الثلاثاء، 10 مايو 2011

خزائن النسيان (قصة،ألماني،قصيدة،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم












كان اليوم مميز بشكل ما، على نحو يشعر المرء بأن للأمور العادية مغزى آخر؛ لقد أصبح كل شيء حاث على التفكر فجأة.
رأيت اليوم شخص كان عزيزاً علي، لم أره منذ سنوات، وقبلها بسنوات لم نكن نتكلم، أو حتى نسلم أو نرد السلام. لقد أردت أن أقول شيئاً اليوم، دون أن أقوله حقيقة وفعلاً. كان الأمر صعباً. في البداية، قررت أن أنتظر منه مبادرة. وقفت لأكثر من ساعة، ليلاحظني، فإن تجاهلني، أمضي ببساطة فهو لا يريد السلام، وإن أشار إلي؛ جئت وسلمت، ومضيت. صعب علي أن أعرف إن كان قد لاحظني أم لا، كان المكان شديد الازدحام، وهو ضعيف الملاحظة بطبيعته. بعد حوالي الساعة والنصف، تذكرت شيئاً مهما؛ لا يمكنني أن أعتمد عليه، إذ لطالما شكل حالة استثنائية في حياتي، من حيث أنني كنت دوماً من يبادر. قررت أن أبادر، أيا كانت ردة فعله.
في آخر مرة بادرت بشيء تجاهه، كانت بسلام ألقيته على شخصين هو أحدهما، ولم يرده، لكنه ظل ينظر إلي طوال الوقت، بينما أوليته أنا ظهري في ذلك الحين؛ كنت أرد النظر إليه طوال الوقت أيضاً، من خلال سطح صقيل، دون أن يدرك ذلك.
مر وقت طويل حتى جاءت الفرصة اليوم. إني حينما أريد شيئاً، أثابر حتى أفشل على الأغلب.


جئت إليه وسلمت، ومددت يدي مصافحاً. بدا عليه الذهول، ربما الصدمة، وقد وقف ليسلم علي. تسائلت في نفسي إن كان قد عرفني؟ لم يأت على ذكر اسمي. سألني عن حالي وسألته عن حاله، وكان من الواضح أن كلينا ليس لديه ما يقوله في ذلك الظرف، لذا مضيت مودعاً حالما سكتنا، على نحو أعلم بأنه غريب. لكن ما قمت به لم يكن سلاماً بالأساس؛ كان رسالة سلام.
ولأهمية الأمر، بدأت بالشك بمعرفته لمن أكون، فقد مضت سنوات، ووجهه لم يبين شيئاً. أعلم بأنه بالأصل لم ينساني، لكن، ربما تغيرت كثيراً عما كنت عليه. 
عدت أدراجي لأراه، وأقيس نظرته إلي، التقت عينينا مرتين. كان يحادث أحدهم، وبدا من الواضح أنه مشغول الذهن، على خلاف ما كان عليه قبل السلام. لكان يمكنني أن أقول أنه بدا مشغول الذهن لأنه يحاول أن يتذكر من كان ذلك الرجل غريب الهيئة، لكن، اتضح أيضاً أنه كان متجهماً؛ لقد تذكرني إذاً.
التقت عينينا مرتين وأنا أمضي، وهو يشيح بنظره ويواصل التحدث إلى من أمامه.
غادرت المكان، وأنا أشعر بالرضا. لم أكن راضياً لأني حققت شيئاً، على العكس، لم أحقق شيئاً، ولم يتمخض الأمر عن شيء، ولم أتوقع أي شيء أصلاً، فقد كنت أنا من سيقوم بالأمر، وكنت أعلم بأنه لن يكون هناك ردة فعل مهمة في أفضل الأحوال. بل لعلي تأكدت أنه لا يزال يكرهني. لكني كنت راضياً لأني قمت بشيء نابع من قلبي، وبكل صفاء نية. لقد قلت شيئاً، قد لا يفهمه، لكنه قيل بأقصى ما أستطيع، وما يسمح به هو، والظرف، والماضي، من فصاحة.
حينما مضيت، تذكرت سوء الفهم الكبير الذي لف معرفتي به، ولا أقول صداقتنا، فلم نكن أصبحنا أصدقاء، لكننا نجحنا بالتوصل إلى أكبر سوء فهم مر في حياتي. تذكرت شخص واحد ساهم كثيراً بسوء الفهم هذا، ودعوت الله أن لا يوفقه. لكني ابتسمت، إذ أعلم بأن الله سبحانه لم يعد يستجيب لأدعيتي منذ زمن طويل، إذ لعلي أقوم دون أن أدري بما يمنع الاستجابة، أو لا أقوم بما يعززها.
إن التدخل في حياة الناس يكون أحياناً خطيراً عليهم، مغيراً للكثير من خططهم وطبيعة أيامهم.
لقد كانت صحته طيبة، وكانت السعادة الجلية تبدو على وجهه الحسن، وبعموم حضوره، كان يبدو أكثر سعادة بكثير مما كان عليه حينما كنت أراه ( أو يراني؟) أكثر...


في نفس اليوم، سيعود الدكتور الألماني من سفره، الذي امتد لثلاثة أسابيع من الوحدة. هذا كان الحدث الأهم من حيث الطبيعة، لكن الحدث الأول اكتسبت أهميته من عدم توقعه.










أفكر أحياناً في تراكمات الحياة، والأمور التي تحتاج إلى عناية ومتابعة مستمرة. أفكر بأني أريد الحصول على مساعدة؛ وحينما أفكر هكذا أفكر بالزواج تلقائياً. هذه أنانية، إني فقط أفكر بتخفيف الأعباء الحياتية عن نفسي. لكن، لا أعتقد أن فتاة أصلاً ستقبل بهذه الظروف.






قد يحدث أمر مهم بعد شهر او اثنين إن شاء الله.






سيارتي في الوكالة، التي رفضت استقبالها إلا بموعد مسبق (!!). الوكالة هي عبداللطيف جميل. وكأن الموعد يختلف، جاء أناس بلا موعد، ولم يتم تقدير الدور، وكان الأمر فوضوياً، ولم ينادوا بالأسماء كما أخبروني حينما حجزت، ولم يوزعوا أرقام للانتظار حتى.
عموماً، تعاملت مع مهندس سعودي هناك، وهو شاب لطيف، من ملامحه ولهجته بدا لي حجازياً. لكني لا أدري، لأني بعد يوم حينما تواصلت معه اعتذر عن عدم اتصاله أو رده في اليوم السابق، وأنه لديه ظرف طارئ اليوم وهو في طريقه إلى المجمعة. سألني إن كنت مستعجلاً، فيعود في اليوم نفسه. أخبرته بأن يأخذ وقته، فلست بمستعجل. في اليوم التالي، اتصل، وكان من الواضح أنه لا يريد أن يصدمني بالأسعار، رغم أني بالواقع أتوقع الأسوأ، ولدي خبرة معهم. لكنه كان نصوحاً، واقترح إجراءات قد تفي بالغرض وتكفيني شر التكاليف الزائدة، قائلاً بأنه قام بها لأجل سياراته. وثقت بنصائحه، بخصوص القير، وأخبرته بأن يفعل ما يراه ملائماً. بعد قليل اتصل، وأخبرني بأنه أيضاً طلب منهم التصرف وفق طريقة معينة مع المكيف، عكس ما تقوم به الوكالة بالعادة من تبديل النظام كاملاً، وأن هذا قد ينفع. كنت شاكر جداً لاهتمامه.
لا أدري لماذا مع ذلك، أشعر بأني يائس من عودة السيارة للعمل كما كانت. إنها أول سيارة أحبها إلى هذه الدرجة، وكنت أتمنى أن تستمر معي لسنوات، ولا زلت أتمنى ذلك، لكني أشك بأنها ستسمر.






