السبت، 28 فبراير 2009

من همس؟

بسم الله الرحمن الرحيم


أشك بأن أحد ممن يعرفون مدونتي السابقة قد اطلع على هذه، ولكن، لا يهم كثيراً بالحقيقة حينما أفكر بالأمر.


اليوم هو الاثنين، وقد قمت بأول عمل منذ بداية الاسبوع في قسمي الجديد. حيث أن لا زلت في انتظار عودة مديري الدكتور من السفر، ليرى ماذا سيصنع بأمري. كان عمل بسيط وتافه. ولكن لا بأس. احبطت في البداية لما لم أجد ما أقوم به. لكن قالت أختي بأن أعتبر هذا الاسبوع راحة بعد ضغوط الشهرين الفائتين.


رغم أن العكس مع الناس هو الصحيح، إلا أنه بدأ يخيل إلي أني كلما كبرت، كلما فقدت قدراتي الفلسفية، كلما أصبحت أكثر سطحية، وصرت أضعف من ناحية التعبير عن خبراتي. كان يمكنني أن أفلسف الكثير من الأمور بطريقة أفضل، ولكن لا يهم، فلم يعد هناك من يستمع، هل هذا هو السبب؟


قبل اسبوعين، تعرضت لألم فضيع في ضرسي. لم أستطع النوم في تلك الليلة أبداً، رغم أني ذهبت إلى مستوصف وأخذت ابرة مسكنة، وهو أمر أفعله لأول مرة، وأنا أكره أن آخذ أي ابرة من المستوصفات الأهلية ودائما أرفض، رغم ذلك لم أستفد. كنت أتألم بشكل غير طبيعي، لا أستطيع أن أبقى على وضع واحد، أود أن أصيح بأعلى صوتي من الألم. وضعت القرنفل وتناولت المسكنات بلا فائدة. صرت أقرأ القرآن في الماء ثم أشرب، يسكن الضرس قليلاً ثم يعود الألم. كان أمر معذب. في النهاية ذهبت إلى حيث تنام أختي وأمي المريضة. طالباً نوع من الدواء لديهن. لم ينفع الدواء، بيد أني استطعت أن أغفو لنصف ساعة تقريباً لديهن بعد الفجر. لم أذهب إلى العمل في ذلك اليوم، فقد ذهبت إلى طبيبة أسنان اتصلت بها اختي الأخرى بطلب مني وحجزت موعد لديها. ذهبت إليها وساعدني ذلك كثيراً ولله الحمد. لم أنم سوا الساعة الواحدة والنصف في الظهر. صدق من قال أن لا وجع إلا وجع الضرس ولا هم إلا هم العرس، مع أني لا أدري عن الجزء الأخير من المثل. لكني أعتقد أن ابن آدم ضعيف، يؤرقه أي ألم. الحمد لله على الصحة والعافية، كثيراً ما يخطر في بالي الناس الذين يعانون طوال الوقت من الآلام والعذابات، حتى يتمنوا الموت. كنت أتمنى أن اخلع ضرسي في ذلك اليوم وأرتاح منه. لم يكن لدى الأولين أطباء أسنان، ومن يعالج الأسنان لا حل لديه سوا الخلع. وبعض الأولين يخلعون جميع أضراسهم مرة واحدة ليرتاحوا من الآلام. لو كنت أعيش في ذلك الزمان لفعلت مثلهم بلا تردد، وإن عنى هذا ما عنى، من احتمال تجوف خداي، وصعوبة الأكل، فأي شيء أفضل من ألم الأسنان. كان ألم الأضراس حينما لا يوجد من يعرف كيف يخلعها يقعد الناس في بيوتهم عن طلب الرزق في الأوقات القديمة، ويجعلهم طرحاء الفراش لفترات طويلة. رأيت صورة للرياض قبل عقود طويلة. حينما كان معالجي الأسنان يجلسون في رصيف شارع واسع والناس يجلسون أمامهم طلباً للعلاج، تحت شمس ساطعة. حينما كنت صغيراً سببت أسناني اللبنية مشكلة في فترة معينة وصرت كثير التردد على طبيب الأسنان. اقترحت أمي ذات يوم أن تخلع كل أسناني، قلت بهلع ولكن كيف سآكل؟؟ قالت أمي: نعطيك مرقوق! وهو أكلة لا تحتاج إلى مضغ. لاحقاً، كانت اسناني اللبنية مصدر قلق لبعض الوقت لأنها تأخرت بالسقوط.


راجعت الطبيبة عدة مرات، وهي مصرية متمكنة حسب تجربة أهلي، يبدو أنها نصرانية. الطبيبة عصبية، ولكنها مضحكة جداً. وطماعة كذلك... وضعت لفافة تحت لساني، ولكني حركت لساني فخرجت اللفافة، فشرحت لي بأن أحاول ابقاءها تحت لساني كما أخبئ اللبان حينما يدخل المدرس! ثم أعقبت: بس انت بتشتغل! ثم قالت بتفكر: بس شكلك صغير. لا يبدو شكلي صغيراً، وليس إلى درجة وجود مدرسين في حياتي على أي حال. كان لساني يسبب لها أزمة. قالت فجئة بعصبية وهي تعامل لساني: لسانك ده أنا مش مستحملاه بصراحة! لم أستطع منع نفسي، ضحكت من أسلوبها الطريف. ويبدو أنها معتادة على إضحاك مرضاها. كان الله في عون الممرضة الفلبينية التي معها، فهي دائمة التوبيخ لها. لدى الفلبينيين قدرة كبيرة على التحمل. عموماً من المعروف أن المصريين بالذات يتسلطون بشكل مزعج على الآسيويين خصوصاً، من هنود وغيرهم.

بالأمس، ذهبت مع أمي إلى الطبيب في موعد معتاد لها. يبدو أن بعض الأطباء باتوا يعرفونني. ولكن هذا الطبيب كان قد وجدني بالمستشفى في وقت الدوام حينما كنت أعمل في الجامعة، بينما كانت أمي تخضع لعملية في تلك اللحظة. تعرفني في ذاك اليوم وجاء ليسلم علي ويسأل عن أمي. كان هذا قبل أكثر من سنة ونصف، وكان قد علم بأني موظف في الجامعة. أمس، يبدو أنه نسي، حيث سألني إن كنت قد تخرجت من الجامعة؟ أفهمته الوضع الصحيح وأني متخرج منذ زمن طويل. هو من الأطباء القلة الذين يحسنون التعامل مع مرضاهم، رغم أنه رجل يتعامل برسمية، ولكنه يهتم بصدق، وهذا ما صنع له سمعة قوية.

لن أتمكن من الذهاب مع أمي في موعدها الآخر اليوم، حيث لأول مرة يتصادف أن يكون لدي موعد في نفس اليوم، ولا أستطيع الخروج من العمل مرتين للأسف.

لا أدري هل كل الناس يشعرون مثلي؟ ولو في بعض الأحيان؟ هل يشعرون برغبة بترك كل شيء والبقاء في المنزل للنوم والاسترخاء قدر ما يريدون؟ أتمنى لو كان لدي مصدر رزق ثابت، مثل بعض المحظوظين، وإن كان ما يدره بالشهر أقل من مرتبي الحالي، ولو كان نصفه، ليكون خيار ترك الوظيفة والبحث عن عمل ما أحب، أو حتى الاستراحة من الحياة، أمور لا تبدو مخيفة. إن المرء يتمنى أشياء أحياناً، ويعلم بأنه لن يقوم بها حتى لو أتيحت الفرصة، ليس لفضيلة في نفسه وتعفف عن الراحة، ولكن لخلل. أعلم بأني جربت نفسي من هذه الناحية، إني أطمح للأفضل، وهذه مشكلة لدى بعض الناس الذين يصعب وصولهم للأفضل المرضي لطموحهم بسبب طبيعتهم وظروفهم. جربت نفسي حينما تركت وظيفة الجامعة طمعاً بالأفضل، رغم ارتياحي للعمل هناك، ضحيت براحتي النفسية وأنا لا أدري ما أنا مقبل عليه، وليس الخلل في أنني لا أدري ما أنا مقبل عليه، ولكن، لعلمي بما تركت خلفي، فلو لم أكن مرتاحاً في الجامعة لرأيت الأمر يتحمل المخاطرة. بالواقع، لم أكن أبداً راضياً عن أمور كثيراً حتى حينما كنت بالجامعة أعمل. لا أحد راضٍ في هذه الحياة، ولكن رضاي ممتزج مع إرهاق، استنزاف وشكل من اليأس، لقد وصلت منذ فترة سنوات الآن إلى حالة أن كل شيء تافه صار مغرٍ، وكل حقيقي بقيمته صار تافهاً؛ صار دفء الشمس في مصلى كلية اللغات مغر للاسترخاء فيه ونسيان المحيط، وصارت هبة الهواء مغرية بترك العمل، والبيت والطعام، لتنفسها، والاستلقاء بأمان في طريقها، صارت السجادة على الأرض داعية للنوم لأن ضوء خافت من النافذه يضيئها. صار من الصعب للمهم أن يعني شيئاً، صار من الصعب للدنيا المادية أن تكون مغرية، أن تكون ملهاة. أمور كثيرة صارت تفي بالغرض بعدما كانت كفاف.

