحسرون بمرارة على تجاهل كويلاب. أما وقد كنت من المحظوظين الذين رأوا الأثرين، فرأيي هو أن كليهما يستحقان الزيارة، ولكل منهما سحره الذي لا أتصور وجوده في مكان آخر بالعالم، لكل منهما أثر على الروح، لكن، كويلاب ليست بروعة، ولا بعبقرية، ولا بسماوية ماتشو بيتشو.
لا شك مع ذلك أنها أثر يستحق السفر لأجله.






يصعد المرء طريق ممهد، ومُتعب لشخص لم يتعود بعد على قلة الاوكسجين في تلك المرتفعات الشاهقة، والصعود بحد ذاته رحلة ممتعة، بمناظر تنفذ إلى عمق الروح.





وحينما يصل، سيرى الجدران العظيمة للقلعة القديمة، والسحاب إن تواجد، وقد كان متواجداً بكثافة وأمطر، فهو شديد القرب على مر الطريق.






خلال المطر اللطيف، توقفنا ننتنظر في اصطبل فارغ، بينما رعت الخيول في الخارج غير عابئة بالمطر. كانت معنا عائلة مرحة تنتظر توقف المطر.
















ولما طال نزوله، ذهبنا إلى امرأة تؤجر سُتر بلاستيكية للجسم قرب مدخل القلعة. وحالما أخذ كل منا سترة توقف المطر! ضحكنا على حظ المرأة الجيد، كان الله قد قسم رزقها هكذا.





يدخل المرء القلعة وهو يصعد درج حجري أثّرت في تكوين عتباته قرون من خطوات الناس والبهائم. والطريق ضيق، ويضيق باستمرار ليسمح بإحصاء الداخلين إلى القلعة من حاملي الضرائب وبهائمهم من اللاما والألباكا.




 كان للممر سحر ينفذ إلى القلب، تخيلت بأني أصعد إلى السماء وأنا أرى السحاب على مقربة، وهو ينفذ في الأعلى من بين البيوت بالقلعة والأشجار، حيث أن القلعة وما حولها عبارة عن غابة سحابية، وهذا الصنف من الغابات نادر الوجود بالعالم.





كان خلفي على الدرج والدة العائلة التي كانت معنا بالاصطبل، وهم السياح الوحيدون خلافنا حتى الآن، مما يدل على عدم الترويج الكافي، وصدقاً، عدم التجهيز الكافي كذلك، للمنطقة. كانت المرأة الكبيرة تصعد بمشقة، فأشرت لها بأن تقبض على مقبض بطول الدرج مثبت على الجدار، وقد ناديتها مدام. شكرتني؛ قراسياس، ثم جعلت العائلة، التي تلبس بأناقة، تتحدث بتعجب، وهم يقولون لبعضهم: مدام!. خمنت لاحقاً بأنهم يتسائلون من أين أنا، إذ أني قلت مدام، وأعتقد كذلك أن الأمر أكثر تعقيداً على ما أظن.

حينما وصلنا للقلعة، وجدت نفسي في مكان تسمه علامات الهجران على كل حجر. يخفق قلبي الآن وأنا أكتب عن ذلك المكان الذي لا يماثله مكان، بالإحساس الذي يراود المرء فيه عن قوة الزمن، وهو يتخيله مزدهراً، يزوره الناس حجاً من مختلف الحضارات البعيدة، وهم يحملون تقدماتهم بالجرار المزخرفة. والآن، هاهو مهجور، بيوته متهدمة، تعلوها الأعشاب، ليس وكأن ربات هذه البيوت قد أقمن واعتنين بها، وليس وكأن أربابها قد بنوها بأفضل ما يحسنون.















ورغم أن البناء والإرث الذي تركته هذه الحضارة ليس بنعومة وتهذيب ما تركه الإنكا، أو الوتشي واللمباييك، إلا أنه لا يخلو من ذوق حسن وإن كان على جانب من الوحشية في رأيي، بل إني أرى أن الوحشية هي جزء من فنهم وحسن ذوقهم، كيف حافظوا عليها ومزجوها بالتحضر، أعني من ناحية المظهر على الأقل.
تجولنا بالقلعة، وكان السحاب يغشانا أحياناً، وشرحت لي المرشدة عن الأكواخ وتصميمها، وأهلها المدفونين في حجر أسفلها، وكيف أنها كانت غالباً عبارة عن طابقين.















كان هناك برج للمراقبة، ومكان يعتقد بأنه بأنه للمعالجة بالأعشاب والطقوس. ونصب ديني كبير متهدم جزء منه، يتسع من الأعلى بينما قاعدته ضيقة، وكأنه كأس، في هندسة متقنة، وهو ما كان القوم وغيرهم يقدسون، وهو مبني ليتوافق مع نجم معين في السماء.
تسمع بالقلعة الطيور الطنانة، وإن كنت محظوظا رأيتها.
رأيت بعض آثار الحريق الذي افتعله الاسبان اللؤماء، بعدما أعانوهم التشاتشابوياس على الإنكا. تقول أختي الكبرى: أحسن.
لكنه أمر مؤسف صدقاً، يا لسفاهة الطرفين.
في منتصف الأكواخ، يوجد صفائح حجرية مثبتة بحيث تشكل ممراً، وداخلها وجدوا بقايا محترقة من حيوان الكوي، أو الوبر كما يسميه البعض هنا خطأً، حيث كان الناس يربونه في هذا المكان داخل بيوتهم، فلحمه جزء من نظام أهل الانديز الغذائي.




لاحظت أن العائلة بشكل عام تتابعنا، وتمشي على مسارنا، ربما لاعتقادهم بأن المرشدة تعرف أفضل ترتيب لمشاهدة القلعة.

جلسنا لنستريح قليلاً، فجائني شاب من تلك العائلة، هو أصغرهم، وسألني من أين أنا؟ فأخبرته بأني عربي. والتفت إلى أهله وأخبرهم، وبدت عليهم الراحة، إذ كان أمر يشغلهم على ما يبدو. كان الشاب لطيفاً، وأخذ يحكي عن نفسه وعائلته. أخبرني بأنه فرنسي من أصل بيروفي، جاء به والده ليريه البيرو ويزور العائلة، وهو طالب جامعي هناك. كان له ملامح عربية خالصة، ولأمه كذلك تلك الملامح اللاتينية التي لا تختلف عن ملامحنا، أما البقية فلم أرهم بقرب كافي.






وهذا مخرج القلعة من الخارج:






في اليوم التالي، ذهبنا إلى واد ضخم، بعدما تعذر علينا الذهاب لرؤية ثاني أو ثالث أعلى شلال بالعالم، يسمى قوكتا، بسبب انهيار صخري. لم أحزن بصراحة، وربما شعرت بالارتياح. فالطريق إليه غير مجهز، وقد نالت قدمي كفايتها، فلم أكن سأمشي، وكنت سأقطع على ظهر الخيل إن كنت محظوظاً حوالي 4 ساعات حتى أصل إليه. تلك المنطقة غير مجهزة أبداً، وسياحياً، ينطبق هذا على عموم الشمال.
ذهبنا إلى واد ضخم بالقرب، وكانت المناظر رائعة، والسحاب يينساب برفق على مسطحات القمم الخضراء، بينما تنز المياه من جدران الجبال.
كانت المرشدة قد أخبرتني أن والدها المتقاعد لديه مزرعة قهوة، يذهب إليها ليشغل نفسه بعد التقاعد، ويبيع إنتاجها. أخبرتها بأني أريد كيلو من حب القهوة النيء وسألت عن سعرها، فقالت بأنه يبيع الكيلو بثمانية سولات، أي بحوالي 11 ريالاً، فاتصلت به، وأخبرته بأن السنيور السائح العربي يريد كيلو قهوة. وقال لها بأنه سيرسلها مع صديقه لنستلمها غداً. مزرعته تبعد بالسيارة حوالي 4 ساعات، فلا بد أنه أعطاها لشخص دائم التردد. الطرقات الجبلية المتلوية تباعد بين الأماكن المتقاربة، فلا أعتقد أن المزرعة بعيدة جداً مكانياً.
ذهبنا نمشي في تلك البلدة الجميلة إلى حيث أخبرها والدها أننا سنجد قهوتي، كانت ورشة سيارات خرج منها رجل وسلم علينا، وأعطاها كيس القهوة. رفضت أخذ المال، قائلة بأن والدها يقول بأنه هدية للسنيور العربي حتى يأخذه إلى بلاده. قدرت هذه اللفتة، وأخذ العناء دون مقابل.

ثم ذهبنا إلى مقهى صديقتها القريب. وهي امرأة بشوشة، ولطيفة، وكانت فضولية. وبدا عليها أنها تريد التجريب حينما قالت بأنها استقبلت سياح اسرائيليين، وأن لغتهم حينما تحدثوا كانت غريبة، وتسائلت إن كان للغتنا نفس الصوت. أسمعتها بعض الجمل، وهذا أمر طُلب مني عدة مرات خلال سفري.
أرتني أنواع القهوة لديها. أرتني القهوة البيروفية المطحونة والمحمصة الدرجة الأولى، حيث أنها معدة للتصدير، ولما شممت الكيس وقف شعر رأسي ورقبتي، وأصابت ذهني موجة من الصحو والإثارة لم أجرب مثلها في حياتي، إذ ارتددت وكأنما جرت الدماء فجئة في رأسي وإلى عيناي، واشتريت كيساً منه بلا تردد، لأهلي، حيث أني لا اهتم كثيراً بالقهوة. وسألت عن الكاكاو الأصلي، والكاكاو أصلاً من تلك الجهات من العالم، وكان الإنكا يشربونه ويسمونه شراب الآلهة. أرتني قرص داكن من الكاكاو البيروفي الصافي، وأخبرتني كيف يصنع منه المشروب، واشتريته، لكني لم أتذوقه إذ أن أختي أخذته حينما عدت.