ذهبت إلى معرض التعليم العالي، في آخر يوم قبل أن ينتهي. كنت أحسب ذلك اليوم هو اليوم الذي يبدأ به!!. بأي حال، سبب ذهابي الرئيسي كان لرؤية الألماني الأصغر، الذي يعرض هناك كما بالعام الفائت. كان معه زميل لأول مرة أراه، وهو قد جاء من ألمانيا خصيصاً للعرض بالمعرض. كان يتحدث العربية بطلاقة، وكان لطيفاً، ويريد أن يضحك باستمرار، مما أشعرني بأن الطيور حقاً على أشكالها تقع. عرفني صديقي الألماني إليه بكثير من المديح المحرج لي، شكرته، قائلاً بأني لم أكن لأطلق هذه الصفات على مثلي، لكنه أضاف بأني متواضع جداً. بالواقع؛ كان مديحه يكبرني بكثير.
رأيت الكثير من الناس الذين أعرف أو أرى في الجامعة، لكني لم أسلم على أحد منهم. أكثرهم لا علاقة لي بهم. دكتور تركي فقط هو من رغبت بالسلام عليه، لكنه بدا مشغولاً وبعيداً جداً.






التقيت الدكتور الألماني أخيراً، وقد مر شهر أو أكثر منذ آخر لقاء لظروف سفره. أحضر لي هدية صغيرة؛ علبة من راحة الحلقوم من تركيا. كان مشغولاً في رحلته هذه إلى درجة أني لم أرد حقاً أن يشغل نفسه بشراء هدية أياً كانت. 
قرأت له قصائد من كتابتي، وأخبرته عن قصة قصيرة أعمل عليها الآن، وأتمنى أن أتمكن من إنهائها. هي تتحدث عن مجتمع منكوب، وفي هذا المجتمع المنكوب يوجد مع ذلك من يعتبرون بالمقارنة سيئوا حظ، مثل البطلة.


تكلمنا عن مواضيع لا حصر لها، وبالواقع لم أتوقع أن نطيل البقاء إلى هذا الحد، وقد بقينا حتى أكثر من آخر مرة. كان هناك إزعاج في المقهى في منطقة العليا؛ كان هناك مباراة بين فريقين اسبانيين، في اسبانيا، والصياح والإزعاج لدينا هنا. هل يتخيلون بأنهم جزء من العالم حينما يشجعون فريق كرة قدم، أكثر مما يتخيلونه فيما لو تعلموا عن مختلف الشعوب وحياتها أكثر. كان المقهى، الذي أكرهه، تغشاه سحب الدخان المقيتة، فلا حياء لدى المدخنين. إن التدخين شكل من أشكال الإدمان، وهو محرم. عدم منعه أمر محير، إنه أصبح من المسلمات فيما كان يجب أن يعتبر بيعه واستهلاكه جريمة في رأيي. خرجنا لاحقاً في الجلسات الخارجية، وأكملنا أحاديثنا.
 هناك أمر مستجد، لكن الحديث مبكر حوله الآن بالنسبة للمدونة. أخبرته عنه، وأبدا اهتماماً كبيراً، أكبر من أن يفصل لي أفكاره حوله، فقط بدأ برسم بعض الخطط ويفكر بما سيمكنه القيام به فيما يخص الأمر.


طبعاً، أريته الننتندو المحمول الجديد، الذي أريه لكل أحد تقريباً، وقد أذهله جداً، ولم يعلق على تفاهة ألعاب الفيديو لحسن الحظ.


حكيت له عن مقابلة لأميرة سعودية مع مجلة أو جريدة اسبانية، وكيف أني تألمت لأسلوبها الذي تحدثت به عن الناس هنا. كان يبدو وكأنها تعتذر عن ما نحن عليه، وكأنما هم ينتمون إلى الغرب ولكنهم عالقون معنا. قالت بأنه لا يمكن دفع الناس إلى الأمام بسرعة (الأمام الذي يهم الغرب على ما يبدو) لكن لن يسمحوا لنا (!!) بالجمود. لم تكن أول مرة أطلع بها على مثل هذا الأسلوب. لكن لحداثة عهد اطلاعي على الأمر الأخير هذا، لا زلت غير قادر على تجاوز الألم الذي شعرت به، والرغبة بالانعزال. شعر الدكتور أيضاً بالألم للأمر. ما باليد حيلة...


تكلمنا عن رحلته الأخيرة، التي كانت متعبة جداً، ولكنه استمتع بها. قال بأنها كانت طويلة، لكنها مرت بسرعة. قلت بأنها مرت بسرعة عليه، لكنها بالنسبة لي كانت مملة وكأنها سنوات. لم أقابل أحداً خلال الفترة، من أرى؟ ومن أكلم؟. ما أكثر الناس حولي، وما أقلهم.


لقد ذهب إلى بعض بلدان آسيا، وأخبرني بأنه تمنى الاطلاع على سمرقند، التي يراها ملتقى للحضارات والقصص الخيالية. أخبرته بأنه يمكنه أن يرى أهلها في جدة على الأقل. تسائل مذهولاً، كيف؟ قلت بأن الكثير منهم ومن بخارى هاجروا إلينا منذ زمن طويل، وهم يحتفظون بأسمائهم هكذا: سمرقندي، بخاري، وهم كثر في الحجاز. وهم سعوديون الآن، لكن أشكالهم مختلفة بالطبع.


قلت بأني أتمنى أحياناً أن أغادر إلى مكان آخر. قال متحمساً بأنه يجدر بي ذلك، يجدر بي توسيع إطلاعي على العالم. قلت بأنه لم يفهم، إني لا أفكر بالإجازة، إني أتخيل الابتعاد إلى مكان أبسط، وأكثر عزلة وهدوءاً.
إلا أنه بعد وقت، قال بتفكر بأنه علي مغادرة البلد، وتغيير نظرتي للعالم، الذي أراه عدائياً. قلت بأني لا أرى كل العالم عدائياً، إنما الغرب فقط. أخبرته بأن أحد ما طلب مني أن نسافر معاً، إلى أي مكان أحبه. وهو نفس الشخص الذي تكلمت عنه في التدوينة السابقة،  وقلت بأني أقدر لطفه معي، لكني أجد صعوبة بالثقة في استمرارية هذا اللطف وعدم انقلابه. حضني الدكتور على الموافقة، لكن هذا مستحيل بالطبع. أخبرته بأني أود أن آخذ أمي، أريد حقاً أنا أسافر معها إلى مكان بعيد، وهذا أمر لن يحدث قريباً نظراً إلى صحتها.  أتمنى أن أتمكن من ذلك بالمستقبل، أتمنى لو أخذتها إلى نيوزيلاندا، وأن نمكث هناك في مكان ريفي، ونتمشى، وننظر إلى الأغنام، ونشرب من الماء الجاري في السهول. وربما نركب قطار الترانز ألباين في رحلة واحدة. لا يهم أن أرى أثاراً أو شعوباً أصلية أو أنشطة ثقافية في ذلك الوقت، المهم أن نرى معاً صورة كبيرة وجميلة عن ما وصفته من طفولتها(تزوجت والدي وهي في الثانية عشر تقريباً) دائماً بالثراء رغم فقره المدقع؛ الطبيعة الخضراء في المواسم والحياة في الريف والرعي، والمياه الجارية. بالطبع، لن نجد بدو هناك لنلعب مع أطفالهم في المراعي، ولن يمر الغجر من وقت إلى آخر ليتسولون أو يعرضون علاجاتهم، أو يحضرون الأخبار والقصص من الأماكن القصية، لكن التجربة ستفي بالغرض.


عودة إلى الدكتور العزيز، مضى وقت طويل على جلوسنا، ولم أتوقع بصراحة أن يجلس طوال هذا الوقت قبل أن يتعب ويرغب بالمغادرة، ولكنه استمر بالتحدث معي. 


