الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

الوصول إلى سرّة العالم (الجزء السادس من رحلة البيرو،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم







لعل الجنوب رغم كل شيء هو ذروة رحلتي إلى البيرو، حيث أني تمنيت زيارة كوزكو أكثر ما تمنيت، إذ بزيارتها أزور كذلك ماتشو بيتشو، أجمل مكان زرته في حياتي.

كانت الرحلة على القطار جميلة، مهدئة للنفس، وكانت المناظر تتحسن باستمرار وتصبح أجمل وأكثر خضرة كلما اقتربنا من كوزكو.
القطار سياحي، بديكور داخلي جميل، وكراسٍِ كلاسيكية مثبتة على الأرض أمام طاولات خشبية، وعلى كل طاولة مصباح تقليدي، وكأنما يجلس المرء في مطعم فخم.
يوجد طاولات مختلفة تكفي أي عدد من الناس. طاولتي تكفيني فقط، والطاولة أمامي تكفي اثنين، وإلى جانبي تكفي أربعة.
قبل أن نصعد القطار، لفت انتباهي وجود زوجين كبيرين بالعمر، ليسا مسنين، لكن ليسا شابين كذلك، ومعظم السياح إجمالاً ليسو شباباً. كانا شديدي الأناقة، وحسني الخلقة على نحو ملفت، وبدا أنهما يحبان لفت الانتباه كذلك. وقفا أمام باب القطار قبل أن يدخلا، وتحاضنا على نحو لافت للانتباه، وهما ينظران إلى كاميرا أعطياها عامل المحطة وطلبا منه تصويرهما. كان مكانهما أمامي، وإلى جانبهم عبر الممر الضيق مجموعة من المسنين الفرنسيين البسطاء، وإلى خلف هؤلاء، أي إلى جانبي عبر الممر، مجموعة شباب ألمان، وددت لو دفعت أصابعي في عيني أحدهم، حيث حملق بي من أول الرحلة حتى نهايتها، وإن حملق البقية كذلك، لكن ليس مثله.
بالواقع، الحملقة ليست سمة بالغربيين عموماً، لكن حينما يحملقون، فهم الأسوأ، سوف يتفحصونك على نحو غاية بالصفاقة، وقد يقتربون منك حتى ليتفحصونك بإمعان، دون حياء منك.








الرحلة تشمل عروضاً موسيقية جميلة، وعروضاً راقصة، وعروض أزياء تقليدية، وجلسة لشرب خمر البيسكو ساور التقليدي (!!) في العربة البانورامية، حيث أن جدرانها عبارة عن نوافذ كبيرة، وسقفها كذلك، ليتفرج من يريد على المناظر فيها، وهي لا تعتبر عربة ركاب، أي لا يمكنك مثلاً أن تحجز مقعداً فيها، إنما هي أشبه باستراحة.
إني أشك كثيراً بأن الجالسين أمامي يهوداً، الرجل خصوصًا، وهم نفس الزوجين الجميلين المحبين للفت الانتباه الذي ذكرتهم أعلاه. إنه يشبه اليهود الذين أرى صورهم في البلدان الأوروبية وأمريكا، ولا يهمني الأمر صدقاً، ولما لفت انتباهي لولا أن الرجل هذا ابدى اهتماماً غير عادي بي، وفضولاً كبيراً. إن تفسيري الوحيد للأمر هو أن الرجل ربما ظن أني يهودي. يذهب الكثير من الاسرائيليين إلى البيرو حسبما قرأت، يحبون السياحة فيها، خصوصاً مدينة كوزكو.
كان زوجته قد أبدت سئماً وضيقاً من الفرنسيين إلى جوارهم، بعدما ابتدأت هي بالمزاح معهم، وسرعان ما ملت منهم. كانت أقل لطفاً من زوجها بوضوح، فهو كان يحاول أن يغطي على عدم اهتمامها حينما يحاول الفرنسيون التحادث معهم وسؤالهم.
تواجد كذلك رجل وامرأة ألمان، وكليهما كبار بالسن، ومن أطول الناس الذين رأيت في حياتي، ويتشابهان وكأنهما شكلين صنعا من قالب واحد، بسمات انثوية وذكورية لا تكاد تختلف. كانا يتحادثان همساً، وقد أبديا لطفاً تجاهي بالعربة البانورامية. أعتقد أنهما شقيقين.
بعد الغداء اللذيذ الذي قدم لنا بأناقة، أعلن القائمين على القطار بأن الجميع مدعوين لتناول البيسكو ساور بالعربة البانورامية، والاستماع للموسيقى ورؤية راقصة تؤدي رقصة تقليدية لأهل بونو، في ضيق المكان.
فكرت، هل أذهب؟. سيبدو وجودي مربكاً لأني لن أشرب، وهو الشيء الأهم للجميع. ذهب كل الركاب بحماس إلى العربة بالخلف، بينما بقيت أنا أقلب أغراضي وأفكر. فوجئت بصوت يلفت انتباهي، أمامي مباشرة، كان الرجل الذي أفترض أنه يهودياً، يسألني لماذا لم أذهب؟ قلت بأني سأذهب الآن، قال بأن الجميع قد ذهبوا، هيا! كنت متفاجئاً، ابتسمت وقلت حالاً. لكنه وقف ولم يتحرك. كنت قد رأيته وزوجته يغادران مع الجميع، لكنه عاد، أعتقد أنه عاد ليأخذ غرضاً، ربما كاميرا. ولما عدت أقلب أغراضي بلا هدى وجدت أنه يقف أمامي، ينظر إلي، وينتظرني لأذهب. كان أمر غريب. وقفت محرجاً ومضيت، وتبعني مباشرة ليجلس إلى جوار زوجته.
كان الجميع متحمسين للبيسكو ساور، والبيروفيين فخورين به جداً، لأنه يحظى بشعبية بين الجميع، رغم أنهم على اختلاف مع اهل تشيلي، من بين خلافاتهم، على أصل المشروب ومن ابتدعه. حينما جاء الساقي يوزع الكؤوس، أخبرته بأني أريد ماءً، فنظر إلي وكرر طلبي باستغراب لم يخفه، ثم مضى وكأنه تضايق من عدم فهمه للموقف.
جيء بكأسي، الذي أدار الرؤوس معه حتى وصل إلي، وكان أمر محرج.
كانوا قد وزعوا شيء من الموالح اللذيذة، عبارة عن حبات ذرة ضخمة وذات ألوان طبيعية مختلفة عما نعرف، محمصة دون أن تنفجر وتتحول إلى فشار، ومملحة، وهي يؤتى بها بالمطاعم كمقبلات وضيافة، لذيذة إلى حد غير عادي.

جائت الراقصة، ورقصت وهي تسير عدة رقصات ليست رقصات بالحقيقة، إذ كيف لها أن ترقص في مكان ضيق كالقطار؟ وكانت ملابسها التي يفترض أنها تقليدية ليست بحشمة الملابس التقليدية فعلاً. لقد رأيت فيلم وثائقي عن أهل الانديز، ورأيت رقصاتهم، إن النساء يرقصن بملابس محتشمة تشبه ملابسهم اليومية، ورقصاتهن الشعبية ليست مبتذلة أو موحية غريزياً بأي شكل. بدا أمر هذه الراقصة على جانب كبير من الرخص. وكانت توقف بعض الرجال المسنين، وتراقصهم، كما كانت توقف بعض النساء للرقص، وقد كن يقفن مجاملة، دون اهتمام حقيقي مثل الرجال. لحسن الحظ، توقفت عن مراقصة الناس قبل أن تصل إلي بكثير، وقد جاء شاب آسيوي وحيد مثلي، لعله كوري، هارباً منها قبل أن تصل حتى لا تراقصة، مما أثار ضحك الناس.
عدنا إلى أماكننا لاحقاً، وكنت أشغل نفسي بمختلف الأمور، وقد يئست من جيراني الألمان، خصوصاً أحدهم كما أسلفت، وتركته ينظر كيفما يريد حينما يشاء، دون أن أحاول أن أرد النظرات أو أبدي ضيق لم يجدي. كان الرجل أمامي يلتفت من وقت إلى آخر، ليبتسم تجاهي، وهو يتأملني، لكنه بابتسامته، وحسه اللطيف مع الآخرين كما رأيت، لم يكن مثيراً للضيق، وكان يبدو أنه يلتفت بعدما يحادث زوجته قليلاً.
اقتربنا من كوزكو حينما بدأ الظلام يحل، ولكن جمال الطبيعة غير العادي كان واضحاً. كانت الرحلة قد بدأت تصبح أكثر متعة، ونحن ندخل الأنفاق القصيرة والمتوسطة فيختفي كل مشهد، ثم يظهر.


