الاثنين، 3 فبراير 2014

كمين القلوب (ما سقط سهواً،متنوعات عن الرحلة،المعتاد،قصيدة)

بسم الله الرحمن الرحيم





أعادني الحظ وبقيت روحي بمنفاها...
وظل قلبي في كمين القلوب ومهواها...
أين زهيرات الانديز وفراشاته...
أين أهله وحدائقه وساحاته...
أين الصحاري المغايرات بأنهارها...
أين السهول والمراعي وحيواناتها...
ألا أيها المحيط الأبدي خذني بأحشائك...
واحبل بي هوناً تسعمئة عام رجعية...
ثم بمخاض يسير الفظني...
برفق على شواطئ تلك الأرض النقية...





مرت الأيام الآن، دون أن يخيل إلي أن الرحلة صارت بعيدة العهد، لا أدري ما السبب. إني أنظر إلى الشهور وأشعر بالضيق، وكأنما بازديادها تفرقني وجودياً عن ذكرى جميلة.
عموماً؛ أردت أن أتحدث هنا عن بعض الجزئيات الجانبية من الرحلة، كتجربة المطارات المختلفة، وما نسيت ذكره خلال رصدي للرحلة في التدوينات السبع الفائتة، خلافاً للمتفرقات المعتادة.


أتذكر أمور متفرقة أحياناً، أكون قد نسيت أن أذكرها في التدوينات الأساسية عن الرحلة، مثل قرية في تشاتشابوياس بالشمال، ينشط أهلها بصنع الفخاريات الجيدة، ولهم أشكال مختلفة عن أهل المنطقة الأصليين، يكمن السبب في التاريخ البعيد. كان الإنكا قبل وصول الأسبان يلجأون إلى إعادة توطين أهل القرى والمدن الذين يثورون أو يسببون المشاكل في مناطق اخرى، وأهل هذه القرية هم بالواقع من العرق الذي ينتمي إليه الإنكا في جنوب البيرو حالياً وفي قلب الانديز، وقد وطنوهم الإنكا منذ ذلك الوقت في الشمال، حيث لا زالوا يعيشون ويمارسون أنشطة أجدادهم، ويعرفون بتاريخهم وانتمائهم الأصلي.
إن تأثير الإنكا على الحياة لا يزال حاضراً بقوة، ومع ازدياد الوعي والحس القومي لدى أهل الجنوب، أو الكيتشوا كما يسمونهم، يرى المرء توجه مختلف للبلد وثقافته على وجه العموم. مع أن المرء يلاحظ ضيق أهل الشمال باستحواذ الجنوب وتاريخه على الاهتمام، وربما اعتزاز أهل الجنوب بتاريخهم وثقتهم المتزايدة بأنفسهم. وبالواقع، يرى المرء أن أهل الشمال أكثر انهزاماً ثقافياً من أهل الجنوب، حتى الأصليين منهم. أتخيل بأن هذا عائد إلى العمق الحضاري المختلف في الجنوب. إذ رغم قيام حضارات عظيمة في الشمال، آثار عبقريتها لا زالت موجودة، إلا أن الطموح كان دائماً يأتي من الجنوب، حيث تبدأ الحضارات الجنوبية توسعها دائماً على حساب الشمال، مثل الإنكا وقبلهم الواري، الذين ورثهم الإنكا، والجنوب الأبعد الأقل تحضراً من الناحية المادية (تشيلي وشمال الأرجنتين حالياً). يخبرك أهل الشمال بمرارة بأن الإنكا استفادوا من خبرات أسلافهم في حضارتهم، وكأن هذه نقيصة، في تجاهل للبعد الحضاري للاستفادة والإندماج. قالوا لي بأن تومي، آلهة مشهورة على مستوى المنطقة، إنما تبناها الإنكا من حضارة قائمة في لمباييك بسطوا نفوذهم على أهلها، رغم أن هذا في رأيي أمر مذهل، هذا الإنفتاح والتواضع الحضاري. يقولون لي بأن الإنكا مثلاً استفادوا من خبرات حضارة تشيمو بالهندسة المائية، ولكن هذا أمر رائع. يحاول بعضهم تقويض أهمية الحضارة التي توسعت ونظمت المنطقة، لتخيلهم بأنها بالواقع تغطي على إرثهم الأصلي، رغم أن هذا غير صحيح. كان أمر غير سوي هذا الاستهتار في رأيي، ومثله الإنهزام. قيل لي، بنوع من السخرية، أن أهل الجنوب أكثر تمسكاً بالتقاليد وبالهوية الأصلية، أما أهل الشمال فهم أكثر انفتاحاً، لكني لم أرى سوا أنهم أكثر تغرباً، وإن يكونوا بالواقع محافظين كذلك ومهتمين بالهوية نوعاً ما. أتصور بأن الأصليين من المناطق الشمالية لا يرون الغزو الإسباني خسارة لهم بقدر ما كان خسارة لأهل الجنوب. نعم، إنهم يدركون أن الغزو كان خسارة لهم، لكن لم يبدو لي أنهم يشعرون بمرارة تساوي مرارة أهل الجنوب، الذين يصفون أحياناً الخسائر الثقافية والحضارية التي خلفها الأسبان.
وعموماً، أعتقد أن الشعور المتزايد بالهوية الأصلية ينبع من الجنوب دائماً. بينما غالباً ما كانت النخبة الحاكمة ذات أصول اسبانية مع الأسف، إلا أنه يبدو أن هناك تغييراً في بعض الدول في المنطقة. كان رئيس بوليفيا، وهي مجاورة للبيرو وجزء منها كان تحت نفوذ الإنكا، هو أول رئيس من السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية. كذلك، يوجد مطالبات بتدريس أكبر لغتين أصليتين بالمدارس، لغة الكيتشوا والايمارا. وقد أثير جدل قبل سنوات لاداء نائبة جديدة بالبرلمان القسم بلغة الكيتشوا، حيث احتج الغالبية، وهم اسبان الأصل على ما أعتقد، بوقاحة قل نظيرها.
إن الناس هناك من ألطف من قابلت عموماً، خصوصاً خارج ليما. إن الناس في ليما ليسوا سيئي الطباع على نحو خاص، لكنها مدينة تجمع كل من هب ودب، مثل الرياض، لذا لا يعول المرء كثيراً على طبيعة أهلها، خصوصاً أنه يوجد تركز كبير لذوي الأصول الاسبانية والأجانب فيها، على الأقل في المنطقة التي تمشيت فيها، حيث أن الأحياء العشوائية والفقيرة تمتلئ بالسكان الأصليين. لا زال توزيع الثروة والدخل هناك غير عادل، أعتقد مثلنا كذلك، وقد قرأت بأن ذوي الأصول الأسبانية لا زالوا عموماً يسيطرون على مقاليد الأمور ويتسببون بهذا الخلل، وإن كان الوعي ومحاولات التغيير في ازدياد كما قرأت، ومن مؤشرات ذلك ما أشرت إليه من دخول النواب الأصليين البرلمان، وقد سمعت كذلك أن الرئيس الحالي ذو أصول أصلية أو مخلطة على الأقل، وهو رئيس جيد بوضوح، يميل للعمل والأداء، وليس للظهور والخطابة كغالبية الرؤساء في أمريكا الجنوبية. ورغم أني سمعت أكثر من شكوى من الناس هناك، لأنه لا يحب الظهور كثيراً، إذ يبدو أن أهالي تلك البلدان اعتادوا على دراما السياسيين ومسرحياتهم العجيبة، مثل مسرحيات رؤساء فنزويلا والارجنتين والاكوادور وحتى بوليفيا الأبسط برئيسها من السكان الأصليين.
البيرو حالياً هي أسرع بلدان أمريكا الجنوبية نمواً، وأسرعها رأباً للصدع بين الفقراء والأغنياء، ورفع مستوى المعيشة. ويبدو أن هناك اهتمام حقيقي بالتعليم يأتي بنتائج، على عكسنا.

في إعتقادي، لدى البيروفيين الأصليين، وهم الغالبية العظمى، مشكلة جماعية في النظرة إلى أنفسهم وإلى الأجانب. أعتقد بأنهم لم يتخلصوا بعد من صدمة الغزو والاحتلال الاسباني قبل أكثر من 500 عام. إنهم شديدو اللطف والبساطة على وجه العموم، لكنهم يعانون بوضوح من مشاكل بالثقة بالنفس، واهتزاز في رؤيتهم لهويتهم، حيث أنهم أُفقدوا الثقة بقيمتها على مدى طويل وبطريقة قد تكون ممنهجة. إنهم في ظرف أفضل الآن، ولم يعد الخضوع لثقافة أخرى مفروض عليهم، لهذا يجدون أنفسهم أمام المزيد من الخيارات والتحديات، وبالنسبة لكثير منهم، يشكل هذا تشويشاً، ورغم أنه قليل من الشعوب، في ظروف تاريخية أفضل، لم تعد سالمة من التشويش والشعور بالضياع، إلا أن الأمر منطقياً مضاعف بالنسبة لسكان البيرو الأصليين في رأيي، ومن شاكلهم من ضحايا الأوروبيين.
لكن حسبما قرأت، بدأ الاتجاه إلى تعزيز حضورهم في شئون الحياة المهمة يقوى ويزداد أهمية لدى ذوي العمق الفكري منهم منذ منتصف القرن الفائت. وهم الآن على ما أعتقد يجمعون شتات كرامتهم ويستعيدون توازنهم، أو يحاولون بجد.
لاحظت بأن عمومهم لا يتوقعون دائماً لفتات اللطف والاحترام، ويكون تقديرهم لها مخلوطاً بالذهول في أحيان كثيرة. وأتصور أن هذا مرده إلى الرؤية الدونية المؤسفة تجاههم من قبل الآخرين.
بيد أن بعضهم ممن قابلت وحادثت على جانب كبير من الوعي، دون فقدان للطف المميز وبساطة التعامل، ولعل هذا مرده إلى ترويج الوعي القومي المتزايد والحرص على التعليم والتعلم عن الآخرين.
لكن مع ذلك، لا زالت الحياة العامة والحديثة تتجاوز أو تتجاهل تقاليد الأصليين وحضورهم. بالتلفاز، لا يرى المرء علاقة بين أشكال وحضور الظاهرين بالدعايات والغالبية العظمى ممن يرى بالشوارع. ترى بالتلفاز أشخاص لهم مظاهر أسبانية، وأحياناً أشكال تتخطى حتى المظهر العام المتوقع من الأسبان إلى الأوروبيين الخالصين، وأساليب الحياة الغربية المنمطة يروج لها بشدة على التلفاز.
ماذا بوسعي أن أقول عن المطارات؟ إني غير مجرب إلى حد بعيد، لكني لم أتوقع بعض الأمور صدقاً. مطارنا بالرياض، كالعادة، مكان شديد البرودة معنوياً، شديد الجلافة، وكأنما كل ما فيه، خصوصاً العاملين به، مجرد تماثيل ذات أشكال تلقي الهم بالنفس، وهذا ينعكس على مرتاديه كذلك، على نحو مفهوم.

سافرت على الخطوط البريطانية في ذهابي إلى لندن، محطتي الأولى. وقد ذهلت من جودة الخدمة، والتهذيب الشديد الذي كان العاملين عليه، إنه تعامل راق على مستوى شخصي. ورغم أني لم أجرب السفر كثيراً كما أسلفت، إلا أني خلال الرحلة ومروري على بضعة خطوط عرفت أن الخطوط البريطانية خطوط لا غبار عليها إجمالاً.

كان هبوطي الأول في مطار هيثرو في لندن خلال ذهابي. كنت قلق جداً، لعلمي بضخامته. لكن حالما هبطت الطائرة أرشد كابتن الطائرة المسافرين بطريقة سلسة ورائعة، مع إعادة باللغة العربية من قبل مضيفة. قال فقط بأن من سيواصلون رحلتهم يتبعون اللوحات ذات اللون الفلاني، ومن سينزلون في لندن يتبعون اللون الآخر. كان هذا نصف القصة عموماً، لكن حتى النصف الثاني لم يكن صعباً أيضاً. وكان العاملين بالمطار غاية بحسن التعامل والذوق إجمالاً، ولا خلاف لديهم على إرشاد المرء، خلافاً لما يشاع لدينا. إذ استوقفت عامل شحن أسود، وأرشدني بلطف لما أحتاج.
هو مطار ضخم، ولكن يسهل على المرء فيه أن يجد طريقه، إذ أنه منظم على نحو رائع جداً، بحيث يصعب الضياع حينما يجد المرء المسار الصحيح.
حينما وصلت قرب بوابتي كان علي الانتظار لوقت طويل، فتمشيت في محلات تبيع مختلف الأشياء. كان المكان أشبه بسوق، لكني لم أكن مهتماً بشراء شيء، سوا كتاب أثار اهتمامي واشتريته في طريق عودتي.

واصلت الرحلة من لندن إلى ميامي في أمريكا، على الخطوط الأمريكية. ويرى المرء الفرق بين الشركتين على نحو واضح. إنه لأمر غريب أن تختلف ثقافتين بأمور مؤثرة رغم تشابهما من حيث المبادئ إلى حد التطابق. حالما جلست في مكاني لاحظت أن المضيفين والمضيفات نافدي الصبري، مباشرين بصفاقة وغفلة. رأيت مضيفة يشرح لها راكب وزوجته أمر ما، فأوقفتهما بيدها قائلة: هذا كل ما أحتاج إلى سماعه، وحينما حاول أن يبين أكثر كررت بطريقتها الشوارعية، ثم شرحت له ما بدا أنه يشكل عليه، ويبدو أنه يتعلق بشئون الهجرة، أي أنها لم تكن غاضبة. وهم يتكلمون عموماً وكأنما هم منزعجين من العمل والاضطرار للتعامل مع الناس.
أما الشيء الغريب فكان الطعام على تلك الرحلة. لم يتوقفوا عن إطعام الناس، تارة وجبات كاملة، وتارة أطعمة خفيفة، حتى صرت أرفض عرضهم للطعام، إذ لم يكن هناك مجال لأكل كل هذا. حتى الوجبات كانت كبيرة على نحو غريب، بكميات لم أرها على خطوط أخرى.
كنت متحمس لشيء معين... كان الكولا. كنت أريد أن أتأكد إن كان الكولا سيكون جيداً. وكانت العلب منتجة في أمريكا. لم يكن جيداً، ربما أفضل بقليل لما يعلب لدينا، لكنه ليس جيد، وليس بجودة ما أشرب في برقركنق، أو شربت بالبيرو. ربما كان هذا لاستخدامهم شراب الذرة للتحلية بدلا عن السكر، إذ أن هذا شيء منتشر في أمريكا، استبدال السكر بشراب الذرة، لأنه أرخص بالنسبة إليهم لإنهم ينتجونه بكميات ضخمة، على عكس السكر الذي يستوردونه على حد علمي.
إلى جواري، ويفصل بيني وبينهم الممر، رجل هندي مسن بالثمانين من عمره، وزوجته من نفس العمر. وهم هندوس. كانوا لطفاء، دائمو التبسم تجاهي، وقد رأيت الزوجة تلفت نظر زوجها إلي؛ لعلها تقول بأني أشبه أحد الأقارب.  ساعدتهم بفتح علب الكولا، إذ لم يستطيعوا فتحها بأنفسهم، وملئت لهم الاستمارات المطلوبة في المطار الأمريكي لسلطات الهجرة، إذ لا يعرفون الكتابة باللغة الانقليزية. كان الشيخ يتحدث بلغة انقليزية على جانب من الضعف. لسوء حظهم، العجوز خصوصاً، أن أمامهم عائلة أوربية شرقية، رجل وزوجته وطفلتهم الرضيعة، وكان الرجل أمام العجوز قليل ذوق بصدق، يميل المقعد إلى أقصى حد عليها، حتى آلم ركبها، وكلما لفتوا انتباهه رفع الكرسي، ثم عاد وخفضه بعد دقيقتين أو ثلاث بقلة إحساس غير معقولة. حتى المضيفة أفهمته بلا فائدة، فكفت العجوز عن تنبيهه. كانت مرهقة في تلك الرحلة الطويلة، ولم تتمكن من النوم. عرضت عليها مبادلة المقاعد حتى تستريح قليلاً، ووافقت ونامت مباشرة. تحدث زوجها معي، متسائلاً من أين أنا، وأخبرني عن نفسه. هو رجل هندوسي على جانب من الثراء، يملك مصنعين ومزارع، لكنه لم يتعلم كثيراً. وهو يزور كل بضعة أشهر ابنين وابنة له مقيمين في أمريكا، يعملون أطباء ومهندسين، بعدما اهتم جيداً بتعليمهم. سألني إن كنت متزوجاً، فلما نفيت تسائل لماذا، وحاول إقناعي. قال لاحقاً بأني سأدخل الجنة، لم أستوعب رغم قوله جنة باللغة العربية إلا بعدما أوضح بتأكيد بأنها الجنة التي لدى المسلمين كذلك وسواهم، قائلاً بأن أمثالي لا بد أن يدخلوا الجنة. شكرته على رأيه، ولكنه أوضح أنه ليس بالأمر مجاملة، فالجنة للناس الطيبين.

نزلت في مطار ميامي. هناك تعرفت على حقيقة جديدة، ذكرتها بالتدوينة السابقة؛ السود الأمريكان ليسوا لطفاء إجمالاً. إنهم على جانب كبير من السوقية وسوء التهذيب وقلة الصبر. كان هناك فتاة سوداء تنظم الناس وكأنهم غنم، وتصدح بصوتها بأبعد أسلوب عن الذوق. لحسن الحظ، كان مسؤول الهجرة رجل أبيض طيب، لعله في أواخر الأربعينات من العمر، نظر إلي بتأمل، وتسائل لماذا أذهب إلى البيرو، وأفهمني بأني يجب أن أملأ استمارة غير التي ملأت، وحاول أن يكون متساعداً. كنت مرتبكاً إلى حد بعيد، لكنه حاول أن يكون مُطمئناً. قال لي حينما فرغت من عنده: لا تقلق، وكررها. أعتقد بأنه لسبب ما تعاطف معي.

