الأربعاء، 17 أبريل 2019

عُمرٌ في حلم (المعتاد،قصة قصيرة،قصائد)


بسم الله الرحمن الرحيم











الهشاشة، مفهوم واسع ومتشكل، إلا أننا نلقيه بلا تفكير لوصف المواقف على نحو بسيط، صابغينها ببعد واحد. يجد المرء نفسه هشاً على نحو مفاجئ، وعلى مستوى جديد، وذلك لسوء حظ واجهه، فيدرك بُعد الهشاشة وخطورتها. إنها قعر عميق، قد يحاول بعض العرب انتشالك منه في تلك اللحظات. بيد أنك لا تدري؛ بماذا يفكرون؟، في هذا المجتمع القائم على القوة والتماسك والإيمان الراسخ، ورباطة الجأش. لم أخجل يوماً من هشاشتي ودموعي، مع ذلك، وجدت نفسي قبل فترة في مواجهة المجتمع مباشرة، في عرض حي لمدى هشاشتي وضعفي. لا يخجلني هذا، لكن مع ذلك، يزيدني هشاشة؛ لأني اكتشفت بأني بعيد عهد بالمجتمع، والآن أصنع عن نفسي صورة قد لا يحب المجتمع رؤيتها في شخص مثلي.






أتجمع في زاوية من نفسي…
كمنبوذ مُلوَّع…
أتذكر جفاف عينيك…
وقلبي يتألم إذ يمسح عليها الطبيب ليتأكد من وفاتك…
كان أملي حياً قبل تلك اللحظة…
يتألم قلبي إذ لم أدرك، في أي لحظة فارقت الحياة؟…
هل آذيتك بضغطي المحموم المُروَّع على صدرك؟…
هل كسرت شيء من أضلاعك وأنا أريد لك الحياة؟...
هل كان الألم آخر لحظاتك؟…
هل سأعيش متسائلاً...
تلك اللحظات، إذ لم أفهم المكينة وهي تقول لا حاجة للمحاولة…
إذ رجوت أنها تقول بأنك حي...
صدمتي وأنا أحاول التماسك…
صياح أخي الذي لم أسمعه منه قبلاً…
ركضي سريعاً إذ فطنت لأمي...
من حضن الخادمة الباكية أخذتها…
وتحاضنّا ننتحب ونبكي…
تعزيني تارة، وتارة تسألني…
هو راح؟…
خلاص راح؟…
لازمت أمي…
قالت من لي الآن؟…
قلت أنا لك،، أنا لك…
قالت لي الله…
حتى لم أعد أرى، من حضن صبي إلى حضن آخر…
قبلة مواساة من أخ لا يُقبل…
مواساة من كنة لا تدري من تترك…
ومن تواسي...
مهدئين من روعي…
حتى جاء عمي…
إذ وقفت واحتضنته وبكينا…
لم يعد لك شقيق الآن…
ظللت اتردد باكياً، أقبل وجهك... 
فأشفق وأعود...

قبلناك بعدما غسلوك...
عجزت عن الوداع...
أعود وأقبلك...
ما أبرد الموت... 
ما أقساه...
إذ سد الطريق من خلفك...
وما أرحمه... 
كفاك المعاناة...
وأراحك...
حياة طويلة...
ما بين شقاء وجوع... 
وجفاف...
وتعب وقسوة ووحشة... 
عملت من عمر الرابعة... 
ولم تسترح حتى أجبرت...
لم أفهمك سوى متأخراً من عمري...
لماذا الشقاء؟... 
عَوَضك الجنة... 
فإن لم تكن لمثلك فلمن... 
لزمت المسجد والمصحف...
وعطاء المساكين...
وبر خالك المسن...
وعانيت منذ نعومة أظفارك... 
لم تعش حنان أمك... 
ووالدك الضرير المُعنى ليس معه بعد الله غيرك...
رحمكم الله جميعاً... 

حسبتني تماسكت…
إذ ذهبت إلى المسجد...
قلبي يعتصر ألماً وخوفاً...
اختبأت عند عمي... 
ورفضت أوامره بأخذ العزاء...
لم يُدرك غريزتي...
إذ فجأة ارتددت طفلاً...

ذهبنا إلى المقبرة...
ولا زلت أحسب نفسي مؤمناً قوياً...
حتى همس بأذني أحدهم...
أن اصبر واحتسب... 
وكأنما لتوي علمت... 
أنك توفيت...
زاغ بصري...
وراعني حملهم لك...
هل حقاً مات؟... 
عجزت عن الوقوف... 
نمّل أخمص قدماي... 
صعوداً حتى خصري... 
ظننت بأني شللت...
لم أعد أشعر بأسفل جسدي...

عَطَف من عَطَف... 
وقسى وأشار مزدرياً...
ونادى ربعه وكأنه عيد...
ولم يكن والده بخير منه...
ما كدنا نصل منزلنا...
فيسخر إذ يرشف الشاي أمامي...
مبالغاً بلا مبالاته لقهري...
إذ التقت عينينا...
هل فقيدنا واحد؟...

أخطو الهوينا…
واسحب الباب بهدوء…
أخشى إزعاجك...
وكأنما لا زلت نائماً في مكانك…
أنسى وفاتك…
فأقف عند الباب قبل الخروج مصدوماً…
وقد مر نصف عام على غيابك...

يفرغ من الدم قلبي...
إذ اتذكرك باليوم مئة مرة…
وأدرك أنك غادرت وأُقفل الباب...
أنا لك يا أمي...
ولنا الله...









سر لا أخفيه حينما يرد ما يذكرني به، ولعلي كشفته ذات مرة هنا، ويجده الناس طريفاً دائماً، لكنه بالواقع لا يستحضر في ذهني سوى ذكريات بائسة، وخيبات أمل، وإن ابتسمت وأنا أحكي عنه، إلا أني في داخلي أشعر بالإنطفاء. إن أذني تتحرك من تلقاء ذاتها حينما أفاجأ بصوت مميز، أتوق إلى سماعه، خصوصاً حينما التقطه من بين أصوات كثيرة، كما حينما أكون في زحام، ولكن حتى عند الهدوء، حينما يكون بعيد عن ذهني، وتوقعاتي. في واقع الأمر، لم يحدث هذا من فترة طويلة الآن، لأني توقفت عن التوق، وتعبت من الركض، والتحفز، كي أسبق الصوت، أسبق المفاجأة، التي لا تأتي، إلا اللهم إذ ترافقها خيبة أمل.

كم سارعتُ الخطى...
محفزاً حسّي…
أسبح بين أصوات شتى…
أسير عازماً في قلبي…
على إحياء أمل لعله تُوفى…
عن صوتك أبحث مأزوماً...
تتسارع أنفاسي...
أناديك في نفسي...
أيأس وأعود أدراجي...
في كل مرة مهزوماً...

مر العمر…
وتباطأت الخطى...
واستمرأتُ اليأس...
حتى إذا سمعت صوتك…
لم يُحرك راكد في الهوى…
لا يرف له صِوان أذني...
وأُعرض عما كان من مُنى...
قد يموت المرء…
وأجل النفس بعد ما وَفى…

إن لم يجمعنا لقاء...
قد تلتقي خطانا…
وإن صادَفتَ وريقة قتلها الشتاء…
فتذكر أن هذا قد يكون أنا...
فأحسن وارفق إن تشاء…
وإن لم ترفعها إكراماً لنا...
فذرها للذرى...
يأخذها حيث شاء...