لكن لنفرض أني امتلكت الحظ والشجاعة، وبقيت حياً أصرف على نفسي من دخل ثابت وأنا مستريح بالمنزل. هل ستقبل بي فتاة للزواج؟ وبالواقع، لو كان لدي ابنة، هل كنت سأقبل أن أزوجها رجل كهذا؟.يوجد أمر خاطئ بالمعادلة، يبدو أني فاقد لتوازن المقومات في حياتي بشكل ما.

أفكر هكذا عموماً حينما أكون ناعساً ومرهقاً. ولكن هذا لا شيء أمام ما أفكر به كل يوم حينما استلقي للنوم.





قرأت اليوم في جريدة الشرق الأوسط عن رواية لصحافية نرويجية، اسم الرواية: بائع الكتب في كابل. وهي تتحدث عن بائع كتب حقيقي أقامت في ضيافته تلك الصحافية، وسط عائلته لفترة من الزمن. الرواية تنتقد هذا المضيف وتصوره منافق ذو وجهين، متفتح ليبرالي أمام الناس ولكن قاسِ وظالم في بيته. هكذا تتوقع من ضيوفك الغربيين. كانت قد بنت تصورها لأسباب ذكرت في المقال، لأن الرجل تزوج زوجة ثانيه وأتى بها إلى المنزل، بعد زواج دام لسنوات مع زوجته الأولى التي حزنت كثيراً كدأب النساء. إنه أمر لا نراه نقيصة في مجتمعاتنا المسلمة حينما يتزوج الرجل زوجة ثانية، ولا نراه ظالماً لأن زوجته بكت فقط، حيث أن رؤيتنا للظلم تتطلب ظلماً حقيقياً، مع التقدير الكامل لعواطف النساء وتفهم حزنهن. الأفغاني، الذي لا أدري عن حقيقته بالواقع، ولكني أدري أنه ووجه بما هو متوقع من هذا الجنس، غاضب مما جرى، ويحاول ملاحقة هذه المرأة قضائياً. تصر المرأة على موقفها في الرواية، وتدعي أنها رأت الظلم البين بعينيها، بينما يقول بائع الكتب بأنها فقط لا تفهم طبيعة المجتمع المسلم، ولا واجبته وأدوار أفراده، والتغاء الفردية فيه، كما يقول بأنها جائت إلى أفغانستان وهي تملك رؤية مسبقة، لديها إطار محدد، وضعته فيه هو وعائلته. وهذا ما يغلب على ظني أيضاً، حكاية القالب أو الإطار، هذا ما يجري بالعادة من الغرب ومن شابههم. لفت انتباهي خبث المرأة، أو على الأصح، المراوغة المتأصلة بالغرب، وذلك حينما طلب الرجل مقابلتها، قابلته بصحبة والدها، بقصد جعله يحترم وجود شخص مسن وربما يلين موقفه، لمعرفتها، ومعرفة الغرب عموماً بطبيعة رؤيتنا للأمور وتعاملنا مع حقائق الأعمار والظروف، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بالها مثلاً لو كانت مشكلتها مع أحد أبناء جنسها، كذلك، لم يخطر في بالها الاحترام حينما كتبت في الرواية تصف أم الرجل العجوز وهي في حمام عمومي. لسنا وحدنا من لديه خصوصية لا يحترمها الغرب، ويقولبها ويجدها مادة للتشويه، وهي مجرد خصوصية. فمثلا، ألف شخص غربي رواية عن العائلة الامبراطورية في اليابان يشكك فيها بأمور كثيرة لا تليق من ناحية الانساب وأمور مشابهة، مع معرفة الجميع بخصوصية تلك العائلة الروحية لدى شعبهم، كما حدث مؤخراً في تايلند حينما كتب استرالي مقيم هناك، في أرضهم، رواية مس فيها بالذات الملكية، التي ينص قانون صريح لديهم بعدم المساس بها، ولكن بما أنه أبيض السحنة، ومن جنسية من عصبة جنسيات، فيحق له حسبما يتخيل أن يفعل ما يسيء للناس وشعورهم، ومع ذلك يخرج من الامر بسهولة، بيد أنه سجن قليلا، إلا أنه عفي عنه للأسف الشديد، على غير العادة مع الأجناس الأخرى. هؤلاء قوم يجري انتقاص الغير في دمائهم، يجري الاستفزاز في دمائهم، وهم مع ذلك من يتظاهر بتقريب وجهات النظر بين الخصوم. عموماً، ليس أقسى مما قامت به النرويجية بذلك الرجل، وخصوصاً من ناحية أمه، فهذه إساءة أكثر خصوصية، لو نظرنا إلى أن إساءتها تجاه ضيافته وأمور ديننا تتوزع علينا جميعاً. سرطان الجنس البشري، كما قالت إحدى مفكراتهم المنصفات.



الآن استهليت اسبوعي الثاني في مكان عملي الجديد. هل ستسير الأمور على ما يرام؟ عسى الله أن يكتب الخير والصالح.



البارحة، ذهبت لزيارة زميل دراسة في منزله. كنت دائما أعترف بأنه رجل طيب، ولكن لم أكن أرى في تواصلنا سهولة وسلاسة بشكل عام لاختلافات جوهرية بالطباع، ولسوء الحظ كذلك. عليه، تركته لفترة طويلة جداً وهو المبادر للتواصل، دون أن أكون فعالاً في الأمر بأي طريقة. وأعجب الآن، كما دائماً، من مثابرته على هذا، وعدم تخليه عني وعن علاقتنا الأشبه بالعابرة، الخالية من الأمور المشتركة سوى في التخصص. في السنوات الأخيرة خاب ظني بالكثير من الناس، حتى بدأت أفقد روح المبادرة شيئاً فشيئاً، وفي مثل هذا الزمن الذي يتقطع فيه حتى الأقارب، فقدت الرغبة حتى في التواصل المجامل مع مجموعة كبيرة من الناس، ولم أعد أكترث لاهتمام أياً كان على الأغلب. ولكن كانت هناك دائما تلك الحالات الاستثنائية، التي بادرت أنا فيها وثابرت وتعلقت ورعيت الأمل، ولكن، دون جدوى، فالمرء يحصد ما يزرع. لم يكن هذا الزميل على أي حال ضمن مبادراتي، كنت أفضل أن أترك الأمور على عاتقه، لأن في كل مرة أحاول أن أساهم بالأمر يحدث أمر لا يعجبني، فتركت الأمور مائعة لا شكل لها من طرفي. هو رجل مختلف، ذكي ولكنه أحمق قليلاً، جلف أحياناً، ولكنه طيب جداً و ودود، ولديه فائض من المقومات الظاهرة التي تجعل من الآخرين يحبونه بسهولة، على أنها ليست مقومات سحرية، فهي أشبه بأمور رياضية يمكنك حسابها. لم أبادر أمس اعتباطاً، بدأ الأمر قبل فترة أكثر من شهر، أو حوالي شهرين. كنت في ذلك الوقت في كوفي شوب، مع أصدقاء تعرفت عليهم في موسم الحج، حينما لمحت رجل يشبه زميلي هذا تمام الشبه، إلى حد لا يصدق، ولكن بالنظر إليه أدركت أنه ليس هو. لكني تذكرت زميلي على أي حال، فأرسلت له رسالة أسأله بها عن حاله، وهذا أمر لم أقم به من قبل. ونظراً لطبيعته السمحة والمحبة للتواصل، توقعت أن يرد علي بسرعة، ولكنه لم يرد أبداً. فكرت بأنه ربما مشغول، مع أنه لا يبدو من النوع الذي قد يشغله شيء لمدة طويلة. بعد فترة ليست بالقصيرة، انتقلت إلى مكاني الجديد في الفرع الرئيسي من الوزارة، والوزارة ملاصقة لمقر عمله، صدفة عجيبة، هذا العمل قربني من شخصين مميزين الآن بشكل غريب. كان يجب أن يعلم بأني انتقلت إلى جواره، فلست أتخيل أن أجده بعد أشهر مصادفة ثم يعلم بأني لم أخبره طوال هذه المدة رغم وصاله، فهو يزورني حتى في مقر عملي بالجامعة حينما يأتي لأمور تخصه. اتصلت فيه مرة أو مرتين ولم يجب. أحسنت الظن مع ذلك، فأنا أثق بطبيعته، وقررت قرار على ضوء ثقتي هذه، الأولى من نوعها، قررت أن أذهب إليه في بيته لأراه. هناك خرج وسلم، ودعاني للدخول ولكني فضلت أن نخرج بالسيارة، لأني أتيت من غير موعد فقد لا يكون مستعداً لاستقبال أحد، لم أقل هذا بالطبع. علمت بأنه انشغل فنسي الرد على الرسالة أو معاودة الاتصال، وهذا حدث مع آخرين كذلك، بسبب دراسته الجديدة بالجامعة. بطبيعة الحال، لست من أولوياته، فقدرت هذا، وكان ظني صحيحاً، أنه مشغول فقط. تحادثنا كثيراً، بأمور مختلفة، لكنها لا تخرج عموماً عن السياق المعتاد في كل مرة. كنت دائماً أشعر بأن هذا الرجل لديه سر يهمني بشكل خاص سماعه، لا أدري لماذا، ولكن يبدو عليه دائما بأنه يخفي عني على وجه الخصوص شيء معين.