ذهبت لأنتظر الحقائب، وقد استغرقت وقت طويل جداً لتصل؛ ففي المطارات الأمريكية، حتى لو كنت عابراً، يجب أن تستلم حقائبك وتمر بها على التفتيش، على خلاف ما يجري في بريطانيا، وهذا أمر سخيف، لكن على الأغلب يتعلق بوسواس الأمن لديهم.
في ذلك المطار، لا يدري المرء أين يذهب، لا شيء واضح، ليس مثل هيثرو. وجدت امرأتين لاتينيتين خلف طاولة استعلام، يتحدثن بحماس عن شأن في حيات إحداهن على ما يبدو، لكنهن كن لطيفتين وساعدنني بابتسامة. وقفت في صف طويل، وكان هناك كثير من التذمر. كانت أمامي امرأة لا أدري من أين هي، لعلها في الخمسينات، وتكلمت عن طول الصف، وسألت من أين أنا، وتبسمت. لسوء الحظ، كان من سيفحص جوازي أمريكي أسود، نافد الصبر، كريه إلى أقصى حد. بعده مررت حقائبي في جهاز، وسألوني عما بها، ويبدو أن الرجال السفهاء الذين يراقبون الجهاز قد وجدوا ما يضحك في حقائبي، ولا أدري ما هو، ولكنهم على الأقل انتظروا حتى ابتعدت ليضحكوا، وهم رجال بيض. وربما لو كانوا سوداً من ذلك البلد لقالوا النكت أمامي، من يعلم؟.

لم أدري أين أذهب، لا يوجد علامات واضحة على البوابة، بالكاد وجدت طريقي، وقد تأخرت كثيراً، كثيراً، حتى كدت أخشى فوات الرحلة، بسبب الإجراءات الطويلة والغبية رغم أني لن أنزل في بلدهم. وبالواقع، كانت الرحلة قد أوشكت على المغادرة، فلو ظللت طريقي أكثر، ومع تباعد المسافات بالمطار، لفاتتني الرحلة. إنه مطار غبي حقاً، ليس بسبب الإجراءات فقط، لكن لعدم تنظيمه على نحو بديهي.
إلى جانب البوابة حيث سأصعد إلى الطائرة، تواجد محل ايسكريم، يبيع فيه شاب لطيف جداً، لاتيني، لا يحسن الانقليزية كثيراً، فقط بعض كلمات، وحاول ممازحتي، لانه يبدو أنه بطبيعته محب للناس. كان الايسكريم لذيذ.
أما البوابة، فقد أثارت اهتمامي لأني رأيت الكثير من البيروفيين الأصليين، وكان الجو على جانب من الصخب، وكأنما يجمع الناس حس احتفالي غريب.

الحمامات بالمطار غير نظيفة عموماً، ويبدو أن الناس هناك لا يحترمون النظافة العامة في الحمامات مثلنا تماماً.

حينما صعدت الطائرة المتوجهة إلى ليما كان مكاني فيها إلى جانب امرأة مسنة من السكان الأصليين، وحاولت محادثتي بالاسبانية، وبدا عليها الاضطراب الشديد، كان لديها شيء مهم لتقوله، لكني لم أفهم، قلتُ بعجز: نو اسبانيول. ابتسمت لي بارتباك، وكأنما وقَعَت في ورطة. ناداها رجل مسن، ضخم الجثة ذو حضور رزين، من جنسها، وقالت له بأني لا أتحدث الاسبانية. أشار إلي الرجل الواقف عند كرسي آخر بعيد، في الممر الموازي من الطائرة، فذهبت إليه مسرعاً. بكلمات انقليزية قليلة قال بأن تلك زوجته، وأن هذا مقعده هنا. فهمت مباشرة، وأخذت بطاقته وقلت مبتسماً: حسناً، وأعطيته بطاقتي. حينما هممت بالجلوس استوقفني، وبدا مذهولاً، ومد يده مصافحاً، وقال بالانقليزية: شكراً.
أما من كان إلى جانبي هنا، فكان رجل، كالغالبية العظمى من الموجودين، من السكان الأصليين، وبدا بأنه على مستوى عال من العلم، حيث كان يراجع ويكتب أموراً عن الكيمياء في أوراق كثيرة معه وعلى الحاسب كما لاحظت. لكن، بدا وكأنه متضايق مني بشكل ما. جائت مضيفة، وكلمتني باللغة الاسبانية، وكنت أنتظرها لتفرغ حتى أخبرها بأني لا أفهم، لكن الشيخ الذي بادلته المقعد صاح من جوار زوجته بعيداً:"نو اسبانيول!!". كان يتابع أمري من بعيد. أعتقد أنهم يحسبون أني بيروفي.
لسوء الحظ، قلمي توقف عن العمل، وهو قلم منحني إياه الدكتور الألماني هدية منذ فترة طويلة. كنت خجلاً جداً، لكني تجرأت بالنهاية واستعرت من جاري قلمه، وأعطاني إياه بصمت، وإن يكن بلا تردد. كان يجب أن أملأ استمارة وزعت علينا.
إلى جواري عبر الممر الضيق، جلست امرأة جميلة جداً، بيروفية، ومعها طفلها، لعل عمره سنتين، من أجمل الأطفال الذين رأيت. يبدو أن والده رجل أبيض، إذ أن له ملامح والدته الأصلية، ولكن له الشعر الأشقر الخفيف، والعينين الشفافتين العسليتين. اسمه ايثن. لاعبت الصبي، وكان لعوباً، لكن لم يكن صعب المراس مع والدته، التي كانت فرحة به جداً، لا تمل من ملاعبته.
قبل هبوط الطائرة، بدأ بعض الرجال المسنين بالتحدث بصوت مرتفع جداً، وكأنما هم لوحدهم، ثم بدأوا يغنون ويقلدون عزف الموسيقى بأصواتهم، كانوا مزعجين جداً. وحينما هبطت الطائرة، كلمني جاري أخيراً. أعتقد أنه ظنني أمريكياً. ولما قلت بأني عربي من السعودية، شُده، وربما أُخذ، كان أمر غريب، وبدأ يسأل بفضول، أين سأذهب؟ وكم سأبقى؟ ولماذا اخترت البيرو؟، وظل يحادثني، وكان الناس قد بدأوا بالوقوف استعداداً لأخذ حقائبهم، وقد تجمهروا من كانوا بالقرب علينا، وسألوا الرجل، وأخبرهم بأني عربي. وحينما أنظر كان الناس يبتسمون في وجهي. وجه آخرين بعض الأسئلة كذلك، ورحب البعض بي، بينما هز الآخرين رؤوسهم موافقين.
حينما نزلت، وعبرت الجوازات كما قلت في أول تدوينة عن الرحلة. مطار ليما حديث التصميم، على جانب كبير من العملية والبساطة، لا يوجد بهرجة واستعراض هندسي، لكن التنقل فيه واضح جداً، ولا مجال للضياع. وهو بطبيعة الحال أصغر من المطارين السالفين، وأصغر من مطارنا حتى، لكنه ليس مثل مطارات المدن الصغيرة الأخرى طبعاً.
وجدت فتيات من شركة اتصالات، يعرضن على القادمين شراء شرائح سياحية. وكن من شركة قرأت لكثير من الأجانب ممن ينصحون باستخدام ارقامها على الانترنت، لكني لاحقاً اعتقدت بأنها أقل جدوى من شركة أخرى منافسة، يلجأ إليها البيروفيين أكثر. تقول كارلا بأنه ربما تكاليف الاتصالات الدولية أقل في الشركة التي اشتريت، لكني لا أعتقد هذا.
لم أعرف كيف أتصل بكارلا، وصادفت جاري بالطائرة، الذي جاء ليسألني إن كان كل شيء على ما يرام. أخبرته بالمعضلة، فساعدني بالاتصال عبر جواله، لكن جوال كارلا كان مشغولاً.
عند استلام الحقائب، لاحظت أمر شديد الغرابة؛ العاملين هناك يتواصلون عن بعد بالصفير، صفير أشبه بتغريد الطيور، التغريدة تجيب الأخرى بصوت ونمط مختلف، وكأنما هي لغة، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى التحدث. يشعر المرء في لحظات معينة، حينما يستمع إلى "الحوار" الصفاري، بأنه في حديقة غناء.
وعلى وجه العموم، لاحظت أن الناس هناك، خصوصاً بالمجتمعات الصغيرة الأصلية، ماهرون بالصفير، على نحو لم أسمع مثله من قبل.
تذكرت ذلك الحين برنامج وثائقي قديم جداً، رأيته حينما كنت في الثامنة على الأغلب، عن أهل جبال الانديز، وتواصلهم من مختلف القمم وعبر الوديان بالصفير.
بيد أن المرشدة في تشاتشابوياس، حينما سألتها لماذا يصفر الرجال لسائقنا، قالت بأنهم أصدقاؤه وهكذا يلفتون انتباهه، ولكن هذا السلوك ليس مهذباً.

المطارات الأخرى بالبيرو كانت بسيطة، وصغيرة كما هو متوقع. مطار كوزكو كان على بعض الفخامة المعقولة، لكن ليس بمستوى مطار ليما، العملي أساساً.

عند مغادرتي مطار كوزكو إلى بويرتو مالدونادو، كانت رحلتي قد تأخرت كثيراً، حتى أن البوابة لم تفتح، ولم يبدو أن هناك أي إشارة إلى الرحلة. قلقت بشدة. وبعد وقت طويل كلمت موظفة، يبدو أنها مشرفة، تقف قرب أجهزة تفتيش الحقائب، ولم تكن تتحدث الانقليزية، لكنها اهتمت كثيراً بفهم ما أريد، ربما لكوني توترت كثيراً، ولم أفهم لماذا لا يوجد إشارة في أي مكان إلى الرحلة. حينما فهمت مشكلتي، بعدما أخذت أوراقي وفهمت بضع كلمات، أشارت علي، بصرامة شخص يتحكم بعدة موظفين، أن أجلس بالقرب من موقعها وأن لا أبتعد، واستخدمت جهاز الاتصال اللاسلكي لبعض الوقت. ثم جعلت أحد ما يخبرني بأن الرحلة لم تلغى، وأنها فقط تأخرت وستوضع شاراتها عند البوابة قريباً، حيث سيأتي موظفيها. كان الموظفين على البوابة منذ وقت طويل تابعين لشركة أخرى، ولم يساعدوني بطبيعة الحال، ولم يكن لديهم معرفة بأمر الرحلة الأخرى.

كنت قد سافرت على حافلات هناك لساعات طويلة، وذلك لأني أردت زيارة مناطق غير مطروقة كثيراً من قبل السياح، ولا مطارات فيها. كنت في الدرجة الأولى بالحافلة، وهي تختلف حقاً عن الدرجة المتأخرة، المقاعد مريحة جدا، ويوجد مضيفة تقدم الوجبات اللذيذة والمشروبات، ويوجد حمام نظيف، ولا أدري عن الدرجة المتأخرة. وقد حيرني وجود درج في الحافلة، وكنت أواجه صعوبة بالفهم أين يجب أن أتوجه، ربما لأني لم أعتد الحافلات، إذ لا نقل عام بالرياض، وحينما أسافر داخل المملكة يكون هذا بالسيارة عموماً، سوا مرة واحدة بالحافلة، ولم يكن هناك شيء مميز. لحسن الحظ، كان الناس يتعاطفون معي كثيراً في محطات الحافلات والأماكن العامة، حينما يرون بأني لا أدري أين أذهب ولا أستطيع التواصل جيداً لعدم تحدث الأغلبية للإنقليزية، فيبذلون جهدهم لمساعدتي.
وعلى وجه العموم، الحمامات العامة بالبيرو نظيفة جداً، على الأقل مما رأيت. في محطات الحافلات مثلاً، حيث آتي لأسافر بين بعض المناطق، وهي محطات بسيطة وعادية، كانت الحمامات دائماً نظيفة، ولم أرى شخص يدخل لينظف بعد كل مستخدم للحمام، بالواقع لم أرى شخص ينظف رغم أنه بالتأكيد يأتي أحد لهذا الغرض من وقت إلى آخر، لكن حتى الدخول بعد شخص آخر إلى الحمام لا يجعلك تجد المكان قذراً أو متسخاً، يبدو أنه أمر ثقافي، إنه يتركون الحمام نظيفاً بعد استخدامه. أشعرني هذا بالأسف على حالنا كثيراً. إني أمتنع في أغلب الأحيان عن استخدام الحمامات في الأماكن العامة في بلدي كالمطاعم لأنه لا يمكن أن يستخدمها أحد كما يجب، أو يتركها نظيفة بعد الاستخدام، رغم جهود الكثير من المطاعم بالتنظيف. تدخل الحمام وتجد البول في كل مكان، والمناديل الرطبة تتوزع على الأرضية، وإن كان الحمام من النوع العربي فستجد الفضلات على البلاط.

عندما أردت مغادرة البيرو، سألتني الموظفة بالمطار، بعدما استئذنت لسؤالي عن أمر شخصي. سألت لماذا لا ألبس مثل ما ألبس على الجواز؟. أخبرتها بأن ملابس مماثلة معي بالواقع بالحقيبة، لكن قيل لي هنا بأن لا ألبسها، لأنها قد تسبب سوء فهم وخطر من قبل البعض، من حيث السرقة وخلافه.
لكن بعد انتهاء الرحلة، لا أعتقد أن الأمر بالسوء الذي صورته كارلا حينما نصحتني بعدم ارتداء الثوب. ربما في ليما، لكن ليس بالأماكن الآخرى. ولو عدت، سأرتديه على ما أعتقد.

كانت رحلة العودة مرهقة جداً، وأطول من رحلة الذهاب. نزلت في مطار نيويورك بدلاً عن مطار ميامي، وكان مطار نيويورك أكبر بكثير وأقبح، وأهله أكثر فظاظة، ورواده كذلك من الامريكيين كما لاحظت. وكان أسوأ ما بالأمر هو أني لم أجد مكان أخزن فيه حقيبتي حتى تأتي الرحلة، لأن اماكن التخزين في صالات أخرى. وكانت موظفة الطيران فظة، آسيوية أمريكية، وقد طلبت ورقة لم أعطى إياها مناولة في مطار ليما، وأصرت بأني أعطيت إياها، واكتشفنا بالنهاية بأنها دست في جوازي حينما كانت موظفة الطيران تطابق معلوماتي في ليما.
يبدو أن سمعة أهل تلك المدينة نيويورك التي تروج بالأفلام صحيحة.
أخذت دوري في صف لشراء وجبة من مكدانلدز، وكنت متقدماً عن كثيرين جاءوا بعدي، وقد افتعل رجل متأنق مشكلة مع امرأة اخرى، وكلهم امريكان، قائلاً بأنها تعدت على دوره، ولم يبدو لي ذلك، حيث أني رأيتها قبل أن أراه. وأطال الموضوع بسفاهة، لكنها لم تهتم، بعدما حاولت أن توضح بالبداية بلا جدوى.
العجيب كان حجم البرقر، كان ضخماً، أضخم مما يباع لدينا أو بالبيرو، رغم أنه من نفس النوع.
بعد انتظار امتد إلى نصف يوم، وقد غلبني الإرهاق، صعدت الطائرة، حيث نمت كثيراً إلى وصولي إلى لندن. هناك، كان الوضع أفضل قليلاً، لكني لم أعد أطيق الانتظار أكثر، كنت أشعر بإرهاق غير عادي. على الأقل، في مطار هيثرو الحمامات نظيفة، عكس قذارتها في مطار جون كندي في نيويورك، التي تفوقت على قذارتها في ميامي. 
هناك، نسيت جوازي لدى موظف شركة الطيران لحسن الحظ، حيث ذهبت لأخذ بطاقة الصعود. عدت وأعادها إلي غامزاً، مقدراً بوضوح القلق الذي شعرت به حينما لم أجد جوازي معي.
الكثير من العاملين بالمطار هنود الأصل، أو أفارقة، لكن، يا للفرق الشاسع بينهم وبين الامريكيين. إنهم أفضل أدباً وذوقاً وتعاملاً، وفي أسوأ الحالات هادئوا التعامل محافظين على مساحة من الاحترام.
مفتشة حقائب شابة، تفتش الحقائب التي تحمل مع الراكب، وجدت في حقيبتي كريم الشعر، وقالت بأن العلبة أكبر من الحجم المسموح، واعتذرت لأني لا أستطيع الاحتفاظ بها. قالت بأسف بأنها تخشى بأنهم أفسدو إجازتي، وذلك حينما بدى علي عدم الرضا لأن الكريم لم يؤخذ في مطارين سابقين. تفهمت حاجتها لأخذ العلبة، وقدرت اهتمامها بشعوري.

حينما صعدت الطائرة، كان غالبية الموجودي سعوديين، على عكس رحلة الذهاب. ولكن أقرب راكب كان بريطاني، يفصل بيني وبينه كرسي. بدا كرجل أعمال، ومع اننا لم نتكلم، إلا أنه كان يحاول التلطف والتبسم باستمرار، خصوصاً بعدما فتحت له نافذة أمامي ليرى منها، بعدما لاحظ بأنه لا يستطيع أن يرى من نافذتي جيداً.
المضيفات كن مختلفات عن مضيفات الذهاب، كن أكثر صرامة، وقد رفضت إحداهن ترك حقيبة ظهري بين رجلي، كما كنت أفعل طوال الرحلات. لكن تواجدت مضيفة عراقية على ما يبدو، لعلها في أواخر ثلاثيناتها، كانت تلقي بنظرات غريبة ومتأملة تجاهي، وكانت تتصدد حينما تمد تجاهي وجبة أو ما شابه، رغم ردها على شكري بذوق مرتبك، وكأنها لم تتوقعه. أما ما استغربته كان مضيف آخر، شاب، عراقي كذلك ما يبدو، نظر تجاهي بضع مرات بازدراء غير مفهوم، ثم حينما وجدني نائماً ألقى علي خبزة مغلفة كان يوزعها على من يريد. لم أفهم سبب تلك الوقاحة، ولست أتخيل بأن جميع السعوديين عانوا منها على الطائرة، إذ رأيته يتعامل مع آخرين بأدب أفضل. لم أقل شيئاً، لكني راسلت الشركة حينما عدت مشتكياً، وقد ردوا معتذرين، موضحين بأنهم سيتخذون موقفاً من هذا المضيف.