حينما جاء المساء، كان الوقت قد حان لأغادر إلى المحطة. ذهبنا إلى مكتب الوكالة القريب، وكل شيء قريب في تلك البلدة الجميلة، لنأخذ حقائبي. مشينا إلى المحطة، وهناك، رأيت الشاب البيروفي الفرنسي الذي رأيته في كويلاب، فجاء مسلماً بلطف، وجاء معه والده، الذي كانت ملامحه مثل ملامح السكان الأصليين لا يداخلها تأثير، وسلم علي كذلك بلطف، وانتظرنا نفرغ من الكلام. إن ما آسف عليه هو أني لم أطلب من الفتى بريده الالكتروني لأتواصل معه. فمن يدري، ربما كنت لأراه مرة أخرى، ولا أحب خسارة شخص لطيف مثله.
ودعتني المرشدة، ومضيت إلى تروهيليو، حيث سأسافر بالطائرة إلى العاصمة ليما.


أعتقد أني سأختصر جزء كبير من الرحلة بدءاً من التدوينة القادمة، حيث سأتكلم بتفصيل أكبر عن المناطق التي أرى أنها تثير الاهتمام أكثر.




رمضان والعيد، من أكثر المواسم والمناسبات التي تذكرني بمرور الوقت، كما تذكر سائر الناس، ولكنها تذكرني أيضاً بتوقف الأشياء وركودها في حياتي.
إني شاكر في كل الأحوال لله سبحانه. وأعتقد كذلك أن رحلتي إلى البيرو قد كانت تغيير إيجابي ولو لبعض الوقت، رغم المرارة التي أشعر بها باستمرار منذ الرجوع منها. تتخيل والدتي بأني ربما تعرضت إلى سحر هناك، حتى أعشق ذلك البلد وأفكر به كثيراً حتى الآن.
خلافاً لهذا، أجد أني ذهبت وعدت لنفس الوضع. أتذكر أخي الكبير حينما عاد من أمريكا ذات مرة، بعد فترة غياب طويلة، فسألته أختي أن يرى التغييرات في غرفتها. قال مازحاً بأنه لم يتغير شيء، فلا زال كل الأثاث في محله، وقد غادر والمروحة تعمل، وعاد وهي تعمل!. لعل هذا ما حدث، فلم أخرج وأعود بشهادة مثلاً، لقد تعلمت الكثير هناك، لقد كونت الكثير من الصداقات، حققت أمنيات، وعدت بفهم أفضل في الكثير من الأمور، لكن كل هذه الأمور لا اعتبار لها هنا. بالواقع، لا شيء، شيء وليس أحد، يهمني وأحبه له أي اعتبار حيث أعيش، وربما ما أقوم به كعمل هو أمر لا يقدم ولا يؤخر كثيراً بالنسبة لي، باستثناء مساعدة بعض الناس الذين يستحقون المساعدة والتعاطف، لكن هذا لا يغير شيئاً.

على وجه العموم، هذه هي القسمة والحظ، وبالنظر إلى حسن الحظ الذي أخذني إلى البيرو، وهو حظ غير معتاد في حياتي، لعلي أخذت أكثر من قسمتي بشكل ما، فالشكر لله أولاً وآخراً.


لعل هاجسي الأكبر قبل الصيام هو الماء؛ إن أعمق مخاوفي دائماً هو العطش، لهذا آتي كل يوم قبل رمضان بقارورة ماء كبيرة، وغالباً لا تكفيني، وأقتر على نفسي إن بقي منها شيء حتى نهاية الدوام، وإن افرغتها مبكراً نزلت إلى مقهى كاريبو واشتريت مياه نورد منهم، وهم يبيعونها بضعف سعرها.
أما خلال رمضان، فأقصى ما يمكنني القيام به هو شرب كميات كبيرة من الماء قبل الآذان، حوالي لترين، وغالباً ما يكون هذا هو سحوري.




لست اشاهد التلفاز، تقريباً أبداً، سواء في رمضان أو غيره. لكني قرأت بأن الممثل خالد سامي قام بتقليد العريفي، وهو رجل مشهور بأنه داعية وشيخ. إني لا أثق بالعريفي ولا أحبه كشخصية عامة، لكني لا أهتم لخالد سامي كذلك. لكن، الحدث وما نتج عنه هو أمر يستحق التأمل. يشعرك الأمر بأن الكثير الناس يبحثون عن فرصة لاستعراض مواهبهم بابتكار الشتائم والتعنيف.
يقول البعض بأن المسألة مبدأية، فهم ضد الاستهزاء بالشيوخ، أو المتدينين، بالواقع، لم أعد أعرف من هم الشيوخ، ومن هم المتدينين، ومن هم أهل العلم، ومن هم الدعاة، وما هو الشيخ، وما هو المتدين، وما هو كل ما سبق. ليس لدي رأي حول هذه المسألة المبدأية.
لكن مشكلتي هي مع فحش الألسن، وانتهاز الفرص للجرح والتحقير، وكأنما ينتظر الناس مثل هذه المواقف ليخرجوا أسوأ ما في قواميسهم، ليجرحوا ويهينوا بقدر ما يشائون، دون معرفة شخصية بالطرفين، أو تضرر مباشر. لا يكفي إبداء الرأي بالمسألة، لكن يجب القدح بأعراض الناس، حتى تصون أعراض آخرين، والشهادة ضد من لا تعرف، لتشهد مع من لا تعرف أيضاً، هي أمور تنم عن سفاهة ومبالغة.
رأيت مقطع لشاب تافه غير متدين مظهرياً، يلقي قصيدة بائخة وركيكة، وهو يفتعل الانفعال والغضب، يُشبه فيها الممثل في أحد المواضع بالحيض. يتفنن بلا موهبة ليصفه بأقذع وأقرف ما يمكنه تخيله، ولكن هذا لا يحتاج إلى موهبة. ويصف العريفي وصف لو سمعته لحسبته يصف نبياً.
وقرأت تعليقات الناس، وقذفهم بعضهم بعضاً، وقدحهم بأعراض بعض، من أجل رجلين لا هم من الصحابة، ولا هم من أعدائهم، ولا أظن أن واحد بالمئة ممن غضب عليهم أو لأجلهم يعرفهم فعلاً.
أعتقد بأن مثل هذه المواقف لا تشبع رغبة عند الكثير من الناس في إيذاء الآخرين فقط، لكنها تصور لهم صحة وسلامة معتقدهم وموقفهم من الحياة، فكلما زاد الإيذاء والتفنن به، كلما بدا لهم أنهم مدافعين عن الخير، وأنهم إليه أقرب، مهما كان أسلوبهم بالحياة؛ الذي يمكنك أن تستشفه من نوعية ألفاظهم.




أعجبتني رواية قرأتها مؤخراً، لنفس مؤلفة الأرض الطيبة، بيرل باك، وتدور مثلها في ريف الصين القديمة. اسم الرواية: مأساة أم. كنت قد اشتريت الكتاب منذ فترة طويلة، لكني انشغلت بشكل ما في قراءة كتب مختلفة طوال الوقت، حتى نسيت أني أملك الكتاب، وكدت أن أشتريه مرة أخرى.

إن الأرض الطيبة أجمل وأكثر إبداع ومتعة، لكن هذه أصدق وأعمق، وعموماً كلتا الروايتين تتميزان بنفس المزايا، لكن أحدها أكثر من الآخرى في بعض المزايا التي ذكرت.
أجمل ما في رواية مأساة أم هو التعمق والواقعية في النظرة تجاه البشر، وحدود تحملهم، كما المسافات المذهلة التي قد يقطعونها بفضل الغريزة.
ليست الأم ملاك، لكنها أم في الرواية، وهذا أمر تناقشة الرواية بأفضل نحو، بحيث أن لكون البطلة امرأة مكتملة الأمومة لهو أمر شديد التأثير مما لو صبغتها المؤلفة بصبغة ملائكية بابتذال. لعل كل أم سوية في عين ابنائها الأسوياء ملاك في ما يحمله الأمر من حس معنوي، لكن المؤلفة تكتب عن امرأة اخرى، ليست أمها، ولكنها أم. وهذا التشريح لنفسية أم بسيطة، رغم طموحها ومآسيها، وقوّتها وضعفها كإنسان، هو مما يعطي الكتاب قيمته العالية في رأيي.
الكتاب يحكي ملحمة هذه الأم التي هجرها زوجها التافه، تاركاً إياها لترعى أمه وأطفاله. وليست الأم هي الشخصية الوحيدة التي تستعرضها المؤلفة بواقعية وحكمة، ولكني قرأت عن صداقات خالصة في بعض الشخصيات التي لا تخلو من بلادة، ولؤم وخسة بطبيعة شخصيات أخرى رغم بساطتها، وبينما ألخص بعض ما وجدته ببساطة هنا، أستحضر بعض ممن أعرف وأفهم، وأستشعر عمق الرواية في تشخيص أبطالها، وحكمة المؤلفة.




قرأت كتب أخرى في هذه الفترة، ورغم أنها ساعدت على تمضية الوقت، إلا أنها لا تستحق الذكر.