شاهدنا المدونة، وقرأ العنوان، دون أن يفهم شيء تقريباً، كان يقرأ الكلمة وأنا أشرح له المراد. لكنه عرف "ألماني" وضحك ابتهاجاً. قفز كلمة "القصيم" في العنوان، فحسبت أنه بدأ يقرأ من اليسار إلى اليمين، كدت أن أضحك. خجلاً من تصحيح وضعه وإخباره بالملاحظة؛ نظرت إليه جانبياً، واضعاً أنفي إلى جانب الشاشة، إذ كنت أمسك بالجهاز في اتجاهه ليرى. قال بأنه يعرف لكنه قفز الكلمة بالخطأ، وقال ضاحكاً لابد أني أعتقد أنه غبي. بالطبع لا. نزل عن العنوان وتفرج على الصور، وضحك حينما رأى القبعة التي أحضرها من ألمانيا لي، وقال بأنه من المذهل صفي لصور أشياء غير متوقعة أو معتادة، أشياء بسيطة غير ذات أهمية كبيرة، وعرضها على هذا النحو المنسق. قلت، قاصداً تعبيره بالأشياء غير المهمة، بأن هذا كل ما لدي بالواقع. صدمته الفكرة، لكنه الواقع. قال بأنه لا يصدق هذا، لدي الكثير. قلت لا، ليس هناك سوا الأشياء الصغيرة. بدا أن الفكرة أزعجته.


ناقشنا قوله بأنه لا يشتاق كثيراً لأحد، خصوصاً حينما يكون بعيداً لسبب وجيه. كان قد أخبرني من قبل بهذا. قد يشتاق قليلاً لبعض الناس لأسباب محددة غالباً. قلت بأن هذا أمر نختلف فيه، إني أشتاق بسرعة. أنا بالواقع أشتاق إلى أمي في العمل أحياناً. أخبرته بأني اشتقت إلى كثير من الناس من قبل، لكني أعلم بأنه لم يشتق لي أحد من قبل. أيضاًً قال بأنه لا يصدق هذا. قلت بأن هذه حقيقة، ولسبب واقعي؛ إن الناس الذين أشتاق إليهم لا أبتعد عنهم كثيراً فلا يشتاقون إلي، أما الناس الذين أفترق عنهم فغالباً ما يكون الأمر بسبب مشكلة، فيكونون قد كرهوني، فلا يشتاقون إلي. لم يصدق، لكنه لم يجد حجة يجادل بها. بدا عليه شيء من الضيق للفكرة، وتأمل متفكراً وهو ينظر في اتجاه آخر.








هذا الأسبوع مر سريعاً، ورغم أن أيامي تمر سريعة جداً، ولعله أمر محمود، إلا أن هذا الأسبوع أشبه باللص المحترف.








اتصلت قبل يومين بالألماني الأصغر، وسألته إن كان لديه الوقت لنذهب إلى مقهى، كان الوقت لديه، وكان سعيداً بالاتصال. أي مقهى؟ سأل، كاريبو كافيه، كم سيستغرق قدومك؟ هكذا سألت، قال: لوضع الميك أب، ربما نصف ساعة، ضحكت على المزحة، وتخيلت شكله بلحيته الكثة وحاجبيه الثخينين، وقد وضع الحمرة والألوان. التقينا، وحينما نلتقي نبقى تقليدياً لوقت طويل نتكلم. لديه اهتمام كبير بالإسلام، لكنه شديد الجدلية، وهذا أمر لا آخذه بجدية. يذكرني أحياناً بالمثقفين السعوديين، ورغم أني أقدره كثيراً إلا أن هذا ليس مديحاً بالطبع. إن له سمات جيدة أخرى عموماً، لكن أعتقد أنها تتمركز حول الجوانب الحياتية الأقل عمقاً وأهمية بالنسبة لي. هو لطيف المعشر، ومتأقلم، ورغم أن بيئته الاجتماعية والثقافية مختلفة عن الدكتور الألماني الكبير، إلا أنه كريم أيضاً بطبيعته، رغم أنه لا يجيد التواصل من هذه الناحية جيداً، لكن كرمه واضح. بالواقع، وعلى نحو غير متوقع، أجد أن اصدقائي الأجانب بعمومهم كرماء جداً، وأواجه معهم غالباً مشاكل عند دفع الحساب، فيما السعوديون يتفاوت الأمر بينهم أكثر، ناهيك عن العرب. ربما كان الكرم حاله مثل حال النظافة لدينا، التي تحدثت عنها في إحدى آخر التدوينات؛ لا نشكك بكرمنا وكأنه من المسلمات.
يوجد مؤتمر أو شيء من هذا القبيل عن الحنفية، وهو متحمس له. لم أفهم بالبداية ما يريد أن يقول حينما أخبرني بأنه "حنيفة"، يريد أن يقول حنفياً. ثم شرح فهتفت: آه! حنفي!!. شرحت له الفرق. وسألني إن كان أكثر الناس هنا يفهمون الحنفية؟ قلت بالطبع. فابتسم مرتداً إلى الوراء على نحو متشكك، وقال: بالطبع؟ ليس كل الناس مثلك يا سعد، يوجد أناس أقل تعليماً. أخبرته بأن الكل مر بمراحل التعليم الأولية على الأقل، وهذه الأمور تشرح في تلك السنوات. إنه يتكلم دائما بمزيج من الأسف والسخرية عن ضعف اطلاع الناس هنا، وقلة قراءتهم للكتب. أحياناً يغلب الأسف كثيراً، خصوصاً حينما يتحدث عن صدمته تجاه موقف، مثل مستوى التعليم هنا ومخرجاته مقارنة بالعالم، حيث زودني بوثائق مؤسفة تتأخر فيها الدول العربية على نحو متوقع بالواقع، لكنه لم يعلم مثلي بأن الأمر بهذا السوء. وأحياناً تغلب السخرية المضحكة؛ مثل حينما قابلته في معرض الكتاب في الجناح الخاص بالتعليم في ألمانيا، وأراني الأوراق التي يوزعونها، ومن بينها كتاب، قال بأن الكتاب غير مهم، وأعطاني الكثير من المطويات. سألته لماذا الكتاب غير مهم؟! قال بأنه يعطي تفاصيل محشوة لا داعي لها، مع ذلك لا يطلب الناس غيره، وقلدهم بطريقة ساخرة وهم يطلبون الكتاب، وأضاف بمرارة: رغم أني لم أرهم يهتمون بالكتب الحقيقية!. ما أكثر ما ينتقد هذا الأمر، وهو أمر غريب، يبدو لي أحياناً أنه يهتم كثيراً بالصالح العام هنا أكثر من أهل البلد. وبالطبع؛ هذا ليس صحيحاً، لكن اهتمام الناس هنا محصور بنوعية وعيهم وحجمه. سوا أن اهتمامه يظل كبيراً. ناقش معي من قبل سبل زيادة إطلاع الناس على الكتب هنا، وناقش معي خططي العملية التي أخبرته بها، ولاحقاً أرسل إلي مقالات وهو يأمل أن تساعدني لمساعدة الناس هنا.








اليوم الاربعاء، وقد مر سريعاً، وليس حسب الخطة.