لم أسافر كثيراً، لذا يبدو لي أنه من المحرج أن أتقدم بنصائح وأفكار لمن يريد السفر، مع ذلك، ربما أفادت هذه الأفكار شخص مثلي، لا يسافر كثيراً ولا يعرف.
من أفضل النصائح التي أفادتني جائت من أخي الكبير، نصحني بأن آخذ حقيبة أخرى أصغر من حقيبتي الأساسية، وتكون سهلة الحمل وبسيطة. كنت أشعر بأن هذا أمر لا داعي له، خصوصاً لحملي حقيبة صغيرة على الظهر. لكن تبين أن الحقيبة الأخرى مفيدة جداً، خلال التنقل بين المطارات والانتظار خلال الرحلات الطويلة جداً، وخلال الاستمتاع بالرحلة نفسها بعد الوصول. قد يترك المرء حقيبته الكبيرة في مكان، ويستغني بالحقيبة الصغيرة ليوم أو اثنين، حتى يزور منطقة قريبة ويعود، دون أن يجرجر حقيبته الكبيرة. هذا خلافاً لوضع الأشياء الاحتياطية خلال التنقل بين الطارات فيها، وكذلك لمساهمتها في تخفيف وزن الحقيبة الكبيرة التي يكلف وزنها مالاً حينما يزيد عن حد معين عند الشحن. وأتخيل بأنه يمكن اختصارها بحقيبة ظهر كبيرة، كما رأيت كثيراً بالمطارات، وهذا أمر مقبول، لكني لا أتخيل بأنه مريح حين الوصل إلى الجهة المقصودة والبدء بالتنزه، بحمل كل هذه الحقيبة الضخمة على ظهرك في كل مكان.
أما الحقيبة الرئيسية الكبيرة، فنصيحتي هي أن تكون كبيرة فعلاً، وليست صغيرة، على الأقل متوسطة، خصوصاً لرحلة طويلة وبعيدة، وخصوصاً إذا ما كان المرء سيعود بهدايا، وهي في أسوأ الأحوال يمكن أن تخزن الحقيبة الثانوية إذا لم يجد المرء لها استخداماً.

حينما تذهب إلى بلد غريب، كن مستعداً وراغباً بتكوين صداقات، هذه العلاقات تساعد بجعل ذكرى الرحلة حية، وتكسب المرء علاقات إنسانية بأبعاد قد لا يكون قد استكشفها أو تأمل بها.
لا مفر كذلك من سوء الفهم الثقافي، لكن تصحيحه ممكن جداً، وقد يصنع ذكرى جميلة كذلك.

كن كريماً بقدر ما تستطيع، أعتقد بأن الأمر لا يتعلق بصنع ذكريات جميلة للمرء نفسه فقط، لكن للآخرين كذلك. والكرم لا يكون مادياً فقط، لكن معنوي كذلك. إن المبدأ نفسه مهم في رأيي مثل أي غرض آخر من السفر؛ صنع ذكريات حلوة للآخرين، سواء أهل البلد أو زواره، إنه أمر يصنع المعجزات في العلاقات الإنسانية، ورؤية الناس لبعضهم البعض، ولقلب المرء نفسه.

بالنسبة للتصوير، إن الكاميرات العادية تفي بالغرض بالنسبة لمستخدم عادي في رأيي، أما المحترف فلا يحتاج إلى نصيحتي. لا أقترح الإسراف بشراء كاميرات مرتفعة الثمن، فالكاميرات بخمسمئة أو ستمئة ريال، أو حتى أقل، كثير منها ممتاز في السنين الأخيرة، وتملك مزايا كثيرة، كما أنها سهلة الاستخدام وممتعة.
لكن ما أعتقد أن الكثيرين يغفلون عنه هو مسألة كاميرا الجوال. ما أقترحه هو أخذ جوال جيد في سفرك، بكاميرا ممتازة في حال نسيت كاميرتك في الفندق أو لم تكن مستعداً بها.  يفكر معظم الناس بأخذ جوالات رخيصة معهم حتى إن سرقت لا يخسرون الكثير، لكن كاميرا الجوال ضرورية جداً في رأيي إلى جانب الكاميرا المستقلة. أرى أن يأخذ المرء جوال جيد بكاميرا ممتازة ويحرص عليه جيداً، فهو سيفيد حتى بالتواصل وإرسال بعض الصور إلى الأهل في البلاد.
ويجب تصوير كافة الوثائق المهمة كالجواز والهوية والتأشيرات بكاميرا جيدة، أو باستخدام برنامج سكنر على الجوال، وهو برنامج أنصح بشدة بالاحتفاظ به على كل جوال. ويجب رفع الصور على الشبكة في حساب المرء، على البريد أو خدمات التخزين.
كذلك، البطاريات الاحتياطية مهمة جداً، تلك البطاريات المحمولة التي تشحن كالجوال، ثم يمكن استخدامها بشحن الجوال أو الكاميرا في أي مكان. إنها منقذة للحياة، وبالواقع أحملها معي كثيراً حتى بالرياض.

التأمين الطبي لا يجب إغفاله أبداً. إن كان المرء سيسافر بمساعدة وكالة سياحية فليسأل عنه ويعرف كيف سيستخدمه، وإن كان سيعتمد على نفسه فقط فليشتريه فتكلفته معقولة أمام ضرورته. ذهبت إلى الطبيب مرتين هناك، وقد أفادني التأمين كثيراً وبسط أموري. حتى الأدوية أخذتها مجاناً. لا يدري المرء إن كان سيحصل له عرض مفاجئ أو حادث. لم يحصل لي حادث هناك لكن جرح في قدمي تطور (أعتقد أنه ترك ندبة دائمة فيها، لكنها ندبة حلوة ستذكرني بالبيرو)، وكان يجب أن يراه الطبيب لأن قدمي تورمت وساء حالها.
وهذا ما يمكنني قوله، ربما أوحى بفكرة لأحد ما يرغب بالسفر.

كنت أبحث عن مشروب لوالدتي في دكان صرت أتردد عليه مؤخراً، لكثرة خيارات المياه الجيدة فيه، حينما جاء أحد العاملين، صبي يمني أراه كثيراً، وحاول التعرف إلي. لست أفاجأ حينما يسألني أحد إن كنت من خارج الرياض، خصوصاً حينما لا يكون سعودياً، لكني لم أفهم مفاجئته الكبيرة حينما لم أكن كما توقع، ولم أفهم كذلك لماذا لم يرد أن يخبرني ماذا توقع بالضبط. قلت بأني لست من الرياض، فقال بأنه خمن هذا، فأنا هادئ، وهي ملاحظة سمعتها من الكثير من غير السعوديين في الأماكن التي أتردد عليها، رغم أني لا أرى صدقاً أن السعوديين من فئتي العمرية أصخب الناس. أراد المعرفة أكثر، قلت بأني من القصيم. اتسعت عينيه، لأنه توقع إجابة أخرى، ربما توقع أن يصدق تخمينه مرة أخرى. قال بأني لست مثل أهل القصيم، الذين وصفهم بعدم الهدوء كذلك. إني أشك عموماً بأنه يعرف أهل القصيم؛ فلا يبدو لي أنه عاش هنا منذ فترة طويلة، نظراً للهجته و حضوره وصغر سنه. سألته من أين توقع أن أكون؟ ارتبك، رغم ابتسامتي، وقال من بعيد، ورغم تكرار للسؤال، إلا أنه كرر؛ من بعيد. قلت: توقعت أني من الجنوب؟ قال لا.
أخبرني بأنه يعرف طبيب أمريكي مسلم يأتي إلى الدكان كذلك، وهو يتحدث القليل من العربية، بينما الصبي نفسه يتمنى لو تعلم الانقليزية، وقال بنوع من الزهو أنه يعرف الأحرف الانقليزية، لكن عقب بخيبة بأنه تعلم هذا حينما كان بالمدرسة، وأنه يتمنى لو تعلم أكثر. شعرت بالأسف، بالواقع، ليس كذلك أول من يخبرني برغبته بتعلم اللغة الانقليزية؛ يمني آخر، في دكان آخر، كان قد أخبرني برغبته، ولا أدري لماذا اختارني ليسألني إن كنت أعرف اللغة، لكن سره أني أعرف ليحدثني عن طموحه.
بيد أن هذا الصبي أثر بي كثيراً بموقفه، إنه يعمل هنا ولم يكمل دراسته، وهو صغير بوضوح، وهو يريد أن يتعلم أكثر. أتمنى لو كان بيدي مساعدته، ولو على الأقل لتعلم اللغة الانقليزية. لا خلاف لدي على شراء شيء أعتقد أنه قد يعينه على تدريس نفسه، شيء بسيط ويناسب الاستخدام في دكان. فكرت بشراء قاموس الكتروني بسيط، من النوع الذي يحوي دروساً، لكن هل سيعرف استخدامه، أو هل سيثير اهتمامه ويفيده؟. اشتكى كذلك من ضعفه باللغة العربية، وسألته إن كان يقرأ الجرائد الموجودة؟ قال بأنه لا يقرأ إلا الفيسبوك والوتساب، أخبرته بأنه يقرأ الصحف، ويحاول بصوت مرتفع لكي يسمع نفسه جيداً.
تساءل إذا ما كنت قد أتيت هنا من قبل؟ عرفت بأنه متشكك، رغم أني أعرف بأنه يراني في كل مرة، فهو غالباً من يحضر شد قوارير الماء لي من المستودع، لكنه غير واثق هذه المرة لتغيير في مظهري. قلت بأني آتي دائماً، وأني أنا من يرى لكن ربما القبعة غيرت مظهري قليلاً. قال بأنه لا يدري، لكن شكلي اليوم ملفت جداً. إنها قبعة صوفية، بيني، اشتريتها قبل سنوات بخمسة أو ثلاثة ريالات، ألبسها أحياناً بالشتاء مع اخت لها، لكن لعلها كانت اختيار موفق، حيث سؤلت عنها بضع مرات على مر السنوات.
هؤلاء الصغار من اليمن خصوصاً، لماذا يسمح لهم بالقدوم للعمل بالدكاكين؟ ما الضرر لو تم دعم مدارسهم ومعيشتهم وأهلهم هناك بدلاً عن الانشغال بسواهم؟ فالأقربون أولى بالمعروف.


كنت قد قلت في تدوينة سابقة عن تسجيلي بموقع للتعارف والمراسلة، حيث حققت فيه نوع من النجاح لم أعرفه في مواقع أخرى.
إني سعيد جداً بالفرص التي أتاحها لي الموقع، تعرفت على بضعة أشخاص مثيرين للاهتمام، من أماكن مختلفة، وقد بدأوا يهتمون بأمري ويسألون عني بعد القليل من المراسلة.
أعتقد أن أفاتاري، الموجود كذلك أعلى هذه المدونة، يجذب الكثير من الناس، حيث أني لم أنشر صورة وجهي هناك. ولم أكن أرغب بصراحة بإرسال صورتي إلى أحد، لولا حسن نية شخص آخر بادر بإرسال صورته، وضاعت بالبريد، فلم أستطع أن أخفف من خسارته، إذ أنها صورة خاصة بالملابس التقليدية لا يملك منها إلا نسختين، فأرسلت صورتي، حيث قال بأنه ابتسم حينما رآها، إذ أنها تشبه الأفاتار الذي صممته لنفسي فعلاً.
استلمت كذلك من شخص آخر هدايا لطيفة، أشعرتني بالخجل. إن الكرم وسلامة النية واللطف لا يعرفان انتماء محدد، صحيح أن هذه الصفات قد تزيد وتغلب في مكان عن آخر، لكنها لا تحتكر في مكان أو تمتنع كلياً عن مكان في اعتقادي. رددت بإرسال هدايا، لكن رد عليها بأفضل منها.
ربما العلة في هذه الهواية تكمن في طبع بعض الناس في اعتبارها مجرد مراسلة مجردة من المعنى، وكأنما كل ما في الأمر هو جمع مراسلين من كل مكان بالعالم للمفاخرة بهم. مثل هؤلاء غالباً ما يرسلون نفس الكلام إلى الجميع، حيث لديهم قوالب جاهزة كتبوها مسبقاً. أحد من أراسلهم، الذي بدا أني أثير اهتمامه بشدة، لديه هذا الطبع. أعتقد أنه يحاول أن يخصص بعض الحديث لي. سأرى إن كان الوضع سيتحسن، وإلا سأضطر آسفاً لإفهامه مشكلتي مع طريقته بصراحة.


عموماً، أجد نفسي الآن في انتظار رحلة أخرى، ليست للتنزه، لكن للعلاج مع أهلي. أحمل الكثير من الهم، سيكون الأمر مرهقاً جداً، الجو بارد على نحو أخشى معه على أهلي. والكثير مما يجب ترتيبه والقيام به في مكان غريب ومكلف.
سأرافق إن شاء الله نفس الثلاثي في رحلة الهند. والدتي، وأختي، وابنتها، التي نحن ذاهبون لأجلها حصراً هذه المرة.
مرت أشهر طويلة في متابعة الأمر، شارفت على الثمانية أشهر. تكاليف العلاج تتكفل بها الحكومة، وإلا لما تمكنا من القيام بالرحلة. لكن للأسف، لا يعطون مبلغ يغطي المصاريف المعتادة هناك، كما فهمت من المترجم والمنسق المكلف من الملحقية السعودية، لهذا سيكون الوضع صعباً جداً على ما أعتقد، ولا يمكنني الاستعداد بما يكفي، إذ أن ظروف معينة قد أسائت إلى وضعي المالي كثيراً.
ربما أكثر ما يخيفني هو السكن. لم نجد بعد السكن المناسب، رغم اقتراب الرحلة. السكن هناك مكلف جداً، مكلف بجنون، والملحقية لن تتكفل به، ستمنحنا فقط 4500 ريال حينما نصل كما فهمت، ونحن قد نبقى هناك لمدة ثلاثة أشهر، لكني أرجو أن تكون أقل بكثير.
كان طبيب ابنة أختي قد اقترح هذا الحل لمساعدتها. قال بأنه سيكتب توصية لعلاجها لدى طبيب يعرفه، ويعتبره أفضل طبيب في تخصصه. كان هذا قبل حوالي التسعة أشهر. هذه التوصية أخذت إلى الهيئة الصحية، جهة تابعة لوزارة الصحة تعمل على هذه الأمور. وقد أعطانا الطبيب هذا موعد بعد سبعة أشهر، مفترضاً بأننا سنكون قد عدنا من هناك بعد اتمام العلاج، وكأنما في الأمر سخرية. بالطبع جاء الموعد وقابلناه وفهم منا بأن الأمر ليس بهذه السهولة للأسف.
يُخيل إلي دائماً بأن العاملين في سفاراتنا وملحقياتنا بالخارج يتصورون بأنهم في إجازة دائمة في تلك البلدان. أحدهم لم يرسل موعد الطبيب إلى الهيئة الطبية بالرياض لأنه وصله في آخر يوم دوام قبل إجازة رسمية هناك، ولم يكن إلى جانبه موظف ليرسل الموعد بالفاكس كما عبّر، ففاتنا الموعد دون أن نعلم، سوا من اتصال المترجم الذي كان مستغرباً لماذا لم نتواصل معه لنخبره بموعد وصولنا أو نسأل عن شيء وقد تبقى ثلاثة أيام على الموعد، كادت أختي أن تفقد عقلها. بالواقع، كانت الملحقية في وقت سابق قد قالت أصلاً بأنه لم يصلهم جواب، وأنهم سيبحثون لنا عن طبيب بتخصص مماثل في بلد آخر. كانت صدمة.
حينما تواصلت مع ذلك الموظف كان يحاول أن يجيب بقدر ما يستطيع، لكن لم يكن لديه استعداد لإعطاء وقت واضح ليرسل الموعد الجديد، ولم يكن لديه استعداد للإجابة عن أي أسئلة في شأن السفر والإجراءات. بيد أنه أعطاني على الأقل بريد شخص آخر بالملحقية، الذي لم يكلف نفسه حتى الرد بذوق أو التظاهر بأنه قرأ الرسالة، قال فقط بأن أسأل الهيئة، رغم أن المعضلة كانت من الهيئة وإجابتها غير المنطقية، إذ قيل لنا بأننا يجب أن نتوجه إلى دولة أخرى أولاً لزيارة الملحقية، ثم إلى بلد العلاج المشمول تحت تغطية الملحقية. كان أمر مثير للغيض، طلبت من الأول توجيهي إلى شخص لديه استعداد للمساعدة، لكنه لم يجب، فزميله أهم. المؤسف هو أنه أجاب السؤال حينما جاء من المترجم، وتعاون معه جيداً.
تمنيت لو لم يكن لدينا سفارة هناك، وكان تعاملنا يتم عن طريق سفارة دولة خليجية أخرى.
حصلت على التذاكر مؤخراً لحسن الحظ. بالعادة، أحد إخواني هو المسئول عن مراجعة الهيئة الصحية لأجلنا، وقد قيل له بأن التذاكر لن تصدر حتى نحصل على التأشيرة. وبالمقابل، أخبرني موظف سفارة بلد العلاج في الرياض بأن التأشيرة لن تصدر حتى نأتي بالتذاكر، وقد أخبرهم أخي، دون فائدة، إذ أن هذا الإجراء المتبع مع كل الدول، والكل يحصل على تذاكره بهذه الطريقة بلا مشاكل، ويبدو أن القليل جداً من المرضى من يتم إرساله إلى حيث سنُرسل، فلا يبدو أن لدى الناس بالهيئة فكرة واضحة عن ذلك البلد. لم يتمكن أخي في أحد الأيام من الذهاب لمتابعة شأننا، لمرافقته ابنته إلى المستشفى، فذهبت أنا. كنت ذاهب لإنجاز بعض الأوراق فقط، ولم أطمع بالتذاكر، لكن لحسن الحظ، والحمد لله، حصلت على التذاكر بلا مشكلة، وكان شيء غريب، حيث قيل لي فقط بأن أحدث المدير العام، الذي لم يناقشني حتى بعد أول عبارة قلتها، فقط كتب على أوراقي: يمنح التذاكر، ووقع. فوجئ الموظفين، وتجمعوا لرؤية الملاحظة، وقال أحدهم مازحاً عن المدير: أجل خله يتورط!، فضحكوا. ذهبت إلى ناسخ هناك لطباعة بعض الخطابات لي، وكان لطيفاً، بينما احتفى زميليه بي على نحو غير مفهوم، ولكني حينما خرجت وجدت ما بدا انه خطأ، وما كدت أعود حتى سمعته يقول عني، دون أن أسمع السياق كاملاً: جزاك الله خير والله يجزاك الجنة! في تعليق على أسلوبي بالشكر. بدا الإحراج واضحاً على وجهه مباشرة حينما رآني، لكني تكلمت مباشرة، وتظاهرت بأني لم أسمع، فشرح لي بأن ما على الورقة خطأ غير ضار، إذ أنه قالب مستخدم للكل. كان الخطأ هو وضعي في خانة الوالدين للمريضة.
تتعامل الهيئة مع مكتب الفرسان للسفر، ومقر الهيئة عبارة عن فيلا قديمة قرب مستشفى الشميسي (حيث ولدتني أمي)، ومكتب الفرسان يقع في ملحق الفيلا الصغير. يعمل هناك شخصين لطيفين، احدهما سوري على ما يبدو، والآخر آسيوي، ولأن تذاكري متعددة، ولأني سأشتري تذكرة والدتي لأنها غير مشمولة بتغطية الحكومة للرحلة، تأخرت كثيراً لديهم. رأيت رجل سعودي كبير بالمكتب، يسأل ويدقق بالأمور ويتابعها. لم أفهم بالبداية ما دوره، لكني وجدته يراقبني، حتى حينما كدت أفرغ وطلبت بطاقة الموظف الآسيوي الطيب جاء، وسألني إلى أين سأذهب، وأخبرته بأنها سويسرا. قال للموظف أن يكتب رقم جواله  كذلك على الورقة مع اسمه، وأخبرني بأن أتصل عليه في حال واجهت أي مشكلة أو أردت أن أسأل، ثم أخبرني بأنه مدير المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية في شركة الفرسان. شكرته على لطفه البالغ. اسمه سعد كذلك، حركة.
كاد أخي أن ينفجر غيضاً حينما أخبرته بأني حصلت على التذاكر من الهيئة دون جهد، وقال صائحاً بصوته الغليظ في مثل هذه الظروف: بَروح أتهاوش معهم!(!!). ربما كانوا قد ملوا منه لأنه راجعهم كثيراً.
ذهبت في يوم لاحق لإتمام أوراق أخرى وللاستفسار من مكتب السفر عن تأكيد الحجز وتفاصيل أخرى. كنت لم أذهب إلى العمل في ذلك اليوم لأني كنت في الصباح بصحبة والدتي بالمستشفى، ولم نفرغ قبل الظهر، لذا لم أكن تحت أي ضغط. رحب بي الناسخ وزميله جيداً، وقد كانا بالغي اللطف، ومزحا كثيراً. وسأل الزميل عن موقع بلد العلاج الجغرافي. لا يبدو أنهم يرسلون الكثيرين إلى هناك بالفعل. كنت قد كتبت اسم الدولة لهم لأنها غير مكتوبة ضمن قوالبهم الجاهزة للخطابات.
إني أحمل هم هذه الرحلة منذ أشهر، البرد الشديد، التكاليف التي يحاول المترجم أن يجعلني مستعد لصدمتها، التنقلات هناك، الفترة الطويلة التي قد نقضيها، وحالتي المادية السيئة، أو حالتنا عموماً.
إن ما يهون من الأمر هو الأمل، أن تتحسن حالة ابنة أختي الصحية. لو خرجنا بنتيجة واضحة وجيدة، ستكون كل صعوبة مبررة.
أسأل الله المعونة لنا والشفاء.