سعد الحوشان


الخميس، 27 يونيو 2013

الانتظار الأبدي في سفوح الانديز (الجزء الثالث من رحلتي إلى البيرو)

بسم الله الرحمن الرحيم



توقفت في التدوينة الأخيرة فيما يخص الرحلة إلى البيرو عند خروجي من تشكلايو. أخذت الحافلة في رحلة طويلة بالمساء نحو جبال الانديز، إلى منطقة تسمى تشاتشابوياس. لم أشعر بالرحلة، فقد نمت، وحينما استيقظت فجراً كانت الحافلة قد توقفت إلى جانب الطريق، من ضمن صف طويل من الحافلات المتوقفة، صعوداً في طريق جبلي ساحر. فهمت من الناس وجود انهيار جبلي يسد الطريق، وأن إزالة الركام قد يستغرق أكثر من 4 ساعات قبل التمكن من مواصلة الرحلة، حيث لم يتبقى سوا القليل على الوصول إلى مدينة تشاتشابوياس الصغيرة.
لم أشعر بالضيق صدقاً، لم أكن لأشعر بالضيق بصراحة في ذلك الوقت من الرحلة، في بداية رحلة شهر إلى بلد لطالما تمنيت زيارته، وأعددت جيداً لتحقيق الكثير من الامنيات فيه.
كان الجو ساحراً، وكان السحاب يرى على مستوى قريب، والجبال العظيمة العملاقة تشخص في كل مكان. كيف يمكن للمرء أن يشعر بالضيق؟.







لكن لم يطل بقائي هكذا، إذ أطل رجل وامرأة تصغره سناً في الحافلة، ونادوا: موهمد؟ موهمد؟. لم يلتقطوا من اسمي غير هذا، اسم والدي. قلت بأنه أنا، وأنا أشك بوجود أي مسلم آخر. خرجت معهم، وأفهموني بلغة انقليزية ركيكة بأنهم سيأخذاني إلى ما خلف الانهيار، حتى تأتي سيارة من وكالة السفر لتأخذني إلى الفندق.
هذا الشكل من العناية هو ما حضيت به طوال شهر، إني راض كل الرضا عن الوكالة التي تعاملت معها، عن كل شيء، عن طيبتهم وتعاونهم، عن اهتمامهم البالغ، وأحياناً المفاجئ بمبالغته حد الدلال.
مشينا صعوداً حتى وصلنا الانهيار، حيث وقف بعض الناس يتأملون، ثم مضينا في جانب الطريق على سفح الجبل، وعبرنا تلك الوعورة من بين النباتات الكثيفة والأرضية الصعبة. قلت: مغامرة!. فضحكوا. حينما عبرنا إلى الجهة الأخرى، كان المنظر أجمل. كان سحرياً.
لم ننتظر كثيراً حتى جاءت سيارة، وفي السيارة مسئولة من الوكالة المحلية للسياحة، من أجمل الناس الذين رأيت في حياتي.
نزلت وعرفت بنفسها. كانت بغاية اللطف والعفوية. بعد نقاش مع الرجل والمرأة اللذان نادياني موهمد، قالت بأن فندقي بالواقع يقع في الجهة الأخرى من الطريق، حيث أن توقف الحافلة اختصر علي الوقت بالواقع، فقد تعدت الحافلة الفندق قبل فترة، لذا سنعود إلى حيث كانت الحافلة، ونبحث عن سيارة تعود بنا. قلت: يا للحظ الجيد! ضحكت، وقالت جيد لك، لكن ليس لكل هذه الحافلات وركابها. حينما وصلنا قرب حافلتي، وجدنا سيارة تقل مجموعة من الشباب الصغار. حادثت الفتاة السائق، وطلبت منه أن يعيدنا إلى الفندق، على بعد مسافة غير كبيرة. وافق مباشرة، ذلك أن كسب القليل من المال خير من الانتظار لساعات بلا فائدة. نزل الشباب، وجلهم من السكان الأصليين، ووقفوا لينتظروا عودته. أخذنا إلى الفندق، وهو فندق جميل، في بطن واد كالجنة، يجري إلى جواره نهر يحده سفح جبل.
أنجزت الفتاة أموري مع الفندق، ورحب بي اهله جيداً، كنت النزيل الوحيد. ولا غرابة، إذ أن الشمال برمته خارج الخريطة السياحية بالنسبة لمعظم السياح، فلا يعرف الغالبية العظمى منهم ما يوجد فيه، ولا عن كونه رائع ومثير للاهتمام بنفس قدر الجنوب. فلو كانت البيرو دولتين، واحدة إلى الشمال والأخرى إلى الجنوب، لاستحقتا الزيارة قبل أي مكان آخر في المنطقة في رأيي، نظرا للغنى البيئي والحضاري الذي يميز البيرو عن سواها من أمريكا الجنوبية.
ودعتني الفتاة، وأخبرتني بأن مرشدي سيأتي بعد ساعتين، أو ربما قالت ثلاث، ومضت. طلبت إفطاري، وطلبت أن أتناوله إلى جانب النهر. إن تناول مجرد بعض تمرات إلى جوار النهر والجبل يكفي لتشعر بالرضا.









لكني لم أكن أعلم بأني كنت على وجه معاناة مع المرشد القادم.
لا أريد أن أتحدث عنه كثيراً. لكنه رجل غريب الأطوار، غير مريح. ظل يتحدث عن معتقداته الغريبة، ضيع وقتي كثيراً وأساء إلى الجولة.
يعتقد مثلاً بأن كل الأديان خطأ، رغم أن المسيح جاء بالحق، أو بالمعرفة كما يصفها، حيث أن عيسى عليه السلام تعلم في مدرسة في الفضاء (!!)، وجاء ليعلم الناس هنا ما تعلم هناك من كافة المعارف الإنسانية.
الزواج كذلك أمر غبي، لا يجب أن يستمر، لأنه مجرد ربط قانوني لضمان حقوق الزوجة بعد الطلاق (!!!)، وخلاف هذا من الخزعبلات ضيقة الأفق، التي لم يتوقف عنها ولا دقيقة.
ذهبت معه إلى مكان يسمى كراهيا. وهو مكان جميل، يحوي على مقبرة من نوع خاص. لكن هذه المنطقة ككل غير مؤهلة ومطورة جيداً. وبشكل عام، تدعم الحكومة السياحة في الجنوب، حيث أشهر المزارات السياحية، أكثر من الشمال بكثير، وترى أهل الشمال يشتكون من هذا الأمر كثيراً وبمرارة.
الطريق كان رائعاً، وبالواقع، في هذه المنطقة ترى الجمال وتشعر بالروعة أينما وليت وجهك.





ومررنا كذلك بقرية جميلة، اسمها لويا، وهي ساحرة ككل القرى والمدن الصغيرة في هذه المنطقة







كان الوصول إلى الموقع شاقاً، مشينا كثيراً خوضاً في طريق موحل. لكننا انطلقنا من قرية صغيرة للسكان الأصليين، حيث البيوت الجميلة، التي تجلس أمامها النساء يحكن الاقمشة والملابس التقليدية ويتحادثن، بينما يلعب الأطفال هنا وهناك.




كان العذاب ليس في وعورة الطريق فقط، ولا قذارته، لكن في أفكار هذا الرجل الذي لا يكف عن الكلام الذي لا قيمة له ولا يخلو من وقاحة، والتوقف هنا، والتوقف هناك، فهذه فاكهة تستحق الالتقاط، وهذا منظر يستحق التصوير، حيث جاء بكاميرا، وأراد أن يبيعها علي لاحقاً. لقد شككت في اتزانه منذ البداية؛ لحظات الصمت الغريبة، والنظرات الفارغة من عينيه الشفافتين (إذ أنه ليس من السكان الأصليين)، والأفكار التي داهمني بها منذ البداية، والعجب بالذات. حينما وصلنا إلى عمق معين من ذلك الوادي العظيم، مشينا بطريق مستوٍ نسبياً حتى وصلنا إلى الموقع الأثري. وهو عبارة عن تماثيل موغلة في القدم، وضعت في اماكن عصي على الإستيعاب كيفية الوصول إليها، في كهوف أو تجاويف في مكان مرتفع من السفح المنحدر تماماً بزاوية 90 درجة. وهذه التماثيل هي بالواقع قبور، يوجد في كل منها مومياء محنطة بإتقان موضوعة بوضعية الجنين، والتماثيل توضع في أماكن مختارة بعناية، توفر مناخ طبيعي يساعد على الحفض وعدم فساد الجثة، وهذا أمر مذهل، وهي دائما تواجه الشرق. وعلى نحو يزيد من الجو المؤثر للمكان، يوجد شلال صغير ينحدر كالمطر من بين الكهفين الذين يحويان التماثيل، ويهبط أسفل منا مباشرة.
تبدو التماثيل للناظر وكأنها عالقة في حلم لن يتمخض عن شيء، دون أن تدري، أو أنها تأمل شيئاً لن يكون، وهي تنظر إلى الشمس كل يوم عبر القرون وهي تُشرق. هل تأمل شيء لنفسها أم لما في بطونها المثقلة بالأموات.
إنها مثيرة للتأمل، هل وضعت هكذا لتقول شيئاً للناظر؟ وكأني أسمعها تقول بأن اليوم كالأمس، وغداً كاليوم، ومع ذلك، ننتظر...