رحلة قصيرة إلى القصيم، لم أحقق فيها أي مما خططت له. كنت أرغب بزيارة قريبين خصوصاً، أحدهما لأول مرة. لكن بما أن الرحلة جائت بلا استعداد كافٍ، لم أكن مستعداً بشكل جيد للقيام بزيارة لائقة. مع ذلك، خرجت بفوائد معقولة. زرت قريب مهم، وقضيت وقت طيب مع ابناء أختي. لكن ما قمت به لأجل نفسي كان النوم بالواقع؛ النوم الجيد هو ما ينقصني صدقاً، نوم طويل غير متقطع بالمسؤوليات، لهذا كانت الرحلة ناجحة على المستوى الشخصي رغم كل شيء، لقد نلت قسط جيد من الراحة. لم يوقظني من النوم سوى الشعور بالذنب فقط.
لم تخلو الزيارة من منغصات للأسف؛ مرضت والدتي مرة أخرى في القصيم على نحو مفاجئ، واضطررنا لزيارة الإسعاف، مرة أخرى. يصعب أن تستمتع والدتي بأي شيء، لكني أرجو من الله لها المثوبة.


كانت آثار المطر جيدة هناك، وقد استمتعت برحلة قصيرة مع زوج أختي أيما استمتاع. يوجد بحيرة تتشكل من السيول لفترة، تقع في واد في المدينة، اسم البحيرة المصيّة. وهي مكان معروف قديماً، حيث يأتي الأمراء في المنطقة بخيولهم الأصيلة لترعى على ضفافها حسبما سمعت، قبل أن تتبخر أو تشربها الأرض بالطبع. كان منظرها من علو ساحراً، وصادف نظرنا إليها تواجد أنعام ترعى في الأسفل، ماعز عارضي جميل، وهي فصيلة نجدية، مثل الخرفان النجدية، ولها شعبية لدى المربين عبر الخليج كله تقريباً، وتقام لها المنافسات. تتميز بالسواد والصوف المسترسل مثل الخروف النجدي، سوى أنها تامّة السواد، بينما الخرفان بيضاء الوجه، وهي بيضاء الوجه في نفسي كذلك، فأنا أحب الخرفان النجدية، ولها قيمة عاطفية لدي لسبب ما، وأتمنى لو كان لدي بضع منها، رغم انعدام خبرتي بتربيتها.
الصورة في بداية التدوينة التقطتها من مرتفع يطل على البحيرة، والماعز بالقرب، ترونه بقعة سوداء مستطيلة، والعامل الذي يتابعها على مسافة يساراً.

وبذكر الأنعام أعلاه، توصلت إلى درجة من التصالح مع شعوري تجاه الإبل. في واقع الأمر، لا أحب هذا الحيوان على وجه العموم، وقد كرهته لفترة طويلة، لكني وجدت بأني علي أن أقدر قيمته الثقافية والتاريخية لدينا، وأتفهم حب الآخرين له أكثر، وأحاول أن أرى الجمال فيه في بعض الصور، ربما من بعيد، وبالصور فقط. صورة أعجبتني جداً على وجه الخصوص، من جريدة الرياض:




كانت المدينة خالية بشكل عام إلا من أهلها، حيث أن الوقت لم يكن إجازة، ولم أشاهد سيارات كويتية كالعادة في الإجازات.

ربما ما افتقدته هو زيارتي إلى عنيزة. لقد نسيت كذلك أن آتي بكليجا من امرأة تصنعها، أوصاني عليها قبل فترة رجل تذوقها وأعجبته حينما أحضرتها للمكتب. كان بعض الزملاء يتذوقونها وينظرون إلي من مسافة شبه ضاحكين. لا زالت الكليجا والقصيمي نكتة، ولا يضيرني الأمر طبعاً، إنما استلطفته منهم. لكن ما لا أستلطفه هو السخرية سيئة النية والإزدراء، وهو كثير، وساهم موقفي من هذا بتشكيل شخصيتي وموقفي من الآخرين. أعرف شخص يقدرني كثيراً، أو هكذا يبدو، لكنه ممزق لكوني من القصيم.


















قصة قصيرة (تنتهي عند الخط الأحمر):





"عُمْرٌ في حلم"

