السبت، 9 مايو 2015

سقا الله نجداً، أولا وأخيراً(رحلة إلى المكسيك وسواها،قصائد،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم







من يمكنه أن يقرر القيمة الحقيقية للسنين الضائعة، فيما يخص علاقة أو معضلة ما؟. من يمكنه أن يقرر هل كانت ضائعة، أم مكتسبة؟.
يخيل إلي أحياناً أني أميز بين ما ضاع وما اكتسبته، بعد فراق وهجر. لكن، أيقنت مؤخراً بأني لا يمكن أن أكون مصيباً دائماً، خصوصاً حينما تكون النهاية مفاجئة، وغير ناتجة عن تراكمات تبرر، وتأمل يؤكد.
لقد ظللت فاقد للأمل بالكثير  من الناس، في حين وزعت حسن ظني  بكرم تجاه آخرين، دون أن أتذكر بأن الناس يتغيرون. في مرحلة ما، هم كرماء معطاؤون، لكن تتغير الظروف. وفي حالات؛ هم قساة مجحفون، لكنهم يتعلمون مع الوقت من أخطائهم، أو كما آمل.

لكن هناك مواقف ناشئة من السذاجة أو الحماقة، وهناك الأخطاء العابرة غير المتوقعة، لكنها تصبح ذات تأثير حاسم. حدث هذا لصداقة قديمة، جمعتني بشخص ظللت أعترف بأنه له قلب طيب، وظللت أتنبأ بأنه سيدرك حتماً مع الوقت فداحة ما قام به في حقي، لكن الأوان سيكون قد فات؛ سأكون أنا قد تغيرت، وما أريده قد تغير، وسيكون ما يجمعنا أقل. كانت صداقة واحدة من بين صداقتين زامَنَتها، وكانت الأكثر عدلاً والأصفى نوايا، رغم الفروقات الكبيرة من  ناحية الفكر والظروف.
صدق ما تنبأت به قبل فترة ليست بالقصيرة. أدركت بوضوح ذلك الندم لدى الطرف الآخر، والرغبة بالإصلاح والتجاوز، لكني كنت قد قررت مسبقاً بأنها  علاقة استنفدت دورتها، في ظل الفروقات والظروف التي تصورت بأنها لم تتغير،  لقد ظننتها فروقات تربوية جذرية، لا سبيل إلى تجاوزها، وكانت ستقضي حتماً في كل الأحوال على صداقتنا، ولا جدوى الآن من إعادة النظر، طالما قد خبرت هذه الفروق جيداً، ورغم طبيعتي التي تعيد النظر في الأمور على نحو مستمر.
بيد أن ذلك الصديق القديم لم يثنه صدودي، وعدم تجاوبي بتقدير مُعتبر تجاه ما يعبر عنه من محبة وحرص، كنت أكتفي فقط بالتهذيب، ومعاملته حين اللقاء مصادفة كمعرفة قديمة تستجلب ذكريات طيبة، لكن لم أرد التجاوب لمحاولاته إعادة المياه لمجاريها، بعد مرور سنوات طوال من التباعد.
كنت أذهل من طول نَفَسِه، ومن عدم مبالاته تجاه جهوده المهدرة، ومحاولاته غير المجدية، لكني كنت أتصور بأنه  يقوم بهذا لأنه فقط غير مدرك أن الأسباب القديمة لانتهاء صداقتنا لا زالت موجودة ولم تتغير.

قبل سنوات طويلة، كنا قد دخلنا فجأة في جدل عقيم، حاولت أن أوقفه قبل أن يتطور، لكن تدخل آخرين من طرفه رغم أنهم لا يعرفونني، وتحريضه على ازدرائي في ذلك الموقف، واستجابته لذلك بسهولة، قد سد كل باب في ذلك الحين لإعادة النظر، وحتى وقت قريب. لقد ظننت بأن خلفيته الاجتماعية تشجع ازدراء الآخرين ببساطة، وهذا أمر لا يمكنني التعايش معه. لقد عممت هذا على خلفيته كاملة لتدخل الآخرين بيننا دون أدنى اعتبار لإمكانية تحطيم صداقة امتدت منذ الطفولة.
لكن حدث أمر جلل في حياته، ورغم إعلانه الذي لا لبس فيه عن حاجته إلى دعمي، إلا أني وجدت نفسي في معضلة أخلاقية حلها سهل؛ خذلانه في توقعاته، حتى يفقد الأمل، حتى لا أخدعه، وحتى لا أكون منافقاً تجاهه. أعرف هذه المواقف، التي قد تغري البعض لاستعراض خيريتهم، لكني أفضل ببساطة الصدق والوضوح، فرب رحمة تغلف قسوة، يهترئ الغلاف سريعاً فيكون الجرح أكبر. وهكذا أمسكت العصا من المنتصف، لأني لم أكن واثق مما يمكنني تقديمه لو حاولت مجاراة توقعاته الواضحة، فقدمت واجبي كأي غريب، لكن لا أكثر. اتضح أن موقفي كان جارحاً، رغم أنه لا غبار عليه، لكنه توقع أكثر، لقد صدم بما تصور أنه مدى غضبي عليه، عبر كل تلك السنوات. لم يكن غضباً، صدقاً لم يكن، كنت فقط أريد أن أكون صادقاً، لا أريد أن أقدم شيء وأنا غير متأكد بأنه نابع من صميم القلب، رغم كل تعاطفي الصادق. واجهني، وكان متأثراً بما ألم به كثيراً، وبما وجده مني على خلاف ما توقع، كان يبكي. تساءل مصدوماً بألم؛ لماذا لا زلت غاضباً بعد كل تلك السنوات، وأنه توقع أني سأقف إلى جانبه رغم كل  شيء في هذا الظرف. أحزنني الأمر كثيراً، ذلك الأمل الخائب، والألم المضاعف. تواصلنا قليلاً في تلك الفترة، وكنت متردداً في دخيلة نفسي، لا أدري ماذا أصنع بالأمر. لقد ظللت على تقديري له ولطيبته رغم كل شيء، طوال تلك السنوات، لكني كنت أعتقد أن كلينا ذهب في طريق مختلف، ولم يكن لدي نية، بعد ما توصلت إليه من تنظير لما جرا، أن أتقبل صداقته وكأنها ممكنة، في ظل ما شرحت مسبقاً. لكني قررت أن لا أفكر بالأمر أكثر في تلك الظروف، وأن أقدر آماله خلال ما يمر به. تواصلنا وحاولت بقدر ما أستطيع أن أكون سبباً للابتهاج، والتسرية عنه وإسعاده. لكن لم أستطع نزع فكرتي الملحة من رأسي؛ كيف يرى ما بدر منه الآن؟ وكيف ينظر إلى موقف من حرضوه؟ وكيف أتقبل الأمر وكأن شيئاً لم يكن؟ رغم مرور كل تلك السنوات، إلا أن تلك الإهانة كانت تنم عن ازدراء عميق ومؤصل كما اعتقدت. لقد استمتعت بمحادثته بينما نسيت، وضاقت نفسي حينما تذكرت، وأحجمت، بحرص، عن الخوض بما يُهم أعز الأصدقاء الخوض به من بوح عميق.

إلا أنه انقطع فجأة، وفشلت محاولاتي التواصل معه. ورغم أنه كان يمكنني بذل المزيد من الجهد في سبيل ذلك، إلا أني تصورت بأنه ربما توصل إلى رؤيته الخاصة تجاه الأمر، وهكذا، أوقف صراعي الداخلي. فليكن، وإن شعرتُ بالأسف والحزن على اختفائه.
لكنه بعد فترة ليست بالقصيرة، فاجئني برسالة على برنامج بالجوال، وجد فيه فجأة وسيلة للاتصال بي. فهمت بأنه فقد بالواقع جواله، وكل الأرقام فيه، وظهر اسمي فجأة في ذلك البرنامج، وذلك لتسجيلي رقمه لدي، فاقترحني البرنامج عليه تلقائياً، وقد فرح كثيراً، ولم يفوت لحظة بعدما رأى صورتي الرمزية، التي ترونها أعلاه في المدونة، في ملفي الشخصي.
قررت في ذلك الحين أن لا أخيب ظنه أكثر. لم يهتم بي أحد بهذا القدر. بالواقع، لم يهتم أحد بي بقدر اهتمامه بي حينما كنا أصدقاء قبل سنوات، حتى الأصدقاء الآخرين في ذلك الوقت لم يكونوا بقدر نصفه أو حتى ربعه من حيث العطاء، وعدم الاكتفاء بالأخذ. كنت أتمنى لو عادت المياه لمجاريها في بعض الأحيان، لكنها كانت مسألة مبدأية، حتى محاولاته المتقطعة كانت تصطدم بشعوري الداخلي بعدم الجدوى والشك بصلاحية الأمر بعد التجربة. أما وقد رأيت هذا الإصرار، فلم يسعني سوا الاستجابة، لم لا؟ بعد كل مثابرته هذه وعدم استسلامه العجيب؟ لم أكن أشك بطهارة قلبه وطيبته. كنت أعلم بأني لدي تساؤلات معلقة، ومثيرة للإضطراب، حول ما حدث قديماً، ما أنهى صداقتنا التي كانت لا تشوبها شائبة، ما رأيه الآن بما حدث قديماً؟ وما رأيه بمن ساهم في الأمر؟ هذه تساؤلات كنت أعلم، وأقبل، بأني لن يمكنني إسكاتها، ستظل تخطر في ذهني، لكني لن ألقيها وأهدم مجهوداته، لن أعلق كينونتي بالنسبة إليه كصديق، بسماع الإجابة التي تلائمني منه، وكأنما كل ما قام به في سبيل استعادة صداقتي بلا معنى. لست أحب أن أضع نفسي ضمن خيارين لا ثالث لهما، سأتعايش مع التساؤلات، حتما سأتذكر الشعور المجحف بالإهانة كذلك، لكن طالما أني مهم إلى هذه الدرجة، فيجب أن أسامحه.
زاد تواصلنا، وشعرت بأني أروي نفسي بنوع طيب من الصداقة افتقدته طويلاً، ذلك النوع صافي النوايا، بالغ المراعاة والتقدير، حيث الأخذ والعطاء هما الأساس، وهو نوع من الصداقة لم أجربه سوا معه ومع صديق آخر رحل. ليس هناك الكثير مما نشترك به أنا وهو من اهتمامات ومواضيع، لكننا مع ذلك نجد ما نتحدث به؛ وهذا ليس بالعلم الجديد، فقد كان هذا حالنا منذ الطفولة المتأخرة، حينما تعارفنا.

لم أعلم بأنه ينتظر مني السؤال، فقد كنت قد قررت أن لا أسأل عن أي أمر يتعلق بالمشكلة القديمة، رغم الشعور المحبط حينما أتذكر الأمر. بيد أنه فاجأني إذ قال ذات ليلة؛ لماذا لم أسأل حتى الآن عما جرى؟. وما هي رؤيتي أنا للموضوع؟ قائلاً بأسى بأننا كنا كالأخوة، قريبين جداً، لكن كل شيء انتهى فجأة. أخبرته بأني لا ألومه على شيء، كنت أفكر بأنه حتما سيفهم ولو بعد حين فداحة خطأه في حقي، ذلك أني أعرفه إلى ذلك الحد، لقد تنبأت بأنه سيعي الأمر، بعدما ينضج أكثر، وهاقد تحققت نبؤتي، لكن ما لم أستطع قبوله هو تدخل آخرين بيننا، وسماحه لهم بذلك؛ التوغل في إهانتي بمساعدتهم، فقط لأجل أمر اتضح الآن بأنه أساء فهمه  بشدة، أما جرحي بذلك السياق، فلم يكن الأول، لكنه لم يهدم صداقتنا سابقاً. فوجئ بهذا، وسأل عن المرة الأخرى التي جرحني بها بنفس الأسلوب، فذكّرته، وكانت في منتصف سنوات صداقتنا، وقد أدرك بسرعة بأن ذلك الفعل كان جدير به وبطريقة تفكيره في ذلك الوقت، لكنه بدا مذهولاً، وسألني لماذا لم أقل شيئاً في ذلك الحين؟ لماذا لم أرد الإهانة؛ وهي مثيلة من حيث المبدأ للإهانة الأخيرة، وإن تكن أقل عنفاً؟ لماذا استمريت وكأن شيء لم يكن، وكنت حتى أزوره بالمنزل؟. قلت بأني كنت مجروحاً بالواقع، لكن لم أكن لأضحي بمزاياه وحسناته بسبب سيئة واحدة، وكنت أتصور بأنه سيكبر ويفهم، سينضج أكثر ويصبح أفضل، وقد كنت محقاً. اعتذر مني رغم صدمته، ولم يكن عليه أن يذهب إلى الحد البعيد من الاعتذار كما فعل، فقد كنت قد سامحته بالفعل. أخبرته بأني كنت أتمنى لو لم يصل الإشكال الأخير إلى ما وصل إليه، وأني حاولت بالفعل تهدئته وتأجيل النقاش، لكن من كانوا عنده حرضوه ولم يسمحوا بالأمر، إنهم لا يعرفونني، كيف أطاعتهم قلوبهم في جرح شخص لا يعرفونه، وتدمير صداقة عمر لا يدركون قيمتها بهذه البساطة؟. لقد كنت أشعر بالمرارة، ولا زلت. أوضحت بأني لم أكن حاقد عليه، لكن بسببهم تصورت بأن الخطأ تربوي لا سبيل إلى تصحيحه، إنه من صميم رؤيتهم للحياة ككل، هذا ما تصورته، لهذا لم أستجب عبر السنوات كما يجب لمحاولاته المتقطعة، سوا الآن. قال بأسى بأنهم بالواقع لم يحرضوه؛ ولم تكن رؤيتهم للأمر على هذا النحو، إنه هو من دفعهم لمساعدته في إهانتي؛ في ذلك الموضوع السخيف الدائر حول قبيلتهم وقبيلتي، قال بأنه كان غير ناضج بصدق، وكانت لديه معتقدات بأفضليتهم لم يعد يعتقد بها الآن، لكنها لم تكن غلطة أحد سواه... وأن أحدهم قد سأله عني بعد أسبوع، وحثه على تصحيح الأمر، كان هذا والده، وهو من كنت أرى بأنه أكثر من حرض. أخبرته بأنه ما كان عليهم الاستجابة لرغباته الخاطئة، خصوصاً أنهم لم يعرفوا حيثيات الموضوع السخيف وسوء الفهم الرهيب من قبله. قال بأننا كنا صغاراً، وهكذا هم نظروا إلى الأمر، أخبرته بأننا لم نكن صغاراً بالواقع، ولو كنا لما  حق لأحد أن يتدخل لجرح شخص آخر لا يعرفه، ويهدم صداقة. قال بأنه لم يكن ناضجاً، وأنه يعتقد بأنه لم يساير عمره من حيث النضوج، ولكنه نضج الآن وفهم خطأ رؤيته القديمة لنفسه وللناس، أكدت له بأني لهذا لم أحقد عليه، ولو لم يتدخل أحد لما اتبعدنا لسنوات شارفت على العقد. بدا متأثراً جداً، وسألني إن كنت أجد في نفسي شيء الآن؟ كررت بأني لم أحقد عليه أساساً، وأني قد سامحته. سألني أن أسامح والده أيضاً، ولكني لا أستطيع. قلت فقط بأني لست من هموم والده.

سألني عن رؤيتي لأمر القبائل، ألم أعتقد حينما كنت صغيراً بأن قبيلتي هي الأفضل؟ قلت بأني كنت أعتقد بأن كل القبائل جيدة، إن هذه النعرة ليست من صميم تربيتنا ومحيطنا، لهذا ظننت لوقت طويل أن المسألة كانت مشكلة تتعلق برؤية مجتمعه. قال بأنه كان هكذا قبل أن ينضج الآن ويعرف خطأ رؤيته، لكنها ليست رؤية أهله بأكملهم للأمور.
لقد أتى على ذكر الأمر بنفسه، ولم أتوقع هذا. لكني أشعر الآن بأن جرح قد اندمل وشفي، ياله من أمر نادر، لم يحدث من قبل.

تحدثنا حول أمور كثيرة أخرى في تلك الليلة. كان الوقت متأخراً، وقد جلسنا في حديقة بديعة قرب منزلهم، تجاور مسجد جميل، ولم يكن هناك غيرنا، وكان الهواء عليلاً، والهدوء يغلف القلب بالسكينة. كان هناك الكثير مما فاته، ومما يريد معرفته من القصص التي تركناها بلا إكمال قبل سنوات، كيف انتهت؟ ماذا صنعت بهذا وذاك؟، كانت حياتي إشكالية في ذلك الحين، عكس حياته المستقرة نسبياً، كانت لدي مسائل معلقة ومأزومة، وكان يعرف الكثير منها، وأمكنني في تلك الليلة أن أبوح ذلك البوح العميق. كانت لديه أسئلة محددة وواضحة، وقال بأنه يخشى بأنه يفتح جراحي حينما يأتي على ذكرها، لكن الجراح التي لن تندمل باتت حقيقة أقبلها، وأعيش معها، باتت جزء مني، ولم يعد وجودها مستنكراً، ولا ألمها، ولا صديدها من وقت إلى آخر، ستظل جراح، ولن تتحول إلى ندبات، ولا بأس بهذا، طالما ليس باليد حيلة.
قصصت عليه تلك الأحداث القديمة التي فاتته، وكان يستمع وكأنما فاتته أهم الأمور في العالم، تارة يذهل، وتارة يحزن، وتارة لا يملك غير الضحك. كانت مأساة محددة تلك التي تحدثت عنها، لكنها كانت متشعبة وعجيبة تكاد لا تصدق، لكنه عاصر جزء منها، وكان يعرف الكثير بالفعل، كما جرى في حينه، لكن لم يكن يعرف كل شيء حتى في ذلك الحين، وكان ما جاء بعد صدودنا أهم مما قبله. كان يقول في لحظات: سبحان الله! وكنت أقول في نفسي: يا مقلب القلوب، لا زلت لا أفهم تماماً، لماذا سارت الأمور على ذلك النحو، ما لا أفهم، أو أتفهم بالأصح، حيث أني أفهم جيداً، هو نفسي بالواقع، وكيف كنت؛ لقد كنت غبياً عنيداً، لكن حسن النية، وجوبهت بخداع محكم وقسوة فضيعة، كنت أعرف كيف ستؤول الأمور، لماذا مضيت بها؟ لماذا انسقت خلف الأمل هكذا؟. كنت أنوي، بعدما انتهت صداقتي وهذا الرجل، أن أبقي تلك المسائل سراً، وقد ظلت سراً بالفعل، حتى الآن، وهو الشخص الوحيد الذي يعرف بتلك القصة، ناهيك عن طرفها الآخر. قال لي شخص عزيز جداً ذات مرة، بأنه يتفهم كوني كتوماً. أنظروا إلى هذه المدونة، وكل الهذر؛ يوجد ما هو أهم، ولا يقال مع ذلك.
حينما بلغنا نهاية تلك القصة القديمة، وقد وصلت إلى ذروة الكارثية، بدا التطلع على صديقي المذهول، كانت الأحداث عجيبة، وموقفي منها وإصراري ومبادراتي أعجب. انتهت القصة في كارثة نهائية، أقفَلَت كل باب. لكن عموماً، حينما انتهت، ورغم أن نهايتها مؤلمة وفضيعة، إلا أنها كانت نهاية، نهاية سوء  فهم إلى فهم، نهاية أمل إلى خيبة، نهاية حزن ينتظر إلى حزن مستمر، ولو إلى حين، لقد نمت ليلتها أيما نوم، واستكنت أيما استكانة؛ لقد حمدت الله على انتهاء الأمر. شبهت شعوري ذاك لصديقي هذا بقولي أن ما كنت عليه هو ما يكون عليه أهل لا يدرون عن ابنهم شيئاً؛ يريدون معرفة أي شيء عنه، ولو كان خبر وفاته، وقد وجدت أملي متوفى، ودفنته وارتحت. فهم هذا، وهو يُسبح ويذكر الله. لكن لم يستطع منع نفسه عن التساؤل، وهو يعبر عن قلقه حول سؤاله، هل هو ملائم؟ قال ماذا لو توفرت فرصة أخرى، ماذا لو أتت المبادرة من الشخص الآخر؟ هل سأتقبله؟ هل سأسامح؟ ماذا سأقول؟. أخبرته بأن لا يقلق، فأنا بالواقع أسأل نفسي هذا السؤال من وقت إلى آخر، لكني لا أجيبه، فما الفائدة؟ وهل للأمر جدوى، إذ لا يرجى شيء من التفاؤل بأمر لن يحدث.

تحدثنا حول مواضيع أخرى، الزملاء والأصدقاء، المشتركين وغير المشتركين؛ لم يبقى أحد من هؤلاء.
أليست الدنيا هكذا.





ذكرى عهود قديمة…
نفذت عبر صميم القلب…
بعدما مست شغافه…
وعزفت على أوتاره...
وما لاحظْتُ…
حتى جررتُ ذيول النزيف…
ولسنوات بدمائي رسمت…
آثار خَطوي اللاهي…
عثرات...
عبر الصبا…
وعبر الشباب…
وهأنا هنا…
وسط الكهولة…
حيث لا عهود نجت…
ولا قلوب صدقت…







تلقيت رسالة من الألماني الأصغر، وهو شخص قد تحدثت عنه في تدوينات قديمة، وأخبرت بأنه كان قد دخل الإسلام قبل فترة. أتلقى منه رسائل من وقت إلى آخر، حينما ينقطع تواصلنا لفترات طويلة، وهي مبادرات أقدرها. سبق أن دخلنا في نقاشات حادة أكثر من مرة، لكن أكثر منها ما تغاضيت عنه من أخطاء، ليست في حقي، لكن في حق الناس هنا، وهي الأخطاء التي يدور حولها النقاش الحاد إذا ما حدث في أغلب الأحيان. كان يسأل عني.
كنت وعدته أني سأزوره حال عودتي من السفر، وقد تأخرت صدقاً حتى قررت أن أراه بسرعة في مكتبه بعد صلاة الظهر.
رحب بي، لكنه سرعان ما بدأ بالحديث عن نفسه وحياته وكل ما يخصه، وفي سياق حديثه، أتى على ذكر الطلاب في الكلية، حيث يعلمهم اللغة الألمانية. دائماً ما يتكلم عن كسل معظم طلابه، وعدم جديتهم. لكنه تكلم هذه المرة أيضاً عن الدورة المسائية للغة الألمانية، وامتدح طالب ممتاز لديه، قائلاً بأنه من السعوديين الندرة الأذكياء. صُدمت بهذا التعبير الوقح، وسألته إذا كان يعتقد بأننا كلنا أغبياء؟، اعتذر وقد بدا عليه الإضطراب، وقال بأنه لم يقصد هذا، وأنه يعتقد بأني ذكي جداً. قلت بأن الأمر لا يتعلق بي؛ هل يعتقد بأن كل السعوديين أغبياء؟ قال بأني أعرف وضع طلابه، فقلت بأننا بالواقع كنا على ما يرام حينما كنا طلاباً، وقد تخرجت أنا وزملائي على ما يرام، وها هو يراني مترجم منذ سنوات. قال بأنه لا يشك بأني كنت طالب جيد، وربما زملائي كذلك، لكن طلابه لا يتحسنون، فقد غيروا المناهج حتى، دون أي نتيجة. قلت بأن العلة إذا بالمدرسين، لعل المشكلة فيه هو وزملاؤه كمعلمين، أليس قد قال منذ قليل (وقد قال ذلك بالفعل)، أن طلابنا الذين يقضون سنة في ألمانيا يتعلمون أكثر بكثير من سنوات هنا؟، ربما ما يحتاج إلى تغيير هو المعلمين. اعتذر مرة أخرى، ونظرت إلى ساعتي  لأخبره بأني سأعود إلى مكتبي الآن، لكنه سار معي، وحاول أن يتكلم حول مختلف الأمور، بينما يعتذر  بين الفينة والأخرى، أخبرته بأن الأمر لا يتعلق بي، لكنه لطالما كان مستعداً لانتقادنا، ورؤية السلبيات وتضخيمها، ولا يمكنه أبداً ملاحظة أي إيجابية، وليست هذه أول مرة، فإذا كان هذا رأيه منذ زمن، فلماذا يبقى هنا؟ لماذا لم يغادر من قبل؟ ولماذا لا يغادر الآن؟ فسيكون حاله أفضل في ألمانيا. قال بأنه لا يستطيع، وأنه ملزم بعقد. قلت بأنه ظل يوافق على تجديد عقده باستمرار، لماذا لم تكن لديه الكرامة التي تحول بينه وبين المكوث في مكان لا يحبه بين أناس لا يحبهم؟، ولماذا لا يغادر الآن؟، لماذا لا يقدم استقالته وينصرف؟. بدا أن هذا فاجئه بشكل ما، قال بأنهم سيرفضون استقالته. قلت بأنهم لن يرفضوها، فهو قال بنفسه بأن هناك خطة لإغلاق قسم اللغة الألمانية، فماذا ينتظر؟ هل ينتظر أحدهم ليطرده؟. قال بانتقاد مبطن بأنه لو كان الحال مثل ألمانيا لغادر بسهولة، حيث لا يحتاج إلى تأشيرة للمغادرة. قلت بأن هذا ليس بجديد عليه، ويمكنه التقدم باستقالته، وسأساعده بنفسي على الحصول على تأشيرة الخروج النهائي بأسرع ما يمكن ليخرج من بلادي. قال بأنهم لن يمنحوه التواقيع اللازمة، وبدا مضغوطاً، قلت بأنه يمكنه التقدم للحصول على تأشيرة الخروج والعودة التي يحصل عليها طوال الوقت بسهولة، ويخرج بلا عودة. قال مبتسماً بأن هذا غير قانوني، وكأنما لقي منفذ أخيراً. قلت بأن الكثيرين يقومون بهذا فلن يكون الأول، وطالما هو يكره المكان والناس إلى هذه الدرجة فلن يعود، وعليه، لن يواجه مشكلة، فليتقدم بالطلب إذاً. تذرع أخيراً بحمل زوجته.
كرر اعتذاره، وحاول أن يغير الموضوع. سألته إن كان قادم معي إلى البهو ليتناول الغداء؟ سألت لأني صادفته كثيراً من قبل يأتي إلى المطعم هناك. قال لا، سألته إن كان يريد تخفيف وزنه؟. قال بأن زوجته تطبخ، وهو يتغدى بالمنزل. كنت أريده أن يعود ادراجه، فلم أعد أحتمل حضوره. فتح لي الباب ووقف جانباً في محاولة للمجاملة والاسترضاء، لكن السيل كان قد بلغ الزبى، فلم يكن هذا لينفع بعدما ابتلعت الكثير من الإهانات منه على مر الزمن، وناقشتها في كثير آخر، ورجوت أن يتعلم ويتحسن. لم يشأ تركي لأذهب إلى مكتبي، تحدث عن كون هذه سنته الأخيرة، وكيف أن هذا البلد بالواقع جيد، والناس طيبون، قال هذا وهو يبتسم لي، فيما بدا كاستخفاف بعقلي. وكرر اعتذاره، وأضاف بأني أعلم كيف هم طلابه. قلت بأن هذا لا يتعلق بطلابه وحدهم، وعموماً أنا أعتقد أن العيب به وبزملائه، بالإضافة إلى أني أعتقد بأنه لا يملك الإستعداد برؤية أي إيجابية مهما حدث وبُذل لأجله، فأنا أعتقد بأنه يتعاطى مع الرفقاء الخطأ، ويصدق ما يقولون، دون أن يستطيع أن يفكر بنفسه، وأوضحت بأني لطالما تسامحت مع زلاته على أمل أن يتعلم منا بعض الشيء، أن يتعلم بعض الذوق منا ويفهم كيف يشعر ويفكر الناس هنا، لكن يبدو لي أنه غير قادر على التعلم". بدا أن هذا قد استفزه، فقال بأنه آسف، لكنه يتحدث من منطلق الأرقام، يقصد الدراسات التي تدور حول سوء التعليم لدينا، استفزني هذا بدوري وتساءلت عما إذا كانت الدراسات تقول بأن كل الألمان أذكياء؟. قال: بالواقع لا، يوجد عشرة بالمئة... فقاطعته وسألته: إذاً لماذا يرسلون هذه العشرة بالمئة إلينا؟. احمر وجهه وتجهم وحاول الاستمرار بقصة العشرة بالمئة، لكني كررت سؤال ووقفت للحظة لأتأكد إن كان لديه إجابة مباشرة على سؤالي، ولما لم يكن لديه نية في هذا الاتجاه، مضيت عنه وهو يتحدث بلا سلام.

مللت هذه العنصرية، التي يعززها لديه أصدقاؤه العرب حسب قصصه عنهم، الذين يسخر بهم بدوره من  خلف ظهورهم. كيف يمكن لعربي أن تنقصه المروءة على هذا النحو؟، أن يتكلم بهذا السوء الفاحش عن أهل دينه وعِرقه، والذين يعيش بين ظهرانيهم ويستفيد من فرص بلدهم؟ وإلى شخص كهذا؟ إلى شخص بعيد كل البعد، وبهذا اللؤم؟.
تذكرت ملاحظة لطالما كررها، كيف لي أن وُلدت هنا؟، أو كيف لي أن أكون من هنا؟، حسب السياق. ويكون هذا غالباً بعد نقاش أو ملاحظة ألقيها. كنت آخذ الأمر بحسن نية، وأقول بأن كون الناس لا يتحدثون الانقليزية ليتواصلوا معه لا يعني أنهم لا يفكرون وليس لديهم آراء وأشياء ليقولوها. لكن بدا لي الآن أن لديه فكرة مسبقة عن هؤلاء الناس كلهم، ولا يريد حتى أن يتخيل ما يفكرون به.

يسوئني كثيراً نسيان بعض الأجانب أني سعودي بالواقع، ولكن هذا ليس بغريب، فالبعض هنا ينسى أني من القصيم مثلاً، أو قبيلي مثلاً. إني أكره هذا الأسلوب الخالي من الذوق بطرح الآراء، وهكذا أقول الأمر بلطف، لكن بالواقع، هذه عنصرية واجهت الكثير الكثير منها عبر حياتي، وعلى مختلف المستويات.
كان لدي صديق حجازي ممن وفدوا للحجاز، وليس من أهله الأصليين، وكان يأسف على أي شيء جيد يوجد في الرياض أو نجد على وجه العموم، ويتمنى لو كان في الحجاز. عذره؟ أنه هنا قرن الشيطان، وهو المبرر الذي أسيء فهمه بسبب الكراهية والجهل. لم أكن أحتمل كراهيته الكبيرة تجاه الناس هنا وإن أبدى لي المحبة والولاء. لست أحب البداوة كمسألة مبدأية؛ ولا أعتقد أن البداوة يجب أن تمتدح كأسلوب حياة وطريقة تفكير في زمن الناس هذا، لكني كرهت صدقاً احتقاره للبدو أنفسهم كأناس. أخبرته ذات مرة، وكنا بالثانوية، أني أحترم أحقر بدوي أكثر منه، بعدما سئمت عنصريته التي يلقن إياها بالمنزل. بدا لي في حينه أن كراهيته تجاه البدو هي كراهية للجميع هنا، للحاضرة كذلك، ولكن دون أن يستطيع التصريح بهذا أمامي. وجدت في النهاية، وقد كنا قد تخرجنا من الجامعة، بعد ضعف العلاقة وانقطاعات وتصالح لسنوات، أن صداقة شخص قد يضمر الإحتقار لي وللناس أمثالي إلى هذا الحد، وإن أبدى ما أبدى من تقدير شخصي، أمر خطير وغير مأمون العواقب، خصوصاً أنه تجرع هذه الكراهية منذ الصغر ولم يكن لديه استعداد لإعادة النظر، لذا أنهيت علاقتي به، رغم تقديري لكرمه النادر من كل النواحي، وهذا الغربي ليس بأفضل منه بشيء، إنما العكس صحيح.

