بسم الله الرحمن الرحيم
لطالما اعتقدت بأن سوء الفهم، بمعناه الحرفي، هو من أسوأ ما قد يصيب علاقة، وأكثر المصائب حزناً. لكن، ماذا عن الفهم الصحيح، ولكن المتأخر، أو البطيء؟. إن هذا لا يشبه سوا تلك المقولة المبتذلة؛ القانون لا يحمي المغفلين.
لم أفهم منذ صغري لماذا لا يحمي القانون المغفلين، خصوصاً أنهم دائما ما يكونون الطرف الأضعف في القصص. بالطبع، كنت أفهم المقصود، لكني لم أفهم لماذا كانت تلك العبارة مفحمة وحاسمة، لم أكن أتفهم هذه القسوة. إنها الحياة المادية على ما أعتقد، حيث تسود القسوة والجفاف. أعتقد بأن عدم تفهمي يعود إلى شعوري بأني قد أصبح مغفلاً، فكنت أشفق على نفسي.
الاستنزاف، الكذب، الابتزاز العاطفي، اللؤم والقسوة، التخلّي؛ كل هذه أمور قد خبرتها جيداً، وقد كنت مغفلاً بالفعل.
يخيل إلي أن ما مضى أخطائي في إعطاء من لا يستحق ما لا يستحق، وتوقع الكثير ممن لا يملك خلاف الكلام، وكذلك الأمل، الأمل المجرد العقيم؛ يكفي ليكون نصيب حياتي كلها من هذه الأمور، فأفترض أني سأحسن التصرف في المستقبل على نحو أفضل، سأحسن الاختيار، فأنا بطبيعتي انتقائي، لكن، يبدو أن الدنيا ليست عادلة، والخيارات التي تطرح لا تختلف كثيراً. فأبدو أحمقاً بالنهاية، أو مجنوناً.
ولطالما أشغلتني فكرة العذر، العذر الذي ينتظره بعض الناس في بعض علاقاتهم، مثلي. كانت فكرتي دائماً هي أن بعض المشاكل في العلاقات تُتخذ عذراً لإنهائها، أو تحجيمها على الأقل، وإن كان ظاهر الإشكال لا يحتمل قطع العلاقة ولا تحجيمها. يوجد أسباب مختلفة لهذا، قد تكون التراكمات، أو الشعور بعدم الإطمئنان، أو عدم أهمية العلاقة ككل لأحد الأطراف.
مع بعض الناس، تُحتمل الكثير من الغلطات، ومع آخرين، للهفوة الجارحة وقع هائل التأثير، حسب أهمية العلاقة أو وضعها فيما أحسب، فمن نصبر عليهم ونحتملهم كثيراً ونسامحهم يهمنا أمرهم أكثر، أو نرى مستقبل أكثر اثماراً لعلاقتنا بهم. لكن لا يعني هذا أن الصبر بلا حد، ولا يعني أن تقديرنا صائب دائماً. قد يستنفد الصبر بلا جدوى، وقد نخطئ التقدير ونتوقع من البعض أفضل مما يحسنون ويمكنهم. لهذا، حتى مع العلاقات المهمة التي نتحمل الكثير في سبيلها، لا بد من إعادة النظر المستمرة، حينما يبدو أنها تستنزف الوقت بلا طائل، وأن المعروف لا يجدي نفعاً.
مع ذلك، يوجد علاقات محيرة، تراوح بين الأهمية وعدم الصلة بالواقع، ربما لأجل معطيات متناقضة لدى الشخصيات، أو لفوارق فكرية عميقة. يحار المرء أمام هذا الضرب من العلاقات، خصوصاً مع اتصال التجربة مع شخصيات أخرى على جانب كبير من الاختلاف، بعلاقات فشلت. قد تجذب المرء طيبة أحدهم على سبيل المثال، رغم كل الاختلافات، لكن الاختلافات تبلغ من العمق ما يفضي إلى اصطدام حتمي، أو إلى خيانة للتوقعات على الأقل.
رمضان، تذكير سنوي بالكثير من الأحداث، بحيث أني اؤرخ حياتي به، إلا أني بدأت أخيراً بالشعور بالحيرة تجاه ما أتذكر، ووقت حدوثه. لعل الأمد طال بي فقط وباعد بيني وبين ما كنت أعتبره مهما مما حدث في حياتي، أو، لعل ما كان مهماً لم يعد كذلك.
أجد نفسي مع والدتي في الإفطار والسحور في رمضان، وحيدين في غالب الأيام. سألني زميلي الملتزم الكبير في حينه، إذا ما كانت تجمعاتنا العائلية قد ازدادت، قلت لا. بالواقع، لقد قلت كثيراً في رمضان.
لقد كفيت عن رؤية هذه المدونة كالتزام منذ زمن بعيد، لعل لتبدل أحوالي خلال بضع السنوات الأخيرة قد أخل بتوازن علاقتي بها. مع ذلك، عدت إلى سابق عهدي مع حياتي منذ فترة الآن، أطول مما قد يبدو، ولعلي ايقنت بهذا مؤخرا فقط. لكن، ما لي لا أرى هذه الفسحة الافتراضية ذات قيمة كما كانت؟.
كنت قد ذهبت لأحضر كوب نسيته، في ثاني يوم في العمل بعد إجازة عيد الفطر، حينما لاحظت وجود زميل عزيز جداً لم يكن حاضر في أول يوم، وعليه، ذهبت للسلام عليه. لطالما كانت علاقتي به في شد وجذب، ومؤخراً، بدأت الأمور تأخذ طابع محايد يميل للإيجابية. دعاني للجلوس معه وزملاء آخرين بإصرار، عارضاً تقديم شاي أعده بنفسه بالمنزل (لم يكن جيداً). طالت الجلسة، وقد كنت سعيداً بها، إذ أني لا أجد من أجلس معه بالعادة باستثناء زميلي الملتزم الكبير. وبينما كنا نتناقش بأمور مناطقية، والتغيرات الاجتماعية الطارئة، قال زميلي العزيز هذا بأنه لا يسمح بأن يقال عليه قصيمي. لا شك لدي بأنه لم يقصد جرحي، ورغم معرفتي بأنه قد تكون له وجهة نظر سلبية بأهل القصيم، إلا أني أعرف كذلك بلا شك بأن لي اعتبار كبير في نفسه، رغم أني من القصيم. أعتقد أن نظر أحدهم قد توجه إلي، بإحراج. لكني لم أقل شيئاً. مع ذلك، شعرت بالجرح ونوع من خيبة الظن. في وقت سابق، كانت العلاقة أكثر دفئ فكنت أناقشه في مثل هذه المواقف، وكنت قد بينت له خطأه في نظرته إلينا بوضوح في وقت قديم، لكن هذا لم يعد ممكناً.