فتحت عيناي في مكان لا أعرفه، كنت مستلقٍ على ظهري، في فراش من حجارة كبيرة صقيلة، وُضعَت بعناية لرفع منكبيَّ وخفض جذعي، فرفع ساقيّ وقدميّ عن الأرض كعلو أكتافي، في حين تركت يداي خارج هذا التشكيل الغريب بلا مبالاة. وجدتني في ظلال نخلة، في حديقة نخيل رطبة باردة. رأيت قدمي اليسرى أرفع من اليمنى قليلاً على حجر أمامي، شاخصة كإحدى صخور الرجاجيل في الشمال، وكأنما كانت العضو الوحيد المستيقظ من جسمي منذ وقت لا أعلمه. على إبهامها وقف بلبل تام البياض على نحو غريب، لم أرى مثله من قبل، لكني لم أستغرب مع ذلك، وكأنما عشت في ذلك المكان وخبرت هذا الطير طوال حياتي. كانت عيناه حمراوان شفافتان، كماء خالطه مثله من الدم، وكان يغرد كشأن تغريد البلابل الجميل. أحب البلابل، بألوانها الرمادية الترابية المنطفئة المتفاوتة، الحائرة ما بين الغمقة والانفتاح على جسم الواحد منها، لعل ألوانها هي ما كانت تلفت انتباهي. لكن هذا، وهو أجملها، لم يكن اختلافه هو مصدر جماله، إنما كان مصدر سحره، كان موحٍ بالهشاشة والضعف الجميل الرقيق، العنفوان الذي لن يلبث أن يذبل.
سحبت نفسي لأتحامل على الوقوف، دون خشية من هربه، إذ كنت أعلم، ولا أدري كيف تأتى لي ذلك، بأنه لن يفارقني، فطار وظللت أسمع تغريده في القرب. تلفتُّ حولي واقفاً، لم أرى حداً واضحاً للحديقة، لم تبدو كبيرة مع ذلك، ولا أدري هل كان هذا لقصور في نظري، أم أن ما هو أبعد مما أرى يفوق استيعابي. لعل قُصر النظر رحمة، أن لا ترى البعيد، تأجيل لخيبة أمل ما، او ظن ما.
كان الزمن شروقاً من اليوم، والشمس ما بين نوم وصحوة. رأيت على مقربة غرفة ملحقة في بيت عتيق مبني بالطين، يغطيه ملاط أبيض مما بدا لي جصاً. كان باب الغرفة جنوباً مما بدا لي، وإن صح حسِّي فأنا أقف شرقاً عنها. مشيت تجاهها بلا توازن، وكانت ساقاي على جانب من الضعف، شعرت بأني لم أمش منذ زمن بعيد، وكان البلبل الأبيض يتخطف دربي كل فينة وأخرى. شعرت بالنسيم البارد يداعب أسفل رقبتي حيث تكثفت الرطوبة، وبطني، من أسفل الرداء الكتاني الأبيض الفضفاض الذي بالكاد يغطي سرتي، بينما التصق سروالي من ذات القماش بفخذي من الأمام لرطوبة المكان واتجاه الهواء. تحاملت على ضعف ساقاي وسرت، وكلما تقدمت شعرت بأني أكثر نشاطاً، وأكثر لهفة. لكني شعرت كذلك بشكل ما أن النخيل من حولي لم يعد بذات الحجم الكبير الذي عرفته في البداية، وبدا العشب في الأرض أبعد مما هو عليه. لم يكن من فارق يذكر، لكنه كان فارق يزداد كلما تقدمت، حتى استقر على حجم بدا مألوفاً. توقفت مُفاجئاً، إذ رأيت ضوء أصفر يشع من باب الغرفة الملحقة، ثم يخفت داخلاً. أردت رؤية مصدر هذا الضوء، وودت لقاء حامله الذي جاء وراح به.
حينما وصلت الحجرة، توجهت لأقف أمام المدخل على مبعدة بسيطة. ونظرت إلى الداخل. لم أرى في الداخل سوى مصباح يشتعل، موضوع على الأرض الخالية من المتاع من حيث أنظر. بدا أن النار الصفراء غريبة، يخالط وهجها الذهبي طيف يظهر لبرهة صغيرة بلون مغاير، تارة كلون الورد الفاتح، وتارة سماوي بارد؛ أُخذت بهذه الألوان الجميلة. بدا أن الحجرة دافئة كذلك. ورغم شعوري بالأمان وراحة البال في حديقتي تلك، إلا أني تلهفت لوعد الدفئ البادي في الداخل. لم أكن قد رأيت الحديقة بأكملها، وكنت راغب بذلك، لم أكن أعرفها، ولكني ظننت أني سأتذكرها حالما أرى المزيد، وكأنها تذكار ينتظر، وسيثب بخفة وهدوء من لحظة طفولة. ترددت طويلاً، وترددت الشمس معي، فلم تبارح مكانها، مع مرور ما بدا أنه ساعات. لم يكن الوقت عموماً مفهوماً لدي تماماً في تلك اللحظات، لكني شعرت بأني لدي ما يكفي ويفيض منه، وكأن الحياة خالدة، خصبة، حبلى، ولود.
لا أدري إن كان البرد هو ما ملأ عيناي بالدمع الخفيف الدافئ. قررت الولوج إلى الحجرة تجاه المصباح. شعرت بأني أجر نفسي جراً مع ذلك، وكأني مجبر، رغم أنها بدت كفرصة لا يجب أن تَضيع، إذ شعرت بأني لو حزت المصباح فسأحوز كل شيء؛ كانت حديقتي تنتظر خلفي، بلبلي ينتظر، كل ما ينقصني هو شيء من الدفئ حينما أريده، دفئ آوي إليه حينما لا أريد أن أنظر إلى أي شيء آخر سوى وهج المصباح الساحر، فآوي إلى دخيلة قلبي، عودة من فسحة الحديقة، حيث طار قلبي وعقلي يرفرف ما بين وريقة وزهيرة، كالفراش.
فوجئت بالبلبل الأبيض يطير من أمامي، برفرفة قوية، ثم يستقر فوق لوح غير متسق يؤطر قمة المدخل. وقفت لأنظر إليه، ثم هممت بالتقدم، إلا أن الطير طار تجاهي سريعاً، ومس وجهي بجناحه. توقفت لبرهة، وقد شعرت بجفول مفاجئ، ليس من الطير، بل من الباب أمامي. لكن المصباح، الوعد، في الداخل، كان يجب أن أدخل لألمسه على الأقل. تقدمت خطوتين فشعرت بالبلبل يتمسك بردائي من الخلف مرفرفاً بعصبية ويصفر، وكأنه يحرس عشاً له. أفلتني سريعاً وابتعد. عزمت على الدخول فمضيت حتى ولجت من الباب، عبر ممر قصير فحجرة المصباح. لم أرى توهجاً في حياتي بهذا الجمال، ولكني لم أجد دفئاً. اقتربت من المصباح لأمسه فسمعت باباً لم أره يصفق من خلفي تجاه المدخل، فاستدرت بفزع تجاهه، وشعرت بتيار هواء سريع متجمد يمرق من بين ساقيّ، ثم انطفأ المصباح، وغرق المكان بالظلمة. أصابني ذعر عظيم، وتسارعت أنفاسي، واستدرت وجلست أحاول أن أتلمس المصباح أمامي على الأرض، ولم أجد غير الملاط القاسي البارد كالصقيع الذي يجمد مياه الآبار والسواقي. راعني هذا، وكأني تعرضت لخداع أفقدني كل شيء ذو قيمة في حياتي. رجعت تجاه الباب وأنا أشهق وأزفر، أتحسس بيداي الممدودتان أمامي، فعبرت الممر، ووصلت المدخل، فلم أجد مدخلاً، كان جداراً مملطاً كالأرض، بارد كالزمهرير مثلها. علا شهيقي وأنا أصيح تجاه الجدار بتقطع: هيه! هيه!. وكأن هناك من أحد خلف الجدار. لم أسمع أي صوت، ولا حتى صدىً لصياحي. عدت متحسساً الجدار وقد اغرورقت عيناي بالدموع، متوتراً أبحث عن أي درب آخر، تلمست جدران الحجرة كاملة، لم يكن من فرجة أو ملمس مختلف، سوى أني وجدت ابريقاً فخارياً وكأساً في كوة، تحسست الإبريق وأدخلت يدي فيه وقد شعرت فجأة بعطش لا يحتمل، فكان جافاً مترباً. جلست على الأرض وزحفت على يديّ وركبتيّ إلى وسط الحجرة حيث كان المصباح. هناك، شعرت بألم وإجهاد في أطرافي، خصوصاً ركبي وأكتافي، واستلقيت إلى جانبي قبل أن أنهار تعباً. تسارعت الأفكار في ذهني، وعيناي اللتان لا تريان شيئاً تزيغان وتتذبذبان بمحجرهن رغم العمى الذي أعيشه، وكأني فقدت بصيرتي من الداخل؛ لماذا دخلت الحجرة؟. انفجرت باكياً كابتاً صوتي، إلا من شهيق عجزت عن السيطرة عليه، وسرعان ما لحقته التأوهات، الندم والندب والمرارة، المرارة التي استدعت صيحات صغيرة مقهورة، القهر الذي قطع نفسي في النهاية حتى لم أستطع أن استعيده، فحسبت بأني ميت لا محالة، حتى شهقت شهقة عظيمة حادة قطّعت رئتاي، وكأني وليد لتوه عرف الهواء، لتوه بدأ الشقاء.
لا أدري كم دام بكائي حتى نمت، وصحوت لأبكي، ونمت، وصحوت لأبكي، حتى جف الدمع، وجف جسمي، ولم أعد قادر على الحركة إلا بالكاد، وكان قلبي يكاد أن يضخ فراغاً، وكأن أنهار دمي العظيمة في جسمي قد استحالت جداول ضعيفة.
لم أنم بعد ذلك؛ بقيت مستيقظاً، يائساً مستسلماً، لم أتمنى الموت ولم أتمنى الحياة، قبلت بوجودي كما هو، مهزوماً، مخدوعاً، وكأنما لم أعرف غير هذا الوجود. تنهدت، تواسيت في مكاني على الأرض الباردة من وقت إلى آخر.
سمعت صريراً، ونفذ نوراً تجاهي. كنت قد نسيت كيف تموضعت في الحجرة؛ كانت قدماي تجاه النور الساطع. لم أتحرك مباشرة، إنما أغمضت عيناي الجافتين، وشيئا فشيئا سخنت عيناي، واغرورقتا بدمع لعله آخر ما بقي في جسمي من ماء.
تحاملت على نفسي، واتكأت على ذراعي رافعاً جسدي، فوجئت بشعري يتموج استجابة، على نحو لم أعهده، وقد وصل إلى منتصف رقبتي طولاً. وقفت بالكاد، ومشيت ببطئ وترنح منحني الظهر، متألماً، كأسير أطلق سراحه بعد احتجاز. 
كانت الشمس تنعس، وقد تموضعت غرباً. غمرني دفئ من الأرض، وقفت لأمتصه بأقدامي، لكني لم أقوى على سحب نفس عميق. كانت أمامي الجادة التي وقفت فيها أتأمل المدخل حائراً، وكانت تمضي وتطول أمامي في ساحة أحاطها النخيل. مشيت متابعاً إياها، فلفت انتباهي منديل أبيض ملطخٌ بالطين، كان كثيفاً غريب التجسيد، سرعان ما أدركت ما هو؛ لم يكن منديلاً، كان بلبلي الذي تركته خلفي، وقد مات، وأحاط به بعض النمل. بذعر همست لا، ولم أكن أقوى على أكثر من الهمس، وهبطت أبعد النمل بيد منتفضة، وأحمله لأنظر إليه. كانت عينيه منفرجتين بخفة، ولم ينل منهما النمل بعد، لكن جسده بدأ يجف. حملته إلى وجهي وبكيت بكاءاً مراً وأنا أضغطه برفق على خدي. لم يكن هناك دموع، وكان هذا أكثر بكائي بؤساً مما عرفت، أعمق ندم جمع كل الندم والملامة. مضيت قابضاً جيفته بيدي، ورأسه يتدلى، حتى وصلت إلى نهاية الجادة، وكان هناك ساقٍ رقراق، فقعدت ووضعت عصفوري، وغطست يديَّ في الماء البارد، ثم شربت حتى رويت، فتوضأت وضوء الصلاة، واسترحت قليلاً أنظر إلى الماء والنخيل؛ ضاع الوقت، لم يتبقى شيء، لن أرى المزيد، لم أرى ما يكفي، لم أرى شيئاً. اغرورقت عيناي بدمعها.
قمت حاملاً الطير، قافلاً تجاه المكان الذي استيقظت فيه أول مرة، ولم يتبقى من الشمس ما يمكن رؤيته، سوى ضوء واهن يكاد أن يزول. كنت أنشق في طريقي، وأبكي بدمعٍ حار، يجري يكاد لا ينقطع على وجهي. حينما وصلت إلى منامي الحجري، استلقيت ببطئ وبرفق، وكل عظامي تئن بألم، ووضعت البلبل الميت على صدري، وأطلقت آهة ندم وخيبة، قبل أن أغمض عيناي بأسى وأعود لنومي هارباً.
ليتها كانت النومة.