كنت السائح الوحيد بالمكان. قلت بأني أريد أن أنزل حيث يهبط الشلال، ويوجد ممر ضيق وشديد الانحدار يودي إلى المسقط. بدا عليه التعجب، وقال بأني بالواقع أول سائح يطلب هذا الطلب. سألته إن كان نزل من قبل، فقال لا. وهكذا أصبت أنا بالذهول والتعجب، حيث أنه جاء إلى هذا المكان لمرات لا تحصى. نزلنا، وكنت أنا من يكتشف الطرق المختصرة والسليمة، وكأنما أنا من جاء إلى هذا المكان أكثر مما يذكر. وقد أثار الأمر بشكل ما حنقي. كان الشلال رائعاً بالأسفل، لكنه موقع خطير إلى حد ما، لأنه زلق إلى أقصى حد. بقينا هناك لبعض الوقت، وذهب هو ليأخذ صورة من زاوية معينة، وتأخر.





حينما فرغنا من الجولة، عدنا، وكان الصعود شاقاً، ولحسن الحظ، استأجرت حصاناً في منتصف المسافة.

بالأعلى، أعطوني كيس من مطعم، يحوي غدائي، لكني حينما نظرت إلى الشطرية وجدت فيها لحماً وردياً غريباً، فسألت إذا ما كان لحم خنزير. بدا الاضطراب على المرشد، وسأل السائق، فبدا على الاثنين التشوّش. كنت قد قلت مسبقاً بأني لا آكل الخنزير. قال المرشد بطريقة لم تمكنني من الوثوق به، ناهيك عن عدم ارتياحي له ولتقديره لمعتقدات الآخرين، بأن اللحم بقري. أعطيته للسائق. ولما أردت شرب العصير وأكل الشوكولاته؛ وجدت الأطفال على مقربة، فوزعته عليهم، إذ أثاروا شفقتي.

في الطريق إلى الفندق، ازدادت أحاديث المرشد غرابة، وازداد موقفه قلة احترام، وقد شعرت بأن الجولة اليوم قد فقدت الكثير من قيمتها بسببه.
راسلت كارلا فوراً، وأخبرتها بأني أريد مرشد آخر، وأخبرتها بما قال هذا الرجل، حاولت كارلا لكنها لم تتمالك نفسها فضحكت. قالت بأن أمره غريب، وأنه بالعادة لا يسمح للمرشدين التحدث حول معتقداتهم على هذا النحو. كما شكوت من قلة معلوماته وسوءها، حيث أني قرأت كثيراً وأعرف أن بعض الأمور على خلاف ما يقول. قالت كارلا بأن المشكلة في تلك المنطقة خصوصاً هي قلة المرشدين المحترفين.

باليوم التالي، جاء مرشد آخر، وكان أوروبي السحنة، شديد الثقة بنفسه، وغير مريح على الإطلاق بطبيعته. غير مهتم بالتحدث عن الثقافة والتاريخ هنا، أو حتى الالتفات إلي. ذهبنا بالبداية إلى المتحف المحلي، وكانت لديه معلومات عن بناء المتحف والدولة المساهمة، النمسا، أكثر من محتويات المتحف وتاريخ المنطقة. كنت أسأل للاستزادة حول أمور أعرفها من التاريخ، فيعطيني إجابات خاطئة بارتباك واختصار. وأثار حنقي حينما دخلنا إلى قسم المومياوات (الذي أتمنى لو لم أدخله لمبدأ معين)، فوصف بعض المومياوات للسكان الأصليين بأنها مومياوات "اسبانية". لم أفهم بالبداية، فسألت مستوضحاً، فتبين بأنه يقصد بأنها مومياوات لتلك الحضارة بعد الاحتلال الاسباني، وكأنما هؤلاء القوم أصبحوا اسباناً تلقائياً. هكذا، هل يمكننا القول بأن مسجد بني وقت استعمار بريطانيا لمصر أو الهند بأنه مسجد بريطاني؟، كان منطق متكبر وبالغ الغباء، وبالواقع، شعرت منذ البداية بأنه فخور بنفسه على نحو غير عادي.
كانت المومياوات محنطة بإتقان عجيب، تحتفظ بجلدها، وهي بوضعية الجنين كذلك، مثلما كانوا يصفونها في المناطق السابقة في الصحراء. وكانت أسنانها كلها سليمة، وحسنة الترتيب، وفائقة البياض والحسن التام، ويعود هذا إلى الاستهلاك التقليدي، الذي لا يزال، لأوراق الكوكا، فهي غنية بالكالسيوم، إلى جانب مضادات الأكسدة والمنبهات الطبيعية الجيدة.
إنه لأمر محزن أخذ الجثث من مستراحها، وعرضها للناس بعيداً عن التكريم الواجب للإنسان. كنت لا أنوي مشاهدتها، ولم أطل البقاء في مكانها، لكني أخذت على حين غرة، ودفعني الفضول بعيداً عن الحس السليم. هي عموماً مستورة جيداً، لا تزال بلفائفها القماشية التي دفنت بها.
يواجهون معضلة هناك، إن تُركت المومياوات في أماكنها فإنها ستسرق للمتاجرة كما حدث مع الكثير منها (قبل أشهر، اكتشفت الحكومة المصرية مومياء بيروفية مهربة إلى هناك)، وإن أخذت إلى المتاحف للعرض أثار الأمر إعتراضات أخلاقية من البعض، الذين أشاركهم الرأي. كنا نتناقش كثيراً حول الأمر، أنا والدكتور الألماني، وكنت أخبره عن اعتراضي على عرض المومياوات في مصر، ربما باستثناء فرعون للتوصية الإلهية، لكن لماذا يخرج الآخرين من مستقراتهم ليعرضوا على الناس؟. من يتخيل نفسه بعد مماته وقد أصبح مجرد فرجة.
وما زاد الطين بلة، أنه رتب لوجود حصان لحملي عبر جبل وعر، لرؤية أثر قديم، ولكن الحصان لم يأت، فهوّن الأمر، مع علمه بأن قدمي غير سليمة، وتسلقنا لحوالي 4 ساعات، وكنت أرتدي حذاء مطاطي كتم قدمي وأساء لجرحي كثيراً، وليت الأثر كان يستحق المشقة، كان على بعد كيلو مترات بعيدة، تكاد لا تتبين منه شيئاً، مما خيب ظني إلى أقصى حد. وحينما نزلنا، وخلعت الحذاء، كان جرح قدمي قد التهب بشدة، فناديته، وأريته إياه. بدا عليه نوع من القلق، وكنت أشعر بمرارة.
وما زاد بلة الطين بلة، هو أننا حينما غادرنا بالسيارة وجدت أثر مشابه، أقرب وأفضل بكثير، ويمكن رؤيته وتفحصه بلا عناء، فلماذا تسلقنا الجبل إذاً؟!.
ربما خير ما في ذلك اليوم هو دخولنا حديقة قرب المتحف، تكثر فيها أنواع مختلفة من الطيور الطنانة، أمنية حياتي منذ أن رأيتها بالتلفاز، كنت بعمر 7 أو 8 سنوات، ورأيتها أخيراً. تأثرت بشدة، إنها من أجمل مخلوقات الله.

بالفندق، تواصلت وأخي الذي يقيم في أمريكا للدراسة، وكنا نتكلم من يوم إلى آخر عبر الانترنت. أخبرته بأحداث اليوم، فجن جنونه، وأصر على أن لا أذهب في اليوم التالي إلا إلى الطبيب، ثم أعود إلى الفندق، حتى لا تصاب قدمي بمكروه. كان يعلم بالتهاب قدمي مسبقاً، وأن الطبيبة في تروهيليو، باتفاق أطباء آخرين حضروا ليروني، قد وجدت أن قدمي ملتهبة بشدة، وكان الجلد منتفخاً وبلون مختلف، وقد قصت الكثير من الخلايا الميتة وقامت بالتعقيم، وأعطتني بضعة مضادات حيوية. لا يزال أثر الجرح واضحاً في قدمي، وأحياناً ينز بعض الصديد.
أخبرت كارلا بأني لا أريد الذهاب غداً للتمشية، أريد الطبيب فقط، وفي المرات القادمة لا أريد أي مرشد ذكر طوال رحلتي، لا أريد سواء إناث لمرافقتي في جولاتي، ولو كانت امرأة في التسعين من عمرها وتحتاج إلى تعضيدي لتمشي. ضحكت كارلا رغم أنها عبرت قلقها على قدمي، ورتبت لحضور أحد في الصباح الباكر لأخذي إلى الطبيب. ثم تناقشنا بأمر الرجال، أخبرتها بأنهم يميلون لعدم المسئولية، والإحساس العقيم وغير الضروري بالمنافسة، كما أنهم لا يملكون المعلومات الكافية ولا الجدية الكافية تجاه الأمر، بالإضافة إلى أن النساء أذكى.
جائت الفتاة الطيبة، التي ساعدتني قرب الانهيار الجبلي، في صباح اليوم التالي، وأخذتني إلى طبيب في البلدة الرئيسية تشاتشابوياس.
وهناك، وجدنا مرشدي في اليوم السابق، وكان متوتراً بشدة، ودخل معنا إلى الطبيب. فحص الطبيب قدمي جيداً، وقال بأنها على ما يرام، لكنها تضررت أمس من الحذاء المطاطي الذي زودوني به وقوة المجهود، لكن لا خطر إذا اتبعت تعليماته. أوقف المضادات الحيوية، ومنع الأحذية المغلقة، والمشي المتعب والتسلق.
حينما خرجنا، سألتني الفتاة إن كنت أريد أن أخرج اليوم في جولة، أخبرتها بأني أريد أن أعود إلى الفندق. كانت قدمي تؤلمني، وكانت تجربة اليوم السابق سيئة. لكنها حاولت إقناعي بأن أذهب في جولة بسيطة، ولن تكون متعبة، لأنها لا تريدني أن أضيع يوما وأيامي محدودة هنا، وقالت بأنها تريدني أن أستمتع بوقتي. سألت إن كنت أريد لويس، مرشد أمس سيء الذكر، الذي يقف بالقرب بتوتر ويتظاهر بأنه لا يسمع، أن يصحبني، أو أريدها هي؟. قلت بأني أفضل لو جاءت هي، إن كانت تملك الوقت وتريد ذلك، وإن جاء لويس فلا بأس، لكني أفضلها هي. ابتسمت، ورافقتني في جولة رائعة. كان معلوماتها عن كل شيء حول المنطقة ممتازة جداً، لم أسأل عن شيء لم تستطع أن تجيبه على نحو مرضٍ جداً. وكانت مثقفة جداً، ومحترمة جداً، ولطيفة جداً، وبدا أنها أعمق تدين ومحافظة حتى من الأخريات اللواتي رأيت، رغم تدينهن نسبياً. 
كانت فتاة واسعة الاطلاع، مهذبة على نحو لا يوصف، وخجولة. ومعلوماتها حول المكان غير عادية، إنها تعرف كل التفاصيل، وذات اطلاع كبير على تاريخ المكان الذي تنتمي إليه انتماء صميم.
وقطع المسافات بين المواقع في تلك المنطقة يستغرق وقت طويل جداً، حيث أن الطرق الجبلية ملتوية، وأحيانا تسدها الانهيارات الجبلية بعد موسم الأمطار. لكني استمتعت كثيراً بهذه الرحلات على السيارة، ففضلاً عن جمال المناظر المتغيرة، كانت أحاديث الفتاة ممتعة، واهتماماتها أتاحت النقاش والتحدث المطول؛ حيث تحب الأدب والقراءة.
على جانب الطريق من جهة الجبل، تجد أحيانا الماء ينز من الجدار المحفور على جانب الطريق، وهو منظر بديع يسرني كلما رأيته، ويقنعني بأني سأكون أكثر رضا فيما لو عشت هناك.