يوجد شعور طيب يداهمني في لحظات معدودة من حياتي، في لحظات أكون فيها في ورطة أيا كان نوعها. وأنا لا أتوقعه، وحينما يداهمني أكون ناسياً لإمكانيته من الأساس، وهكذا، يكون مداهمة. آخر مرة شعر بهذا الشعور كان قبل انتقالي للمكان الجديد، في أوج نفسيتي المتعبة وإحباطي. كنت في الليل أحمل كالعادة هم صباح الغد، حيث سأذهب إلى العمل الذي أكره بشدة. شعرت فجئة وكأنما شيء داخل نفسي يقول كل شيء سيصير على ما يرام. كان شعور قصير، بهذا الاقتضاب والمباشرة. تأملت توقيته المباغت، وتفكرت بأني لم أشعر به منذ زمن بعيد جداً. فكرت بأن أنتظر وأرى. في الغد أو اليوم الذي يليه، تيسرت أموري للانتقال من المكان ولله الحمد. لم أجد هذا الشعور كثير في حياتي، وأشعر بأنه يأتي من خارج نفسي، وبالتأكيد من خارج إرادتي. أعلم بأنه شعور يرد بعض الناس أيضاً. ولكن الآن، يجب أن أنساه حتى يداهمني مرة أخرى، أليس كذلك؟ كم سيطول الأمر وكلي أمل...



لست معتاداً بعد على نظام بلوجر في التدوين، ولا على خياراته، كما أن قوالبه المعربة ليست بكثرة قوالب الوردبرس، ولكني كنت دائما أفضل منتجات جوجل وأفضل خدماتها. مع أني أشعر من بعد قراءة بعض الأمور أنها قد تشكل كارثة لبعض الناس المعتمدين عليها، كما حدث حينما حذر تقرير من استخدام متصفحها. ولكن الكل مفتون في هذه الشركة، وكيف لا؟ وهي لا تبيع شيئا للمستخدمين، وتقدم خدمات كثيرة لهم بالمجان، وتفيدهم في أبحاثهم واهتماماتهم بشكل غير مسبوق. فأنا على سبيل المثال أكتب الآن من محرر مستندات جوجل التابع لحسابي، وأنشر على مدونتي عن طريقه مباشرة دون أن أسجل دخولي في بلوجر. أرجو أن أتعلم كيف أعدل بشكل جذري على شكل المدونة، مع أن تعديل الألوان والأشياء المشابهة يسير كشرب الماء. أخطط الآن لشراء اسم خاص لمدونتي، فحتى لو لم أستمر، اعلم بأني في مرحلة ما سأستفيد منه إن شاء الله. ما لا يعجبني، هو عدم قدرتي على تغيير الخط في قمة المدونة الذي يحتوي على خانة للبحث. هذا أكيد ضريبة المجانية.



سعد الحوشان

الأحد، 22 فبراير 2009

ما بعد الجامعة




بسم الله الرحمن الرحيم


أعلم الآن ما هو شعور الانقطاع بعد اتصال طويل، صادق وحميم. إنه التلعثم. هذا ما جرجرني منذ فترة، وأجل عودتي للكتابة في مدونة، بعد حذفي لمدونتي القديمة، التي عمرت أكثر من سنتين من المثابرة، ومواكبة حياتي إلى حد بعيد.
لقد كان القرار القديم غير معلن، لأنه يتعلق بإغلاق المدونة، ليس كبقية القرارات التي يسمع بها مني قارئي حتى لو بعد اتخاذها. الآن أعود للتدوين، وإن كانت عودة أقل جدية على ما يبدو، بلا رادع لإغلاق المدونة مرة أخرى. حيث يسهل القتل كما يقولون بعد أول مرة.

إذاً، ما هي أخباري؟ ماذا جرى بحياتي؟ لا زالت حياة داخلية، فكرية بمجملها، التغيرات كلها بالداخل، أما الخارج، فهو لا زال قشة يتلاعب بها ساقي، عدا أنها بدأت تغرق.
عملي القديم، جامعتي العزيزة، لم أعد أعمل فيها. لقد توفرت لي وظيفة أفضل في مكان حكومي آخر، فنصحني الأغلبية بالمغادرة، فغادرت، منذ ثلاثة أسابيع. بؤس. أعمل الآن في مكان جاف، يخلو من الدكاترة والأنذال، ولكنه يخلو من الدفء كذلك، ومن روح العلم، و من كل جميل بالجامعة. كل شيء يبدو بلون واحد، والناس،، لا أعرفهم جيداً، ولكن، ليسوا كأصدقائي في عملي القديم.. أين أنت يا عبدالمحسن بلحيتك الطويلة ووجهك الجميل الباعث على الطمأنينة، أين خالد الأخ أكثر من أي شيء، أين أبو محمد وأبو فيصل الطيبين المهتمين، وأين المدير الحنون المقدر. مديري الحبيب، كنت تعلم كم كنت أحبك وأكبرك كما يكبر التلميذ الصغير معلمه القدوة، لن تقرأ ما أقول، ولكني حقاً أفتقدك، وأتساءل ماذا لو أطعتك وبقيت؟. الزملاء صغار، لا يلائمونني. أما الزملاء الأبعد، فمنهم من كان وقحاً قاسياً بشكل يستحيل على موظف في الجامعة مهما بلغ سوء الفهم، ومنهم من كان غبياً بليداً على نحو يشل اللسان. منهم الكثير من اللطيفين، ولكن ما يمكن للسوء والوقاحة أن يبلغان، أمر يطغى على كل انطباع. وجدت أني أجذب الملتزمين على وجه العموم، وأثير اهتمامهم كما يحدث في عملي السابق، وفي الأماكن العامة حتى. وهذا أمر جيد. رغم أني لا أدري مصدره، فأنا دائما ما أغلب ظن العداء منهم أو التجاهل، ربما للقصر البالغ الذي أصنعه بشعر وجهي (ديرتي فيس)، وربما لتجربة صدمتني من زميل سابق في عملي القديم، غير رأيه لاحقاً واتجه إلى احترامي وتقديري، وربما لتجارب من ملتزمين وغير ملتزمين مقربين أساءوا إلى فهمي لأمر الالتزام منذ الطفولة. لا زلت متفرجاً على حياتي كما في الماضي على وجه العموم، ولكن ما جعل القشة العائمة تتشبع بالماء، وتبدأ بالغرق، هو تذكير سمعته من أختي، عن مضي الحياة بنا حتى لم نعد صغاراً، في نبرة هذا التذكير، أننا لم نفعل شيئا يستحق الذكر في حياتنا حقاً.