أعلم بأن الإزدراء تجاه الناس قد يكون مزمناً، لكن ما لا أقدره هو عدم القدرة على إعادة النظر أو على الأقل تقدير الشعور. كان لدي صديق عزيز جداً، بدوي من الشمال، وقد أصبحنا مقربين جداً إلى درجة أنه كان كثيراً ما يأتي معي لتطعمنا والدتي من أجود ما تعد من طعام، ونذهب ونعود معاً إلى ومن الجامعة في كثير من الأحيان، نخرج كثيراً معاً في أوقات الفراغ ونستمتع بالنزهات. لكن كان يواجه مشكلة على ما يبدو مع انتمائي إلى القصيم. سألني ذات مرة ألا أقول أني من القصيم، وأن لا أشير إلى أني حضري، أي غير بدوي، فأنا دوسري، وأوضح بأن أهل القصيم عموماً فيهم كذا وكذا من الصفات السيئة في نظره، كان على رأسها بأنهم يميلون إلى مساعدة بعضهم، ولا أدري كيف يمكن اعتبار هذه صفة سيئة. لكني سألته على أي حال إن كان يعتقد بأني شخص سيء بأي شكل. فوجئ بالسؤال ونفى بقوة ووضوح وكأنما ليزيل أي شك لدي، فقلت إذا ليسوا كل أهل القصيم سيئون. بدا أن هذا قد جعله يعيد النظر، فقد تغير موقفه، ولم يعد يتحسس من الأمر، رغم ملاحظتي ذلك لفترة طويلة سابقاً.

من ناحية أخرى، تجد الكثير من الأجانب العرب على وجه الخصوص لديهم إصرار عجيب على الانتقاص من الناس هنا، وتبيان واقعنا على خلاف ما هو عليه لغيرنا، مهما كان حالهم طيباً بيننا ولم يطلهم منا ضرر، إنه حسد وحقد عميق، لن يزول أبداً على ما يبدو، وهو يعمي القلب والبصيرة، لذلك الحذر منهم ومن تأثيرهم علينا وعلى الآخرين مهم جداً، الوضوح مهم، والانتقائية مهمة، إذ أعتقد أن انتقاء من سلم من الأجانب العرب من هذه النزعة للصداقة والاحتواء، إذا ما بدا عليه صفاء النية والخلو من الحقد، أمر مهم كذلك بنفس القدر.

كنت قد توقعت أن يرسل الألماني إلي رسالة ليشرح فيها موقفه، لكن لم يكن لدي نية هذه المرة لمناقشته بشيء، لقد طابت نفسي منه كما يقال. اصطنعت طريقة في بريدي الالكتروني تعيد إليه رسالته، وتوهمه بأنها لم تصل إلى صندوقي. بالطبع،  أي شخص خبير سيدرك بأن هذا غير حقيقي، لكني لا أفترض فيه الخبرة أو الفطنة. مر اسبوعين قبل أن يرسل رسالة طويلة، في محاولة لتصحيح الإشكال، وعبر عن أسفه لخروج كل الكلمات التي قالها خطأ، موضحاً بأنه أساء التعبير فقط، وهذا عذره في كل مرة، أنه أساء التعبير. كانت رسالة أطول مما يجب، ربعها أو أقل يتمحور حول التبرير والاعتذار والباقي يتمحور حول نفسه وحياته وأخباره كالعادة أيضاً. أعتقد أن إعادة رسالته إليه تلقائياً هي أفضل ما يمكن القيام به، لقد كنت مصيباً. لم يستحق كل تلك الفرص، وقد أعدت النظر في أمره أكثر مما يستحق حقاً.
لا زلت لا ادري، إن كان يزدرينا إلى هذا الحد، فلماذا الإصرار على استرضائي في كل مرة؟.

بعد فترة، نشرت في قوقل بلس صورة لرجال مسلمين، أُنزلوا في الغرب من الطائرة لأنهم يرتدون ثياباً عربية، بينما هم يتجهون إلى مؤتمر يدور حول العنصرية ضد المسلمين، في مفارقة مؤسفة. تكلمت عن تجربتي المؤسفة في سويسرا، ومقارنة بما يكون هنا في السعودية تجاه نفس الأمر، من عدم تفرقة أو مبالاة واهتمام وحكم على الناس بسبب لبسهم لملابسهم التقليدية.
رد على نحو خبيث محاولاً إلصاق بعض التهم بنا، بأننا لا نشجع الناس على لبس ملابسنا ونقف ضد الامر. فرددت بأني لا أتفق معه، وأوضحت بأننا لا ندفع أحد ليلبس مثلنا، لكننا لا نرى في لبس الأجانب لثيابنا إشكالاً، إنما قد نعده مجاملة، دون أن نتساءل لماذا لا يجاملنا الجميع.
أجاب برد طويل وسخيف كأفكاره العقيمة، مدخلاً موضوع العباءة، ومقحماً أصدقاؤه المصريين الذين دائماً يستشهد بهم عند أي سفاهة يتفوه بها، حتى بدأت بالشك إذا ما كان هؤلاء الأصدقاء قد أدلوا بمثل وجهات النظر هذه، أو أنهم حتى موجودين.
رددت بنية إهانته وإسكاته مقابل هذه الاكاذيب والخلط والمحاولات الوقحة والحاقدة لتشويه السمعة، وكان السيل قد بلغ الزبى، وكانت كبدي قد امتلأت منه كما نقول. استفتحت بإيضاح علمي بعنصريته وعدم استغرابي من كراهيته لكل شيء هنا، وأني لن أطيل الرد بقدر رده، لأني أعلم بأن المرء كلما اطال مصارعة الخنزير بالوحل، كلما اتضح له بأن الخنزير مستمتع بالأمر، حسب مثل غربي قرأته.
رددت على النقاط التي تحدث عنها، وأوضحت كونها غير صحيحة ضمن سياق الموضوع. أوضحت كذلك كونه وأصدقاؤه عنصريين، لهذا لا أجيبه لأقنعه، إنما أجيب لإيضاح الصورة لمن يقرأ.
أعتقد بأن كونه أسلم منذ فترة أعطاه شعور متزايد بالحصانة، رغم أنه كان دائماً وقح بالأساس وإنما على نحو دسيس ومتقطع. كان يجب أن يفهم أن إسلامه معروف تجاه نفسه، ولا يعطيه الحق في الانتقاص من أفراد مجتمعي ونشر الأكاذيب حولهم ومحاولة تعليمهم كيف يعيشون وكيف يفكرون. أعتقد أن أمثاله قد اعتادوا على ابتزازنا عاطفياً بدخولهم الإسلام، لكني لست أقبل بالابتزاز كغيري طالما أني أدركه، فالوقح اللئيم لا يحوز احترامي فقط لأنه غدا مسلماً، دون أن يغير فيه الإسلام شيء. إن أسوأ ما أراه هو المحاولات المدسوسة والأفاكة، فإن كان سيدافع عن قومه وعنصريتهم، فليكن دفاعه عنهم في غير افتراء علينا.
كنت أعلم بأنه سيرد، وكنت قد بيّت النية على حذف رده دون قراءته حتى، وحجبه عن المشاركة في صفحتي، فقد بلغ السيل الزبى. يمكنني الصبر لسنوات على الأذى، وقبول الإعتذارات وتلمس الأعذار، لكن حينما ينتهي الأمر، فهو ينتهى تماماً بكل تأكيد، مع أشكاله على وجه الخصوص، ولن يساعد الاستمرار بالتواقح والخسة، لقد اتضح أن مثل نجدي هو بالواقع صحيح إلى حد بعيد، على الأقل في حالة بعض الأشكال؛ نقول "ابو طبيع ما يغير طبعه"، ولا يبدو أن الإسلام قد غير فيه شيء.
وصل رده كما توقعت بينما أنا على الجهاز، فحذفته، وحظرته. كان الملك رحمة الله عليه قد توفي قبل قليل، وكنت أتابع مواقع الانترنت لحظتها حول الأمر. أرسل رسالة جوال، دون أن أدري هل أدرك أني حذفت الرد وحظرته بعد أم لا؟ لكن لا يهم. كان يبلغني بوفاة الملك، ويدعو له بالرحمة. أعتقد أنه يتخيل بأنه هكذا سيخفف من وقع نذالته. لم أجب.
إن كان يريد أن ينشر المزيد من الافتراءات والإساءات، فيمكنه القيام بذلك في غير مجال مشاركاتي.
يبدو عموماً أن كلمتي خنزير وعنصري كن أكثر ما لفت انتباهه، بقدر ما لمحت من تعليقه الطويل بينما أنا أحذفه.






ماذا بوسعي أن أقول عما أتصور بأن بعض من يقرأ مدونتي ينتظر حديثي عنه أكثر من القصص أعلاه؟. بشكل ما، لم يكن الأمر يستحق كل حماسي له صدقاً. أتحدث عن رحلتي الأخيرة إلى الخارج، بغرض القيام بما أحب؛ رؤية الناس والتاريخ والحياة المختلفة.

لقد سافرت إلى المكسيك؛ حيث كانت رغبتي القديمة هي رؤية ما تركه الأزتِك والمايا والآخرين هناك من آثار، بعد رؤية ما تركه الإنكا وخلافهم في البيرو، ورؤية أهل البيرو الرائعين. قضيت في المكسيك عشرين يوماً. ماذا بوسعي أن أقول عن تلك الأيام؟ لعل أوجز ما يمكن قوله هو أنه من الأجدر لو كانت عشرة أيام. لا أقول بأني نادم على الزيارة بأي شكل، لكنها لم تكن ممتعة تماماً وإجمالاً، رغم أنها ضرورية. ما استفدته منها على نحو مجرد هو أني أشبعت فضول عُمر، رأيت ما أردت أن أراه، وتعلمت الكثير عن أمر أحبه، لكن  لم تكن تجربة حاثة على الشغف، أو ملهمة على وجه العموم. يكفي إشباعي لفضولي بكل تأكيد، ولو لم أذهب بعد وقد خبرت بشكل ما ما خبرته الآن، لذهبت بكل تأكيد، فلا يمكن أن أستغني عن تجربة رؤية بعض الأماكن ومعايشتها والتعلم منها. لكن لا جدوى من قضاء وقت أطول، ومحاولة رؤية كل شيء في ظل الظروف البيئية والاجتماعية هناك.
إنها مختلفة عن البيرو، إن البيرو تستحق أن ينفق فيها عمراً، وكان الشهر الذي قضيته هناك أجمل شهر مر في حياتي.

كانت الخطة هي الذهاب إلى عاصمة المكسيك عبر المرور في باريس، لكن لحدوث إضراب ممتد منذ فترة، ألغيت رحلتي من باريس، وأصر ممثلي الشركة على علاج مشكلتي من الرياض، وليس بعد الوصول إلى باريس. لحسن الحظ، لا تزال تأشيرتي الأمريكية سارية، وهي التي استخرجتها لأجل المرور عبر المطارات الأمريكية في رحلتي إلى البيرو. رسم هذا ابتسامة من أزاح هماً على وجه الموظف الهندي الودود، فقد صارت المسألة أسهل، تقرر تحويلي إلى رحلة على الخطوط السعودية بعد بضع ساعات، متجهة إلى نيويورك، ومن نيويورك إلى عاصمة المكسيك. سألت بيأس إن كان هناك طريقة أخرى؟ نفى الموظف ذلك، سألته إن كان متأكداً، فقال بأنه متأكد. كنت سعيد في البداية لأني لن أنزل في مطار أمريكي في رحلة الذهاب على الأقل. كانت الرحلة طويلة، إلى جوار سعودي في أواسط عمره، يحمل دفاتر وأوراق علمية، وينظر تجاهي بازدراء لا أدري سببه منذ أن كنت قرب البوابة في الرياض، أوقعت جوالي لحسن الحظ، بالخطأ صدقاً، على كتفه بزاوية قوية، بينما وقفت لأضع حقيبتي في الخزانة أعلى المقاعد.

وصلت مرهقاً إلى مطار نيويورك، لكن كان علي المرور كسائر الناس بصفوف طويلة ما أن تنتهي حتى نضطر إلى الدخول في أخرى. كنت قلق من تفويت رحلتي، فالوقت ضيق جداً، وهؤلاء هواجسهم وإجراءاتهم لا تنتهي. وكان الكثير من الناس لديهم نفس الخوف، مجموعة من العجائز استأذن الناس التقدم عليهم، لإعلان قرب إغلاق بوابة الرحلة. لحسن الحظ، لم يستغرق الأمر طول المرة الفائتة، فكانت لدي فرصة للبحث عن شيء للأكل. سوا أني أخطأت بالتوقيت، وكدت أن أضيع رحلتي بغباء مطبق لولا ستر الله، بل ونسيت محفظتي على طاولة ولم أتذكر إلا بالجسر في طريقي إلى الطائرة، ولم يأخذها أحد  لحسن الحظ. لكني تركت طعامي كما هو لم يمس.

غادرت في رحلة على الخطوط المكسيكية. كانت هناك أفلام تقطع الوقت لحسن الحظ. لكن حينما جيء بوجبة خفيفة، سألت المضيف ما هي؟ فقال كروسون بالجبن. لكني رأيت جارتي تأكل في فطيرتها لحم وردي، فناديت المضيف وسألته إن كانت تحتوي لحم خنزير، فقال نعم. أعطيته الفطيرة وشكرته، لعل أحد آخر جائع يمكنه تناولها فيعطى إياها. لم يبقى لدي سوا صحن صغير من المكرونة، أكلته سريعاً بعد جوع شديد، لكن المضيف المكسيكي كان إنساناً طيباً وعطوفاً، أتى لي بصحن آخر من المكرونة، إذ أدرك بأني حقاً لا أستطيع أكل غير هذا، وأتبعه بإثنين حينما رأى جوعي.
نزلت في مطار العاصمة، وكان أول ما لاحظته هو أن الموظفين غير بشوشين ولا يبدون سعداء، وإن كانوا صدقاً مهذبين وصبورين، وهذا عكس ما رأيته في البيرو بالمقارنة، حيث الابتسامة واللطف لا يخفيان على عين، ما أسعد ذاك البلد… يا رب، أعدني إليه مرة أخرى.

لم يطل الأمر أبداً. كان صف الأجانب قصير، وصف المحليين طويل جداً، عكس ما ترى في مطار الرياض. حينما خرجت، وجدت امرأة لعلها في أواخر الخمسينات تحمل لوحة باسمي، بعدما تلقيت عرضين أو ثلاثة من رجال يعملون بتوصيل الناس. كنت قلق نوعاً ما، فلم تكن ترتدي الملابس التي قيل بأنها سترتديها، الملابس الرسمية الحمراء. وكان التواصل معها صعب، إذ أنها لا تتحدث الانقليزية، سألتها عن الوجهة، فكانت فندقي، مما طمئنني. في بعض الدول، يرى أشخاص غرباء ذووا نوايا سيئة اللوحات التي يحملها موظفون أو أقارب، وينسخونها،  فيأخذون الأجانب القادمين من الخارج ويسرقونهم أو يضعونهم في مواقف سيئة على الأقل. ركبنا مع سائق سيارة رسمية، وأخذني إلى الحي المعروف حيث فندقي، وأخبرني بأنه حي آمن جداً. كان الحي يبدو جميلاً رغم تأخر الوقت، حيث كاد الليل ينتصف، وكان الفندق معقولاً. نمت نوماً عميقاً في تلك الليلة.

حينما خرجت في الصباح، بعدما تناولت الإفطار، وجدت الحي يبدو تجارياً، يزخر بالمطاعم الفخمة والمحلات التجارية، يزدحم بالناس ذوو الملابس الأنيقة عموماً، وتكثر فيه الأشجار الضخمة الجميلة. لكن لفت انتباهي بقوة وجود الكثير الكثير من الشرطة المدججة بالأسلحة الكبيرة والدروع. فعلى مسافات متساوية تجدهم يقفون كفرد أو فردين.

بداية الرحلة كانت مقبولة، نزلت في العاصمة، مكسيكو سيتي، حيث عدد سكانها بضواحيها يكاد يناهز عدد سكان المملكة، ولم تكن مدينة سيئة، وهي ذات تاريخ عريق، إذ أنها قامت على نحو مأساوي على أنقاض عاصمة امبراطورية الازتِك، أو المشيكا على نحو أصح، حيث كانت تسمى تينوشتيتلان، وقد كانت هذه مدينة غير عادية، بل معجزة بين المدن، إذ أقامها أهلها في وسط بحيرة، فوق جزر قاحلة محاطة بالمستنقعات، وأحاطوها بالحدائق العائمة، وعمروها بالأهرامات والقصور والأحياء الجميلة بنواحيها التي احتوت مختلف الخلفيات من أرجاء الامبراطورية، وأوجدوا الأسواق العامرة المنظمة، وسقوا أهلها بالمياه المعدنية النقية والمفيدة من الجبال المحيطة، حيث نقلوا الماء بقناطر متطورة إلى أحيائهم عبر البحيرة، فهم كانوا قد سبقوا العصر بالهندسة كبعض الحضارات الأخرى في ذلك الطرف من العالم. كانت امبراطوريتهم ضخمة وتضم أعرقا من حضارات مختلفة عبر أمريكا الوسطى، وكانت مستقرة إلى حد بعيد، ومتطورة جداً ثقافياً وعلمياً، سوا من بعض العيوب الدينية غير المقبولة والمروعة، متمثلة بضرورة تقديم الأضاحي البشرية، وإن تفاوت الأمر بين المجتمعات وعبر تاريخ منطقة أمريكا الوسطى.

بالواقع، لا أملك الوقت الكافي للحديث عن الرحلة على  نحو منهجي، كما صنعت مع رحلتي إلى البيرو، لسبب سأذكره بعد قليل. لذلك، سأتحدث عن بعض الأمور فقط، وأنشر بعض الصور.

على وجه العموم، المكسيك بلد جميل، متنوع جداً، لكنه في رأيي لا يقارن في البيرو من أي ناحية، لا الناحية الإنسانية ولا البيئية والسياحية. في حين أني أرى بأن تمضيتي لشهر كامل في البيرو كانت أكثر من مرضية، بل إني أتمنى لو عدت إليها منذ أن غادرتها، إلا أن اختياري تمضية عشرين يوماً في المكسيك لم يمكن بالخيار الصائب بلا شك، كان هذا أكثر مما يجب بكثير. لا أقول بأنه بلد لا يستحق الزيارة، أو لا يحتمل الاستكشاف، على العكس تماماً، لكني لم أشعر هناك بالإلهام، أو المتعة الكافية، وجدت أني تعبت وسئمت لعدة أسباب.
كانت معرفتي بما أريد، وما أنا مقبل عليه هي نفس معرفتي تجاه البيرو تقريباً، فأنا أقرأ عن الحضارات الأصلية في القارتين الأمريكيتين منذ سنوات طويلة، وعلى نحو  متزامن، وإن غلبت قراءاتي بطبيعة الحال حول البيرو، لقيمتها الخاصة في قلبي حتى قبل زيارتها. لكني وجدت الأمور في المكسيك مخيّبة للظن إلى حد بعيد، تجارية إلى حد فضيع، الناس طيبين، وسيودون مساعدتك حينما تحتاج إليهم، لكنهم سيزعجوك إلى أقصى حد لتشتري شيئاً، والبيع يتم في كل مكان، ولا يمكنك أبداً أن تطلع على شيء بسلام.
إن الناس في المكسيك أقل كرامة للأسف بكثير عن أهل البيرو، رغم أن أحوال أهل البيرو المادية أسوأ على وجه العموم. لن يلاحقك أحد في البيرو ليلح عليك لتشتري، أو يخرج من المحل ليصوت تجاهك إذا ما لاحظ أنك ألقيت نظرة بسيطة، أو حتى مررت من أمام المحل، حتى الباعة الجائلون لا يفعلون  هذا هناك، لكن هذا يحدث بالمكسيك باستمرار. لن يحاول أحد في البيرو أن يتخذ موقفاً منك لمجرد خلفيتك، أو يتوقع منك إكرامية مهما كان وقحاً أو سيء الخدمة، وإن لم تعطه فسيحقد مع ذلك. كما إن عقدة النقص لدى بعض المكسيكيين تجاه الأوروبيين والأمريكان عميقة وكبيرة جداً، لا يمكن للمرء أن يشعر أمامها سوى بالأسف الصادق، فهم بصدق تغلب عليهم الطيبة رغم كل شيء.
تعرضت هناك لمعاملة عنصرية في حالات، على نحو غير مفهوم، ومن أشخاص يفترض بهم أن يكونوا الأبعد عن هذا، لكنها البساطة والسطحية المتفشية هناك، إن الناس هناك مهزوزون على نحو لا يصدق، وأصحاب المبادئ الضعيفة سيفعلون كل ما يمكن لإضحاك غربي، أو ايصال رسالة بالتفوق أو الازدراء إلى غيره. أقول تعرضت لهذا الضرب  من المعاملة ممن يجدر بهم أن لا يكونوا هكذا، لأن عملهم في أسوأ الأحوال يحتم عليهم الحياد، ويفترض أن يكون قد علمهم عن مختلف البشر وعزز لديهم احترام الاختلاف. كانوا هؤلاء إجمالاً هم المرشدين السياحيين، من الرجال على وجه الخصوص، ومن ذوي الملامح المشوبة بالمسحة الآرية، أو حتى الآرية كلياً.

شعرت كذلك أن الكثير من الآثار المشهورة تخلو من الجو اللازم للتفكر والإطلاع عليها، فهي إما أن تكون مليئة بالباعة المزعجين، وبعضهم يبيع صفارات مزعجة، أو حتى مجفلة، لا يكلون عن النفخ بها، أو يشغل آلات موسيقية مزعجة بنفس القدر، أو أن تكون مرممة  على نحو لا يشعرك بأصالتها، وهذه المشكلة الأخيرة تكثر في مناطق المايا في رأيي، رغم أن أكثرها محفوظ ومرمم على نحو معقول ومقنع للأمانة، لكن في بعض الحالات، كقصر رأيته في مدينة بديعة تدعى بالنكِ، رمم برجه المنهار على نحو بدى لي أكثر جدارة بالطابع الأوروبي للبناء، لكن أكثر أجزاء القصر كانت سالمة على حالتها الأصلية، وكانت رائعة صدقاً.

كما أن الأطفال الأصليين في مناطق المايا يُستغلون بالإزعاج وفرض الذات على نحو يرهق المرء ويستنزفه نفسياً. ماذا بوسع المرء أن يقول لطفل يفرض نفسه؟، إنه لأمر مؤسف صدقاً، لأنه شكل من أشكال الابتزاز للسياح.
في الجزء الأول من الرحلة، كنت قد لازمت على وجه الخصوص رجل وزوجته من نيوزيلاند، بسبب اللغة، وهما كانا قد سافرا كثيراً. قالا لي بأن الناس هنا، من حيث إصرارهم على البيع والإزعاج، يذكرونهم بالباعة في مصر. بالواقع، يبدو أن الأمر هكذا، مما كنت أسمع ممن زاروا مصر.

من ناحية أخرى، يمكنك طلب المساعدة من أي أحد من المكسيكيين، بالنسبة للطريق أو لمعلومة، الكل سيريد المساعدة حينما يكون التواصل ممكناً لغوياً، أو حتى غير ممكن، سيبذل الناس أقصى ما يستطيعون، وهذه خصلة فاضلة غير هينة. وهم قد يتبرعون بالمساعدة والسؤال حينما يرون بأنك تقف حائراً، أو بدا أنك أجنبي في ورطة. مثل أهل البيرو في هذا.
لكن المشكلة أنه يندر لأحد أن يقول لا أعرف في المكسيك، لا خلاف لدى الناس على أن يرسلوك في أي اتجاه عشوائي حينما لا يعرفون الطريق إلى ما تريد الذهاب إليه. أعتقد أن المشكلة موجودة لدينا كذلك بشكل ما، لكن ليس إلى المستوى العجيب في المكسيك؛ حيث أنهم حتى في المطارات قد يرسلوك في الاتجاه الخاطئ بسهوله، وليس بالشوارع فقط. لكن هذا لا ينفي حسن نواياهم على وجه العموم، إنها مشكلة ثقافية فقط. كنت قد فوجئت بشرطي لاحظ علي الضياع مساء، حينما خرجت لشراء شريحة جوال محلية، كنت لا أدري إن كان هذا الطريق هو الصحيح، خاطبني باللغة الاسبانية متسائلاً عما بي، ولما تبين أني أجنبي حاول فهم ما أريد ثم طلب مني الوقوف بالقرب منه، أجرى اتصالاً ثم أرسلني في الاتجاه الصحيح. ترك هذا انطباعاً طيباً جداً في نفسي. في البقالة الجيدة ومنتشرة الفروع التي تبيع كل شيء، اشتريت شريحة جوال، وساعدوني على شحنها وإجراء اتصال للتجربة.
كانت الشرطة قد استوقفتنا في طريق سفر، وطلب مني النزول من الحافلة حينما بدا جوازي أو جنسيتي غير مألوفتين. لكني عوملت بلطف وبابتسامات، سؤلت سؤال أو سؤالين روتينيين، وانتهى الأمر.
قد يجدك أحد تحاول التواصل، وحينما يكون الأمر صعباً فسيتدخل للمساعدة بقدر ما تسمح معرفته اللغوية، بلطف وكرم معنوي بديع.

العاصمة مثيرة للاهتمام، بقدر ما تثير من الأسى، حينما يرى المرء أنقاض تينوشتيتلان بأم عينيه، فهي ذات جو طيب، على أني أتصور بأنه ملوث بشدة، وأهلها المجمعين من أنحاء المكسيك يميلون لحسن الذوق بالتعامل وللطيبة. والناس هناك حينما يقيمون في مكان، فهم يقولون أنهم منه، وهذا عكس ما نحن عليه، وأعتقد أكثر أهل العالم مثل أهل المكسيك من هذه الناحية.
تقبع العاصمة العملاقة فوق البحيرة المجففة، حيث أن الأسبان المخربين تسببوا بخروج الماء بتخريبهم للسدود حينما غزوا تينوشتيتلان، وهذا بعد سيطرتهم على المدينة، وقيل لي أن الأمر كان دافعه سوء التقدير والازدراء لمنجزات الازتك، حيث لم يفهم الأسبان الغرض من بعض السدود التي تنظم الماء. الآن، مباني المدينة تواجه خطر الانهيار في كثير من المناطق، لأنها فوق أرضية غير مستقرة.
تينوشتيتلان كانت مدينة معجزة بجمالها حسب شهادة الاسبان الذين دمروها، حيث قورنت بالبندقية، ربما لأن المياه كانت تقسم جزرها، وقيل بأنها أجمل منها بكثير، طبعاً، للألوان الأنيقة والأهرامات الفخمة دور في الإبهار. قيل لي بأن المتوحشون الأسبان حينما سيطروا على المدينة، حسبوا جدران بيوتها مصنوعة من الفضة، لأنها بيضاء لامعة، بسبب طلائها بطبقة من عصارة الصبار، فحاولوا نزع طبقات الجص بسيوفهم. يا للحماقة.
عن المدينة بحوالي الساعة توجد أهرامات تيوتيهواكان، وهي أهرامات بناها قوم سبقوا بكثير المشيكا، مؤسسي امبراطورية الازتك، والحضارات المعاصرة في وسط المكسيك، وتشير الدلائل إلى أنها كانت مدينة مزدهرة، تمتع الجميع فيها بقدر من رغد العيش والحرية. ومن المعروف أن الازتك قد توصلوا إلى هذه الأهرامات، وبعد بعض الاستكشاف والتفحص أعلنوها مدينة الآلهة، ويقال بأنهم أزالوا بعض التماثيل على قمم الاهرامات الصغيرة في المسار إلى هرم القمر، ووضعوا تماثيل آلهاتهم. لكن لا أثر لهذه التماثيل لأن الأسبان فجروها، ووضعوا الصلبان لبعض الوقت في مكانها، وكأنهم امتداد للتاريخ الوثني.
يسمحون للناس بصعود هرم الشمس، وهو الهرم العملاق. ويكاد المرء أن يتمكن من سعود أي منصة أخرى على امتداد الدرب إلى هرم القمر. لا أعتقد أن السماح للناس بصعود الهرم أمر صائب، لكن بالتأكيد علماء الآثار أعرف بالأمور هناك، رغم أني لا أرى السماح للناس بصعود الهرم لأنه يجعل منه شيء مبتذل، ولو لم يضره بنيوياً، وهو ما أشك به كذلك.
رغم أن هرم القمر أصغر، إلا أنه بدعة هندسية غير تقليدية، إنه ملفت للنظر بجماله وتعقيد تصميمه النسبي.
يوجد غرف وبقايا بيوت بديعة، يحتفظ بعضها ببعض الطلاء والزخارف، فيعلم المرء أن المكان كان مطلي باللونين الأبيض والأحمر على نحو أنيق. يوجد كذلك جدارية يبدو أنهم عثروا عليها مجدداً، لجاقوَر مرسوم بطريقة غريبة لكنها شائعة في العالم القديم هناك، والجاقوَر هو سنور مثل الأسد الجبلي.
للأسف، يتواجد الباعة هناك على نحو مكثف ومزعج، يسيء إلى جو المكان ويجعل منه تجاري على نحو مؤسف، بينما هو مكان قدّسته أقوام سالفة، وأبدعت ببنائه، وخليق به التأمل والتعلم.

كنا قد مررنا بمركز صغير تباع فيه الأشغال اليدوية وحلي وتماثيل الفضة والحجارة النادرة، والاحجار الكريمة. كان معي مرشد مكسيكي رفيع الثقافة، هادئ الطبع، ولطيف. وفتاة ألمانية جائت للعمل مؤخراً مع وكالة السفر، لحبها للغة الاسبانية ورغبتها بتجربة العيش في المكسيك. هي طيبة وكريمة ومهذبة جداً كذلك، متفتحة الذهن إلى حد مقبول، لكنها متقلبة أحياناً على نحو مفاجئ، إلا أن هذا لا يلغي محاسن شخصيتها.
فوجئنا أنا وهي بمدير ذلك المركز، وهو مكسيكي مسن ذو شعر فضي طويل، وطبع شديد الصفاقة، يجعلك تود لو صفعته في بعض اللحظات.
رأيت حلي فضية جميلة هناك، إلا أني تماسكت، واتبعت حسي بعد الارتياح، فقد بدا الرجل المسن شديد الجشع. لم أشتري سوا سكينة من حجر الاوبسيديان البديع، وهو حجر لطالما تمنيت اقتناء شيء منه. استخدمه الأولين في أدواتهم وأسلحتهم، وهو حيث يصقل فإنه يكون أحد بكثير من المشرط الجراحي، وكان الإنكا يؤدون جراحاتهم للدماغ المفتوح به، ولا شك لدي أن الحضارات في أمريكا الوسطى قامت بالمثل. كان للازتك سواطير تشبه السيوف، ثقيلة لا يحملها سوا محاربيهم ذوي البأس الشديد، وكانت شفرتها من الاوبسيديان، فكانت توقع برأس الحصان بضربة واحدة، للأسف، لم يكن هذا نداً للمدافع والأسلحة الحديثة، والخبث الأوروبي، خلافاً للأمراض التي لا يحمل القوم مناعة عنها.