وصلنا إلى محطة قبل كوزكو، وطلب منا النزول بها، وكان الجميع محتاراً من الأمر، حتى  شرح لنا بأن المحطة في كوزكو متعطلة لسبب ما، لهذا سننزل في المحطة التي قبلها ثم سيتم نقلنا بالحافلات. 
كانت المسافة أبعد مما توقعت. وكان الظلام حالكاً فلا يرى المرء شيئاً، فكان هذا أكثر أجزاء الرحلة إثارة للسأم.
حينما وصلت، وجدت فتاة جميلة تحمل لوحة باسمي، حييتها ورحبت بي، ثم مضينا إلى السيارة. إلى جانب السيارة كانت توجد سيارة كبيرة، وكان الزوجين الذين جلسا أمامي بالقطار يشرفان على تحميل حقائب فيها. رأوني قادماً فودعتهم، وردوا علي بلطف وبهجة.
كنت متحمساً، كوزكو، الحلم.
المحطة كانت خارج المدينة، في ضواحيها، لكن كان من السهل رؤية تميز المدينة المتمددة بجمال على سفوح الجبال عبر الوادي بأضوائها، ولست أشخصها حينما أقول أنها بدت وكأنها شيء حي، يتنفس منذ الأمد، وكأنها حكاية لا تصدق، بأحداث عجيبة، مؤسية ونبيلة، لكن هاهي حية حتى اليوم، لم تكن حية مثل حياة الناس، إنما وكأن المدن بالواقع كائنات حية قائمة بذاتها، وكان ما خلّفت بالوطن مدن متوفاة منذ زمن، يعيش الناس على جيفها.
تكلمنا بالسيارة كثيراً، وشرحت لي الفتاة بعض أمور المدينة الجميلة، عن الأساسات القديمة لبعض المساكن، وعن المقلدة عنها. بعض المنازل لها أساسات ومداخل بناها الإنكا قبل وصول الأسبان الذين دمروا المدينة وخربوها، دون سبب، رغم أنها كانت عجيبة البناء والهندسة حسب وصفهم والدلائل المتبقية اليوم.
وصلنا إلى النزل، وهو الفندق الوحيد الذي اخترته بنفسي، حيث تحمست له من قراءة المراجعات. لست أهتم بصراحة بعدد النجوم أو فخامة المكان. يكفي أن يكون نظيفاً ومريحاً، والخدمة فيه معقولة، وموقعه مقبول. هذا الفندق مدخله أثري، خلفوه الإنكا (كما يمكنكم أن تتوقعون)، وككل المباني بالوسط التاريخي، طراز البناء فيه اسباني، مبدأياً مثل بيوتنا القديمة، بالمنور والغرف المحيطة. بعض المباني تحوي مشربيات أندلسية كذلك. ترى أن المدينة مزيج غريب من العمارة الاسبانية وتأثرها بالأسلوب الإسلامي، وتخطيط الإنكا وبعض آثارهم، يرى المرء ذلك على نحو يمس شغاف القلب، بالحزن، والإعجاب، والحميمية.

كنت قد قرأت قول البعض بأنها من أجمل مدن العالم، لكن، من أنا لأحكم، إني لم أرى شيء، القراءة ليست رؤية. أحياناً، أشعر بالحزن حينما يقال لي أني أعرف الكثير عن أمر ما أو مكان ما، ذلك أن فرصتي بالاطلاع على الأمر مباشرة أو رؤية المكان بنفسي ضئيلة. لكني، بعد سفري إلى البيرو، صار لدي أمل برؤية أشياء أخرى في أماكنها، رغم أن الضغوط ازدادت منذ الرحلة، الضغوط التي ستحد من فرصي بالقيام بما أحب، بعدما انتظرت طوال تلك السنوات دون القيام بشيء مما أتمنى ومما أقرأ عنه منذ الطفولة. تشعرني هذه الضغوط، خصوصاً حينما تأتي من أشخاص معينين، بأني أضعت سنوات من عمري إرضاء للكثيرين دون نفسي، بلا فائدة، حيث لم ينتج عن هذه التضحيات ومحاولات المشاركة غير المجدية أي تفهم، بل إن زيادة الضغوط بعد عودتي من البيرو تشعرني بأن الجميع يرون بأني بالواقع لا أستحق ما أريد، ولا يجب أن أكون حراً، يجب أن أقيد بأكثر من قيد، وإن لم يكن هذا ممكناً، فيجب أن أخرج مباشرة من قيد، إلى قيد.


ذهبت باليوم التالي إلى خارج المدينة، بالقرب منها، متوجهاً إلى بلدة صغيرة، يسمونها قرية الإنكا الحية، ذلك أنها احتفظت بالكثير من معالمها ومميزاتها.
كنت مع مجموعة كبيرة من السياح، وكان معنا مرشد يلقي الكثير من النكات، ويبدو لطيفاً، غير أني بوضوح لم أعجبه البتة. عموماً، أتصور أن الرجال عموماً في مثل هذه الظروف يميلون إلى الشعور بالمنافسة غير الضرورية، ذكرني هذا بالوضع في تشاتشابوياس في بداية رحلتي. إن الرجال أحياناً مثله الديكة، غير أنهم لا يحتاجون إلى دجاجة ليقتتلوا عليها، فهم سيقتتلون على أي حال. كان كل السياح من الغربيين، إن أسقطنا من الاعتبار زوجة لأحد الأمريكيين، يبدو أنها تايلندية الأصل. كان لهذا السبب حضوري لافت للانتباه، ولم أكن أدري ما أصنع بالكثير من النظرات المسترقة، والمراقبة، غير أني عرفت لاحقاً أن الدافع كان الفضول بشكل عام، وليس الإزدراء المسبق، لدى من احتكيت بهم على الأقل.

رأينا مروراً من بعيد جدران عظيمة بناها الإنكا على نحو معجز، وسأزورها لاحقاً إن شاء الله خلال الرحلة، تسمى ساكسيوامان.







بالطريق، توقفنا قرب مجمع صغير لعرض الحيوانات الداجنة والمصنوعات الأصلية. وكان أمر رائع بصدق، إذ رأيت الفيكونيا من مسافة معقولة، وقد كنت أتمنى أن أراها، وكان يسمح للناس بإطعام اللامات والألباكات اللطيفة، وهي معتادة كثيراً على وجود الناس فلم تبصق على أحد، كما بصقت في بونو على شخص اقترب منها.






 والبصق طبيعة متأصلة باللاما والألباكا، تجاه من يحاول ان يتعامل معها وهي لا تعرفه، أو يغضبها أو يقترب من أطفالها. لحسن الحظ، لا يبصق البعير لدينا، رغم أني لا أتخيل أن نفوري منه سيقل لهذا السبب.













هذه الجميلة هي الفيكونيا، تشبه الغزال، وهي رغم قرابتها للاما والألباكا إلا أنها برية غير داجنة، مثل القواناكو، الذي يفوق جميع هذه الحيوانات حجماً، على أنه لا يضاهي ابن عمهم جميعًا البعير بالطبع. للفيكونيا حضور رقيق وشاعري، هل كان الناس يقولون بها القصائد كما نقول عن الغزال؟.
هذا القواناكو، وفي صورة، مقارنة بالفيكونيا:








اطلعت على نساء من السكان الأصليين، من عشائر مختلفة، ينسجن القطع الصوفية، ويريننا كيف يمزجن الألوان الطبيعية كما كن جداتهن يفعلن منذ قرون، ويخرجن بنتائج غير منطقية أشبه بالسحر، فمزج لونين مختلفين يأتي بلون بعيد أشد البعد عنهما، لطبيعة المساحيق الطبيعية. وهي تستخدم بصبغ الأقمشة. 