سألتني ابنة أختي، وهي في الثانية عشرة من عمرها، إن كان لدي أصدقاء. لم أعرف ما أجيب. قبل أشهر قليلة كنت سأعددهم. ولكن الآن، من كنت أعتبرهم أصدقاء ثانويين، في العمل أو بالاتصالات المتقطعة، هم من خطر على بالي، مع ذلك، لم أدري إن كانوا سيصبحون إجابة صادقة. لاحظت بأني لم أعلم بماذا أجيب، حيث قلت: نعم، لا أدري، أعتقد. قالت أختي بأن المرء لا يجب أن يكون لديه أصدقاء ليعيش حياته، ولكن كانت تحسبني محرج لتقول هذا، مع أني لم أكن محرجاً بقدر ما كنت محتاراً. قلت الحقيقة، أن أختي هي صديقتي. بطبيعة الحال، لم تقتنع ابنة أختي.




على صعيد الأسرة، أمي طريحة الفراش حالياً، ولكن حالها إلى الأفضل إن شاء الله. خضعت لعملية في عمودها الفقري، ولكنها على ما يرام الآن ولله الحمد. لم أتذوق طبخ الملهمة منذ ما يبدو الأزل، إني أموت جوعاً بصدق. لم أعد أحب المطاعم، ولكني صرت مجبراً عليها.

كدت أبدأ بإجراءات نشر الرواية، ولكن لعلي أتأخر قليلاً في التحدث عن الأمر.

كان انتقالي للعمل الجديد مفاجئة. كنت لاهياً في الجامعة بإجراءات انتقالي من قسمي، إلى قسم آخر، إلى المكتبة، حيث للعمل هناك وقع خاص على نفسي. نسقت الأمر مع مديري الذي حاول اقناعي بالبقاء، ولكني أصريت. قابلت المدير بالمكتبة الجامعية، وكان ودوداً ومهذباً، ومرحباً على نحو استثنائي. كذلك قابلت دكتور من هناك، كان غير مريح تماماً، لكونه دكتور سعودي كامل المواصفات، على أني لم أرى منه خطأ بالواقع، مجرد عدم ارتياح. رحبوا بي، وكاد الأمر الذي تمنيته واستبعدته أن يتم، ولكن، فوجئت بقريبي من القصيم يتصل ليبارك لي ظهور اسمي بالجريدة، بوظيفة تقدمت من أجلها منذ أكثر من سنتين وقد نسيتها، وحسبت أن النظام لن يعطيني إياها. أخبرت المكتبة محرجاً، بعدما اكتشفت بأنهم خاطبوا مديري ليسألوه عني، فطلب منهم اقناعي بالبقاء لديه، مما حفزهم وزاد من حماسهم بأخذي لديهم، كان مديري يريد دعمي حتى ضد إرادته. أن تعلم بأن أحدهم يقدرك هكذا ويقدر عملك وتعاملك في زمن يعتقد فيه الجميع بأن لا أحد يستحق الشكر، تشعر بامتنان. اعتذرت من أهل المكتبة، واستبقاني مديرهم طويلاً ليحادثني بشأن خياراتي، من باب الود فقط. طالت الإجراءات المملة وغير ذات المعنى. كان أمر سخيف وحارق للأعصاب، بسبب ضيق الوقت قبل العلاوة السنوية التي يجب أن أنتقل قبلها لأنالها حسب المرتبة الجديدة. ولكن، ها أنا الآن، في عملي الجديد الممل، الذي لا يقارن بمتعة عملي الأول رغم عيوبه، حيث كنت على الأقل أعمل حسب تخصصي، وفيما يحتاجون فيه إلى اللغة حقاً.

وجدت إعلان مؤخراً من مركز تدريب جديد، بإدارة غربية، يعطي دورات قصيرة في مجالات مختلفة. ما لفت انتباهي هو دورة العمل التجاري من المنزل. سارعت بالتواصل معهم، ووجدت المختص بهذا الأمر هو امرأة غربية. ذهبت إلى مقرهم وهو غير بعيد عن حينا، والتقيت المرأة. هي امرأة كبيرة، أقدر عمرها بحوالي الخمسين، رغم أن صوتها شاب جداً، تحسبه لامرأة شابة في الثلاثينات أو العشرينات. وهي امرأة جميلة جداً ومهندمة. حينما رأتني جاءت باسمة، وكنت قد وضعت يدي في جيوب جاكيتي، حتى تفهم بأني لا أصافح النساء، كما أحسب بأنها تتصور عن البعض هنا. ولكن رغم ذلك، بعدما وقفت أمامي للحظة مدت يدها، فتأسفت ولم أخرج يدي. أخفت الضيق على وجهها، ولا ألومها على الإحراج. ولكن شعرت بأنها تود لو أنهت الأمر بأسرع ما تستطيع، وبحيث لا ألاحظ. كانت قد أخبرتني من قبل حينما سألت عن جنسية ومؤهلات مقدم الدورة أنها هي من سيقدمها، وأنها استرالية وذات خبرة ومؤهلات مقنعة، رغم أنه بدا على صوتها التأمل وهي تخبرني بالإجابة، إذ كانت تقرأ رسالتي في البريد بينما اتصلت أنا مستعجلاً على الإجابة، ربما لم يسألها أحد هذا السؤال؟ أو لم تتوقعه، أو بحثت بالمقصد من وراءه. وقد تبين لي الآن أنها بطيئة على ما يبدو في إرسال الأمور، ربما لعدم وجود مساعده. سألتني وبعدما أعطتني بعض الأوراق إن كنت لا أمانع بوجود نساء بالدورة؟ أخبرتها بأن هذا يعتمد على المكان، حيث أني لا أمانع إذا كان هناك فصل في أماكن الجلوس. أخبرتني بأنها قد لا تعطي الدورة. ظننت أنها فهمت أني لا أوافق على وجود نساء، ولكنها شرحت بأن البعض لا يحب أن تعطي المحاضرة امرأة، وقد حدث هذا في بعض محاضراتها في بعض الخليج والسعودية. أخبرتها بأني لا أمانع. ولكن إن كانت ستجد من يعطي الدورة من الرجال، فيجب أن أعرف مؤهلاته وجنسيته. أخبرتني بأنها لن تضع أي أحد وأنها انتقائية فيما يخص الأمر، بدا أنها حسبت بأني أسيء الظن فيها، ولكن لا أعرفها حقاً، فقط أريد أن أكون على بينه. أكدت بأنها ستختار أحد بمؤهلات ممتازة تعادل ما معها. وبينت بطريقة غير مباشرة بأن المحاضرين غرب. بطبيعة الحال، لا أتصور أني سأحضر دورة عن هذا الموضوع يديرها عربي، إلا إذا كان سعودياً. سجلت الآن في الدورة ولكن لم أدفع بعد. ولا زالت بطيئة بالإجابة على الاستفسارات. مشكلة.

هل سيرى النور ما أكتبه هنا؟ لا أدري. إن ما شجعني على العودة إلى الكتابة في مدونة هو انتهائي من كتابة الرواية، رغم ما بقي من رتوش بسيطة لا تؤجل النشر لو قررته أكثر من يوم أتصور... لحظة، العنوان لا يزال مشكلة.

تمكنت أمس أخيراً من أداء بعض الترجمة لصالح جهة خيرية تطوعت لديها. كنت متحمساً منذ يوم الأربعاء، ولكني انشغلت طوال الوقت حتى لم أعمل سوا مساء الجمعة، وكان الوقت ضيقاً كذلك، على أن إنجازي من حيث الكم كان جيداً إلى حد بعيد. ما بال الوقت يفر هكذا. لم يعد الأمر أنك لديك وقت ولا تدري كيف تقسمه مثلاً، ولكنك صرت تطارد الوقت، وتسابقه قبل أن يسبقك. كان هذا وضعي مع آخر عملي على روايتي، وهو عمل لا زلت أفكر بمراجعته قليلاً، رغم أني مقتنع به جداً.

بدأت بتعلم لغة، عن طريق الـ بودكاست. وجدت موقع يقدم خدمة تعليم لغة أحببتها منذ فترة أن أتعلمها، إجمالا لإعجابي بطريقة كتابتها. اللغة هي الكورية، وتكتب بطريقة مختلفة تماماً عن اليابانية والصينية، فلغتهم حروفها محدودة، 24 تقريباً، ليست كاللغتين المذكورتين حروفها بالآلاف. وهي تنتمي لنفس العائلة اللغوية التي تنتمي إليها التركية. طريقة كتابتها جذابة بالنسبة لي، أحب طريقتها بالخطوط المستقيمة والدوائر. كما أن لدي اهتمام بثقافتهم، ضمن اهتمامي بالثقافات الشرقية عموماً، وإن تفوق مؤخراً إلى حد ما. لا زلت أتعلم أشياء بسيطة جداً، ولكني أستوعب إلى حد ممتاز، وأشعر بالتقدم. أما الكتابة والقراءة فستنتظر. حدث هذا بعدما اشتريت مشغل صوتيات صغير وأنيق، والأهم رخيص، من سامسونج. وجدت الأمر مفيد حقاً. والبودكاست لمن لا يعلم هي تسجيلات صوتية يقوم بها الناس وينزلونها على الانترنت، مثل الراديو المسجل، ولكن الكل يمكنه القيام بها، مثلما يمكنه التدوين مثلي الآن، مما دفعني منذ فترة جيدة للتفكير بها لخدمة حاجات تهمني، ولكني لا زلت أخطط الأمر ووقته.