لطالما أثار الازتك اهتمامي أكثر من المايا، لكني كنت أتصور بأني لو اطلعت أكثر وذهبت إلى هناك، فسأجد أن الحضارتين مثيرتين للاهتمام بنفس القدر، إن لم ترجح كفة المايا لتاريخهم الأبعد. لكن بعد العودة من هناك، ورغم كثرة مدن المايا وبديع بنائها، إلا أني تأكدت بأن الازتك أكثر اثارة للإهتمام على كل المستويات بالنسبة إلي.
الأزتك هم بالواقع يسمون أنفسهم المشيكا، وهم قبائل شمالية بدوية، كانت ضعيفة إلى حد بعيد، جاءت إلى وسط المكسيك، ووفقاً لأسطورتهم، كانوا يبحثون عن علامة إلهية للاستقرار، هي عبارة عن نسر يقبض على أفعى بمخالبه، على غصن صبار، وقد وجدوا علامتهم في إحدى الجزر في البحيرة في وسط وادي المكسيك.
تاريخ وصولهم إلى منطقة وادي المكسيك واستقرارهم به معقد، حيث كانت تتواجد بالفعل ممالك قوية، تتمركز حول البحيرة الضخمة ذات الجزر، التي انتهى المطاف بهذه القبائل عليها. كانوا مستضعفين إلى حد بعيد، رغم قوة شكيبتهم وإصرارهم، فقد كانوا متخلفين بالمقارنة بأهل المكان الأولين، ولم يكن أحد يرغب بوجودهم واندماجهم في شعبه، فقد كانوا غير متحضرين. وحسبما فهمت، كانوا مثيرين للمشاكل. أعتقد أن الأمر عائد إلى حياة البداوة التي كانوا يعيشونها. قيل لي بأن استقرارهم على تلك الجزر القاحلة والخالية من الموارد كان بسبب عدم رغبة أحد بوجودهم على أرضه. في البداية، كانوا يشتغلون كعمالة لدى الممالك على ضفاف البحيرة، فتعلموا الكثير من تلك الحضارات القائمة بالفعل، تعلموا البناء والتجارة والحرف الضرورية للحياة والاستقرار. وأجروا أنفسهم لبعض الوقت كمرتزقة للدول المتحاربة، كما دفعوا الجزية للدول المسيطرة على الوادي.
ما تعلموه من الآخرين، وتجميعهم للخبرات المختلفة، جعلهم أرقى بكثير مما كانوا عليه، إلى جانب بأسهم الشديد. لعل التحضر هذب أساليبهم ورؤيتهم للحياة، وطور منطقهم كثيراً. وهو ما أنظر إليه كانتقال ناجح من حياة البداوة وعقليتها، إلى الاستقرار والتحضر والعلم والمنطق الأكثر سلامة. وهو أمر لا أرى أنه نجح في تجربة البدو لدينا تماماً، حيث أعتقد أن تجميعهم في الهجر في البداية تسبب بصدمة ثقافية، ونوع من الانفصام بين أسلوب الحياة الجديد من جهة، والعقلية وطريقة التفكير والنظر إلى الحياة من جهة أخرى، بغياب النموذج والإرادة، عكس ما يجري مع البدو الذين يتحضرون على نحو أكثر تلقائية وطبيعية، بحكم الإرادة والحاجة، فلا يعودون بدواً بأي شكل، كبعض من الأسر المعروفة في المنطقة.



هذا مجمع أهرام وقصور وبئر في قلب العاصمة المكسيك، وكان قد اندفن بعدما أهمل عند وصول الأسبان، الذين هدموا الجزء الأكبر منه، واستخدموا الحجارة في بناء الكنيسة الظاهرة بالخلفية.











هذه كنيسة عذراء قوادالوبه الأصلية، وهي كنيسة ذات أهمية كبرى لأهل أمريكا اللاتينية برمتها. تعود قصتها إلى بدايات احتلال الأسبان للمكسيك، حينما تصورت حسبما يزعمون لتاجر من السكان الأصليين مريم العذراء عليها السلام، على تل مرتفع مليء بالورود غير المحلية، وحكت بلغة الناهواتل الأصلية للرجل بأن يذهب إلى أهل الكنيسة في المدينة ويخبرهم أن يبنوا لها بيت في تلك التلة. حينما ذهب لم يصدقوه، فعاد وظهرت له، وأخبرته بأن يملأ عباءته التقليدية ورداً من تلك التلة، ويذهب به إليهم، وحينها سيصدقوه. حينما أخذ الورد ونثره لكاهن الكنيسة، وجدوا الورد قد طبع صورة مريم على القماش، وهو القماش الذي يعلق الآن في المبنى الجديد أسفل التل، ويحج إليه الناس من كل مكان في أمريكا اللاتينية. وهم للأسف يصدقون الحكاية ويؤمنون بها بشدة، رغم اعتقادي بأنها خدعة من الكنيسة لتعزيز موقعها هناك. تعرف السكان الأصليين إليها على أنها تونانسي، آله يدعونها الأم في دين الازتك، وبشكل ما، دمجت الصورتين المقدستين في هذه القصة. ترى الناس في الكنيسة ينظرون بتأثر إلى الصورة، من فوق السيور المتحركة، وبعضهم يبكي تأثراً.
بالواقع، ليس أمر هذه القصة والكنيسة بقليل في أمريكا اللاتينية، حيث قالت لي كارلا، الصديقة الطيبة من البيرو، بأنها مؤمنة بعذراء قوادالوبه كراعيتها. إنهم أناس طيبون في تلك المناطق، وأشعر بالأسف أنهم لا يعرفون أحسن مما تلقوا في البداية.





هذا الصبار الضخم يصنع منه خمر تشتهر به المكسيك، وهو يصنع من قديم العصور في الحضارات القديمة. توقفت حافلتنا ذات مرة في مكان يشتهر بصنعه، وكانت الرائحة لا تطاق، إن مجرد تذكرها يجعل كبدي تتقلب في جوفي غثياناً، ويشربونه مع ذلك. لكن للشجرة فوائد أخرى كثيرة، إذ كانت الحضارات القديمة تصنع منها ورق ممتاز لا زالت المخطوطات الأثرية تزينه، وقد سحب لنا الرجل المسئول في ذلك المكان غشاء منها، وكتب عليه، فبدت الكتابة واضحة ووضع الحبر عليها حسن وجميل. كما قطعون رؤوس الورقات الإبرية، فتخرج متصلة بخيوط نسيجية يستخدمونها بالخياطة، خلافاً لاستخدامات أخرى.




هذا تمثال تذكاري منحوت من حجر الاوبسيديان، وهو حجر من الزجاج البركاني، يراوح بين السواد القاتم واللمعة البرونزية الذهبية في بعضه. وهو حجر كانت له استخدامات رائعة، في كل مكان من الحضارات القديمة، حتى الإنكا وما حولها، إذ يمكن صنع شفرات أحد من المشرط منه، تستخدم قديماً في العمليات الجراحية، وفي الذبح، وكأسلحة. إنه حجر يأسر النظر بجماله.





هذه مجموعة أحجار كريمة أو شبه كريمة. وكلها أحجار جميلة جداً. وتمتلئ المكسيك بها.








هذه كسر من آثار مدينة تينوهواكان، حيث الأهرامات الضخمة. وهي حضارة مغرقة بالقدم، سبقت الأزتك، وكان الأزتك بالواقع ينقبون في المكان لفهم طرق البناء والتقنيات الهندسية، وقد أعلنوه مكان مقدس لهم، وزعموا أنها مدينة الآلهة وأصل حكام الأزتك.




هذه من قنوات المياه التي كانت تستخدم في المدينة، التي يقول الخبراء بأنها عمها الرخاء ونوع من الحرية في أوجها، أو كما يتنبأون. لا زالت المدينة لم تكشف عن أسرارها كاملة، إذ وجدوا مؤخراً ممر تحت الأرض يربط بين هرم الشمس الكبير والمنصة أمامه، يحتوي على آثار وعظام.


هذا هرم الشمس، وهو الأكبر. يسمحون للناس بصعوده. لا أعتقد أنه أمر حكيم مع ذلك.








ذاك هرم القمر، من أعلى هرم الشمس. كان الأزتك قد أضافوا تماثيل آلهاتهم فوق الأهرام والمنصات، ولكن الأسبان حينما جاءوا، فجروا المنصات وخربوا في المكان، ويقال بأنهم نصبوا الصلبان في القمم في المدينة.

هرم القمر بديع، وهو أجمل من هرم الشمس الكبير، مبني على نحو أكثر تداخل مع المنصات أمامه، ويظهر على نحو أكثر إبداعاً.
من داخل البيوت الأثرية، لا زال بعض الطلاء لم يتغير منذ آلاف السنين. وهي بيوت جميلة حسنة التصميم تنم عن ذوق رفيع وطبع مرفه.



كنيسة قديمة بنيت من أنقاض المعابد والقصور المحيطة بعدما فجرها وهدمها الأسبان المجرمين. وهي تطل على الساحة الرئيسية لمدينة المكسيك العاصمة. إنها ساحة مرتبة ومعتنى بها جيداً، لكني لا أعتقد أنها ساحة جميلة على نحو خاص. ربما كانت أجمل في زمن مضى. كانت تلك الساحة هي نفسها الساحة التي أطل عليها قصر امبراطور الازتك الأخير، موكتيزوما، الذي تثير مأساته الإلهام حتى الآن، حينما استضاف الاسبان، وخانوه طبعاً، ألا قاتلهم الله. قصرهم تم هدمه، وبني مكانه مقر الحاكم، وهو الآن مقر عمدة المدينة. وبالداخل، يوجد جداريات مشهورة على مستوى العالم، رسمها رجل شهير في المكسيك يدعى دييقو رفيرا، على أن زوجته الفنانة فريدا كالو أشهر منه بسبب قصتها المأساوية، وفنها المميز بنفس القدر.
يقال بأن دييقو اطلع على الكوديكس القديمة، وهي مخطوطات خلفها الأزتيك، أو ما نجا منها من الحرق والأجرام الاسباني، وبهذا اطلع جيداً على أسلوب الحياة قبل وصول الأسبان، في الحضارات المختلفة في المكسيك، بالإضافة إلى الدراسة والتعلم من التاريخ. ورسم هذه الجداريات المؤثرة جداً، والتي صدقاً لم أتوقعها بهذا التأثير، التي أصابت شهرة عالمية. يصف بعضها الحياة في مختلف المدن القديمة قبل الأسبان، وبعضها يصف الاحتلال الاسباني على نحو يعصر القلب ألماً، مع مشاهد القتل والاستعباد والاغتصاب. يرى المرء المدن القديمة بأفضل ما يسمح به التصور للوصف والرسوم التوثيقية القديمة والآثار الحالية، ويجدها مدن فخمة وأنيقة كما وصفها الأسبان. وكان السكان الأصليين بشكل عام شديدوا الاهتمام والوعي بأهمية النظافة، وكانت لديهم أنظمة تصريف للمجاري، وأنطمة لإيصال مياه الشرب النقية، وأماكن للاستحمام، في حين كان الأوروبيين في ذلك الوقت ضعيفوا الوعي، وعلى جانب كبير من القذارة عموماً. قيل لي هناك أكثر من مرة عن هوس القدماء بالنظافة والاستحمام، وقد تركوا آثار دالة على أماكن استحمامهم ومجاريهم.
لعل الشيء الوحيد المحمود للأسبان هو إيقافهم الأضاحي البشرية، والقبول الذي حضي به تناول لحوم البشر المضحى بهم. لكن هذا لا يبرر إجرامهم بالناس هناك، وإهلاكهم وإستعبادهم، كما أن أعدادهم تناقصت على نحو مخيف بعد قدوم الأسبان، فقد كانوا بأسوأ الأحوال أفضل مما هم عليه مع وجود الأسبان.
بعض الملابس الموجودة في الصور، وتسريحات النساء، يراها المرء لا تزال موجودة وإن اختلفت على نحو طفيف، في بعض الأماكن القصية حيث يتركز السكان الأصليين.































هذه الذراع التي يحملها الرجل في السوق تعبير عن قبول تناول لحوم البشر في بعض الظروف. غالباً ما يكونون أسرى مضحى بهم. أما المرأة الجميلة ذات الفم الأحمر فهي بائعة هوى، ويمكن رؤية الاختلاف من حيث الحشمة والحضور الرزين بينها وبين المرأتين الجالستين ذوات التسريحات المرتبة، وهي تسريحات شاهدتها في بعض المجتمعات الأصلية التي زرناها.





























يصنعون الورق، مع وجود الكلاب الأصلية تشرب. وهي تذكر المرء بالكلاب البيروفية الأصلية، لأنها بلا شعر، لكنها أصغر وأقل أناقة.

يصنعن الورق.

















هذه قنوات زوكيميليكو الأثرية، أو ما بقي منها، على طرف مكسيكو. تشتهر بزراعة الورد والزهور الآن. في العصور القديمة، قبل تدمير الاسبان الحمقى للسدود عبثاً والتسبب بإفراغ البحيرة، كانت القنوات تمتد لمسافات أكبر. سمعت الآن أن أخذ جولة كاملة فيها يستغرق خمس ساعات، فما بالك بها من قبل. تخيلت قبل الوصول إليها أن الرطوبة ستكون خانقة، وتصورت أن رائحة المكان ستكون غير مريحة، كالمياه الراكدة. فوجئت بأن التواجد هناك بالواقع من أجمل التجارب التي مررت بها في المكسيك. الهواء عليل ولطيف يخترق الروح، والرطوبة معتدلة ومريحة، والمناظر بديعة، تنم، رغم مرور الزمن والتبدل، عن ذوق القدماء وحسن اختيارهم، وتقديرهم للحياة الجميلة. كانت تعوم المزارع والحدائق المتنقلة هنا كذلك عبر القنوات، بحيث تنبت الأشجار فوق الماء على ألواح، ويغرف القائمون عليها من أرضية القنوات الطمي الغني ليوزعوه حول الأشجار على أطوافهم التي يسوسون. أعتقد أن حيوان الازولوتل يعيش هنا كذلك، وهو حيوان برمائي عجيب، قادر على إنماء أطراقه، يديه ورجليه، من جديد بعد قطعها. وهو يؤكل منذ قديم الزمان، بيد أنه محمي الآن على ما أعتقد لأنه بخطر الانقراض.
لو عدت مرة أخرى، بتخطيط أفضل، فسآخذ الجولة كاملة في هذه القنوات البديعة، وسأسأل أن لا يزورني على القارب أي بائع للفضة، حيث يمكنهم انتظار عودتي.






هذا أعلاه كان يعتقد بأنه تقويم كامل، لكن اتضح أنه تأريخ ليوم واح أو حدث معين.







في الحضارات القديمة في أمريكا الوسطى، حيث عرف الناس الكتابة والتدوين، انتشرت المسلات كهذه في الصورة في مختلف المدن. أحب المسلات وتثير اهتمامي على نحو خاص، حتى حينما تخلو من كتابة، لكنها تحمل رسالة على نحو ما، كمسلات الحضارات القديمة في البيرو. تذكرني المسلات هناك بمسلة تيماء، الموجودة الآن في فرنسا للأسف، حيث بيعت إلى مستشرق بثمن بخس.
غالباً ما تحكي المسلات في المكسيك عن مآثر الملوك والأمراء، وتخلد انتصاراتهم وذكرهم.
أعتقد بأني لو كنت فناناً، لرغبت في تشكيل مسلة. كانت كثرة المسلات في المتحف والمواقع التاريخية من أكثر ما استمتعت به وأثر بي.




لأن العاصمة الحالية قامت على أنقاض عاصمة الازتك تينوشتيتلان، لا زالت تخفي الكثير من الآثار المبهرة التي تظهر من وقت إلى آخر. هذا الموقع مثلاً كان منسياً، حتى قاموا بمحاولة حفر نفق للمترو، فاكتشف العاملين الموقع. لا أتخيل مدينة تم تحطيمها على نحو لا يمكن معه إعادتها إلى ما كانت عليه، أو ما يشببه، مثل تينوشتيتلان، حيث كانت تحبس الأنفاس لجمالها حسب الأسبان، بأهراماتها وقصورها وحدائقها الطافية في القنوات المائية الضخمة التي تحيط بها، والقناطر التي تحمل الماء إليها من الجبال، عابرة بإعجاز هندسي البحيرة التي تحيط بها، والتي أفسد الأسبان سدودها، وأفرغوها بجهل مطبق، وهاهي المدينة العملاقة لا زالت تعاني بسبب ذلك الغباء، من ناحية المصادر المائية ومن ناحية خطر انهيار المباني بسبب الأرضية غير الصالحة للتوسع. 



هذا من أشكال الكتابة القديمة. هي كتابة هيروغليفية تصويرية. شرح لي البعض بعض جوانبها، ماذا تعني الإضافات الصورية على الحرف. أعتقد أنها كتابة مذهلة.





هذا مدخل قبر أثري من حضارة المكستك، وهي في وسط المكسيك كذلك، تقع في منطقة أكثر اخضراراً وبرودة من العاصمة.








هذه المرشدة المكسيكية، امرأة طيبة حقاً وشديدة التهذيب، وذات حضور مريح وظل خفيف. أعجبتني عفويتها.



هذه الآثار من حضارة المكستك، عبارة عن بقايا قصور ومقابر مبنية تحت الأرض بإتقان.








في أعلى الجبل، تواجد مركز حضارة المكستك، وهو يسمى مونتِ ألبان. الموقع جميل، ويستحق الزيارة، لكنه ليس بالجمال الذي توقعته صدقاً، ربما لأني رأيت البيرو من قبل. البيرو، يتغير حال قلبي حينما أتذكرها... وأنا لا أنساها في أي يوم.
الجبل هذا تتخلله السحب، وتحيط به الأشجار، وبعض القنوات الأثرية المتطورة. ومما يميزه هو الهندسة التي أخذت في الاعتبار نقل الصوت وتوزيعه، مثل الكثير من الآثار هناك، مما ينم عن علم عبقرية غير عادية. الفكرة هي أن المباني تقف على مسافات معينة من الساحات، وتبنى على نحو يردد الصوت في حال إلقاء الخطب، ليصل الصوت إلى جميع الحضور.
















هذه مدينة أثرية في المنطقة، أنيقة جداً وغاية في الفخامة. وهي من أول مدن المايا التي وصلناها. كان المرشد، من السكان الأصليين، يتجاهلني على نحو غير عادي، وبوقاحة قل نظيرها. ربما لأن مرافقاي غربيين، فكانا أكثر أهمية في نظره.








هذه من أكبر أشجار العالم، ومن أطولها عمراً. تكاد أن تغطي الكنيسة المجاورة. للأسف، لم أتمكن وضع الكثير من الصور، لأن في الخارج الآن، والصور مخزنة في أجهزتي في الرياض.





كأس أثري أنيق، منحوت من قطعة حجر زجاجي واحدة.





هذا الهرم الجميل، هو جزء من مدينة جميلة للمايا تسمى بالنكه. أمر المايا متناقض، ذوق رفيع وعلم، وممارسات وحشية بنفس الوقت.
مشكلة تلك المناطق أني لم أكن أتحمل الرطوبة الزائدة هناك، كانت تشعرني بالإرهاق والضيق، فكان استمتاعي أقل مما يجب. بالواقع؛ أنا لا أتحمل حتى رطوبة جدة، فما بالك بتلك الغابات المطرية.



هذه شلالات أقوا ازول، أي المياه الزرقاء. كانت أكبر بكثير مما توقعت، وأقل جمالاً كذلك. لا يعني أن يكون الشيء أكبر أنه أجمل. لم تكن قبيحة، لكن ليست بحجم توقعاتي، والصور البديعة لها على الانترنت، على عكس الكثير من المناطق، التي كانت جميلة مثل الصور، مثل بالنكه وآثار أخرى.








هذه النافورة المورسكية، أي مبنية على الطراز العربي الأندلسي، ويقال بأن من بناها هم المورسكيين (المسلمين واليهود) الذين استجلبهم الاسبان إلى المكسيك، كما إلى باقي مستعمراتهم في القارتين، لأنهم كانوا أهل العلوم والمعرفة في البناء والتخطيط. كان الأمر مشابه في البيرو، خصوصاً كوزكو. ولهذا يوجد تشابه بيننا وبين اللاتينيين من حيث الشكل وبعض الطباع. النافورة قديمة جداً، ورغم أنها مزار سياحي إلا انها تعطي الانطباع بأنها مهملة إلى حد ما. في القبة من الداخل تتراص الخفافيش على نحو مقزز.





هذه أنقاض قصر ملك بالنكه، وكانت حضارة المايا قائمة في مدن ذاتية الحكم، كثيرة التحارب، وإن اشتركت بالكثير من القواسم. القصر فخم ومتشعب إلى حد بعيد، يحتوي على ساحة للاجتماع مهندسة لإيصال الصوت إلى الموجودين على نحو جيد.



هذه الشجرة تسمى شجرة الحياة، وهي ذات أهمية بالنسبة للمايا، ولا تزال مهمة للمايا الموجودين في المنطقة كما فهمت. هي شجرة جميلة بأغصان شبه مستقيمة كما ترون، لكن هذه الشجرة لتعلها شائخة أو مريضة. الشجرة في الأسفل أفضل تمثيلا للنوعية الجميلة من الشجر:






هذا الهرم في مدينة أخرى للمايا، لم تترك انطباع كبير في نفسي مثل بلنكه، رغم أنها جميلة. هذا الهرم يردد صوت التصفيق بما يشبه صغير طائر محلي، حينما يصفق المرء أمام الدرج. أعتقد أن هذا يعني أن الهرم مبني مع أخذ الاعتبار للصوت، بغض النظر عن كون صوت الطائر مصادفة أم لا.




بالنكه مرة أخرى. يوجد هرم مخصص كتذكار ومعبد لسيدة نبيلة من المايا، وهي بطلة حقاً. توفي ملك المدينة بعدما أنجب صبياً من أميرة تزوجها من مدينة/مملكة أخرى، وكان الإبن هو وريث العرش بطبيعة الحال. لكن والدته تزوجت رجل من مملكتها الأصلية وأنجبت منه، وخططت معه لعمل انقلاب، وقتل الابن الأول لتنصيب الثاني. جدة الصبي الملك تصدت للطعنات التي وجهت لحفيدها الملك، وأنقذته من موت محقق وأنقذت ملكه بحنكتها وكبح الانقلاب. فهمت أن الملك قتل اخيه الصغير وزوج والدته، بينما نفيت والدته إلى معبد للرهبنة، وأصبحت جدته ذات حظوة كبيرة في الحكم. كان هذا الملك قد كبر ليصبح محارباً محنكاً، أعتقد ان اسمه كان بللام، وقد أخضع ممالك أخرى وازدهرت المملكة في عهده، وكذلك في عهد ابنه تشومبالومب، الذي حافظ على تقدم الدولة جيداً. لهذه المدينة أهمية كبيرة في تاريخ المايا. وتذكر قصصها كثيراً، كقصة الملكة الحمراء، التي لا يعرف اسمها الحقيقي، لكنها سميت هكذا لأن رفاتها قد غطي بمادة حمراء، وقد وضعت في قبر مميز على هرم. هي من النساء القلائل اللاتي حكمن في عالم المايا، وكانت امرأة قوية الشكيبة، فطينة ولا تهاب. وقد نصبت ابنها الصغير ملكاً بدبلوماسيتها وحيلها السياسية، حينما أصبح العرش شاغراً، رغم أن فرصته في الملك لم تكن عالية. وقد تعرضت المدينة في عهدها للغزو، وأُسرت في قصرها، ثم أخذت إلى المملكة الغازية. إلا أنها بشكل ما تمكنت من العودة مرة أخرى إلى بالنكه، وحكمها مجدداً، واستكمال حروبها وتوسعها بنجاح.



بالطبع، لم يكن شكل مباني القدماء كما هو عليه اليوم، حتى مع الترميم، إذ كانت مغطاة بالجص، وملونة بالأحمر والأبيض غالباً، كما تستدعي أصول الفخامة، فقد كانت ألوان مفضلة. كما كانت الهياكل الحجرية في قمم المعابد على الأهرام تحتوي على رسوم ملونة وكتابات وشعارات، وليست فارغة كما هي اليوم.





قناة مائية حفرها المايا، ولا تزال كما هي. رغم كون معظم مدن المايا تقع في غابات شبه استوائية، إلا أن المياه الصالحة للشرب كانت تشكل مسألة خطيرة. أظن الأنهار قليلة إن وجدت، والبحيرات قد تكون غير صالحة للشرب مباشرة. كانوا يبنون خزانات أرضية يجمعون بها المياة، وكمقطع جانبي، ستبدو الخزانات أشبه بأزيار فخارية عملاقة مدفونة تحت الأرض. وكانت تخضع للتنظيف على نحو دوري بطرق عجيبة، يستخدم في أحدها الضفادع التي تأكل الفطريات التي تنمو في الداخل، ثم تخرج الضفادع بعدما تنظف الحوض، ثم ينظف الحوض من أثر الضفادع. يبدو أن تنظيفها مباشرة بواسطة أهلها أمر غير ممكن، لا بد أنه لسلوك الضفادع أثر تعقيمي.




هذا الهرم الجميل يقع في مدينة تسمى تشتشن اتزا، وهو مصمم بطريقة تسقط الظل على هيئة أفعى مقدسة، تزحف، بحيث تبدو وكأنها تزحف نازلة إلى الأسفل مع مرور نهار يوم محددة بالسنة لا يتغير، وهي تمثل كتزلكواتل، آلهة العالم السفلي، شبالبا، وهو أمر تتفق عليه الحضارات هناك، وإن اختلفت التسميات.
شبالبا عالم يذهب إليه الأموات، وبعض الكهوف يعتقد الناس بأنها توصل إليه. وقد فهمت من خلال القراءة بأنه عالم مخيف وعسير على الموتى، مهما كانت خيريتهم من عدمها، عبور ذلك العالم إلى المستقر النهائي صعب جداً. لذلك يجهز الموتى بالأشياء اللازمة، من أسلحة وأدوات، لتعينهم في ذلك العالم.
شبالبا؛ لا أدري لماذا أشعر بأنهم يتكلمون عن سويسرا.





هذه تولوم، مدينة للمايا ذات طراز خاص، تقع على شاطئ الأطلسي. لا يوجد مباني ضخمة، ولا أهرامات أو أو زخارف غامضة، لكنها من أجمل مدن المايا التي يمكن زيارتها، وهي دليل حي على أن البساطة مؤثرة كذلك. الجو عندها رائع، والمحيط ساحر، وحيثما نظرت فسترى منظر مؤثر وسار.
تتوزع البيوت ذات الحجم المتوسط في وسط يشبه الحديقة الآن. يطل أحدها على المحيط، وهو مائل على نحو غريب، وذو نوافذ غير متناظرة المواقع، اتضح أن المبنى يستخدم، فيما يستخدم، كتقويم اعتماداً على النافذة التي تشع منها الشمس. عبقرية.
يأتي الكثير من السياح بمبلابس السياحة، وبعض الملابس كاشفة إلى أقصى حد. أمر مضحك، حينما ترى امرأة ردفها كله ظاهر، فيما عدا خيط في المنتصف، ولا يدري المرء ماذا يستر هذا الخيط بالضبط. وقد أثارت هذه بالذات حفيظة مايكه، التي وصفتها بعدم الحياء، وبشكل ما كثيراً ما وقفت إلى جانب مايكه، مما يضايقها ويثير ازدرائها مجدداً. كدت أموت وأنا أكتم ضحكي. قالت مايكه بأنها لو رأت أختها بنفس اللبس، فلن يمر الأمر بسلام.
 ومثل الكثير من مناطق المايا القصية في الجنوب، يكثر الأمريكان السود، بحضورهم الاستعراضي المزعج، وحبهم للفت الانتباه. كان هناك اثنين يطلان معنا من المرتفع على الشاطئ، وكانتا صديقتيهما الضخمتين يسبحن مع الناس وهن يطلقن الزعيق المبتذل، حتى نادى أحدهم إليهن، وكأنما يمزح، بأن يخلعن ردائهن، فكشفت إحداهن عن ثديين كالقدور الكبيرة المقلوبة،، مما صدمني وصدم مايكه، المرافقة الألمانية، وقد نظر إليهن البعض باستغراب ممن سبحوا حولهن. ضحك الرجل الأسود وقال لنا بغبطة: إنها مجنونة.
ولسبب ما، سُلطت علي امرأة إيطالية، كانت تلبس مايوه لا فائدة منه، وقد أعطتني كاميرتها وسألتني أن أصورها بالخلفية الجميلة، بالإشارة طبعاً حيث لا أفهم ما تقول، أرادت البيت التقويم أن يظهر خلفها من بعيد. كان صديقها جالس على صخرة ينظر إلينا، وتبدو عليه السعادة. التقطت لها صورة، ويبدو أنها أسعدتها. لحقتني وسألتني أن آخذ صورة أخرى بخلفية أخرى، وبعد قليل، فوجئت بها تطلب مني تصويرها مرة أخرى. بالكاد كتمت مايكه ضحكتها، وقالت بهدوء يبدو أنها معجبة بك. أعتقد أنها معجبة بتصويري فقط، وربما كان صاحبها يصور على نحو سيء.












هذا الموقع يسمى كباه، وهو ما بقي من مدينة جميلة للمايا، ذات طراز مميز. القليل من السياح يأتون إليها، وهي بالواقع، أو ما هو ظاهر منها حالياً، أقل وأضغر بكثير من المدن الشهيرة، لكنها تستحق الزيارة.
يوجد تماثيل لآلهة المطر، تتواجد بكثرة في مناطق المايا، وإن لم تكن حكراً عليها. وهي وجوه غريبة ذات أنوف تشبه الشناكير، وحينما تكون موجهة إلى أعلى، فهي تعني طلب المطر من السماء، أما حينما تكون إلى أسفل، فيعني هذا الاكتفاء. سألت إذا ما كانوا يخلعونها ويحركونها، أم أنها ثابتة؟ فقد بدت ثابتة، ولم أحصل على إجابة شافية.
المرشد الذي أخذنا إلى كباه، كان سيأخذنا إليها في طريقنا إلى المدينة الأخيرة في الرحلة، لأغادر أنا المكسيك، وتعود مايكه إلى العمل. كان مثل الكثير من المكسيكيين الطيبين، يحاول تبيان تقديره لثقافتي المختلفة ومعرفته بها، وتبيان نقاط التشابه والمفارقات العجيبة في التقاء الأسماء والعادات، وهي ليست مفارقات ولا عجيبة في معظم الأحيان بالنظر إلى تاريخ الاحتلال الأسباني، الذي جاء بالعرب ليعملوا في الأراضي الجديدة. قال بأن لدينا مكان مقدس بالإسلام مثل كباه، من حيث الاسم على الأقل، وكان يقصد الكعبة المشرفة. 