وتعرف عشيرة المرأة بالقبعة التي تلبس، فكل عشيرة لنسائها قبعة من شكل مختلف.


ورأيت أنواع من الذرة، وهي تأتي بألوان كثيرة، وبالطبع، لم أرى كل الأنواع، فكما أسلفت في تدوينة سابقة، تفوق أنواعها الأربعة آلاف بالبيرو، مثلها مثل البطاطا.





وبذكر البطاطا، رأيت كذلك بعض الأنواع، وشرح لنا المرشد كيف أن بعض العوائل التقليدية حينما تخطب فتاة لابنها، فإن أم الرجل تزود الفتاة بحبة بطاطا غريبة الشكل والتكوين، وتطلب منها تقشيرها، فإن قشرتها دون أن يتغير شكلها، وهي عملية صعبة لتعقيد تكوين بعض الحبات، فهي صالحة، وإن تغير شكلها، فالفتاة لا تصلح.





ورأينا مجسم لأكبر طائر قادر على الطيران بالعالم، وهو يسمى الكوندور، ويعيش في تلك البقاع من الانديز، وقد كان مقدساً على الحضارات القديمة، بمدلولات مختلفة مثيرة للاهتمام. وهو الآن معرض للانقراض للأسف، ومحمي من الصيد. هو لا يؤكل، فهو نسر يأكل الجيف، لكن ريشه غالي الثمن، يشتريه الناس كتذكارات، ولبعض العلاجات الشعبية كما فهمت.





 كان هناك بضعة سياح يسخرون من لغة المرشد وتعابيره، وهو متمكن بصدق، لكنهم يجدون المتعة بتصيد الأخطاء، ورغم عدم ارتياحه الواضح لي، إلا أني تعاطفت معه كثيراً.
دخلنا لاحقاً في محل تذكارات، وهي مسعرة على نحو مبالغ فيه بشدة، حيث أجدها في أماكن أخرى أرخص. لكن، تواجد محل شهير بمنسوجات الألباكا واللاما، والفيكونيا، اسمه سول، تابع لشركة كبيرة ومضمونة هناك. بالطبع، يمكن للمرء الشراء من البائعات والمحلات التقليدية الأخرى، وقد تكون أرخص، لكنه أغلب الظن لن يسلم من الغش، أما هذه الشركة فعالمية ومرموقة هناك. اشتريت بعض الأشياء لأمي وأخواتي، وقد اعطتني مديرة المحل خصماً معقولاً، وكان يجب أن أعود إلى فرع آخر لهم، فهم يبيعون أشياء رائعة. لا يصدق المرء حينما يلمس نعومة صوف الألباكا المنسوج أنه صوف، إنه بالغ النعومة، إنه كالحرير. أما ما لا يصدق فهو صوف الفيكونيا، حيث يعرفه المرء بالشك، فحينما تلمسه وتشك أنه رطب، فإنه فيكونيا، لفرط نعومته، لكنه شديد الغلاء، عباءة صغيرة منه قد تكلف أكثر من أربعة آلاف ريال. ليتني كنت ثرياً لأشتريه.



كنا في طريقنا تجاه الوادي المقدس، وهو واد شديد الخصوبة، قدسه الإنكا واعتنوا بأمره، وأقاموا به القصور والاستراحات لعلية القوم. وكانوا حتى قد غطوا أجزاء منه بتربة من أماكن أخرى، جلبت من بعد لا يقل عن 30 كيلومتر، لضمان خصوبته. يجري به نهر يقدسونه أيضاً، اسمه اوروبامبا.






المكان سحري، أسر قلبي، وقد اختاره الأقدمون لأسباب كثيرة، منها فلكية، حيث قيل لي أن تعرجات النهر تقابل نجوم معينة لها نفس المنظر.
توقفنا قليلاً لنطل على الوادي من أعلى، قبل أن ننزل فيه.


مررنا بقرية صغيرة، انشائها الاسبان على أنقاض قرية أقدم على الأغلب، اسمها بيساك. هي سياحية الآن بمعظمها. وقد دلنا المرشد على المحلات التي يقول بأن سلعها مضمونة، من حيث الأصالة. كنت قد سمعت أن أفضل أنواع الفضة تنتج في هذا المكان من العالم. اشتريت لوالدتي بضعة قطع منه، حيث أنها تحب الفضة. وهي تنتج بالطريقة الأصلية كما كان الناس يفعلون قبل وصول الاسبان، وإن يكن بالاستعانة بأدوات حديثة للتلحيم طبعاً، وتنتج كذلك بأيدي الشكان الأصليين. شرحت لنا صاحبة المحل الفرق بين الفضة الأصلية وغير الأصلية، وأعطتنا نماذج مختلفة. كانت الفضة الأصلية ثقيلة على نحو غير متوقع.

تتوسط القرية في ساحتها شجرة أقل ما توصف به هو أنها عملاقة، ولن توفيها الصورة حقها، في تكاد أن تغطي وسط الساحة. وهي لا تنتمي إلى جبال الانديز، مهد حضارة الإنكا، إنما كان الإنكا يجلبونها من الأمازون، ويزرعونها في ساحات بلداتهم المهمة، وقيل أن الاسبان ورثوا عنهم هذه العادة رغم شكي، وهي تزرع في وقت الإنكا للدلالة على أهمية البلدة التي توجد فيها، فإذا وجدت الشجرة، فاعلم أنك في بلدة مهمة لسبب ما.




يوجد كذلك مخبز، يبيع الخبز وحيوان الكوي المشوي، وهو ما يسمونه الناس هنا بالخطأ: وبر. أتذكر أني كنت أراه في بيت عمي لفترة، حيث كانوا يربونه بالحديقة.
بعد تسوق وتمشية غير كافية بصراحة، حان وقت العودة إلى الحافلة. كنت قلق من الوقت لتأخري قليلاً في الوقفة الأولى، فكنت قد ذهبت لأسأل رجل وزوجته، مسنين جداً من بريطانيا، فأخذاها فرصة للمزاح والتلاعب بالكلام مما أضحكني كثيراً.

وأنا بطريق العودة، انضم إلي رجل أمريكي وزوجته التايلندية، وابن الرجل، في سن الجامعة. كان الابن يتضح عليه عدم الارتياح بشدة لزوجة والده التايلندية، بل يمكن القول ببساطة أنه يكرهها. فقد كان ينظر إليها بازدراء، ولم يكلمها أبداً، رغم أنها بدت لطيفة وتحاول أن تتطلف للجميع حينما تسنح الفرصة. سألني الرجل لماذا أنا لست بالمدرسة (يقصد الجامعة)؟. وهو سؤال سمعته عدة مرات، قلت بأني أكبر من ذلك، سأل عن عمري، ثم سأل من أين أنا، وبدا أن هذا هو السؤال الأهم، قلت له، فذهل، وقال بأنه حسبني هندي. ضحكت، إذ كنت قد سمعت الكثير من التخمينات. قال ابنه بأنه لم يحسبني هندي، وأني بدوت اسبانياً له. فتدخلت زوجة الأب التايلندية قائلة باستظراف: وأنا من أين أبدو؟ أشعر أني أبدو من الإنكا! قالتها كنكتة، وضحكت أنا بينما ابتسم زوجها، لكن ابن زوجها نظر إليها بكراهية واستهجان غير عاديين، وتمتم أمر عن الثقة على ما أعتقد. أشفقت حقاً عليها، رغم أنه لم يبدو أنها سمعت أو لاحظت شيء. كان الابن يبدي عناية كبيرة بوالده منذ بداية الرحلة، رغم أنه يفقد صبره معظم الوقت لتلكؤ والده وتحدثه كثيراً مع الآخرين. هم من تكساس، وكان الوالد فضولياً جداً. قال الوالد بلهجته الجنوبية: أراهن بأنك مهندس!. ضحكت، وبصدق، إني أشعر بالإحراج من توقعات الناس، فهم يتصورون أنهم يجاملون حينما يقولون شيء كهذا، لكن يتوجب علي أن أجيب بأقل الإجابات إثارة للاهتمام؛ قلت بأني مترجم. حينما يخمن الناس مهنتي هناك، كنت دائماً أتمنى لو بيدي أن أجيب جواباً أحبه، أن أقول مثلاً بأني مؤلف، لكن للأسف لست مؤلفاً، وليست الكتابة في أفضل الأحوال هي ما أعتاش منه للأسف.