منذ أمس، وأنا لدي شعور أني على وشك أن أخوض معركة ضد الإدارة، في أسبوعي الرابع من العمل. بالواقع، منذ أن أتيت وأنا ممتعض من عدم عملي بمجال تخصصي، ومسمى وظيفتي. أمس، كاد المدير أن ينفجر حينما وقعت في نهاية الدوام على الخروج، وخرجت، مع أنه أرسل من يخبرنا بوجود عمل وأنه يريدنا أن نبقى. لقد أفسده الزملاء الصغار بمجيئهم حتى بالليل للعمل، بلا مقابل، فقط لأنهم غير رسميين. تبين أنه كان يدعو لاجتماع وأن الرسالة وصلتني بشكل خاطئ، مع ذلك، اجتماع حينما انتهى وقت الدوام؟؟؟ ألم يكن اليوم برمته بكفي؟ أو، هل سيموت أحد لو انتظر إلى الغد؟؟؟ منذ أن خرجت جاءتني اتصالات متكررة من رقم غريب، شعرت أنه من العمل فلم أجب، لأن نفسي طايبة منهم بصراحة، وكارهم وغير مقتنع بما أقوم به لديهم، أو بتعاملهم الفظ وعدم تقديرهم أبداً. ثم وصلت رسائل، اهملتها حتى تناولت وجبتي ومرت حوالي الساعة والنصف. حينما فتحتها قبل قيلولتي، وجدتها من المدير، غاضب، يتساءل لماذا أخرج بينما دعا لاجتماع؟ اتصلت فيه، واخبرته ببساطة أني ظننت أن الأمر هو معاملات جديدة، ويمكن لهذا أن ينتظر إلى الغد. حينما أجاب كانت أعصابه قد بردت على ما يبدو. إلا أني تضايقت حقاً من هذه المطاردة، والثقة بالهيمنة المطلقة على الموظفين. توقعت منه ردة فعل اليوم، إلا أنه بحكمة لم يتصرف بطريقة سيئة، وتظاهر بأن الأمر لم يحدث، رغم استعدادي معنوياً للمناقشة.