رغم سعادتي بدعوته لي للجلوس والوقت الممتع الذي قضيته بالتحدث (لم أتحدث هكذا منذ أشهر أو ربما سنة، أو ربما أكثر، لا أتذكر)، إلا أني شعرت بثقل في نفسي، لعله ثقل سوء الفهم، أو على الأقل سوء التقدير، من شخص عزيز لا أريد جرحه بالمقابل.
قلبت الأمر في ذهني حينما فض المجلس، ورأيت كيف أن التقدير والمحبة تتجاوز الجرح أحياناً، حسب الشخص، ففي حين أساء شخص آخر إساءة مقاربة تسببت بتقليص علاقتي به بسهولة، فلم يكن غالياً حقاً، وبالواقع، كنت قد وجدته من النوع كثير الأخذ قليل العطاء، من حيث مقاربته للعلاقة بيننا.
ذهبت إلى زميلي الملتزم الكبير، حيث أصبح مدير قسم تابع إلى إدارتنا، ولم يعد بالجوار تماماً كما كان، غير أنه لم يبتعد كثيراً. أخبرته بما جرى، وقال بأنه يستغرب هذه النظرة إلى أهل القصيم، فهو يجدهم أذكياء وذوي حيلة، ووصف ابن شقيقته، وهو من القصيم، بإعجاب، فهو مثابر ما شاء الله، قوي العزيمة، ذكي وفعال. ثم عدد الصفات التي تعجبه في أهل القصيم. قلّبت الأمر في ذهني، ومؤخراً، صار يخطر في بالي كثيراً بأني لا أملك سمات كثيرة يتوقعها البعض مني، أو سمات لعلي كان يجب أن أتحلى بها، بحكم البيئة والموروث. قلت بأني لست مثلهم بشيء. أشعر بالأسف لهذا، إني لا أملك الجلد، ولا الفطنة التي أراها في كثير منهم. حاول إسعادي بالاحتجاج بأني أعرف الكثير من الأمور. لكني واقعي تجاه الأمر، إني لا أعرف الكثير ولا فائدة حقيقية مما أعرف، وعبرت له عن هذا، وهو قصد معرفتي عن أمور دنيوية وفكرية عموماً. ما الفائدة حقاً؟، إني أراوح مكاني، وما أتخيل بأني حصلت عليه يختفي كالحلم. الحمد لله على كل حال، والحمد لله كثيراً.
قال أخي ذات مرة مازحاً بسخرية، بأني من ذوي الدماء الزرقاء، في سياق نقاش دار حول القصيم ودفاعي الذي لا يتزحزح عنه وعن أهله. وأخبر من معنا بأن لي ولاء عجيب للمنطقة. وكان يريد بوصفي هكذا أن يصف ولائي وتقديري لشأن القصيم وأهله على وجه العموم.
مع ذلك، كان الشخص الذي حجمت علاقتي به، بسبب غلطة جارحة، من أهل القصيم، فيما وجدت قدر أكبر في نفسي لشخص لا يبدو أنه يقدر أهل القصيم كثيراً. لا أحد كامل.
أكد ما قاله زميلي الملتزم الكبير على ما أشعر به منذ فترة وعلى نحو متفاقم تجاه نفسي، إني لم أعد أملك الجلد ولا الطاقة لأحلم وأطمح.
دعك من الابتسامة...
والضحكة الرنانة...
وانظر إلى العينين...
واسأل...
"هل أنت على ما يرام؟"...
وانظر إلى العينين...
هل من بريق؟...
ما من بريق...
دعك من طول الحكاية...
والنوادر الجذابة...
وانظر إلى العينين...
وقاطع...
"لكن هل أنت على ما يرام؟"...
وانظر إلى العينين...
هل من ضياع؟...
هناك الضياع...
دعك من البلاغة...
والأفكار الخلاقة...
وأنظر إلى العينين...
واحتج...
"ليس هذا كل ما هنالك"...
وانظر إلى العينين…
واغرق في الفراغ المظلم الموحش…
ولا تجزع...
حتى تمس قاع الحزن المقيم…
حتى تمس قاع الحزن المقيم…
لعلك تفهم...
مرت أشهر الآن على تجربتي في سويسرا، لكني أعتقد أن تأثير تلك التجربة الهادّة لا زال قوياً على روحي ومعنوياتي. قبح الله ذلك البلد وأهله.
أعتقد بأنه غير رؤيتي للكثير من الأمور للأسوأ.
أشرب الكولا قبل قليل في برقر كنق، وأحاول أن أكتب. تواجد عشرة صبيان لعلهم في منتصف الثانوية أو نهايتها، وملئوا المكان زعيقاً وتصفيقاً، بحيث لم يتمكن سواهم بالمكان من التحدث وسماع رفيقه. لم يمر علي إزعاج كإزعاجهم. وقد هممت بالقيام لقول شيء لهم، وقد سبقني شاب وأشار إليهم بخفض أصواتهم، ولم يجدي النصح كثيراً. وللأمانة، كان هناك صبيين يحاولان تهدئة البقية بإحراج، دون جدوا. حينما فرغوا وهموا بالخروج، اعتذر مني أعلاهم صوتاً، فلم أجب سوا بإشارة برأسي، أما صاحب التصفيق، ولم أسمع تصفيقاً أكثر حدة من تصفيقه، حتى خيل إلي بأنه دهن يديه بزيت الزيتون خصيصاً للمناسبة، فلم يعبأ بأحد. لكن، جاء أحد من حاولوا تهدئتهم، وبدا أنه حسن التربية على نحو استثنائي، ورغم أنه لا يستحق، إلا أني لم أستطع منع نفسي من الانتقاد المنفعل إلى حد ما، وقلت بأني لاحظت محاولاته وزميله لتهدئة البقية وأني أقدرها، لكن يجب أن يكلمهم بشكل جدي، فهم يشوهون سمعة أبناؤنا، إنهم لا يدركون أنهم ليسوا وحدهم في ملحق منزل، ولو أراد شخصين التحدث مثل الجالسين أمامي لما استطاعا. كنت قد أصبت بصداع وتلف أعصاب من وجودهم. اعتذر بإحراج، ووعد بأن يتحدث معهم.
بالواقع، إني أرجو أن يبتعد عنهم كلياً، فقصصهم كانت سمجة وألفاظهم كانت سوقية.
في مثل هذه اللحظات، أندب حظ مجتمعي بشدة.
وفي يوم آخر، بينما ذهبت إلى المطعم لشراء وجبة اشتهاها شقيقي الذي لتوه عاد من السفر، وجدت مراهق يبدو عليه الاستهتار الذي أصبح معتاداً، ولكن الغريب كان أن هذا الاستهتار كان بحضور والده. فوجئت بهذا المراهق ينظر تجاهي بازدراء غريب، وحالما رأيته والتقت عينينا، صد وضحك بشدة، ولست أدري ما المضحك في وجهي. وظل يضحك ويقهقه، وقد ابتعد قليلاً. عدا أنه يرمقني بين الحين والآخر. حينما فرغ والده من الطلب، وأخذت طعام شقيقي، وجدت الأب يمشي مع ابنه وقد بدا محتاراً من ضحكه. سأله ما به؟ فقلت أنا للأب وقد كنت قد وصلته ماضياً: لعله شيء مضحك في وجهي. بدت المفاجئة على الأب، ولم يساعده أن ابنه انفجر ضاحكاً بلا حياء. قال الأب: لا لا ما يقصدك!. لكني خرجت دون التفاتة أخرى.