ذهبنا بعد ذلك إلى فندق له فناء ومبانٍ جميلة، لتناول غداء كان من ألذ الوجبات التي أكلت هناك، كان بوفيه غني ورائع. كانوا قد أعطونا ما يشبه التذاكر لتسليمها إلى النادل حينما يطلبها. طلبها نادل مني فأعطيته إياها، وبعد وقت جائت نادلة وطلبتها، فأخبرتها بما حصل. كان وضع محرج، حدث مع أكثر من شخص. لكن النادلة كانت متعاونة جداً ولطيفة.
الكينوا كانت لذيذة بالسلطة، والحلوى كانت لا تصدق. ربما أسوأ ما رأيت خلال المرات التي أكلت بها كان الخنازير ولحمها، فكان منظرها مطبوخة أو مشوية يصيبني بالقرف الذي لا يوصف.

تمشيت قليلاً في مساحات الفندق الجميلة، حيث يجري ساقي صاف، وتمتلئ بالزهور، فكان الناس يلتقطون لأنفسهم هناك الكثير من الصور. استلقين على كرسي استرخاء، فجاء بقربي طائر طنان يستطلع، كنت محظوظاً جداً من هذه الناحية في أكثر من مناسبة.

















جائت امرأة أوروبية لطيفة، وكان يبدو أنها تشفق علي لكوني لوحدي، وعرضت التقاط بعض الصور بكاميراتي لي، شكرتها. كان تصويرها رائعاً.




بعد ذلك، ذهبنا إلى اولانتاتيتامبو، قرية الإنكا الحية. لم يكن مقصد المجموعة التمشي بالقرية للأسف، وهو أمر سأقوم به إن شاء الله حينما أعود إلى ذلك البلد في يوم ما. أعتقد أنها أعطتني لمحة على الأقل عن تخطيط كوزكو وحدودها المعلمة بساقي مائي، رسمها على شكل نمر. يمكن تخيل مدنهم الجميلة وقد تخللتها السواقي كما بالصورة، التي يظهر بها كيف أحمر معلق بعصا على الجدار، دلالة على وجود تشيتشا في المشرب أو المنزل جاهزة للتقديم، وهو مشروب يمكن أن يكون كحولياً حينما يأتي باللون الأصفر كما فهمت، ويكون مجرد مشروب حلو المذاق حينما يكون بنفسجياً، وهو يصنع من نوع من الذرة.





كان بجانب القرية أثر مهم، مدرجات زراعية وأماكن لأداء طقوس تطهير دينية. كان الصعود متعباً جداً، ويمكنكم تخيل وضع الكثير من العجائز والشيوخ، لكن، ما شاء الله، كم صحتهم طيبة، وكم عزيمتهم أطيب. كان هناك امرأة واحدة فقط تخلت عن إكمال الصعود معنا، والزوجين الطيبين الذين أضحكاني حينما سألت عن الوقت لم يصعدوا هنا أصلاً. التي توقفت عن الصعود هي استرالية جائت مع ابنتها الشابة، وهي امرأة شابة أساساً، لعلها في منتصف أو نهاية الأربعينات، لكني فهمت أنها لديها حالة بالقلب فخافت بعدما شعرت بالإرهاق. كنت أنا مرهقاً، لكن لم يكن هناك مجال للجلوس في أوقات الاستراحة وحرمان مسن أو مسنة من المكان. لكن المميز كان وجود امرأة تعدت السبعين بكل تأكيد، صعدت ونزلت معنا، ثم كشفت أن كلا ركبتيها صناعي، ما شاء الله تبارك الله. تمنيت من كل قلبي لو هاتفت والدتي معها، وتخبرها عن التجربة لتخلصها من أي تردد.


كان المكان سحرياً، كشأن الوادي كله. ترى من فوق المدرجات المبنية بإحكام شبكة الطرق التي تعدت 45 ألف كيلومتر، التي بناها الإنكا لربط الإمبراطورية، واستراحة ومستودع، حيث كانوا يضعون الاستراحات كل حوالي 25-30 كيلومتر على الطريق، بحيث يستريح المسافرين، ويجدون الطعام، والمأوى، ويطوف الحراس على الطريق، بحيث كانت المرأة في زمانهم تسافر بطول الامبراطورية وعرضها لوحدها لا يمسها سوء؛ هذا، ما أسميه تحضر.




كانوا يبنون المستودعات في أماكن استراتيجية، ليست عالية يضربها الهواء ويفسد المحفوضات، وليست طامنة يفسدها الحر. وقد قرأت بأن الامبراطورية كلها قادرة على مواجهة سبع سنوات من الجفاف وقلة الغلة دون حدوث مجاعة أو موت أحد، فقد كان الدولة تكفل الشعب. قرأت كذلك أنه حتى من يمتهن صيد الحيوانات لم يكن له الاحتفاظ بصيده كله، إذ ماذا عن من لا يستطيع؟ والأرامل والأطفال؟ كان جزء من الصيد يعطى للدولة كضريبة، تعد للحفظ بالتجفيف (الجركي، اللحم المجفف شديد الشعبية في أمريكا، هو أصلاً ابتكار شعوب البيرو القديمة التي تسميه تشاركي).
حتى الزراعة كانت تتم بالمشاركة، حقول للعاجزين والأرامل، وحقول لأهلها، وحقول للدولة والملك، وكانت تزرع وتحصد بالدور على نحو منظم من قبل الجميع، وكان هذا يسمى نظام الماتأ.
جاء الاسبان، وذهب كل هذا، بعدما حرف لصالحهم، أما الطرق فاندثر أكثرها. ألا قاتلهم الله.









اختار المرشد الطريق المخالف للصعود، وهو الأصعب والاطول، لكنه الأجدر بالعناء. يمر بغرف طقوسية جميلة، ونوافير رائعة.


كان الإنكا، الملك، يأتي في يوم معين من السنة، ليستحم ويتطهر في هذه النافورة، وفي هذا اليوم تقع الشمس من خلال النافذة بشكل يتركز فقط على مصب الماء، حيث أن البناء ككل وموضع النافذة تم تصميمه لهذا الغرض، لجعل الماء في ذلك اليوم مباركاً من الشمس، التي يقدسونها، كسائر الأمور الطبيعية.





في الصورة التالية، يمكن رؤية أحد المستودعات القديمة في الخلفية من خلال النافذة، وهو نفس ما عرضت صوره بالأعلى، حتى يمكنكم تخيل أبعاد المكان.




من يتخيل أن هذه النوافير لا زالت تجري منذ الأزل، من منابعها الأصلية، وعبر ممراتها الأرضية المحكمة.
إن الماء ومصابه وكل ما يتعلق فيه يسيطر على خيالي، وحينما يطوعه الإنسان برفق وإحساس، يسيطر على قلبي.
كنت ألتقط الصور لهذه النافورة، وكان استرالي طيب يفعل ذلك أيضاً بنفس الوقت، بينما الجميع يتفرجون. وحينما أخذت صورة من زاوية معينة، تأوه البعض، ومزحوا مع الاسترالي مشيرين إلى حسن اختيار الزوايا، وأن سببه إما فارق العمر أو النباهة، مزح الاسترالي وقال بأن السببين على الأغلب صحيحين. ضحكوا جميعاً هكذا: أوه أوه أوه. إذ أن أكثرهم كبار سن.