عموماً، حدثت أمور كثيرة، ومثلما يمكن لمن يعرفني أن يتخيل، لا يكفي أن أتشاجر مع مجرد مدير، فمستوى حظي السيئ لا يرضى بأقل من وكيل وزارة، حتى الآن على الأقل. أتمنى أن لا يفسد الأمر مع الوزير كذلك. لقد تشاجرت مع وكيل الوزارة المسئول عن إدارتنا. حينما تخبر أي أحد بأمر كهذا، سيتخيل بأنك شخص حمقي، لا سعة بال لديك، صاحب مشاكل ومزعج يجب أن يتجنبك. ولكني مظلوم، فأرجوا أن لا يأخذ أحد الفكرة هذه عني، حيث لدي شفاعة سنتين من الود مع الجميع في عملي السابق، والتقييمات الوظيفية الحسنة، والمراجعين المحبين. لكن كان الأمر يتعلق بالمبادئ هذه المرة. بدأ الأمر حينما ذهبت إلى مديري، وشرحت له وفقاً للأصول بأني راغب بالنقل بسبب كذا وكذا، وفي هذه الحالة بسبب عملي في غير تخصيص وفي أعمال ليست ضمن مسماي الوظيفي، وفي هذا هدر للخبرة التي اكتسبتها بالجامعة، وعدم استفادة من مؤهلي. كنت إلى حد ما قد كسبت عداء المدير حينما ذهبت إليه حاملاً ورقة مهينة وزعت علي وعلى زملائي، تحمل في طياتها كلمات جارحة وظالمة، تم الاعتراف لاحقاً بطريقة غير كافية بأنها ستوجه كذلك لموظفين آخرين، هم من قام بالأخطاء بالواقع، مع أن رؤيتهم لنا اتضحت ولم يعد هناك رجعة، ياللغباء الإداري. كانت الورقة عموماً تحتج على وجود أخطاء في بضع معاملات من بين 750 معاملة تقريباً أنجزناها خلال أسبوع. وتقول بأنه ما تم توظيفنا نحن المترجمين إلا لتدقيق الأوراق والأختام. كان في هذا إهانة وقحة لتخصصنا ومهنيتنا، وتهديداً ضمنياً لزملائي الذين يعملون حسب عقد. سألت مديري في ذلك اليوم بعدما قرأت له أجزاء من الرسالة: ألا يوجد اعتبار لتخصصي؟ نظر إلي نظرة جانبية قصد بها إخافتي، ولكنها كانت فارغة ، وربما تستخدم لتخيفه هو بالعادة. لما لم يرى استجابة، توقف عن هذه الحركة السخيفة، وأخبرني بضيق بأنه لا يوجد من يحتاج إلى مترجم في الوزارة، وأن المرء لا يلزم أن يعمل وفق تخصصه، فهو يعمل منذ 14 سنة دون أن يعمل بتخصصه، أخبرته بأن هذا خاضع لخيارات المرء وقناعاته، وكنت أعلم بأن الجزء المتعلق بعدم الحاجة إلى مترجمين هو كذب محض. علمت في ذلك اليوم أنني أتعامل مع أناس يتركبون من عدة عقد، عقدة الضعف والخوف في الأدنى، وعقدة الوقاحة والكبر والتسلط في الأعلى. كانت الرسالة تحمل ما يشبه الإخافة من الوكيل المشرف على إدارتنا بذاته، مما يجعلك تتوهم بأنهم يتعامل مع نفسه كوكيل ابتدائية، عموماً، هو دكتور سعودي بالنهاية من النوعية الدارجة. علمت بأن الوضع لن يتحسن هنا، ولن أعمل مترجماً. في وقت لاحق بعد مرور وقت ذهبت إلى المدير مخاطباً إياه بخصوص النقل كما قلت سابقاً. ولكنه هذه المرة بدا وكأنه قد يئس من إخافتي، فكان محترماً، وقال بأنه سيستشير الوكيل. استدعاني الوكيل لاحقاً مع مديري، وبدأ برفع صوته، فسألته ما الذي يوجب رفع الصوت؟ فقال بأن الوزير يرفع صوته عليه، وهو سيرفع صوته على من دونه!! أخبرته بأني لا أقبل هذا، فقال بأنه رفع صوته على مديري الجالس معنا اليوم، ويقرص اذنه كذلك! مفتعلاً الحركة بيده!! وقد جحظت عينا مديري الذليل بصدمة، فأي إذلال واستخفاف هذا؟؟!، ولم يقل شيء او يظهر عليه الاستياء بعد ذلك حتى!، مع شعوري القوي بأنه يكذب فيما يخص الوزير بكل تأكيد، فلا أتصور أبداً بأن الوزير قد يفعل هذا. ثم احتج بأنه هو أيضاً يدبس الأوراق. بما معناه بأني بالواقع لست أكثر من دبّاس أوراق، ومع هذا، لماذا أحتج؟ فأنا عبد لا أكثر، مجرد موظف حكومي سعودي. قال بأن الموظف الحكومي يفعل ما يؤمر به وليس له الاحتجاج!! أخبرته بأنه لو كان هذا هو الحال لما أعطاني ديوان الخدمة المدنية مسمى وظيفي. قال بأن من لا يريد الوكالة فالوكالة لا تريده، رددت ومن قال بأني اخترتكم أصلاً؟ أنا لا أريدكم، فالديوان وجهني للقدوم إليكم دون اختياري وربما ما تقوله الآن هو ما أود سماعه. كان غبياً، ولم يفهم الوضع برمته، كان كل ما يهمه هو أن يخيفني ليستبقيني لحاجته لموظفين، رغم أن عملنا لا يتطلب مترجم فلا أدري لماذا يطلب مترجمين، فهو يجعل آخرين لا يحملون غير الثانوية، وتخصص المحاسبة، يعملون معنا على نفس العمل التافه. قال بأنه لا يوجد في الوزارة من يحتاج إلى مترجم. وكان هذا غباء غير عادي. أخبرته بأني سأبحث على أي حال. أزعجه بوضوح إصراري وعدم خضوعي، فقال بأنه سيوافق حينما يطلبني أحد، مع أنه سيكتب بأن عيوبي هي كذا وكذا، أي سيفتري، فقلت له اكتب ما شئت، ولكني سأتخذ موقفاً على ما جرى اليوم، كنت غاضباً ولم أخفي هذا.تغير وجهه بعد كلمتي هذه، وصمت لثوان ليتخيل ما يمكنني أن أقوم به؟ فبالواقع، لا يمكنني أن أقوم بشيء تجاه دكتور في هذا البلد، ليس تنظيمياً فقط، ولكن حتى حسب الفهم الاجتماعي البطيء. ولكن، كان ما أعرف بأنه كل ما يمكنني أن أقوم به هو إحراجه بالأكثر. كان يتظاهر في النصف الأخير من المقابلة بأنه لا يفهم، ويحاول أن يذلني بحركات يديه وصوته بقوله بأني سأعمل ما يريدون طالما أنا هنا. كان حقيراً إلى أقصى حد. ولكني ظللت أكرر وأتوعد بأني سأتخذ موقفاً حيال ما جرى الآن بالذات، وكنت حينما أقول هذا تبدو عليه الحيرة وهو يخفيها، ولا يتمكن من السؤال. قال وكأنه ينصح بأني أتخذ خطأ كبير في بداية حياتي المهنية، فأخبرته بأني شخص ناضج وأعرف ما أريد ولا أتحرك بدون إستشارة من هم أعلم مني. ابتسم وهو يقول: استشرت؟ ماذا يتخيل؟! أعلم ماذا يتخيل، إنه يتخيل بأنه سيخيفني ويؤثر علي كزملائي الصغار المساكين، حيث لا خبرة لهم ولا دعم، حيث يحضرونهم في الليل ليعملون، ويستبقونهم أحياناً إلى الليل يعملون، بلا مقابل، أي ظلم هذا؟ أي جور وعدم إحساس، أين القلوب.أعقب وهو يريد أن يستفزني: يعني زملائك كلهم غير ناضجين؟ أسلوبه قروي، أخبرته بأني لا أتهم أحداً وأتكلم عن نفسي، وما يرضي غيري قد لا يرضيني. في الربع الأخير كان موقفه قد بدأ يتغير ويحاول أن يلطف الأمر بشكل طفيف لإلا يجرح كرامته الزائفة، وكان يقول بين كل كلمة والأخرى الله يوفقك، وكنت أقول الله يوفق الجميع، ولكني سأتخذ موقفاً. كنت أقول بأني سأتخذ موقفاً لأذكره بأني لن ألين. انتهى اللقاء وحينما وقفت لأمضي وأوليته ظهري ناداني، فإذا به واقفاً مبتسماً، وقد مد يده ليصافحني مودعاً، فعدت ومسحت كفه بخفة ولم أبقي يدي في يده ولا لحظة، ومضيت وهو ماد يده وخرجت. بدأت بكتابة شكوى لإحراجه. ولكن في اليوم التالي جائني المدير وأخبرني بأن أذهب إلى الوزارة وأبحث عن قسم يحتاج إلى مترجم. كان يتكلم بأقصى ود يستطيعه، وكان من الواضح أن تفاجئ بما حصل بالأمس بيني وبين الوكيل. قلت بأن هذا ليس ما خيرتوني به أمس. قال بأن ما حدث أمس لن يؤثر وأن الدكتور سيوقع بلا مشكلة حينما أجد من يحتاج مترجماً، ملمحاً بأن هذه رسالة من الوكيل لي.علمت بأنهم الآن يريدون التخلص مني بسلام. أوصاني بلطف مبالغ فيه أن أذهب إلى فلان وأقول بأني جئت عن طريقه، وأنه شخص طيب وسيتعاون وما إلى ذلك. ذهبت إلى هذا الفلان.الذي فاجئني بنفس وجهة نظر الدكتور، محاولاً خداعي، مع علمي وعلمه بنظام الخدمة المدنية. ولكنه حاج بغباء بقوله لماذا لم أخبر الديوان بشروطي؟ أخبرته بأن الديوان منحني مسمى وظيفي واضح، ولا يحتاج الأمر إلى شرح وشروط، فلو كنت لأعمل أي عمل، لما منحني مسمى وظيفي، كما قلت للدكتور. وقال بأني أعرف بأن عمل الموظف الحكومي يشمل كل شيء، كذبة ماحقة أخرى. سألته بطريقة ذات مغزى: إذا ماذا تقترح؟ هل تقترح بأن أعود إلى ديوان الخدمة المدنية وأخبرهم بالمشكلة هنا ورأيكم فيها؟. بالطبع، يعلم هو أن ديوان الخدمة لو علم بالأمر، لما كان الوضع في صالحهم أبداً، فهم كذبوا حينما طلبوا مترجم بحاجتهم، وهكذا أهدروا الوظائف الحساسة على أمور لا تستحق. حينما قلت هذا تعاون معي بشكل جيد! يا الله، لماذا الناس هكذا؟ ماذا يضر المرء لو كان صادقاً، لو كان متعاونا، يسير على النظام، يتفهم، أو يحاول أن يفهم على الأقل. من أين جاءت وجهة النظر الغبية هذه؟ أن المرء لا خيار له بما يعمل؟ هل نحن عبيد؟. أخبرني بأن أذهب إلى قسم له اسم رنان بالأعلى، وأقابل الدكتور فلان المشرف عليه، أو المدير فلان. في الأعلى، انتظرت الدكتور ولكن لما طال الانتظار تعاون موظف ودود وأخذني إلى المدير. الذي رحب بالفكرة، وقال بأنهم يحتاجون إلى مترجم بالفعل. وأمر موظف لديه بطباعة خطاب لطلب نقلي لديهم مباشرة. عدى أن الدكتور لم يتواجد ليوقع على الخطاب. فاتفقنا على أن آتي حينما يتصلون بي لآخذ الخطاب. في العمل كان المدير سيموت ليعرف ماذا حصل بالضبط؟ ولكن قلت بثقة وببرود بأنهم وعدوني خيراً فقط. لاحقاً، اتصلوا بي وقالوا بأن المشرف يريد أن يقابلني. ذهبت، وقابلت الدكتور، بكل ما أحمل من قلق، سببه معرفتي بأخلاق الدكاترة بشكل عام.ولكنه كان مختلفاً في المقابلة عما توقعت، كان مهذباً، وينتقي كلامه بعناية واحترام ورسمية. تكلمت عن نفسي، وعن سبب رغبتي بالانتقال رغم مرور شهر فقط على وجودي هناك، ولم أتحدث عن المشكلة التي حصلت. تحدثت عن خبرتي بالجامعة، وما قمت به هناك، ولاحظت بأنه وإن لم يبدي الأمر، إلا أنه يهتم بوضوح بالقدرة على التحدث باللغة الانجليزية، حيث سأل عن الأمر أكثر وبدا متيقظاً حياله. طلب مني أن أتحدث باللغة الانجليزية، وأن أتكلم عن نفسي. وهذا بالواقع أسوأ سؤال يمكن أن يتلقاه المرء، فهو ليس محدد ولا تدري ماذا يريد أن يسمع بالضبط؟ عن حياتك العملية؟ حياتك بشكل عام؟ أخبرته بالبداية عن اسمي كاملا كأني طالب في امتحان، ثم أخبرته بأني من القصيم بالأصل، وهو أمر مضحك ليقال، فما العلاقة؟ يبدو أني فخور على نحو لا يكبح، أو أن هذا الأمر جزء متأصل من هويتي. برزت عينيه وأثير اهتمامه حينما قلت بأني من القصيم. حينما فرغت، أبدى رضاه عن تحدثي، وصمت قليلاً، وقال: من وين بالقصيم؟ قلت بأني من المذنب. صمت قليلاً، ثم قال بطريقة غريبة بأنه من المدينة الفلانية في القصيم. لهذا برزت عينيه؟ لا يتحدث الدكاترة عن أنفسهم بلا سؤال بالعادة كذلك. اقترح بعد ذلك أن يجرب ترجمتي، وطبع أوراق كثيرة محشوة بالكلمات، وصلت إلى سبع أوراق أعتقد، وقال بأنها سرية، فلا يجب أن أطلع عليها أحد. وقال بأني كلما أحضرتها أسرع كلما كان أفضل، حينما أردت الخروج، لاحظت بأنه كان ينوي مصافحتي ولكني لم أصافحه، لماذا؟ لمشكلة محرجة بالواقع، لطالما وضعت حولي علامات الاستفهام، وهي تعرق كفيّ حينما أنفعل بأي شكل، سواء إيجابي أو سلبي، على أني لم أتردد بمسح يدي بيد الوكيل الذي استحق هذا. كان يوم السبت، أحضرتها يوم الإثنين. وكان صعبة جداً، وتخصصية جداً جداً، استعنت في فهم طبيعة موضوعها ومفرداتها بالقراءة المتعمقة في مقالات متخصصة، وبشخص متخصص في المجال الذي تتحدث عنه، دون أن أطلعه عليها بالطبع. حينما أحضرتها انتظرت الدكتور لأراه كما اقترح المدير. ولكنه لم يحضر من اجتماع طويل. حادثت في ذلك الوقت ذلك الموظف الودود الذي التقيته لأول مرة، وزودني بمعلومات قيمة عن المكان، وطبيعة الأمور هنا. ولكن، أعجبتني طبيعة المكان الهادئة ولكن العملية، كما أعجبني لون المكان المريح، عكس لون المكان السابق الكئيب. أخبرني بأن الدكتور جاد جداً في انتقاء من يوظف، وبحاجة ماسة لشخص يتقن الانجليزية، حيث لم يستطع إيجاد من ينفع بالوزارة، كما أنه لم يجد من لديه الطموح بالارتقاء كما أخبره، حيث أنه على استعداد لتوظيف موظفين بمؤهلات عادية، لو كان لهم الطموح بحضور الدورات والدراسة، حيث أنه يدعم هذا الأمر بشدة، فهذا الشخص الذي يحدثني لا زال سيحصل على شهادة الثانوية، ومع ذلك أرسله قبل فترة لحضور دورة في ماليزيا لرغبته بتطوير نفسه، وابدى استعداده لابتعاثه لأشهر ليدرس اللغة الانجليزية على حساب الوزارة، ولكن الشاب قرر تأجيل الأمر حتى لا ينقطع عن آخر سنة بالثانوية. قال بأن علته مع كل من قابلهم أنهم رافضون التعلم، لا طموح لديهم. لا أتوقع بأني سأحضى بدورات إدارية وأنا مترجم، ولكن تعجبني هذه العقلية المقدرة للطموح. كان بعض الموظفين أجلاف في إدارته، ليس لأنهم أشرار أو يودون الإساءة، ولكن يبدو أن هذه هي طبيعتهم، وبدت لي غير ملائمة للمكان، وبدا لي بأنهم غير واعون للمشكلة. قال لي الموظف الذي كلمني بأن الدكتور غير راض عن بعض الموجودين. فهمت من تلقاء ذاتي أن مكانه الحساس يعاني من أزمة الموظفين غير الملائمين لطبيعة المكان المنفتحة. ولكن، لدي مخاوف شديدة من هذا الدكتور، لأسباب لم أتأكد منها بعد، ولتجاربي الكثيرة.علمت لاحقاً بأن ترجمتي أعجبته. وأن الأمور تسير على ما يرام. ولكني فوجئت لاحقاً بأن هناك شخص آخر يريد أن يقابلني.وهو مستشار الدكتور، دكتور آخر. لم أستطع التوافق مع جدوله، حتى اتصل بي في الساعة الثالثة عصراً، وأخبرته بأني سآتي الآن، كنت بالمنزل آكل وجبتي. ولكنه اقترح أن آتي غداً طالما أنا بعيد عن المكان، إلا أني أصريت على القدوم في تلك الساعة، حيث أتحمس في مثل هذه المواقف. ذهبت، وكان مؤدباً هو الآخر، راغب بالتحدث عن أمور ضمن ما يهمه شخصياً، كمن أعرف من الدكاترة بالجامعة، وهل عاصرت الدكتور فلان حينما كان وكيلاً؟ ومن هذا القبيل. ثم تحدثنا عن أمور مهنية، وأمور يود التعرف من خلالها على شخصيتي أكثر. ثم أخبرني بأن ترجمتي ممتازة وأنها أعجبته جداً "sigh"، ولكنه يريد أن يجرب النقل بالعكس بين اللغتين، قمت بهذا في مقطع صغير حدده وأعجبته النتيجة. ولكنه قال بأنه لا يحتاج أن يطمئن على قدرتي بقدر ما أنه استدعاني ليطمئن على نوعية شخصيتي، فالترجمة الأولى تفي بالغرض. ثم شرع يخبرني بجدية الأمر وأهمية الالتزام، وأمور مهمة من هذا القبيل، فأخبرته بأني بدأت مسيرة الالتزام منذ عملي في الجامعة، ولست أنوي التخلي عنه. سألني عن سبب قدومي من الجامعة وعن مديري السابق الحبيب. أخبرني بأن هذه النصائح ليست لأجل القسم فقط، مع أن أمره يهمه كثيراً بطبيعة الحال، ولكن لأجلي أنا أيضاً، فأخبرته بأن ظنه لن يخيب بي أبداً إن شاء الله. هنا قال بارتياح بأن هذا ما كان ينتظر سماعه، وجعلني أعده، ثم أرسل بالجوال رسالة توصي بنقلي إليهم إلى الدكتور الأصلي. أخبرني بأني أعجبته كثيراً، وأن هناك منافس لي، وكلنا فينا البركة، لكن الفرق واضح خصوصاً على صعيد الشخصية. سعدت لحظتها بالشعور بالتفوق. ولكن لاحقاً، تساءلت عن هذا الشعور الذميم بالسعادة بالتفوق على الآخرين. لم تكن هذه طبيعتي، ولكن، هل كان هذا بسبب الإحباط في العمل هناك والاضطهاد الخفي الذي عانيته فيه؟ حيث أني كنت محبطاً جداً في تلك الفترة، وربما بدأت بفقد ثقتي بنفسي دون أن أشعر. إن محاربة الموظف لها عواقب أبعد مما يتخيل المدير، فالمدير الحكيم لا يحارب، إنما يقوّم الموظف مع الوقت إن احتاج ويحاول أن يفهم بصدق، أو يحل الإشكال جذرياً بلا ضغينة لن يجني من خلفها سوا سوء الذكر. كان مديري خلال هذه الأيام يسأل كثيراً عما جرى معي، ولكني لم أكن أعطيه معلومات سوا أن أموري تسير على ما يرام حسب قولهم. كان يعلم بأن هناك ما هو أكثر من هذا، وكان لدي شعور بأن إجاباتي تصل إلى الوكيل، لضعف المدير أمامه. فيما بعد صار يرفض خروجي إلى ذلك القسم لمتابعة أموري التي عانت من عدم تعاون البعض هناك، بحجة أني لم أستفد شيء وإن كان لديهم خطاب فليرسلوه بالبريد. صرت أشعر بأنه يضيق علي بأقصى ما يستطيع دون أن يظهر هذا جلياً، وأنه لا يطيقني دون أن يحدث بيننا إشكال، ولا أدري لماذا العداء، ولكني لم أفعل شيئاً حيال موقفه، ولم أطلب منه مرة أخرى الخروج لمتابعة الأمر الذي تأخر إلى حوالي الشهر، مما جعله يستغرب على ما يبدو. ولكني قررت بأنهم سيرسلون الأوراق عاجلاً أم آجلاً دون أن أحتاج لمتابعة الأمر وأبدي ضعفاً يريدون أن يروه هنا بوضوح، وإن طال الأمر أكثر مما يطيق صبري، فسأذهب رغماً عنهم. بطبيعية الحال، استمريت بأداء عملي والاهتمام به، وإتقانه بأقصى ما استطيع، ولم أرفض يوماً العمل أو أهمله، لا من البداية، ولا بعد المشكلة، ويبدو أن هذا لم يكن أمراً متوقعاً. في تلك الأيام مر الوكيل على مكتبناً، وكنت أعمل على جهازي فحينما سلم رددت السلام ولم أنتبه أنه هو سوا بعدما التفت، ولكن حينما رأيته عدت لعملي ببرود ولم أعره اهتماماً. بعد فترة دخل ولم يكن بالمكتب سواي وزميل آخر وقد أخرجت كاكاو لآكله، رددت سلامه دون أن أعرفه كما في المرة الفائتة، ولكن حينما التقت أعيننا وجه كلامه إلي بهدوء قائلا: كيف حالكم؟ وش أخباركم؟ استدرت وبدأت بأكل الكاكاو ببرود، دون أن أجيب على سؤاله، سمعت زميلي يرد على سؤاله بما أنه كان بصيغة الجمع، إلا أني شعرت بنظرته متجمدة علي، للحظات، ثم خرج دون أن يقول شيئاً.لم يتعود على هذا، إن الناس يفسدون بعضهم بالسلبية. يخيل إليه بأني لو كنت غربياً، أو كان الدكتور يتعامل مع غربي في أحد رحلاته للخارج، لما عامله بالسوء الذي عاملني به مهما بلغ بينهم سوء التفاهم من درجة، ذلك أننا لا كرامة لنا للأسف، نعلم أبناءنا، ليعودوا ويحطموا أبناءنا، ليعودوا ولا يرونا أي شيء. لكن حدث تغير غريب في الفترة الأخيرة. لسبب ما، صار مديري كثير البحلقة فيّ، ميال لمجاملتي، مصر على السؤال عن تطورات أمري أكثر من مرة باليوم وإن قوبل في كل مرة وفي كل يوم بذات الرد. لاحظت أكثر من مرة بأنه يسألني وحدي عن حالي حينما يدخل إلى مكتبنا، يجاملني ويسمعني عند العمل عبارات التقدير واللطف، رغم أني أتصرف بعادية كبيرة، وكأنما لا شيء اختلف معي، وكأنما لا أشعر بالمضايقة أو الاضطهاد أو بالقهر من استبقائي عن متابعة شؤوني عمداً وترصداً بالاضافة لأمور أخرى. فوجئت به الاسبوع الفائت يطلب رقم المدير الذي اتعامل معه بالقسم الآخر. قائلاً بأنه على علاقة طيبة معه وسيحاول أن يساعدني في أموري. تعجبت، فقد كنت حتى قد عانيت منذ فترة قريبة من محاولته التضييق علي حتى في ذهابي إلى موعد في المستشفى الجامعي. وبالواقع أسأت الظن، هل يمكن أنه يريد أن يفسد الأمر علي؟ لم يكن من صالحه، حيث أني ذاهب من عندهم بعون الله مهما كان الأمر وكنت قد لوحت مسبقاً بورقة ديوان الخدمة المدنية حتى أمامهم. كان ينسى أن يتصل، وحينما لا أسأله يذكرني بأنه سيتصل حينما يراني. قبل أيام أخبرني بأنه اتفق مع المدير أن يستقبل الخطاب بالفاكس، وبعد ايام استلمه، وأحضره لي بنهاية الدوام. طبعت خطاب حسب نموذج أعطاني إليها، ثم طلب مني إعطائه لسكرتير الوكيل، حيث أن المدير قد نسق مع الوكيل لتوقيعه، لم يستغرق الأمر لحظة حينما دخل السكرتير وخرج بالورقة الموقعة. تحررت.