هذا القرد العاوي، وهو ينتشر من أمريكا الوسطى حتى أمريكا الجنوبية في الأمازون. وهو له صوت عجيب وعميق، على غير ما يتخيله المرء من حدة أصوات القردة، ويمكن سماع صوته من بعد أميال. تخيلت حجمه أكبر، لكنه كان بنفس القدر الذي قرأت في تأثير حضوره ونظراته العميقة، التي تحمل المرء على التساؤل عن مدى إدراك هذا القرد للذات وللكائنات المختلفة. إنه ليس بقدرات الغوريلا والشمبانزي والبونوبو والاورانقوتان الإدراكية، حيث تملك تلك الأصناف إدراك عالي للذات، وقدرات فكرية أرفع، لكن، إن لوجه هذا الكائن ونظراته النفاذة وقع على النفس لا تصيبه نظرات الكائنات الأخرى التي رأيت وجه إلى وجه، لكني لم أرى الكثير من الحيوانات في بيئتها الطبيعية، أعني الحيوانات غير العادية.
هذه القردة تحب التواجد في الخرائب البشرية القديمة والمهجورة، لذلك يكثر وجودها في المواقع الأثرية، وهذا مما لاحظه المستكشفين الأوائل قديماً. وكانت تتجول فوق الأشجار، حول الأهرامات في مدينة أثرية اسمها كلاكمول.
فوجئت ونحن ننظر إليها من مكان مرتفع فوق الهرم، برائحة قوية، وجميلة، تعم المكان، ولكن بدا الأمر غريباً، هي رائحة فانيلا، لكن لم يوجد حولنا فانيلا لتظهر الرائحة بهذه القوة. صمت، وشعرت بنوع من الارتباك لسبب ما. لكن تكلم المرشد، وهو شخص عنصري بغيض، وسأل إذا ما كنا نشم رائحة حلوة في الجو؟ وقال بأنها بالواقع رائحة براز هذا القرد، وسبحان الله، لقد كانت رائحة عطرية، فانيلا، دون أدنى شك. كان لا يدري كيف يحدد نوعية الرائحة، لكني قلت بأنها تشبه الفانيلا، فأشار إلي بجذل بكوني محقاً. قلت بأني شممتها بالواقع منذ فترة، لكني خجلت من الكلام، إذ كنت أعلم بأن القردة تبرزت قبل قليل. ضحكوا.

للأسف، الكثير من الصور لا تتوفر معي الآن، ربما حينما أعود إلى الرياض أنشر صور أكثر إن شاء الله، إن بدا الأمر مهماً في حينه.


يبدو أني سأضطر للاستعجال كثيراً، لعلي أعود في يوم ما وأتكلم باستفاضة عن بعض الأمور، إن كان للأمر جدوى.
بعد حضارات وسط المكسيك وطبيعة المكان الألطف التي تتراوح بين أشباه الصحاري والجبال الخضراء، حيث زرت عدة مدن بديعة، وصلن في النهاية إلى أقصى الجنوب، حيث كان المايا يعيشون في ممالك كثيرة، أقرب في كونها دويلات في مدن.
الطبيعة في مناطقهم، على الأقل في المكسيك، قاسية، إنها أدغال رطبة جداً، خطيرة إلى حد ما، ومليئة بالحشرات والحيوانات، على نحو يعيد الأمازون إلى الذهن، وإن كانت مناطق المايا أقل وحشية من الناحية البيئية.
أما حضارات المايا أنفسهم، فقد كانت بعيدة عن المسالمة أكثر مما كان الأزتك عليه في رأيي، رغم ميول الأزتك التوسعية والحربية، وقيامهم بتقديم الأضاحي البشرية كذلك في مناسبات معينة كشر لا بد منه، لكن يبدو أن المايا كانوا أشد شراسة ووحشية. وكانت معظم ممالكهم على وجه العموم قد هُجرت، وتوحش أكثر أهاليها وتفرقوا في مجتمعات أكثر بدائية، كما وجدوهم حينما وصلوا الأسبان، وهو أمر له تفاسير جزئية أو تخمينات.
لكن حقاً، تاريخهم يروع القلب بوحشيته، وحتى بعض مدنهم الفخمة، تتحلى بزخارف ورسوم مروعة للقتل الشعائري للبشر، حتى في مباريات رياضية، تنتهي بذبح قائد الفريق المهزوم. أتسائل إذا ما كان هذا سيرضي جماهير الهلال فيما لو تم تطبيقه هنا، أعتذر، لكنهم قساة حقاً. أعرف هذا رغم أني لا ناقة لي ولا جمل في كرة القدم.
كان المايا يتحاربون كثيراً فيما بينهم، ربما لهذا عجزوا عن تكوين أحلاف كالازتك، والتوسع ودمج المجتمعات الأخرى، وربما حدث هذا أو كان ما جرى معهم، أو كان واقعهم أكثر تعقيداً مما يعرف الناس الآن، بعد تدمير السجلات والمكتبات على أيدي الهمج الأسبان حسبما قرأت.
لكني لا أعتقد بأن جلهم كانوا متوحشين بلا رحمة في كل الأحوال، حيث شغلت بعض المدن بالتجارة والعلم كثيراً.

لكن، يرى المرء الاختلاف الواضح بين السكان الأصليين في تلك المنطقة، وإخوتهم إلى الشمال في الوسط، حيث البيئة اللطيفة، تتراوح بين الغابات والصحاري غير القاسية، بل حتى فيما بينهم، تبعاً للمنطقة.
على وجه العموم، يتميز السكان الأصليين في وسط المكسيك بمسحة من حسن الخلقة وتناسق القوام أكثر بكثير من المتحدرين من المايا في الجنوب ممن رأيت، وحتى وجوههم ألطف للنظر وأريح، رغم إنهم ليسوا في جمال سكان الانديز في أحسن الأحوال، لكنهم لا يخلون من جمال واضح، خصوصاً في بعض المناطق، على خلاف المايا، الذين يندر رؤية من يسر منظره العين على وجه العموم، خصوصاً كلما اتجه المرء جنوباً.

بل قبل دخولنا إلى أحد مدنهم الشهيرة، اسمها كامبيتشي، أخبرنا المرشد الطيب بأننا سنرى الناس بأشكال عجيبة هنا، نساء ورجال، حيث يشتهرون بالرؤوس الضخمة المربعة وبالأجساد الممتلئة والكتوف العريضة، وقصر الرقبة، وجعل يلقي النكات حتى بكيت من الضحك. لكن ظهر أنه لا يبالغ، حيث وجدت أن أحسن حسناواتهم لا خصر لها ولا رقبة، وكأنما تكاد تلبس العقد فوق كتفيها وحول رأسها، والجميع تقريباً لهم كروش، ورؤوسهم ضخمة مربعة حتى بت أتساءل عن مدى صحة مزحة المرشد؛ إن كانوا يولدون على نحو طبيعي منذ خلقهم الله، أم أنهم يضطرون للقيصريات. وقد وجدتهم لطفاء جداً وذوي حضور طيب ومسالم، لكنهم على جانب واضح من البلادة. كان اختلافهم الواضح عن بقية المايا أمر عجيب.

وجدت عموماً أن من يسمون بالناهواتل، والمكستيك، هم الأجمل مظهرياً، وهم يقعون في الوسط. وأعتقد أن الاختلاط العرقي اعمق وأوسع نطاقاً مما هو عليه في البيرو في معظم المدن الكبيرة التي زرت. لكن المرء يرى السكان الأصليين بملابس مميزة في العاصمة، غالباً بفرق يتكون أحدها من اثنين، امرأة مسنة، وطفل أو طفلة يتعلم صنعة ما ويساعدها. وجدت الكثير منهن يحكن قبعات وعرائس صغيرة جميلة، وقيل بأن بعضهن يتحدث الناهواتل بإتقان أكبر من الاسبانية. حينما نويت الشراء من عجوز طيبة، كان التفاهم معها صعباً، وكانت تضحك من محاولاتي. كانت تجلس في وسط طريق مرصوف واسع قرب شجرة، في المنطقة العصرية حيث فندقي. وقف رجل في خمسيناته يراقب مبتسماً، وكان أنيقاً ويبدو أنه كان عائد من عمله. سألته العجوز أن يساعدنا، فجاء مباشرة، وترجم بيننا. يوجد استعداد لدى الناس هناك للمساعدة على وجه العموم، وغالباً بغير طلب منهم، كنت قد اعتدت على تطوع أي من الحضور على الترجمة لي في الدكاكين، وغالباً ما ينتهي الأمر بعدما أشكره أو أشكرها بسؤال عن بلدي، وابتسامة وترحاب، مع ذهول واضح.

عودة للمايا، يزخر تاريخهم بالقصص الدموية والعنف، لكن يزخر إرثهم بالعلوم المذهلة كذلك، وأحيانا المحيرة. فوجئت بأن لديهم اعتقاد بنزول كوكب  الزهرة ذات يوم إلى الأرض. هل فعلاً شهدوا نزول الكوكب، او اختفاؤه من السماء، في عصر قديم؟ أو سمعوا بهذا من حضارات أقدم؟. المكسيك مثل البيرو، امتلأت بمختلف الحضارات التي توارثت بعضها، وأقدمها يلفه غموض كبير. يعتقد بأن من أقدم الحضارات، والتي شكلت أساساً لمعظم الحضارات اللاحقة، هي حضارة سيطر عليها أناس لهم ملامح زنجية واضحة، وتسمى الأولمك، وقد خلفوا تماثيل رؤوس حجرية ضخمة تمثل هذه الملامح، مما يوحي بوجود اتصال بين أفريقيا والمكسيك. لكن هذا ليس بجديد علي، ففي البيرو رأيت أواني  مشكلة بملامح زنجية وصينية واضحة، من حضارات مغرقة في القدم، وعلى جانب رفيع من التقدم والتحضر. وبالواقع، كنت قد رأيت في البيرو في أحد المعابد القديم رسوم ذكرتني بطابع المايا بالزخرفة حينما رأيتها، وقد أخبرت المرشدة بذلك، فقالت بأن أسطورة أصحاب تلك الحضارة أن من جاء وعلمهم الكثير مما يعرفون هو شخص أو أشخاص جاؤوا من البحر من الشمال.

فوجئت بكم الوحشية المصورة في آثارهم، رغم التقدم الحضاري الواضح جداً. ويبدو بأنهم كانوا شعوباً إقصائية إلى حد بعيد، على العكس من الازتك، الذين رغم عدوانيتهم العسكرية إلا أنهم لم يكونوا من أهل التنكيل بعد الإنتصار، ويميلون إلى دمج الشعوب المغلوبة، وإن قدموا أنفسهم على أنهم شعب الله المختار بثقة تامة بالنفس.

لن يمكنني أبداً الإحاطة بما رأيت في الوقت القليل بين يدي الآن، قبل الرحلة الأخرى. لذا، سأتحدث قليلاً عن بعض التجارب الإنسانية هناك.

وجدت نفسي في موقف عنصري من قبل أحد المرشدين ذوي الملامح الأوروبية، وكان غرضه هو إضحاك سياح أمريكان علي بالتلميح إلى أني إرهابي. كنا في السيارة، وقد صدمت بسوء إحساسه الذي لم أتصور وجوده في بلد لا علاقة حقيقية له بما يجري بين الشعوب هنا وهناك، لكن يبدو أن ضعف الوعي والتفاهة أمر ينتشر بين أمثاله ذوي الملامح الأوروبية هناك، في حين أن الأوروبيين والامريكان انفسهم لا ينحدرون إلى هذا المستوى في المواجهات الشخصية. لم أجبه، لكني تجاهلت كل محاولاته للتواصل، وأسكته حينما حاول دفعي للمشاركة بقولي بأني أعرف حينما يسألني إن كنت أعرف، وبالنظر من نافذة السيارة وعدم التفاعل. اعتذر أخيراً على مضض، ودون سياق، لكني لم أجب كذلك. كنا سنتوقف قليلاً في منطقة شعبية، لجولة حرة، حتى نعود إلى السيارة ونمضي إلى وجهتنا النهائية. سألته حالما نزلت إن كان يريد أن يقول لي شيئاً بصريح العبارة، فحاول المراوغة والتظاهر بأنه لا يفهم ما أقصد. لم أضطر للشرح، فقد تخلى عن محاولاته وأكد بأنه من المستحيل أن يوجه إهانة إلى أحد وأن هذا سوء فهم. جعله شرطي المرور يمضي وقال بأننا سنلتقي مجدداً خلال ساعة، إذ يمنع الوقوف حيث وقفت السيارة. اتصلت بالمشرف، وأخبرته بما جرى، وقد صدمه ما سمع، وقال بأن هذا غباء لا يصدق، وقال بأنه سيرى مشكلة هذا الرجل، بأسلوب وكأنه يقول بأنه سيؤدبه.  أخبرته بأني لا أريد مواصلة رحلة اليوم، وأني أريد أن أعود إلى الفندق. رفض الفكرة، وقال بأنه سيتدبر أمري حالاً، ولكني كنت محبطاً بشدة ورفضت. طلب مني انتظار اتصاله. بعد قليل اتصلت الفتاة الألمانية من الوكالة التي رتبت لي الرحلة، وقالت بأنها غير قادرة على تخيل هذه الوقاحة وأنها تقدر شعوري، وأن الكل مصدوم في المكتب، اعتذرت كثيراً، وسألتني  أن أخبرها هي أولاً عن أي مشكلة أواجهها، وأنها تضمن بأن هذا الوقح لن يعمل لحسابهم بعد الآن، ونقلت اعتذار مديرها وبقية الموظفين بالمكتب. قالت بأنهم لا يقبلون بأن أعود إلى الفندق، ولن يسمحوا لذلك الرجل بإفساد يومي، وسيأخذوني لوحدي مع سائق خاص إلى الوجهة النهائية لليوم، وهي قنوات زوكيميليكو المائية الأثرية. اتصل المشرف لاحقاً، واعتذر مرة أخرى، وأفهمني بأنه سيتصرف كما يجب مع المرشد الأحمق، وقال بأنه أرسل  السائق الطيب الذي أخذنا إلى الاهرامات ليأخذني من هناك.
استمرت الاعتذارات، والسؤال عني حتى انتهى اليوم. قيل لي بأنهم سيتأكدون بأني لن ألتقي الرجل في جولات أخرى.

حينما حان موعد الجولة الطويلة في الحافلة مع سياح آخرين، أعتقد بأنه تمت التوصية بشأني على نحو خاص، رغم أني لا شك لدي بأني لم أكن لأرى سوا الخير واللطف ورقة الحاشية من مرشدنا المسن. لكن أعتقد أن تعاطفه معي، إضافة إلى فضوله، جعلاه يؤخذ بي على نحو لا أستحقه صدقاً.
كان بالحافلة رجل وزوجته من نيوزيلاند، لازمتهما كثيراً للقدرة على التواصل ولطفهما كما أسلفت، ورجل هندي وزوجته  المكسيكية، وكان وجود الهندي الطيب أمر مطمئن منذ البداية، فانا لا أرى اختلافاً كبيراً بيننا وبينهم في الكثير من المفاهيم، وكانت زوجته المكسيكية امرأة طيبة على نحو يفوق الوصف.
وتواجد ارجنتيني وزوجته، وقد نظرا إلي باستعلاء حاولا إخفاؤه أحياناً، لكن هذا ديدن الارجنتينيين كما اكتشفت. وعجوز ارجنتينية طيبة في السبعينات من العمر تسافر لوحدها، تبنتني خلال الرحلة، لكن المرشد لم يحبها أبداً، لأنها كانت كثيرة الكلام والطلبات. ولفترة أيام قليلة قرب النهاية جاءت امرأة مكسيكية ذات ملامح أوروبية، لم أخالطها كثيرا بحكم حاجز اللغة، ورغم أنها لطيفة إلا  أني لم أشعر بالارتياح، حيث أظن بأنها لم يكن لديها مانع للذهاب بعيداً حتى مع انعدام التواصل والمعرفة، وقد نقل إلي مما نقل إعجابها "بعيوني" العربية، في محاولات للتوفيق. ذكرني هذا بادعاء قديم يقول بأن رجال الهيئة يلبسون بعض أعضاؤهم ممن يملكون عيون جميلة براقع فاتنة، لتصيد الشباب الملهوف. لا أعتقد أبداً أن النذالة نزلت إلى هذا الحد بهم، لكن لو صح هذا الإدعاء حتى الآن، وصح وصف عيناي بالجمال، وهذا موضع شك أكبر، لكان لدي مصدر دخل إضافي كمتعاون مع الهيئة بعد الدوام الرسمي.
يهب الرزق لمن يشاء...
عودة للموضوع الأصلي؛ تمنيت الزواج حينما كنت في البيرو من بيروفية، لكني لم أتمنى ذلك في المكسيك، رغم لطف الناس إجمالاً، لكن هناك اختلافات.

دخلنا بنقاشات بسيطة، بعضنا ممن يتكلم الانقليزية في المجموعة السياحية، وكان يبدو أن النيوزلندية لديها قصر نظر فيما يخصنا، وطبيعة حياتنا، مقترحة بأن علينا أن نثور عليها. شرحت لها بأن أولوياتنا مختلفة حضارياً. لقد سعوا هم نحو الفردية، ونالوها اخيراً، بينما نسعى نحن تجاه أمور مختلفة، كالفضيلة.


كان نصفنا تقريبا من الأرجنتين، وقد اكتشفت أن ما كان يقال عن أهل الارجنتين في البيرو صحيح؛ إنهم متكبرين جداً. وليست فقط العينة التي كانت معنا، لكن السياح الآخرين، ومن قابلت في العاصمة بالمصادفات في الأماكن العامة بداية رحلتي؛ إذ كانوا دائما يحسبون أني من الأرجنتين، فيبادرون بمحادثتي والترحيب، لكن يتضح حينها مباشرة أني لست من هناك، وبالطبع يسألون، وحينما يعرفون، يبدو الأمر كخبر مزعج بالنسبة إليهم، إنهم بهذه الصفاقة، عكس المكسيكيين، الذين كانوا يحسبونني بالبداية أرجنتينياً أو تشيلياً، وحتى حينما لا أكون كذلك يظلون لطفاء.

أما من معنا، فكان هناك رجل وزوجته في أواسط العمر، وكان الرجل خصوصاً ينظر إلي بطريقة غريبة، ويتصرف على نحو غريب. فتارة يتلطف قليلاً، لكنه لا يغلب نفسه طويلاً، فيتخذ لاحقاً موقف ينم عن سوء تقدير واحتقار. لم يجدي أنه وزوجته استعارا مني المياه ليتناول الدواء، حيث كنت الوحيد الذي يحمل معه ماء باستمرار، فقد تصرف بعد هذا الموقف بنذالة تجاهي تحديداً، ثم عاد لاحقاً وحاول أن يتلطف، وهكذا دواليك. أما العجوز الارجنتينية المسنة جداً، فقد كانت استثناء واضح، فقد قررت أنها والدتي، وما يتبع ذلك من احضان وقُبل كل يوم، ودعتني لزيارتها في الأرجنتين والبقاء في منزلها، لأكون ابن لها، وأرى ابنها، حسب المترجم، وهو اندرس المترجم المسن في بعض الأحيان، رغم أنه كان يتضايق منها بشدة ويكرهها، ويكره مزاحها بأنها والدتي، متخيلاً بأنها تزعجني، لكني صدقاً لم أكن أنزعج. كانت تتبادل مع والدتي السلام من خلالي، حيث بادرت هي والدتي بسلام ورسالة بأن لا تقلق، فهي ستعتني بي. لديها ابن قسيس (أخي!)، وأخبرتني بأن لديها حفيد، وهو ما لم أفهمه، كوني أتصور بأنهم كاثوليك، لكني لا أدري، أو لعلي لا أفهم كيف تجري أمورهم تماماً.
كلمتني أرجنتينية ومعها رفيقها أو زوجها في الفندق، بالطبع أوضحت لهم أني لا أتحدث لغتهم، وجرنا هذا إلى بلدي وما هو. لم يبدو عليهم التقبل. لكني جربت وقلت بأن للأرجنتين شعبية في بلدي. فرحوا، وبررتها هي بقولها مارادونا. لكن الرجل بدا عليه الامتنان المستمر، والتبسم العريض تجاهي، وحرص على توديعي حينما غادرا المكان. لكن خلافاً لهؤلاء، الذين لا أتصور بأنهم كانوا سيتلطفون لولا مجاملتي، لم يكن الآخرين لطفاء، وكثيراً ما سألوني عن بلدي، بعد انتقائي للتحدث معي. كان المكسيكيين يتفقون مع البيروفيين في عدم تقدير الأرجنتينيين أبداً. ويصفونهم بالعنصرية والنظرة الفوقية لأن أصولهم أوروبية نقية، حيث أن نسبة كبيرة من أهل الأرجنتين من ايطاليا أصلاً، ومن مختلف الدول الأوروبية، بينما تشيلي يكثر فيها الألمان على حد علمي، إلى جانب الاسبان بشكل أساسي وخلافهم. غالباً ما كان يقال لي في النصف الأول من الرحلة بأنهم حسبوني أرجنتينياً أو تشيلياً، وفجأة تصبح ملامحي مهمة، لأنهم لا يتخيلون العرب هكذا. لكن كالعادة، هناك من يفترض بأني هندي، ولعل هذا الأكثر منطقية، حيث سألت، بعد تمعن كبير، امرأة كبيرة في محل الكترونيات إن كنت من الهند. ولما قلت بأني عربي، وأن الهنود أغمق بشرة بالعادة، قالت بأن عيناي كأعين أبطال السينما الهنود(!!).


كان المرشد المسن مفتوناً بي، ولأنه كان قد أمضى أكثر من  أربعين سنة في هذه المهنة، كان لديه الكثير من الأصدقاء في كل مكان، خصوصاً من السكان الأصليين. وكان يحب أن يأخذني إليهم بيدي حالما ننزل من الحافلة، ليعرفهم علي، معلقاً بأني أبدو مكسيكياً. بالواقع، كنت قد تحولت إلى اللون الأسمر بسرعة هناك، وهو أمر طريف. في النصف الأول من الرحلة، كان الجميع يحسب بأني من الأرجنتين أو تشيلي، وفي نصفها الثاني أصبحت مكسيكياً. كانوا أصدقاؤه دائما لطفاء جداً ومرحبين، وكان تعليقهم دائما هو بأني أول عربي يرونه، فلا يزور العرب على ما يبدو جنوب البلاد خصوصاً، أو يزورونه لكن ليس إلى أبعد من شواطئ وكازينوهات كانكون على ما يبدو. بالواقع، سيرى المرء أن الأمريكان حتى أقل مما يتصور المرء في الأماكن الأثرية، إذ يتواجد الأوروبيين، واللاتينيين، والآسيويين بدرجة أقل، أكثر من الأمريكان، الذين يشكلون بطبيعة الحال ولقرب البلد السياح الأكثر. إلا أن اهتماماتهم مثل اهتمامات كثير من العرب من حيث المجون والسكر؛ وهو أمر غريب لكون هذه الأمور متاحة في بلدهم بلا مشاكل، لكن لعلها التكاليف والقبول الاجتماعي، حيث أخبرتني فتاة مكسيكية، جاءت مع قريبتها من الشمال للسياحة، بمرارة شديدة بأن الأمريكان يأتون إلى بلدها لفعل ما يستحون عن فعله في أمريكا.

كان المرشد يحب تبيان، على وجه المقارنة، البعد الحضاري للمكسيك والبعد الحضاري للجزيرة العربية. لكنه لم يسقط بالفخ الذي وجدته مبتذلاً، وقد سقط فيه الكثيرين هناك عن حسن نية، في المقارنات التاريخية بين الحروب الدموية التي جرت بين المايا وما يجري الآن في بلدان العرب الشمالية.
كانت حياتي تثير اهتمامه، وكان بنفس الوقت يحب ممازحتي وإضحاكي. لسبب ما، ورغم تقدمي بالعمر، إلا أنه كان يعاملني كصبي صغير؛ وكنت أتقبل هذا التلطف منه بامتنان، حتى لو لم يكن لائقاً بعمري، تقديراً للطفه وحسن نواياه، فما المشكلة لو عاملني رجل في سنه الكبير كصبي، عن محبة وتقدير، طالما أن هذا يسعده على ما يبدو ويدخل البهجة إلى قلبه.
كما كان يحب معرفة رأيي بالأمور، والتفكر بوجهة نظري. ذكرني هذا تحديداً بشخص ما.

في نهاية الرحلة الجماعية المرهقة، حان وقت ترك كل شخص في فندقه في كانكون، وكانت كل فنادقنا في الشاطئ الأكثر شهرة، حيث الكازينوهات والأسواق والأمريكان، باستثناء زوج واحد، تركناهم في المايا ريفيرا. لا تبعد هذه عن كانكون سوا نصف ساعة تقريباً، وهي أقل شهرة، لكنها أفضل بمليون مرة في رأيي، وغالبية من يسكنها هم الأوروبيين واللاتينيين الأثرياء. حيث أن كانكون تشتمل على شريط ساحلي ضيق يشق  بطن المحيط بوضوح، تحيط في شارعه الرئيسي الفنادق والأسواق وأماكن الترفيه، بينما المايا ريفيرا فمنطقة كبيرة، أشهرها قرب كانكون في مكان يدعى بلايا دل كارمن، وهي مكان واسع كثيف الأشجار رائع الجمال، تضيع في غاباته الجميلة عالية الأشجار الفنادق والمنتجعات والمساكن الفخمة البديعة، بينما المحيط على بعد نزهة قصيرة على الأقدام عبر الحدائق الطبيعية والمهذبة. وفي كلا المكانين، لا يمكن لشخص مثلي أن يطيل المقام، فأنا أتعب في الرطوبة الشديدة أيما تعب، وأشعر بالبؤس والضيق الشديد، لكني لو اضطررت للإختيار، فحتما ستكون المايا ريفيرا هي مقصدي. بل إن الناس هناك يبدون أكثر رقياً بكثير من قاصدي كانكون.
كنت آخر من سينزل لسوء الحظ، وقد كان صبري قد نفد بعد رحلة طويلة جداً. نزل قبلي الزوج النيوزيلندي، ودعتهما، واعتذرت عن فرضي لذاتي عليهما.
حينما نزلت في فندقي، بعد انتظار طويل للوصول إليه، نزل معي اندرس، المرشد المسن، وقد استغربت، لأنه لم ينزل مع أحد. تأكد من أن كل شيء على ما يرام بالنسبة إلى حجزي في الفندق، ثم احتضنني مودعاً على نحو فاجئني صدقاً، وأثر بي أيما تأثير. أوصاني على نفسي ورحل.

في الصباح، كنت سألتقي مايكه مجدداً، الفتاة الألمانية التي بعثت بها الشركة للترجمة لي، ولتتنزه هي أيضاً، إذ كانت حديثة عهد بالمكسيك. والتقينا بعد الإفطار بموظف مكسيكي جالسنا، كان سيعطينا تذاكر وحجوزات، وجلس ليتكلم معنا. من أكثر الأمور التي لاحظتها هناك هي شغف البعض بمقارنة تاريخ المكسيك، خصوصاً المايا، بما يجري في البلدان العربية، من دموية وقتل، وهم يساوون بين القتل لأسباب مذهبية والأضاحي البشرية في المكسيك. تكررت المقارنات والفلسفة في أكثر من موقف، وكان هذا من أثقل الأحداث ضلا مما مررت به هناك، إلى جانب المرور بالكثير من الكنائس الأثرية المزينة بفن الباروك الأوروبي المبالغ فيه والقبيح، إنه حقاً لفن يخلو من الذوق في معظم الحالات. كانت المشكلة هي ضم الكثير من هذه الكنائس في البرنامج، وقد شاركني السأم الزوجين النيوزلنديين، وقد ضحكا حينما قلت في مرة بأني بدأت أتخيل بأنه لا يوجد في المكسيك مما يستحق المشاهدة سوا الكنائس القديمة المخيفة، وقد أثار هذا ذكرياتهما عن اسبانيا، وجمال العمارة الإسلامية، وتشويهها بقبح الباروك كما في مسجد قرطبة. قال الرجل مقترحاً بأن علي زيارة اسبانيا، لرؤية هذه الأشياء، قلت بأني أخشى أن قلبي سيتحطم حينئذ.

كانت الأيام التالية لبدئي نزهتي منفرداً، مع وجود مايكه الألمانية، معقولة إلى حد ما، مع أن السأم بدأ يأخذ مني مأخذه، لكن الوضع كان أقل ارهاقاً من الذهاب مع المجموعة السياحية، بالرحلات الطويلة على السيارة بشكل غير مريح، منذ الفجر.
نغص علي مرشد آخر، أشك باتزانه النفسي، وقد كان على ما يبدو حائر بين انتمائه للمايا ورغبته بإثبات كونه أوروبي كذلك، فوالدته من المايا ووالده اوروبي، وعيونه زرقاء ووجهه أحمر وله لحية لكن ملامحه من المايا خالصة. وقد كان شديد العنصرية تجاهي محاولاً إثبات أمر ما أجهله. بالواقع، وجدت المرشدين هناك، خصوصاً الرجال، يتعاملون معي بعنصرية، حتى حينما يكونون من السكان الأصليين، مع وجود استثناءات قليلة، وعلى عكس عموم الناس اللطفاء، ربما لأن وجودي يترافق مع غربيين بالضرورة، وهم يسعون إلى نيل رضا الغربيين. يميلون إلى تبيان تجاهل وجودي بأقصى ما يستطيعون. وكانوا مع ذلك يتوقعون إكرامية ويبدون حقدهم حينما لا يحصلون عليها، لكن لم يكن يرف لي جفن، فلم يكن يحصل عليها سوا من يستحقها، رغم أن مقاييسي ليست عالية، لكن الأدب والاحترام كانا كافيين.

العجيب أن المرء سيرى المزيد من الأمريكان، وإن لم يكونوا كثرة، في تلك المناطق جنوباً. وسيكثر السود منهم على وجه الخصوص، وهم محبين للفت الإنتباه على نحو مؤسف، ووجدتهم من أقل الناس احتشاماً. حضورهم فوضوي ومزعج عموماً. وعلى الخلاف منهم هم السياح السود القادمين من بيليز، البلد الجميل المجاور، ورغم أنهم لن يروا في تلك المناطق ما هو أجمل من بلدهم إلا أنهم يأتون على وجه الخصوص للتسوق والاستجمام، وهي أمور أرخص بكثير بالمكسيك حسبما قيل لي. لأول مرة أرى أهل بيليز، وهي بلد يغلب على سكانه الأفارقة من الأرقاء السابقين، ويتميز من بين جيرانه بأن لغته الرسمية هي الانقليزية، وليست الاسبانية. يميز المرء البيليزيين عن سود الأمريكان بسهولة نسبية، فإلى جانب أشكالهم الأكثر زنجية وجمالاً هم أرقى بكثير بوضوح، وغالباً ما يتواجدون كعوائل محترمة، يغلب عليها الهدوء والتهذيب الشديد، بلغتهم الانقليزية المكسرة (بِدجن)، وهم ليسوا بأهل ابتسامة كما لاحظت، ويبدو عليهم التأمل والحذر، إلا أنهم يقدرون التحية ولهم حضور مريح رغم كل شيء. لم أرى نسائهم بمظهر رخيص، ولم يكن حتى الصبيان يرتدون ملابس خالية من الذوق للفت الانتباه كالأمريكان السود بكافة أعمارهم وحالاتهم، مهما بدت حالتهم المادية حسنة.
فوجئت ببعض أبنائهم يسألونني المساعدة  في إدخال أجهزتهم اللوحية على انترنت الفندق بينما أنا في صالة الاستقبال، لم أكن أدري من أين هم لكني أعجبت بتهذيبهم، واستملحت لهجتهم المكسرة. سألتهم فقالوا بأنهم من "بيليس" كما ينطقونها. لاحظ رجل كوري مسن الأمر، وأعطاني جهازه اللوحي لأدخله على الانترنت، رغم اللغة الكورية. شعرت يومها بأني فني أعمل لحساب الفندق، لكني أحب القيام بهذا.