كانت أم الجيران في زيارة والدتي، وهي امرأة كبيرة طيبة القلب تداوم على التواصل مع والدتي، ويبدو أنها تحبها كثيراً. أحضّر لهن الفشار بنكهة الزبدة بالعادة حينما يتصادف وجودي، وهو شيء تفضله أم الجيران من "يديّ الحلوة"، بما أن محاولات الآخرين فشلت بإعداده بطريقة مرضية، رغم أن الأمر لا يتطلب أكثر من ضغط زر "فشار" على المايكرويف، بعد وضع الظرف. عموماً وقفت قرب الباب للسلام، ودعت لي المرأة، ثم تسائلت متى سأتزوج؟ وألحت بالسؤال، قائلة بأنها ووالدتي مللن انتظاري وانتظار ابنها، الذي أعتقد بأنه أصغر مني، ولم يتزوج بعد. كان أمر محرج، ولا يبدو أن لدي رد خلاف: الله يكتب الخير والصالح.




أحياناً تود أن تؤدي خدمة لأحد ما، تؤديها بتقدير واهتمام ودون مقابل بالطبع، لكنك تفاجأ بأنك علقت بدوامة لن تنتهي من تقديم الخدمات، فالخدمة تجر الخدمة، وإن انتهت شئون الشخص فلصديقه شأن يحتاج فيه إلى خدمة، فيمحو بطلب هذه الخدمات المتلاحقة أي تقدير بدأت به خدماتك، ليتحول الأمر إلى مرارة وسأم.
أعرف أن مساعدة الناس أمر طيب، ويعلم الله أني دائماً أحاول ما بوسعي لمساعدة من يمكنني مساعدته، أحاول أن أكون خدوماً كما يقال، رغم أني من النادر أن أجد من يعيد الخدمة أو يقدرها.
لكني أجد نفسي أحياناً وقد استنزفت لأجل شئون يمكن أن يقوم بها غيري، لأشخاص قادرين على مساعدة أنفسهم لكنهم يفرضون أنفسهم بشكل ما. وأشخاص لا يحتاجون فعلاً إلى مجهود كبير لمساعدتهم، لكنهم بثقل حضورهم، وتطلبهم وتشرطهم يصيبونك بالمرض وربما البغض تجاههم. لن أنسى شخص تعرفت عليه مع زميل، وجاء إلي لاحقاً في حاجة لتعريف مترجم من الجامعة، وكلما أعددت تعريفاً أراد أن يجمله بشكل ما لأنه سيقدمه إلى سفارة، بسفاهة لم أرى مثلها، حتى طبعنا ما يقارب العشرين تعريف، وصرت أنتظره يقترح أن أضع روج وأطبع قبلة محل التوقيع تملقاً للسفارة. كان متطلباً ولا يفهم، كان التعريف بأبسط صوره يؤدي الغرض، فما تريده الجهات هي معلومات واضحة ومباشرة. بالنهاية، ولبطء بديهته، لاحظ غليان دمي المكبوت، ولم يعجبه طبعاً، وقبل بالتعريف الأخير، ولم أره مرة أخرى لحسن الحظ.
وكان لي صديق لم يكن يكف عن طلب الخدمات المتعبة، ويتصرف مع ذلك وكأنه صاحب المعروف، إلى درجة أني أخدمه عند الحاجة متى طلب، وحينما أحتاجه كان يقول بنذالة بأنها ليست مشكلته، حتى انتهت الصداقة ولله الحمد غير مأسوف سوا على الوقت الذي ضاع عليها؛ سنوات وسنوات من الطفولة حتى الشباب.




قبل اسبوعين تقريباً، ذهبت إلى معارض الرياض الدولية، لحضور معرض التصوير الفوتوغرافي ألوان. وجدت المواقف مزدحمة، ليس بالسيارات فقط، لكن بالواقفين من الشباب الذين فهمت أنه لم يسمح لهم بالدخول. سمعت أن الهيئة موجودة، وكانت الشرطة كذلك حاضرة، وبدا الأمر مثيراً للأعصاب وكأنما هم هنا لردع شغب. حينما صعدت إلى البوابة، وقبل أن أصل، تعالى صياح وهرج، فرأيت شاب يصيح بالآخر، لماذا يغازل أهله؟. ثم اشتبك الشابين، بينما صحن النساء المسكينات، أخوات أحدهم، بذعر. لا يريد المرء الإقتراب وهو أعزب من هذه المواقف. سألت الشاب المسئول على الباب أن أدخل، فقال بأنه للعوائل فقط، قلت بأن الإعلان لم يقل شيئاً كهذا، قال بأنهم أعلنوا على تويتر، وكأن كل الناس يتابعونهم، أو حتى يشاركون في هذا الموقع. شرح بأن الهيئة جائت وتسببت بهذا القرار، مما أشعرني بكراهية متعاظمة تجاههم. كان إلى جواري شابين يريدان الدخول، فقال بأنه للعوائل، وما كانوا ليسمحوا لهم أصلاً بسبب ملابسهم، وقال هذا بازدراء لا معنى ولا داعي له إلا سوء تربيته. وبالواقع، رأيت أنه أسهل ما على القائمين على منع أو إدخال الناس حتى بالأسواق هو التكلم بوقاحة عما يلبسه الناس والانتقاد بجرأة. إني لا أحب صدقاً هذه الملابس، وأشعر بالحزن حينما أرى شباب لا يلبسون غيرها، وأموت قهراً وأنا أجد الثوب يزداد ندرة مع تجدد الاجيال، لكني لا يمكن أن أقدر مواجهة الناس بهذا الأسلوب الوقح، والحكم عليهم والتجرؤ بالانتقاد الشخصي دون مناسبة أو مسوغ. لم يكن الشابين يلبسان ملابس سيئة صدقاً، لم تكن الملابس أقصر من اللازم أو لافتة للانتباه على نحو خاص. مع ذلك، صار الشباب المكسور يبتلع مثل هذه الإهانات، إذ أننا شعب مُروع. ورغم أن القوي في المجتمع يأكل الضعيف، إلا أننا كذلك على جانب من التجبر والشراسة حينما تحين الفرصة حتى للضعفاء، ولا مكان للعدل واحترام كرامة الآخرين للاسف.
نزلت مشمئزاً، عبر المنحدر المؤدي إلى المواقف، وتقافزت إلى جواري طفلة لعلها بالرابعة من عمرها، فوَقَعَت، رفعتها مسمياً ونفضت ثويبها، وتأكدت بأنها بخير. حينما تحركت ماضياً قالت والدتها التي كنت أسمعها ولم أرها من خلفي: جزاك الله خير.
فكرت مباشرة، ماذا لو لم تفهم والدتها أني إنما أمسكت الطفلة شفقة، ونفضت ثوبها كما أنفض ثياب أطفال العائلة؟. ماذا لو أسائت الظن؟، فكرت بهذا وأنا أتذكر التشكك غير العادي الذي جعل الهيئة تأتي وتمنع كل العزاب عن الدخول، دون استثناء حتى لمن بعمري هذا.
إني أفهم بأن هذه مبالغة، في زمن الناس هذا، لكن بالمستقبل، مع الاستمرار بتقديم الشك والريبة في كل الناس، وتأكيد القدرة والحق بالحكم على أي أحد لحالته الاجتماعية أو شكله أو أسلوبه باللبس، ماذا يمكن أن يحدث؟. إنه لأمر مؤسف. قبل فترة، قبض على رجل تبدو عليه سيماء التدين، في سوق العثيم مول، كما أوردت صحيفة سبق على الانترنت، حيث يعمل هذا الرجل على قناة محافظة، ويقوم بأنشطة تثقيفية للأطفال بالسوق، أقول قبضوا عليه لكونه صار يستعمل الأطفال في عهدته جنسياً، وقد اكتشفوه حينما صاحت امرأة رأته يخرج بأحد الصبية، وقالت بأنه هو من استغل ابنها مؤخراً. يقال بأن الرجل انهار باكياً، وقال بأنه مُبتلى. لا شك لدي بأن مثل هذا الرجل كان سيدخل في المعرض الذي ردوا عنه كل من لا يرافق امرأة، دون أن يرده أحد، فقد رأيت هذا سابقاً بالأسواق.




هذا أغنية أحبها. بشكل ما، أجدها تعبر عن بعض أفكاري حول أمور معنوية وحياتية. أهديها للإزابيلات والفرديناندات في مجتمعنا. شق منهم سيسمع الأغنية بلا خلاف، وشق سيمتنع لأسبابه، فلا ينتمي هؤلاء القوم إلى فئة واحدة من المجتمع، إنهم ينتشرون في كل فئاته، يحاكمون، يرغمون، يفتشون عن العيوب، ويتظاهرون بالأفضلية.







حضرت زواج لقريب غالٍ مؤخراً، وكان في مكان قصي ومخفي إلى درجة ضياعي إلى حوالي الساعة قبل الوصول، وحينما يئست وكانت آخر محاولة أقوم بها قبل أن أعود أدراجي. 

رأيت هناك بعض الوجوه القديمة من الوسط الفني العائلي؛ فنانين باللطف والطيبة، وفنانين بالسخرية، وفنانين بالتمثيل، وفنانين بالنصب، وفنانين باللؤم والنذالة، وفنانين باللباقة والذوق، وفنانين بثقل الظل. بيد أنه ليس كل فنان موهوب وناجح فيما يقوم به.
لكني سعيد بحضوري، تقديراً للعريس وأهله، ولرؤية بعض من أقدرهم صدقاً من الضيوف الآخرين. سمعت مجاملات، في حين تفادى بعضهم السلام علي حتى حين، إلا أني لا أشقى بالأمر. وبالواقع، لا يتجاهل الجميع بعضهم عمداً، إن السلام على عدد كبير من الناس، وبالترتيب الملائم حسب الشروط الإجتماعية الدقيقة والاتيكيت المحلي، أمر مشوش حقاً. فقد يؤجلك البعض لأنك بالمكان أو الاتجاه الخطأ، أو لأنهم يتوقعون منك المبادرة والاقتراب، أو فقط لمجرد ضغط الموقف. لكن لا شك أن البعض يتجاهل أفراد معينين لأنه لا يريد السلام عليهم. تجاهلني أحدهم، ولم أسعى إليه، وهو دون شك لا يرتاح إلي ولا يحبني، لكني فوجئت به يسلم لاحقاً، ولا أدري لماذا.
رأيت قريب يأخذ رقم جوالي في كل مرة نلتقي، حتى لو لم تتح الفرصة لنا للجلوس أو الوقوف معاً والتحدث، مع وعد بالاتصال للتنسيق للقاء قريب، دون أن يحدث شيء. بدأت أجد الأمر مضحكاً. لكني بالحقيقة أحب رؤيته.
صادفت شاب من بعاد الأقارب من ألطف من عرفت في حياتي. قال بأننا لم نرى بعض منذ حوالي خمس عشرة سنة. لم أصدق، لكنه أوضح بأننا لم نرى بعضنا منذ زواج شقيقتي حينما تورمت يدي وآلمتني من تقديم القهوة. ضحكت لأنه تذكر الأمر بهذه الصورة، وتبين أنه محق. بالواقع، قدرت حساسيته وتذكره للمناسبة على هذا النحو، في حين أن قريب آخر كان قد غضب في تلك المناسبة لأني جلست أستريح حينما بدأوا بفرش السمط للعشاء، دون أن يفكر بأني لم أغضب لعدم مساعدة أحد لي بتقديم القهوة للجميع. بقيت يدي تؤلمني لبضعة أيام بعد تلك المناسبة، وبقيَت ليومين على وضع قبضة الدلة بالكاد أحركها. لقد بدأت بتقديم القهوة منذ العصر حينما جئنا حتى وقت متأخر من الليل.
سلمت على قريب من الأقارب الأعزاء بالقصيم، الذين يشبهون الهنود الحمر، وناديته بخلاف اسمه ممازحاً، لأن والدتي مصرة على أن اسمه عبدالسلام. أخبرته أن والدتي لا زالت تسميه بهذا الاسم. وبالواقع، سألتني بعد المناسبة إن كنت قد رأيت عبدالسلام، فهي تحبه.
قريب آخر قال مجاملاً بأنه في كل مرة يراني يجدني قد صغرت بينما هو قد كبر. قلت له ضاحكاً بأنه لابد يقصد العكس. لا شك.



سعد الحوشان

الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

خاتمة الحلم الأنديزي (الجزء الثامن والأخير من الرحلة الفعلية،قصائد،المعتاد)


بسم الله الرحمن الرحيم







لكل حلم نهاية، مهما طال، وكانت الرحلة حلم طويل وجميل في معظمه. لكن ماذا بوسع المرء أن يفعل، لابد أن يستيقظ في لحظة معينة، كما بدأ يحلم. على الأقل، لم يكن حلماً قصيراً، ولم يكن فقيراً.

أطلع أحياناً على الأشياء القليلة التي جلبتها من هناك، وأتذكر الأماكن التي دخلتها بكل عادية لأشتري شيئاً، وأفكر بامتنان للفرصة غير العادية التي حظيت بها، والاختيار الذي صممت عليه، والأمور التي تعلمتها، وشعرت بها، بكل هذه الأشياء الجديدة التي هدّأت من شعوري باليأس، ولو إلى حين.
مع ذلك، أشعر أحياناً بأن الإطلاع الفعلي، على مكان لطالما تقت إليه، قد أفسدني أكثر، من حيث أني لم أعد أطيق صبراً على حياتي كما هي، على أمور كثيرة متعلقة بها، صرت أشعر بأن هناك أمل لي، لكنه بعيد المنال، إلى درجة أنه من الصعب أخذه بالاعتبار.

عموماً... أكمل بقية الرحلة، التي كانت كلها جميلة جداً (باستثناء بونو)، خصوصاً الجزء الأخير منها، في جنوب البيرو.