كنت قد طورت صداقة مع شخص في أربعيناته في العمل، رجل ملتزم إلى حد جيد. وهو طيب حقاً ورقيقة حاشيته. يحب النصح ويحب الخير للآخرين. وكان اهتمامه بأمري منذ أن رآني واضحاً لسبب ما، أو، لسبب حسن الحظ. هو رجل تحسبه نموذج للرجال العاديين الطيبين حينما تراه، شكله مريح، بهي، شكله مغرق بالنجدية، أو النجدية الوسطى تحديداً. حاول اقناعي بالبقاء، وبأمور المستقبل التي لا يهمني أي منها فيما يخص الوزارة، فلست أرغب بالعمل بالخارج، وهذه أكبر ميزة يساومون عليها. ويبدو أن أهل هذا القسم لهم أحقية أكبر من الآخرين بالأمر. علم عن مشكلتي مع الوكيل، وحاول أن يقنعني بطيبة قلب الوكيل، ولكن قلبه لا يهمني فهو لله، أما أنا فيهمني الظاهر، موقفه تجاهي وهل احترمني أم أهانني، وهذا قلته له. حينما تم توقيع الورقة، حاول اقناعي بأن أذهب وأشكر الدكتور وأسلم عليه، وهذا ما يتنافى تماماً مع مبدأي، فمثل هؤلاء الناس رغم صلفهم وقسوتهم، إلا أنهم ينتظرون مبررات لما يقومون به، أو حتى ينتظرون ما يظهر بأنهم لم يقوموا بشيء بالواقع. وعليه، فالمسألة ليست فقط نفور من قبلي أو عدم تسامح، إنما هي تربوية كذلك، حيث يجب أن لا تشعر مثل هؤلاء بقدر الإمكان أن ما قاموا به لم يكن فادحاً. لدي أخ له منصب ووضع شبيه بهذا الدكتور، فهو دكتور، ومدير كذلك. حادثته بالموضوع منذ أن بدأت المشكلة، ولاحظت عليه التأثر، والحيرة كذلك. إنه يرى سوء وضعي، ولكنه يفكر، هل وضعي سيء حقاً لهذا الحد؟ لأنه، بما أنه له نفس الوضع لدى الدكتور، وربما قام بشيء مشابه دون أن يشعر، لا يريد أن يدين الدكتور بسهولة فيدين نفسه أمام ضميره. حاول أن يجد أعذار للدكتور، أو أن يتأنى بالتعاطف معي، وأن يتساءل بنفسه على ما يبدو؛ هل يجب أن أشعر بهذا السوء؟ سؤال لا يجب أن يسأله المرء بالواقع، فما دمت أشعر بهذا السوء، فهناك ما دفعني لذلك بهذه البساطة، فمن يريد أن يصطنع أمر كهذا وهو ليس لديه مطمح من وراءه؟. رميت رمية من غير رام فأصابت صميم الحقيقة، حينما قلت بلا مبالاة بأنه يحاول إيجاد أعذار للدكتور لأنه يرى نفسه فيه. بدت على أخي الحيرة أكثر وهو ينفي. لست ألومه على شيء لا أدري هل بدر منه أم لا، ولكني أتمنى أن لا يكون قد عامل الناس كما عاملني هذا الدكتور، كما أتمنى بأن ما جرى لي قد أثار وعيه على أمور قد يكون لم يشعر بها من قبل.