لقد بلغ سوء التربية لدينا هذا المبلغ.
لقد بلغ سوء التربية لدينا هذا المبلغ.
ذهبت وشقيقتي إلى معرض إثراء المعرفة، الذي أقيم بالرياض. سمعت الكثير من المديح لكل جوانب المعرض، من حيث الأفكار والتنظيم. بالواقع، لم يهمني المعرض إطلاقاً، بخلاف أمر واحد؛ معرض ألف اختراع واختراع، الذي مر بالجامعة قبل سنوات، وكان رائعاً رغم محدوديته، رائع جداً، وكان هذا ما أردت أن أراه مرة أخرى. لم يكن من تنظيم أرامكو في ذلك الحين، بينما معرض إثراء المعرفة من تنظيم أرامكو؛ أعتقد أنه تعاون بين أصحاب المعرض الأول وأرامكو.
للأسف، خاب ظني كثيراً في معرض الاختراعات. هو أساساً يتحدث عن إنجازات المسلمين القديمة، وحينما عرض بالجامعة، كان يحتوي على نماذج بديعة من الاختراعات القديمة. أما في إثراء المعرفة، فقد كان عبارة عن عروض مسرحية وأداء لأدوار العلماء والعالمات القدماء. بدا الأمر لي على جانب كبير من الافتعال والسخف، لم توجد نماذج للإختراعات كتلك النماذج البديعة. ربما الحسنة الوحيدة هي وجود مكان لبيع الكتاب الرائع الذي حصلت عليه قبل وقت طويل، لكن أرجو أن يحصل عليه الآخرين كذلك من المعرض.
سَمِعَت أرامكو مديح الناس لحسن تنظيمهم، فبالغوا بالأمر حتى أصبح اعتباطياً لا يطاق في بعض الأحيان. مثلاً، في قسم أسماء الله الحسنى، دخلنا صالة مزدحمة بمدخلين، لم نتعدى المدخل سوا بمتر حتى أدركنا أننا لا نريد المكوث، لكن الشاب المتطوع رفض خروجنا من حيث دخلنا، لنقطع الصالة المزدحمة للباب الآخر.
كما حشروا الناس لفترة في مسار محدد، ورغم سعة الممر الأصلية إلا أنهم ضيقوه بالحواجز، وقد مل الناس وكان الرجل لا يستطيع التحرك بسبب كثرة النساء، وأطالوا كثيراً، حتى يتكلم أحدهم مقدماً ذلك الشق من المعرض، على نحو إجباري.
لم يعجبني. لم أعتقد أبداً أن دور أرامكو التدخل بالثقافة، ولولا ألف اختراع واختراع لما ذهبت، لكن يبدو لي أن هناك إصرار على إعطاء هذه الشركة دور مريب في الثقافة العامة.
خرجت قبل فترة بدراجة اشتريتها، كان خروجي الأول بها من المنزل. وخلال عودتي، أفلت الجنزير من مكانه وضرب ساقي، جارحاً إياها. لم أخرج مرة أخرى بالدراجة. أعتقد أني يجب أن أستثمر بدراجة أعلى جودة، رغم أن هذه من محل معروف وكبير.
تنتظرني رحلة في المستقبل القريب إن شاء الله. لعلي بدأت بالعمل عليها بعد عودتنا من سويسرا بفترة قصيرة. أعتقد أني لا زلت تحت تأثير رحلتي التعيسة إلى سويسرا. إن ذلك البلد بأهله بقدر ما رأيت هو السم نفسه. أعتقد بأنه سممني بشكل ما، على المستوى الروحي والمعنوي.
أجد نفسي أقل حماساً مما كنت عليه في تخطيطي لرحلتي إلى البيرو، وفي انتظاري لها، لكني أرجو أن تعكس الرحلة المقبلة تأثير سويسرا على نفسي، فلعل زيارتي لها هو سبب إحباطي المستمر.
يجب أن أشتري ملابس، لقد استهلكت ما لدي، وصرت أعترف بأن قدم تصميم معظم القطع ما عاد ملائماً للبس. أكره التسوق لشراء الملابس الآن، قد أحب البحث عن حذاء، شال مختلف، قبعة، أي شيء يمكن لبسه مع الثوب، لكني أكره البحث عن بديل للثوب من الملابس الغربية. وبالواقع، اكتشفت بأنه لبعد عهدي عن شراء هذه الملابس الأجنبية، صرت لا أعرف كيف أشتريها، وكيف أختارها، لقد تلف ذوقي تجاهها أيما تلف. وجدت نفسي عاجز ومرتبك حينما ذهبت لأجرب شراء الملابس للرحلة المقبلة.
لكن، لا زالت نفس الألوان تجذبني وأحبها، منذ كنت لا أخالف على لبس هذه الملابس من وقت إلى آخر أيام الشباب؛ الأحمر الغامق الأرجواني إن كان وصفي صحيحاً، الأزرق البحري حسبما أتخيل، الأبيض، الحليبي الذي لم يسبق لي شراءه ولا أدري إن كان يدعى هكذا فعلاً. ولا زلت أفضل البناطيل القصيرة تحت الركبة أو عليها. لكني لم أتمكن من شراء شيء مؤخراً، سوا قطعتين استحي أن أريها لأحد.
لقد كنت مقصداً لطلب المساعدة لبعض المعارف، رغم أني كنت في ذات الوقت محل ازدراء آخرين ذوقياً. لكن الآن، انقلب الحال تماماً؛ إني لا أعرف كيف أختار لنفسي.
الرحلة كانت محل اعتراض وفقدان للصبر بالنسبة لوالدتي، حيث بدا أني أفلتْ الحياء منذ الرضا عن زيارتي للبيرو. لكنها الآن لا تخالف كثيراً، علي فقط أن لا أتأخر هناك.
البيرو... شجني اليومي، وحنين قلبي الدائم...
أرسلت أسأل موظفة الوكالة السياحية التي ساعدتني على الترتيب لرحلتي إن كانت ترغب بشيء معين من السعودية، واقترحت بعض ما نشتهر به من أمور، وقد كانت ناصحة أمينة صدقاً، وواقعية، ولطيفة، وقد ثنتني عن خيارات مبددة للمال بنصائحها الجيدة التي ثبت رجوحها. إنها ليست بصبر كارلا التي ساعدتني في رحلة البيرو، بالواقع؛ كارلا امرأة مميزة بكل شيء، لا يمكن للمرء أن يتخذها مقياساً فيظلم الآخرين. أجابت المرأة، واسمها باربرا، بالشكر والتقدير، والتعبير عن أن وصولي إلى هناك من بلدي البعيد والغامض وجعلهم يساعدوني في إجازتي هي أكبر هدية. لكن إن كان ولا بد، فهي تتمنى الحصول على مصباح مثل مصباح علاء الدين، ليتمنى كل من في الوكالة ثلاث أمنيات. أعرف بأني رأيت مصابيح تقليدية تباع بالرياض كزينة لكني لا أتذكر أين، إن وجدتها مرة أخرى وإلا فهدية جيدة أخرى، إنها تستحق بلا شك.