قرب نهاية الرحلة، التقينا في محطة الحافلات بشاب وشابة أوروبيين. كانت الشابة من أجمل وأرق ما يمكن للمرء أن يرى، وهي سمراء خمرية البشرة، ذات عينين شفافتين بلون أزرق، وابتسامة حلوة وحضور لطيف، أما الشاب الأشقر فقد بدا متجهماً، كارها لكل شيء وأحد. كانوا يواجهون معضلة، لم يكن لديهم تذاكر، وكان نظام الحجز معطلاً، والموظفة المكسيكية المشغولة بشعرها الجميل تمشيطاً وتصفيفاً غير متعاونة أبداً في تلك المنطقة النائية. لدى مرافقتي الألمانية مروءة نادرة، إنها لا تكف عن محاولة مساعدة الآخرين. وقد حاولت مساعدتهم حتى تمكنت من ذلك، بمخاطبة سائق الحافلة حينما وصل، بعدما سدت الموظفة المكسيكية ذات الشعر ،الطريفة ولكن الأنانية، كل طريق. حينما جلسنا في الانتظار، قالت لي الفتاة بابتسامة من أجمل ما رأيت بأن اسمي سعد، فقد كانت قد سمعت مايكه تناديني. سألتها عن اسمها، فأجابت بأنها إيفا، بينما مرافقها ريمي، هي فرنسية نصف ايطالية مقيمة في سويسرا، بينما هو سويسري، وصديق طفولة، لا أكثر كما أفهمتني ومايكه بوضوح. لا يبدو أنها تعاملت مع سعودي من قبل، وبدا كوني من السعودية أمر مشكوك فيه، حيث لا أبدو كما يتخيلون في أوروبا العرب من منطقتنا كما قالت، إني أبدو لها يونانيا أو من جنوب إيطاليا. أعتقد أن العالم لا يعرف العرب جيداً، سوا من خلال التهيؤات والأدب المبالغ فيه، والنماذج الاستثنائية، وأعني عرب الجزيرة تحديداً.
في الحافلة، كان التبريد عالياً جداً، ولم يكن لدي مشكلة، إذ كنت مستمتع بهذا، نظراً للرطوبة العالية بالخارج التي أشعرتني بارتفاع الحرارة والتعب، لكن كان الأوروبيين الثلاثة يواجهون معضلة؛ حيث أنهم لم يعتادوا على التكييف الصناعي على هذا النحو. إنه أمر غريب، حيث أنهم أكثر تعوداً بطبيعة الحال على الأجواء الباردة. لكن ربما التكييف الصناعي مختلف عن الطبيعي أكثر مما أتخيل. كان عدم شعوري بالبرد أمر مذهل بالنسبة إليهم، في حين سارعوا حينما توقفنا لبرهة بالنزول وأخذ ما يستطيعون من حقائبهم من ملابس وألحفة ليتقوا برد الحافلة.
تكلمت والفتاة الفرنسية كثيراً، في حين ظل مرافقها صامتاً مشغولاً بأفكاره أو أغراضه، لا يشارك إلا حينما يُسأل. كان لديها الكثير من الأسئلة، والكثير لقوله، وكانت على جانب غير عادي من اللطف والاحترام ورقة الحاشية. تعمل في الأمم المتحدة في جنيف، وقد اقترحت كذا مرة إعطائها سيرتي الذاتية لتقديمها هناك، فهم يحتاجون إلى مترجمين. بالطبع، لا يمكنني الذهاب إلى هناك، ناهيك عن علمي بأني لن أُقبل، وإن قبلت فلن أبلي حسناً في ذلك المكان. سألت عن الإسلام وطبيعة الحياة في السعودية، والعقوبات الشرعية. أفهمتها بأنها ليست مجرد انتقام من الجاني، إنها أكثر، فهي تشكل نوع من الرادع، وتأمين المجتمع. تكلم كل منا عن حياته، وكانت امرأة شفافة وبريئة، حساسة تقدر الشعور إلى أقصى حد. لكنها كانت تدور وتعود إلى خلقتي، فقد قارنت بين شكلي وشكل صديق قديم لها من الاردن، ويبدو انها عرفت الكثير من أهل تلك النواحي، ومن المغرب، وبدا لها أني مختلف الشكل والحضور عنهم، رغم أننا كلنا عرب. خمنتُ بأن هذا ربما لأنها لم ترى أو تجالس الكثير من أهل الجزيرة العربية، قالت بأن هذا قد يكون صحيحاً.
تساءلَت إذا ما كان لي الخيار، لو كنت بلا دين، وقيل لي أي دين أختار، فماذا سأختار؟ قلت الإسلام. بدا أنها لم  تتوقع الإجابة، وكأنما احتارت بها. لا شك لدي أنها رغم كل شيء لا ترى فيه خيار سعيد للحياة، وإن أبدت من الإحترام ما فاق تصوري، كما رأيت لاحقاً.
تكلمنا عن علاقاتنا بالأهل والأصدقاء، وهي فتاة محبة للناس بوضوح وإن لم تقل، وتتخذ موقف إيجابي من الحياة، على عكس صديقها الذي يبدو وكأنه سلبي جداً، متحفظ جداً، غير مريح في البداية على الأقل. تكلمت عن أصدقاؤها وتجاربها في الحياة، وسألتني عن تجاربي وحياتي.
حدثتها عن زيارتي إلى سويسرا، وسبب الزيارة. تعاطفت جداً، وعرضت أي مساعدة، حتى من خلال صديقها طالب الطب، وألزمته بالمساعدة أمامي على نحو طريف وبريء. هو طالب طب، وهو يكره أساتذته، يقول بأن الأطباء في سويسرا متكبرين. أمر مضحك، لأني لم أرى مثل تواضعهم، على الأقل في زيوريخ، دوناً عموم السويسريين العنصريين. أخبرتهم عن العنصرية التي واجهت في زيوريخ وبيرن، قلت بأن تجربتنا في مطار جنيف كانت أفضل بكثير. قالت الفتاة بأنها تعتقد بأن السويسريين في جنيف باردين جداً، وقد استغربت أنهم أعجبوني أكثر في تجربتي في المطار، لكنها لم تعرف زيوريخ وبيرن بوضوح، خصوصاً بيرن، حيث العنصرية والكِبر بلا حدود إجمالاً. علق صديقها بأن الشق الألماني عنصري جداً بالفعل، قالها بوضوح وبلا مواربة، وربما ببعض الكراهية.
لم ينقطع الحديث أبداً. وحينما وصلنا، قالت بأن علينا نحن الأربعة أن نلتقي على العشاء. كانت مرافقتي الألمانية قد تعبت جداً، وبدا أنها أصيبت بالبرد، قالت بأنها ستحاول الحضور، إن تحسنت حالتها.

بالمساء، تواصلنا، والتقينا في مطعم، باستثناء مايكه، التي يبدو أنها تعبت كثيراً، ولم أتمكن حتى من إقناعها بإحضار بعض الطعام إليها لتأكل.
كنت قد زرت المدينة مسبقاً، وتناولنا الطعام في المطعم حينما كنت في المجموعة الاولى، وهي مدينة ذووا الرؤوس المربعة والرقاب شبه الخفية، أما الآن، فأنا في طريقي إلى العودة إلى العاصمة، لأغادر إلى بلادي.
كانت الألمانية قد تعبت كثيراً من التكييف، لهذا اعتذرت عن حضور العشاء حينما حان الوقت.
بدا الشاب أكثر انفتاحاً بكثير بالمساء، ومازحني حتى. تكلمنا كثيراً حول مختلف الأمور. وحينما طلبت ما أريد، سألت أكثر من مرة إن كان في الطبق خنزير، وأكدت النادلة بأنه يخلو من هذا. لكن حينما أحضرته وتذوقته، وجدت أنه هناك شيء مثير للشك. نظر مرافقاي إلى طبقي، وشكا بأن بعض المكونات من الخنزير. استدعينا النادلة، فقالت بأنه خنزير. بدت غبية على نحو استثنائي، وهي من سكان المنطقة الأصليين، مربعة الرأس ضخمته. شعرت بالدم يتجمع في وجهي، رغم أني تذوقت قطعة صغيرة فقط، إلا أني شعرت بغضب عارم، وكأني سأنفجر، وبدا على مرافقاي القلق، وتجاه نظراتهما، هدأت من روعي، وابتسمت، وقلت بأني لا أريد أن أتناول الطبق، وسأكتفي بالمقبلات الأولى، التي تبقى منها الكثير، وأخذت قطعة رقائق ذرة. قالا بأن هذا غير مقبول. أخبرتهما بأنه لا بأس بالأمر. كنت بالواقع قد فقدت شهيتي تماماً، ولكني لم أرد أن أفسد عليهما العشاء والجو. استدعيا مدير المطعم، وخاطباه بحدة، خصوصاً الفتاة، التي فقدت أعصابها تماماً، إذ شرحت له بأني سألت النادلة ثلاثة مرات عن الخنزير، وبدا أنها لا تبالي، وأخبرته بأني مسلم، وأنه يجب أن يفهم الناس أن المسلمين لا يأكلون الخنزير، وحينما يسأل أحد ما فالأمر مهم. اعتذر بدبلوماسية، وعرض استبدال الطبق، حاولت الفتاة إفهامه بأني يفترض أن لا أدفع، كلفتة من المطعم، لكن صاحب المطعم كان بخيل بوضوح وقال بأنه سيرسل ترضية. كانت الترضية كؤوس خمر. مما أثار الضحك على الطاولة، كان موقف مضحك مبكي. استدعوا مدير المطعم مرة أخرى، وبخته الفتاة بقسوة، وقد فقدت أعصابها تماماً، وسألته إن كان يشاهد التلفاز أو يعرف أي شيء؟ هل سمع بالمسلمين من قبل؟، وأوضحت بأن هذا الجهل وعدم الإحساس غير مقبولين. بالطبع، لم يستجب جيداً. كان مرافقاي قد أصرا كثيراً على أن أطلب شيئاً، أو أشاركهما وجبتيهما، وقد أحرجني الأمر كثيراً، وقالا بأنه لا خيار ثالث لي. طلبت دجاجاً، وحينما جاء الدجاج أضافت الفتاة من طبقها إلى طبقي، ووضعت لها من طبقي مما أضحكها، وعرض الشاب، لكني رفضت، فقد كان هذا كثيراً، وأنا بالفعل غير راغب بالعشاء من الداخل.
حينما حان وقت دفع الحساب، قررت أن يكون العشاء على حسابي، مما أثارهما، وعبرا عن رفض مطلق، لكني كنت أشعر بالامتنان لموقفهما، فلم أترك الخيار. في النهاية، وافقا، على شرط دعوتي إلى مقهى، وأن لا أترك للمطعم إكرامية.
في طريقنا إلى المقهى، وجدنا مدير المطعم يتمشى بتوتر، وحينما أدرك وجودنا بنفس الشارع الخالي، بين المباني الأستعمارية الأثرية، بدا وكأنه تعرض لقرصة، إذ انتفض، وأسرع الخطا داخلاً إلى أحد الفنادق، مما أضحك مرافقاي.
في المقهى، الذي يختص بالكاكاو على الطريقة المكسيكية والحلويات، تحدثنا عن مختلف الأمور. ذهب الشاب ليطلع على الشوكولاتات المحلية، وبقينا نتكلم. سألت عن اللغة العربية. كانت تعرف صوت اللغة باللهجة الاردنية والمغربية. قالت بأن صديقها الاردني السابق علمها أغنية، قلت غنيها، قالت: لهبت لهابيت سهبت سهابيت. ضحكت، وقلت بأن الأغنية جميلة بصوتها. فكرت بصديقها، واختياره لهذه الأغنية، شعرت بأنه طريف. طلبت مني أن أتحدث العربية، لانها تريد أن تعرف صوتها مني. سألتها إن أرادت أن تسمع الفصحى أو لهجتي المحلية؟ قالت الاثنين، وأن أبدأ بالمحلية. تكلمت قليلاً، وبدت مأخوذة، قالت بأنها جميلة جداً، ومختلفة عما سمعت من قبل، وأن صوت هذه اللهجة أجمل. ثم تكلمت بالفصحى قليلاً، وأعجبتها جداً كذلك. بدت عليها الحيرة تجاه الاختلاف، وقالت بأنها لم تتوقع أن صوت اللغة ولهجتنا بهذا بالجمال. أعتقد أن لهجتنا أجمل للسماع على نحو مجرد مما نظن، حيث سمعت هذه الملاحظة من أجانب آخرين أكثر من مرة حينما أتحدث عبر الهاتف وهم معي مثلاً، ناهيك عن الفصحى.
تكلمنا عن بعض الأمور، حتى جاء الشاب وقد اشترا بعض الشوكولاته المكسيكية لنجربها معاً. كانت غريبة، ألواح هشة غير متماسكة، وطعمها كان لا بأس به.
خرجنا من هناك وتمشينا في ذلك الجزء الأثرية من البلدة، الذي يفصله سور قديم عن مكان عيش السكان الأصليين قديماً. تكلمنا عن اللغات، وقالوا بأن اللغة الفرنسية تحوي أصوات صعبة النطق. بالواقع، لا آخذ ادعاءات الأجانب على محمل الجد، ذلك أننا، أقصد كثير من أهل الجزيرة العربية وليس كلهم، نستطيع نطق الكثير من الأصوات بلا مشكلة، لسلامة لغتنا العربية الغنية بالأصوات من التأثيرات الأجنبية. طلبوا مني نطق صوت، فنطقته ببساطة، اتسعت عيناهما، وطلبوا مني نطق آخر، وآخر. ضحكا بالنهاية بجذل، وقالوا بأني أنطق ما يقولون كفرنسي.
وحتى الأسماء باللغات الأصلية، والكلمات والأوصاف، أي بلغتي الناهواتل والمايا، لم أكن أواجه مشكلة، مما كان يلفت انتباه المرشدين، وهي على وجه العموم كلمات مختلفة عما نتخيل ونسمع بالعادة، لا في الإعلام، ولا في حياتنا اليومية المليئة بالأجانب. كانت مايكه تقول بأني أنطقها مثلهم، وأني أفضل منها في هذه الناحية، فهي تعجز عن ذلك، كانت تقول هذا بشيء من الغيرة المضحكة.


لم أستمتع في المكسيك كثيراً، ليس بالقدر الذي أملت على الأقل، لكني مع ذلك غير نادم على الذهاب؛ كان يجب أن أرى ما قرأت عنه دوماً، أن أتعلم عنه أكثر. وحتى لو لم أذهب، وعرفت مع ذلك أني لو ذهبت فلن أستمتع كثيراً، لشددت الرحال إلى هناك مع ذلك، وإن يكن لفترة أقل، فالفائدة التي لا أساوم عليها هي أني أشبعت فضولاً، وهذا أمر مهم جداً بالنسبة لي، أهم من الاستمتاع من بعض النواحي. ما كنت سأفعله على نحو مختلف هو اختصار وقت الرحلة، وبعض التفاصيل الأخرى، مثل تفادي الرحلات الطويلة مع المجموعة على الحافلة.
هل أنصح بالذهاب إلى المكسيك؟ أعتقد أنها بلد متنوع، ويحتوي عينة من كل شيء، عينات ممتازة، لكنها إجمالاً عينات أقل جودة، نماذج فقط لما يمكن أن تراه في أماكن أخرى على نحو أفضل مع بعض الاستثناءات، أي باستثناء الآثار الفريدة جداً بالطبع، فهذه جيدة جداً، وبالنسبة لي، تستحق وحدها أن تكون سبباً لزيارة البلد، أما الأمور الأخرى، من طبيعة ومدنية وثقافة وأناس وحياة، فأعتقد بأنها أقل إثارة للاهتمام من سواها، بالنسبة لي وبحدود ما رأيت بالطبع، فلم أرى كل شيء أو أذهب إلى كل مكان. إنها في كل الأحوال والجوانب أقل إثارة للاهتمام وتكامل وكمال من البيرو، حتى من ناحية الآثار، وإن كانت آثارها القديمة لا تفوت طبعاً وربما فضلها البعض على آثار البيرو، رغم أني أفضل كذلك آثار البيرو الأنعم والأجمل والأكثر إنسانية، التي تدل غالباً على رغد قديم في العيش وتماه أكبر مع الطبيعة، وتعقيد وتقدم فكري لعله أعمق، ولكن بالتأكيد أقل عنفاً بكثير. لذا من كان يهتم بالآثار والحضارات القديمة كثيراً مثلي، ولديه فضول تجاه حضارات أمريكا الوسطى القديمة خصوصاً، فليذهب بلا تردد، ومن كان اهتمامه متوسط، فيوجد بلدان أفضل بآثار معقولة كذلك، ولعل المرء يجد فيها ما يحب على نحو أفضل أو أكثر إثارة للاهتمام على الأصح، إن كان طبيعة أو أساليب حياة مختلفة.
عن نفسي، أعتقد أني لو عدت إلى أمريكا الوسطى، فلن يكون هذا إلى المكسيك، بعدما رأيت ما أردت رؤيته من آثار الازتك والآخرين خلافاً للمايا في الجنوب، إنما سأذهب إلى قواتيمالا، رغم أنها لا تحوي إلا آثار المايا على حد علمي، إلا أني قرأت أنها كبلد وسكان وطبيعة أكثر إثارة للاهتمام، ناهيك عن آثار المايا الثرية، لكن هذا فقط بعدما رأيت المكسيك، فالمكسيك أولى بكل تأكيد بالنسبة إلي، نسبة إلى اهتماماتي وأولوياتي. لكن من يدري؟ لعلي أعود في يوم ما؛ بكل تأكيد، العاصمة جميلة وأود رؤيتها مرة أخرى، ورؤية أماكن قد أكون فوتها هناك أو لم أعطها حقها، وربما اتجهت شمالاً بعض الشيء لرؤية آثار حضارية أثارت اهتمامي بعدما عدت.
إنها مكان مميز جداً بالنسبة لي على مستوى الحضارات القديمة أكثر مما هي عليه حديثاً، وأعتقد بأن أهلها الحاليين، وإن كانوا لطفاء إجمالاً، يسلبون طبيعتهم وإرثهم الكثير من رونقه ببعض الممارسات التجارية البحتة.

الطعام المكسيكي لم أحبه ولم أكرهه، ليس ما أحب تناوله كل يوم، مثل الحال في الرياض، إنه طعام تريد تناوله مرة في الشهر أو الشهرين، لا أكثر، وربما أقل. وبالواقع، قال لي سائق طيب حينما سألته عن الطعام، بأنه يحب الطعام المكسيكي الحقيقي، بيض النمل وبعض الحشرات المجففة وما إلى ذلك. كانت المرشدة الطيبة في العاصمة قد أصرت علي، مع بائع الحشرات المجففة بالكيلو، على أن أتذوق، لكني لم أستطع. أعتقد أنها كانت جنادب بأنواع مختلفة. لكن لا يشعرني هذا بأي قرف منهم صدقاً بقدر ما يقرفني الخنزير، فالقوم في السعودية يأكل بعضهم الجراد. لا أنسى الهدية التي أتت بها إلينا خالة عزيزة، حينما دخلت المطبخ ذاك اليوم ووجدت مطبقية وقد كفي عليها صحن، وحينما كشفته زعقت زعقة مدوية، أعتقد أن عمري كان ٩ أو ١٠ سنوات، وسقطت على رأسي بالخلف، إذ ظننتها صراصير. جاءت والدتي تركض بقدر ما تستطيع، وضحكت حتى لم تستطع التنفس، وأخبرتني بأنه جراد أتت به خالتي فلانة، التي تتقهوى معها في تلك اللحظة في الصالة. لا أتذكر بأن أحد أكلها في منزلنا، وأعتقد بأن والدتي أرسلتها إلى أحد ما.
كيف هو طعمها؟ الله أعلم، كيف هو طعم الضب؟ الله أعلم، حيث أني لا آكل هذا الطعام، لكني أتخيل بأن حب البعض له لا يخلو من مبالغات في أمر جودته، أو تأثير عاطفي تستجلبه الذكريات حين تناوله. بل إني لا آكل البعير، ربما لأني أكرهه كحيوان. ليس هناك أجمل من الغنيمات، النجديات على وجه الخصوص. وأجمل من هذا كله الإقلال منه. كما أنصحكم بالسلمون، عادتي التي كانت تتكرر كثيراً في الرياض، لكن هذا موضوع آخر.


كانت الرحلة إلى المكسيك ومنها متعبة، ليس بقدر البيرو، لكنها متعبة مع ذلك، خصوصاً العودة، لأني أصبت بصداع وألم لا يحتمل في ضرسي.
في الذهاب، كنت قد حجزت على الخطوط الفرنسية، للذهاب إلى عاصمة المكسيك عبر باريس، وكنت سعيد لأني سأتفادى المطارات الأمريكية في الذهاب على الأقل. لكن بسبب إضرابات الطيارين، ألغيت رحلتي في نفس اليوم. كما أسلفت.
طرت إلى نيويورك بدلاً عن ذلك، على الخطوط السعودية، بترتيب من الخطوط الفرنسية. الطعام سيء كالعادة على الخطوط السعودية. ومن نيويورك ذهبت إلى المكسيك.
اما العودة، التي كانت طويلة لمجيئي من مطار داخلي إلى مطار العاصمة، فكانت متعبة.
حالما أقلعت الطائرة من مدينة مريدا، وتناولت قطعة بسكويت، شعرت بألم لا يحتمل في ضرسي ورأسي، حتى تمنيت لو قفزت من الطائرة. لا زلت لا أدري ما المشكلة، أتصور بأن الضغط له دور، لا أدري لماذا.
وكان مطار العاصمة عذاب بنفس القدر. لا أحد يعطيك الإجابة الصحيحة إلا بشق الأنفس. ليس لأنهم لا يتعاونون، بالعكس، إنهم محبين للمساعدة على نحو غير عادي، لكنهم إما يسيئون الفهم، أو يجيبون بلا معرفة. ذهبت إلى عيادة خاصة بالمطار، ولم يتح لي الدخول لعدم وجود موعد. قدرت الموظفة ظرفي، وأعطتني موعد قريب، مع تحذيري بارتفاع قيمة الفاتورة، لكني لم أهتم، لما أشعر به من ألم. نصحتني بأن أذهب مع ذلك إلى العيادة المجانية، ذلك أنهم يستقبلون بلا مواعيد. لكن المشكلة أنها في صالة أخرى، لا يسمحون لي بالدخول لأنها ليست الصالة التي أغادر منها. وجدت طريقي بصعوبة، لكثرة الإجابات الخاطئة، وقد أرسلني أحدهم حتى بالقطار إلى مكان بعيد، رغم أن العيادة بجانبي منذ البداية. تمكنت في النهاية من الدخول إلى العيادة، بتعاون من موظفي التفتيش الطيبين. واستقبلتني طبيبة لطيفة، وفحصتني جيداً، قالت بأنه لا يوجد مشكلة، لكن لعلها مشكلة عابرة في الأسنان، لكن ضغطي سليم ويمكنني السفر. أعطتني حقنة مسكنة، وحبوب مع تعليمات بوقت التناول. بقيت قليلاً، وشعرت بتحسن جذري. كان كل هذا مجاناً، وحاولت مكافئتها لفرط امتناني، لكنها ردت بابتسامة بأنها لا تستطيع أخذ المال.
بعدما خرجت، تهت لوقت طويل بسبب الإجابات الخاطئة للعاملين بالمطار، أخذت القطار أكثر من مرة. بالنهاية، تحدثت إلى شرطية، بعدما يئست وبدأت أخاف فوات الرحلة. لم تفهم ما أقول، لكنها أخذتني ومشينا طويلاً، حتى وصلنا إلى مكتب. وهناك، أخبروني أين يجب أن أكون بالضبط. كم أنا ممنون لتلك الشرطية. لاحظت أن الشرطة هناك قمة بالتهذيب والتعاون.
كان المكان هو من حيث أتيت أصلاً.
كنت أتضور جوعاً، وتمكنت من تناول بعض الطعام، بعدما أودعت حقيبتي الشحن. لكن ما أثار استغرابي الشديد، هو أني لن أستلم حقيبتي في أمريكا، رغم أنها البلد الوحيد حسب معرفتي الذي عليك أن تستلم فيه حقائبك حتى لو كنت ماراً مرور الكرام، إذ يجب أن تأخذها للتفتيش لهوسهم الامني. قال الموظف بأنه سيلصق عليها لاصقاً يجعلها تذهب إلى الطائرة مباشرة في مطار اطلنطا، ولن أضطر إلى استلامها قبل وصولي إلى الرياض، أي حتى في مطار باريس. كان هذا معروفاً كبيراً بالنسبة إلي، فكم كرهت استلام الحقيبة في قدومي، وفي ذهابي ورجوعي من البيرو، فهي مضيعة للوقت والجهد، وتتلف أعصاب المرء خوفاً من تفويت الرحلة التالية.
الطائرة كانت على خطوط أمريكية، وكانت هناك مضيفة مسئولة عن التحدث والترحيب وإعطاء المعلومات للركاب عبر مكبرات الصوت. وكانت تتحدث بلهجة جنوبية ثقيلة على نحو مبالغ فيه، وتستملح نفسها كثيراً وتتودد على نحو وجدته ممجوجاً، لكن استظرافها لنفسها آتى أكله وأضحك بعض الامريكان. لكن كما توقعت، لم تكن باللطف الذي تبديه حينما يتعامل معها أحد مباشرة، كما لاحظت من تعامل البعض معها. إن المضيفات بشكل عام أكثر تمثيلاً من الممثلات المحترفات، لكنهن أقل مصداقية، إنهن أقل مصداقية من أي شخص يمتهن أي مهنة حسب معرفتي. دائما ابتسامات مبالغ فيها، ويبدو أنها مفروضة عليهن بتشديد، فهي ابتسامات شديدة الاصطناع، وهذا أمر مؤسف. أعتقد بأن عملهن متلف للأعصاب.
وصلت إلى أطلنطا، وبينما أقف بالصف انتظاراً لدوري عند مسئول الجوازات، وقد ملأت نموذج ضروري بمعلوماتي وأجبت بعض الأسئلة، جاء إلي شرطي لعله في الأربعينات من عمره، واطلع على جوازي، وقارن صورتي، وطلب مني نزع نظارتي (في رحلات الطيران، لا أرتدي عدسات). نظر إلي بطريقة غير مريحة، وسأل عن وظيفتي وعدة أسئلة، وأعاد الجواز ومضى. لاحظت بأنه ينظر إلي من حين إلى آخر، بطريقة متأملة. أعتقد أني كنت مجهداً على نحو لم يسمح لي بالشعور بالتوتر أو الضيق، ولعل المسكن الذي أعطيت إياه في مطار المكسيك كان جيداً. جاء إلي مرة أخرى، وأخذ جوازي والنموذج الذي ملأت، وابتسم وهو يقرأه، وسألني عن رحلتي إلى المكسيك، وإن كنت قد استمتعت، وعن حياتي في السعودية، وأمور ودية عامة، بينما أخرج قلمه، وصحح النموذج الذي ملأت مسبقاً، إذ يبدو أني ارتكبت بعض الأخطاء، وهي أمور واردة بالنسبة لقلة الخبرة أو تباعد التجارب. شعرت بالامتنان وشكرته.
بشكل عام، اعتقد أن مواقف المسئولين، حتى السود منهم، قد أصبحت أفضل. وللأمانة؛ المسئولين البيض كانوا دائما ألطف، أكثر تفهماً واحتراماً من السود بكثير. وكان هذا الشرطي أبيضاً.

بعد بعض الانتظار، صعدت الطائرة، وكانت للخطوط الفرنسية، متوجهة إلى باريس. كانت مريحة إلى حد جيد، وأعتقد أن الخطوط الفرنسية تبذل جهوداً ملحوظة لترويج نفسها وتحسين خدماتها والمنافسة، لكن مما رأيت، تصطدم كل الحسنات بغرور المضيفين ومواقفهم الصفيقة. لم اواجه مشكلة شخصياً، بل كنت محظوظاً بمعاملة رقيقة وابتسامات من المضيف، على عكس جيراني الأوروبيين أو الأمريكيين، حيث عوملوا بازدراء واضح، دون بذل جهد لإخفاء الموقف. تجد أحد الركاب مثلاً يستوقف المضيف ليسأله سؤالاً، وهذا أمر طبيعي، فيرد عليه المضيف بجلافة، وتوضيح للكلمات وكأنما ليوحي بأن السامع غبي، ثم يهز رأسه بازدراء وعدم رضا وهو يمضي، وكأن الراكب كان غبياً ولا فائدة منه، لم أرى غرور على خطوط طيران بمثل هذا الوضوح. ولم يكن هذا المضيف فقط هو الجلف، لكن حتى المضيفين الآخرين أجلاف على نحو ملحوظ. لا أدري إن كان الإزدراء محفوظ على وجه الخصوص للأوروبيين الآخرين أو الأمريكان، فجيراني حسب ملاحظتي بريطانيين أو ايرلنديين، وكانا شابين لطيفين صدقاً، لكنهم عوملوا كالأغبياء بوضوح، بينما لم أواجه أنا هذا الإشكال حينما سألت أو تكلمت، وهو أمر عجيب ولم يبدو منطقياً للأسف.
كان الطعام رائعاً جداً، جداً، وبكميات توحي بالكرم، وليس المبالغة.
نمت لبعض الوقت خلال الرحلة الطويلة، بعد مشاهدة فيلم يجمع بين تحريك الرسوم والخلفيات الواقعية، عن الحشرات، وهو فيلم جميل إلى أقصى حد، فرنسي صامت اسمه Minuscule: Valley of the Lost Ants  يدور حول خنفساء صغيرة مرقطة، دعسوقة، تضيع عائلتها وتكون صداقة مع نملة تقود فرقة استكشافية، ويتعرض الجميع للمطاردة والأحداث المثيرة والمضحكة. جميل وبريء جداً، ومختلف تماماً عن نكهة الأفلام الأمريكية العائلية المسطحة.

وصلت إلى مطار باريس، أعتقد انه شارل ديقول. المطار جيد ولا يضيع المسافر في أروقته، لكن عيبه القاتل هو ندرة أماكن بيع المأكولات والمشروبات والبقالات، إذ أنها متباعدة ومزحومة جداً، ويبدو بدائياً مقارنة بهيثرو، مطار لندن. كنت قد تعبت في ذلك الوقت كثيراً، صداع ودوار. رفضت تناول الطعام في الطائرة العائدة إلى الرياض، رغم جوعي، إذ شعرت بالغثيان، ولحسن الحظ، نمت لفترة طويلة حتى الوصول، وكنت بخير ما يرام حينما وصلت.
كم أسعدتني رؤية والدتي. لم أجلس معها بقدر ما أحببت، فكان يجب أن أدعها تنام، فقد خرجت من المطار في موعد نومها، وانتظرتني أكثر مما يجب.






تبين منذ أسابيع بأننا سنضطر إلى العودة إلى سويسرا، لاستكمال علاج ابنة أختي هناك. كانت الخطة هي القيام بتلك العملية المعقدة هناك، لتفتح المجال للأطباء بالرياض للقيام بما يلزم تجاه حالتها. لكن يبدو أن طبيبها هنا مشغول جداً، وغير واثق تماماً بفريقه، حيث وصف العملية المقبلة بعالية الخطورة.
لا أكذب لو قلت بأني صدمت بالخبر، وشعرت للحظات بظلمة تطبق علي، لقد كنت سعيد بأن الأمر سيتم هنا، وأن المواعيد الممهدة للعملية المقبلة تسير على ما يرام، ولم يكن من السهل تلقي الخبر على نحو حاسم ومفاجئ. نعم، إني سأقوم بلا شك بكل ما في وسعي لأجل ابنة أختي، لكني كنت أتمنى لو تمكنوا من مساعدتها هنا، ووفروا علينا زيارة ذلك البلد الذي نتفق كلنا على عدم الارتياح فيه ولأهله. لكن الخيرة فيما اختاره الله، لعل هذه العبارة من العبارات القليلة التي لا زالت تشكل عزاء لقلبي حيثما قيلت.

كنت قد أخبرت الناس الذين تعرفت إليهم في المكسيك عن تجربتي في سويسراً، وبسعادتي بأننا لن نعود. ومما يرسم الإبتسامة المرّة على وجهي، هو ذكرى سذاجتي في مطار باريس، وأنا أحول آخر خمسين فرنك اكتشفتها لدي إلى دولارات، بسعر صرف مجحف، لكن برضى لا مثيل له مع ذلك، ورغم نصيحة رجل الصرافة بانتظار فرصة أفضل عند زيارة أمريكا. يا للسخرية...