_________________________



















يخيل إلى أحياناً بأن كل ما احتاجه للعيش، هو جوار والدتي، والماء الجيد، والكولا، والنوم. ما ينقصني هو النوم بواقع الأمر، حتى بت أتمنى لو واتت الظروف ونمت نوماً متصلاً، أتصور بأنه سيطول حتى أموت عطشاً بلا وعي، لكن بلذة النوم.

من ناحية الكولا، وجدت مؤخراً شكل منه أثار ادماني، وكفاني الذهاب إلى برقر كنق لشربه، وإن كنت قد كفيت عن الذهاب قبل ذلك من فترة طويلة، لكني لم أعد أشتاق إليه كثيراً. هو أقل جودة بالواقع مما في المطعم، لكنه يظل جيداً، من أجود ما تذوقت منه. هو كوكا كولا، لكن الفارق هو أنه مصنوع في الكويت، ولا تبيعه سوى دكاكين معدودة في الحي. أشتري بالطبع القوارير ذات اللترين. لا مقارنة بينه وبين المصنع هنا إطلاقاً. ككل شيء استهلاكي يصنع هنا تقريباً، يلحظ المرء الرخص وضعف الجودة لزيادة هامش الربح؛ من الواضح أن الكولا هنا لا يضاف إليه السائل المركز بشكل كاف، ولا السكر بالكمية المطلوبة، فيكون خفيف الطعم، ولعل جودة المياه المستخدمة ليست عالية كذلك. أما الكويتي، فهو العكس من كل هذا، إنه رائع على نحو لا يوصف. كنت أعالج مشكلة الكولا المصنع هنا بإضافته إلى مشروب كولا غير غازي من شركة محلية، القليل من هذا المشروب إلى كأس كولا، ويصبح ممتازاً جداً، سوى أن هذا المشرب انقطع عن السوق للأسف، يبدو أنه لم يكن من مشتر له غيري، كما يخيل إلي دائماً، فكثيراً ما أحب أشياء غير شعبية، أو نكهات أو فروع غير شعبية من أشياء شعبية. يختلف حتى شكل القارورة بوضوح؛ إذ أن قارورة الكولا الكويتي ذات رأس أنحل وأطول على نحو أنيق ويشبه الشكل التقليدي للقارورة التقليدية أكثر.
دخل الكولا البحريني على الخط، وبنفس الشكل، سوى أنه أقل جودة من الكويتي، وأفضل مما يصنع هنا. وصرت أجده في الأسواق على نحو أكبر؛ أحياناً جنباً إلى جنب مع السعودي، يختلف فقط بشكل العلبة، وكون البحريني معبأ للسوق السعودي على وجه الخصوص.
يقال لي كثيراً بأن أخفف من شرب الكولا، الذي عدت إلى شربه بكميات كبيرة، وإن يكن أقل من السابق. لا أستطيع؛ إنه متعة من متع الحياة السهلة والمتوفرة بالنسبة لي، وهي متع قليلة، أصبحت أقل بكثير من السابق مع الوقت. أعتقد بأن السكر السهل والكثيف فيه هو السبب في إراحة ذهني وتسليتي.
اكتشفت نكهة عجيبة أضفيتها للكولا بالصدفة، وقد يجد البعض الأمر غريباً وربما غير مستساغ، لكنها بالفعل نكهة تغير من طعم الكولا، تزيده عمقاً، وتعطيه أصالة، وكأنه مشروب مختلف سحري، من تقليد قديم. بتوصية من أحد بنات العم، أسقي والدتي كل يوم نقيع اللبان العماني، لبان من نوع خاص ومحدد. يتحول اللبان بعد النقع لفترة إلى كتل بيضاء منتفخة، لا تشبه النسغ الشجري الذي كان عليه. بينما كنت أسكب لأمي بعض الماء، من خلال المشخلة لالتقاط الشوائب، وقعت قطعة لبان فيها رغم حرصي. قررت أن أجربها بدلاً عن إعادتها للماء، لأني بالأساس أكثرت كمية اللبان هذه المرة أكثر من العادة. ظللت أعلكه، وهو فاخر ثمين ذو نكهة قوية رغم النقع، وبعد ذهاب والدتي إلى النوم أخرجت الكولا قبل تشغيل كمبيوتري والجلوس كالعادة، ووضعت قطعة كبيرة ثلجتها من كولا فقد غازه كما أفعل، وبدأت بالشرب، ولم أرغب بإلقاء العلك، ولكني لم أفكر بأن الطعم سيتغير، لم يخطر على بالي رغم أنه أمر منطقي. لكن الغريب هو أن الطعم بالواقع أصبح عجيباً، يمكن وصفه بالألفة، وكأن الكولا لم يعد مشروباً أجنبياً، إنما مشروب عربي، بنكهة مألوفة، كما نألف اللبان والبخور.
كثيراً ما أتمنى لو أمكنني تصنيع الكثير من الأشياء التي أحب وإعطاء الفرصة للناس لتجريبها. تسحرني التجارب التي تعدل بالشيء المستهلك المعروف وتحسنه. قرأت عن كولا في بريطانيا تضاف إليه الحبة السوداء، وقد تفوق بالمقارنات المعمية، أي بشرب نوعين غير معلومين للمجرب والمقارنة بين الطعم، تفوق هذا الكولا على الماركات المعروفة. ورغم ان اخي ذهب إلى بريطانيا، إلا أني لم أوفق بالطلب منه إحضار عينة، كما أفعل حينما يسافر أحد إخوتي واتخذها فرصة. الفكرة أعجبتني بجرأتها.




