في العمل، سمعت زميلي الملتزم الكبير يتحدث منتقداً من اسمهم سعد، وهو أكثر اسم متكرر في قسمنا من العمادة، إن لم يكن في كل العمادة. كان يحاول إغاضة صديقه وزميلنا، ملتزم آخر. أنا أعلم عن وجهة نظره، نصف الجدية؛ إنه يعتقد أن من اسمهم سعد غالباً ما يكونون غريبي أطوار.
لاحقاً، وقفت بينه وبين زميل آخر، وهم على مكاتبهم، وسألته عن وجهة نظره تلك، التي أعرفها مسبقاً، لبدء محادثة فقط. أخبرني، أو بالواقع أخبرته. سألني إن كنت أوافقه؟ قلت ربما، وأوضحت أني بالأساس لا أحب اسمي، قلت بأن اسمي كان يجب أن يكون سعود. تسائل قائلاً بأن سعد اسم جميل، واجمل من سعود. هو أول من يعتقد أن هذا اسم جميل. ثم قال "لنناديك إذا بالكنية، أنت أبو ماذا؟" وهذا أمر أسوأ من اسمي برأيي. قلت له بأني لا أحب هذا، فليناديني باسمي فقط. أصر، وألح لأخبره أنا أبو ماذا؟؟. لما رفضت الاستجابة، قال وهو يعمل: "أجل نناديك أبو شكيب؟".
أنا: أبو شكيب؟!.
هو: "ايه، أبو شكيب!! وش فيه شكيب؟ شكيب اسم جميل.." ثم بدأ يسترسل بذكر أشخاص تاريخيون.
قاطعته بضيق: لحظة طيب، ليش أبو شكيب؟!
هو: عشان يعني شكلك سوري (هذا أبعد ما يكون عن شكلي، لست أبيضاً مثلهم، كما أن شكلي مختلف).
أنا: شكلي مهوب سوري، وين.
هو: شكلك سوري والا اسباني؟.
أنا: لأ!
هو: الا شكلك سوري والا اسباني؟ اسباني؟
يضايقني حينما يطرح الخيارات التي يراها ملائمة فقط لما يريد. وهو دائما ما يشبهني بأجناس جديدة في كل مرة.
أنا وقد هالني بُعد الخيارات: لا، لا شكلي هذا ولا هذا.
هو: أجل؟
أنا: شكلي قصيمي..
هو: بس لونك ابيض.
أنا: مهوب كثير، وكثير من القصمان ألوانهم فاتحة.
هو: مهوب كذا.
أنا: إلا.
هو: يمكن أهل الرس بس.
لا أكذب إن قلت بأني أتمنى أحياناً لو لكمته أو خنقته في مثل هذه اللحظات.
أنا: لا، اسأل فلان. 
أدركت خطأ اختياري متأخراً، فذلك الفلان فاقد للتركيز.
الملتزم الكبير: هذا أبيض؟! مفارقه.
أنا: مهوب هو... صح يا فلان واجد قصمان ألوانهم فاتحة؟
وقف ذلك الرجل ليبدأ محاضرة غير ذات علاقة: الأكل هو اللي يخلي الشكل حلو، الأكل الصحي، يخلي الواحد أبيض ووسيم.
الملتزم الكبير: لا؟ الأكل الصحي؟ وش تاكل يا سعد؟
أثار الأمر حنقي، قلت: ليش؟ بتكتب لي وصفة؟
كان الأجدر أن أسأل إن كان سحدد لي حمية.
هو: لا، عشان ناكل مثلك!
أنا: هاها.
ثم بدأ النقاش يسوده هرج ومرج، وباتت وجهات النظر الغريبة وغير المعقولة تتوارد. لكني ابتعدت سريعاً، قبل أن يجرفني النقاش الذي بدأ اعتباطياً أصلاً.
قبل يومين شبهته بدمبلدور، الساحر الكبير ذو اللحية مع هاري بوتر، ولحقني ليضربني بعدما علم أنه ساحر خيالي. ربما حسبه مثل اؤلائك الذين يجمعون الأظافر والشعر.
أحياناً يقودني للجنون حينما يعاملني بطريقة غريبة، طريقة تشبه تعامل المرء مع أطفاله. حينما أقول ما لا يعجبه، يرفض إكمال النقاش وهو يقاطعني قائلاً بصوت مداهن: طيب قل آسف! طيب أول قل آسف؟.
كنا أصدقاء على نحو أقرب بالسابق، لكني قلصت العلاقة، وكنت قد حكيت كثيراً عن الأمر في المدونة. لكني لنت مع الوقت مع تغيير أسلوبي تجاهه، بحيث أميل إلى إقلاقه من وقت إلى آخر، رغم أن الأمر يعجبه إلا أنه يخيفه بنفس الوقت بوضوح. أخبرته كذا مرة بصريح العبارة بأن هذا الأسلوب الناجع معه، أن يقسو المرء عليه، فيتحسن اسلوبه هو بالتالي. وهذا ما يحدث؛ لقد تحسن أسلوبه، ولم يعد يقوم بما يثير احتجاجي سابقاً. أعتقد بأني علمته أمراً، أو أعطيته درساً. أتمنى أن يكون قد قدر الفائدة.




وبذكر السوريين؛ قبل فترة ألقيت السلام عند المصعد، ولم يكن هناك سوا دكتور سوري مسن، ممن يلبسون مثلنا. لم يسمعني. حينما مر شخص آخر، سلم الدكتور عليه، لكن الرجل لم يجب. سألني الدكتور السوري لماذا الناس لا يجيبون السلام أو لا يسلمون، قلت بأنهم ربما لا يسمعون لانشغال بالهم أو لا يعطون الأمر أهمية. فابتسم وكأنه أمسك بي متلبساً، وقال: طيب أنت ليش ما سلمت؟ قلت بأني سلمت، قال بأني لم أفعل، فحلفت، وقلت لكنك لم تسمع. قال: إذا هيك، تستاهل مكافئة. وقال بأن معه حلو ودس يده في جيبه يبحث، فمددت يدي بانتظاره. وجدها ووضعها في يدي الممدوده، حلوى ليمون، وفككت الغلاف ووضعتها في فمي مباشرة.
أتمنى أن أجده وأن لا ينتبه لسلامي مرة أخرى، وعسى أن يكون حمل الحلوى عادة لا يتخلى عنها.


هذه قصة قصيرة كتبتها قبل سنوات، ونشرتها في مدونتي القديمة التي لم تعد موجودة الآن.
هي عن الحلول غير المتوقعة، أحياناً لأشخاص لا يبدو أنهم يبحثون عن حلول، إنما يريدون حلاً معيناً فقط. الأمر الساخر؛ أني في ذلك الوقت لم أتعلم من القصة، ولسنوات بعد ذلك.
أرجو أن تستمتعوا بها، ولمن لا يريد قرائتها، فليبحث عن الخط الأحمر في نهايتها ويتابع القراءة من هناك.




تعابير وجه دميم







هكذا خلقه الله، ذلك العبدالرحمن.

طفت ذات ليلة تعابير جميلة ورقيقة تأسر الناظر، على وجه دميم، وأبله، فيما يدعى بالإعجاز الإلهي...

 اليوم هوبعد شهر من توظف عبدالرحمن، بعيدا عن ممتلكات والده طبعا. واليوم أيضا، سيخرج مع أمه، ووالده، ليخطبوا هيفاء، إبنة، إبنة العم. كان والده الوسيم فاحش الثراء يلتفت إلى إبنه طوال الطريق مستمتعا بجماله وسعادته ذلك اليوم. عبدالرحمن دميم، هذا أمر لا شك فيه، ومن يشك فيه، فالامر أدعى أن يشك ببقية الثوابت. ولكنه جميل بعيني والده، الذي يخرج، رغم صرامته الشديدة، بمميزات في ولده يسرها باسما في أذن زوجته البدوية البسيطة، أم عبدالرحمن.

هيفا، يا جنى العمر ومناه     لفّا، تبز القمر في حلاه

كان عبدالرحمن جميل الروح، وينطق كثيرا بلسان قلمه بهكذا شعر، في دفاتره السرية. لا ينفي هذا بأنه ولد سطحي جدا رغم اطلاعه وتعليمه الجيد، وساذج جدا، رغم صرامة وحنكة والده.