بدأنا بالإستعدادات، وكان أولها هو مرافقتي اختي وابنتها إلى المستشفى في الرياض، لأفهم وأنجز بقدر ما استطيع حيثيات الأمر ومتطلباته. جلسنا مع الطبيب، وهو طبيب سعودي معروف في أواسط العمر، ومثل كل أقرانه، خصوصاً من وصلوا مكانته السهلة، من حيث انعدام المنافسة الحقيقية، أحاط نفسه بجلبة وهيلمان مثير للشفقة، لا أدري كم عدد المساعدات الأوروبيات والآسيويات اللواتي يتبعنه في كل مكان، بالإضافة إلى عضو من فريقه من الأطباء في تلك اللحظة. ذكرني هذا بأول وظيفة شغلتها، وكانت بناء على عقد، لدى طبيب من هذه الشاكلة، سوا أنه ولقول الحق؛ بدا أن طبيب ابنة أختي هذا أكثر اتزاناً وسلامة عقلية من مديري الطبيب آنذاك، الذي رغم عدم استمراري عنده بعد سأمي من مسرحياته، ظلت قصص مظاليمه تطاردني حتى وقت قريب، بمجيء البؤساء ممن عملوا لديه إلى الجامعة للهرب منه، أو للتظلم ضده.

أشعر بأني أُخذت بالذهول تجاه هذه المفاجئة، وأشعر بأن قلبي ينبض بحزن حينما أفكر بالأمر. الواقع هو؛ أني ذهبت إلى سويسرا العام الفائت وأنا أحمل أمل شخصي، أمل باستمرار صداقة مهمة، والآن أنا أعود إليها بدون ذاك الأمل، لكن هذه قصة أخرى.
أعتقد بأنه كان علي أن أوفر تكاليف رحلة المكسيك، فقط لو كنت أعلم...
ماذا بوسع المرء أن يفعل؟ هكذا هي الحياة.

التقيت شخص عربي أحترمه كثيراً، وقد كان صديق مشترك، في صداقة جميلة، لكنها لم يعد لها وجود. كان لقاؤنا قبل سفري إلى المكسيك، وكنت أحسب بأنه سافر إلى الغرب، حيث إقامته الدائمة، دون نية للعودة. فوجئت حينما رأيته في المقهى المجاور لقسمي، أعتقد بأني لم أره منذ أكثر من سنة ونصف. سلمنا بحرارة، وبدا فرحاً بي كذلك. هو مصري الأصل، ويبدو أنه نوبي. لقد عاد في مهمة محددة، ولن يطيل البقاء. تكلمنا وتبادلنا أرقام الهاتف حتى نلتقي لاحقاً. سألني بحذر عن ذلك الصديق الذي كنا نشترك بصداقته؛ لابد أنه لديه فكرة حول ما آلت إليه الأمور؛ صداقة ماتت مكتومة الأنفاس، قتلها تغير الظرف والنفس. أجبت سؤاله باقتضاب.
كانت نيتي بصدق هي لقاؤه، لكن لانشغالي بترتيبات السفر إلى المكسيك لم أفعل. وبالواقع، توقعت أنه طالما أني لم أتصل، فسينسى أمري، ولن يبادر هو بشيء.
لكني  التقيته مصادفة مرة أخرى، بعد عودتي. سلمنا بحرارة كذلك، وكان هذه المرة أحكم من أن يسأل عن ذاك الصديق، فلم يعد للأمر جدوى. كان يدري بالطبع أن ذاك الصديق قد أرسل إلي رسالة مقتضبة، لم أجب عليها، إذ سيعود هو الآخر لفترة محدودة. سألني المصري الطيب باستنكار عن سبب إغلاق هاتفي خلال الإجازة، حيث اتصل بضع مرات لتنسيق لقاء. لم أعلم بالأمر، وقد فوجئت بأنه قام بهذا صدقاً؛ إني لا أتوقع، ولم أتعود على المبادرات من الناس. أخبرته بأني كنت في سفر، فابتسم وسأل بفضول كيف كانت الرحلة، أجبت بأنه لا بأس بها، وكنت أعرف بأنه يود لو تكلمت أكثر، وقلت أين انتهى بي المطاف، ولو لم يكن لأجله، فلأجل الصديق المشترك في السابق، لكن المصري الطيب لم يسأل، فهو رجل ذكي ومميز وحساس. قلت بأني أود لو التقيته لاحقاً، وأنا صدقاً أود ذلك، رغم أني الآن، وقد عاد الآخر، لا أشعر بالراحة تماماً تجاه الأمر، لا أريد أن أعطي فرصة لأي دراما لتحدث، ولا أريد أن يساء فهمي بأي شكل، لقد انتهى الأمر، وأنا حذر من إرسال أي إشارات.
لكن شاب سعودي لطيف يرافقه، وكان يعرف بأمر الصداقة الوثيقة، تساءل إذا ما كان فلان قد اتصل بي؟ فقد عاد إلى الرياض. قلت بهدوء وأنا أنوي الذهاب بأنه لم يتصل، لكن المصري الطيب ردد نفس قولي بنفس الوقت، وكأنما لينهي الموضوع دون إحراج، لإعفائي من الرد.
في ذلك اليوم، استلمت رسالة، من ذلك الصديق المشترك في وقت مضى، تحتج على نوعية المعاملة الصامتة التي اتخذتها. اعتقد بأن أي لقاء أو تفاعل مع معارف مشتركين هو ما يحركه فقط. تكلم عن تقديره لصداقتنا الفريدة، وعدم قبوله لهذه المعاملة، وأنه يريد رؤيتي. لو أنه لم يتغير، لو لم يقسو ويتكبر ويهمل. إنه اختلاف حضاري، ولا بد للغريب أن يعود إلى طبعه، حينما يعود إلى أهله على ما يبدو. أشعر أن سويسرا بأهلها قد حلت ألغازاً، وحسمت حيرات؛ كانت حلولها مؤلمة كالنصول الغائرة بالقلب، لكنها لم تكن سوا الحقائق حول الطبائع الجماعية للبشر.

في الليلة السابقة لعودتي من المكسيك، وصلتني رسالة من دكتور أمريكي كان قد ترك الجامعة منذ فترة، وقد داوم على الإرسال من وقت إلى آخر للسلام والسؤال وإطلاعي على مستجداته. كنت قد تحدثت عنه في المدونة، وعن حظه العاثر في الجامعة لدينا، حيث كان يعاني دائما من مشاكل في نزول راتبه على نحو صحيح، لتعقيدات في عقده غير التقليدي. كان زميل لي في قسم آخر من عمادتنا، قد أبلغني برجوع شيكين مصدرة إلى حساب الأمريكي بالبنك بعد مغادرته، كانت على ما يبدو آخر مستحقاته، ولكنه لم يحصل عليها. أرسلت إلى الرجل، وقد عاد إلى أمريكا واستقر، لأخبره بأمر مستحقاته التي لم يدري عنها. لست أدري كيف فاتته رغم قدراته المذهلة في حساب حقوقه بالعادة. كنت أشعر بالأسف لأجله، دائماً، فقد كانت معاناة كبيرة مراجعاته المستمرة لأقسام الرواتب والحاسب والمالية، وما أدراك ما المالية، حيث ينقص من عمر المرء سنة على كل دقيقة يقضيها في ذلك القسم الرهيب.
حاولت مساعدته أكثر، لكني مجرد مترجم بلا حيلة. انتهى الأمر بتولي كليته سابقاً أمر الشيكات، حيث استلمها مندوب من عندهم. أخبرته بنهاية الأمر من جهتنا، وحثيته على التواصل مع معارفه في الكلية لتخليص أموره، حيث أني لا أستطيع القيام بشيء هناك حتى لو كان متابعة.
في رسالته، كان يخبرني بأنه سيأتي في زيارة إلى جدة، لحضور مؤتمر في تخصصه، وسيحاول زيارة الرياض لرؤية الأصدقاء، وربما تحصيل آخر حقوقه، وهو يريد أن يراني في هذه الحالة.
رحبت به، وعبرت عن رغبتي برؤيته.
جاء قبل أيام، وزار الرياض. التقيته قرب قسمي، وكان سعيد بالزيارة، ووجد أن جدة أعجبته أكثر من الرياض، لأن أهلها أقل جدية. هذا أمر متوقع، خصوصاً بالنسبة لأجنبي، أما أنا فلا أحب التواجد في جدة شخصياً؛ فأنا أقدر المدينة المنورة أكثر، كمدينة وطبيعة أهالي، بغض النظر عن الجانب الديني. لكن للإنصاف؛ أعشق شيء واحد في جدة، منطقة تاريخية تسمى البلد، لقد زرتها مرة أو مرتين فقط، في سنوات مراهقتي الأولى، ولا زلت لا أنسى تلك الزيارة، وتأثيرها القوي على قلبي. لا يعني هذا أني أنزه الرياض وطبيعة أهلها كذلك؛ فقد وجدت أني أكثر راحة في القصيم بكثير، رغم أن الرياض وأهله صدقاً لا يخلون من حسنات كذلك، إنها مدينة تزداد تنظيماً، وأهلها متنوعون وبعض انتماءاتهم مثرية ولا غنى عنها. مع ذلك، أعتقد أن مشكلة الرياض أنها خليط لم يتجانس، وهو يزداد سقماً بازدياد الناس شديدي الاختلاف، فلا يبدو أنه سيتجانس، إذ ضاعت هوية المدينة منذ زمن بعيد، لذلك، لا يمكن ولا يجب في رأيي مؤاخذة أهل المنطقة الوسطى بما يجده المرء في الرياض المختلط من كل مكان عموماً.

تكلمنا عن مختلف الأمور. لكن أهم الأمور هو أن كليّته السابقة ليس لديها أدنى فكرة عن مستحقاته، وكنت قد أخبرته مسبقاً بأن لا يعول كثيراً على عرض عميدها مساعدته، والبحث في أمره، وقد صدقني بعدما جرب. الأمر الجيد هو أنهم أرسلوا معه موظف متعاون من الكلية إلي. أخذتهم إلى القسم الذي أخبرني به ذلك الزميل بأمر المستحقات؛ وكنت على تمام الثقة بأن الأمر أحيل إلى الكلية، لكن الكلية ليست لديها أدنى فكرة بما يدور. ولا أدري كيف يرتاح ضميرٌ وهو يعلم بأناس لم تنل مستحقاتها ومغادرتها دون أن تدري. بالطبع، تعاونوا معي جيداً في ذلك القسم، قسم الحاسب، وسرعان ما وجد موظف كفؤ صور للمستحقات، وقد تم التوقيع عليها بالاستلام من قبل موظف في تلك الكلية. فرح الأمريكي، وقال بذهول بأن ما كنت أقوله أنا من البداية هو الصحيح، إنها في الكلية. الموظف سرعان ما أجرى اتصالاته بالكلية. وطلب مدير قسم الحاسب بحكمة تزويدهم بصور من المستحقات لأخذها إلى الكلية قبل أن يغادروا.
عاد لاحقاً لوحده، لم يتوصلوا إلى نتيجة إذ لا يدري أحد أين وضعت الشيكات، وكان مستلمها غائباً.  قال بأنه سيأتي غداً، ليرى ما يمكنه فعله، وهو يومه الأخير في الرياض. لست ألومه، فهذه حقوقه، لكني أشعر بالأسف على تعب المرء هكذا في حق واضح له. تكلمنا لبعض الوقت، واتفقنا على اللقاء غداً لأودعه، وربما لنتناول القهوة معاً.
لم يأتي، وقد ظننت بأنه ربما انشغل، وربما حمل هم الجلوس للقهوة معي. شعرت بالأسف بعدما لم يفضي الانتظار إلى شيء. كان يوم الخميس، وقد عدت إلى المنزل، وبعد صلاة العصر أرسلتني والدتي إلى السوق لشراء بعض الأشياء. كان الوقت قد شارف على الرابعة، حينما اتصل الرجل من رقمه الأمريكي، وسألني إذا ما كنت موجوداً في الجامعة. أخبرته  بأني غادرت منذ فترة. أخبرني بأنه ينتظر في مكتب زميل وصول أحد لفتح خزانة الكلية والبحث فيها، وأنه ترك كل معلومات الاتصال والبنك لديهم لإجراء حوالة فيما لو لم يستطع الحصول على شيء اليوم، وهو سيغادر اليوم إلى جدة. شكرني على جهودي، أخبرته بأني كنت أقوم بعملي فقط. قال بأني انسان جيد، أمثل القيمة الحقيقية للإسلام، فشكرته. هذا مديح لا أتصور بأني أستحقه.
دعاني لزيارته وزوجته في أمريكا، حيث لديهم متسع في المنزل. وكان في رسائله دائماً يقترح علي المجيء لتجربة كرم الضيافة الجنوبي للأمريكان. من يعلم؟.





الجو جميل في بعض الأيام في هذه الفترة، ينزل المطر، وإن لم يكن كثيراً، لكنه يلطف الجو ويرقق القلب، ويهدئ من روع النفس، أو هكذا أشعر على الأقل. لعل الجو الطيب هو أكثر ما افتقده من بعض مناطق المكسيك في زيارتي الأخيرة. كان الجو هناك محل جدل بيني وبين مايكه، الفتاة الألمانية التي أرسلتها الوكالة لمساعدتي خلال الجزء من الرحلة الذي كان يجب أن أكون فيه لوحدي، خوفاً  علي من الضياع أو التعرض لمشكلة، لكوني لا أتحدث الأسبانية ويوجد الكثير لفعله في أيام متتابعة. هي تتحدث الاسبانية بطلاقة وجاءت إلى المكسيك للعمل  وتجربة العيش هناك، وهي عاشقة كبيرة للغة الاسبانية. بالطبع، هي تحب الشمس الساطعة أكثر من أي شيء آخر.
كنت أستمع إلى الإذاعة هذه الأيام، وقد اتصل شاب ظريف، سألوه عن أجمل وجهة يحبها، فأخبرهم عن جزيرة في الفلبين، فسألوه عما يحب فيها، فقال لا يوجد شمس هناك!. ضحكوا جميعاً، لكنه قال اسأل أي سعودي إن كان يحب الشمس!. شعرت بانتماء شديد في تلك اللحظة. الشمس جميلة، لكن ليس كما هي لدينا، وبالواقع، لا أتطلع إلى رؤية جمالها حتى في الأماكن التي قد تظهر فيها أجمل مما هي عليه لدينا.
كنت أفرح بشدة حينما أرى المطر في المكسيك، وهو ليس بقليل، لكنه دائماً لطيف غير غامر. قال والد الألمانية بأن عليها أن تحضرني إلى ألمانيا إن كان المطر هو ما أحب، إذ أخبرتني بأنها تحدث أهلها وأصدقاؤها عني، وصاروا يتابعون ما يجري معي هناك ويسألون عني، أعتقد بأني أثرت اهتمامهم لكوني عربي هناك، وقد بدأوا بإرسال صور المطر في ألمانيا إليها لتريني إياها!.

من الأشياء التي لاحظتها في المكسيك، هو كثرة الأحجار الكريمة وتنوعها، وأسعارها الرخيصة نسبياً. كما أن الفضة وافرة جداً، خصوصاً في الوسط عند العاصمة وإلى جنوبها قليلاً، وذات جودة عالية وسبك طيب. كانت الفضة وافرة جداً وممتازة كذلك في البيرو، لكن الأحجار الكريمة كانت أقل تنوعاً، وأقل إبهاراً مما في المكسيك حسبما رأيت، لكن لعلي حرصت في بحثي أكثر في المكسيك، بعدما تعرضت للوم المتكرر حينما عدت من البيرو ببضعة قطع سحرت أهلي وكانت رخيصة رغم جودتها، ومع ذلك لم أُكثر منها، إذ ركزت أكثر على منسوجات الالباكا.
لاحظت أن الناس هناك يهتمون بالفضة أكثر من الذهب، وقد أخبروني بأن المكسيك هي أكبر منتج لها بالعالم. بالطبع، للسعر المعقول، وحسن التصاميم دور في شعبيتها، لكن تظل الفضة معدن جميل في رأيي، لم ينل حظه المناسب لدى النساء هنا، ربما لسوء جودة المتوفر في أسواقنا وسعره المبالغ فيه. رغم أن أمي تحبه منذ زمن بعيد، وقد سعدَت بما أحضرت من البيرو، وارتدته، وهي نادراً ما تحب ذوقي في الأشياء.
أسعدني أن أختي ارتدت عقد مرصع بالتركواز إلى المدرسة حيث تعمل، وقد أعجب الجميع. لكن لم يسعدني أن الجميع توقع بأني غير متزوج، لأني أحضرت هدية. لماذا سوء الظن هذا بالإخوة المتزوجين؟... لعل له أساس، لكن أن يكون أول ما يخطر على الذهن هو أمر مؤسف.

في كل منطقة، يجد المرء شكل من الحلي والأحجار أكثر شيوعاً من غيره، يعتمد الأمر على المناجم الموجودة في المنطقة. في منطقة معينة، وجدت الكهرمان يباع بوفرة وأسعار متهاودة إلى درجة أذهلتني، لكني لم أشتري منه لأني أعتقد أن الرجال يفضلونه في سباحهم وخواتمهم أكثر مما يفضلنه النساء في الوطن، وأنا لم أشتري شيء لرجال، حتى نفسي، لم أشتري سوى سكين أسود بديع من الزجاج البركاني المسمى اوبسيديان، يلمع على نحو ساحر بلون  عميق يشبه زيت الزيتون، وقد كسره أحد الصبية الغالين بالمنزل بالخطأ، مما أسعد والدتي حتى دعت للصبي، فقد كانت السكينة تخيفها على نحو غير مفهوم، ربما لأنها كانت تلمع بشكل غريب.
قلت لبائع لطيف هناك بأن الكهرمان يعتبر غالياً في بلدي، ويقال بأن الأجود هو الآتي من روسيا، ضحك وقال بأنهم بالعادة يقولون بأن المكسيكي هو الأفضل ربما لأنهم ينتجونه.

بعد عودة أحد أشقائي من دراسته في أمريكا، ووجود شقيق آخر يتعلم في استراليا، ودراسة شقيقين آخرين من قبل في الخارج، سألني قريب عزيز في زيارة إلينا، وكانت المناسبة الثانية التي يسأل بها، لماذا لا أخرج أنا أيضاً للدراسة؟ فنحن عائلة تقدر التعليم على ما بدا له. لم أكن أدري صدقاً كيف أشرح الأمر، فهذا التساؤل يواجهني أحياناً في العمل كذلك.
لكن مؤخراً، منذ فترة طويلة، لم يعد هذا يؤثر بي، إذ أن الفرصة أصبحت ضعيفة مع التقدم في العمر وتحديد التخصصات المطلوبة، كما أني لم أعد أطمح كثيراً، بعدما تبين أن ذهني قد تبلد وركد، إن كل ما أرجوه هو أن لا أخسر البقية الباقية من القدرة على التفكر والكتابة. فضلاً عن كل هذا، لم أكمل دراستي في الخارج حينما كانت الظروف أفضل، إذ كنت، ولا زلت، قد اخترت ما أعتقد أنه أفضل لحياتي وحياة غيري، ولم يتغير الأمر، لا زال هو الأفضل. كان ما رغبت من خلاله في معادلة الأمور هو بالإكمال هنا، ولكني كنت قد فشلت بالأمر، كما  أني لم أعد أعتقد أن التخصصات هنا تلائمني، ولعلي حتى لم أعد أملك الجَلَد المطلوب للأمر، ناهيك عن الفطنة والنباهة التي تلاشت الآن، إن كانت قد وجدت أصلاً. لذا، الأمر مريح لضميري، وإن تخيلت الحال أحياناً لو كنت قد تعلمت شيء أحبه.

أفكر في سويسرا، كل يوم على نحو أكثر مما سبقه، وكل يوم بقلق أكبر. أرجو أن تمضي الأمور هناك بسلاسة أكبر.
لا زال لا يخطر على بالي بأني زرت أوروبا، ربما لأني لم أخطط جدياً لفعل هذا من قبل. وربما لأني تصورت بأن أوروبا أفضل، أو ليست بهذا السوء.

نُصبت جدران مغطاة بأقمشة مطبوعة، في معرض عن آثار المملكة وبعدها الحضاري. لم يسعني اعتبار تلك الصالة المصطنعة في بهو الجامعة معرضاً حقيقياً، ولا أدري لماذا لا يتم أخذ أهل البلد أنفسهم بنفس الجدية التي تجوب بها آثارنا دول العالم لتعريف أهاليها بنا. للأسف، ينظر إلينا المسؤولين عن هذه الآثار بازدراء، ويتوقعون ارتفاع الوعي بأهميتها مع ذلك. كانت مجرد صور بلا نصوص تقريباً، وكأن الجميع أميين.
كنت مع زميل لي في قصر المصمك في الرياض، وما كدنا ندخل حتى رأينا رجل مفلطح الجسم مصطنع الأناقة في أربعيناته، من النوع الذي تكاد تقرأ ضيق أفقه من مجرد حضوره الكريه، وهو يشرح لأجانب أوروبيين بعض الصور، وما كادت عينه تقع علينا حتى نظر تجاهنا بازدراء، وصمت عن إكمال عرضه، رغم أننا لتونا دخلنا الغرفة، وبدا لي وكأنما دخلنا عليه في غرفة نومه، رغم أن الله ألطف بعباده من مصيبة كهذه.
لم يكن لدي شك أن نظرته المزدرية تلك لم تكن إلا استخسار وجود أمثالنا في مكان يجب أن يهمنا قبل أن يهم غيرنا من أجانبه، وهو يعتقد أنه أفضل فقط لأنه يتعاطى مع أجانب في تلك اللحظة.
هذا يلخص ما يدور حوله الأمر كله؛ أهميتنا كأهل لهذا البلد هي تسليم آي آثار قد نملك، وإن لم نملك شيئاً فلنقف بثيابنا وغترنا بعيداً بالخلفية كفرجة للوفود الاجنبية، ونهاب الاقتراب منهم وممن يرون أنهم في مستواهم، كذلك الرجل في المعرض.

قبل فترة، وردني اتصال من دكتور تركي طيب أعرفه جيداً، حيث خرجنا لتناول الوجبات عدة مرات معاً.  كان يريد أن يخبرني بأنه سيسافر إلى تركيا نهائياً، لأن الحكومة الجديدة استدعته لشغل منصب ملائم. أراد أن يودعني. نختلف في الكثير من الأمور على ما أعتقد، إنه مطوع ومتحمس كثيراً، رغم أنه يبرز الجانب المتسامح في نفسه كثيراً، وهذا أمر أقدره. لكني كنت أشعر مع ذلك أن هناك ما يحد من أفقه، إنه لديه القدرة على أن يكون أكثر اثارة للاهتمام، لكن هناك علة توقفه عند حد معين، وأعتقد أني أعرف ما العلة، فالكثير ممن رأيت ممن يشابهونه بالتدين والحماس يشتركون معه بنفس العلل، رغم فارق الطباع والإمكانات، أعتقد أنها إجمالاً، أي العلل، مقاييس إنتقائية ضيقة ومحدودة، يحاصرها خوف من الأخطاء وشيء من النقص بالثقة بالنفس، وهي حلقة مفرغة، فكل من هذه الأمور يعزز الآخر ويؤدي إليه. هذه أمور أعتقد أنه يمكنه تجاوزها، لا أتصور أنها من صميم طبيعته، لكنها ما أدت إليه تجاربه ومراقبته للحياة على نحو غير عادل ومحاصر بالوساوس. إني أرجو له كل خير، فقد كان طيباً وصادقاً، رغم كراهيتي لحكومتهم، وتوجسي منهم كأمّة عنصرية بشكل عام.






قرأت مقال كتبه الحربش في جريدة الجزيرة، يتقبل الإهانات ويتوقع من الناس تقبلها، لأنها أتت من شخص قادم من بيئة يبدو أن لها قداسة خاصة لديه؛ أوروبا، وكأنما الآتي منها لا ينطق عن الهوى، فصاحبه هذا من ألمانيا يقول بأننا لا نفكر على ما يرام لأننا نلبس الثياب، ونأكل الأرز واللحم. وهو يعتقد أنه محق بشكل ما.
ياللسفاهة، هذا من آخر المومياوات الحية التي تلقت الصدمة الأولى في الثقافة الغربية دون أن تكون مستعدة، و أهل هذه الفئة يعتقدون الآن أن علينا أن نتشرب شخصياتهم المهزوزة وأفكارهم العقيمة. لحسن الحظ، يوجد أناس لديهم وعي أكبر بالهوية، وتقدير أكبر للذات، وإن يكونوا من أجيال مختلفة على الأغلب، أو من نفس جيل الحربش، لكن أكثر تعقلاً واحتراماً للنفس والآخرين.





تسأل ابنة أختي، وهي بالصف الأول الابتدائي، ماذا أعمل؟، في كل مرة يزوروننا في الفترة الأخيرة، ويتوجب في كل مرة أن أشرح لها ماذا يفعل المترجم. في المرة الأخيرة قالت بأنها ظنتني مصوراً. لكان هذا أوجه على ما أعتقد. يبدو ان مهنتي تثير اهتمام الأطفال في العائلة عموماً، فليست هي الوحيدة التي تسأل. مؤخراً، لم أعد أشعر بأني مترجم، ربما لقلة المطلوب مني في العمل، ولحظية المهام القليلة التي تنتهي في وقتها.

كان مديري يشتكي قبل فترة من اختيار ابنه  لتخصص الترجمة، رغم أن درجاته تسمح بأفضل. لم يكن يقصد الإساءة أو الجرح، إني أتفهم شعوره، إنها مهنة هامشية إلى أقصى أحد على ما يبدو، خصوصاً في هذا الجزء من العالم. ابن اختي كان قد قُبل في جامعة جيدة، وتخصص علمي جيد، لكنه لم يطق الدراسة هناك، أتصور وجود أسباب كثيرة للأمر، وقد اختار أن يترك تلك الجامعة، ويأتي إلى جامعتنا ويدرس الترجمة. يبدو أنها الخيار الآمن للعائلة بأسرها؛ أخي، وأنا، وأربعة من أبناء الإخوة، من تخرج ومن لا زال يدرس. كان التخصص هو خياري منذ الصف الثاني الثانوي على الأقل، لست أدري عن أي من أبناء أشقائي. حينما نجحت من الصف الأول، قالت لي أختي الكبرى وأمي بأن ميولي أدبية، واقترحن أن أدخل القسم الأدبي للسنة المقبلة، كانت أختي تقول بأني أكتب نصوص أدبية، وأحب الرسم والفن، وكان الواقع أني لا أجيد الكثير من المواد العلمية إلا بشق الأنفس، فلم أكن أحرز درجات جيدة سوا في الأحياء، وهي المادة الوحيدة التي كنت أحبها وتحظى باهتمامي الصادق. كنت أحصل على درجات ممتازة عموماً بالرياضيات، وذلك لوجود مدرس خصوصي ممتاز يزورني بالمنزل، ويجعل الأمر غاية بالبساطة، كان مبدع ما شاء الله بالتعليم. أما الفيزياء، والكيمياء، فشكلن عقد وألغاز عصية على الفهم بالنسبة لي، ومصدر كبير للسأم والإحباط، إلى درجة أني كنت واثق برسوبي بالمادتين. كنت أفكر بتخصص الحاسب الآلي قبل ذلك، والحمد لله أن ثناني عنه، إذ أرى أثره بأهله (أمزح). عموماً، كنت مطمئن البال من ناحية التخصص حينما اخترت الأدبي، إذ انصب تركيزي على الترجمة، وكنت دائماً أؤدي على نحو ممتاز في مادة اللغة الانقليزية، منذ البداية.
الآن، لا أدري ما هو شعوري بالضبط تجاه خياري هذا؛ إلى وقت قريب كان شعوري هو التقدير للفرص الحياتية التي فتحها لي، من اطلاع وصداقات انتهت أو خفتت في حالات، كان هذا شعوري حتى بدأت أتساءل، ما الجدوى؟.

عالمي الخالي...
حيث أسير وحيداً...
حبيساً في ذاتي...
يُنادى اسمي…
فأخرج من بُعدي...
اؤدي واجباتي...
ثم أعود وحيداً...
إلى عالمي الخالي...




أمر مثير للإزدراء، من جوانب عديدة، أشغل الناس لبعض الوقت. لست ألومهم، رغم أنه لم يكن يجب أن يكون مهماً، إلا أن هذا ما شاءته الظروف. خرج مطوع على التلفزيون وبرفقته زوجته، دون أن تغطي وجهها، وقيل بأنها كانت متبرجة، حيث لم أحاول أن أطالع الأمر بنفسي. ما يثير تعجبي هو هذه المحاولة التي تدفع في اتجاه تخطئة غطاء الوجه كواجب شرعي، والزعم في نفس الوقت بأنه أمر مختلف فيه، رغم أني أعتقد أن الآية واضحة في شأن تغطية الوجه، كما أنه لم يكن للرؤية الشرعية أن تكون ذات أهمية لو لم يكن الأصل تغطية الوجه، ومن ناحية أخرى، حينما أطلع على الأدب القديم والتوثيقات التصويرية والنثرية في أماكن كثيرة حول العالم، أجد بأن الكثير من النساء كن يغطين وجوههن في مختلف البلدان، حينما كان الناس أكثر تديناً ولم يمروا في حالات الغلب على الأمر كالإستعمار.
بيد أن كشف الوجه أمر لا يستفزني صدقاً، خصوصاً مع كثرة التشويش على الناس واختلاف رؤيتهم للحياة، لكن ما يستفزني هو الإساءة إلى الآخرين. كان ولا زال يستفزني بشدة القذف الجاهز لأي متبرجة، لكن يبدو أن الأمر بات معاكساً الآن، فباتت كل محتشمة، تغطي وجهها على وجه الخصوص، عرضة للنقد والتجريح، بدلاً عن التعاطف والدعم. لا يبدو أن هناك من يتعاطف مع الآخرين لمجرد الاشتراك بأمور، التطابق صار شرط للتعاطف، وهذه مشكلة.
ماذا تركنا للكفار؟.