هذه النوافير الأربعة تأتي من نبعين مختلفين، ولكل نبع حسبما فهمت قيمة معنوية، يمتزج الماء منهما، حتى يصب واحد في النافورة التي يستحم فيها الإنكا.






أما هذا فهو تقويم، يعتمد على وقوع ظل الأحجار الاسطوانية على القاعدة بالأسفل، وهو مهندس على نحو دقيق جداً، ويحدد مختلف المناسبات المهمة للإنكا، كالزرع والحصاد. على أن التقويم هذا تعرض لبعض التخريب كما قال المرشد.




كانت المدرجات مبنية بنوع خاص من الحجارة والملاط، يجلب من مكان آخر، سمته الأساسية هي احتفاظه بالحرارة نهاراً، ثم إطلاقها ليلاً، مما يحفظ الزرع من الصقيع، ويطيل أمد الزراعة والإنتاج. كانت تقنيات الري والزراعة مذهلة.






لم يتكلم المرشد عن طريقتة مزج التربة، فأخبرته متسائلاً لأتأكد من معلومتي. ورغم أني سألته ولم يكن معنا أحد، إلا أن هذا النوع من الأسئلة مني بدا أنه يثير ضيقه. كان الإنكا يعدون التربة من طبقات مختلفة بالمدرجات هذه، بحيث أن حوض المدرج يبدو كالكوز المقلوب، وليس كالحوض المستطيل، كانت طبقات مختلفة من التربة فوق بعضها لكل طبقة وضيفة، الاحتفاظ وتمرير الماء، وطبقة من أفضل سماد طبيعي معروف حتى الآن، يؤتى به من المنحدرات الصخرية على المحيط الهادي من ذرق الطيور البحرية، ولا زال يباع هكذا، يصدر كثير منه إلى من يقدر قيمته لزراعته. قال المرشد بأن هذا صحيح، وشرح أن جلبه كان مستمراً، إلى جانب أشياء أخرى كثيرة، حيث أن أهل الجبال أصلاً كانوا يأكلون الصيد البحري طازج إلى حد بعيد، بفضل الطرق.

بالأعلى، كانت هناك صخور عملاقة واقفة كالجدران، كما قصت من الجبل البعيد المقابل بطريقة غامضة، وكانت ستصبح مبنى لولا أنهم توقفوا فجأة بسبب الغزو الاسباني. ولم يسأل أحد من الأسبان في ذلك الوقت كيف قصوا تلك الأحجار الضخمة بدقة غير عادية ولا تشوبها شائبة، فقد كانوا يحتقرون أي إنجاز ليس لهم وإن لم يتمكنوا من الإتيان بمثله، وحتى حينما تعجبهم المدن فهم يتجهون إلى تخريبها وهدمها.

كانت بطارية كاميرتي قد انتهت حينما وصلت القمة، وكنت قد نسيت بطارية أشيائي الاحتياطية في حقيبتي بالحافلة. بصراحة، لم أسرف كثيراً بالتصوير خلال رحلتي، رغم أني التقطت صور كثيرة، ولم أكن أحزن حينما لا أستطيع التقاط صورة أو أنسى التقاط صورة، أو حينما اضطررت لاستخدام كاميرة جوالي الرديئة حينما نسيت الكاميرا، ذلك أني كنت أفكر مسبقاً أن المهم هو أن أرى بنفسي، أن أشعر بالأشياء وأدركها، أن أحقق أمنياتي قبل تصويرها، وكنت دائماً أشعر أن الناس ينظرون للأشياء من خلف كاميراتهم أكثر من اللازم.
نزلنا من الطريق الذي يصعد منه الغالبية العظمى من الناس، وهو طريق أثري مباشر، يبدو صعباً لأول وهلة، لكنه ليس كذلك.
بعدما نزلنا، جلس برفقتي الرجل استرالي من موقف التصوير، ومن تناولت الغداء معه على نفس الطوالة، جلسنا على عارضة حجرية، وتكلمنا عن خطط سفرنا ريثما ينزل بقية رفاق الحافلة، إذ كنا من أوائل من وصل، واختارت المرأة الأوروبية اللطيفة أن تجلس إلى جانبي. سأل بشيء من التردد أو الخجل عن بلادي، فأخبرته، أصابه هذا بذهول لم يخفه كذلك، وابدى اهتماماً لطيفاً. بينما تكلمت معي المرأة اللطيفة قليلاً، حتى سألت من أين أنا، حينما قلت لها، بدت عليها صدمة مكبوتة، وأصبحت أكثر بروداً. هي من بلجيكا، وأصلاً من بلغاريا. لست أعتقد أن الأمر بالضرورة عنصرية، ربما ساهمت النظرة الشرق أوروبية، خصوصاً، إلى العرب بتكوين صورة معينة لديها، ولكن، لا شك لدي أن الصورة تأكدت حينما هاجرت إلى بلجيكا؛ إنها تحسبني مثل اؤلائك المتسكعين هناك من بعض المغاربة ومن لف لفهم، تحسب كل العرب على نفس الشاكلة. لقد اطلعت كثيراً على المشاكل التي يسببها المهاجرين واللاجئين العرب على كافة المستويات بالنسبة لأهل تلك الديار، ورغم أن المرأة نفسها تعتبر مهاجرة بشكل ما، إلا أنها أوروبية، بذات الثقافة إلى حد بعيد، قابلة ومريدة للاندماج، وبما أنها كانت سائحة في ذلك المكان القصي، فلا بد أنها كانت تعمل هناك هي وزوجها وتنفع المجتمع، لا تسرق أو تنصب أو تتحرش. إني أتفهم الأمر لأني أرى كيف أن العرب حتى حينما يأتون إلينا لا يقدروننا، ويسببون المشاكل في أحيان كثيرة؛ إنهم ببساطة لا يقدرون الفرصة. وبما أننا ولله الحمد لا نحتاج إلى الهجرة حتى الآن على الأقل، لا تفرق تلك المرأة بيني وبين اؤلائك القوم. ولأكون منصفاً، السياح العزاب من عندنا يعطون صورة شديدة السوء كذلك في أحيان كثيرة، على أني أشك بأن هذا قد أثر على رأي المرأة بالنظر إلى أنه لا بلجيكا ولا بلغاريا تعتبر وجهات للنوعيات السيئة من سياحنا العزاب، كما أن الأغلبية من السياح الغربيين كانوا مأخوذين بانتمائي، رغم أن العرب ليسوا بقلة بالتأكيد في ديارهم.
في بلجيكا، صورت امرأة قبل فترة نفسها، على نحو خفي، وهي تمر بالقرب من مهاجرين شمال أفريقيين يتسكعون، وقد حاولوا مغازلتها، وإلقاء كلمات بذيئة لما لم تستجب لهم، وقد أثار الفيديو جدل كبير، خصوصاً أنها صورت أكثر من مثال. تمنيت لو كنت أخبرت تلك المرأة لما شعرت بتغير نبرتها بأني لست مثل هؤلاء، لكني للأسف لم أكن حاضر البديهة.
الاسترالي كان أكثر ترحاباً، وبالواقع، كان مهتماً جداً. عموماً الغريب في رحلتي كان أن الناس يتخيلون أني أتيت من أبعد مكان بالعالم، رغم أنهم هم أنفسهم أتوا من أماكن بعيدة. فقولي أني عربي، بطريقة توحي أني من الجزيرة العربية، تجعل الكل يلتفت ويهتم.