كان يتذكر هيفاء قبل الغطاء. كانت أجمل الفتيات، وأرقهن،،، وأكثرهن عصبية. ولكنها كانت تلجأ إليه كثيرا حين اللعب، وكانت تخصه بمميزات ياما وياما تعرض لاضطهاد منافسيه من أجلها. كانوا أطفالا بالطبع، ولكن ألا يولد الحب مع المرء؟ هكذا كان يحدث نفسه، منذ أن أسر إليه صديقه القديم: ماذا لو نسيت هيفاء كل هذا؟ كان صديقا حكيما بالطبع، ويخاطب عبدالرحمن حسب مستواه الفكري كي لا يجرحه، ولكن كمصير جميع العقلاء في حياة عبدالرحمن، كان التشكيك والإحباط سبب كاف لإيقاف صداقة عند حدها باختلاقه أسباب أخرى للتمويه المكشوف. لم يمنع هذا أبدا، تلك التنهدات القائلة:" آه... الله يذكرك بالخير يا مساعد". ألم أخبركم بأن قلبه طيب؟ حتى أنه لم يخفي عني سر هذه التنهدات الصغيرة. ولم يخفي عني سر وعد هيفاء بالزواج مع تلك القبلة الصغيرة خلف الباب الحديدي أواخر أيام الطفولة، ولكني، ويا للندم، كنت نصف أذكى من مساعد، فلم أتكلم لألا أطرد من حياته، ولكن بالمقابل، لم أسعى إلى أن أكون مخلصا، نصف ما كان عليه مساعد. " والله انه دميم مساعد، لا ادري على أي أساس يحسب نفسه وسيم" علق هكذا عبدالرحمن بعد مدة قصيرة من اختفاء مساعد، لم يكن مساعد يقول بأنه وسيم، ولكن غيرة عبدالرحمن المسكين أدركت هذه الوسامة بذاتها. عفوا، ليست مواضيع جديرة بأن يتطرق إليها رجل شارف على الأربعين، يفترض بأنه فقد اهتمامه بالشكليات إلى حد بعيد، كما أنها لا تعطي صورة حقيقية عن عبدالرحمن، أرجو السماح.

ما كان من الأمر، هو أن الرفض جاءهم باليوم التالي. في تلك اللحظات الغامقة، كانت ملامح والده الوسيمة، تنطق بكل تعاطف العالم مع ابنه الساذج، وكان جسده المرتخي، يكذب صورة ذلك الجسد الصحيح المشدود المعتاد، نعم، حتى أجسادنا تعبر بهذه القوة، لقد رأيت هذا بنفسي. بيد أنه لم يكن من قلة الحصافة بأن يقسم على تزويج ابنه أروع الفتيات، أو أن يعوضه بفتاة أخرى. لم يكن ممن يصطدمون مع حقيقة الزمن، وتأثيره إن لم يأخذ مجراه الصحيح. لم يذهب عبدالرحمن إلى العمل حتى فصل. كانت أخته غير الشقيقة من السذاجة أن حاولت أن تجعله يكره هيفاء بعد رفضها له. أخبرته بأنها أسرت لبقية الفتيات بأنها لا تريد أن تتزوج رجلا ضعيفا، يعيش تابعا لوالديه، وفوق هذا، دميم جدا، فهي لا تريد أن تورث أبناءها أنوفا بهذا الحجم. لم تكن تقصد أخته التي تكبره أن تجرحه، فهي قد جرحت عندما علمت بكلام هيفاء الصغيرة حتى خرجت من المناسبة التي جمعتهن وبكت بمرارة، وعادت بلا عشاء والحزن يقتلها بمهانة أخيها الحبيب، ولكنها ظنت أن الحقيقة ستكفي ليكره هيفاء... ويا إلهي، كم كره ذاته...

"لماذا أنفي بهذا الحجم؟" "لماذا أنا لا أشبه والدي؟ أو حتى أمي؟" كانت هذه هي أول مرة يتنبه فيها عبدالرحمن، أنه كان من الأجدر به حسب ما يتخيل لو كان يشبه والده، فهو لم يقارن بين الشكلين من قبل، لأن والده جزء منه حتى هذه اللحظة. أما عن تأجيله لشبهه بأمه، فأولا لأنها ليست أجمل من أبيه، وثانيا، أن أشباهه جاءت من طرفها وإن لم يكن مثلها لسوء الحظ، فقد صار نسخة من أخيها.


كانت والدته تدخل عليه الطعام وتجلس إلى جانبه على سريره  وهي تواسيه بأمور غير ذات صلة، بلهجة بدوية رفضت أن تتخلى عنها. بينما زارتهم اخته من بيت زوجها كثيرا، وجرحه لأول مرة بحياته، ان أحضرت له هدايا طفولية من الحلويات رغم أن هذا ما تفعله في كل مرة تزورهم بها بالعادة حتى آخر مرة قبل اسبوع. تودد إليه والده مما نكأ جرحه الخفي أكثر. أخبره بأنه يحتاج إلى من يدير بعض المعارض التجارية. ولكن كان رده الساهي والساذج أكثر من صفعة لوالده الذي حبس أنفاسه... " أريد أن أخضع لعملية تجميل". شرح له كل من يأبه حرمة هذا الأمر حينما لا يحتاج إليه المرء، وأن جمال روحه وأخلاقه هو ما عميت عنه تلك الحقيرة كما قالوا، وإن لم ترى هذا، فمن الأفضل أن لا يفعل شيئا آخر لتراه، فهي لم تعد تستحق. أخبرني بكل هذا، واستنتجت التفاصيل بنفسي. فضلا عن صداقة أختي وأخته المتأخرة، سآتي على ذكرها لاحقا. أطلعني على الأمر، فرفضت قطعا، ويبدو بأن غضبي من مجرد فكرة أن يغير شكله قد رفع من معنوياته، فلم أستند على الأساس الديني لأني لاحظت بأنه لم يعد يهتم كثيرا للصلاة حتى، ولكني أخبرته بأن جماله الروحي هو أكثر أنواع الجمال بريقا مما شاهدته بحياتي، وأن من يرى هذا، لا يأبه بالصورة، لم آت على ذكر هيفاء طبعا، مما أعطاه الأمل بالناس الآخرين.

ما استطعت أن أقنع به صاحبي المنطفئ لاحقا، هو أننا بإمكاننا أن نخرج للدراسة قليلا بالخارج، فلتونا تخرجنا تقريبا، أنا ثري، وهو ثري، فأين المشكلة؟ كان الأمر بالغ التعقيد إلى درجة تدعو للحنق ثم البكاء، فمجرد ذكر أي شيء، أي شيء على الإطلاق، يذهب عقله إلى هيفاء الحمقاء، ليخبرني بأنها ليست ثرية، ولا يدري بأي مستوى ستعيش لو لم تتزوج من يستحقها. أعتقد بأن قلوب حمقاء كهذه، يشترك بها العقلاء والأغبياء لو قدر الله، فلا شأن لها بمقدار الذكاء.

خرجنا، ودرسنا، كانت من أجمل سنوات العمر حقا. ولا يجدر بي التكلم عن حياتي الخاصة، وكيف افتقدت أصدقائي بالوطن، وكيف افتقدت أمي وأختي الوحيدة، وكذلك أخي صعب المراس بعيد القلب، ووالدي الطيب. لا يجدر بي حتى التكلم عن المغامرات التي يجترها الشوق، فهذا قد خصصته لعبدالرحمن، ولن أشاركه فيه.

عدنا بشهادات الماجستير. كانت المعاهد الحكومية تريدنا. كانت الرواتب عالية. ليس وكأننا نحتاجها حقا، فيمكننا التبرع لهذه المعاهد، ولكنه أمر يشيع الفخر بالنفس أن يحتاج إليك الآخرين إلى هذا الحد. لن أسهب بشرح الأسباب، ولكن رفض عبدالرحمن العمل... لقد تزوجت هيفاء حين عدنا.

ما علاقة هيفاء بالأمر؟ كان حتى لن يتقدم للزواج منها. اقترحت هيذر، صديقتنا الصدوقة في أمريكا، أن يعود ليتزوج هيفاء، فقد كبرت بالتأكيد وتفهمت الحياة. ولكني وبختها لاحقا. وأخبرتها بأن هيفاء مهما كبرت، تظل إنسانة حقيرة ومما يجرح الكرامة أن يعود إليها مرة أخرى خاطبا. لم تفهم هيذر، ولكنها تفهمت. مع أن ردة فعلي كانت أقوى، ولكن ردة فعل عبدالرحمن كانت أبلغ، حيث قال لهيذر" لقد كانت قصة وانتهت عند ذلك الحد، لا أريد حتى أن أختبر قواي العقلية مرة أخرى." بالتأكيد، كان إدراكه للأمور وذكاؤه قد زادا كثيرا.