قريباً جداً، سأستقل سجادتي السحرية، أو طائرة الخطوط الفرنسية، إلى هناك.
أرجو أن لا أعود إلى سويسرا مرة أخرى. لكن، قد يحدث، الله أعلم. سألني أحدهم قبل فترة بسيطة إن كنت لن أعود أبداً طالما هذه تجربتي. قلت بأني قد أعود إذا ما كان علاج ابنة أختي سيستكمل هناك، فالعافية لا تقدر بثمن. لكني أرجو من كل قلبي أن يتمكن طبيبها هنا من مساعدتها كما وعد، بعدما اشترط تلك العملية التي قمنا بها في سويسرا لاستكمال علاجها لديه. أما إن لم يكن، فلا خيار سوا العودة إلى ذلك البلد الكريه.
في المكان الجديد لقسمنا، الذي مضى علينا فيه الآن بضعة أشهر، أجد نفسي أكثر ارتياحاً وتحرراً مما كان حالي عليه في المكان القديم. لقد نزلنا في الطابق الأرضي، وصرنا في البهو الرئيسي، بمكان شديد الانفتاح مقارنة مع مكاننا السابق، الذي اكتض عبر السنين بالموظفين، وتقلصت إطلالته الجيدة على البهو بفعل عميد حمار بقي على رأس عمادتنا عدة سنوات، قاتله الله.
لا زال مكاني بعيد عن أي نافذة، لكن صار ضوء الشمس رغم الستائر يصل إلى القسم المفتوح، ويمكنني الذهاب من وقت إلى آخر إلى أقرب نافذة حينما يغيب صاحبها، وأطل على واجهة مبنى الكلية الذي تخرجت فيه، قبل أن تنتقل كليتي إلى مبنى مستقل. أكاد أرى نفسي وزملائي نخرج من المدخل الرئيسي أو من باب آخر، بعد فراغنا من المحاضرات أو الامتحانات، في أول سنواتي هناك بصخب وألفة، وفي آخرها بوحشة ووحدانية.
إني متروك وشأني هنا على وجه العموم، كما كنت لفترة طويلة، والحال من هذه الناحية لم يتغير بتغير المكان.
حينما عدت من سويسرا، كان مكاني مجهز بحاسبي، وأغراضي منقولة إلى ما أختير ليكون مكاني، إلى جوار مكتب المدير. وجدت الخيار غريباً إلى حد ما، حيث كان لدى مديري بالسابق إصرار على بقائي قرب طاولات الاستقبال، حال الحاجة إلي هناك. لكن لا يختلف الأمر، ولعله أريح على هذا النحو.
أخرج كل يوم لزيارة زميلي الملتزم الكبير، الذي أصبح مع السنين أرق بكثير وألين جانباً، وإن حاول أن يمحو ذاكرتي رغماً عني أحياناً. يسأل عني أحياناً حينما لا آتي، ويبدو أنه يوسوس بسهولة أني غاضب عليه، لكن هذا قد يحدث معه على وجه الخصوص بسهولة بالواقع، فلعله على حق...
تعطلت بطاقة الصراف لدي قبل فترة بسيطة، فذهبت إلى المصرف لأرى ما المشكلة. تبين أن الجميع بطاقاتهم متعطلة لإجراء تحديثات كما يقولون. لا أدري لماذا لا يتم تنبيه الناس قبل هذه التحديثات. كان لدي لحسن الحظ ما يكفي في جيبي، لكني كنت قد تورطت خلال وجودي في الجامعة لعدم وجود صرف في جيبي. علق مازحاً أحد العاملين بالبنك، وقد كانوا مجتمعين يتكلمون ويضحكون لخلو المكان من العملاء، بأني أتصرف وكأنما في حسابي مئة مليون. رددت متسائلاً؛ وما يدريك؟ لعل في حسابي مئة مليون، أو سيماهم في وجوههم؟. ضحكوا، وقالوا بأن صاحب المئة مليون لن يهرع مسرعاً لأن البطاقة لم تعمل. ثم سألت عن القروض، فضحكوا معلقن على حكاية المئة مليون التي لم يمضي عليها شيء.
خرجت من البنك، وسألت نفسي؛ ماذا لو كان معي مئة مليون؟، أجبت تلقائياً في نفسي: سآخذ والدتي ونعيش في البيرو.
صار الحصول على مياه جيدة بكمية اعتدت عليها وسعر معقول أمر صعب فجأة. لا أدري لماذا. إني أشتري كل أسبوع حزمة من ست قوارير سعة كل منها لتر ونصف. صحيح أني منذ فترة طويلة لم أعد أجد خيارات كثيرة، لكن كانت بعض الشركات متوفرة بكثرة، خصوصاً تنورين، وحتى وقت قريب، نورد. أما منذ فترة، لم أعد أجد سوا المياه المحلية، وهي على وجه العموم ليست جيدة إطلاقاً. إني آخذ علبة كل يوم إلى العمل لأشرب، لذا لا مفر من شراءها فرادا وبسعر مرتفع من أنواع لم أكن أضطر إليها إذا لزم الأمر.
في الجلسة التي حكيت عنها في مكان ما بالأعلى، حينما جالست بعض الزملاء، وهو حدث نادر، تطرق زميل لطيف، يميل لمناداتي بقوله: خالي، وذلك بحكم قرابة بعيدة بيني وبين أخواله من منطقة غير القصيم، أقول تطرق إلى مسألة القرابة، ووجدت لديه سوء فهم رهيب تسبب به زميل في قسم آخر. يدعي الزميل من القسم الآخر، وهو من ينتمي إلى معرفة عائلية لدينا، أنه ابن عم لي، من حيث أننا لنا نفس النسب والجد. وهو أمر حسبت أن عائلته قد كفت عن الإدعاء به، لأنه غير صحيح قطعاً.
قلت وقد استبد بي الضيق بأن هذا غير صحيح. صُدم الرجل، وقال بأن زميلنا ذاك هو من أخبره بهذا، فقلت بأنه مخطئ، وأنهم يدعون هذا لكنه غير صحيح. إني على تمام الثقة أن ذلك الرجل لا يجرؤ على هذا الادعاء أمامي.
يجب أن يتذكر الجميع أن النسب ليس كل شيء، ولم يضر بلال بن رباح أنه أسود، ولا سلمان الفارسي أنه أعجمي، لكن ما يضير المرء أمام الله هو انتسابه لغير أبيه، ومن ادعى انتسابه لعائلة ولجد ليس جده، وكأنما انتسب لغير أبيه، وتجوز عليه لعنة الله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( وَمَنْ اِدَّعَى إِلَى غَيْر أَبِيهِ أَوْ اِنْتَمَى إِلَى غَيْر مَوَالِيه فَعَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ )
وقال: ( لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ)
وقال: ( مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ)
هل يفضل الناس النسب على رحمة الله؟.