مضينا بعد ذلك إلى كوزكو، وكانت المناظر عبر الوادي المقدس رائعة. كانت هناك بيوت أنيقة وقديمة على ما يبدو، مبنية على الطراز الاسباني، وكانت جميلة، وإلى جانب بعضها كانت هناك نخلة عربية عند المدخل. صدمني المنظر، وجود النخلة في ذلك المكان القصي، لا بد أن الاسبان حملوها معهم، كما حملها العرب معهم إلى اسبانيا وصقلية. كان منظر مس شغاف قلبي على نحو لم أعهده، جعله ينبض على وقع أبطأ وبمجهود غريب، وكأنما سيتوقف بإرادته الخاصة. تمنيت لو توقفت الحافلة، ونزلت إلى النخلة، وزرتها، ولمستها، وحضنتها. لأخبرها بأنها ليست وحيدة، أن أحد تعرفه أمامها الآن، أحد لعل أجداده اعتنوا بأسلافها. تسائلت إذا ما كان شخص مثلي قد زارها ولمسها من قبل، وآنس وحدتها، وأخبرها بأنها غير منسية.
كما كانت تذكير مفاجئ بمن أنا، وما أنا على تلك الأرض القصية التي أحببت في ظرف أيام.
كنت أحدث والدتي حينما عدت من البيرو عن نوع عجيب من النخل بالأمازون، حينما قاطعتني والدتي لتسأل عما يهمها فعلاً؛ هل يوجد لديهم من نخلنا؟. حينما أخبرتها، أنّت بتأثر، وغطت فمها بغطاء رأسها، وكأنما تأسف على غربة تلك النخيل، وانقلبت إلى جهة أخرى حيث كانت مستلقية، وبدا عليها الأسى. إن حبي للنخيل، وإن غلبني الجهل بأمره، زرعته بي والدتي، منذ طفولتي. كانت قد شجعتني على تلقيح نخلات منزلنا القديم في الموسم، وتعلمت الأمر وعشقته. إن أسوأ ما في منزلنا، على كل علاته، ونحسه، هو عدم وجود نخلة فيه.

حل المساء حينما وصلنا. أنزلونا قرب الساحة الرئيسية بالوسط التاريخي للمدينة الجميلة. لم أكن واثقاً من أني سأجد طريقي إلى النزل، لكني أخبرتهم بأني سأكون على ما يرام؛ أردت أن أضيع قليلاً. كنت أشعر بالنعاس، لكن لم أشأ أن أنام، ذهبت أدور وأتوه هناك، كان جمال المكان حتى بالليل طاغياً. ذهبت إلى محل سول، وكانت هناك بائعة اسمها فلور، جميلة، يعجز الوصف حقاً، ولطيفة جداً ومتعاونة.

عودة لتلك الليلة، اتفقت مع فلور على التفكير ببضعة قطع، ووعدتني بخصم جيد، خصوصاً أن كيس فرعهم الآخر كان معي.
لأني ناعس وخامل، لم يكن لدي طاقة للذهاب إلى مطعم تقليدي وانتظار إعداد وجبة والاستمتاع بها كما يجب، فذهبت إلى بيمبوس، وهو مطعم وجبات سريعة مثل مكدانلدز، الذي يتواجد هناك كذلك، لكن بيمبوس أفضل بكثير، إنه أفضل مطعم وجبات سريعة جربته، كما أنه أرخص من مكدانلدز هناك، ووجباته مشبعة أكثر.
ما لاحظته كذلك على مطاعم الوجبات السريعة هناك هو الاهتمام الشديد بالتعقيم والنظافة. ترى العامل أو العاملة يأتي بفوطة بمحلول معقم كل فترة وأخرى ليمسح حنفيات مكينة المشروبات الغازية جيداً، والسطوح التي يمرر عليها الطعام بفوط أخرى. كما أن العاملين لن يمدوا إليك ملعقة مثلاً بأيديهم، لا شيء يمد باليد، إنهم يأخذون منديلاً أولاً، ويمسكون به الملعقة، أو كيس الكاتشاب أو شفاط المشروب، ويمدونه إليك هكذا. لابد أن الرقابة الصحية شديدة عليهم، وهذا ليس في مطعم بيبموس فقط، إنما في كل الوجبات السريعة التي زرت؛ كنتاكي ومكدانلدز.
بيبموس يستخدم صلصات ومنكهات تقليدية في بعض سندويتشاته. أتمنى لو كانت لدي القدرة لفتح فرع منه هنا. لكنه للأسف لا يبيع الكاوسا، وهي أكلة تقليدية تعتبر من المقبلات، كنت قد وصفتها ربما في التدوينة الأولى عن الرحلة.
خرجت من بيمبوس وقد استدار رأسي (شبع+نوم)، ورغم أني كنت أفترض معرفتي للطريق من ساحة ارماس إلا أني لم أعرف أي كنيسة تكون على يساري، أم على يميني؟. ذهبت إلى مكتب حكومي لمساعدة السياح، وقلت بأني ضائع. كان لديهم اجتماع أو حفل، لكن موظفة لطيفة جائت معي، وبحثت عن النزل بالخريطة ثم دلتني على الطريق، وزودتني بخريطة وخرجت لترسلني عبر الطريق الصحيح. مع ذلك، حينما وصلت إلى شارع النزل، كان يجب أن أسأل امرأتين تابعتين لبلدية المدينة، يجمعن القمامة، وما أعجبني بخلاف لطفهن كانت أناقتهن، رغم اللبس الرسمي، وكن شابتين صغيرتين مليحتين.
كانت العودة برأسي الذي أثقله النوم ممتعة، وبعدما ضمنت معرفتي للطريق مشيت على مهلي، أتأمل المكان، وأستمتع بالتطلع إلى الجدران العالية المحيطة بالأزقة الضيقة والممرات الواسعة. كان علي أن أنام باكراً، لأني بالصباح سأرتب حقائبي، لأتركها أمانة لدى النزل، وأغادر في تمشية، تعقبها ليلة في فندق بالوادي المقدس، ثم رحلة على القطار.
جائت امرأة في نهاية أربعيناتها كمرشدة بالصباح، اسمها سيلينا، وهي ذات شخصية قوية جداً، وواضحة، ولطيفة. تعامل المرء بالمديح حينما يقول ما يعجبها، بقولها: ولد طيب!، بطريقة تشبه طريقة معلم، وقد ذكرتني كثيراً بمديري في مركز السكري، حيث كانت أول وظيفة لي، باستثناء أنها إنسانة طيبة على ما يبدو.
حينما رأتني تسائلت من أين أنا؟ من الهند؟. ضحكت وقلت لا، وأخبرتها، وقلت بأن بشرتي قد تكون غامقة، لكن الهنود عموماً لهم بشرة داكنة أكثر. قالت بأن بشرتي فاتحة بالواقع، وأن بعض الهنود بشرتهم فاتحة، وأني وسيم!. ضحكت وشكرتها على مجاملتها. كانت امرأة ذكية، ومكافحة، حيث أنها تزوجت في السادسة عشر من عمرها وسرعان ما أنجبت، وأكملت تعليمها الجامعي مع زوجها، ويخططان للتقاعد قريباً بعدما كبر الأولاد، وقد سافرت إلى عدة دول، إذ تهوا السفر مع زوجها. لم تعجبها المكسيك، أو أهلها. يبدو أن هذا شعور عام في البيرو، حتى من حيث الطعام، لا تعجبهم شهرة المطبخ المكسيكي، لأن مطبخهم أفضل، ورغم أني لم أتذوق ما يكفي من الأكلات هناك، إلا أن ما تذوقته يكفي للقول بأن مطبخهم ليس جيداً بل رائع لا يُفوت.
كانت تعاملني كصبي، لكني تفهمت هذا، فأبناؤها من سني، وكانت هي معتادة على الحس الأمومي بالتعامل. كانت تشكو كذلك من مشاكل في ركبها، مثل والدتي، فحاولت أن لا نسير كثيراً، ولما سألتني إن كنت أريد النزول في أحد الأودية مشياً، وهو ضمن الجولة، قلت بأن رؤيته من الأعلى تكفي. قالت: ولد طيب! وأعتقد أنها كانت تحمل هم النزول، مسكينة. كنت بالواقع لا أريد أن أتعب ركبها فقط.
معلوماتها غزيرة جداً، وقد أفادتني حقاً. وقد جعلت السائق يخرج من المسار، عبر طريق ريفي، لأرى المزيد من القرى. كانت جولة رائعة، أجمل مما توقعت.