جسد كسحابة حلم عميق...
وددت لو أغرق بين حناياه...
أقبله برفق لألا يفيق...
وإذا بعينين ناعستين...
كنجمتين أيقظها غلال الليل الرقيق...
أو كبئر صافٍ زلال...
أُطل سابراً مداه السحيق...
فأدوخ واسقط سقوط الشهيد...
وإذا به ينتشلني كما يُنتشل الغريق...
فأصحو من حلمي المستحيل..
ليتني لا أفيق...





















فيديو من حديقة جميلة في الجامعة. يظهر في الفيديو بلبلين متفرقين وجوز من الهدهد. هي فيديوين بالواقع جمعتهما في واحد. لم أصور وأنا أرى جيداً، وجوالي الأخير هذا أساساً سيء التصوير للأسف، أهم ميزة تهمني بالجوال، لكني استعجلت. عالجت الاهتزازات وثبت التصوير ببرنامج ممتاز من مايكروسوفت على الجوال، يمكنكم رؤية اسمه بالفيديو:






هذا الجوال ممتاز من كل النواحي الأخرى، كحجم وبطارية وشاشة وسعر، معقول جداً كل النواحي، بل رائع، باستثناء الكاميرا. لا أدري لماذا الكاميرا في جوالي السابق موديل 2016 أفضل من هذا، رغم رقي الأرقام ظاهرياً. لهذا أفكر جدياً بشراء جوال جديد، لأني محبط من هذا. ليست عادتي، وقد صرت أخاف أني أكسر الكثير من عاداتي التي أعتبرها جيدة.























أصبحت ألحظ التعبير عن الحب من بعض أطفال الأسرة كثيراً، ليس أنه ازداد أو لم يكن موجوداً، إنما لأني أدركت بأن الحب نعمة قد تزول حتى من أقرب الناس إليك، فما بالك بالبعيد.
قالت ابنة أختي بأنها كتبت عني في واجب، وابنة اخي قالت أنها فعلت مثلها كذلك.
أرى نفسي في أحد الأطفال على نحو غريب، هو ابن اختي واسمه فهد، أشعر بأنه يشبهني حينما كنت صغيراً رغم عدم موافقة الجميع، سوى ما وصلني من قول ابنة عم غالية.
فهد يجلب لي من الهدايا أكثر مما أجلب له، وهو يريد أن نكون إخوة لسبب ما، أكثر من "أصققاء". هو في الصف الثاني الإبتدائي الآن، لكنه ضئيل الحجم صغير الشكل، يحسبه الكثير من الناس في الرابعة أو الخامسة من عمره، كما أنه يجد صعوبة في نطق بعض الحروف والكلمات على نحو سليم. هذا فرق بيني وبينه حينما كنا بنفس العمر، حيث كنت متحدثاً طليقاً منذ عمر مبكر، وأعيد الفضل بهذا بعد الله إلى أمي، فهي متحدثة بليغة بلهجتنا، شاعرة كذلك، ولا تحدث الأطفال وكأنهم أطفالاً، وقد ساعد هذا بعض أبناء أخواتي الذين قضوا وقت معها أطول من سواهم. لكن الإستعداد العقلي كذلك له دوره، بعض الأطفال يطول بهم الأمر حتى يتقنوا الكلام على نحو مقبول، حتى لو عاشوا في نفس ظروف إخوتهم الأبكر تحدثاً.
نتكلم بالهاتف أنا وفهد كثيراً، مع أني لا أفهم الكثير مما يقول في المكالمات حتى الآن، خلافاً للمواجهة حيث أفهمه جيداً. حينما يعتقد بأني لم أجب سؤال أو أفز بمنافسة مع أي من الأطفال الآخرين، سرعان ما يختلق سؤال أو لغز لأفوز فيمتدحني، رغم أنه دائما يفوز حينما تكون المنافسة بيني وبينه بالطبع. على عكسي في ذلك العمر وقبله، فهد لا يجامل عموماً، سواء بوعي أو بعفوية، وهو أمر يتسبب بمواقف مضحكة لكنها لا تعجبني، حيث أحاول تعليمه الذوق.
مع ذلك، يقلقني أنه يشبهني من حيث مستوى الذكاء في نفس العمر على ما أعتقد، مما يجعلني أشفق وأعطف عليه كثيراً. أتمنى أن يصبح أفضل مني بكثير.

لم تكن علاقتنا جيدة على الدوام، حيث أني أميل إلى تفغيص وتقبيل الأطفال وعجنهم وحملهم، وليس الكل يعجبه هذا. هذه طبيعة بي منذ أن كنت أنا نفسي طفلاً؛ لم أكن أحتمل رؤية طفل دون أن أقبله وألاعبه إلا بصعوبة. لذا كنت أنا وأمي دائماً على شقاق بسبب هذا الطبع. عانى بعض الأطفال من الأسرة أكثر من سواهم، لأسباب مختلفة. هناك من يقدر حبي لأطفاله حتى لو انزعج الأطفال، وهناك من لم يرد مني حتى حملهم، متهمين إياي بنقل الجراثيم. من النوع الأول، لن أنسى قول زوجة أخي السابقة العزيزة حينما كنت بالإبتدائية، حينما اعتذرت لتقبيلي المفرط لأطفالها حتى البكاء وبحثي عنهم باستمرار لحملهم واللعب معهم، إذ قالت بأنها تحب من يحب أطفالها. كنت أعلم بأنه ليس الكل مثل أخواتي، يتقبل الأمر بحسن نية، وغيرها قد يأخذ الطفل مني متأففاً حالما أحمله، ولصدمتي وجدت بعض إخواني من أزواجهن يأخذوهم مني كذلك، قبل حتى أن أقبل الطفل. عفت أطفال من يقوم بهذا لفترة، وصرت حذراً تجاه من لحقهم من أشقاء لهم، وللعجب تم استنكار عدم إقبالي على أطفالهم، بل وسؤالي وحثي على ذلك إسوة بأطفال الآخرين. قلت بصريح العبارة ذات مرة بأني عفت أطفالهم لسلوك آبائهم وأمهاتهم معي. لماذا يطلب مني حبهم بعدما كانوا ينتزعون من حضني إنتزاعاً؟.
في النهاية، عرفت أن جزء كبير من حب وغلاء الأطفال من غلاء أهاليهم كما تقول أمي؛ إني أُقبل على الأطفال أكثر حينما أجد الحب والتقدير من أهاليهم، لا شعورياً. ولا يتعارض هذا مع أهمية سلوك الأطفال أنفسهم، فبعض الأطفال صعبي المراس، طويلي الألسن حتى وهم بحجم قطمة الأرز، مثل هؤلاء غالباً ما أتفاداهم خلافاً للسلام الأول ومجاملة أهاليهم بقدر الممكن، إلا في حال كانوا من أبناء أخواتي، فأحاول تعديل سلوكهم.

