قرأت مؤخراً عن كاتب موريتاني يخضع لمحاكمة هناك بدعوى الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. تخيلت في البداية أنه أمر شبيه بالإفتراءات وسوء الأدب الذي حدث لدينا قبل فترة. لكن بمزيد من الإطلاع، بدا الأمر أعمق بكثير، وأكثر مدعاة للأسف. يوجد انقسام كبير في موريتانيا بين الزنوج والعرب، حيث وفد العرب إلى تلك البلاد مع الفتوحات الإسلامية واستقروا بها، إلى جانب مالي ومناطق أخرى. يرى بعض الزنوج الآن بأن حقوقهم في بلد يعتبرون أنفسهم أهلها الأصليين، عن حق فيما أتصور، مهضومة إلى حد ما. لا شك لدي أن خلف الإنقسام، أو ازدياد حدته، جهات أجنبية، لكني لا أبرئ الواقع المعاش كذلك، إذ أفترض بأنه يوجد بالفعل إشكال عرقي عميق، ولا أتخيل سوء النوايا بين الطرفين سوا صدى مضخم عن مشاكل اجتماعية نعانيها نحن هنا، رغم وحدة العرق والثقافة لدينا إجمالاً.
وأقول مضخم لأن الظروف مختلفة هناك، الظروف هناك أصعب، والمعطيات أكثر تناقضاً. قرأت بأن الكاتب اعتذر، وبيّن حبه وغيرته على الرسول، وحاول أن يوضح بأن الدفع والشحن المعنوي ضده له أسباب أخرى، بتأويل ما كتب على غير المقصد. لكن بالإطلاع على ما كتب، لا يمكن للمرء سوى أن يرى مرارة لا توصف مع حقد واضح، وهو يحلل أحداث وشخصيات تاريخية؛ لم يتحدث بالإحترام اللائق لا لمن عاشوا وماتوا قبلنا، ولا لمشاعر الناس الآن، لا شك في هذا. لكن ماذا دفعه إلى خوض هذه المغامرة الحمقاء؟ بهذا التهور الذي أتصور بأنه نادم عليه الآن؟، هذا ما لا يبدو أن أحد يريد التساؤل عنه. أتصور بأن دوافعه أعمق بكثير من دوافع المسيئين البلهاء لدينا، التي دفعها الغرور والتحذلق وسوء الأدب المحض على ما أعتقد. رغم أن هذا لا يعطيه الحق ولا المبرر لما قام به من حماقة وسوء أدب، كما أنه أضر بقضيته التي ينافح عنها.
بيد أني أتصور الآن بأننا هنا معرضون لنفس المستوى من الإنقسام الإجتماعي الذي تعيشه موريتانيا، ولأننا لا نملك نفس المبررات، سيكون الانقسام اعتباطياً وأكثر ايلاماً، وهو يسير بدفع ووقود من السفهاء من مختلف الخلفيات الاجتماعية. رأيت نموذج من هؤلاء مؤخراً عن قرب، وكان حقده غير المبرر وسوء نواياه أمر مثير للتعجب، والقرف.






لاحظت قبل فترة وجود رجل جديد في الجامعة، أجنبي يبدو أنه من وسط آسيا، قوي البنيان وفارع الطول ذو ملامح تركية غير مخلطة. لاحظت في البداية بأنه يطيل النظر إلي، ويتابعني بوجه عابس، إلى حد التطاول من خلف حواجز المكتب لمتابعتي من بعيد. لم يكن أمر جديد، فهذا شيء يحدث من وقت إلى آخر، سوا أني ربما لغرابة ملامحه وعبوسه المستمر وجدت نفسي أتهرب من نظراته ما أمكنني. بيد أني فوجئت مرة في فترة الصلاة، بوجوده أمامي، حيث كدت أن أصطدم به. كنت قد توقفت ربما لنصف دقيقة في البهو الواسع، وأنا عائد إلى القسم لأنظر من مسافة إلى كؤوس القهوة الجديدة في المقهى المجاور، ظاهرياً، بينما كان ذهني مشغول بأمر آخر، ولما هممت بالمضي وجدته قد توقف أمامي على نحو لصيق، ورغم أني لم أرى وجهه لأول وهلة إنما صدره، إلا أني أجفلت مرتداً إلى الوراء، مبهوتاً. حينما نظرت إلى وجهه وجدته ينظر إلي بما بدا كالغضب، وكأنما يكاد أن يتوهج ناراً. لا زلت لا أفهم ما الأمر، ولا المشكلة، إلا أني أخشى بأن الجامعة قد جلبت شخص غير متزن للعمل فيها، وكأن هذا ما ينقصها.






أكتب من سويسرا الآن. لقد وصلنا صباح أمس، في رحلة طويلة، وقضيت أول يوم وبدا أنه لن ينتهي.
رأينا الطبيب بعد بضع ساعات من وصولنا، ولم تكن مقابلة مرضية بالنسبة لنا. لكن أسعدني أن اليوم هو الجمعة، حتى نرتاح في اليومين التاليين ونرتب أوضاعنا، كان الإرهاق قد أخذ مني كل مأخذ، وتواجد الكثير لتصحيحه والعمل عليه، بعد تأجيل الموعد لثلاث مرات بسبب الملحقية الصحية في ألمانيا غالباً. كان الأمر مجهد نفسياً قبل تأكيد الموعد. وقد تورطت بالترتيبات المسبقة حينما تأجل الموعد للمرة الأخيرة. لكن، يبدو أن الأمور الآن أفضل من هذه الناحية، والحمد لله.
على عكس العام الفائت، حيث جئنا في نفس الوقت تقريباً، الشتاء هذه المرة أبرد، رغم أني لم أرى فرقاً كبيراً، لأن الجو تحسن في اليومين الفائتين حسبما قيل لي بالمطار. لكني وجدت دلائل لم أرها في المرة الفائتة؛ رأينا بعض الثلج الذي لم يذب على بعض الأرصفة، على نحو طفيف، وعلى بعض السقوف. هذه أول مرة أرى الثلج عن قرب. ذهبت ودسته. تخيلته على نحو مختلف، تخيلته أطرى وأخف، لكنه كان يشبه بقايا سلاش انتهت نكهته، ذلك الثلج شبه السائل من المكائن الخاصة، أحبه بنكهة التوت الأزرق.
في طريقنا إلى أبو ظبي، حيث بقينا بالمطار حوالي ٨ ساعات، جلست بالطائرة من الرياض إلى جانب رجل هندي في خمسيناته على ما يبدو. بالبداية كان ينظر إلي باستنكار. لكنه حاول محادثتي بعد قليل على نحو بسيط، وقد استجبت بالطبع. وقعت بقايا وجبته وكيسها على أرضية الطائرة، ولم يتمكن من الوصول إليها بسبب وزنه وسنه على ما أعتقد، فانحنيت وجمعت بقايا الطعام من أمامه، ووضعتها في الكيس وأعطيته إياه. شكرني. حاول محادثتي أكثر، سألني إن كنت سعودياً، قلت نعم. قال بأني لا أبدو كذلك. سألت إن كنت أبدو له هندياً؟ قال لا، فقلت ربما باكستاني؟ قال "نعم، تحديداً الممثلين الباكستانيين الذين نستقطبهم في بوليوود، بشعرك ولونك، إنك تشبه أحدهم بالذات". ضحكت. تحدثنا حول مختلف الأمور، الحياة في الرياض والهند، أسباب السفر، وهذه الأمور. قرب نهاية الرحلة، وبعد فترة صمت، قال بأني رفعت بقايا أكله وجمعته له، رغم أنه أقل مني. فاجأني وصدمني قوله هذا بشدة، قلت بأنه لا يجب أن يقول هذا، وكررت. بدا خجلاً واعتذر، وقال ربما لم يكن عليه قول هذا، لكنه يشعر بأن الناس يرون الأمر بهذه الطريقة. قلت بأن بعض الناس لديهم ضعف بالوعي، وأني أرجو أن يتحسن هذا مع الوقت.

في الطريق إلى زيوريخ، كن المضيفات أوروبيات إجمالاً، وكانت خطوط الاتحاد، كما كانت الرحلة إلى أبو ظبي. لكني شعرت بأن المضيفات يتجاهلن، أو يتعاملن ببرود، مع والدتي وأختي، وهن يرتدين النقاب. هذه مشكلة يجب على خطوط الطيران في بلداننا مواجهتها وحلها. فكما يصبحون هم أكثر حساسية، نصبح نحن أكثر حساسية وأقوى ملاحظة. لم تكونا أختي ووالدتي راضيتين.

تأخر سفرنا إلى سويسرا عدة مرات، وكانت أيام متعبة من المتابعة والاستماع إلى أعذار واهية. شعرت بأني استنزفت نفسياً قبل الأوان في متابعة الأمر، فيما ينتظرنا التعب في سويسرا بعد الوصول.
على الأقل، لدينا المترجمة العراقية الطيبة في زيوريخ، وهي صديقة لأختي الآن، وبذلت كل ما تستطيع لمساعدتنا كما تفعل دائما، فجزاها الله خير الجزاء.

لم يمكنني حمل الكثير من أغراض، لأن عدد الحقائب قل عن المرة الفائتة لحسن الحظ، ولأن حقيبتي حملت التمر والقهوة لسوء الحظ. عموماً، ماذا أحتاج؟ الحاسب وبضعة كتب، والننتندو المحمول، إن لم يكن لي، فلبنت اختي، وأخوها الصغير الذي سيرافقنا هذه المرة. سعدت كثيراً أنه سيأتي، ليوسع صدري هناك كما يقال، لكن اضطررت لإعادته بعد شهر،  حينما تبين أننا سنمكث أكثر بكثير من المرة الفائتة، بينما لم يعد من المقبول أن يبتعد عن المدرسة طوال الوقت.

كانت رحلة طويلة، على طيران الاتحاد. بقينا في فندق المطار في أبو ظبي لثماني ساعات تقريباً. المطار جيد، لكنه كبير جداً، ولا أعتقد أنه مصمم على نحو بديهي، إذ يسهل الضياع فيه على ما أعتقد. ومن أبو ظبي وصلنا إلى زيوريخ في الصباح الباكر.
بعد شهر، واجهنا مشكلة مع الشقة المحجوزة، أو بالواقع، واجهنا مشاكل، حين أراد مدير مجموعة العمارات إخراجنا إلى شقة أصغر لمدة أسبوع، ثم يعيدنا، حتى يؤجر شقتنا لآخرين ويتكسب، إذ حجزها لهم بالفعل قبل أن يسألنا عن التجديد، وهو ما رفضته، فخرجنا من تلك الشقة ووجدنا أخرى، ورغم أنها ليست سيئة إلا أنها ليست كالأولى من بعض النواحي. من ناحية الغرف أريح، ومن ناحية أخرى المطبخ وأدواته أسوأ، والتدفئة سيئة، رغم أن الحال تحسن مع الإلحاح وأحضروا لنا مدفئتين وبطانيات، لكن يبدو أن الموظفين اتخذوا مني موقف شخصي، إذ كنت ألح بطلب تصحيح أمر التدفئة، فقد كانت ابنة أختي تستيقظ مريضة، وكان هذا يخيفنا لأنه قد يعني تأخير كبير في العلاج، كما حدث العام الفائت.

هنا، تعرفنا على رجل جديد على العمل في الشركة المسئولة عن المرضى من الخليج، حيث تكلفها السفارات بكل الأمور.
لا أتخيل بأن هذا الرجل يعمل معهم للتكسب، إنما للاستمتاع ومساعدة الناس فقط. هو رجل كبير بالسن، سويسري من أصل مصري، متقاعد، وكريم على نحو لا يصدق، من كل النواحي، إلى حد أخجلنا أيما خجل.
ورغم أني أعتقد بأنه لا يرتاح إلي، وهذا امر اعتدت عليه مع معظم من يقابلونني للمرة الأولى، وإن بدأ هو بتقبلي، إلا أنه متعاطف مع ابنة أختي بشدة، وهذا ما أقدره كثيراً.
كان يأخذني ورجل قطري، يرافق ابنه للعلاج، لنجد شقة أخرى، حيث قام التركي مدير الشقق مع القطري بنفس ما قام به معنا، فقررنا جميعاً ترك عماراته والبحث عن غيره. وجدت أني غير قادر على التواصل والتداخل مع الاثنين، لم يكن هناك نقاط التقاء، وحينما أحاول، كنت أخلق جواً من الغرابة على ما يبدو، بينما كان تواصلي مع التركي، وارتياحه لي على ما يبدو، أفضل بكثير. أعتقد أني اجتماعياً أفضل حظاً مع الأجانب. كانوا لا يخفون استغرابهم مني أحياناً. قالوا مازحين بأنهم سيعينون أنفسهم عمداً في أحياء زيوريخ، وسيجدون لي حارة صغيرة "على قدي"، إذ كنت أصغرهم، ثم أضاف القطري: حارة هاديه مثله. وأنفجرا ضاحكين. لا أدري من يريد أن يكون عمدة على حي مزعج أو خطير مثلاً. لم أكن أتكلم كثيراً، فلم يكن لدي ما أقوله، في سياق ما يقولون.

لا زال السويسريون كما هم؛ متكبرين عموماً، غير واعين أو مقدرين لاختلافات الناس، إلا من رحم ربي.
استوقفنا رجل عند السوق أنا وأختي، وانتقد بلغته غطاؤها لوجهها، بجلافة رافعاً صوته. حاولت أن أرد عليه وأرى ما مشكلته، لكنه لا يفهم الانقليزية، ولا أفهم لغته، ولما بدا أنه لا فائدة، مضينا وتركناه.

لا يمكنني استخدام النقل العام مع والدتي لزيارة اختي وابنتها حينما يكن بالمستشفى، لأنه متعب لوالدتي، لذا نذهب مع سيارات الأجرة. كما العام؛ نذهب غالباً مع شركة اوبر، نفس الشركة الموجودة في الرياض وباقي العالم. لكن هنا يوجد ميزة جديدة لم تكن موجودة العام الفائت؛ الآن يسمحون لأي أحد، وفق شروط محددة، بإيصال الناس بسيارته الخاصة، وبتكلفة أرخص بكثير من الفئات التقليدية من اوبر أو سيارات الأجرة العادية. إنهم سائقون مسجلون لدى الشركة، ومعلوماتهم كاملة بصورهم حينما يطلبهم المرء، ويخضعون للتقييم من قبل الزبائن، كما يقدمون تقارير من الشرطة بخلو سجلهم قبل العمل مع اوبر. كثير منهم يعمل في أوقات فراغه لمقابلة الناس والاستمتاع بوقته، خصوصاً أن المسألة سهلة وغير محددة التوقيت، ولا مانع من كسب بعض المال.
لاحظت في البداية أن بعضهم يستغرب غطاء وجه أمي، ويتصرف على نحو غير مريح، وربما ينظر بطريقة غريبة أو يكشر. كانت والدتي ترفض تقييمي لهم بالبرنامج بناء على هذا الأسلوب غير الودود، قائلة بأنهم ربما لم يعتادوا. ليس كل السائقين سويسريون، لكن هذه التصرفات غالباً ما تبدر عن سويسريين. حينما جاء رجل لطيف منهم، وكان يريد أن يتكلم ويتواصل، مع شدة تهذيب ولطف غير معتادين، ذكرت في تقييمه، الذي أعطيته إياه كاملاً، بأنه لطيف وطيب، ولم تستفزه ملابس والدتي الإسلامية. يبدو أن هذا التعليق لامس وتر حساس لدى مسئولي الشركة. ردت عليه مديرة التواصل مع العملاء، تشكرني على كلماتي اللطيفة، وتقييمي الطيب، وتخبرني بأنهم شركة تحترم كل الثقافات، ومن هذا القبيل. رددت عليها بتجربتي الصادقة، شارحاً توجهنا كل يوم بنفس الوقت ذهاباً وعودة إلى المستشفى، وأن البعض من السائقين يبدو لي أنهم أصبحوا يرفضون قبول طلبنا التوصيل، لعلمي أنهم يعملون بنفس الوقت، ويصلهم الطلب، ولكن يتم رفضه، حتى نلجأ بالنهاية إلى فئة أخرى من أوبر، بسائقين مختلفين. وحكيت عن وجهة نظر والدتي وسبب عدم شكواي من الأمر من قبل.
ردت بعد يومين برد طويل ومؤثر، معبرة عن تأثرها وتأكيدها على أن الأمر ستتم مناقشته بالشركة ومع السائقين، ومعبرة عن تقديرها لوالدتي وصبرها، وتمنيها لنهاية سعيدة لزياراتنا إلى المستشفى.
في المرة الثانية التي جاءنا الرجل السويسري الطيب لتوصيلنا، فوجئت به يفتح الباب الذي إلى جواره لي، بعدما فتح لوالدتي الباب الخلفي. فكرت بأنه يريد أن نتكلم على نحو أريح. وصدق ما توقعت. كان لديهم فضول تجاهنا، وحياتنا، والإسلام، ومن هذه الأمور.
كما صادفنا رجل سويسري، مسلم، وأخبرنا بأنه أسلم ليتزوج زوجته، وهي امرأة مسلمة ومحجبة من تايلند، ولكنه سعيد الآن أنه أسلم، وأرانا صورة ابنه منها، وهو صبي جميل ما شاء الله، يشبه والدته على ما أتخيل.
لكن من أبدى بنا فرح استثنائي هو رجل من كوسوفو، وأراد أن يراني مرة أخرى. هو شاب طيب جداً، ولكنه غير سعيد في سويسرا على نحو مفهوم، ويبدو أن الكثيرين يشاركونه الشعور من البوسنه وكوسوفو، لكنهم لا يجدون عمل في ديارهم. كانت امرأة كوسوفية في المستشفى، تعمل بالنظافة، قد قالت لأختي بقدر ما تستطيع من تواصل بأنها مسلمة، وغير سعيدة هنا، وأنها تتمنى لو ارتدت الحجاب، ولكن هي وغيرها اشتكوا بأن الحجاب غير مقبول في العمل هنا، بل إن إحداهن العام الفائت قالت لأختي بأنها مسلمة، لكن يجب أن لا تخبر أختي أحد من العاملين، لأنهم لا يعلمون. إنه لأمر مؤسف يدمي القلب.

كان أول طبيب واجهناه مغرور جداً، ولم يهتم حتى بالبقاء حتى يشرح لنا المترجم ما قال، ولم ينظر حتى في أمر دواء أحضرناه معنا، يجب أن تأخذه ابنة أختي عن طريق مختص في المستشفى. بينما الإطباء إجمالاً رائعون جداً هنا، على عكس الشعب، إلا أن هذا الطبيب مثّل على ما يبدو لي القيم السويسرية بحذافيرها.
لحسن الحظ، كان يجب أن نرى طبيب آخر. حيث تبين أن ابنة أختي تحتاج إلى عمليتين، وليست واحدة. العملية الثانية هي التي أتينا لأجلها، لكن لن يكون لها فائدة قبل الأولى. هكذا، تبين أننا سنطيل البقاء، عكس ما توقعنا. لكننا اتكلنا على الله، رغم الهم الجديد بالبقاء لفترة طويلة في هذا البلد.
الطبيب الآخر هو من أروع الناس الذين يمكن للمرء أن يقابلهم، رجل طيب بمعنى الكلمة، ومهتم إلى أقصى حد بمساعدة ابنتنا بكل طريقة ممكنة. كان يجري اتصالاته بنفسه بأطباء من تخصصات أخرى لمناقشتهم وحجز مواعيد لنا، لرؤية ماذا يمكن فعله لتحسين حالة ابنتنا أكثر. كان شيء يثلج القلب، إلى جانب تعامله المتواضع والإنساني جداً. ولكن، معظم الأطباء هنا هكذا، وهي مفارقة تشبه المفارقة الموجودة في السعودية، إنما على نحو معكوس؛ حيث لدينا الشعب مقبول، والأطباء حمير.

لكن، هل سأبدأ للتخطيط للسفر مرة أخرى حالما نعود من سويسرا؟، لو تخيلت والدتي هذا فلن يكون في الأمر "يمه ارحمين" كما نقول.







تعلمت بعض المهارات الجديدة، خصوصاً حينما تم تنويم ابنة اختي، وبرفقتها والدتها. يمكنكم تخيل أني تعلمت الطبخ إلى حد ما، وغسل المواعين على نحو جيد، وغسل الملابس بالغسالة. العام الفائت كانت صحة والدتي أفضل، وكانت تطبخ، وكنت أساعدها بغسل الصحون. هذه السنة هي متعبة جداً، أي شيء يصيبها بالإرهاق والدوخة.
إني أتحسن كل يوم، رغم ضغوط والدتي التي لا يعجبها بطئي بالأداء.
عموماً تحسنت كثيراً الآن، أقلي بعض البطاطا في يوم، وفي يوم قطع السمك، أعد الحساء أحياناً. كل يوم يتحسن وضعي مع إعداد الأرز والقمح المطبوخ، وأستغني عن والدتي بخطوة، أمس أعددته بنفسي كله، باستثناء أنها حددت كمية الأرز. ما أعرف إعداده حتى الآن هو الريزوتّو، الأرز على الطريقة الإيطالية، مع الفطر وجبن البارميزان. لا يعجب والدتي تحميري للفطر قبل طبخه، فهي تعتقد بأن هذا لا جدوى له، لكنه هكذا ألذ. هي عموماً تعترف بصعوبة بأن عشائي جيد.


هذا من آثار الطبخ، وسام شرف.

ترفض والدتي استخدام غسالة الصحون الكهربائية، ورغم ذلك، حاولت أن أجرب. تركت عاملة التنظيف التي تأتي مرتين بالأسبوع تريني كيف تعمل، حيث أننا لا نملك واحدة بالمنزل، منذ أن حصلت والدتي على واحدة وأنا بعمر ٧ سنوات ولم تقتنع بنظافتها. حاولت إفهام والدتي بأن الصناعة تغيرت الآن، لكني اكتشفت أنها تطفئ الغسالة قبل أن تنتهي من دورتها، لأنها تكرهها وتشعر بأنها مضيعة للوقت وغير نظيفة، وتريدني أن أغسل بيدي رغم شكواها من بطئي. لكن الآن، اقتنعت بحمد الله، بعدما تمكنت من ترك الغسالة لدورة كاملة تحت المراقبة، وجاء القدر والصحون نظيفات.









كنت قد أنهيت آخر علاقاتي عبر البريد منذ فترة، بعدما انتهت بقيتها في ظرف السنة الفائتة. إنه رجل نرويجي طيب، رجل عائلي بوضوح ولديه اهتمامات محددة وواضحة، وكان يحاول أن يكون لطيفاً ومهتماً، سوا أن رسائله بدت منفصلة عن أي سياق، فلا يكاد يجمعنا حديث أو نقاش. وجدت أن طريق التواصل مسدود، بعد عودتي من سويسرا العام الفائت. كانت استجابته لما أكتب لا تتعدى التعبير عن الاستمتاع الشديد وطلب المزيد، ومتابعتي حتى أرسل رسالة أخرى، لكن إجاباته في رسائله، ما يقوله وما يحاول إيصاله، بدا بلا سياق متصل بما أقول، بينما العكس صحيح في رسائلي، أترك مساحة جيدة لمحاورته بما جاء في رسائله، ولكن حتى أسئلتي كانت تجاب باقتضاب، إن أُجيبت. أعتقد أنها رسائل معلبة تلك التي يرسل إلي، لوجود أصدقاء كثر يراسلهم، فتكون التعديلات على الرسالة، إن وجدت، طفيفة، ولم يكن لديه الوقت أو الرغبة لتخصيص رسالة لي. أرسلت إليه أخبره بأني استمتعت برسالته الأخيرة، رغم أني بالواقع كنت مجروح بشكل ما، ثم أوضحت بأنه لا يبدو اننا على تواصل حقيقي، وأن هذا ليس ما أبحث عنه في صداقاتي ومراسلاتي.
كنت قد فقدت اتصالي بآخرين بسياقات مختلفة، لكني لم أشعر بالأسف بقدر ما شعرت به تجاه هذا الرجل، رغم أن انقطاع اتصالي بهم خيب ظني كثيراً، لكن ربما لأن هذا كان الألطف، خصوصاً حينما يتواصل ويسأل عبر الانترنت.
رد معتذراً، وأوضح بأنه ربما لا يتفاعل على النحو المطلوب في الرسائل، لأنه عادة يقضي الوقت مع الأصدقاء الذين يراسل على الفيسبوك، بنقاشات يومية مباشرة، وبدا بأن هذا سبب أسلوب رسائله العام. كان قد حاول أن يقنعني كثيراً من قبل وبإلحاح بالاشتراك في فيسبوك لأجله، وقد حاولت صدقاً رغم كرهي للفيسبوك، لكني فوجئت بانهيال طلبات الصداقة، ممن أعرف ومن لا أعرف أو لا أتذكر، مما أفزعني بشدة، فأغلقت الحساب مباشرة. أعتقد أن لدي فوبيا من الانجراف الاجتماعي هذا، ربما لهذا لا أحب المناسبات الكبيرة التي أعرف الكثيرين فيها، بينما أقدر التي معارفي فيها قلة، إن وجدو.
أوضح كذلك بأنه يتمنى بأن نستمر أصدقاء مراسلة، وأن نتبادل وجهات النظر على نحو أفضل.
لم أجب، كان الأمر قد انتهى بالنسبة لي، وكنت موجوعاً نفسياً إلى أقصى حد، بعد عودتي من سويسرا المشئومة.
مضت فترة، وكنت لا أنظر في صندوق بريدي، إذ لم أعد أتوقع أي رسائل، بعدما كان الأمل مشرقاً في هذا الجانب. لكني ذهبت ذات مرة لأنظر في وصول خطاب مهم لصالح زوجة أخي، تنتظره على صندوقي منذ فترة. فوجدت بطاقة جميلة منه، تعبر عن تقديره الشخصي لي، واهتمامه، وأنه يرجو أن أعطيه فرصة أخرى.
كانت لفتة جميلة، ونادرة صدقاً. من يهتم هذه الأيام؟. سعدت بها أيما سعادة، وشكرته عليها برسالة على موقع المراسلة. لكن الجو العام لحياتي مظلم مع ذلك. ورغم هذا، قررت كتابة رسالة إليه، ومواصلة ما بدأناه، على أمل تحسن التواصل، تقديراً لعدم نسيانه لي.
رغم بدئي للكتابة مباشرة، إلا ان الأمر انتهى بي إلى كتابة ستة مسودات على مدى أشهر، دون أن أرضى وأرسل واحدة. وجدت أني غير قادر على الكتابة سوا في ظل قاتم من السلبية، والمرارة، والإحباط. لم يكن هذا ما يستحقه مني.
أعتقد بأني تأخرت بالرد، رغم وعدي به. رأيته قد راجع ملفي في موقع التعارف للمراسلة ذات مرة، وتصورت بأنه خاب ظنه بالتغييرات الكبيرة عليه. لقد بات ملفي، بناء على التجارب السابقة، على جانب من الجفاف والعدوانية، بات منفراً إلى حد بعيد، ولا زال، رغم أني تلقيت رسائل دعم وتفهم من غرباء لموقفي الجديد من العنصرية والاستنزاف.
قبل رحلتنا الثانية هذه إلى سويسرا بأسابيع، قررت أن أرسل رسالة بسيطة، أعتذر عن الأمر برمته، شعرت بأني عاجز عن الكتابة على النحو الذي كنت أكتب به، عاجز عن تجاوز أي مرارة خلفتها أحداث حياتي الأخيرة ولو خلال كتابتي لرسالة؛ كان حزني ينعكس ويصبغ الورقة، مرارتي تجعل كلماتي أقرب إلى السم.
كتبت إليه مخبراً إياه بسبب تأخري. أخبرته بأني أقدر طيبته معي، واهتمامه بالاستمرار، وبطاقته اللطيفة، لكني لم أعد نفس الشخص تماماً، الشخص الذي كتب إليه من قبل، ولم تعد لدي القدرة على الكتابة على ذلك النحو. أخبرته بأني كتبت الكثير له عبر الأشهر، لكنه لم يستحق السلبية التي كنت أكتب بها. شرحت بأن سويسرا، وصداقاتي التي انتهت على كافة المستويات، وظروفي، قد غيرتني، وغيرت وجهة نظري تجاه الكثير من الأمور.
أخبرته بأني سئمت كوني حالة نموذجية للدراسة، حالما تنتهي دراستي ويُشبع الفضول أرمى جانباً، أن لا يُنظر إلي كفرد.
حالة نموذجية للدراسة، هذه من أكثر المشاعر مرارة في قلبي.
شرحت بأن أكثر صداقاتي المهمة مع أجانب قد بدت ملائمة لبعض الوقت، في ظل الصعوبات التي أواجه في علاقاتي مع أفراد قومي، لكنها انهارت للسبب أعلاه، كما أن هذا ينطبق على صداقات البريد، ولن يمكنني إشباع فضوله أكثر للأسف.
أوضحت بأنه أطيب الأشخاص من الفئة الأخيرة، وأني أتمنى له الأفضل من قلبي، ولكني سأتوقف عن المراسلة بشكل عام.

أرسلت الرسالة، وشعرت بأني قمت بما يجب أخيراً، حيث يستحق هذا الرجل الطيب إيضاح الأمر له، على واقعه وبكل جوانبه، ليفهم لماذا انتهى الأمر ولن يتم. ومن ناحية، كان التأخر بالإرسال إليه يشكل مصدر عذاب لي.

لعله كان آخر شخص انتهى الأمر معه. بدا أنه لم يعد هناك شيء آخر للقيام به، سوا شئوني.
أغلقت حسابي على موقع المراسلة، إذ لم يعد يبدو أن هناك جدوى من الأمر. ليس أن الموقع بذاته سيء، أو كل من فيه سيئين وغير جادين، لكنها كانت تجربة غير موفقة، وقد تمت وانتهت.
مضينا إلى سويسرا، وقد ظننت أن الأمر انتهى بالنسبة لي، تجاه الكثير من الأمور. ولم يعد هناك ما يُنتظر ويُتوقع، لم أنتظر المزيد من خيبات الظن، على الأقل من حيث أحتسب. لكني لم أتوقع تغير في الحظ كذلك. إذ وصلتني رسالة، بعد فترة طويلة من رسالتي الأخيرة إلى النرويج، من نفس الرجل، على البريد الإلكتروني، وهو أمر غير معتاد. قال بأنه انتظر لفترة بعد قراءته رسالتي المؤثرة، إذ أنه فهم بأني لا أريد أن أتواصل أكثر، لذلك، هو يعتذر الآن، لكنه يريد أن يقول بأن جاد تجاه الصداقة، ويقدرني كشخص يريد معرفة المزيد عنه ورؤيته للحياة وطريقته في عيشها. إنه ليس لديه أسباب أخرى سوا الاحترام والاهتمام يقول، وأنه لا ينظر إلي كغريب، إنما كشخص ذكي وثري روحياً. وأنه يأمل أن أتواصل معه يوماً ما.

تأثرت باهتمامه، الذي لم يتوقف رغم كل شيء، واستمر بنفس الإيجابية، والإدراك المتواصل لرؤيتي وتطورها للأمر، والتفاعل معها وتطوراتها.
أشعرني هذا بالامتنان، رغم الظروف الضاغطة، أن يوجد شخص يهتم إلى هذا الحد وبصدق، ولا يرجو شيء منك، رغم كل الاختلافات، ورغم أنك لا تستحق كل هذا بالواقع، إنما يبدو أنه مدفوع بالخير والطبيعة الطيبة لنفسه.
قررت أن أعاود مراسلته، كان لمواقفه الطيبة حينما تراكمت، وليست المواقف السلبية وحدها تتراكم، تأثير أعاد إلي بعض اتزاني العاطفي، والشعور بالعدل والتفرقة بين الناس بالمواقف.
كتبت إليه من هنا، من سويسرا، وأتخيل بأنه سيفاجأ بعودتي إليها، وأرجو أن لا يجدها نذير شؤم لصداقتنا، كما كانت المرة الفائتة.