إن ما أريد أن أوضحه هو أنه لطالما كان حوشان مدينة المذنب أسرة محدودة العدد، واضحة التاريخ، ولم تنقسم، ولم تأتي القصيم مع مجموعة من الأسر. وعليه، لا أبناء عمومة لنا في المذنب ولا كل القصيم، نحن فقط أسرة الحوشان في المذنب، ولا اسم آخر لنا أو ابناء عمومة في المنطقة ذاتها، وأبناء عمومتنا خارج القصيم، ولا يتسمون بنفس اللقب العائلي، نعرفهم ويعرفوننا.
قد يكون الآخرين ممن يدعون الانتساب لأسرتنا دواسر، وقد يكونون أي شيء آخر، الله أعلم، ولا يهمني الأمر، لكنهم بكل تأكيد ليسوا منا ولا أبناء عمومتنا، وهم كاذبون منتسبون لغير أبيهم. والله على ما أقول شهيد.
إنه لشيء خسيس الانتساب إلى جد ليس بجد لك، والأكثر خسة من هذا هو المصادقة على هذا الإدعاء بعقوق وتجاهل تام لمن عاش ومات من قبلك، وكان سبب بوجودك بالحياة بعد الله.
زرت الورشة حيث يعمل ميكانيكيي الطيب، وهو رجل سوري أعرفه منذ شرائي للسيارة تقريباً، وقد تحدثت عنه عدة مرات هنا. لا يوجد مشكلة تعيق السيارة عن العمل أو السير، لكنها تحتاج إلى صيانة مكثفة على ما يبدو. لكن كنت أريد كذلك زيارة الورشة لغرض ظللت أؤجله منذ زمن طويل الآن؛ لطالما أردت أن أدعو محمود إلى العشاء. لم يقصر أبداً عندما واجهت مشاكل في سيارتي، طوال السنوات الفائتة، وليس الأمر متعلقاً بالمال، لكنه لطالما بذل أكثر مما هو مطلوب منه، وراعى عدم معرفتي بشؤون الإصلاح حتى لدى الورش الأخرى حينما نحتاجها. رغم ما يشوب حضوره من وقت إلى آخر، من جدية زائدة أحياناً، أو جمود، إلا أنه لطالما تصرف بأحسن ما يستطيع تجاه ما هو مطلوب لإصلاح السيارة، وفي الفترة الأخيرة الممتدة، كان قد أصبح كذلك ودوداً على الدوام، لطيفاً ومقدراً، رغم ضآلة ما يكلف إصلاح سيارتي، وبالتالي ربحه منها.
فكرت بأني دائماً ما أكون كريماً تجاه من لا يستحق فعلاً، إلا من رحم ربي.
كنت قبل سنوات قد أعطيت محمود هدية، تقديراً لمجهوداته؛ لكن بدا أن الهدية حيرته في ذلك الحين، ربما لم يتعود على الحصول على هدايا، ربما ليس على هذا النحو ومن هذا النوع من العلاقة.
أخبرته بعدما أملى علي أسماء القطع الغريبة التي يريد مني شراءها، وتأكد من كتابتي لها على نحو صحيح، فأنا أعرف بأنه لا يحب شراء القطع بنفسه لمشاكل واجهها سابقاً، لذا لا اطلب منه ذلك. قلت بأني أردت أن أدعوه للعشاء منذ زمن طويل. تلقى الاقتراح بذوق كبير، أثار اشتباهي بأنه لا يأخذه بجدية. فأصريت وأنا أخبره بأني فعلاً أود أن أدعوه، ولدي الوقت متى ما أراد.
في المرة الفائتة، كنت قد سألته في خضم حماسه وهو يوجه العاملين بالورشة، إن كان يأخذ إجازة أبداً؟ لا أتذكر على امتداد السنوات أني طلبته ولم أجده بالورشة. أحياناً أتصل حتى لأخذ استشارة لغيري، وأجده بالورشة، يقترح إحضار السيارة ليحدد المشكلة. إنه سؤال يحيرني دائماً. كان رجل سوري وابنه قد هموا بركوب سيارتهم والرحيل، بعدما أصلحها محمود، ولم يبدو أنهم على معرفة وثيقة به، ولسبب ما، شدت المحادثة العفوية انتباه الرجل، وبدا أن مجرد تحدثي مع محمود بهذه البساطة، وليس السؤال نفسه، قد لفت انتباهه، فوقف بالقرب، وكان يحملق بي بوضوح، رغم أن حضوري لم يلفت انتباهه سابقاً. انطلق محمود بحماس ليتحدث عن الأمر. أخبرني بأنه لا يأخذ إجازة أبداً، فليس لديه شيء يقوم به خلافاً للعمل، ولا مكان ليسافر إليه. إنه لا يحن إلى سوريا بعدما وُلد ودرس وعاش هنا، وحتى لو، من يذهب إلى سوريا في ظروفها هذه؟، وحينما يبقى بالمنزل لأي سبب، كإجازة العيد، يشعر بالملل وأنه في غير مكانه، ويسبب فوضى وإزعاج بكثرة ملاحظاته. لذا، لا يوجد شيء آخر للقيام به. لقد تأثرت كثيراً، على نحو أكثر تعقيد مما قد يتصور المرء، تأثرت بأنه لا يستريح ولا يرى سبباً للراحة، رغم أنه لا يبدو سعيداً كذلك حتى وهو يقوم بما يقوم به، مما استشفيته من محادثات أخرى، فظروف حياته يمكنها أن تكون أفضل بكثير، وتأثرت لأنه يبدو وكأنه يائس من القيام بأي شيء، وكأنما يعلم مسبقاً بأن لا شيء سيسره.
أطال الحديث في ذلك اليوم، وسرني سماع كل كلمة، إذ بدا لي أنه لا يجد المجال بالعادة لقول هذا لأحد، ربما لأنه لا أحد يسأل.
سبق لي وأن لم يسأل أحد، والآن عدت كما كنت، لا أحد يسأل. لذلك أعرف جيداً ما قد يشعر به محمود، وأحكم جيداً لأني أعرف كيف قد يتصرف من هو بمثل هذا الوضع، مع فارق الشخصيات، واختلاف قوة رد الفعل بناء على ذلك.
حينما دعوته للعشاء وأبديت اصراراً، قال بأنه يود ذلك لكن مشكلته بالوقت، وشرح لي برنامجه اليومي الذي لا ينتهي قبل الساعة الحادية عشر في المساء. أما يوم الجمعة، وهو اليوم الذي لا يأتي به للعمل، أخبرني ببرنامج مضغوط منذ استيقاظه من النوم، وحتى المساء، إذ أنه اليوم الوحيد الذي يمكنه أخذ أولاده به للنزهة. اقترحت بأن يغادر في يوم يجد في نفسه الرغبة فيه العمل مبكراً، ويخبرني متى لائمه الوقت، فكل الأيام ملائمة لدي. قال بأنه يود ذلك، وسيرى ويخبرني. أخبرته بأني لن أتركه في حاله حتى ذلك الحين، فضحك.