افتتح معرض صغير لكلية السياحة والآثار في بهو الجامعة، وهو معرض مبسط جداً لا أدري ما السر خلفه. زرته لأول مرة ووجدت عدد من الدكاترة يتمشون ومعهم مصور يصورهم وهم ينظرون للمعروضات ويتكلمون، شعرت بالقرف وعدت أدراجي، لم يكن بإمكاني عموماً التمعن بالمعروضات وهم أمامي. عدت في يوم آخر، ورأيت على بعض الطاولات كتب كبيرة مطبوعة بالجامعة، وهي تتحدث عن تنقيبات الجامعة ورحلات منسوبيها العلمية في هذا المجال. أُخذت بأحد كتابين، بعدما فتحته ورأيت صوراً من لقايا قرية الفاو. سألت أحد العارضين عند طاولة، كيف يمكنني الحصول على كتاب منها، هل هي موجودة للبيع أو الاستعارة؟. أقترح أن أتصفح الكتاب هناك، فهو غير متاح للتوزيع. لكني قلت بأني أريد أن أشتريه أو استعيره من مكان كمكتبة الجامعة، لأقرأ بالمنزل. اقترح أن أقابل رئيس القسم الدكتور فلان، فهو سيجد لي حلاً، وامتدح هذا الدكتور كثيراً. أخبرني متى سيأتي، وقررت الحضور للتجربة. كنت متوتراً حينما حان الوقت، فالدكاترة يغلب عليهم اللؤم والغرور. لكني فوجئت برجل حيوي عفوي لطيف ومبتسم، متفهم ومهذب بغير افتعال. تكلمت بارتباك إذ لم أتوقع أن يترك الدكاترة الذين اجتمع معهم بحلقة يتكلمون ويأتي إلي مباشرة حينما ناداه أحد الموظفين. أخبرته بما أريد، أن يدلني على مكان يمكنني الحصول به على الكتاب، سواء شراء أو استعارة. طلب مني أن أعرف عن نفسي، وابدى اهتماماً. ثم قال بأنهم لا يعطون الكتاب لأنه غير معد للتوزيع أو البيع، لكن لأني مهتم فأنا أستحق، وأخبر الموظف أن يحضر لي واحداً من صندوق قد لا يحوي أكثر من ثلاثة أو أربعة كتب. شكرته كثيراً، وقد فرحت بالكتاب أيما فرحة. لم يتوفر لدي الوقت لأطالع الكتاب كما أشاء وبالمزاج اللازم لوجود بعض الأحداث وضيق الوقت. لكن إن شاء الله قريباً جداً.
تذكرت كسرة فخارية زرقاء كان قد وجدها أحد الأقارب وأعطاني إياها لأسأل أحد المختصين بالجامعة عنها. كنت قلق منذ ذلك الوقت أن أي استاذ لن يأخذني بجدية. لا أدري كيف أصلاً غلبت مشاعري وكلمت هذا الدكتور الطيب رغم أني لم أتفائل خيراً، لكن رغبتي بالكتاب كانت قوية. أخذت الكسرة وذهبت إلى المعرض. لا أدري لماذا لم يكن الموظف على نفس المستوى من الترحاب السابق، لكنه أخبرني مشكوراً بأن الدكتور في مكتبه بالكلية. ذهبت لاحقاً ووجدته في مكتب عميدهم، وحالما لفتوا انتباهه إلى وجود شخص يريد رؤيته خرج وسلم علي. أريته القطعة، وهي من الفخار المزجج، وقال بأنه لا يستطيع الجزم، قد تكون من العصر الإسلامي المبكر أو قبله حتى، وقال بأني لو كنت أفكر ببيعها فلن أحصل على ثمن جيد لأن الكسر كثيرة، أخبرته بأني غير مهتم بها بقدر ما يهمني المكان الذي وجدت فيه، أريد أن أعرف عنه أكثر. قال بأنه يجب أن يرى المكان بنفسه، خصوصاً إذا تواجد فيه الكثير من الكسر فقد يكون مكان أثري. بالواقع، كانت الكسرة الوحيدة في المكان، فيبدو أنها وقعت من أحد أو من قافلة في زمن قديم.































يوجد أمور ضرورية على المرء القيام بها، أمور بديهية وأمور بقدر الحاجة، وحاجاتنا تختلف. أجد صعوبة بالقيام بأي شيء مع ذلك، بديهي أم خلافه، حاجة ملحة أم حاجة استثنائية. من بين الحاجات الضرورية، التي أجد العذر دائما لعدم القيام بها، هي الخروج من المنزل، وما يتبعه. لقد صرت أحاول بقدر الإمكان القيام بالتسوق قبل العودة إلى المنزل من العمل، حتى لا أضطر للخروج بعد أن تاوي أمي إلى الفراش، إذ أني لا أخرج أساساً طالما هي مستيقظة حتى لا أتركها وحدها. يتوجب علي الخروج مع ذلك في بعض المرات بعدما تنام؛ لا مناص من شراء حاجات المنزل التي لم أحصل عليها قبل العودة من المنزل إن كانت لا تستطيع الإنتظار، ولا الأدوية من الصيدلية في حالات أخرى. هذه أسباب وجيهة، لأنها لا تعنيني أنا بالذات، لكن ما يعنيني وحدي هو ما أحاول إيجاد أي عذر حتى لا أقوم به؛ كالخروج للمشي والتحرك، أو شراء أمور شخصية ضرورية على الأقل.

















سهوم...
هروب ساكن...
بحثاً عن غفلة...

خوف ووجوم...
رغم محيط ظاهره آمن...
كبت وحشة...

غيث وغيوم...
أمل داكن...
رحمة باطنها القسوة...

خنجر مسموم... 
غدر بائن...
بسمة تستر الحسرة...















كنت ذاهباً إلى مكتب البريد لأرسل طرداً كبيراً، وحينما أوقفت السيارة في المواقف توقف خلفي صالون يسوقه رجل ذو لحية وهيئة ملتزم. سألني عن مكتب البريد إن كان مفتوحاً فقلت مبتسماً نعم، وسأل إن كنت سأخرج السيارة فقلت بأني لتوي توقفت، مبتسماً أيضاً، ثم مضى وأنا بالكاد أكملت جملتي، وقد كان تعبير وجهه جافاً، ولم يقل شكراً. فكرت في نفسي بأن هذا لأنه مطوع، وقد شعرت بالقرف من تصرفه الصفيق.
كان مستعجلاً، وكنت أخرج صندوق متوسط الحجم من سيارتي، فوجدته في داخل المكتب مع رجل آخر ينتظر قبلنا على ما يبدو. حينما دخلت ألقيت بالسلام فردّا علي، ونظر تجاهي مبتسماً فابتسمت. لم أقف معهما، إنما جلست منتظراً، وكان يلتفت كل فينة وأخرى لينظر إلي مبتسماً لسبب ما، وقال في مرة: ما شاء الله. فكرت بأنه ربما أعجبه شيء. قال معلقاً بعد فترة بأني أخذت موقف السيارة في الخارج، والآن أخذت كل المقاعد هنا، وكانت المقاعد كثيرة ولم يجلس غيري، فضحكت. سألني إن كنت طالب في الجامعة؟، وهذا سؤال يسأله شخص بعيد العهد بها، وعلى غير صلة بطلابها وأشكالهم الفتية. قلت بأني موظف منذ زمن بعيد. علق على شكل القبعة ولونها، وكانت ملونة بتمويه عسكري بألوان زاهية، وقال بأنها جميلة، شكرته. كان الرجل الآخر لديه شأن طويل مع البريد، فطال الانتظار. أخرجت من جيبي علبة علك، وحالما أخرجتها التفت المطوع تجاهي، فمددت له واحداً، أخذه بابتسامة واسعة وقال "ما شاء الله، أحمر بعد"، ربما لأنه كان في قبعتي لون قريب للحمرة، إلى جانب الأخضر والبني وألوان أخرى، ولما تناوله قال بثقة بأني غير متزوج. فوجئت وسألته كيف عرف؟، قال لأن هذا اللون، لون قرطاس العلك، لون شخص يُحب، فضحكت بصدق.
حدث أنه واجه إشكالاً، ورغم أني كذلك تأخرت إلا أني أنجزت مهمتي قبله، وودعني وأنا خارج بابتسامة وسلام، رغم احباطه من الصعوبات التي تواجهه.