ذهبنا إلى موراي، وهو مكان مثير للاهتمام، حيث يوجد حقل دائري مقعّر، محفور على شكل مدرجات إلى الداخل، كل حلقة تحوي جو ودرجة رطوبة مغايرة للأخرى، وكان هذا المكان يستخدم كمختبر لعلماء الإنكا، يهجنون فيه النباتات لإنتاج سلالات صالحة للزراعة وقوية الإنتاج في مختلف أجواء الامبراطورية، الممتدة على كافة التضاريس المعروفة، الأماكن الصحراوية، الرطبة، السهلية، الجبلية، العالية، المتوسطة، كان هذا لتغذية سكان الدولة.





وذهبنا كذلك إلى منجم ملحي، في واد عميق، يستخدم منذ أيام الإنكا وحتى اليوم لإنتاج ملح من أجود الأنواع، يسمى ماراس.
كان منظره وعمقه مهيبين. كما يمكنكم الرؤية من الصور، برؤية حجم الرجل في حوض الملح بالصورة الثانية مقارنة بالمكان بالأولى. وقد وجدت ملحه يباع في علب خاصة، ومرتفعة السعر، بالمطار، وللأسف لم أشتري منه.





تحدثنا عن كتاب تؤلفه سيلينا، إنه عن كوزكو، ورؤيتها لها حينما كان صغيرة, قبل أن تتغير وتصبح عالمية، حيث لم يكونوا يرون الاجانب إلا فيما ندر، وهم الآن يكافحون للحفاظ على هوية المدينة. حكت عن ذكرياتها وهي صغيرة، وكيف بدت المدينة مختلفة، ورحلاتها إلى السوق، وتأخرها لحبها للتحادث مع الجميع، تلف أعصاب والدتها حينما ترسلها لشراء شيء، وأمور جميلة كهذه. وقالت بأنها اطلعت بضعة نقاد ومحررين على مسودة كتابها، وقد أعجبهم وشجعوها على نشره، لكنها لا تزال حائرة؛ ماذا تسمي الكتاب؟. قلت مقترحاً بأنها يجب أن تسميه شيء يدور حول كوزكو حينما بدت عملاقة؛ فهي تتحدث عن رؤيتها لكوزكو بعينها وهي طفلة صغيرة، وبالنسبة للصغار تبدو الأشياء أكبر مما هي عليه للكبار، لذا؛ كانت كوزكو بالنسبة إليها أكبر مما هي عليه الآن. كانت عيناها تتسعان، وابتسامتها كذلك، كلما أكملت شارحاً، ثم قالت بأنها فكرة رائعة، وستقلبها في ذهنها جيداً.


وصلنا إلى الفندق في الوادي المقدس، قرب محطة القطار، يا الله، كم استولى ذلك المكان على قلبي.
الفندق كان جيداً، مريحاً وأنيقاً، وهو أشبه بمنتجع، بحديقة رائعة. سألت الفتاة الطيبة بالاستقبال، إن كانت الطيور الطنانة تأتي هنا؟ قالت لا، إنها لم ترها أبداً هنا، وهي تعمل منذ حوالي ستة أشهر. ذهبت لأجلس بالصالة، منتظراً الوقت المناسب لأتصل بأختي عبر الانترنت، ثم فوجئت بطائر جنان يئز طائراً خارج النافذة، يشرب الرحيق من زهرة، ثم يقترب من النافذة ليشاهدني قليلاً ثم يذهب إلى زهور أبعد. ضحكت، شعرت أن حظي لم يكن أبداً بهذا الحسن كما هو عليه في هذا البلد الجميل. ناديت الفتاة، وأريتها إياه، فضحكت متفاجئة، قائلة بأنها لم تره من قبل هنا.
كان العشاء هناك رائع على نحو لا يوصف. تأخر الطعام عن الوصول، ربما بسبب مجموعة ضخمة من السياح الفرنسيين الذين سبقوا الجميع وأشغلوا المطبخ، لكن الطعام كان رائعاً جداً، لن أنسى لذته، كان لحم خروف مشوي بالطريقة التقليدية.
في فجر اليوم التالي، جاء سائق من الوكالة، ليأخذني إلى محطة القطار. كنت سأذهب إلى ماتشو بيتشو، وأمضي هناك ثلاثة أيام. ليس بالمدينة الأثرية نفسها بالطبع، لكن في مدينة مستحدثة في وادي، تمثل مكان يتوقف عنده السياح بالقرب من المدينة الأثرية أعلى الجبل. اسم المدينة آقواس كاليينتيس، وهي قرية صغيرة سياحية بالمقام الأول، تتوقف عندها القطارات التي تحمل السياح، وتنطلق منها الحافلات إلى الموقع الأثري. كنت سأبيت في فندق صغير، والقرية نفسها لا شيء فيها يثير الاهتمام. يوجد فيها شارع مليء بالمطاعم، حيث يكاد يتخطفك العاملين فيها لفرط المنافسة، ويوجد ساحة صغيرة يجتمع فيها السياح وأهل القرية، بالقرب من مقهيين أو ثلاثة، وقرب كنيسة ومركز إداري.
لكن لندع كل هذا للتدوينة القادمة، حيث أمضيت أجمل أيام الرحلة لوحدي.

كنت أخطط لجعل هذه التدوينة الأخيرة، أخبر بها عما بقي من الرحلة. لكن تبين أنه بقي أكثر مما أتخيل مما يستحق الحديث عنه. لذلك، قد أحتاج إلى تدوينتين قادمتين إلى ثلاث.




"هل تشتاق إلى البيرو؟"

سألني أحدهم قبل أيام. أجبت:"أشتاق؟ إني أموت شوقًا".
ليس لديكم أدنى فكرة، كم كتابة هذه التدوينات، وتجهيز الصور، أمر معذب، لكن، أمر جميل بنفس الوقت.
هناك، حتى مناماتي صارت جميلة.