لم تعد علاقتنا كما كانت. لقد صار عبدالرحمن منعزلا. رغم أني حين أزوره، أو حين لا يتعذر بكذبة حين أعرض الزيارة، كان يضحك ويتبسم. وكان وجهه ملؤه النور. كذلك، سلمت على والدته، كانت قد صارت عجوزا أكثر في ظل الثلاث سنوات التي قضيناها بالخارج، الشوق يعجل بالشيخوخة. اما والده، فكان من الناس الذين يزدادون بهاء مع العمر. صار رجلا لينا، رقيق الحاشية، سريع التأثر، وقوي التأثير كذلك. لو كنت يا عم أكثر شبابا، وبهذه المشاعر بنفس الوقت، لاختطفتك هيذر الحالمة. لم أتجرأ طبعا بنطق مثل هذا القول علانية.

أكثرنا الضرب على الحديد. زادت زياراتي. وكانت هيفاء حاضرة بلا حضور، وكأنها مؤامرة خفية حيكت ضد عبدالرحمن، حاكها أناس خفيون أيضا، أو لا وجود لهم حتى.

رغم ذلك، قاومت هذا الأمر، وبدأت التحدث كرجل كبير متزوج، إذ كنت قد تزوجت حقا. وماذا يمنعني؟ أخبرته بأني لم أعرف زوجتي قبل الزواج، ولكني اخترتها بطلبي لفتاة لها كذا من الأوصاف، وحتى هي اختارتني بنفس هذا المبدأ. كانت لدينا قريبة مطلقة. لا أعرف عنها الكثير شخصيا. ولكن أختي المتعاطفة كانت تتحدث دوما باقتراحها على صاحبي كزوجة. لم تجد استجابة، وهي من ذوو القلوب الرحيمة، قررت أن تحيك الأمر بنفسها. لم يطل الوقت حتى بدأ الأهل بتبادل الزيارات العائلية، رغم أنه من غير المستغرب أن زوجتي، التي ليست على وفاق تام مع أختي، امتنعت عن تكرار الزيارات الودية من بعد أول مرة. لم يطل الوقت حتى أصبحن الأختين، أختي وأخت صاحبي، صديقتين. بيد أن مساعي أختي في اقتراح تلك القريبة، لم تفلح إذ رفض عبدالرحمن الزواج جملة وتفصيلا. كان الزمن يتقدم بنا، وكنت أعيش قلقا لا يعيشه عبدالرحمن.

جميل أن صارت العلاقات العائلية بهذا العمق. فصار عبدالرحمن أكثر انفتاحا لما أطل بشكل أقرب على اختلاجات الناس الاجتماعية. صار يكثر التحدث. ولكني لم أكن أكف عن لوم نفسي بعد كل جلسة، بعد أن اعتادت عيني على الجمال أينما أكون إلا بحضرته. لقد فشلت أنا للأسف أيضا، أن أركز على الجمال الروحي الذي أنادي به. ليسامحني الله. كان ينظر إلي وهو يتحدث باسما عن أحداث دواماته القصيرة في محلات والده. أحداث صغيرة وسخيفة، أكثرها عن تبادل النظرات بينه وبين الناس فقط، وما يأتون به من ردات فعل، وما يفعلنه بعض اللعوبات. ولكني كنت أنسى نفسي كثيرا، فأبحر بعظمة أنفه، وعمق عينيه، أو لنقل محاجر عينيه لقول الحق، فكانت عينيه خاليتان من العمق حينها، ولكنهما عميقتان كخلقة، صغيرتان كالمسامير، ربما بسبب حجم أنفه. كان فمه صغيرا ومتجمعا بنقطة دائرية، مما يجعل وجه المسكين يوحي للمرء برؤيا مخجلة، تجعل وجهه مجرد " كيلون"، أو مقبض باب بسبب أنفه الشبيه بالمقبض، ووجهه الطويل الممتد النحيف، وفمه الصغير كمكان ثقب المفتاح، وعينيه اللتين لا يقام لهما اعتبار. ولكني رغم كل هذه الدمامة، لم أغفر أبدا، لتلك اللعينة المدعوة هيفاء. وكأن الله قد أراد الجبر بخاطري، تطلقت هيفاء.



مرت سنوات، أحداث كثيرة جرت بحياتي، وأنا لا زلت أعيش بصبيانية. ولكن ما يعنينا هنا، هو الجانب المتعلق من حياتي بحياة عبدالرحمن. لن أجعل أنانيتي تقودني إلى التحدث عن مأساتي الشخصية.

ولكن سيسعدكم بالطبع أن تعلموا بأن عبدالرحمن صار يزورني. ويداعب أطفالي. خرجنا ذات شتاء نتمشى على أقدامنا في الشوارع  المبللة، في باكورة أمطار ذلك الموسم. عدنا إلى بيتي جريا، ونحن نضحك ونتمازح، ونخلع القبعات الصوفية الشبابية في ذلك الممر الداخلي لمنزلي ونلقيها أرضا. كانت لائقة علي، لأني أبدو أصغر سنا، ولكن بالنسبة لعبدالرحمن، فلا شيء يليق عليه على ما يبدو. جعلت أتأمله وضميري يؤنبني. " لا يتعلق الأمر بالشكل، إن خاله يعيش حياة يتمناها الجميع، وهو محبوب" هذه المرة أنا حادثت نفسي وأنا أتأمل تلك المواسير التي تسمى جسدا تتخلص من ملابس الفراء والقفازات الثقيلة. نظر إلي فجئة، وبقينا ننظر إلى بعضنا. لقد انقطع حبل أفكاري، وأضعت حتى شعوري السابق. ولكنها كانت فرصة نادرة، يعبر فيها ذلك الوجه الدميم بتعابيره الجميلة، التي أفتقدها منذ زمن، دون أن يتكلم. كانت نظرة عميقة. تشبه سؤالا يوجهه عبدالرحمن، ليس لي، ولكنه يوجهه للحياة كلها، سؤال يقول: وماذا بعد؟. كانت لحظة يائسة، وجمال حزين يقطع نياط القلب. وبدت مشاعره واضحة المعالم لأول مرة منذ زمن طويل، تماما كجسده الذي بان هزاله بعد انتفاخ الصوف. شعرت بشعور غريب يتملكني. شعرت بأني أريد أن أواسيه، أن أعيش معه مأساته. شعرت بأني مذنب. لأن حياتي تخلو من هيفاء. كنت أعلم بأن جميع قصائده الرمزية موجهة لها. بدا لي في تلك اللحظة بأنه يقارن بين كل شيء في عالمينا، يقارن بين حظي وحظه، شكلي وشكله، حياتي وحياته، سخرتي له رغم تفوقي، وسخرته التي ليست لأحد، كان ملك نفسه تماما، وهذا ما يجعله يمتلك الآخرين أيضا. قطعت الصمت بنوع آخر من الصمت. ابتسامة حاولت أن تكون بريئة. ولكن حتى  فمه الذي كان مشدودا ارتخى بتعبير ناضج لم يكن يقدر عليه من قبل، وكأنه يقول: أنت السبب. إلهي ارحمني من هذا العذاب. لقد نضج أخيرا، هذا ما كنت أتمناه، وما كنت أخشاه بذات الوقت.

لاحقا، أخبرتني أختي، التي صارت تدعى في مناسبات بيت عبدالرحمن النسائية، أن الحديث يدور عن بحث هيفاء عن زوج للستر. لم أخفي ضحكتي بكل خبث. ضحكت بتشف عجيب. انتصرنا. أخبرت أختي بأن الحقيرة تستحق الطلاق، مؤكد أن زوجها اكتشف ما يغلفه جمالها من دناءة. لكن نظرة أختي كانت تقول أمرا آخر. لم تشأ الإفصاح عنه. ولم أشأ السؤال. ذلك أن الإجابة حتما ستقضي علي.