حضرت البارحة حفل زواج، دعاني إليه شقيق العريس، وهو زميلي بالعمل، ومن أسرة تربطنا بها صلة قرابة بعيدة. نسقت للحضور مع زميل آخر، وهو صديق الداعي الوثيق، حيث أنه يأتي من حي بعيد جداً، بينما قاعة الأفراح مجاورة لحينا. جلسنا، وجاء زميل آخر، وبدأنا التحدث جميعاً، ثم زميل آخر. لكن ما أذهلني تصاعدياً هو عدد الحضور ما شاء الله تبارك الله، لم أرى منذ طفولتي حفل زواج مزدحم بالضيوف إلى هذه الدرجة. وجدت نفسي أرفع صوتي إلى مستويات غير مقبولة، ولم أنتبه للأسف إلا متأخراً، حتى أتمكن من التواصل مع زميل جلس إلى جواري.
حينما حل موعد العشاء، أضعت كل زملائي مع الزحام تدريجياً، حتى وجدت نفسي لوحدي. بحثت بنظري ولم أجد أحد منهم. اضطررت للجلوس مع في طاولة بدا أن الكل فيها لا يعرف الآخر، حتى جاء رجل لعله في خمسيناته، وسلم ووقف خلف كرسيي محدثاً الرجل إلى جانبي، وكان من الواضح أنه يود لو جلس إلى جواره. رغم حلفه وأقسامه، تركت له المكان وجلست على كرسي آخر. بدأ الناس بالأكل مسمين، وكنت قد بدأت بأكل الأرز بالملعقة خلافاً للجميع، ولم أقم بهذا إلا لأني لم أكل لآكل من اللحم، فلم يكن هناك حاجة لاستخدام يدي، فقد علمت مؤخراً بأن النقرس مرتفع لدي بعد تحليل عام للدم، وإن لم أعاني حتى الآن من أي مشكلة ولله الحمد، لكني قررت أن أخفف كثيراً من تناول اللحم الأحمر، وهو ليس بالأمر الصعب، ذلك أني أساساً لا أرغب به على وجه الخصوص إلا على نحو متقطع. لكن يبدو أن عدم تناولي للحم قد لفت انتباه جاري الذي تركت له المكان، ولعل تناولي الطعام بالملعقة دوناً عن الآخرين قد استفزه، لا أدري صدقاً، ربما كان علي تناول الطعام بيدي. سألني بما يشبه الغيض لماذا لا آكل اللحم؟ وقال بأنه سيقطعه لي طالما أني آكل بالملعقة، وشرع بالفعل بالتقطيع، لم يبدو أن اعتراضي وشكري له سيردعه، لأنه أصر، مما اضطرني إلى قول أني محجوب عن اللحم، ملحقاً العبارة بالدعاء له بخير الجزاء. بدا أن قولي هذا صدمه، وقد توقفت يده بقطعة لحم سميكة بالهواء على نحو مسرحي، ودعا لي بالصحة والعافية مع بعض الجلوس. فرغت مبكراً، فلم أكن جائع صدقاً، أكلت بعض الأرز والسلطة، ووجدت نفسي أجلس هكذا إلى المائدة لا أدري ما أصنع، فلم أكن أريد أن أكون أول من يغادر، فغالباً حينما يغادر رجل يبدأ الكثيرين بالمغادرة تباعاً، ولم أكن أريد أن أكون من يشجع عزيمة أحد بالمغادرة قبل الأوان. فوجئت بجاري يسأل إن كنت أريد صحن القرصان؟ شكرته ممتنعاً، ثم فوجئت به يسحب صحن الجريش بينما كانت يد صديقه مغموسة به، ليقدمه لي، لكني امتنعت كذلك، وكدت أن أضحك بالواقع، وحاول جاري الآخر تقديم السلطة من أمامه لي، ولكني كنت قد شبعت، ولحسن الحظ بدأ الناس بمغادرة قاعة الطعام، فقمت. أتصور أن فكرة منعي عن اللحم قد أثارت تعاطف ما على الطاولة، لا شك بأنها شكلت مأساة من نوع ما في أذهانهم، في مجتمع يقدر اللحم الأحمر أيما تقدير. كان عشاء محرج بكل المقاييس.
في طريقي للخروج، استبشرت بوجود طاولة طويلة مليئة بأصناف الحلويات، تمنيت مباشرة أني بدأت وانتهيت هناك. كانت الحلويات جيدة، أجود بكثير مما يهتم أصحاب الولائم، ونحن منهم، بوضعه للرجال، فالمقياس نسبي بالطبع. غالباً ما لا يحظى الرجال إلا بأبسط المأكولات وأقلها جودة، فهم على وجه العموم لا يميزون الطعم حينما لا يتعلق بجودة اللحم، إلا من رحم ربي، فالطعام بالنسبة للكثير من الرجال هنا عموماً عبارة عن حشو للنفس، وليس متعة من متع الحياة وتأمل بالتذوق. أقول هذا مع علمي بأن النساء لسن أفضل حالاً بكثير، مع أنهن يجهدن أكثر ويحاولن، لكن أذواقهن نمطية جداً ويسهل إرضاؤها، فلو كانت أذواق الرجال عموماً بدائية كالكائنات الدقيقة الناهشة للحم، فيمكن القول بأن أذواق الكثير من النساء في الطعام لم تتطور بعد السنة السادسة من العمر. بالنسبة للنساء، قمة الرقي في صنع الحلى هو ذر قهوة مطحونة فوقه إن لم تكن مخلوطة به أصلاً، و الشخبطة الخالية من الذوق بالحليب المكثف شديد الحلاوة. لا أدري ما السر، لكني أتصور أنه بالنسبة للاستخدام المفرط للقهوة على الأقل، يخيل إليهن أن هذه هي قمة التعقيد والمفاجئة بالطعم، وهو أمر بقدر ما يغيضني يشعرني بالشفقة. أفهم أن بعض الحلويات تقوم أساساً على القهوة، لكن ما يحدث هو أن القهوة صارت ملجأ مبالغ في استخدامه وفي غير محله، ناهيك عن الحليب المكثف، وهو مصيبة المصائب. أما البطلة، فهي من تنجح بدس الجبن في حلى القهوة على نحو تتخيل بأنه محير.
غادرنا بعد ذلك العرس، جعله الله زواجاً ميموناً.