اشتركت في دورة لغة اسبانية، يوفرها معهد ينتظر العدد المناسب والمجزي من الطلاب ليعقدها. وقد استمر ينتظر منذ قبل رمضان حتى اسبوع مضى.
أعتقد أن متابعتي معهم على تقطعها كانت ثقيلة. وكنت قد زدت الطين بلة حينما قلت بأني قد لا أتمكن من الدراسة لأكثر من نصف الدورة، لظروف قد تطرأ، وهذا ما سأدفع لأجله. لم يقولوا لا، لكن لا يبدو أنه كان طلب مقبول عموماً.
البارحة كانت أول يوم بالدورة. حينما أتيت بالمساء، اصطحبني منسق الدورة إلى فصل دراسي، حيث تقام الدورة في مدرسة عالمية. جلست لأنتظر المعلمة وبقية الطلاب، إذ كنت أول من حضر، وكان قد أخبرني بأن المدرسة اسبانية مسبقاً. حينما فتحت الانترنت على الجوال، وصلتني رسائل من كارلا على الوتساب، من البيرو، كانت مصادفة عجيبة، في أول درس عن اللغة الاسبانية، وبعدما كنت أفكر بأمرها في طريقي إلى الدورة، حيث كانت تريد تسجيل ابنتها في مدرسة راقية، وكانت تخاف من عدم قبولها لظروف اجتماعية. كانت تسأل عن أحوالي وأهلي وأمي. أخبرتها بالأمر، أفرحها الخبر، وقالت بأنها ستساعدني إذاً بالتعلم. وبينما نحن نتكلم، دخلت المدرسة، وسلمت. سألت إذا ما كنت سعودياً؟ قلت نعم، سألت عن اسمي، وأخبرتني من اسمها، وقالت بأنها من مدريد، وسألتني إذا ما كنت قد زرتها؟ قلت لا، ولكني زرت البيرو. تخشبت في مكانها فجأة، وتمتمت وكأن الأمر معجزة، بدا الموقف مضحكاً، وقالت بأن أهلها من البيرو! أي أن أصلها من هناك. بالواقع، كانت ملامحها تشبه ملامح السكان الأصليين، سوا أنها بيضاء البشرة أكثر مما ترى هناك إجمالاً مع مثل هذه الملامح. كانت الفكرة مثيرة بالنسبة إليها، وأمطرتني بالأسئلة، أين ذهبت؟ وماذا فعلت؟ وماذا رأيت؟ وماذا أكلت؟ قالت بأنها قد أعدت كاوسا قبل قليل لزوجها. وسألت عن أكثر ما أعجبني هناك؟ قلت بلا تردد: الناس. أخبرتها عن كارلا، وأني كنت أحادثها الآن، ولا زالت تنتظر ردي على الهاتف.
لكني شعرت بالإحراج لما أخبرت بقية المشتركين بالدورة عن رحلتي، ذلك أنه أمر لا يهمهم. وفي الاستراحة القصيرة قبل نهاية الدرس، لم تفوت لحظة قبل أن تعود لتسألني عن رحلتي وتناقشها معي.
هي لطيفة إلى حد بعيد، وشرحها ممتاز ومنطقي، رغم أن بعض الموجودين يستعجلون بطرح أسئلة ليست في وقتها، وقد أشارت إلى هذا، وأحدهم يقاطعها أكثر من اللازم، وهو أمر جلب لي الصداع، وربما ارتفاع الضغط.
أغلب المشاركين أجانب؛ سوريين، وربما أردني، ومصري. يوجد شخصين متأكد أنهم سعوديين، رجل آخر، وفتاة هي الوحيدة في الفصل، أشفقت عليها بالبداية، لكن مع مضي الوقت وجدت أنه لا تبدو عليها المبالاة أو القلق، إذ يبدو أنها معتادة على بيئة مختلطة في مكان عملها، إن كان تخميني صائباً، حيث أني لم أرها جيداً، فأنا جلست في مقدمة الصف، وهي في ما قبل الأخير، وقد تجنبت الالتفات للخلف منذ حضورها. هي أذكى الموجودين على ما يبدو، وعلى وجه العموم، النساء أذكى من الرجال بأكثر الشئون. لكن الفتاة لم تحضر في الدرس التالي، ولا أعتقد أنها ستعود، وهو أمر مفهوم.
لا أحب حضور شلة واحدة لدورة أو محاضرة، أعتقد أنها طبيعة بالناس حينما يشكلون مجموعة أن يأخذوا الأمور بجدية أقل، ويميلون إلى استخفاف الدم واللا مبالاة. كان البعض مزعجين بالبداية بضحكهم ومزحاتهم وتحدثهم المستمر، لكنهم بعد مضي بعض الوقت هدأوا لحسن الحظ، أعتقد أنهم أدركوا أن هذا السلوك غير لائق. قبل فترة حضرت لقاء ليزيد الراجحي، صاحب الرالي المشهور، وقد تواجد بالقرب مني شابين أو ثلاثة، ظلوا يتحدثون ويستخفون دمهم ويسخرون من المشاركين ومشاركاتهم، خصوصاً الفتيات، حتى تمنيت لو طردوهم على نحو مهين ليتعلموا درساً عن الحياة والأدب.
بعد أول درس، ورغم أني فهمت كل ما حاولت المدرسة إيصاله، إلا أني أشعر بالخوف والارتباك، أشعر بأن قدرتي على التعلم، وهمتي، قد ضعفت كثيراً عبر السنوات.






كاتب اسمه جاسر الحربش في جريدة الجزيرة، من اؤلائك الدكاترة السعوديين المتفلسفين، وهو طبيب كذلك، كتب يتكلم عن أهل الجزيرة العربية، ويفلسف حالهم، ويتهمهم بالجمود عبر العصور، وعدم المبالاة بالعلم والابتكار. يفكر المرء بتفاهة هذه الأشكال التي حالما تطرأ فكرة في عقولها الضيقة حتى تفلسفها وتؤلف مقال طويل يتجاهل أي حقيقة أو ظرف تاريخي، دون تفكر أو إعادة نظر.
كان مقاله مستفزاً، بغبائه، بثقته، بجلافته. رددت على المقال، وتم نشر ردي على صفحته على الانترنت، لكن بعد تحرير الرد للأسف. أني أقدر بالحقيقة سماحهم بردي، لكني كنت أتمنى لو كان لي القرار حول نشره بعد التحرير، إذ لم أكن لأسمح بنشره، فالمراعاة التي اتخذها المحرر لم تكن في محلها، ولم يستحقها هذا الدكتور المائق. كنت قد تحدثت في ردي عن أمثاله من الفرحين بحرف الدال، ولسبب ما، حذف المحرر هذه العبارة، رغم أنها جزء جوهري من النقد المخصص لأصل المشكلة. وكان الدكتور المغرور هذا قد ذكر بتفاخر بأنه حينما سمع من أحد مرضاه عدم اقتناعه بالطب الحديث مقارنة بالطب النبوي، وأنه جاء رغم ذلك بسبب مديح البعض، الذي أفترض أنه ليس في محله، لهذا الطبيب، أقول أنه ذكر بتفاخر بأنه أعاد إليه رسوم الكشف ورفض فحصه. هذا الشكل من التفاهة، والفعل المبالغ فيه والخالي من الإنسانية والمهنية أمر معتاد من هذه الأشكال، التي تأتي بردود فعل غير صحيحة حتى تتميلح بها بالمجالس والمقالات للأسف، وحتى أمام الممرضات. كتبت أنتقد فعله، وأقول بأنه أتخذ هذا الموقف ليكون جديراً بالذكر في هذا المقال الصفيق، سوا أن المحرر مرة أخرى حرر قولي الصفيق، وترك قولي في نهاية الرد: لزوم التميلح (!!).
أعرف أن شيء من الحس بالعدالة دفع المحرر لعدم رفض ردي الصريح، لكن محاولته تلطيف ردي، خصوصاً باقتصاص عبارات أراها جوهرية، جعلتني أنظر للأمر بيأس؛ كان في الأمر سخرية مريرة، ففي ردي تكلمت عن استفادة أشكال هذا الدكتور من تبجيل المجتمع المنبهر، وكان التحرير دليل صارخ على هذه المفارقة المؤسفة، لن يراها ولن يعيها أحد على صفحة ذلك المقال الرديء، وعلى رأسهم ذلك الدكتور سيء الذكر.


دكتور آخر اسمه الشقراوي، يعمل بأمور التغذية، صار من أهل حماية المستهلك، وهذه المنظمات التي يفترض أن تخدم المجتمع، اسمياً، باتت وسيلة للبروز والتمايز لهؤلاء الدكاترة، بعدما صار العشرة منهم بريال، إن لم يأتوا مجاناً مع كرتون الحليب. يقول في تصريح إلى صحيفة سبق عن المستهلك المحلي أنه يحتاج إلى تلقيمه المعلومة تلقيماً (!!)، وأن المجتمع ينقصه الوعي. بهذه العقلية التي تتحدث عن المجتمع وكأنه كله تلاميذ روضة لدى الدكتور هذا، والجأر بالشكوى من نقص الوعي بذلك السياق المتعالي، يجعل المرء يتمنى أن لا يسمع شيء عن هذه الجمعية، التي يبدو أن أي عمل ستقوم به، إن قامت بشيء، فستثمنه بأكبر من حقه بكثير، وستكون بلاء على بلاء في إحراج المجتمع وعدم احترامه، فمجتمع بهذا الغباء كما يصوره هذا المغرور لا يستحق فعلاً سوا ما يصيبه، بمنطق دكتور تعب من تلقيم المجتمع معرفته ووعيه.
انعدام الحساسية من الأمور التي يتمادى بها كثيراً هؤلاء، مجانين الفوقية ولفت الانتباه، والتظاهر بأنهم أحسن من الجميع.

يعتقد المرء أن التواضع يجب أن ينبع من داخل الإنسان، لكن مثل هذه الحالات التي تحدثت عنها أعلاه لن تفهم التواضع قبل أن تُواجه بالازدراء على ما أعتقد.
والله أعلم.




سعد الحوشان