كان التجمع يبدأ أمام كنيسة قديمة وضخمة، وتجلب السياح حافلات صغيرة من المسموح بمرورها بالوسط التاريخي من فنادقهم. وقفت هناك وكانت المرشدة تنتظر معنا، حتى اكتمل العدد ودخلنا. بالداخل، كانت الكنيسة بديعة ومزخرفة بمبالغة كالعادة. وبدأت المرشدة تشرح بعض الأمور عن الكنيسة التي أقيمت في مكان معابد للإنكا على نحو خسيس، بحيث هدم أكثر المعابد، أو ما أمكن الاسبان بتقنياتهم الضعيفة هدمه، لقوة البناء وتعقيده. ثم فجأة، طلبت المرشدة أن يبين كل سائح جنسيته، وهو طلب غريب. سمعت صوتين رنا على نحو مس قلبي بالألفة والتطلع. كانتا فتاتين مصريتين قلن بالانقليزية : مصر. لم يلتفت إليهن أحد، لا غرابة في أن يكون المرء من مصر، لكن حينما قلت أنا: "آريبيا" التفت السياح تجاهي وهم يهمهمون : "اوه آريبيا، ساودي آريبيا"، وكأنه حدث نادر وكبير، رغم ثقتي بأن سياحنا يملأون ديارهم بالصيف، وربما طلابنا على مدار السنة في بعض البلدان. حينما أخبرتهم بانتمائي، اطلت إحدى الفتاتين المصريتين وقالت ببهجة: السعودية؟!، قلت: نعم، قالت: يا أهلاً!. هل رأيتم أذوق منها؟. لكني كنت سعيداً ومتطلعاً حتى قبل أن تتكلم وترحب بي، سماع كلمة عربية هناك، ومن أشخاص من خلفية أحبها وأتقبلها بلا شك أو تردد، كان أمر مميز. بعد شهر، كان تحدثي باللغة العربية مع شخص يفهم ما أقول هناك حدث مميز وكبير، فبخلاف أهلي لم أحادث أحداً بلغتي، باستثناء تلبية طلبات البعض بقول كذا أو كذا باللغة العربية، بعدما يجدون بحضوري في ذلك المكان معجزة قد لا تتكرر.



المنظر من أمام باب الكنيسة. يوجد امرأتين و فتاة مراهقة وطفلة صغيرة من السكان الأصليين أمام الباب، مع حملين أو ثلاثة جميلة، يعرضن على السياح تصويرهن أو التصوير معهن بمقابل؛ وهذا أمر شائع جداً هناك.



صورة في ردهة الكنيسة، لم أنتبه إلى أن التصوير ممنوع حتى نبهني أحدهم. السقف الأثري بديع كما ترون.

حينما فرغت المرشدة من الشرح وطلبت منا أن نتبعها إلى شق آخر من المكان، لحقت بإحدى الفتاتين ورحبت بها، وعرفت بنفسي، وجائت الأخرى وتعارفنا جميعًا. كنّ على جانب غير عادي أو مألوف من اللطف، فأنا صدقاً لا أقابل الكثير من الناس اللطفاء، وإن تلطفوا لا يكونون بهذا القدر من اللطف ورقة الحاشية. لكني لا أنصح كذلك هذه النوعية من الناس بالتواجد في طريقي؛ ذلك أني لاحظت متأخراً جداً للأسف أني تطفلت كثيراً على هاتين المرأتين بسبب فرحي بهن.
كنّ لتوهن وصلن البارحة إلى كوزكو، بعدما وصلن نهار الأمس إلى ليما، جدولهن ضيق، وغرضهن الأساسي محدد؛ اتخاذ طريق الإنكا التقليدي عبر الوادي المقدس حتى ماتشو بيتشو، وهي رحلة شديدة الشعبية يأتي لأجلها العديد من أهل العالم، إلى درجة أن ذلك البلد دائم النظر بالتنظيم والحفاظ على الدرب الأثري الشهير، وهي مسيرة تستغرق أربعة أيام من المشي والتخييم.

مضينا خلف المرشدة، لترينا في البداية نماذج لفن عمارة وهندسة الإنكا، من خلال قطع لم تكتمل من التمديدات المائية الخفية، حيث قاطع الاحتلال الاسباني زخم تقدم وتطور الإنكا، كما تشهد آثار كثيرة غير مكتملة.
لا يعرف حتى الآن كيف كان مهندسي وعمال الإنكا ينفذون هذه الأعمال، فهي مستحيلة بالأدوات المعروفة عن ذلك الزمن، وفي الوقت الحالي يقال بأنه من المستحيل الحفر أو قص الحجارة على هذا النحو دون مساعدة الليزر. أعتقد أنه تواجدت أدوات وأساليب اندثرت من حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية تفسر الكثير من الألغاز، وإني على ثقة بأن الغزو الاسباني الهمجي قد أخر تقدم العالم ككل بالقضاء على تلك الحضارات وعدم الاستفادة منها، وحتى حرق كتب المايا والازتك، حيث قرأت عن إحراق أربعة آلاف كتاب في ليلة واحدة على يد راهب نصراني جاهل. ماذا كان في تلك الكتب؟ أي علوم أو أفكار اختفت إلى الأبد...
عموماً، هذه العادة الخسيسة لم تكن غريبة عليهم في ذلك الزمن.





شرحت لها المرشدة أن القطعة أعلاه نموذج على أحد أساليب رفع ضغط تدفق المياه، بالتضييق التدريجي للمخرج.




هذه الكنيسة الأثرية بنيت فوق معبد الإنكا الأساسي في كوزكو، بعد تخريب معظم أجزاءه ونهبه، حيث يقال بأن أسوار المعبد كانت متوجة بالذهب الصافي.
إني أرى مزيج بين الطراز الأندلسي الإسلامي والقوطي في هذه الكنيسة ذات التاريخ المؤسف والأسود.




الصور التالية هي للحجيرات المتبقية من المعبد الأصلي، يمكنكم رؤية الإتقان الأعجوبي للبناء. حاول الاسبان تهديم هذه الحجيرات، ولم يتمكنوا إلا من تخريب جزء منها، قبل أن يقرروا الاستفادة منها بتخزين أشيائهم.





داخل الكنيسة، تواجد ما تبقى من معبد الإنكا، وهو مبني بطريقة عجيبة، بلا ملاط كسائر أبنيتهم المهمة، وبتقنيات متعددة بغرض حماية المبنى عبر الزمن. وكأنما من باب السخرية؛ ترك المرممون الحاليون جزء من تشويه الأسبان للجدران الداخلية للغرف القديمة، باستخدام الجص، بزعمهم أنهم يجملون ما صنعه المتوحشين بزعمهم. إنه لعالم عجيب ذلك الذي يجروء فيه الوحش بوصف الآخرين بالوحشية، بينما هو يقتلهم ويستعبدهم ويعبث بتراثهم.
قدس الإنكا أشياء متعددة، وأغلبها يتعلق بالطبيعة بشكل أو بآخر؛ الكواكب، الأرض، الماء، وحسب فهمي، رأوا العالم بطريقة مختلفة، كان البشر على هامش العالم بشكل ما، والتغيرات التي تحدث حولهم إنما هي ما يرونه من قوى أعظم لا قبل لهم بها، مثل تغير الفصول. كان المذهل هو وجود لوحة منسوخة عن لوحة أصلية، خلفها الإنكا في معبدهم، وهي تحوي مقدساتهم المألوفة، على رأسها الشمس، لكن في أعلى اللوحة المستطيلة، تواجد شكل لا معالم له، وكأنها بيضاوي ولكن ليس بأبعاد دقيقة، قالت المرشدة على نحو أذهلني بأن هذا هو الإله الغامض والأساسي، بينما بقية القدسات كالشمس هي شئون ثانوية، وأن هذا الشكل الذي لا يعرف الإنكا شكله كانوا يسمونه خالق كل شيء.




لا يزال جزء كبير من الجدار القديم يدعم أساسات الكنيسة من الخارج، يراد للبناء أن يتمازج، لكنه مختلف، إنهما مبدأين مختلفين، لم يتبنى أحدهما الآخر بسلام. الجدار ضخم ومذهل. بينما تتواجد بعض الصخور في حديقة الكنيسة، التي يبدو أنها ظلت في مكانها بعدما كان العمل عليها جار حينما وصل الأسبان المتوحشين، مثلما يرى المرء في مواقع مختلفة من البلاد.
يمكن ملاحظة اختلاف طريقة البناء، وإتقانها، بين الأساسات المدرجة بالأسفل والكنيسة نفسها. أصيبت كوزكو بزلزال عظيم قبل قرون، وانهدمت المباني الاستعمارية، لكن لم يتهدم شيء من بناء الإنكا، بل إن بعض الأساسات غير المعروفة ظهرت من تحت الأرض بفعل الانزلاق الأرضي، دون أن تتأثر.










خرجنا من المكان إلى الحافلة، وكنت قد تكلمت كثيراً حينما ناسب الوقت إلى الفتاتين. لم يكن واضحاً أبداً، لكنهن كن أكبر مني، في مطلع الأربعينات، وكنت قد رددت ساخراً حينما تسائلن عن عمري وإن كنت أدرس بأني قد أكون جد لهن، وقد حسبتهن أصغر مني صدقاً. وكلتاهن يعملن بالصحافة وشئونها، وهن واسعات الإطلاع، عارفات للعالم، مثيرتين للاهتمام. وهو أمر على جانب من السخرية، ففي غير هذا الظرف، أنى لي أن أحادث أناس مميزين كتلك المرأتين. اقترحت عليهن اللقاء للعشاء في تلك الليلة، حيث سيذهبن في فجر الغد لبدء رحلة طريق الإنكا مشياً، ولن نلتقي مرة أخرى عبر الرحلة، التي لتوهن ابتدأنها، وكدت أنا أن أنهيها. وقد وافقن بذوق، قبل أن نركب الحافلة.

مضينا إلى كنيسة أخرى، على ساحة بلازا دي ارماس، وهي أثرية قديمة، وتمتلئ بالرسومات الفنية بأسلوب مدرسة كوزكو المستحدث. وهي مزينة بالعديد من المرايا، والسر خلف هذا أن أوائل الكهان النصارى أرادوا جذب السكان الأصليين إلى النصرانية، وكان السكان بدورهم مفتونين بالمرايا التي لم يكونوا يعرفونها، فاستخدمت في تزيين الكنيسة لجذبهم للدخول.
كانت الكنيسة مزخرفة على نحو باذخ، مزينة بالذهب، وهو بعض الذهب الذي سرقه الاسبان من الناس والمعابد الأصلية.
بالطبع يوجد العديد من التماثيل والرسومات بالداخل. رأيت تمثال للنبي عيسى عليه السلام كما يتخيلونه، وكان تمثال غريب أعطاني شعور بعدم الراحة، ذلك أنه مصنع بطريقة غريبة، بجلد يشبه الجلد الآدمي الطبيعي، وهو جلد اللاما، وخيل إلي أنه سيتحرك بعد قليل، بملامحه المتألمة، وشكله البائس. شعرت بأن للتمثال حضور شيطاني، ربما كان تأثير الجلد الغريب على جسده. قالت المرشدة بأن المسيح كان يصور وكأنه غامق البشرة لتقريبه إلى نفوس السكان الأصليين. أرى بالأمر سخرية؛ إن الأسبان لم يثقوا بصورتهم التي يصورونه بالعادة عليها، لمعرفتهم بأن الناس هناك ربطوا بين أشكالهم والظلم والإجرام بسبب ما اقترفوا في حقهم.
كان ما أعجبني هو اللوحات الجدارية المرسومة بأسلوب كوزكو الفني، وهو اسلوب تطور عن الاسلوب الغربي في كوزكو، بخطوط ناعمة وأقرب للهندسية في رسم الناس، مع ألوان حيوية وإسقاطات للضوء والظل على نحو واقعي.
دخلنا في غرفة الكهان، ورأينا صورهم، أو صور معظمهم، منذ البدايات الأولى للكنيسة وحتى اليوم. خامرتني رغبة قوية بالبصق على وجه القس الأول بعدما تأملت صورته، تخيلت الظلم والإرغام والسرقة والإزدراء. أتذكر وصف أحد السكان الأصليين في كتاب قديم لسوء المعاملة التي لقوها من المحتلين، حتى بعد اعتناق دينهم.

خرجنا من باب آخر بعد إتمام الجولة. وتوجهنا إلى الحافلة، التي أخذتنا إلى ساكسيوامان، وهي جدران عظيمة عجيبة البناء على حدود كوزكو، لم يتمكن الاسبان من تخريبها كلياً لحسن الحظ.










كن الفتاتين متحمستين كثيراً لرؤية اللاما، وكان عدد من حيوانات اللاما والالباكا ترعى أمام الأثر. قلن الفتيات على نحو مليح كالمسلسلات حينما رأينها: يختشي!.






ضخامة الجلاميد التي قصوها الأولين وبنوها لا تترك تفسيراً منطقياً لتقنياتهم. إن الجلمود الواحد يزن أطناناً، ويرتفع بعضها إلى حوالي الستة أمتار. تراكبها بإتقان بالغ على بعضها البعض، دون ملاط، وبأشكال هندسية عشوائية، هو أمر محير. بعضها يشبه خلايا النحل جزئياً، وبعضها مثلث. كيف حركت؟ وكيف قصت؟ ولماذا بهذه الأشكال؟ أنا متأكد بأن الأشكال مقصودة، ولعلها هي ما يزيد من ثبات البناء.






















وبعد ذلك أخذتنا الحافلة إلى ما يعتقد أنه كان مستراح للنبلاء على مقربة من كوزكر، ولم يكن لنا حرية التجول عموماً، وكان الطريق ينتهي فجأة بالقرب من نافورة بديعة. لكن بالطريق رأينا جزء من أحد طرق الإنكا الأثرية، وقد بنوا وصانوا شبكة طرق تربط الامبراطورية؛ باستراحات وحراس ومخازن لإطقام المسافرين، وحينما وصل الاسبان كان حتى بوسع المرأة السفر لوحدها عبر الامبراطورية دون أن يمسها مكروه، وهو أمر أذهلهم إذ لم يألفوا هذا الأمن والنظام. للأسف، بقدر ما كانت شبكة الطرق علامة على التحضر كانت كذلك سبب للوصول السهل للأسبان إلى كوزكو وسائر مدن الامبراطورية الشاسعة، حيث لا يحتاج المرء إلى دليل بوجود طريق مباشر.
هذه صورة عن الطريق:



















رحلوا من ذاك المستراح...
حيث العز والشموخ...
والدنيا دانية...
والكل في رضوخ...
إلى ذياك المستراح...
حيث يطول المقام...
وتقل الحيلة...
ويتساوى الأنام...



بعد ذلك ذهبنا إلى مركز اجتماعي صغير، يبيع صنائع مجتمع أو عشيرة معينة، ولهم اعمال رائعة، وقد عرضوا علينا كذلك طرق الصنع والتلوين.








في وقت ما من الرحلة، وقفت في مجال تصوير زميلتاي المصريتين في ذلك اليوم، فصحن بي ينبهنني لأبتعد، فشعرت بالذعر للحظة. لكنهن ضحكن وقلن بأني سأرى أكثر كلما أخذن على وجودي أكثر.

عدنا إلى كوزكو، وقد اتفقت مع رفيقتا الرحلة اللطيفتين على اللقاء قرب فندقهن ساعة العشاء. كن بالطبع شديدات الشعور بالإرهاق، وكنت أرى بأنهن لم يخططن جيداً للرحلة، ولم يأخذن بالحسبان الإعياء الذي يسببه وجود المرء في مكان شديد الإرتفاع حيث يقل الاوكسجين.
كان عشاء ممتع، في مطعم مجاور لفندقهن، جربنه في الليلة الفائتة وأعجبهن. تكلمنا كثيراً عن شتى الأمور، وهن فتاتين مغامرتين، يسافرن من وقت إلى آخر لخوض مغامرة كالمغامرة التي أحضرتهن إلى البيرو؛ فقد تسلقت إحداهن كليمنجارو مثلاً.
جائت فرقة شعبية متجولة، مكونة من ثلاثة رجال، وغنوا للناس، وسألونا من أين نحن، قلت بأني عربي قالت إحداهن بالانقليزية: ايجيبت. لم يفهم الرجل، فقالت: ايخيبتو. حسبتها قالت: يا خيبتو، أو يا خيبتك. بالكاد تماسكت عن الضحك. لكنه هتف بحماس: ايخيبتو!!. وحيانا جاعلاً الناس يصفقون لنا. سألتها عما قالت؟ فأفهمتني بأن مصر بالاسبانية تسمى ايخيبتو. آلمني صدري من الضحك، ربما لأني حاولت أن أكبته، وأخبرتها بما توهمت فضحكت. تكلمنا حول الكثير من الأمور؛ وهن قد خبرن السعودية، إذ عشن فيها لسنوات، في وقت سابق.
ودعتهن بعد العشاء، ليذهبن في فجر الغد في حفظ الله على درب الإنكا، مشياً لأربعة أيام.


حينما تواصلت وكارلا قبل أشهر، للتخطيط لرحلتي، كنت قد أخبرتها بأن أي أيام زائدة أريد أن أقضيها في كوزكو. كانت الأيام كثيرة بالبداية، لكن مع التخطيط وإضافة الأماكن التي سأزور، تقلصت إلى ثلاثة. قررت في هذه الأيام الثلاثة أن أسمح لنفسي بالضياع بالمدينة، أن لا أخطط لشيء، أن أنام ملئ جفناي بعد أسابيع من بذل المجهود، وحينما أستيقض أخرج بلا خطة، أتأمل، أفكر، أضيع دربي وأجده. يا لها من مدينة. لعله فقط الوسط التاريخي هو الجميل بالقدر الذي أذهلني، وهو المكان الذي قضيت في كل وقتي، عدا مشاوير قصيرة بالسيارة حينما آتي للمدينة وحينما أرحل، وحينما ذهبت بمشوار قصير إلى جمعية.