" حبيبي عبدالرحمن، هل أنت متأكد بأنك تريد هذه المرأة؟"
" هي تريدني الآن أيضا"

ذهب كل العمق الذي بناه الحزن. كنت أخاطب طفلا يلعب مع طفلي على سجادتي في مجلسي وعند أقدامي.

" لكن، ألم تثبت... أعني، ألم تتعلم من التجربة؟"

لا أخفيكم، بأن قلبي كاد أن يتوقف لأسباب كثيرة. أولها أني لم أسال ضميري هل هذا ما تلزمني الأمانة بقوله؟ وثانيها، أني تذكرت مساعد. بيد أن الرد جاء كتنهيدة، وكلمات مصفوفة بافتعال.

" وماذا أفعل يا سلطان؟ العمر يجري بي جريا. لم أعد صغيرا. وأريد أن أنجب أطفالا"
" أستطيع أن أجد ألف فتاة تتمناك يا صاحبي، فأنت شاب ومثقف، رجل بمعنى الكلمة"
" وماذا يضر لو تزوجت من احببت؟"
كانت لهجته هنا أكثر انفعالا، علمت بأن حدودا قد بدأت تنشأ.

" إذا على بركة الله، متى ستذهبون لخطبتها؟"


خطبوا المرأة. وكانت أيام مليئة بالتمتمات المحتقرة والغاضبة بالنسبة لي. فكما تعلمون، لم تصادق أختي أخت عبدالرحمن فقط بعدما تطلقت هيفاء، كانت أختي تعرفها، وتعرف تشفيها الحاقد بحالة عبدالرحمن لتغيض أخته. وهاقد عادت السافلة تستجديه، هو من أخفينا جميعا بتواطؤ خفي معرفتنا لموقفها منه قبل طلاقها بأيام، بأيام بلا مبالغة.

طرق بابي عبدالرحمن بعد أسابيع من إزعاجه بحكايات هيفاء وطلباتها، وتدبيره لعرس فخم. لم يطرق بابي بوقت مناسب على أي حال، مما جعلني أتوجس. لم يدخل، ولكننا خرجنا معا. ونزلنا في ذلك الحي المثالي حيث نمشي دائما وهو يرفض الكلام حتى ذلك الحين.

" هيفاء، لقد غيرت رأيها"

لقد فهمت ما قال، ولكني لم أدرك أبعاده، وكأني لم أستوعب بأن قلب صاحبي قد استحال أشلاء نابضة كثوب عجوز فقيرة علق ليجف في مهب الريح. بدأ ينتفض ويكرر ما قاله وهو يمشي. استوقفته ولم يقف. مررنا بالقرب من دكان صغير فحاولت أخذ بعض الماء منه لأسعف الموقف، ليشرب منه، لأرشه عليه، فقد كان يمشي متشنجا، أقسم على ذلك، ولا أدري كيف يكون هذا. لم يتوقف، استمر ولحقته مسرعا لأوقفه قبل أن ينتهي الرصيف. وكأن حياته تحتاج إلى المزيد من الدراما، وكأن حكاية هيفاء الأخيلية تلك تخلو من العجائب وما يشبه الافتعالات من واقع، كانت هناك سيارة تمر. صحت بأعلى صوتي وأنا أجري وكأن سكينا خفيا غرس في بطني حينما ارتطمت به السيارة المنعطفة، ومرت على فخذيه وهو ساقط، توقفت عند هذا المشهد وأغمضت عيناي ومزقت شعري بقبضتين لا أعرفهما بفجيعة. كان رأسه، بفضل ارتباك السائق وميلانه على الرصيف لسبب أجهله، محشور بين إطار السيارة والرصيف، حتى تكاد رقبته أن تكسر. كان مشهدا مخيفا، ومثيرا للسخرية في آن، شأنه شأن كل شيء بحياة هذا الرجل. لا أعلم من أين أتوا الناس، هدأني بعض الأجانب وسكبوا علي الماء وأنا عيناي لا ترفان. أخيرا، بعدما قاموا بالعمل المجهد أولائك الإخوة، نهضت وأدخلت ذراعي من تحت ذلك الجسد المحرر، ورفعته.

بقي الرجل لأسابيع بالمستشفى، ولم تكن زوجتي رغم مشاكلنا حينها، إلا داعمة لي. أرادتني أن أبقى بجانبه طوال الوقت. أعيد هذا  إلى أنها تحبني أكثر من كونها  تتعاطف معه، فعلمها بفشلي بجهات كثيرة بحياتي، يجعلها تتخيل بأني أحقق ذاتي باعتنائي بهذا الصديق المتطلب على ما يبدو. كانت أمه وأخته غير الشقيقة هناك على الدوام بالمستشفى، وكذالك والده كبير الجسم جميل الهيئة، من ينظر إليهم ما كان ليتصور بأن بينهم قرابة سوا حينما يرى التشوه بقدمي الرجلين، من أثر استئصال إصبع سادس. سمعت عبدالرحمن يبكي ويقول لامه:" لماذا حظي كذا يا يمه؟ لماذا حظي كذا يا يمه؟" بصوت أجش وشهيق وزفير، بينما تتواصل الآيات القرآنية من فم أخته.

رأيت خاله كثيرا، وأولاده الكثيرون، الذين يسلمون علي باحترام مفتعل لا يظهر تجاه من لا يعرفونهم. كانت سمعتي تسبقني بتلك العائلة. جلست ذات مرة بالقرب من عبدالرحمن، بينما كان خاله واقفا. كان عبدالرحمن منفعلا أكثر من كونه حزينا لأمر قيل له، أجهله حتى هذا اليوم. قال له خاله: لا تزعل يا ولدي، العوض عندي وأنا أبو هيف!"

رد عبدالرحمن بصوت خافت: " ما نبي لك عوض الله يلعنك"

صدمني هذا القول حتى جحظت عيناي، وحمدت الله كثيرا أن أحدا غيري لم يسمع سوا التمتمات. تعاطفت مع صديقي أكثر وأكثر، بيد أني أرخيت السمع أكثر لأسمع ما قد يقوله عني بصوت أخفت.

بعد أيام، جئت إلى جناحه بالمستشفى مسرعا، إذ أني تأخرت. ولكني شاهدت فتيانا من أقارب عبدالرحمن البدو يقفون بانفعال، بينما يعبرهم طيف عباءة. اقتربت وسلمت، وقيل لي بأن أهله بالداخل فوقفت. سمعت صوتا شجيا، ناعما وصادقا، أعماقه ضاربة بالرزانة، بحيث أنه لولا رنته العشرينية الجذابة، لقلت بانه صوت عجوز فاضلة.

" مساك الله بالخار يا عبدالرحمن"

أعدت ترتيب كلمة الخير، التي نطقتها قريبته البدوية بطريقة أخرى، وأنا أفترض بأن عبدالرحمن هكذا رد، بأن أبدل أماكن ألف وراء " الخار". وانتظرت انفجارا طفوليا. كنت أرجو الله كثيرا أن ينهي هذه الكوابيس منذ أن عدنا من أمريكا، وتزوجت هيفاء. كان هذا هو عوض خاله، وكان عبدالرحمن حسب ما أعرف لا يريد عوضا. ولكني لم اسمع سوا تمتمات تتواصل بين الصوتين. والإخوة يتبسم أصغرهم ويزجره الآخر. خرجت الفتاة، وكانت بحق حتى من خلف خمارها جمالا متجسدا. ولما لمحت هذا الجمال قبل أن أوليها ظهري، بدأت أنظر إلى إخوتها، بالتأكيد بأن الخال الدميم، قد اختار جمالا يكفيه ويكفي كل دميم بعائلته في آن.

أخبرت أختي، التي أخبرتني بأنها تعرف الفتاة. وأمسكت برأسي حينما علمت عن حياة هذه الفتاة كيف تكون. إن شخصيتها قوية. وهي تعمل كذلك، في صيدلية مستشفى. لم تكن بدوية خالصة على أي حال، كان أصلها ولهجتها فقط هو البدوي فيها. والأهم، أنها تبز هيفاء بجمالها وأخلاقها.