فكرت لاحقاً بنظرتي الأولى إليه؛ لقد قررت مباشرة بأنه كان متجهماً غير مهذب لأنه مطوع، مع أني كثيراً ما أمر بهذا الموقف من الجميع بكل أشكالهم وأجناسهم وأعمارهم، هذه الصفاقة والجفاف، لكني لا أعيده لأي خلفية من خلفياتهم غالباً. إنه خلل لدى الكثير من الناس، وهنا أعني مشاعري المبدأية وحكمي على الشخص لأنه مطوع بالذات. لقد طابت أنفسنا، خصوصاً أبناء جيلي، وصرنا نربط بينهم وبين سوء الحضور واللؤم مباشرة، بعد نماذج سيئة سيطرت على المدارس خصوصاً وغذت حب السيطرة والشعور بالأفضلية لدى الصغار من نفس توجههم، وسيطروا على المجتمع عموماً. كان هذا خانقاً، وكانت هناك غلطات كبيرة تسببت بردة فعل توجب التفكر من الجانبين. لم يخل الأمر أبداً من رفقاء منهم، لكن القسوة وسوء ظنهم بالآخرين كانت السمات الغالبة، وكانت لهم نظرة فوقية لا تحتمل. صار كل خطأ يحسب عليهم ويعاد إلى أسلوب حياتهم وخياراتهم، وهذا خنق لهم وحرمان من فرصة العدل في الحكم والتقدير، سواء قصد المرء أم لم يقصد، وأنا بكل صدق فكرت تلقائياً بتلك الفكرة عنه، ولم يكن أمر انتظرته أو توقعته، وإلا لما ابتسمت له في البداية كما أبتسم للجميع، دون تفكير بخلفيته.
من جهته، تبين أنه لطيف ومجامل، وربما كان في ظرف خاص وضيق حينما جاء بالسيارة، وكانت معه امرأة لعلها كانت تستعجله أو لا يريد تركها طويلاً لوحدها بالسيارة. لا أتصور بأنه تجهم تجاهي في البداية لأني غير مطوع، لكن ربما لم يكن ليتجهم لو كنت مطوعاً، ولكني كذلك لا أعتقد أنه أظهر الود واللطف لاحقاً لأني غير مطوع كذلك.


كنت أقف عند البنشري قبل فترة، لإصلاح إطارات السيارة، وكان الوقت متأخراً، حيث يصعب علي الخروج قبل ذلك. جاء رجل، لعله في منتصف أربعيناته، يقود جيب كبير ومعه أطفال، وسأل عن الإطارات وبضعة أسئلة أخرى، واعتذر مني قبل أن ينتهي لأنه أشغل البنشري عن عمله على إطاراتي، ابتسمت متقبلاً اعتذاره. لما انتهى، سألني فجأة: أنت سعودي؟. ربما حسبني يمنياً، لأني كنت أتكلم بودية مع اليمني الذي اعرفه نوعاً ما منذ فترة. قلت نعم. سألني من أين؟، أخبرته. وظل يسأل بفضول، وكان له طبع وحضور قروي، رغم أنه للأمانة شديد التهذيب وحسن اختيار الكلمات. لكنه تكلم عن فئة من المجتمع، بذكر الحي الذي أسكن به، فقلت بأنهم جيران طيبون، لم نرى منهم سوى كل خير. لكن عبر عن كراهيته لهذه الفئة، وعدم ارتياحه لهم، فأوضحت بأنهم بالواقع مثل غيرهم، يوجد بهم اللطيف وغيره، المسالم والعدواني. لم يقتنع، وربما لم يعجبه رأيي. سألته من أين هو، فجفل، ولم يُرد أن يقول، وهذا طبع قروي يكثر في بعض النواحي الصغيرة والهامشية من منطقة الرياض والقصيم، لكنه اعترف أخيراً إذ لم أغير الموضوع ولم أتظاهر بأني فهمت أنه لا يريد أن يقول. أخبرني، وكان بالفعل من منطقة صغيرة قرب الرياض. سألني أن آتي معهم، وهو وأطفاله، إلى المنزل لنشرب القهوة ونتابع أحاديثنا، قال بأنهم متوجهين إليه الآن، وهو هناك، مشيراً إلى الناحية المقابلة للبنشري. اعتذرت بتأخر الوقت، وقلت سيكون هذا في فرصة أخرى إن شاء الله.
ليست لدي الجرأة على التداخل مع الناس هكذا، وغالب تجاربي القديمة جداً كانت فاشلة.






















لست من النوع الذي يعطي أهمية كبرى للأحلام كنبؤة ومصدر لفهم أو كشف الخفي خارج إطار النفس. أعلم بوجود رؤى صادقة، لكنها نادرة جداً، وأميل إلى ترجيح أن ما أسمعه من أحلام هي مجرد حديث نفس، ما لم يثبت العكس. وعليه، لا أرى جدوى كبيرة من مفسري الأحلام، ولا أعتقد أن التفسير التنبؤي هو علم راسخ، قد يكون موهبة وخبرة بالحياة واطلاع على الدين وموروثه، لكنه يظل تخميناً على الأغلب ما لم يثبت العكس. لا أثق بمحترفي التفسير وهواته من مستقبلي أحلام الناس. مع ذلك، رأيت حلماً قبل فترة كنت فيه وأمي وأخي وزوجته نجلس في محيط حديقة صغيرة غير موجودة في الواقع، في زاوية من فناء منزلنا، الحديقة هي من الشكل الذي أحب وأتمنى بالعادة، وإن كانت بالمكان الخطأ. كانوا يشربون الشاي، بينما انشغلت أنا أحاول أن أقبض على عصفور صغير يهرب من بين يدي، وكان صغيراً لم يقوى على الطيران بعد، يقفز مرفرفاً بسرعة من مكان إلى آخر، وما إن أمسكته حتى تحول إلى طفل رضيع بين يدي، وقد سعدت به كثيراً، وقررت انه ابن اخي وزوجته الجالسين أمامي. حينما أخبرتهما لاحقاً بهذا الحلم، تبسم أخي بجذل وهو يخبر زوجته بأنهما سيرزقان بولد إن شاء الله. بعد أشهر قليلة رزقا بولد. لم أكن أعلم بأي شيء حينما حلمت بذلك الحلم، لم أعلم عن الحمل. مع ذلك، أرجح بأن الأمر يتعلق باشتياقي لولادة طفل جديد في العائلة، وكان أخي هذا وزوجته الأكثر ترجيحاً في ذهني.