هذا الشارع الذي يقع عليه النزل، حيث أقمت:




خالجتني الكثير من الأماني المستحيلة. ماذا لو افتتحت أول مسجد في كوزكو؟ في مبنى تقليدي بالوسط التاريخي. لكن من سيصلي فيه؟. كم أتمنى لو افتتح مسجداً هناك.
تمنيت لو اشتريت بيتاً كذلك، بيتاً تقليدياً، الذي يشبه بتخطيطه بيوتنا القديمة، بالساحة المتوسطة، والغرف المحيطة. وأخذت والدتي لنعيش هناك، واشترينا وريدات وشجيرات لتسقيها، وأحضرنا معنا شجرتها الصغيرة، شجيرة الحناء العزيزة، التي نَقَلَت مكانها الآن إلى رصيف منزلنا لتتحسن صحتها، وتزورها كلما عدنا من موعد من المستشفى لتطمئن وتسقيها، وتجعلني أشتري لها خلطات طبيعية مقوية.

رفقاً بشجيرة حناء...
رفَعَت وريقاتها إلى السماء...
لا تؤذها...
فلعلها غرس صداقة يحتضر...
أو أمل معلق، أهمله نفاد الصبر...

وربما تزوجت هناك، فتاة جميلة من الأصليات، بوجوههن الحمراء المعبِّرة، وعيونهن النجلاوات حالكات السواد. ابنة لأمي كما أوصت، لكن بدلاً من إحضارها أتيت بأمي إليها، فالمكان هناك أفضل، والناس ألطف.

مشيت ذات عصر إلى ساحة سان بلاس، حيث أوصتني كارلا على رؤيتها وشراء هدايا منها. سألت بالفندق عنها، فقيل لي بأنها قريبة، ربما مسيرة ربع ساعة سيراً على الأقدام. دلوني عليها ومضيت متحمساً، ليس لرؤيتها فقط، لكن السير في تلك المدينة الجميلة هو مكافأة للنفس ومتعة للقلب. 

في الزقاق الجميل الذي يؤدي إليها يرى المرء علامات على طبيعة الساحة؛ إنها ساحة تشتهر بالثقافة والفن، وهي صغيرة نسبياً، تتوسطها كنيسة قديمة، لعلها حتى لا يجوز أن تسمى ساحة بقدر ما هي ناحية. كان المكان خالياً إلى حد بعيد من السياح والناس. وعموماً، لم يكن وقت ذهابي هو الموسم السياحي المزدحم، وهو قرار اتخذته قبل مراسلة الوكالة السياحية، وقد امتدحته كارلا، ورغم أنه فوت علي القطار السياحي في منطقة كنت أنوي زيارتها، إلا أني لا زلت أعتقد أنه قرار صائب لتلك الرحلة.
الناحية عبارة عن مربع تتوسطة الكنيسة المذكورة، والبيوت حولها مفتوحة، يبيع سكانها القطع الفنية المحلية والملابس التقليدية واللوحات البديعة. كان ما سأشتري هو بونشو تقليدي، قطعتين بالواقع. فوجئت قبل سفري بأحد أشقائي يقول بأنه يريد الوشاح التقليدي الذي يلبسه السكان الأصليين هناك. كانت مفاجئة لأني لم أعلم بأن أخي هذا يعرف أي شيء عن البيرو، حتى إلى درجة تحديد غرض معين بهذه الدقة (أراني كيف يلبسونه، وسط ذهولي، إذ أنه لا يعرف ماذا يسمى)، كنت سعيد جداً بطلبه الراقي هذا، وتقديره لملابس تقليدية من بلد آخر أحبه، أما القطعة الأخرى فهي لأخ آخر لا يبخل علي بالهدايا حينما يسافر، وهداياه تلائم ذوقي أكثر فأكثر في كل مرة (من رحلته الأخيرة، أحضر لي كتاب عن قصر الحمراء، يحوي حتى على معلومات عن تمديدات القصر المائية العبقرية، وقلم تقليدي مما كان يستخدم قديما).

دخلت منزل رأيت من الخارج أنه يحوي غرف مليئة بالملابس. يا لجمال البيوت التقليدية تلك، حينما أدخلها أشعر بأني أدخل مكان مألوف. هي بالطبع من البيوت الاستعمارية، بمزيج من الحس التقليدي، بالساحة المتوسطة والحجر المحيطة، كبيوتنا قديماً. يشعر المرء بالغرابة حينما يرى السكان الأصليين وهم أهل هذه البيوت، بملامحهم المختلفة عنا وملابسهم المميزة، وكأنهم حلوا فجأة في هذه البيوت، بينما بالواقع هي ما حل عليهم فجأة.
اشتريت من امرأة بالداخل ما أريد، وفاصلتها، ورغم أني أعرف، حتى في بلادي، بأني يمكنني النزول أكثر بالسعر، إلا أني غالباً لا أحاول كسر البائع طالما شعرت بأنه لم يبالغ كثيراً، إني لا أريد كذلك للآخرين الخسارة أو البيع بشعور بالغبن أو الظلم. كان السعر معقولاً عموماً، بعد المقارنة لاحقاً في مكان آخر.
خرجت للتجول، ورأيت رجل من الأصليين، يلبس ملابس غربية على الاسلوب البوهيمي، وشعره على نفس الطراز، مظفور وتتخلله خيوط ملونة وخرز. وكان يظفر شعر امرأة غربية شقراء بنفس الطريقة، بينما وقف صديقها، وله نفس الطابع للمرأة ومزينها، ينتظر ويتفرج على منتجات تقليدية معروضة على رصيف. تمشيت بالساحة التي تتوسطها كنيسة، إذ تمتلئ كوزكو بالكنائس الأثرية، ودخلت مبنى او اثنين، وتفرجت على الرسومات المعروضة للبيع، لكني لم أسأل عن سعرها.

واجهت مشكلة بوجود قطعتي بونشو معي، والبونشو بطبيعته رداء كبير على الأغلب، والمساحة في حقيبتي الضخمة كذلك ضئيلة، لاتباعي لنصيحة لم تكن في محلها أهدتها لي أختي، بأن أحمل معي الكثير من الملابس، ورغم اني لم أشتري سوا قطعة أو قطعتين جديدتين إلا اني أخذت الكثير من ملابسي القديمة واستعرت من ابن اخي ملابس دافئة، ولم أستخدم كل هذا كثيراً. رأيت أن أتبرع ببعض الملابس لجمعية خيرية. اخبرتني موظفة الاستقبال عن جمعية تعنى بالفقراء من كبار السن، والفقراء من هذه الفئة صادفتهم عدة مرات يتسولون ببؤس، أو يجلسون في مكان منزوي بانتظار الصدقات.
 كانت المرشدة الرائعة في تشاتشابوياس في النصف الأول من رحلتي، قد أخبرتني بأن رجل مسن جاء وسلم علينا هو فقير تعرفه، وكان من المواضح أنه يرجو الحصول على صدقة، كان فقره واضحاً، فأعطيته ما قسم الله له من رزق.
طلبت من موظفة الاستقبال استدعاء سيارة أجرة في وقت حددته وإفهام قائدها ليأخذني إلى الجمعية، وجهزت الكثير من الملابس التي لا أحتاج، مع حرصي على أن لا أمس أشياء ابن أخي، ووضعتها في كيس. كان سائق الأجرة يتحدث الانقليزية بطلاقة، وهو شاب رزين ولطيف من الأصليين. كان لكوني عربياً وقع خاص كما حدث لي كثيراً في تلك البلاد، وكان فضوله كبيراً. هو خريج كلية السياحة هناك، ووجد أن وظيفة حصل عليها لم تكفي للوفاء بأعباء الحياة، وقد كانت سيارة الأجرة أجدى. سأل عن الكثير من الأشياء، عملي وحياتي وماذا رأيت ولماذا أتيت، وكان بالغ اللطف والذوق. وصلنا إلى الجمعية، وطرق الباب، ورد حارس ثم أتى برئيسة الجمعية، وهي امرأة لعلها في ستيناتها، مهندمة وأنيقة، ذات ملامح اسبانية، رحبت بنا، وسلمنا عليها، وشرح لها الرجل ما أتى بنا. شكرتنا وابدت امتناناً، قائلة بأنهم سيستفيدون من الملابس وأنهم يحتاجونها.

في الصورة أدناه، يرى المرء الطراز الجميل للمباني بالوسط التاريخي، المزج بين حضارات مختلفة، وربما متضادة، في مبان جميلة. لكني كنت أتمنى، ولا زلت، لو عاد بي الزمن، ورأيت كوزكو كما بناها أهلها، لا شك لدي بأنها كانت ستخلف وقع أكبر، حيث وصفت المباني والمدن حينما حل الهمج الغزاة بأنها عجيبة ومميزة.





هذا تمثال المسيح عليه السلام، حيث يضاء ليلاً، وهو تمثال عملاق على قمة جبل قريب ويمكن رؤيته ليلاً ونهاراً من أماكن كثيرة من المدينة.


هذه إحدى كنيستين أثريتين على بلازا دي ارماس، الساحة الأشهر بالمدينة، وهي ساحة بديعة تتوسطها حديقة بتمثال جميل لأحد حكام الإنكا.











في كوزكو، لكونها عاصمة الإمبراطورية الأصلية القديمة، يوجد نزعة قوية للفخر بين السكان الأصليين بتراثهم، وتأكيد أمجادهم السالفة. حتى في الضواحي والقرى المجاورة، يرى المرء الكثير من البيوت التي لا ترفع علم البيرو المعاصر، ولكن علم الإنكا بألوان قوس قزح. وهذه النزعة يتحدث عنها أهل شمال البلاد، الذين لا يعدون من الإنكا الأصليين لكن ممن زحفت عليهم دولة الإنكا، بنوع من الهزو. وهو أمر يشبه كثيرا ما يجري لدينا على ما أعتقد، من محاولة النيل من تقدير إرث معين لأنه كانت له الغلبة، ولعلها سنة الحياة بالعالم. بالشمال؛ كان المرشدين ومن أحدث من سواهم يؤكد لي أن الإنكا أخذوا الكثير من الحضارات المقيمة بالشمال، وهي حضارات مثيرة للإعجاب كذلك، لكن هذا في نظري لا يقلل من شأن الإنكا، إنما يرفع من شأنهم؛ لقد كانوا يستفيدون ويفيدون حضارياً، وقد قرأت بأنهم حتى لم يفرضوا معتقداتهم الدينية على الحضارات الشمالية، إنما تماهوا معهم، وقدسوا بعض ما يقدسون.










قضيت أيامي الثلاثة هناك دون التزام ببرامجي المعتادة، لم أذهب إلى متاحف، أو إلى أي مزارات؛ فقط تمشيت بالمدينة كثيراً، تفرجت على الناس، أكلت، تكلمت، قرأت بالخارج، كانت أيام ارتاحت نفسي فيها كثيراً، هدأت، استقرت.


مشيت في ليلة حتى وصلت إلى بوابة قديمة بديعة البناء، تؤدي إلى قسم مرتفع من الوسط التاريخي، وهناك وجدت سوق شعبي ممتع، لم يسئني فيه سوا وقوعي بالخطأ على قسم اللحوم، حيث رأيت رؤوس الخنازير معلقة. اشتريت من امرأة لطيفة بضعة عرائس تقليدية، لبعض فتيات صغيرات من حبيباتي بالوطن. كنت قد اشتريت كذلك بضع صفارات عجيبات من أطراف كوزكو في وقت سابق، صفارات تملأ بالماء، فيخرج الصوت منها عند النفخ كزقزقة العصافير وتغريدها، لا يفرقه المرء، إلى درجة أني شدهت لأول مرة سمعتها وبحثت عن العصافير، فلم أجد سوا البائعات المسنات اللطيفات يستعرضن السلعة للفت انتباه السياح، فقررت أن أعيد لعصافيري الحبيبة أصواتها حينما أعود.








جربت ما استطعت من المياه المعبأة؛ الكثير منها ممتاز، من أفضل ما تذوقت، لكن لا شيء يعلو على قوارير سانت ماتيو.
الطعام؛ دللت نفسي، ورغم أني أكلت كما أريد، إلا أنه لشد ما أعجبني الطعام أشعر بأنه كان علي أكل المزيد، وتجربة المزيد، ربما كان يجب أن آكل أكثر من ثلاث وجبات باليوم.
كنت بالمجمل أستريح في تلك المدينة، وقد كنت أستيقظ متأخراً بعد العاشرة، كانت كارلا تقول حينما أرد متأخراً على رسائلها وأعتذر؛ لا بأس، فأنت في إجازة، وقد أتعبت نفسك أكثر من اللازم.
يا لها من مدينة... تركت في قلبي حب وحزن، انبهار واستكانة... لم أكف، من قبل أن أراها وحتى الآن، عن تخيلها حينما كانت لأهلها فقط، عاصمة لأكبر امبراطورية عرفتها القارتين القصيتين قبل احتلال الاوروبيين.
في الأصل، يقال بأن المدينة بنيت على شكل حيوان البيوما، أو الأسد الجبلي أو الكوجر، وقد كان حيوان له دلالاته المعنوية في ثقافة أهل تلك المنطقة. ويقال بأنها كانت محددة على شكل هذا الحيوان باستخدام سواقي تحف بالمدينة وتشكل حدودها، وحتى اليوم تجري هذه السواقي، لكن تحت الأرض الآن، وفي أماكن مختلفة من المدينة ترى علامات على الأرض تشير إلى مكان جريان السواقي تحت الأرض، وهي تحدد بالفعل شكل المدينة بحدودها الأصلية كالحيوان، كما ترون من الصورة.




كان لا بد من الرحيل بالنهاية... كان لا بد من الذهاب إلى محطتي التالي في إحدى منطقتين امازونيتين بالبيرو، وكان خياري هو الذهاب إلى المنطقة الجنوبية الأقرب إلى كوزكو؛ بويرتو مالدونادو. 
ذهبت بالطائرة، ونزلت في مكان شديد الرطوبة إلى حد صعُب علي التنفس. لم تكن المناطق الصحراوية في الشمال، في بداية رحلتي، أماكن جافة، ولا حارة، ولم تكن جبال الانديز جافة، كانت رطوبتها وحرارتها هي أفضل ما لائمني من جو في حياتي. لكن الامازون كان على بعض الحرارة، والكثير من الرطوبة التي ذكرتني بالشهر الذي قضيت في كيرلا جنوب الهند.
استقبلني بالمطار شاب صغير،  له أغرب الملامح. أهل الامازون ملامحهم تختلف عن أهل الانديز على وجه العموم، لكن هذا الشاب بدا مختلفاً كلياً عن أي أحد رأيته هناك؛ كان يمكنك ببساطة أن تحسبه اندونيسي.
كان لطيفاً، ويتحدث الانقليزية جيداً. وبالطبع، اثار اهتمامه كوني عربياً. اخذني إلى حافلة عجيبة، لا نوافذ لها، وتبدو وكأنها مجمعة من خشب وأنابيب معدنية، كانت غريبة جداً وقد كان بعض السياح يصورونها، لكني بقيت بالداخل أتكلم مع الشاب اللطيف، وسرعان ما بدأنا بالضحك وتبادل النكات.
أخذتنا الحافلة بعدما اكتمل عددنا إلى استراحة تابعة للفندق، ملحق فيها حديقة صغيرة للفراشات. رحبوا بنا بعصير مثلج لفاكهة عجيبة يسمونها فاكهة النجمة، حيث أن شكلها عند تقطيعها إلى شرائح يشبه النجوم. وكان العصير الطازج لذيذ جداً، ذكرني بنكهة خفيفة للاناناس مع نكهة خاصة أخرى تجعل منه شيء آخر لم أعهده.











تمشيت في الحديقة، وقد كنت متحمس لها. يوجد أنواع مختلفة من الفراشات. ما أكثر الفراشات في البيرو، وهي من أحب الكائنات إلى قلبي. كان هناك فراشة ضخمة، أكبر من كف اليد، ولقوتها وضخامته تطير انزلاقاً على الهواء، وليس كسائر الفراشات ترفرف بضعف وبلا استقرار. وكانت تتخطف الوجوه وهي تطير، بحيث تفاجئ المرء فيبتعد عن طريقها مجفلاً؛ كانت تجربة رائعة.
تركنا حقائبنا الكبيرة في حفظ الفندق، وأخذ الناس حقائب أصغر. وأخذونا عبر النهر، لمدة ساعة تقريباً، على قارب معقول السرعة. الفندق الذي سنذهب إليه من نوع الفنادق البيئية، التي تقع في قلب الغابات، وتنظم رحلات استكشافية وانشطة بيئية، بالإضافة إلى تحمل مسئوليات منظمة تجاه البيئة المحيطة.