حدث قبل فترة بسيطة اعتداء قام به موظفين من هيئة الامر بالمعروف على رجل بريطاني وزوجته السعودية في سوق الدانوب، وهو سوق بت أرتاده كثيراً، لأنه في طريق عودتي من برقر كنق بعد جرعة الكولا كل ليلة. تقول زوجة الرجل، الذي ظهر الاعتداء عليه في تسجيل فيديو، أنهم رجال الهيئة داسوا على وجهه حتى. إنه لأمر مؤسف حقاً. لقد ساقهم الحقد المتزايد في عموم الناس، وليس فيهم فقط، إلى أبعد مما يمكن تصوره في مثل هذه الحادثة. لقد مل الناس عموماً من قراءة أخبار تتحدث عن غربيين متجبرين ويظلون فوق القانون، كالغربي الذي صدم الشاب في تبوك وتركه يموت، ولم يقبض عليه رغم معرفة مكانه، أو الذي اتهم في مجمع تجاري بمحاولة مغازلة النساء، وضرب من وقفوا في وجهه وخرج، وكأنما شيء لم يكن. ناهيك عن المآسي التي تسود العالم الإسلامي وتعزى إليهم بطريقة أو بأخرى.
لكن، حينما نقدم الحقد والكراهية على الرادع الأساسي في قلوبنا، فلا فرق بيننا وبينهم. لا يجب أن تزر وازرة وزر أخرى، ويفترض أن رادعنا، في الإيمان، أقوى من الانسياق خلف الحقد والتصعيد واستضعاف الآخرين. أعتقد أن الأمر انحدر في هذه الحادثة لعاملين اثنين؛ رجال الهيئة، والملتزمين عموماً، لم يتعودوا على المجابهة والتوقف عند حد، والبريطاني من ناحية أخرى مدفوع بسوء الاحترام والنعرة المتعالية على الأغلب، إذ أنه كان على ما يبدو حاداً منذ البداية، يسعى لنوع من المواجهة والاستعراض، لكني متأكد بأنه لم يتخيل بأن الأمور ستصل إلى هذا الحد، فعلى الأقل، يخيل للمرء أن المروءة ستلعب دوراً بما أن زوجته بصحبته. وليس الأمر في رأيي أن المروءة صارت أكثر ندرة في المجتمع بعمومه فقط، لكنها باتت انتقائية كذلك، وكل الأخلاق باتت انتقائية، على نحو يزيد عند البعض وينخفض لدى الآخر. فلو كان الرجل البريطاني ملتحياً على سبيل المثال، لما كانوا أعضاء الهيئة بهذه القسوة، بل لعلهم سيحتفون به، ولما كان هو نفسه حاداً ومستفزاً معهم كذلك، فحتى الغربيين حينما يعتنقون الإسلام يتصرفون على هذا النحو التعاطفي والتفريقي، بل إنهم قد يكونون أسوأ بكثير، حيث يصعب أن يعترفوا بالوسط في فهمهم للأمور والناس، فهم حينما يكونون مسلمين ولكن غير ملتزمين أو ملتحين، تجد فيهم نوع من الكراهية الشديدة أو الانحياز ضد الهيئة أو الدعاة أو المشائخ، أو حتى توجهات المجتمع وثقافته المحافظة، حيث يعتقدون أنهم هم أنفسهم يمثلون النموذج الصحيح للمسلم، أما حينما يكونون ملتحين، فهم لا يريدون سوا التعامل مع أمثالهم منا، ويكونون غالباً أكثر انغلاقاً وتشدداً من ملتزمينا، وأشد ازدراء لكل من لا يماثلهم، وكأنما احتفظوا بالحقد النصراني المعروف لكن أعادوا توجيهه من الجهة المقابلة، وعلى نطاق أوسع وأقل تفرقة. وهم على وجه العموم، سواء شديدو الالتزام أم لا، يريدون تعليم الناس كيف يعيشوا حياتهم وكيف ينظروا للأمور، وبضيق أفق لا تتصوره لأول وهلة من شخص اطلع على ثقافتين على نحو وثيق أو متعمق. أما من ناحية التحلي بالمروءة الذي كان خليقاً بأعضاء الهيئة، فهو أمر لا يتوقعه على وجه العموم إلا شخص غلبته الصدمة، أو ليس على اطلاع كاف على كيفية عمل عقولهم؛ فكون المرأة سعودية وبلا خمار بنفس الوقت، على الأقل على نحو مقبول وفقاً للمقاييس التقليدية، يلغي هذا أي التزام تجاهها، وهذا عار على أي رجل عربي صميم. بالطبع، تستحق أي امرأة أجنبية مسلمة الوقوف إلى جانبها ومعاملتها بالحسنى حتى لو كانت حاسرة الرأس، أو تعمل مذيعة.
وعودة للبريطاني، وهو غير ملتحي، كان يريد أن يصطنع بطولة تجاه أشخاص لا يقبلهم، وإن كنت لا أقبل تصرفهم الوضيع وأعتقد أنهم يجب أن يعاقبوا، إلا أني أتمنى أن يفهم هو كذلك بأنه ليس أفضل منهم بشيء، إنه ليس بطلاً ولا ينتظر منه أن يكون نموذجاً، لقد تعالى عليهم كما تعالوا عليه، ولم يتصرف بما تقتضيه الحكمة من رجل معه محارم يحرص عليهن، لم يكن متعقلاً، كان متعالياً في رأيي، تصرف وكأنه لا يستحق هذه الحرة العربية زوجة له. لم يكن يستحق كل ما جرا له صدقاً، وأشعر بالأسف خصوصاً على دوسهم على وجهه، إلا أني أرجو أن يكون قد تعلم درساً طالما لا يمكن تغيير ما جرا؛ بأن كونه أوروبي لن يحميه من مثل هذه المواقف؛ ولن يكون الصبر على رفعه لصوته أطول مما يكون لغيره.
من أُشفق عليه، وأجده في موقف مؤلم حقاً، هو زوجة الرجل السعودية، لقد أهين زوجها أمامها على نحو مؤلم ومبالغ فيه وبلا مبرر، ولم يُقم لها هي على الأقل أي اعتبار لحظة الحادثة، بل رفسها أحدهم فاقد لمعنى الرجولة، وكأنما لم تكن شيئاً، وكأنها ليست امرأة، ومن بناتنا. أعتقد بأنها هي الضحية التي لا يطال موقفها أخذ ولا رد. يا للأسف، وكان الله في عونها.
أضعت مفاتيح صندوق بريدي منذ فترة، ولم أكترث بصراحة، ذلك أنه بعد عودتي من سويسرا لم يعد بيني وبين أحد مراسلة رسمياً. كنت قد أخبرت رجل أراسله من النرويج بأني لا أشعر أننا نتواصل، وعليه، أرجو أن نتوقف عن تبادل الرسائل. كان هو من أرسل الرد الأخير علي، على رسالة أرسلتها بينما كنت في سويسرا. هو على ما يبدو يكتب رسالة واحدة ليرسلها إلى كل أصدقاء المراسلة، مع تعديلات طفيفة لا تذكر.