لم يكن صديقي يحتاج إلا أن يطلع على العالم أكثر. لم ينفع تعاطفي، لم تنفع نصائحي بالنسيان. ولكن قلبا رقيقا من نوع خاص أدى الغرض في لحظات. بدأ الأمل يعاود الظهور في حياة عبدالرحمن المكابر. وتذوقت في حياتي سعادة لم أشعر بمثلها منذ مأساة هيفاء. لا أبالغ. لماذا إذا انتهت كل مشاكلي، بعدما دخلت على عبدالرحمن، بعد خروج البدوية؟ لماذا نمت ليلتي باسما، أتهامس أخيرا كلمات الحب مع زوجتي العزيزة... أخيرا أدركت بأني أنهيت مهمة صعبة بحياتي، بغض النظر عن كون شخص آخر هو من أنهاها فعليا. اطمأننت على حياة شخص اعتمد علي كثيرا ليعيش فقط، كمجرد علاج، حتى يدخل الشفاء ساعيا إليه من حيث لم ندري، في غرفته بالمستشفى. الحمد لله بأن السيارة صنعت به ما صنعت، الحمد لله أن ذلك الموقف لم يعد يحبس أنفاسي حين أتذكره، لقد اكتشفت أن مأساتي هي أني  لم أنظر إلى البعد الكافي، في حين كان يجب أن أنظر من أجل نفسي، ومن أجل عبدالرحمن، أعمى البصيرة، حتى يجد من ينظر من أجله.



يؤسفني أن قلبي رغم كل الأحداث التي جعلت منه هشا، لا زال على جانب من السواد. لا زلت أتساءل دائما، هل سيعاقب الله هيفاء؟ هل لعبدالرحمن حق عليها؟ أم أن الله فقط شاء أن نكون أشقياء حتى أجل مسمى؟ تزوجت هيفاء على أي حال. وعاشت بسعادة هي الأخرى رغم كل دعواتي. ولكن حسبي من كل هذا الأمر، أن الله استجاب دعواتي لأكون وصديقي وكل من نحب سعيدا. أليس السر إذا، في شرط : كل من نحب؟ قلوب كقلب عبدالرحمن لا تكره، إنها كقلوب الطيور، لقد كان خطأ بلاغيا إذا بدعائي، ولكن لعل حكمة الله قد اقتضت هذا الخطأ، فاليد التي كتبت كرهي لهيفاء، قد كتبت محبة صاحبي لأكثر من امرأة.


تمت.
_______________________________________



كم أشعر بالقهر والحزن حينما أقرأ عن فضائع شنت ضد مسالمين في حروب غير عادلة. ما أخس الإنسان إذا ما أراد هذا؛ إنه أخس من الحيوان في بعض الأحيان، ولا ينفع أن الله سبحانه خلقه بالأساس أكرم مخلوقاته، فهو يصر على الإنحطاط.
أعلم أن الحروب ليست لعباً، وهي بكل الأحوال مؤلمة. لكن، لها أخلاقيات، على أن الأمر السائد هو تجاوزها. ورغم أن المسلمين كانوا دائماً لديهم الرادع في دينهم، إلا أني أتسائل أحياناً إذا ما كنا سنختلف عن سوانا مع ضعف ديننا في أنفسنا، وسوء فهمنا له في الوقت الحالي.
قرأت عن أمور مؤلمة كثيرة، في أماكن مختلفة من العالم. لكن؛ تتعدى الوحشية مستوى إدراكي، وتجعلني أتسائل إن كان بعض البشر بالواقع شياطين.
ما البشر؟ هل يعتمد هذا على ما يقومون به، أم أنه مجرد تصنيف علمي.
أمور كثيرة فضيعة قرأت عنها، ولحسن الحظ أن المسلمين لا علاقة لهم غالباً بهذه الفضائع إلا اللهم حينما يكونون الضحايا.
قرأت اليوم عن ما فعله اليابانيون حينما اجتاحوا العاصمة الصينية في وقت من الأوقات، نيانكينق. كان القادة يقيمون المنافسات فيما بينها أيهم أول من يصل قتلاه إلى مئة في وقت معين. والأسوأ، هو البحث عن الإناث من باب إلى باب لإغتصابهن وقتلهن، وقلت الإناث لإن الأمر تم بحق جميع النساء، في فعل هو أبعد في شروره من غريزة حيوانية بلا رادع، تعدى الأمر هذا. فلم يفرق بين عجوز طاعنة ورضيعة تشق لتوسع فيتمكنون من اغتصابها. ثم تطعن الأنثى في منطقة العفة بعد الانتهاء منها بحربة أو أي أداة تصلح للأمر، وتولج فيها القوارير. ومن يعترض أو يتحدث فهو يقتل مباشرة. في الموسوعة صورة قديمة لفتاة مقتولة بهذه الطريقة الخسيسة والمتوحشة.
كما لم يسلم الرجال من الاغتصاب.
وليس وكأن المسلمين لم يعانوا الأمرين في ذلك البلد، فهو مليء بهم تاريخياً.
تسائلت بعدما قرأت وقلبي يعتصره الألم؛ هل قنبلة أو حتى قنبلتين ذريتين هما أسوأ ما قد يواجهه الناس؟. ليس أني أقلل من معاناة الأبرياء في اليابان من تلك القنابل، لكن الأمر يدعو للتأمل...
بيد أني شعرت بالفخر بالمسلمين هناك، خصوصاً في الحرب التي شنتها ثمان دول على الصين الامبراطورية، ودافع المسلمون عنها ببسالة وشجاعة يصعب تخيلها. وكانت الخيانة من قائد غير مسلم. كاد المسلمين أن يدحروا الأعداء، وكان الأمر ممكناً.
أنظر إلى وجوه القادة المسلمين من هناك، صورهم الجميلة بلحاهم الفاضلة وملامحهم المغولية، فأرى نبل لا تخطئه عين.
ولكن ما تركني في حيرة هو استجابة السلطان عبدالحميد الثاني لألمانيا، التي طلبت منه أن يقنع المسلمين بالتوقف عن المقاومة، فاستجاب وأرسل مرسولاً، ولكنه وصل بعدما انتهت المقاومة بفضل الخيانة. لماذا؟ ماذا كان الدافع؟ ما السبب بالضبط؟. أتمنى لو عرفت.
المفارقة المؤلمة هي أن أفدح عمليات الاغتصاب المنهجي تمت على أيدي الألمان والروس، وكانوا من بين جنود تلك الدول هم من يطعنون النساء بعدما يفرغون منهن.










كنا أغرار وأبرياء...
حينما كان كل الناس لنا أصدقاء...
والقلوب نحسبها لا تنكسر...
والحب بحر لا ينحسر...
واليأس بركان لن ينفجر...
والعصافير أطفال...
ربما يزورون الجنة كل فجر...
والناس حنونين...
كلهم طيبين...
حيث الأشرار بقوا فقط بين طيات كتاب...
ما بين ساحرات وذئاب...
والأماني تستبدل وتغسل كالثياب...
والأحلام الساذجة لا تستعاب...
ولا تكلف شيئاً...
إذ كان العيش بالقليل قد طاب...
ثم مع الأيام صار القليل علي كثيراً...
وبعدما كانت القلوب تسع الجميع...
صارت تحية من غريب معروفاً جزيلاً..
وقد كانت الأحزان تغسل بالبكا...
والآن لا يتذكر المرء آخر مرة بكى...
إذ صارت الأيام كالسنين...
والحياة دوماً كدر وشقا...
لا شيء يستحق النحيب...
ولا حتى وداع يائس لحبيب...
إذ صار الأمر سيان...
وبعدما كنا نبحث عن النسيان...
عرفنا أن الآخرين نسونا...
وفي خزائن وعيهم القصية تركونا...
نأسف في العزلة على أحلامنا...
ثم ننسى بالتدريج طموحاتنا...
ثم نتساءل إن كنا في يوم قد كنا...
أم أننا في النسيان وُلدنا...
وبذات اللحظة فيه دُفنّا...






سعد الحوشان