حينما وصلنا، رحبوا بنا بماء وعصير، وجلسنا لتناول الغداء. كنت على نفس الطاولة مع رجل بريطاني وزوجته، وأمريكي وزوجته، وكندي لوحده، وكلهم كانوا كبار بالسن. بدأوا بالكلام، ولم أكن شاعر بالارتياح لسبب ما، شعرت بأني في غير مكاني بينهم. لكن كان لا بد من سؤالي من أين أنا؟. حينما قلت، وكانت مفاجئة بالطبع، قال الكندي، وهو من الشق الفرنسي من ذلك البلد، ما هي السعودية؟. وتظاهر بأنه لا يعرف ما أقصد. حاول الآخرين الشرح له، وكانوا يشعرون بإحراج بالغ، ويتلفتون تجاهي ويتبسمون بقلق، لكنه تظاهر بأنه لا يعرف مع ذلك، ولم أحاول إطلاقاً ايضاح الأمر له، بل تظاهرت بأنه غير موجود، وبدأت أسألهم عن أمور من شاكلة؛ لأول مرة في هذا البلد؟ منذ متى؟ قال الكندي حينما وجد أنه لا يهمني: آه، آرابيا ساوديت؟. يقول السعودية باللغة الفرنسية، تظاهراً بأنه لم يعرفها باللغة الانقليزية، وبدا موقفه ثقيل دمه، فالتفت تجاهه نصف التفاتة وقلت بهدوء نعم، ثم استمريت بمحادثة الآخرين، الذين كانوا يشعرون بإحراج واضح، ولاحقاً تفادوا هذا الكندي المغرور كما لاحظت، ولم أرى أحد يجلس معه على وجبة ولا مرة، خلافاً للجميع.
الرجل البريطاني، وهو ضخم الجثة وديع الملامح، كان شديد الاهتمام بأمري، ووجدت هذا غريباً، رأيت اهتماماً من غيره، لكن طريقته كانت غريبة، أو مستغربة من انقليزي؛ وهم شعب أشعر بأنهم لا يجب أن يشعروا بالإثارة للقاء أي جنس آخر من الناس لأن الجميع يأتي إليهم، فهو من لندن. حكى بأن أحد أصدقائه قد عمل بالسعودية، وأخبره بأن السعوديين يحبون المغامرة بالسيارات في الكثبان الرملية (تطعيس)، وأن صديقه كان يذهب مع أصدقائه السعوديين (معلومة استعراضية) لممارسة هذه الهواية. أخبرته بأن الكثير من الغربيين يحبون هذه الهواية كذلك ويمارسونها بأنفسهم، لكنها قد تكون خطيرة. بدا بأن كل ما كان سيقال في تلك الجلسة سيدور حولي، ولم أشعر صدقاً بالارتياح، ليس بسبب الانتباه الزائد، لعلي أحب الانتباه الزائد في بعض الظروف، خصوصاً أنه أمر لا أحصل عليه أبداً، فأنا عموماً غير ملحوظ في بلادي، لكن في تلك الجلسة فقط لم أشعر بالارتياح. كانت زوجة الانقليزي امرأة مجاملة بشدة، بكل ما يتخيل المرء عن تلك الشخصيات الأدبية الحلوة بابتساماتها وضحكاتها الصغيرة. الأمريكي كان شخص رزين بوضوح، على عكس زوجته ذات الطبع القروي، وربما النكِد.
كان علينا بعد الغداء أن نذهب إلى غرفنا لنستريح قليلاً، ثم نلتقي في قاعة المرشدين لعقد اجتماع معهم، لمراجعة الانشطة واختيار ما يلائمنا، والتوزع على مجموعات.
لا يجب أن تصدم شخص يعيش في كل الجفاف الذي أعيش فيه بالرياض، على كل مساوئ الجفاف، بكل تلك الرطوبة الخانقة، كنت أعاني صدقاً، كما عانيت بالهند، وربما أسوأ. إن الجفاف لا يلائمني بكل تأكيد، فجلدي وشفتاي يتشققان، ولا أشعر بالراحة بطبيعة الحال، لكن الرطوبة الزائدة تسبب لي المعاناة، رطوبة جدة مثلاً تعكر مزاجي، فكيف بالامازون، حيث تكاد تحرك الهواء الثقيل بيديك. لا شيء يماثل الانديز، لا مكان عرفته وعرفت أنه كان يجب أن اولد فيه كجبال الانديز.
ذهبت إلى غرفتي، وهي أنيقة ومريحة، سوا أنه لكون الفندق في الغابة، وهو فندق بيئي، ستتوقف الكهرباء في الساعة العاشرة في الليل حتى الصباح، حتى لا تقلق الحيوانات، وحتى يخففون من تلوث البيئة.
بعد الاستحمام والاسترخاء قليلاً، خرجت إلى قاعة المرشدين، ولم يكن هناك سواي والمرشدين حينما وصلت، إذ قدمت مبكراً. هناك، تحدثوا معي وسألوني عن شتى الأمور، وكانوا لطفاء جداً، خصوصاً أحدهم، ابدى اهتمام غير عادي، اسمه موسس، ربما يعني موسى بالاسبانية. وقد تصدى لأسئلتي حول الحياة الفطرية في تلك المنطقة.

أهل الأمازون مخلتفين عرقياً عن أهل الانديز، وحضارياً. حاول الإنكا في زمانهم التوسع في الامازون، وإدخال الحضارة إلى أهله، لكنهم لم يوفقوا تماماً، فقد كانوا على جانب كبير من الشراسة، وكانت الطبيعة صعبة بالنسبة للإنكا، حارة ورطبة وخطيرة، على خلاف نعيم جبال الانديز المعتدلة ورقة الحياة فيها. يسمون أهل هذه النواحي في البيرو أهل الادغال، وهي ليست إهانة بالطبع. وجدت فيهم اللطف والبساطة والبراءة، لكنك ترى في ملامح وجوههم مع ذلك نزعة من عدم الوداعة، وربما شيء من الشراسة، على خلاف سائر سكان البيرو، وإن لم يكن لهذا انعكاس على طباع أهل الأدغال كما رأيت. وهم أقل طولاً إجمالاً، لكن في أجسادهم ترى طيب الصحة وقوة البأس، إذ لم أرى شخصاً بديناً هناك، وتميل أجسادهم إلى العرض المعتدل، على خلاف ما تخيلت من نحافة أو رشاقة قد. ألوانهم خمرية، أعمق قليلاً بطبيعة الحال من الآخرين، لكنها تفتقر للحمرة التي تراها في الانديز، أو طلاقة الوجه في الانديز أو الساحل. إنهم مثيرين للاهتمام جداً مع ذلك، وقد أحببت حضورهم، إذ له نوع من السحر.

بعد تبادل الحديث مع اؤلائك الشباب اللطفاء، بدأ السياح الآخرين بالحضور، وكان آخر من حضر مجموعة ظريفة من كبار وكبيرات السن، ومعظم الموجودين عموماً كبار بالسن. كانت إحدى نساء المجموعة الاخيرة ظريفة على وجه الخصوص، أضحكت الجميع بتعليقاتها وملاحظاتها الحلوة. فهمنا الانشطة الموجودة، واختار البعض ما اختار، وقيل لنا بأننا سنفترق كمجموعات على المرشدين، وكل مرشد سيحمل برنامجاً مختلفاً، ليس من حيث الانشطة بقدر ما هو مختلف من حيث الترتيب، وكان على الجميع أن يختار. وجدت أن وضعي أسهل من غيري لأني لوحدي، وكنت أريد الذهاب مع مرشد سيأخذ من يأتي معه في تمشية طويلة عبر الادغال كبداية بعد الاجتماع مباشرة. لكني فوجئت بموسس يؤشر تجاهي بتصميم ويقول: أنت ستأتي معي!، وكان من الواضح أنه أراد التحرك قبل أن أختار. كنت أعلم بأنه سيأخذ الرحلة الأقصر، لكني قدرت اهتمامه كثيراً، لذا أجبت بأني قادم. الأمر المضحك، ولعلها الصدفة الأجمل، كانت في اختيار مجموعة الظرفاء الأخيرة للذهاب مع موسس، لكون الرحلة أقصر وهم لا يريدون المشي كثيراً. خجل موسس قليلاً حينما خرجنا وتسائل إن كان أرغمني على المجيء معه؟ وقال بأنه معجب بي لهذا تسرع، فأخبرته بأنه يعجبني كذلك وأني أحب الانضمام إلى مجموعته والتعلم منه أكثر. كان سيأخذنا بجولة في الادغال المجاورة للفندق. بدأت بسؤاله عن المكان والحيوانات التي تهمني جداً رؤيتها. أهمها أصغر قرد بالعالم يسمى المارموسيت القزم. قال بأنها كثيرة هنا، وتزور الأشجار القريبة من الفندق أحياناً، وأنه قد يتمكن من استدعائها لي. مضينا وهو يرينا الأشجار والحشرات ويحدثنا عنها. أرانا عنكبوت يسمونه محلياً عنكبوت الدجاج، لأنه يصطاد فراخ الدجاج ويحب العيش بالقرب من أقنة الدجاج لهذا الغرض، وهو بلا شبكه إنما له جحر بالأرض يخرج منه فجأة حينما تمد تجاهه عصى مثلا ويقبضها، أو يعيش في جحور بالشجر. وكان قوياً إلى درجة أنه حمل غصين بأضعاف حجمه ووزنه حينما مده إليه موسس. كانت الجادة في الادغال على بعض الموعورة، فكنت أساعد المرأة الظريفة بتجاوز بعض الاماكن بإعطائها يدي لسندها، إذ أنها مرتفعة الوزن قليلاً، مثل الكثير من الامهات الكبيرات. أرانا موسس عقرب بالطريق، وقال بأن قرصتها مؤلمة، تسائلت إذا كانت قاتلة؟ قال لا. فقلت بأن العقارب في بلادي قد تقتل. وحينما كدنا أن نخرج من الغابة، علقت المرأة اللطيفة: "يا للشاب اللطيف" بينما ساعدتها على الخروج. قالت صديقتها مجاملة: " وهو حسن المظهر كذلك، من أين أنت يا عزيزي؟"، قلت بأني عربي، فبهتوا. لا أدري لماذا أشك بأنهم حسبوني لاتيني. مضينا نتحدث وقد انتهت جولتنا، أخبروني من أين هم، كان معظمهم مزدوج الجنسية، لكنهم لا يعرفون أنفسهم كأمريكيين بالمقام الأول كما بدى لي. زوج وزوجته من التشيك، وهي السيدة الظريفة التي أضحكتنا طوال الوقت وكنت أساعدها، وزوج ألماني وزوجته التشيكية، وامرأة ألمانية هي أصغرهم سناً، ولكنها جدة مع ذلك، ورجل ألماني على عكس البقية لا يقيم في أمريكا أو لديه جواز منها، وهو كذلك من بين البقية من رأى سعودياً من قبل وتعامل معه، حيث أنه رجل أعمال وزار السعودية بضع مرات. سألنا موسس إن كنا نود الاستمرار معه، أجابوا بأنهم كمجموعة يريدون البقاء معه، وقلت أنا أني أريد البقاء معه ومعهم، فشكروني.


هذا الأسود على الشجرة هو بيت الأرضة، أو ما نسميه النمل الأبيض. يوجد أنواع كثيرة بالطبع وبيوتها مختلفة، رأيت شيء منها يبني بيوت عظيمة على الأرض، كالتلال التي تكاد أن تكون بطول الرجل، لكن يوجد أكبر كذلك في أنواع أخرى. الأرضة عموماً رغم أننا نسميها النمل الأبيض إلا أنها لا صلة لها من حيث النوع بالنمل، إنها أقرب صلة بالصراصير والدبابير. هذه التي تبني بيوتها على أغصان الشجر تبنيها من برازها، وأحيانا يتضخم البيت فيقع ويوقع أغصان كبيرة كما رأيت.




هذا العنكبوت القوي، أخرجه لنا موسس. مزح الرجال لاحقاً قائلين بأن الأمر ربما بالاتفاق، وكأنه مسرحية، بحيث ينبهون على الحيوانات والحشرات للخروج قبل البدء بالجولة.




هذه جذور نخلة لا تتعمق بالأرض. إنها أعجب نبتة رأيتها. سبحان الخالق. هذه النخلة بالواقع تمشي على أرض الغابة، وإن يكن بشكل غير ملحوظ مباشرة، لكن حينما يراها المرء في مكان معين، قد لا يراها في نفس المكان بعد فترة، إذ أنها تبحث عن الضوء الضئيل الذي يصل إلى الغابة من بين أغصان الأشجار العملاقة. تمشي النخلة بالميل في الاتجاه المقصود وبناء جذور جديدة، والتخلص من الجذور القديمة بالخلف، وهكذا دواليك حتى تتحرك وتجد ضوء الشمس فتتوقف تحته.




هذا عنكبوت آخر.



هذا القارض، يسمى أقوتي، رأيته بكثرة، وهو يتمشى بين الغرف ويبحث عن البذور، يوجد شيء كالجوز، وقد تركت كسارات يدوية للسياح كذلك حول المكان. هذا القارض غريب الشكل يعتبر من أقارب الكوي، أو ما نسميه خطأ بالوبر، رغم الاختلاف الكبير بالشكل والبنية. وهو يؤكل مثله، لكني لم أذقه.


هذا القرد السنجابي:







هذا سنجاب عادي:








هذه التينة الخنّاقة، وهي نبتة جميلة لكنها تعيش على قتل الأشجار الأخرى. إنها تلتف على الأشجار، غالباً الطويلة والضخمة، وتبدأ بعصرها ومنافستها في الجذور، حتى تسحقها وتموت، وتستغرق هذه العملية سنوات. حينما تموت الشجرة الأصلية تذوي، فتصبح التينة جوفاء من الداخل، مجدولة من الخارج، شجرة جميلة وعجيبة. سبحان الله.












حينما حان وقت العشاء، رأيت أصدقائي مجتمعين في صالة الفندق، وهي المكان الذي يأكل فيه الناس كذلك، وقد كنت خجلاً من الذهاب إليهم، وفي نفس الوقت رآني الرجل البريطاني الجسيم الذي وصل وزوجته معي على القارب وتغدينا على نفس الطاولة، وبدا عليه التوثب وأنه يريد أن يناديني، لكن أصدقائي الجدد ما إن لمحوني حتى نادوني ببهجة وترحاب. فالتفت تجاهه، ووجدته ينظر إلي وإليهم، وبدا عليه شيء من خيبة الظن. لم تكن تجربتي مع مجموعته جيدة على أي حال، كانت بداية غير موفقة.
حينما جئت وجلست انهالت علي الأسئلة والمجاملات. عرفوني بانفسهم مجدداً، وتساءلوا ما الذي يأتي بشاب عربي إلى البيرو؟، أخبرتهم بأنها امنية عمر. كانت المرأة الظريفة التي ساعدتها في الاماكن الوعرة اسمها مايا، قالت: وماذا تفعل يا سعد خارج المدرسة الآن؟!. فوجئت، وقلت بأني بالواقع أكبر من أن أدرس تقليدياً. قالت ما الذي تقوله أنت مراهق!! ضحكت، حسبت أنها تمزح، لكنها سألت: إذاً أنت بالجامعة؟. قلت بأني متخرج منها وموظف بالواقع منذ زمن بعيد. أعتقد أن سوء الحكم على العمر يتعلق بعدم المعرفة أو التعود على العرق المختلف. إن ابنائهم في الثانوية قد يبدون طلاب جامعة لدينا، خلافاً إلى أن أصدقائي هؤلاء قد لا يكونون على احتكاك مع مختلف الفئات العمرية.
بعد محادثات ونقاشات مرقت بمواضيع عديدة، سألوا ماذا أعمل، وإذا ما كنت دبلوماسياً؟. أعتقد أن صدمة وجودي هناك كانت صعبة التجاوز بشكل ما. أخبرتهم بأني مترجم... هذه الوظيفة التي لا تعطي انطباعاً بالعمق والتميز لسبب ما، وهي آخر ما قد يخمنه شخص يريد مجاملتك.
تسائلوا إذا ما كنت أميراً؟. كان أمر مضحك، قلت "لا، لا قدر الله." قالت مايا بأنها تتمنى أن تقابل أميراً. قلت بأني لا أنصحها بذلك. كان الألماني المتزوج من تشيكية، واسمه بيتر، أكثر الرجال اهتماماً بأمري، وأرادني أن أجلس بقربه، وظل يسأل ويحدثني عن شتى الأمور. قمنا للعشاء، وجلسنا على طاولة كبيرة. كان العشاء معقولاً، لكن الخدمة كانت غير منسقة، وكان الندل يشعرون بالإحراج لأخطاء بعضهم، شعرت بالأسف لأجلهم صدقاً، فمعظم الناس غير متسامحين مع الأخطاء، وإن لم يفتعلوا مشكلة لن يسلم النادل المسكين من التعليق أو الازدراء حتى لو لم تكن غلطته.
سؤلت عن كل شيء، وحُدثت عن كل شيء، عائلتي، عوائلهم، حياتي، حياتهم. اتفقنا على اللقاء غداً لنذهب في رحلة نصعد بها أعالي الأشجار العملاقة بدرج مجهز ونتمشى بين قممها بجسور معلقة.
كان النوم صعباً في تلك الرطوبة، ولسوء حظي، كان إلى جوار غرفتي شجرة كبيرة لها ثمار ضخمة وكثيرة، وكانت تقع باستمرار على السقف.
في صمت الليل، تتضح أصوات الحيوانات، عالم آخر حقاً، مثير للتفكر والسكينة، على الأقل حينما تغفل عن الرطوبة الخانقة.

بالصباح حينما ذهبت لتناول الإفطار، وجدت الأمريكي الذي جاء معي بالقارب وزوجته، وسألتني عن برنامج مجموعتي. لم يكن لدي فكرة واضحة تماماً حول الترتيب بعد الرحلة في أعالي الأشجار. بدا لي أنها امرأة نزقة وسطحية على نحو خاص.

كانت الرحلة بديعة، وكانت مليئة بالضحك كذلك. كانت الألمانية، اسمها ريناته، تريد أن ترى حيوان الارماديلو، وكانت تلح بالبحث عنه، حيث أخبرها موسس بأنه يراه كثيراً هنا. فكانت مايا تصيح فجأة وكأنها رأته، ثم تقول بأنه هرب في ذاك الاتجاه أو هذا، وقد كانت توتر اعصاب ريناته كثيراً. بالنهاية لم تعد ريناته تصدق.
تعمل ريناته مسئولة كبيرة في خطوط طيران عالمية، وهي جيدة الإطلاع والمنطق، والتحادث معها سار وشيق. وهي لطيفة وذكية جداً وذواقة، تجامل الناس على نحو ذكي ولا يخلو من صدق. قد تكون متحفظة للحظة لكنها تعيد النظر بوضوح فسرعان ما تبدي انفتاحاً. كانت قد عاشت في أماكن مختلفة من العالم كذلك.