رد علي مقراً بأنه لا يتفاعل في مراسلاته، عازياً السبب إلى تواصله مع كل الأصدقاء عبر الفيسبوك مباشرة، باستثنائي طبعاً، سائلاً الحصول على فرصة أخرى. لم أجب، كان الأمر انتهى بالنسبة لي ببساطة. لم أراسله منذ مدة طويلة، ومن ناحية أخرى، كنت سأتأثر أكثر وأعيد النظر قبل زيارتي إلى سويسرا، التي غيرت نظرتي تجاه الكثير من الناس.
وصلتني رسالة تطالبني بالسداد لتجديد اشتراكي بالبريد. نويت التجديد لتوقعي وصول تقارير طبية على بريدي، حيث زودت زوجة أخي بعنواني لأتلقى التقارير. يبدو أني لم أقم بالسداد على النحو الصحيح بالمرة الأولى، فذهبت إلى المكتب حيث يعمل شباب سعوديين لطفاء لأرى ما يمكن القيام به. طلب مفتاح آخر، ولما لم يجد مفتاح عاد إلي بما وجد في صندوقي، بطاقة جميلة من النرويج، تعبر عن التقدير لرسائلي وعقلي، وتسأل الحصول على فرصة أخرى. كانت لفتة جميلة ومؤثرة. لكني لا أنكر أني ترددت. حسمت أمري وقلت في نفسي بأن فرصة لن تضر، رغم شعوري بالتشاؤم العام، والخشية من التغير السلبي في كتابتي للرسائل.
لا يطلب أحد مني فرص بالعادة، فلست أمثل بالعادة قيمة لا تتكرر أو لا تعوض. سأكتب، رغم أني مُتعب حقاً، وخائب الظن والأمل كثيراً تجاه أمور كثيرة.
لا أدري منذ متى تقبع تلك البطاقة الجميلة، وكل البطاقات التي وصلتني جميلة، خصوصاً من النرويج، إذ أنها غير مؤرخة، لذلك بدأت بالكتابة حالما قررت الرد. فوجئت برسالة غير معتادة منه، تسأل عن أحوالي، في موقع المراسلة. أجبت شاكراً على البطاقة، وقلت بأني بدأت الرد بالفعل. مع ذلك، أخشى أني سأعيد كتابة الرسالة رغم أني لم أفرغ منها بعد، فقد حوت من السلبية أكثر مما يطاق، سأحاول أن أكتب في أوقات أكثر انشراحاً.
دخلت المنزل قادم من العمل قبل فترة، وكان يوم خميس، وكانت أختي وأبناؤها قد جاؤوا في زيارتهم الأسبوعية. انحنيت لأقبل كل طفل، حتى إذا جاء دور آخرهم، وهي فتاة، قالت مباشرة: "الله! ريحك حلوة مرة يا خال، كنه ريحة أمي نورة! (والدتي)". لا شك أنه عطر العود بالفانيلا، رغم أن والدتي لا تستخدمه، ولا تستخدم العطور إجمالاً إلا على فترات متقطعة. توجب علي أن أنحني من جديد لكل طفل سلمت عليه ليشم ويتأكد، وأحدهم تذوقني كذلك بقبلة.
ربط الناس بالروائح أمر أعرفه جيداً. فأنا أعرف رائحة أمي، وهي رائحة أجمل من أي طيب عرفته. قالت لي والدتي ذات مرة بأنها تعرف بقدومي حينما تشم رائحة طيبة تغشاها كموج البحر. أعتقد أنها تحس فقط بقدومي، فحاسة الشم لديها ضعيفة جداً. أخشى كذلك بأن حاستي قد بدأت تضعف كثيراً، وقد كان هذا هاجس لدي، حيث أن والدي ووالدتي لديهم ضعف بالشم، بل إن والدي كان لا يشم إطلاقاً منذ سنوات طويلة جداً. علي أن أرى طبيباً، وأرجو أن يكون أمر قابل للإصلاح، فشم الطيب الطبيعي والورد والزهر وكل ما له ريح جميل من أقرب المتع إلى قلبي.
يحدث أن أخلط مع ذلك فيما يخص الروائح. كنت أصلي ذات مرة، إلى جوار شخص كانت لدي معه إشكالات كثيرة وكبيرة، كنت في الكلية طالباً. ذهلت برائحة طيبة جداً ظننتها منه، وكان هذا أمر مستجد علي فيما يخصه، فلم يكن له هذا النوع من الحضور. أعتقد أن تحفزي بعد اختياره الصلاة إلى جانبي رغم كل المشاكل، وكان يمكنه اختيار الطرف الآخر من الصف، قد شوّش ذهني وأشغلني. لكن حينما ذهب، عرفت أن تلك كانت رائحة عطري وقد اختلط بأنفاسي فقط.
ها أنا أنتظر حلول وقت الصعود إلى الطائرة، بعد يوم طويل ومعاناة مضحكة مبكية.
كنت سأغادر عبر الخطوط الفرنسية في منتصف الليل، فأصل إلى باريس، ومن باريس إلى وجهتي النهائية. أقرأ منذ فترة عن إضراب الطيارين في الخطوط الفرنسية، في ضغط على الشركة لتحقيق بعض المطالب، لكني بالطبع، وحسب طبيعتي، حصلت على التذكرة قبل أشهر طويلة، فأنا لا أشعر بالاطمئنان في خلاف هذا الحال، لا بد من العمل باكراً، ومع ذلك، ليت هذا ينفع. وصلتني رسالة قبل مغادرة المنزل بقليل بأن الرحلة التي تنطلق من باريس قد ألغيت، وأنهم سيبذلون ما في وسعهم لمساعدتي على مواصلة الرحلة. كان يجب أن أذهب إلى المطار، حتى لا أخسر الوقت أو التذكرة، وفكرت بأنهم سيتدبرون أمري في باريس.
في المطار، كان لهم رأي آخر؛ لن يمكنهم تدبر أمري في باريس، فعليهم تدبر أمري من هنا. لحسن الحظ الرديء بالأصل، ولله الحمد، أحمل في جواز سفري تأشيرة أمريكية سارية المفعول. تقرر أن الخيار الوحيد هو إركابي في طائرة الخطوط السعودية إلى أمريكا، ومن هناك إلى وجهتي. لم يكن هناك مجال آخر، وسأصل متأخر ساعتين في النهاية. كان الحل مقبول، لا بأس.
لا زلت مرهق جداً، فقد عدت إلى المنزل، ولم أتمكن من النوم في الساعتين أو الثلاث الفاصلتين قبل عودتي إلى المطار، بينما كنت أمني النفس في النوم حتى الوصول إلى باريس.
شر البلية ما يضحك؛ كنت قد تعرضت إلى موقف مشابه في رحلتي إلى البيرو، تقول أختي بسخرية بأني مصر على السفر مع ذلك.
حينما ذهبنا إلى الهند وكذلك سويسرا، كانت الأمور ميسرة جداً سبحان الله من حيث الطيران والترحال، لا بد أن والدتي وأختي مبروكتين.
سعد الحوشان