ذهبنا لرؤية بعض الأماكن الأثرية المميزة. وبالواقع، ترى الآثار في مختلف الاماكن بالجبال، تُفاجئ بالتماثيل بمواقعه المستحيلة في مختلف الأماكن، أو البيوت الصغيرة التي استعملت للدفن، وأخرى استعملت للسكن، ولا يدري المرء كيف كانوا يصلون إليها، ويعيشون فيها وأطفالهم بمأمن عن السقوط، في تلك السفوح شديدة الانحدار.






في هذه الصور الرديئة، لا أدري إن كان من الممكن تمييز المنازل على جانب الوادي هذا، هي الفراغات ذات اللون الترابي بين الأشجار، وهي بيوت بعض الأولين من حضارة التشاتشابوياس. يصعب الوصول إليها، لكن يصل إليها بعض المغامرين، ربما بحثاً عن الغنائم، أو لمجرد الفضول. وهي تتواجد بكثرة، مثل التماثيل التي تحمل الجثث. كثرة الأثار تشكل عبئاً (!!) على الدولة، فيصعب الحفاظ عليها والسيطرة على شئونها، ورعايتها. وهم يكتشفون المزيد من الآثار المميزة طوال الوقت في مختلف أنحاء البلاد، في الأماكن التي طالها التحضر على الأقل في الأزمنة القديمة (أي باستثناء حوض الأمازون إلى حد بعيد).













أفزعني هذا النوع من الصبار في أول مرة رأيته. فهو عملاق، غير الذي نرى هنا في محلات الزينة وفي الصور. ولونه مائل للزرقة على نحو عجيب، إن أسعفتني قدراتي المتواضعة على وصف الألوان. ينتشر بكثرة على الجبال في هذه المنطقة، وما تطوله أيدي الناس منه تجد مقطعاً بحرفية بسكاكين، ذلك أنه له استخدامات كثيرة، يعالجون به مشاكلهم الصحية، ويحسن الشعر ويكافح بثور الوجه. وهو يزهر على نحو غريب، هذه الأشجار الطويلة هي طريقة الصبار في الإزهار والتكاثر، تصل بالطول إلى بضعة أمتار، وهي تشبه الزخارف، ولكنها زخارف غريبةومثيرة للقشعريرة. وحالما تقضي هذه الأعمدة مهمتها، تموت النبتة.

رأينا كذلك بيوت صغيرة مبنية في تكهفات على السفوح تنتشر في أماكن مختلفة بالمنطقة، وهي عجيبة المنظر، تستخدم غالباً كمدافن. ورغم أن المطر لا يصيبها بفضل موقعها، إلا أنها ذات سقوف مائلة، وهي مسألة رمزية بالنسبة للقدماء.




أما من أغرب الأشياء في البيرو عموماً، هو صنيديقات صغيرة على شكل بيوت، أحياناً تحوي صورة لشخص، أو دمية صغيرة، أو السيدة مريم عليها السلام كما يتخيلونها، ويتركونها مع رسالة أو لويحة أو بلا شيء على جانب الطرق الطويلة. أفهموني لاحقاً بأن هؤلاء أشخاص توفوا في حوادث في تلك الناحية من الطريق، وتترك هذه الصناديق كتذكار لهم. يأسف المرء حينما يرى صور أطفال صغار، لعلهم كانوا يقطعون الشارع إلى مدرسة.



هذه صور متنوعة من تلك المنطقة، قبل أن أتحدث في التدوينة القادمة عن جولتي بالقلعة الأثرية إن شاء الله.








لحسن الحظ، يأتي كمبيوتر قوقل الجديد الذي اشتريت بعرض يوفر لمشتريه سعة تيرا (ألف قيقا) من السعة التخزينية على خدمات قوقل لمدة 3 سنوات، وقد حصلت من خلال الجهاز الذي فسد مؤخراً على مئة قيقا اضافية لمدة سنتين. كنت أفكر دائماً بأني لا أحتاج أكثر من المساحة المجانية، خصوصاً مع وجود 50 قيقا مجانية من خدمة بوكس، حصلت عليها من خلال جوالي. لكني بت أعتمد على نحو متزايد على حفظ أشيائي على الانترنت، وليس فقط النصوص التي أحفظها على الانترنت منذ سنوات طويلة، لكن كل الأشياء الشخصية، من صور وخلافه. وكنت قبل فترة قد بدأت بالقلق، بسبب كميات الصور وأحجامها الكبيرة.
للأسف، لا يستفيد الكثير من الناس من خدمات الانترنت المميزة هذه. أعتقد أن الأشياء الضرورية من الأفضل حفظها على الشبكة، في حساب خاص، بدلا عن هارددسك أو فلاش (كم أضعت من فلاش ضروري، أو فسد فجأة).



الخميس، 20 يونيو 2013

أجنّة مَلَكية في رحم الأرض (المحطة الثانية بالبيرو،قصيدة،جهاز،أحداث)



بسم الله الرحمن الرحيم






لا يبدو لي وكأنما مر أكثر من شهر الآن على عودتي من البيرو. إني أتغير كذلك لألائم مكاني الآن، لقد كنت أفضل حالاً هناك، أتغير رغماً عني لأصبح أقل حيوية، وأقل إقبالاً على الحياة، فماذا يوجد هنا؟.

لكن بوسعي أن أقول بأني حيّ على مختلف الذكريات الجيدة، سواء من البيرو، أو الصداقات الجيدة التي حضيت بها؛ إذ إلى جانب مشاعري الطيبة من البيرو، أعتاش حالياً على مراسلاتي مع الدكتور الألماني، حيث نتراسل بانتظام، وهو يحرص على ذلك رغم أن المراسلة الجيدة، والمواضبة عليها، ليست من عاداته المتأصلة، لكن لعلي زرعت فيه هذا، ربما.
لا أصدقاء لمقابلتهم على نحو دوري أو غير دوري، ولا أرى الوضع يتغير قريباً.


حدث أن صادفت شخص عزيز مؤخراً، عزيز وإن لم نعد أصدقاء. تكلمنا لبعض الوقت، وكان التقارب من جديد ممكن. لكني فكرت لاحقاً، ووجدت أن سبب نهاية صداقتنا قابل للحدوث مرة أخرى، إنه أمر يتعلق بطبيعة المرء، ولم يعد بي طاقة لمواجهة مثل تلك المواقف غير الضرورية.