على النقيض من تجربة أخي في ألمانيا، حيث ذهب العام الفائت لعلاج ابنته، أجد العرب هنا بشكل عام يحنون علينا ويعاملوننا بالحسنى والكرم، أياً كان أصلهم. ولست أتحدث هنا عمن نعرف ونتعاطى معهم باستمرار كالأخت العراقية، التي لا تقصر أبداً تجاهنا، لكن حتى الآخرين بالشارع إجمالاً، أو في سيارات الأجرة.
كنت قد طلبت قبل فترة سيارة، بينما كنا نزور ابنة أختي في المصحة خارج زيوريخ. غالباً ما أطلب الخيار الأرخص، الذي يقود في الناس سياراتهم الخاصة لتوصيلك في مشاويرك، فالمسافة بعيدة جداً، وسيارات الأجرة هي الأغلى في العالم في سويسرا، حسب مقال قرأته مؤخراً. على أني لا أوفق بالحصول على سيارة من هذه الفئة في ذلك المكان البعيد غالباً، ليس كما هو الحال عند القدوم من زيوريخ.
حينما تطلب سيارة، ويوافق سائق على المجيء إليك، فسيمكنك التواصل معه مباشرة، بالرسائل أو المكالمات، والعكس صحيح.
اتصل بي سائق حالما طلبته، وبدت على صوته البهجة، إذ أني أكتب اسمي بالعربية في التطبيق. قال بأنه سيتأخر قليلاً، فهو قادم من زيوريخ، أخبرته بأن يأخذ وقته، فسننتظر، وليحفظه الله. كانت لهجته عراقية. حينما وصل، نزل الرجل من سيارته وحيانا أنا ووالدتي، واخترت ان أجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي إحتراماً. سرعان ما عرض إطفاء البرنامج ليوصلنا مجاناً، وألح في الأمر، لكني رفضت، مع تقديري لعرضه. كان مبتهجاً بوضوح. قال بأنه فرح حالما قرأ اسمي، فهو لأول مرة يوصل عربي، رغم أنه جديد في الخدمة. تكلمنا كثيراً. هو رجل كبير في السن، لديه ابنين في الجامعة أو تجاوزها أحدهم، زوجته طبيبة، وقد هاجر منذ زمن بعيد إلى سويسرا. بدا له الأمر غريباً أننا جئنا للعلاج، فهو يعرف بأن السعوديين بالعادة يذهبون إلى ألمانيا للعلاج، بما أن زوجته طبيبة،و تذهب لحضور دورات ومؤتمرات هناك. شرحت له بأن الأمر يعتمد على توصية الطبيب المبدأية، فإن كان يعرف طبيباً جيداً في سويسرا، فسترسلنا الدولة إلى سويسرا. سأل من أين نحن في السعودية؟ قلت بأننا من القصيم، وسألني أين هي من بلدة لم أسمع بها من قبل. وبدا لي أنه خلط بين القطيف والقصيم، فأخبرته بأننا من القصيم في نجد. فكرت بأنه كان سيرى إذا ما كنا شيعة، فهو على ما يبدو لي شيعي. أخبرنا بصديق عائلة قديم كان يزورهم في بغداد من القطيف، من عائلة الناصر. أخبرته بأنها عائلة معروفة ومنتشرة. تسائلت إذا ما كان كوننا لسنا من القطيف سيشكل فرقاً، لكنه صدقاً لم يشكل بالنسبة إليه.
عرض خدماته بصدق وإصرار، قائلاً بأني يجب أن أعتبره أخي الكبير، وأن لا أتردد حينما نحتاج إلى أي شيء، من تموين وغيره، وبلا مقابل، وحتى المال إن احتجنا إليه في أي ظرف من الظروف فيجب أن أخبره، فحالتهم المادية جيدة جداً كما عبر، ما شاء الله. أخجلني كرمه كثيراً. حدثني عن أولاده، وزوجته، وحياتهم هناك. كأكثر العرب، ورغم طول البقاء، هم عاجزين عن التأقلم في ذلك البلد بشكل كامل، وغير قادرين على تكوين علاقات مع أهله، بسبب الفروق الدينية والاجتماعية، وأعطاني مَثل سمعته من آخرين؛ حينما تجتمع مع سويسري، وأنت لا تشرب الخمر مثلاً، فسيضايقه الأمر، ولن يكون الوضع مريحاً بينما هو يشرب أمامك، بالإضافة إلى اختلاف الطباع والعادات.
لم أطلبه مرة أخرى لتوصيلنا، فأنا خائف من عدم تشغيل العداد، لأنه في نهاية المشوار أخبرني بأن هذا ما سيفعله في المرة القادمة. مع ذلك، اتصل بي بعد أيام، ليطمئن على حالنا وحال ابنة أختي، موضحاً بأن زوجته الطبيبة تعرض خدماتها وهي إلى جانبه، في حال احتجنا إليها. أخجلني هذا بشدة، ولا أدري ماذا أصنع صدقاً لرد لطفه، باستثناء الدعاء والسؤال عن أحواله.

باستثناء لبناني أوصلنا، ولم يكن لطيفاً على نحو استغربته، وتركي، على نحو غير مستغرب، كان كل العرب والمسلمين ممن أوصلونا لطفاء جداً.
غالباً، من ينضمون إلى خدمة اوبر بوب كسائقين، الخدمة التي تسمح لأي صاحب سيارة بالانضمام حسب شروط معينة، ينضمون لتمضية وقت فراغهم، والالتقاء بالناس والتحدث، على عكس أصحاب الفئات الأعلى من الخدمة، وهم سائقين محترفين هذا عملهم الدائم. لذلك، قد يوصلك إلى مشوارك شخص يبدو عليه الثراء الواضح والرفاهية، أو رب عائلة لا يبدو إلا أنه يستفيد من أوقات الفراغ لزيادة الدخل، كوضيفة ثانية مرنة التوقيت، يمكنه القيام بها متى شاء. بعضهم أخبرني بأنه لم يقم بالعمل منذ اسبوعين.
بالطبع، ليس هناك أرخص من الذهاب على النقل العام، في الحافلات أو الترام أو المترو، وهذا ما أقوم به حينما أكون لوحدي، لكن غالباً ما تكون والدتي معي، فلا يكون هناك مجال لغير السيارة.
قبل فترة، أوصلنا رجل من كوسوفو، إلى مشوارنا البعيد خارج زيوريخ، ورفض رفضاً قاطعاً تشغيل البرنامج لتحصيل أجر المشوار، إذ قام به مجاناً. كان أمر مخجل بحق. حاولت تعويضه ولكنه رفض، وقال ربما في المشوار التالي. في المشوار التالي، كنت أكثر فطنة ولم أسمح له بالقيام بالأمر مرة أخرى.
هو شاب جاء منذ سنتين تقريباً، متزوج ولديه ابن. كان سعيد بنا في المرة الأولى لأننا أول سعوديين يراهم، وأراد القيام بأي شيء يستطيعه لإظهار تقديره. تحدثنا حول مختلف الأمور، وكان لديه الكثير ليقوله عن الحرب، بمرارة بالغة، إذ أنه عايشها ورأى الموت وعائلته بأم عينه.
قال بأنه يود لو التقينا لشرب القهوة والتحدث قريباً. دعوته لاحقاً إلى المنزل، وقد أعدت لنا والدتي الشاي والقهوة، وجلسنا إلى طوالة على الشرفة وتحدثنا طويلاً. هو رجل طيب ومطلع، ومتحمس للدين إلى حد بعيد. قال بأن له صديق درس العربية، ويود لو رآني، سألته لماذا لم يحضره معه؟. قال بأنه يود لو أخذني لصلاة الجمعة في مدينتهم القريبة، وهي مسافة نصف ساعة من حيث نقيم في زيوريخ، لألتقي أصدقاؤه الذين حدثهم عني. هو يعرف ظرفي، وكوني لا أستطيع الخروج من المنزل مطولاً، حيث أن أمي تخشى البقاء لوحدها في هذا البلد. لكني أخبرته أني  إن شاء الله سأصحبه إلى هناك حينما تخرج اختي وابنتها من المستشفى، ويكون هناك من يبقى مع والدتي في المنزل.
مثلي، كان يشعر بالمرارة الشديدة لاستثمار شركة اماراتية أموال ضخمة في تطوير وسط عاصمة صربيا. كان خبر أشعرني بالاشمئزاز الشديد.

يوجد عدد من السويسريين الذين يبدون لطفاً حين توصيلنا. لكني اكتشفت أنه من الأفضل جعلهم يتكلمون هم، بدلا من المساهمة الفعالة، فهم شعب حساس على نحو سلبي، يئول الأمور كثيراً ولا يفهم المزاح مهما كان بسيطاً، وبشكل عام، لا يفهم حتى الابتسامة تماماً، على الأقل الجزء الألماني في زيوريخ وبيرن.
أحدهم أبدا لطفاً واهتماماً كبيراً. بدأ باختباري بنطق الكلمات الألمانية كما ينطقها السويسريون، وهي الطريقة الأصعب بالنسبة لمتحدثي اللغة. لكنها ليست صعبة، الصعوبة تكم بالأصوات، خصوصاً خ، ونحن لا مشكلة لدينا في خ. أعجبه ذلك، إذ نجحت باختبار نطق عبارة تحوي هذا الصوت كثيراً، بلا مش. كان قد وصف الفرنسيين بالمعاقين لعدم قدرتهم على نطق أصوات لغتهم. حينما أعطيته بعض أصوات اللغة العربية، قال بأنهم هم، يقصد السويسريين، معاقين كذلك على ما يبدو.





بينما أنا عائد من السوق إلى الشقة الأولى التي أقمنا بها، وجدت رجلين يهوديين متدينين يحاولان فتح باب المبنى بلا جدوى. يُفتح الباب ببطاقة ممغنطة، لكن بطاقتهما لم تكن تعمل. كان مضطربين، إذ أن عليهما إعادة سيارتهما المستأجرة، واللحاق برحلتهما، ولم يعد هناك وقت. كان ما جرا لهما أمر محبط صدقاً، إذا أنهما أخبراني بأنهما مددا بقائهما ليوم واحد، وأخبرا المكتب بأنهما سيغادران قبل الساعة السابعة مساءً، وحين وجدتهما كانت الساعة السابعة وخمس أو ست دقائق. كان من الواضح أن جهاز الأقفال مبرمج على الساعة السابعة تماماً ليلغي مفعول بطاقاتهم. أدخلتهما المبنى ببطاقتي، وصعدت معهم إلى شقتهم، في طريقي إلى شقتنا، ووجدناها مقفلة، لا تعمل البطاقة على قفلها، مع وجود جوازاتهم وأموالهم وأغراضهم كلها بالداخل. بدا عليهم الاضطراب الشديد، فلم يكن في الوقت أي متسع قبل رحلة عودتهم بالمطار. أخبرتهما بأني يمكنني إعطائهما رقم الشركة ليتكلما مع أحد الموظفين للمساعدة. تبين أن جوالاتهم في الشقة، وقالا بأنهم سيعطونني المال مقابل اتصالي من جوالي. أخبرتهما بأني لا أقوم بالأمور على هذا النحو. اتصلت بالمكتب، ولم أتلقى رداً. بعد تكرار الاتصال عدة مرات بلا جدوى، اتصلت على أبو يوسف، المغربي الطيب، وطلبت منه التواصل مع التركي مدير الشركة مع شرح المشكلة، ولكنه قال بأنه سافر إلى بلد مجاور، ولكنه سيرسل رقمه على أي حال. اتصلت بالتركي، ولم يجب كذلك، إلا أني استلمت اتصال من المكتب، وشرحت لهم الوضع، وقال لي الموظف، وهو شقيق التركي، بأنه سيحضر خلال عشرة دقائق. المكتب عموماً غير بعيد. شكروني الرجال كثيراً، واصفين إياي بالملاك. كان لأحدهما سحنة أوروبية شرقية، بينما بدا الآخر شرقياً خالصاً، كما يبدو بعض الفلسطينيين. أخبرتهما بأني سأصعد إلى أهلي، وسأعود لاحقاً للاطمئنان على أمرهم. أرادا أن يعرفا في أي شقة نحن، كنا فوقهم تماماً. بعد تصفيف الأغراض التي معي بالثلاجة والدواليب، ومضي بعض الوقت، نزلت لرؤية ما جرا عليهم. لكنهما كانا يقفان في توتر، إذ تأخر الرجل ولم يأتي. أجريت اتصال آخر بالمدير التركي، لم يجب، لكنه سرعان ما اتصل بي من فرنسا. عرفته بنفسي فعرفني، ولما أخبرته بالمشكلة بدا سعيداً بأني اتصلت، وأعطاني رقم جوال شقيقه لأتواصل معه وأستعجله، وقال بأنه سيتابع الأمر من طرفه. كان الرجلين ممتنين بشدة، ولمحت أحدهما يرسل القبل في الهواء تجاهي وأنا صاعد، واصفين إياي بالملاك. رغم ذلك، تأخر شقيق المدير، رغم الاتصال، ولما عدت بعد عشرة دقائق كان غير موجود. اتصلت به، وقال بأنه قريب جداً. لا أدري لماذا تأخر هكذا، رغم فهمه للظرف. كان ذو الملامح الشرقية متوتر جداً، رغم تكراره هو وصديقه شكرهما لي. بعد بضعة دقائق، وصل الرجل، وكان الرجال سعداء جداً. ودعتهما، ومضيت إلى الشقة. لكن طرق أحدهم الباب بعد قليل، وكان ذو الملامح الأوروبية، وصافحني وشكرني، واصفاً إياي بالملاك مرة أخرى، وودعني.
كانا يلبسان أردية سوداء وقويبعات صغيرة سوداء كذلك، ويحملان شالات عليها زخرفة تشبه مبنى، لعله تصور للهيكل.
كانت صدمة أبو يوسف، والمترجمة العراقية كبيرة، حينما سألني وهو يأخذنا إلى المستشفى عن الناس الذين ساعدتهم، حينما قلت بأنهم يهود، ولعلهم من اسرائيل. قالت المترجمة الطيبة: وساعدتهم؟!. قلت نعم. ضحك أبو يوسف كثيراً، ورغم أن الأخت العراقية ضحكت كذلك بتعجب، إلا أنها قالت بأنهم لا يستحقون، فهم يقتلوننا. علقت والدتي بأنه في كل نفس رطبة أجر، لكن هذا لم يغير رأي المترجمة الطيبة.
لم يشكل الأمر معضلة أخلاقية بالنسبة إلي. إني أعكس شخصيتي فيما أقوم به، تجاه أناس لا أعرفهم ولم أشهد عليهم بجريمة. ليس أني أتخيل أو أتوهم بأني أغير العالم، لكن الأهم والأول هو أني أحقق الرضا عن نفسي وعن ضميري، وبعد ذلك يصير ما يصير. فلا يمكنني ترك شخص يحتاج إلى المساعدة دون أن أقوم بما أستطيع، طالما لا أعرفه ولا أحكم عليه. أظن أن البعض يتخيل بأن تلك كانت فرصة لإيصال رسالة من خلال عدم المساعدة، لكني لا أرسل هذا النوع من الرسائل تجاه أناس لا أملك انطباع شخصي عنهم، ولعلهم لا يملكون انطباع عني. نعم، قد يفيد إيصال رسالة من خلال عدم المساعدة، وهو أمر لا مانع لدي باللجوء إليه، لكن ليس مع إنسان لا أعرفه، أي ليس في حالة مشابهة لحالة هؤلاء اليهود، إنما مع إنسان أعرفه وأعرف بأن عدم مساعدته قد توصل رسالة تربوية، ولكن حتى هذا في أضيق، أضيق الظروف، وفي أمور غير مصيرية.
وبالواقع، أجد أني أقدم يد العون إلى أناس لا أعرفهم، وإن أعطوني انطباع غير جيد مبدأياً، كالسويسريين بشكل عام، حتى حينما أرى بأنهم ينظرون بإزدراء أو على نحو غير مريح أو مهذب، يحدث أن لا أمنع نفسي عن إبداء الحسنى حينما يجمعنا موقف. مثال على هذا هو بعض سائقي سيارات الأجرة، الذين يصدمون حينما يروننا في بعض الأحيان، خصوصاً مع غطاء وجه والدتي، وبعضهم لا يبذل مجهوداً كافياً لإخفاء امتعاضه في تعابير وجهه. يحدث أن يكون الصمت بعد ركوبنا ثقيلاً، فغالباً لا أبادر هذه النوعية من الناس الكلام خلافاً لإلقاء التحية وما تحتمه الضرورة، لكن يصبح الصمت بشكل ما ثقيل عليهم، وربما يغلبهم الفضول، فيوجهون ملاحظة أو سؤال. لا أبخل باللطف حينها، ولا المجاملة حينما تكون ملائمة، وغالباً ما يترك هذا انطباع مختلف في النهاية، وربما أظهر أفضل ما فيهم كبشر، فليس كل من كشر شرير بالضرورة، وإن كان سلوك بغيض، إنما قد يكون بسيطاً غير فطن، مغلوب بما يسمع ومصدوم بالموقف. أحياناً، تجد شخص ينظر تجاهك على نحو غير مريح، لا يعجبه شكلك ولا لونك، لكنه سرعان ما يحتاج إلى مساعدة بسيطة؛ قل مثلاً امرأة ستنزل من الترام، وهي تدفع عربة طفل، وتحتاج إلى من ينزلها لها، بينما كانت منذ لحظة تنظر نظرة تنم عن عدم تقدير، هل تصادق على توقعاتها التي دعتها للنظر على هذا النحو لإيصال رسالة أو للتشفي؟، أم تساعدها، حتى لو لم تكن متأكداً من تقديرها للمساعدة، فهي شخص متورط بالنهاية. إنه أمر يعتمد على شخصيتك.
أكثر أمثلتي هي عن السويسريين، لأنهم بشكل عام غير لطفاء أو متواضعين تجاه أمثالي، لكن هذا لا يثنيني النظر إليهم كأفراد في المواقف التي تستدعي ذلك، لأني أنا هكذا، وليس لأني أنتظر أن يغيروا رأيهم. إني فقط لا أقبل أن أكون لئيماً، وبلا مروءة.






أجرت ابنة أختي عمليتها الثانية، والحمد لله. عمليتين في وقت قصير، أمر كثير على أي أحد، فما بالك بصغيرتنا. مع ذلك، أمورها مطمئنة ولله الحمد، ولا أشعر بالقلق بتاتاً من الإهمال هنا، أو اللا مبالاة حول أي تطور.

لكن الطبيب أصر على بقائنا لمدة أطول مما توقعنا. كان قراره غير متوقع، خصوصاً مع تنبؤات الطبيب الأول الذي لا زال يشرف على الأمر. شعرت لوهلة بخيبة وضيق عميقين. لكن، إن كان هذا الأفضل، فليكن. الحمد لله على كل حال. وعلى وجه العموم، أجد أني بت أكثر تأقلماً هنا. لست أسعد، بل لست سعيداً إطلاقاً، لكني تقبلت الأمر على علاته، وصرت أحاول أن أقوم بشيء ممتع، رغم عدم نجاحي بذلك حتى الآن.
لعل متعتي الوحيدة المشابهة، ولو من بعيد، لما كنت أقوم به بالرياض، هو نزولي إلى كافيتيريا المستشفى حينما نزور ابنة اختي، وجلوسي للقراءة والكتابة مع قارورة كولا. يبدو أن الأطباء صاروا يعرفون مكاني، حيث سألوا أختي إن كنت في الكافيتيريا في إحدى زياراتهم، حينما لم يروني مع أمي في الغرفة.

نظل أنا والعراقي الطيب أبو أحمد على تواصل. فهو يسأل باستمرار عن حال ابنة أختي، وقد جلب إلينا حلوى غالية لأجلها، مع ترتيبه لرحلة يرينا فيها بعض المناظر الجميلة، التي يبدو أننا لن نتمكن من مرافقته فيها، لأن الجلوس الطويلة في السيارة قد لا يصلح لابنة أختي. إنه رجل طيب، يخجلني كثيراً بكرمه. تكلمنا عن التمور، وهو يحب التمر النجدي، لكنه لا يدري أي نوع بالضبط، فهم بالعراق يسمونه النجدي هكذا. أخبرته عن نوع لدينا أصله من العراق، يسمى البرحي. قال بأن النجدي أصله من نجد، وأنها عموماً كانت بلاد واحدة، يقصد المنطقة برمتها.

لم أتعامل مع عراقي من قبل، باستثناء المترجمة الطيبة، والتي لا تبدو عراقية خالصة، ربما لأن والدتها سورية. تذكرت زميل لي بالجامعة، كان قد عاش في الكويت طوال عمره، وكان يعتبر نفسه كويتياً. لما مازحه أحدهم بجلافة، صاح: واي، أبعد عني يا عراقي!!. انفجرنا ضاحكين ذلك الوقت، فلم نكن نتخيل كيف أن وصف المرء بالعراقي قد يعني شيئاً، رغم عدم غفلتنا عن موضوع الغزو. لكننا لا نعرف العراقيين في السعودية صدقاً، خصوصاً أبناء جيلي.
لكن أبو أحمد، الذي أرجح بنسبة كبيرة أنه شيعي كما اقترحت المترجمة السنية، إذ أن اسمه حيدر، هو رجل طيب، أتمنى لو كان كل العراقيين مثله.

لست أرى سبب لتعاطفه وغيره معنا، كالمصري الطيب، والكوسوفي، وصومالي، وكردية، وخلافهم، سوا الرحمة من الله، خصوصاً لابنة اختي، واختي ووالدتي، إذ لا أعتقد بأني سأكون بحسن الحظ هذا لو كنت لوحدي.


فوجئت البارحة باتصال من أبو يوسف المغربي الطيب في المساء. كان قد أخبرني قبل اسبوع او اثنين عن عائلة جديدة جائت للعلاج من السعودية، وامتدحهم كثيراً، وهذا أمر نادر صدقاً، إذ تطغى على ما يبدو الجوانب السلبية على كثير من طالبي العلاج من السعودية للأسف. قال بأنهم مثلنا تماماً. صدقته لأنه لا خلاف لديه على الإشارة إلى تجاربه السلبية مع عوائلنا، مثل امرأة حجازية كانت تدخن الشيشة في سيارته للأسف. أخبرني باسم العائلة، فقلت بأن هؤلاء من منطقتنا، القصيم. وعموماً على عكس ما تصورت؛ يريد العرب هنا معرفة المناطق التي ينتمي إليها السعوديين، إذ يبدو أن هناك نوع من التصنيف ومحاولة فهم الطباع.

لاحقاً، تواصلت المترجمة العراقية الطيبة مع ابن هذه العائلة، وهي تزور ابنة أختي واختي في المستشفى، بينما نحن هناك كذلك. حالما أغلق السماعة دعت للرجل ولعائلته، وامتدحتهم كثيراً وبتأثر. وهي دائما تدعو الله أن يأتي بالطيبين من السعودية، ويرسل "الأشرار" إلى أماكن أخرى، وهو أمر مضحك، وربما شعر البعض بالإهانة، لكني أتفهم دعاؤها بعدما رأيت بعض النماذج ورأيت طريقة تواصلهم وصعوبة مراسهم.
كنت عائد معها بعدما صادفتها لاحقاً قادمة من المصعد، وكانت تخبرني بأنها كانت مع تلك العائلة قبل قليل، ودعت لهم، وقالت بأنهم يذكرونها بنا دائما، فلنا نفس الطبيعة والتهذيب. أخبرتها بأننا بالواقع من نفس المنطقة؛ القصيم. لا أدري لماذا بدا عليها الذهول، ربما نسيت ما هي منطقتنا أو لم تسألهم عن منطقتهم.

عودة لاتصال أبو يوسف، كان قد اتصل بالمساء بينما كنت قد بدأت إعداد عشائي ووالدتي، وقال بأن فلان، رجل تلك العائلة، يريد أن يتعرف علي، وأني في حال رغبت، فسيأتي ليأخذني إليه. أخبرته بأني أقدر هذا، لكني لا أستطيع الخروج الليلة وترك والدتي لوحدها بالشقة، وأني سأحاول التواصل في وقت ملائم أكثر. كان أبو يوسف خائب الأمل على ما يبدو.

اتصلت اليوم على ابو يوسف، ولم يجب، فاتصلت على المترجمة، التي أسعدها الأمر، وقائلت بأننا سننسجم معهم كعائلتين. وقالت بأنهم من أفضل من مروا عليهم في الشركة، المفوضة من الملحقية، وهذا إلى جانبنا، وأننا حديث الشركة من حيث الشكر والتقدير، مقارنة بآخرين. بالواقع، بعض الناس للأسف لا يتورع عن رفع صوته، ومحاولة أخذ ما يريد بالقوة، لهذا أفهم تقديرهم لأمر عادي هكذا.
قالت بأنها ستتصل به، وستخبرني بالرقم. وصلني الرقم وتواصلت مع الرجل. يبدو أنه طيب جداً بالفعل. شرح لي بأنه أراد رؤيتي من مديح أبو يوسف والمترجمة لنا كعائلة. لهذا أراد التواصل. أخبرته بأن هذا ما سمعناه عنه. كنت صدقاً أرجو لقاؤه والتعرف عليه منذ أن سمعت عنه، لكن، لم أكن أعرف عن ظروفه، وقد فهمت بأن وضع أهله صعب صحياً. كما أني أواجه مشكلة مع اتخاذ المبادرات بشكل عام، بعد تجارب مريعة.
حينما عدنا من الزيارة، تواصلت معه، واتفقنا على اللقاء. يسكن غير بعيد عنا، في أحد عمائر التركي الذي تركنا التعامل معه. تمشينا معاً وتحدثنا كثيراً وجلسنا في مقهى. كان على العكس مني، معجب بزيوريخ كثيراً، رغم أنه تعب من الوحدة هنا لفترة طويلة.


خرجت في المساء إلى الدكان القريب، ولكني وجدته قد أغلق بابه. وقف أتفكر بحل، إذ أني نسيت شراء أمر مهم، وكنت أتسائل إذا ما كان الذهاب إلى محطة القطار الرئيسية أمر مبرر، أم أن في الصباح متسع من الوقت. فوجئت بشاب يحوم حولي، بنظرة زائغة، وكان يريد التحدث بوضوح. شممت رائحة قوية منه، فعرفت بأنه مخمور. ألقى التحية، ثم وقف إلى جواري وسألني عن اسمي؟، ودون أن أسأله عن اسمه قال بأنه لوكا. سألني إن كان بوسعه التحدث معي؟. قلت لا بأس. قال بأنه حائر إذا ما كان عليه أن يعود إلى البار، قلت بأنه يبدو متعباً، ربما عليه العودة إلى المنزل. سأل عدة أسئلة، عما أفعل هنا، وإذا ما كنت في إجازة. سألته إن كان يعمل أو يدرس؟ قال بأنه لا يقوم بشيء، فلا زال لا يدري ما هي خطوته التالية، لكن لديه أفكار، يعتقد بأنها ستنجح، قالت لا بد أنها مشاريع كبيرة. ضحك، وعلق بأنه تحدث كثيراً، ولا بد أن كلامه غير مترابط، قلت لا لا بأس، إني مستمتع بكلامه. ضحك بسعادة وقال يا لك من إنسان لطيف!. ثم سألني ماذا أعمل في أسبانيا؟ قلت بأني لست إسبانياً. إني مترجم على أي حال. قال من أين أنت؟ قلت عربي. غير موقع وقوفه وابتعد. بدا لي في الأمر سخرية، حتى المخمور من هؤلاء القوم لا يفضل الوقوف قربي. جلس القرفصاء على الأرض بعدما استأذن، وأخرج بطاقة بنك ووضعها أرضاً. سألته إذا ما أراد علك؟ سأل عن نوعه، وفرح حينما رآه كطفل. أثار الأمر شفقتي، وشعرت بأن هذا الشاب مسكين ضائع. كان يقيم لوحده قريباً منا. شكرني على الهدية كما قال. وظل يتكلم، ثم أخرج ورقة نقدية ملفوفة بطريقة خاصة، وأنزل منها مسحوق أبيض على بطاقة البنك، ثم لف الورقة على نحو اسطواني، وبدأ يشم المخدرات. كان أمر مؤسف، مؤسف، مؤسف. كان شاب صغير، لا أتصور بأنه يزيد عن العشرين كثيراً، فكرت في عائلته، أين هم؟. سألته إن كان يستمتع بما يقوم به؟، قال بأنه يستمتع، فقلت ربما عليه أن يعيد النظر بالأمر، هل يعدني بذلك؟ قال بأنه يعدني، وشكرني. ودعته ومضيت.




سنعود قريباً، الحمد لله. أرجو من الله أن يكون هذا آخر ما أراه من هذا البلد وأهله. مع ذلك، من يدري، ربما عدت إليه يوماً ما، لكن أرجو أن لا أرى زيوريخ أو بيرن مرة أخرى على الأقل. قال لي رجل ألماني طيب، أوصلنا مؤخراً، بأن لوقانو أروع مكان هنا، حيث يتحدث الناس الإيطالية، بعدما سألته عنها، إذ أنها تثير اهتمامي، إلى جانب منطقة تسمى فاليس. لست متحمساً للعودة بالطبع ولو لأجل هذه الأماكن، لكن لا يعلم المستقبل إلا الله.



قبل يومين، بينما وقفت ووالدتي ننتظر سيارة الأجرة التي طلبناها، وقد اقتربت حسب ما أرى بالجوال، مر رجل سويسري مسن وبدين، وتفوه بكلمتين أو ثلاث بلغته القبيحة تجاهي ووالدتي. لحقت به وتوقف، وتكلم، فقلت له بأن يتكلم بالانقليزية. قال بلغة مكسرة، وبتحد، بأن غطاء وجه والدتي ضد ثقافته، فرددت مباشرة وبتحد مقابل: "نحن لا نبالي بثقافتك". لا أحترم ثقافة من لا يحترم ثقافتي، بالواقع، يكفي أن والدتي ترتدي عبائة بلون مختلف خطناها خصيصاً لزيارة بلدهم بدلا عن عبائتها السوداء، وهذا أقصى ما نستطيع. صدمه ردي، وقال عودوا إلى بلدكم! قلت: لا، لن نعود، نحن باقون هنا إلى أن نسأم، وليذهب ويكمل طريقه، وأشرت إلى حيث كان يتوجه، وقلت بوضوح: إمض!. وعدت إلى والدتي حيث أن السيارة وصلت، وساعدتها على ركوبها، وكان الرجل التافه قد توقف وصار ينتفض غضباً، وقال مرة أخرى بصوت مرتفع: عودوا إلى بلدكم!. قلت له بوضوح من مكاني: لا، هيا اذهب من هنا، ليس لدي وقت لك. بدا أن ردي عليه يصدمه في كل مرة، وكان يدور حول نفسه لا يدري هل يذهب أم يبقى، وقد ازداد حمرة إلى حمرته. ركبت السيارة وقد وقف ينظر إلينا عاجز عن قول شيء آخر.

نحن سنغادر بلدهم قريباً إن شاء الله، لكني لم أكن لأفرحه بهذا الخبر.
ليست المرة الأولى، ولا حتى الثانية، بل لا أدري كم مرة واجهنا وقاحتهم وعنصريتهم وانعدام تحضرهم. غالباً ما أنظر إليهم بازدراء إذا ما نظروا إلينا بعدم احترام، وهذا يصدمهم، لأنهم يتخيلون بأنهم محترمين في كل الأحوال، ولكنهم ليسوا كذلك.
إني أحترم وأتفهم الفضول، والأسئلة، وهي تحدث من قلة قليلة من المحترمين. لكن ما يقوم به الأغلبية ليس إلا احتقار وتمحور حول الذات، وكأنهم نموذج لكل العالم.
كنا في مصعد عمارتنا، وقد دخلنا مع جارتنا الهندية، وهي امرأة صادفتها في غرفة الغسيل، امرأة محترمة وخجولة، أرجح بأنها هندوسية. وقد كانت تسبقنا وتفتح الأبواب لوالدتي، رغم حملها لصبي صغير عمره بضعة أشهر. حتى دخلنا معاً المصعد. وصفتها والدتي بأنها محترمة، وقد استغربت ذلك منها، إذ حسبتها سويسرية، ربما لأن عينيها ملونتين، لكني أوضحت بأنها هندية، فزال تعجب والدتي، لأنها تعرف الهنديات، ولأنها ليست من السويسريين بطبيعة الحال.

هذا مقال قرأته مؤخراً، وقد أثر بي كثيراً، حتى فاضت عيناي بالدمع. لعل لوجودي في هذا البلد البارد القاسي دور في شدة انفعالي، رغم أنه لا شك لدي بأن شعوري تجاهها لن يتغير في أي مكان وأي وقت وأي ظرف، هنا والآن أو سواه. اضغط الرابط:






سعد الحوشان