لكن تغير الأمر منذ وفاة والدي رحمه الله؛ لقد باتت أحلامي غير سعيدة، مؤلمة، سوداوية، مليئة باليأس والشعور بالوحدة والعجز. إنها حديث قلبي المجرد. إني لا أرى والدي في معظم أحلامي، لكني أتذكره مباشرة ما إن أستيقظ، وأشعر بقلبي يفرغ من الدم حرفياً، ويمتلئ بخواء مؤلم، حرفياً، ويتكرر هذا الأمر كثيراً طيلة اليوم، إذ تداهمني ذكرى وفاته. لكن الأحلام التي أرى تتعلق غالباً بالمستقبل. لا يخلو بعضها من عزاء وشفقة تجاهي من الآخرين الذين أراهم في أحلامي، لكنها حديث قلبي بلا شك، مخاوفي وهواجسي وآلامي. غالباً ما أرى أني وحيد في مواجهة ظرف قاهر، يعتصر القلب، أحاول مساعدة أحد عزيز على قلبي لكني لا أستطيع مهما حاولت أن أقوم بعمل يرضيني، وأشعر بأن الدنيا ضاقت وسُدت الأبواب في وجهي، وإن توفرت خيارات تكون بحدود ضيقة بعيدة عن منالي، تُبكيني يأساً وحزناً في الحلم، بينما أجد من بعض الناس من يصرخ في وجهي بكلمات مُحطمة، مثبطاً لعزمي، وقد سئموا من إصراري ومحاولاتي، فأبكي بعجز.
حلوم أهل نجد حديث قلوبهم، كما قالت لي أمي ذات مرة.

أحلام أخرى، كانت تداهمني من وقت إلى آخر، أرى فيها صلح بعد شقاق، قرب بعد بُعد. رأيت أحدها اليوم، لكن لأول مرة أرى هذا الصنف من الأحلام على هذا النحو البارد، وأستيقظ بلا شعور بالحنين، إنما بشعور بالإزدراء، تماماً كما كنت بالحلم، ربما بسبب مضي السنوات حتى بات الأمر سيان، وبدأت الأمور تفقد معانيها مع التجربة وبعدما استنفدت كل السبل في يدي، أو تكتسب معانٍ أخرى على الأصح. حتى أني تسائلت؛ لمَ رأيت هذا الحلم، طالما أن موضوعه لا يشغل قلبي. رأيت شخص كان قد أخطأ بحقي خطأً جسيماً، قد سلم علي باسماً ومشى معي يتكلم ويسأل عن حالي، ثم بتردد حاول تبرير ذلك الخطأ، وقد ساعدته بابتسامة متعبة لا مبالية بالتعبير عن تفهمي، وربما تحملي لجزء من الخطأ. بدا أنه أزاح هم عن صدره، فيما كنت أفكر بالحلم بأن الأمر بات بلا معنى الآن، لقد تأخر كثيراً. استيقظت، وأنا أعلم بأنه لم يعتذر بالطبع، لكني أعلم كذلك بأنه لن يبادر بأي شيء بالواقع، تبرير أو حتى سلام، ولم أشعر بالمرارة مع ذلك، لأني لم أعد أنتظر أو أرجو منه شيء، إنما شعرت بتفاهة حضوره بالحلم، وكأنما جاء بلا دعوة، خلافاً لأحلامي السابقة، التي أراه وسواه بها، ممن اختلفت معهم وكانت لهم قيمتهم.

تمطر عيني...
في جوفي مدرارا...
أشق ثوبي...
في خيالي تكرارا...
طَعن قلبي ألف طعنة...
جيشٌ عرمرم جرارا...
جيش قهر وخداع...
من مسوخ لئام فجارا...
خدعوني بالآمال الزائفة...
حطموني مراراً ومرارا...
أختفي بهدوئي...
ابني بالصمت أسوارا...
لا يراني ولا يلحظني...
أحدُّ الناس بصيرة وإبصارا...
لم أعرف السلام يوما...
فعلام أخاطر بلقاء الأشرارا...
الوحدة الموحشة خيرٌ...
من مزيد خيبة وانكسارا...


















بعض خرفان نجدية وماعز عارضية (نجدية) وأنواع أخرى، وجدتها في مزرعة في العمارية قرب المنزل. منطقة جميلة حقاً.














ما أشق ذكرى بعض الناس على النفس، تستحوذ على عليك، سواء داهمتك غافلاً، ام استحضرتها برسائل قديمة، جميلها وسيئها، أو هدايا، أو ما صنعته بيديك وارتبط بهم بشكل ما، كقصيدة أو نص ركيكَين، أو نقش ينقصه التناسق والمعنى، أو رسمة متواضعة.
والمشقة ليست واحدة، ليست نابعة من ذات المصدر، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة؛ الشعور بالأسى والشقاء، وأحياناً الغضب، من الآخرين أو من نفسك. أحياناً تتألم لذكرى من أساء إليك وجرحك لغير سبب وجيه، أو رغم محبتك له، وأحياناً لأنك فقط خسرت من تحب بلا سبب وجيه، أو حتى بسبب، وتريد أن تستعيده ولا تستطيع. صداقات وعلاقات مختلفة؛ كلها لها قيمة، وإن كانت في أصلها متفاوتة المستوى.
وفي واقع الأمر، لم أعرف من له هذه القيمة وهذ التأثير علي سوى القليل، القليل من الناس، بعضهم قضيت سنوات بمعرفتهم، وبعضهم ما يشبه اللحظات، أيام أو شهور، أو بضعة لقاءات، أو أقل، لكن الإنطباع كان كبيراً. لا يمكن حتى وصف حالي مع بعضهم بالعلاقة، لم يتمخض الأمر عن شيء كهذا، لكن الإنطباع كان قوياً، صادماً، هادّاً، دامغاً، ندبة تشبه الوسم الذي لا خلاص منه، جعلك تنتمي إلى قبيلة من البؤساء، لكنك لا تراهم ولا تعرفهم لتشاركهم الهم ويشاركوك.
لست أتحدث عن تلك الذكريات قصيرة المدى، التي تشبه الجروح التي تشفى فيختفي أثرها، فهذه تافهة لا قيمة لها، ولعل تلك الخسائر هي في مضمونها ربح للوقت والمجهود الذي كان سيهدر ويستثمر بلا طائل. إني أتحدث عن مدى أبعد، بوقع أعمق.
هناك من اختفى من حياتك، ولو معنوياً، بعنف وقسوة، بمواقف فضيعة جارحة، وهناك من اختفى بنعومة، كضباب تلاشى، كليهما قد يملك نفس التأثير بالنهاية من حيث الأسى، أو الغضب، أو الفقد، أو الندم.
أفكر مثلاً بطبيب والدتي الألماني، الذي خسرته بنقاش واحد اتفقنا فيه على العناد والتجريح، في حين كان ما يجمعنا حتى لحظة مضت قدر كبير من الأمل بصداقة جميلة وعلاقة قد تكون أقرب للأبوية وإن لم تكن تامة من هذا الجانب. تواصلت مع المستشفى حيث يعمل، كنت أتمنى لقياه، وإن كنت أعتقد بأن الأمر في أغلب الظن لن يعود كما كان، لكننا كنا سنذهب للمستشفى في كل الأحوال، فتبين بأنه غادر البلد إلى غير رجعة.
أريد أن أقول؛ هكذا هي الحياة، لكن هل يحق لنا قول هذا عند كل سوء حظ، ولو افتعلناه لأنفسنا، وكان باختيارنا وحماقتنا.







سعد الحوشان