توقفت في التدوينة الفائتة عند رحيلي من تروهيليو. وصلت إلى تشيكلايو بالحافلة، واستقبلتني امرأة في أربيعناتها ترفع اسمي على لوحة، قالت بذهول حالما عرّفتها بنفسي:" لكنك لست مسناً!"
اتضح بأن كارلا اتصلت لتوصي علي، وأخبرتهم بأن يعتنوا بأمري لأني أمشي بصعوبة، وأني كثير النسيان فيجب تذكيري بالأمور دائماً ومتابعتي (!!). انفجرت ضاحكاً. هذه أمور حقيقية؛ إني كثير النسيان، لقد نسيت كاميراتي في ليما، في حقيبتي الكبيرة، ولي سوابق أخرى كذلك. استشفت هذه المرأة الطيبة من التوصيات أني شيخ مسن، إذ أن كارلا سألت بأن يرفقوا بي لمشكلة في قدمي، وأن لا أترك لأمشي طويلاً.
اسمها ماقي، وقد يحسبها المرء مصرية، مصرية جميلة. وهي بالإضافة إلى عملها السياحي تعطي دروس في الجامعة المحلية، وتواصل تعليمها العالي كذلك. ومثل معظم البيروفيات اللائي التقيت؛ هي امرأة أنيسة وحسنة الحضور، محافظة ومتدينة لكنها منفتحة على غيرها، وليس الحكم المسبق من سماتها. قالت بأن فندقي بعيد جداً، فقلت سعيداً بأن هذا جيد، أريد أن أتمشى وأرى المدينة. ضحكت وقالت شيء للسائق، ثم أخبرتني بأن فندقي بالواقع خلف محطة الحافلات بمسافة قصيرة. دخلنا الفندق، ورتبت أموري معهم، واتفقنا على اللقاء مبكراً في اليوم التالي.
في الصباح جائت مع سائق آخر، ذو مظهر غريب جداً في ذلك المكان. اسمه قوادالوب، وهو رجل فارع الطول، شديد البياض على بعض الحمرة، وذو شعر ذهبي ناعم وعينين زرقاوين، ولم يكن يتحدث الانقليزية. ذكرني مظهره بصديقي الدكتور الألماني العزيز، فبينهما شبه لا تخطئه العين، فقوادالوب وسيم جداً كذلك. أفهمتني ماقي أن قوادالوب يأتي من منطقة قريبة من الأدغال، وأشكال الناس هناك هكذا. عرفت لاحقاً بأن جالية كبيرة من ألمانيا والنمسا قد جائت لاجئة إلى البيرو بعد الحرب العالمية الثانية، وقد منحتهم الدولة أرض ليستقروا بها. لعل الرجل من هناك.
ذهبنا إلى منطقة غريبة، تحوي جزء مما يسمى بالغابات الجافة، وهي غابات نادرة تعيش على القليل من الأمطار. وخلف الغابات توجد آثار، أو ما تبقى منها، لحضارة قديمة تسمى الموتشي. وهي عبارة عن اهرامات أو ما يبدو كجبال الآن بعدما طالها الإهمال والتخريب. على طول الطريق، يرى المرء كسر فخارية هنا وهناك، متروكة رغم عودتها لقرون خلت، وربما أكثر. قالت ماقي بأنها غير مهمة لأنها مجرد كسر، بينما لديهم الكثير من الآنية والأدوات المكتملة، فتترك هذه لطلاب الآثار.
يوجد شجرة هناك لدينا الكثير منها هنا، يبدو أنها بشكل ما جلبت من هناك، كما جلب النخيل من هنا إلى أماكن أخرى. لا أعرف اسمها، لكنها تثمر ما يشبه الفاصوليا او البازيلا، حبيبات يغلفها غشاء، وسرعان ما تجف وتقع. نراها في بعض الشوارع في مواسم معينة تملأ الأرض هنا، ولم أكن أحسب لتلك الثمار فائدة. لكن هناك، يصنعون منها بعد جفافها شراب ثقيل غامق اللون، يشبه الكاكاو أو القهوة، وله كذلك طعم يقارب الكاكاو. هذا الشراب اللزج والحلو يضاف إلى مختلف المأكولات والمشارب، كنكهة يمكن فهم تفردها حينما يذوق المرء نقطة من السائل اللزج، فهو ذو طعم مركب حقاً وغير عادي. قيل لي أنه مفيد، وسمحت لي عجوز طيبة أن أذوق شيء مما صنعت منه، حيث تعبئه في قوارير وتبيعه على زوار المنتزه. ليتنا نستفيد مما لدينا. حينما أجدها سأرسل إلى المرشدة العزيزة ماقي لأرى إن كانت تعرف كيف يصنع الشراب.







كان يوجد الكثير من تلك الجروف العظيمة، الأشبه بالأهرامات، التي كانت تستخدم للطقوس الدينية ولسكنى علية القوم، لكن للأسف، كانت الأرض مملوكة لشخص طماع، اسباني الأصل على الأغلب، وقد جرف معظم الأهرامات بعدما علم عن امكانية وجود مقابر قديمة تحوي الكثير من الذهب فيها. وقد كانت كذلك. لم توقفه الحكومة إلا بعدما قضى على معظمها. كما أن الزمن لم يرفق بها، فقد يحسبها المرء جبال طبيعية لفرط التعرية التي أصابتها.
على نحو ربما يختلف نوعاً ما عما شعرته في معبد الشمس في تروهيليو (راجع التدوينة السابقة)، شعرت بشيء غريب في ذلك المكان كذلك، أمر غير مريح، قابض للنفس وربما مخيف على نحو غامض. صعدنا على أحد الجروف، وتكلمنا لبعض الوقت عن التاريخ ومحيطنا وحتى عن الحياة الآن. بعدما نزلنا ونحن نأخذ الطريق الذي قطعناه سابقاً، سألت ماقي إن كانت قد سمعت أو عاشت أي قصص غريبة بالمكان هذا؟. قالت بأنها تسمع الكثير، لكنها بالواقع لم تعش سوا واحدة؛ رافقت سائحة اسبانية بالمكان، وبعد بعض الوقت بدا الارتباك على السائحة وكانت تسأل إن كانت ماقي تسمع أصواتاً. لم تسمع ماقي شيء، وكلما تقدموا زاد ارتباكها حتى لم تعد تتحمل، وانتابها الفزع وطلبت العودة فوراً إلى السيارة. حينما عادوا لم تعمل السيارة لسبب ما، وخط الهاتف الأرضي كذلك، يبدو أن هذا حدث قبل سنوات طويلة. مشوا مبتعدين عن المكان والمرأة تبكي فزعة، حتى وجدوا شخص أعادهم بسيارته إلى المدينة. اتصلت بها ماقي في وقت لاحق لتطمئن عليها، فأخبرتها بأنها بعد سماع الأصوات المُعذّبة بدأت ترى وجوها حولها، وأشخاص فوق الجروف.
يقيم بعض السكان الأصليون طقوس علاجية بالغة القدم في المكان نفسه كذلك، لعلها تتعلق بالسحر كذلك، كما يعطى المرضى أو المتعبون مادة تستخلص من السبار المحلي تسبب الهلوسة، تستخدم منذ قديم الزمان وإن كانت ممنوعة الآن، إلا أنه يغض الطرف عن هذه الأمور الثقافية.
كنت قد قرأت حينما كنت صغيراً، ربما بالثامنة أو التاسعة، عن معالجين هنا، من فئة الشامان (شعبيين بطاقات روحية غالباً)، يستخدمون حيوان الكوي (الخنزير الغيني، أو ما يسمى لدينا خطأ بالوبر) بطريقة عجيبة. إنهم يدعكون الحيوان الحي على مكان المشكلة في جسد المريض، ثم يذبح الحيوان ويفتح جسده بالسكين، ليتم الإطلاع على العضو المقابل، حيث سيجدون المشكلة نفسها أو ما يشير إليها بالداخل، بدلاً عن فتح جسد المريض. أخبرت ماقي وقالت بأنها تعرف هذا، لكنها لم تخضع شخصياً لهذا النوع من العلاج ولا تصدق به، وتعتقد بأنه نوع من السحر، لكنها قالت بأنها متأكدة بأن هناك حالات مثلاً حينما فتح الحيوان وُجد في أعضائه التي يعاني في مثلها المريض بقعة سوداء دالة.
ماقي امرأة متدينة كشأن الأغلبية وبالمقياس السائد هناك، وهي ليست من السكان الأصليين أو مرتبطة بثقافتهم.




بعد ذلك، ذهبنا إلى المتحف، وتكلمنا كثيراً بالطريق حول مختلف الأمور، وسألتني عن العرب والعربية والإسلام. في البيرو يسود جهل مطبق حول الإسلام خصوصاً، والعرب كذلك. سمعت أسئلة، بعدما أقول بأني عربي، من قبيل: ما هي لغتكم؟ حتى أن امرأة سألت إن كانت لغتنا الدنماركية. يتسائل البعض إن كان الناس في السعودية نصارى؟ الدين مهم بالنسبة إليهم إجمالاً، ويبدو أنه يصعب تخيل دين غير النصرانية. كارلا سألتني ذات مرة، وكأنما لتؤكد معلومة لديها: أنت "مُسلَمَان"، صحيح؟.
كانت ماقي مهتمة جداً، ومهذبة. يقال لي في أحيان كثيرة أن أقول شيء بالعربية. غالباً ما أشرح أصل اسم فاطمة المنتشر كثيراً هناك ويحسبه الناس اسبانياً، فأخبرهم بأنه بالواقع اسم ابنة نبينا عليه الصلاة والسلام المفضلة، أو أخبرهم كيف نقول مريم أو عيسى عليهما الصلاة والسلام، وأشياء من هذا القبيل. وأجد التأثر والاهتمام بهذه المعلومات.
حدثنا قوادالوب عن ابنه، وهو صبي في الخامسة عشر من عمره وينافس في مسابقة رقصة المارينارا على مستوى الدولة، وهو سيخوض قريباً المنافسة، ويبدو أن الكل مهتم بنجاحه، فهم يأخذون الأمر بجدية كبيرة. تقول ماقي بأن الكل في المكتب الذي يعملون به يتابع المنافسة ويسأل عن ابن قوادالوب، الذي يحضر له والده مدرب متخصص، ليدربه هو ورفيقته بالرقصة، فتاة في الثالثة عشر. أراني فيديو قصير، وكان الصبي محترفاً، خفيف الخطوة، ورقصه جميل مع رفيقته الصغيرة.