قبل أن أنتقل، تواصل معي مستشار الدكتور المشرف، وعلمت منه أن ترجمتي التي اختبروني بها ستعرض على الوزير، أي أنهم سيستفيدون من الامتحان، وطلب أن أنسق الأشكال التوضيحية وأرسلها ليكمل المستند. حينما أخبرت من حولي فرحوا، ولكن، ما الفرق؟ فلن يختلف لديه من قام بالترجمة، هذا إن كان يعلم بأنها لم تصل من الخارج هكذا. كما أني أعتقد أن الناس يبالغون فيما يخص لفت انتباه المسؤولين الأعلى شئناً، فهم بالواقع غير نافعين طوال الوقت لمن حولهم.











اليوم أباشر في مكان عملي الجديد لأول مرة. لست أدري حتى الآن عن أموري هنا. ولكن بالتأكيد لم يتغير رأيي بموظفين الوزارة مقارنة بموظفي الجامعة بشكل عام. اليوم قابلت موظف أتيت إليه لأجل أمر إجرائي. كان جلفاً بالتعامل، يقترب من حدود انعدام الذوق بشكل كامل. وقف ودخل من مدخل في المكتب كتب عليه: ممنوع الدخول لغير المختصين. خطر في بالي أن الجملة كان يجب أن تكون: ممنوع الدخول لغير المخصيين. مما زاد الطين بلة، أني وجدت لديه لاحقاً موظف آخر كنت قد صادفت من زميله وقاحة غير عادية، ورغم أني لم أرد سوا أني أظهرت عدم رضاي، إلا أني اكتشفت أن زميله قد سمم فكر من حوله بخصوصي، وشكك بذكائي رغم أن الخطأ خطأه وتعامله سيء. تأسف على العمر الكبير لبعض الناس وهم لا زالوا يتصرفون هكذا. شعرت بأن زميله اليوم حينما يراني سيتكلم علي بالكذب كما فعل زميله، فنظراته ليست فائقة الذكاء والحكمة. لا يوجد ما أفعله حتى الآن. ربما الجميع بانتظار الدكتور ليأتي من سفره فيحدد ماذا يريدني أن أفعل. قال لي زميلي الودود بأنه حينما رآني لأول مرة علم بأنهم سيأخذونني للعمل هنا، رغم أنهم يرفضون الكثيرين ممن يتقدمون للانتقال أو العمل. مجاملة لطيفة، ولكن ربما لا تخلو من حقيقة، فليس التميز في شخصي بقدر ما أنهم يحتاجون لمن يدبر بعض الأمور بلغة أجنبية.




سعد الحوشان