وصلنا إلى المتحف، وهو متحف جميل، كانت أمامه مظاهرات أثارت ضحك ماقي، لاستخدام المتظاهرين أغنية حب، تتذمر من الحبيب وتصفه بالجرذ القذر لخيانته، في إسقاط على بلدية المدينة المنتخبة.
كان المتحف يعج بالذهب، المصوغات الذهبية المذهلة والعجيبة، حيث احترفت حضارات الشمال صياغة الذهب والفضة، وترصيعها بفن يعز مثيله بأشكال معبرة، ومشاهد كاملة من حياتهم. لكن للأسف، كان المتحف مظلماً لتركيز الإضائة على المعروضات اللامعة، وكنت قد نسيت كاميرتي بالعاصمة، وأستخدم جوالي فقط في الشق الأول من الرحلة. كانت الصور من داخل المتحف سيئة.
رأينا الكيفية التي يدفن بها ملوك المنطقة والحضارات المتعاقبة موتاهم، وكلها أساليب تعكس إعتقادهم المؤسف بعودة الملوك إلى الحياة. أم أنهم كانوا يفكرون بنوع من الآخرة، كالبعث لدينا؟ أي في دنياً أخرى؟. الله أعلم. الكل تقريباً يدفن محنطاً بإتقان بوضعية الجنين في الرحم، بعضهم يوضع مقلوباً رأس على عقب، وكأنما يوشك أن يولد، بينما يضاف إلى بعضهم أضاح من فتيات وكأنما هن على وشك الولادة، مع أخريات للمساعدة.
لا يمكن للمرء إلا أن يتأمل بأمر هؤلاء القوم الغرباء، آملهم ورؤاهم للحياة وما بعدها. ذلك الأمر، أو حتى الخوف، الذي يرافق الإنسان من حياة تالية، إذ يستعد لها ما استطاع، بما يعتقد أنه سينفعه، أو ما يعتقده أهله.

صرخة مولود...
لم ينجُ من ملحمة...
بطلها الدود...
حينما دفنوه كجنين بحزن...
أعدوه وكأنما سيعود...
وكأنهم لا يعلمون...
أن في هذه الدنيا مامن خلود...
وأن الأرض وإن كانت أماً...
فلم تكن يوماً رحمٌ ولود...


بالطبع، ما يوجد في العرض هي تماثيل متقنة. لكن الذهب والمعروضات الأخرى هي حقيقية. يوجد مجوهرات عجيبة وبالغة الجمال، وقد شرحت لي ماقي بأن بعض المجوهرات غير موجودة في البيرو، إنما أتى بها أهل ذلك الزمان بالتجارة على الأغلب من أمريكا الوسطى، وهذه دلالة على الاتصال بين تلك الحضارات. وقد شرحت لي ماقي تعقيد صنعهم للخلائط المعدنية للوصول إلى نتائج معينة، وهي عمليات بالغة التعقيد، وتبدي دون شك علمهم بالكيمياء والفيزياء على نحو شديد التطور.
يلبس أهل ذلك الزمان، في مختلف الحضارات في البيرو، ملابس جميلة جداً، للجنسين، وساترة، كيفما اختلفت من حضارة إلى أخرى، وهي تنم عن ذوق معقد وواعي لدلالات حسن المظهر والحضور. هذا فضلاً عن المجوهرات التي تزدان بالرموز وما يشبه القصص، وهي أيضاً تتحدث عن الذوق الرفيع آنذاك.
المتحف كان جميل جداً، ممتع جداً، بثراءه بالمعروضات الحقيقية، وإتقان تشكيل المقابر الملكية وطريقة تنظيمها ووضع الميت فيها، بكل ما يحوي الترتيب من رمزية بالغة.
استخدم الملوك والرهبان في الزمن القديم في الشمال قفازات ضخمة محلاة، لتقديم القرابين إلى ما يعبدون، وهي غالباً الشمس. حيث أن اليد البشرية أصغر وأحقر من أن تمد القربان. وتقول ماقي بأن بعض القفازات قد تحوي ميكانيكية معينة ليتمكن مرتديها من تحريك الأصابع والتحكم بها، ذلك أنه من المستحيل أن تدخل يده في أماكن الأصابع فعلياً.
ويرتدي الملوك والنبلاء وعلية القوم الكثير من الذهب على ثيابهم في المناسبات، لتعكس الشمس أمام الشعب وتظهر المرء بأبهة وتقرب من تشابهه بالآلهة. كما يرتدي بعض الشامان حلقات أنفيه ذهبية كبيرة وبأشكال مختلفة، تغطي الفم بقرص وأحيانا تمتد لتغطي على نحو أنيق جزء من الخدود. الغرض منها مختلف عليه؛ يقترح البعض بأنها لإعطاء عمق لصوت لابسها، وآخرين يعتقدون أن الغرض منها إظهار الحياد والعدل، بحيث لا يرى الناس تبدل تعابير الوجه، فلابسيها قد يكونون قضاة.


في نهاية المعرض، يوجد تماثيل متحركة في غرفة، تظهر ملك وحاشيته بملابسهم الأصلية، والعازفين والقادة الحربيين، لإعطاء فكرة عن حضور اولائك القوم. وهي تطلق أصوات عالية من الأدوات الموسيقية وصيحات الحاشية وضربات أسلحتهم على الأرض. أحد الأطفال اختبأ خلف أهله بسم الله عليه. بالواقع، كان وجود التماثيل والأصوات المصاحبة وحركتها مخيفة إلى حد ما، لتظهر مدى الهيبة التي تمتع بها علية القوم ربما في سالف الأوقات.

كمعظم المتاحف، ينتهي المتحف بمحل لبيع التذكارات. دخلنا وسألت عن بعض الأمور بمساعدة ماقي، ثم تركتني أتفرج كما يحلو لي وخرجت لتتحدث وتضحك مع بعض العاملين بالمتحف. يعرف المرشدين غالباً العاملين بالمتاحف والمواقع الأثرية معرفة وثيقة. كانت البائعة بالمحل امرأة كبيرة بالسن، رمادية الشعر، من السكان الأصليين، وهي ذات ملامح جميلة وحضور مريح، وكانت بنيتها كبيرة، أكبر من المعتاد، على الرغم من أن أهل الشمال عموماً ليسوا صغار البنية. اشتريت بعض الأشياء، وخرجت إلى ماقي، حيث اشترينا ماء لنا ولقوادالوب. وحينما هممنا بالخروج كانت البائعة بالمحل تنظف الرفوف العليا بطريقة مضحكة بالمكنسة، فعلقت ماقي باللغة الاسبانية فضحكوا، سألت ماذا قلت لها؟ قالت ماقي بأنها سألت إن كانت تؤدي طقوساً سحرية بهذه المكنسة. قلت: آه، يعني بروخا؟ (بروخا تعني ساحرة باللغة الاسبانية) ضحك الجميع وماقي التي قالت نعم، بروخا. قلت لكنها  بروخا جميلة جداً، فضحكت ماقي كثيراً وأخبرت الجميع بالاسبانية بما قلت فضجوا بالضحك، وضحكت السيدة المسنة وودعتنا شاكرة.

بعد المتحف، أخذنا قوادالوب للغداء في مطعم جميل، وقد اختارت لي ماقي، حيث طلبت منها ذلك، طبق أرز كانت قد وصفته لي. إنه يطبخ بنفس طريقة طبخ الكبسة النجدية، لكن بمكونات مختلفة، وطعم مختلف كذلك، وهو من أكثر المأكولات شعبية، خصوصاً في الشمال والوسط، حيث يكثر استهلاك الأرز. بالواقع، الأرز في البيرو من أطعم ما تذوقت على الإطلاق، وهو بالشمال غذاء يومي كما هو لدينا، لكنهم يزرعونه بكميات كبيرة، ولا يستوردونه، وفي رأيي جودة الأرز هناك لا تضاهى، وهو من النوع الذي أحب (لا أحب الأرز ذو الحبة الطويلة الذي يحبونه الناس لدينا). ذهبت ماقي ثم عادت وسألتني إن كنت أسمح لها بالجلوس معي إلى الطاولة. فوجئت بالطلب وأصررت أن تجلس، وتسائلت باستنكار لماذا حتى تسأل؟ قالت أن بعض السياح لا يحبون أن يجلس معهم المرشدون، ووصفت فعل بعضهم الأشبه بالطرد، وقد بدا على ملامحها الرقيقة الجرح والاستياء. يا له من أمر مؤسف، لماذا يأتي الناس إلى بلدان أخرى ولا يريدون أن يتعلموا من أهلها وعنهم شيئاً، ويتعاملون بفوقية كذلك. تكلمنا كثيراً حتى جاء طعامنا. كان الأرز الذي طلبته لي كما وصفته؛ أخضر اللون، بقطع دجاج تتخلله مثل الكبسة الحقيقية. كان رائعاً فوق الوصف. أخبرتها بأن الكوكاكولا رائع في البيرو، أفضل حتى مما تذوقت في مطار أمريكا وطائراتها، أعتقد أن السر يكمن في جودة السكر، حيث يضيف الأمريكان شراب الذرة كمحلي، لكونه أرخص فهم ينتجونه بكميات ضخمة، عكس السكر، أما في البيرو، فالسكر صناعة مهمة وبجودة عالية. قالت ماقي بأن السياح من أمريكا يقولون بأن الكولا أفضل في البيرو كذلك. إنها مثلي، عاشقة كبيرة للكولا، لكنها تحاول التقليل منه. وقد واجهت مشكلة كبرى حينما حملت بأبنها الوحيد، حيث توحمت على الكوكاكولا، وحدث أن تعبت في حملها فتركها زوجها لدى والدتها لتعتني بها، فكانت والدتها حازمة في منعها للكولا، مما كان يجعلها تبكي بالنهاية، وحينما يأتي زوجها من العمل ليراها يحضر لها قارورة.
غادرنا بعد الطعام إلى الفندق، لأرتب أغراضي حتى أمضي مساءاً إلى محطة الحافلات لأغادر تلك المدينة. بالمحطة لم تكن ماقي معي، ولا قوادالوب، أنزلني نفس السائق الذي استقبلني مع ماقي بالمحطة، حيث واجهت بعض الصعوبة في البداية حيث لم يتحدث أحد الانقليزية، قبل أن يُكتشف أمري بأني قلق ولا أعرف الاسبانية، فتعاطفت معي موظفة الاستقبال، واتصلنا بكارلا التي أخبرتها أني لا أدري متى تحل حافلتي بالضبط ولا أفهم النداء. فاعتنت بأمري. ولما جائت الحافلة أخذني شيخ يعمل بالمحطة وأراني مقعدي، وفتح لي منفذ التكييف في الأعلى وشرح لي بأنه الذي يقول: سس سس. جزاه الله خيراً، كم قدرت هذا اللطف.

غادرت الحافلة إلى محطتي القادمة، في جبال الانديز، حيث كان يجب أن أولد.


هذا ما لدي لهذه التدوينة، فيما يخص الرحلة.


اشتريت جهاز كمبيوتر، كرومبوك بكسل Chromebook Pixel، يعمل بنظام كروم من قوقل، مثل جهازيّ السابقين، سوا أنه الأعلى تكلفة ومواصفات. ورغم أني صدقاً لا أحتاج إلى مواصفات عالية، إلا أن خراب الجهاز السابق دون أن يكمل سنة جعلني أريد جهاز أقوى بنية ومكونات. لم أتمكن من شراؤه من متجر قوقل الرسمي، لكن هذا كان لحسن الحظ، حيث أن نسخة انترنت الجيل الرابع التي أردت كانت تكلف 1450 دولار، بينما وجدت رجل حصل عليه على ما يبدو من مؤتمر قوقل، حيث وزعته على الحضور، وكان يريد بيعه وهو لم يستخدمه أو ينزع تغليف المصنع، وقد باعه لي بـ1150 دولار. حالياً، يعتبر الجهاز صاحب أنقى شاشة في لابتوب يباع بالسوق، وشاشته عجيبة من حيث النقاء، وهي تعمل باللمس كذلك. له هيكل معدني أنيق، ومفاتيحه تضيء نفسها حينما تقل الإضاءة بالغرفة تلقائياً. وله خط مضيء خلف الشاشة، وجوده مجرد إضافة جمالية للجهاز، يضيء بألوان مختلفة، وهو لا يفيد المستخدم لكنه يجعل منظر الجهاز جميلاً ولافتاً للنظر، وربما جاذباً لبدء المحادثات مع الآخرين.








أما بالعمل، فالأمور إلى حد ما أفضل بالنسبة لي مما كانت عليه قبل سفري إلى البيرو، ارتحت في ذلك البلد واكتسبت بعض الإيجابية، لكن إن شئت أن أكون أكثر رضاً، فلا بد من العيش هناك، وهو ما لن يكون.
وجدت أن مواقف البعض تغيرت كذلك، ولا أدري ما السبب، لكنها تغيرت للأفضل.

لكن ما لم أعد أحتمله هو بعض المراجعين من النوع السيء. وبصراحة، معظمهم من الباكستانيين البنجابيين. يا إلهي، كم أجد احتمال بعضهم صعباً، الإلحاح، الكذب، التذاكي، المخادعة، رفع الصوت، المواقف الطفولية، كل هذه المساوئ تجتمع بهم على نحو عجيب، فهم ينقصهم الرشد إلا من رحم ربي. قد يقول أحدهم بأن ورقة قدمها، ضمانه، لم يرى فيها الموظف مشكلة قبل يومين، لماذا ترفضونها اليوم؟ يحاول المرء أن يشرح بأنه لا يوجد ختم ولا شعار والورقة غير مصدقة أو موقعة بأي شكل، مجرد ورقة مطبوعة يمكن لأي كان كتابتها، وأن الموظف، إن كان هذا صادقاً، كان مخطئ بقبولها، يتصرفون كالأطفال، مطالبين بأن نقبل الورقة العجيبة هذه، بكل مسئولياتها المالية والأدبية، لأنهم يدعون أن موظف من هنا لم يخالف عليها وهذا الرجل الباكستاني يعتقد أنه لهذا غير مسئول عن هذه الغلطة!. هذه النظرة الطفولية تجاه الأمور تجعلني أفهم لماذا دولتهم فاشلة، لأن هؤلاء مع الأسف هم المسيطرين على الأمور هناك، فنحن في نعيم من حيث العقول بالمقارنة.
وآخر، يساعد صديقه الذي يريد إصدار تأشيرة للخروج النهائي، وأخذ نسخة عنها (هي بالأساس مجرد ورقة مطبوعة، فلا يختلف الأصلي عن المنسوخ لأن المهم هو الرقم) دون أن يفي بالمتطلبات، فقط لأنه لا يريد ذلك. ثم يبدأ، المرافق، وليس صاحب الشأن، بسب النظام، والجامعة، ورفع صوته. أرى بوضوح بأن الكثير أنظمتنا فاشل، وأن الغالبية العظمى من الناس الذين أرى، الأجانب، لا يستحقون هذا العذاب بالإجراءات المعقدة، وليس القوانين بحد ذاتها، لكن بمواجهة مثل هؤلاء، أشعر بأن البعض لا يستحق أفضل من هذا.
كان صاحب الشأن هادئاً، وقد ترك كل النقاش للآخر، وهو ملتح متدين على ما أفترض. أخبرته بهدوء بأن هذا ليس أسلوب للتعبير عما يرى، قد لا يكون النظام عادلاً في رأيه، لكن الانتقاص من الناس والجامعة أمر سيء، وأني أقترح أن ينتبه لما يقول ويختار كلماته على نحو أفضل. علماً بأني كنت أترجم بينه وبين الموظف المختص، ولست أعطيه معلومات من عندي.
في اليوم التالي، جاء صاحب الشأن وحده، وقد أوفى بالمتطلبات في حالته، التي صدقاً ليست صعبة الإيفاء في الظروف العادية، وظروفهم كانت عادية ولكن كان ذلك المرافق يريد أن يفرض رأيه فقط ويقوم بالأمور حسب طريقته. ناداني زميلي، حيث طلبني صاحب الشأن، وقد حصل على تأشيرته وانتهى من الأمر، سلم واعتذر عن اسلوب زميله معي أمس، من رفع للصوت وتعبير سيء، وقال بأنه ما كان يجب أن يتصرف على ذلك النحو، لكنهما كانا مشدودان لعملهم على إنهاء الإجراءات المختلفة منذ ستة أسابيع. قلت بأنه لو كان أهدأ فقط وظهر بموقف أفضل لربما كان يمكنه سماع الرأي وفهم الدوافع خلف المتطلبات. اعتذر مرة أخرى، وودعني راحلاً. قدرت اعتذاره كثيراً، لأنه كان سيرحل وغير مضطر لهذا.
وعلى أي حال، لا يجب الخلط بينهم وبين الباكستانيين المألوفين، الذين يعملون بالمهن الحرفية هنا، من ذوي الأجسام الكبيرة، فهم مختلفون، هؤلاء الضخام من البشتون، وهم أفضل بكثير من البنجاب.
يوجد بالطبع استثناءات رائعة، عرفت أناس منهم من أروع من عرفت، دكتور في كلية الهندسة، ذو لحية كبيرة وعيون يكحلها بالاثمد، كان رائعا، رغم أنه انتقل للأسف إلى حائل، كما أني أشك بأنه من البنجاب. وبعض الدكتورات كذلك. وفي واقع الأمر، النساء دائماً أفضل من الرجال، أو في معظم الأحوال والاجناس.





اليوم، رأيت دكتور اردني بالمصعد، في عملي بالجامعة. كان المصعد مزدحماً، وكان يقف في آخره، بينما أنا أمام الباب الذي أوليته ظهري، حتى أواجه الآخرين احتراماً. كنا قد تناقشنا قبل وقت طويل، وللحظة فقط، حول أمر يتعلق باللغة العربية، ووعي الناس بها. لا أتذكر ماذا قلنا، لكن، أتذكر بأنه بعد تعليقي ورأيي، نظر بطريقة غريبة وأنهى النقاش مودعاً. بدا بأنه لم يتوقع أن يسمع رأياً، أو ربما استعدادي للتعليق على رأيه، حيث أتذكر بأنه أبداه بعدما علق على كوني الموظف الذي يتحدث الانقليزية، قد أجفله بشكل ما. أثار الأمر استغرابي في ذلك الوقت.

حينما خرجنا من المصعد، سلم علي وصافحني فجأة، قائلاً بأني أأدب شخص بالجامعة، داعياً لي بالتوفيق. ثم سألني إن كنت متزوجاً؟ قلت لا، فقال بأنه لو كان لديه بنت لزوجني.
قدرت ذوقه اللطيف كثيراً، رغم أني لا أفهم صدقاً كيف كوّن الانطباع، حيث أني بالمجمل أعمل غالباً مع غير العرب، لحاجتهم إلى مترجم.
مثل هذه اللفتات التي تأتي بلا مقابل هي معروف حقيقي بالنسبة لي، معروف لا أحصل عليه إلا فيما ندر.




أفكر بشراء دراجة قريباً إن شاء الله، وأريد أن أزودها بمقعد خلفي حتى أوصل والدتي عليها إلى مواعيدها بالمستشفى... أمزح، تخيل. لا، أريد أن أحمل أبناء أخواتي وإخواني الصغار بجولات عليها. لقد كنت أتمنى دراجة منذ زمن طويل، وقد حان الوقت.





سعد الحوشان