كنت أشعر بأن الألماني الوحيد، إذ توفيت زوجته قبل فترة، واسمه فريتز والتشيكي زوج مايا، وامه جيري، متحفظان تجاهي في بعض الأحيان، لكنهما مع الوقت كانوا أكثر انفتاحاً ولطفاً. فريتز رجل ذكي بوضوح، وساخر لكن غير وقح، وهو يبدي تعليقات ذكية وصميمية حينما يشاء، لكنه غير تلقائي، ربما معي فقط، ربما لم تكن تجربته مع السعوديين موفقة تماماً، وملاحظاته تشعرني أحياناً بأني تحت التقييم باستمرار، وكأنما يقلبني ويستكشف طبيعتي، ليرى ما أنا بالضبط؟. ربما لأنه احتك بالأمراء أكثر من سواهم، ولا يدري ما هي طبيعة الآخرين. أما جيري، فهو رجل تقليدي جداً، إلى درجة صعوبة التعامل أحيانا مما يجعل زوجته تضحك وتعلق. فهو إن أراد أن يمشي من جهة فسيمشي معها، وإن وقف لأخذ صورة لن يقف للتالية. ورغم أنه تلطف تجاهي كثيراً، إلا أنه ظل على بعض التحفظ. ولكن الغريب، أو لعله المنطقي؟ أنه أصبح أكثر دفئاً بعدما بدأنا نتراسل بعد الرحلة، أنا وزوجته وهو، صار منفتحاً معي ولطيفاً جداً، وقد دعاني لزيارته بإصرار في التشيك، حيث يملك شقة هناك يقضي بها بعض الوقت في كل سنة.

لم أرى مثال أرقى على الحب الزوجي مما رأيت بين الألماني بيتر وزوجته التشيكية دانييلا. بيتر يعاني من حالة صحية تحد من حركته قليلاً، إنه يمشي ويذهب إلى كل مكان، لكن جسده متصلب بشدة، وأحياناً ترتخي عضلات وجهه دون أن يشعر، فكانت دانييلا تمسح وجهه بعناية حينما يسيل لعابه، وكثيراً ما مسحت على شعره الناعم بحنان وحب كبير لا تخطئه العين. لقد تأثرت بشدة بعلاقتهما، وبشخصيتيهما البسيطتين والجميلتين. لم يرزقهما الله بأطفال، وهما الآن في الستينات والسبعينات من العمر على أقل تقدير، مع ذلك، يرى المرء حسن عشرتهما لبعضهم، اهتمامهم ببعضهم، وحبهما لمشاركة المرح والمتعة والصداقات. دانييلا امرأة استثنائية على وجه الخصوص، إنها بالغة الرقة، وهي جميلة جداً كذلك وتولي عناية غير عادية بجمالها، وبسيطة لن تخفي حبها لأصدقائها وإعجابها بأحد. بيتر بالمقابل رجل مريح للنفس حالما تقع عليه العين، بعينيه العصفوريتين وابتسامته الحلوة. إنه رجل يحب المزاح كثيراً، وذو فطنة غير عادية واقتناص رهيب للفرص لإبداء ملاحظة ذكية ومضحكة، ولا يبدو عليه أبداً التردد أو الارتباك أو إعادة النظر، وكأنما فكر مسبقاً بكل ما قد يقال، سوا في موقف واحد، بقدر ما وجدته غريباً، بقدر ما أشعرني بالدفئ. وهو ساخر جداً كذلك، على نحو يعجز المرء عن مجاراته، وكثيراً ما أضحكنا بسخريته من المواقف التي نتعرض لها أو المفارقات بالقصص التي تقال.

أما مايا، زوجة جيري، فهي ملح المجموعة، لقد كانت تقتلنا قتلاً بتعليقاتها المضحكة وأفكارها. كانت تعلق على نفسها كثيراً، ولم يكن هناك فائدة من محاولة منعها من السخرية من وزنها مثلاً. وكان انجذابي لها على وجه الخصوص واضحاً للجميع، فقد أعجبتني طبيعتها كثيراً.

حينما صعدنا مختلف ارتفاعات أشجار الغابة، حيث تعيش كائنات مختلفة، وصلنا إلى القمة الشاهقة في أعالي الشجر. هناك، يرى المرء بعيداً، ويتعجب من وجوده في غير مكانه، ويحمد الله على الفرصة.
كنا نقطع الجسور المعلقة فرداً فرداً، حتى لا نرهقها بالوزن. كان بيتر ودانييلا خالفي في أحد المرات، على المنصة المعلقة في منصف الشجرة، حينما ناداني بيتر، ولما التفت التقط لي صورة، وقال: "هذه لي!."
أعتقد أنه التقطت لي صور في تلك الأيام الثلاثة مع تلك المجموعة بما يوازي نصف ما التقط لي في حياتي. كنت أشعر بالخجل، لمشكلتي مع صوري، لكن أمام لطفهم كنت سعيد بأني أتغلب على خجلي وأتركهم يصورون كما يشاءون، رغم شعوري بالأسف على اختيارهم تصويري في بعض الأحيان وليس تصوير شيء يستحق.

















بيتر ينتظرني هنا:










في الصورة أدناه، تحت الغصن الكبير، لمحة من بيت للدبابير، ضخم ومرعب.



هذا الغصن المتعرج بالصورة أدناه من نبتة طفيلية على ما أعتقد. يسميه المحليين: درج القرد.



الدرج الذي يصعد منه الناس إلى الجسور أعالي الأشجال وينزلون.








بالمساء، جلسنا وتكلمنا عن أمور كثيرة. كان لديهم فضول تجاه حياتي بشكل عام، نموذج غير مألوف من دولة مغلقة كما يرونها. علقوا على شكلي واختلافه، قلت بأن رؤيتهم غريبة، فلا شيء خاص بالأمر، وأن شكلي يثير اهتمام الناس حينما يعلمون أني سعودي، وإلا فشكلي لا يختلف عن شكل أي بيروفي غير أصلي أو أي لاتيني. قالوا بأن هذا غير صحيح، وأنهم يدركون الإختلاف لكونهم لا يرون مثلي كل يوم، قالت ريناته: انظر إلى حاجبيك مثلاً! ثم قالت دانييلا: وعينيك!. ضحكت على الحالة لكنهن أصرين على رؤيتهن للأمر، وتدخل فريتز قائلاً بأن هذا طبيعي، لكون أكثر الناس لا يرون عرباً من تلك النواحي، بينما العرب يرون الكثير من الناس في بلدانهم. قالت ريناته بأن المرء لا يدرك اختلاف شكله إلا حينما يتواجد في مكان مختلف عن المعتاد، وقصت عن عائلتها حينما كانت تعيش في كوستاريكا، كيف أن ابنتها الشقراء كانت لافتة للانتباه، وذات شعبية كبيرة بين الأطفال بالمدرسة، بينما لا يلاحظها أحد في ألمانيا أو أمريكا.
حكى فريتز عن تعاملاته في السعودية. لم يرى الكثير، كانت رحلات عمل، وكانت لديه قصص مثيرة للاهتمام عن عمله. أما مايا وجيري، فابنتهما تعمل في الشرطة العسكرية، وقد عملت لبعض الوقت في السعودية، حيث ارتدت النقاب. سألت إن كانت فعلت ذلك على سبيل التجربة؟ قالت مايا لا، كانت تريد أن تظهر احترامها للثقافة. وقد عملت مؤخراً في دبي، حيث واجهت الكثير من المفارقات المضحكة.
ما أكثر ما تحدثنا به، ضحكنا كثيراً وناقشنا الكثير من الأمور الجدية.
حينما أخبرتهم بأن لي شقيق يقيم في أمريكا للدراسة بدى عليهم التحفز، خصوصاً بيتر الذي قال مباشرة: هل تزوره؟. قلت بأني لم أزره بعد. فقال بأني يجب أن أزوره ثم آتي إليهم في كاليفورنيا (أخي في فلوريدا)، وافقه الآخرين وقالوا بأنهم سينتظرون زيارتي.

في يوم آخر، ذهبنا بالصباح عبر النهر لنرى نماذج للنباتات التي يستطب بها السكان المحليين منذ أزمنة بعيدة. تمنيت من كل قلبي لو كانت والدتي معي، فهي من سيفهم ويقدر هذه الجولة حق قدرها.
هناك، عرضت حمل حقيبة بيتر بدلاً من زوجته، وافقوا بخجل بعد إصرار، كان كثير عليها أن تحمل حقيبتين، ونحن سنمشي لفترة طويلة وبطرق ليست مستوية. كان موسس يميل كثيراً للمزاح، معي على وجه الخصوص، أو لنقل لوضعي بمواقف محرجة لكن بحسن نية. أصر على أن أتطوع لتجربة ورقة نبتة معينة، وإذا بها تخدر فمي. أرانا نبتة تستخدمها القبائل ذات العزلة الاختيارية (قبائل لا زالت ترفض الاتصال الخارجي، وتعيش كما عاشت قبل وصول الأوروبيين)، يطلونها على أجسادهم فتحميهم من الحشرات وقرصاتها، لكنها تصبغ جلودهم باللون الأحمر. هذه القبائل المعزولة تثير الشفقة صدقاً، لديهم خوف غير عادي من الاتصال، ربما لتجارب سابقة، حيث قرأت أن الاسبان في وقت من الوقت كانوا يطاردونهم ويقتلونهم للتسلية. وهم لا يزالون ضعيفوا المناعة تجاه الأمراض العادية، كما كان سكان القارتين قبل وصول الأوروبيين. إن التواصل مع هذه القبائل الآن دون حذر يشكل خطر محدق على حياتهم، حيث أن عدوى عادية كالزكام قد تقتلهم. وكان الجدري المائي (العنقز) والانفلونزا العادية قد قتلا الملايين من أهل أمريكا الوسطى والجنوبية حينما وصل الأوروبيين. ولا زالوا كل فينة وأخرى يكتشفون وجود قبيلة لم تكن معروفة من القبائل المعزولة. وقد رأيت فيديو لهم وهم يصوبون سهامهم تجاه طائرة حوامة تصورهم.
ردة فعلهم النفسية تجاه الاتصال مع الآخرين قد تكون عنيفة، فقد قتلوا قبل فترة رجل غربي تجاهل المنع والتحذيرات الحكومية في البيرو وحاول أن يترك لقبيلة من هذه القبائل هدايا، فصوبوا تجاهه أسهمهم. وهم يتجاهلون ما يترك لهم من عديمي المسئولية بشكل عام، فقد أرانا موسس فيديو على حاسبه المحمول لعائلة بيروفية مسافرة على قارب، وقد حاذت جزيرة نهرية نائية يسكنها أفراد من المعزولين، وحاول أهل الجزيرة تخويفهم لإبعادهم، وتهوزوهم برماح خشبية وأسهم دون أن يؤذوهم، لكن كان أصحاب القارب يشعرون بإثارة تنم عن سفاهة، وقد تركوا على الشاطئ رداء ليروا ماذا سيصنع به أهل الجزيرة، لكنهم تصرفوا وكأنما لم يروه. ولا أدري كيف لم يفكروا بما قد يمثله هذا الرداء بما يحوي من آثارهم من مخاطر. حينما يكون الإتصال ممكناً، فإنه يتم بأقصى درجات الحذر، بفحص الأشخاص، باحثين غالباً، الذين سيتواصلون مع هؤلاء القوم، وتعقيمهم.

وهم كذلك لا يحبون رؤية الأشياء الحديثة، والكاميرات قد تعني لهم خطر محدق، لأنهم يربطون بينها وبين الشركات التي تقضي على بيئتهم لأجل الأخشاب أو النفط، وكثير من هذه الشركات لا زالت تسبب لهم المشاكل في حوض الأمازون، كما يفعل المهربين الذين يشتبكون معهم دائماً.

أعود للرحلة، رأيت أشجار الكاكاو البرية، فالكاكاو والفانيلا، نبتتايالمفضلتين بعد النخيل، خصوصاً الفانيلا، من أمريكا الوسطى والجنوبية أصلاً. وأخبرني موسس بأن الكاكاو البري ليس طيباً ولا يؤكل، كما أنه لا يملك الرائحة الجميلة للكاكاو المدجن.

مضينا بعد ذلك إلى قارب خشبي، حيث نتجول في جزء معزول من النهر شبه راكد. أخبرت موسس بأني أريد أن أساعده بالتجديف، استغرب، لكنه وافق. كان هو بالخلف وأنا بالأمام. كانت عملية مرهقة لكنها فائقة المتعة، رغم أن تجديفي مثل وجهي، حيث تسببت بمرورنا بأغصان مزعجة تتدلى على النهر.







رأينا قارب متروك، وقد نمت عليه أشنات، أخبرنا موسس بأنه قارب لأناس هاجمتهم أناكوندا، الأفعى الضخمة، وأغرقتهم.





هذه إحدى الصور التي التقطتها لي دانييلا.


ورأينا طائر كبير يشبه الديك، يسمى الهواتزين، يتوزع بين الأشجار بأعداد ليست بالقليلة، وهو له صوت واضح وقوي، وملون بألوان جميلة، وحجمه أكبر من الديك بمرتين إلى ثلاث، وهو يطير لكنه سيء الهبوط، كما أن تنقله بين الأغصان أخرق كذلك. له عرف شوكي غريب، ووجه جلدي. قال موسس بأن هذا يسمى بالأحفورة الحية، لأنه لم يتغير على مر ملايين السنين، وأن فراخه ذات حراشف للزواحف. لكن مع مزيد من القراءة لاحقاً، عرفت أن فراخه تمتلك مخلب في وسط الجناح على قمته، وهي فريدة بهذا، يساعدها على التنقل بين الأغصان، ويسقط المخلب عند البلوغ.
توقفت قليلاً عن التجديف، فقالت ريناته مازحة بصوت متسلط: عذراً؟ لكن يبدو أن أحدهم توقف عن القيام بعمله؟؟.
شممنا رائحة غريبة جداً، وليست جيدة. قال موسس بأنها رائحة ذلك الطائر، فلا التماسيح ولا الاناكوندا تأكلانه بسبب رائحته. قال جيري: أخبرتكم بأنه لم يكن أنا!. ضحكوا، لكني لم أحب النكتة.

وبينما نجدف عائدين، صادفنا قاربين اجتمع فيها عدد من نزلاء فندقنا أكثر من عددنا، أول قارب صادفناه كان في مقدمته الرجل البريطاني الجسيم، إني أتعجب كيف لم يغرق القارب ما شاء الله، سرعان ما التقط كاميرته بحماس والتقط لي صورة او اثنتين، بالبداية، ثم استمر مركزاً كاميرته حتى حاذيناهم والتقط لي المزيد من الصور. لا أدري لماذا فعل هذا، ولا أدري لماذا لم يستأذن أو يأتي لاحقاً ليعرض الصور. فالرجل الأمريكي قام بنفس الشيء، وجاء لاحقاً إلينا وكلمني أنا ومايا ليخبرنا بأنه يريد إرسال الصورة إلينا لاحقاً، وقد فعل.



للأسف، قبل فترة أرسلت إلي مايا تخبرني بأن الرجل توفي بسكتة قلبية. كانت قد تلقت رسالة من ابنته في هذا الخصوص، وقد تم إنشاء صفحة له على موقع للتعزيات. كان خبر مفاجئ، فقد كان يمتلئ صحة وحيوية ولطفاً، ولم يبدو عليه الكبر، بدا أصغر من زوجته بكثير. وجدت أن مايا قد عزت في الصفحة بإسمنا جميعاً، وكان هذا لطف منها.


حينما عدنا من الجولة، قال موسس بأنه سيأخذهم إلى مزرعة أكبر وأكثر ترتيباً، مزرعة حقيقية مثيرة للاهتمام. لكني قلت بأني لن أذهب، حيث أني لم أنم البارحة، وسأنام في فترة العصر.
التقيت ريناته صدفة بعدما عادوا قرب المغرب، وقالت بأني محظوظ لعدم قدومي، فلم تكن المزرعة مثيرة للاهتمام حقاً، تذوقوا بعض الفواكه وخلافه، لكن لا شيء مميز، كما أن الرطوبة كانت أسوأ من أي مكان آخر، بينما لم تردع الدهانات البعوض المتجمع هناك عن عضهم.
كنت قد جئت بدهان من السعودية، ايطالي الصناعة، طبيعي من الطماطم البرية، وهو في علبة تشبه مزيلات العرق ذات الكرة في الأعلى، وقد كان ناجحاً جداً هناك، خلافاً لسوار مطاطي اشتريته من دايسو، طارد للحشرات بمفعول يستمر لشهر. ارتديته فقط بالامازون، إذ أني لم أرى حشرات مؤذية في المناطق الأخرى. وكان ممتازاً.

بالمساء، تحدثنا حول أمور كثيرة أخرى. سألوا عن عائلتي، ماذا يفعلون؟. حينما علموا بأن أحد إخوتي يدرس في أمريكا، قال بيتر بحماس وإصرار: إذا ستأتي إلينا حينما تزوره؟. يجب أن تأتي. المشكلة أن أخي لا يريدني أن أغادر مدينته حينما أزوره، على الأقل بالزيارة الأولى، التي اؤجلها منذ عودتي من البيرو.

لقد تأثرت كثيراً بمشاعر بيتر ودانييلا على وجه الخصوص. قالت دانييلا بمناسبتين مختلفتين بهدوء، موجهة كلامها إلى ريناته أو مايا: نريد أن نتبناه. كانت تقولها بطريقة تشعرني بالامتنان، والأسف العميق. بالطبع، لم تعجب أمي القصة، حيث أنها تتصور بأن هناك من قد يريدني فعلاً خلافها، وتتخيل بأني قد أهرب إلى البيرو في يوم ما، وكأنما سيكون لي جدوى هناك ليريدون بقائي.







كانت هناك رحلة ليلية للتمشية، لسماع الحيوانات بالليل ورؤيتها. فكرت بالذهاب، لكن الآخرين أرادوا البقاء، وبدا أنهم يريدون بقائي لتناول العشاء معهم. كان البقاء معهم أهم في رأيي، كانت صداقة جديدة، والفرصة ضيقة لتأسيسها.


في الصباح التالي، خرجت على الموعد، لكني تذكرت أني لم اطلي ما ظهر من جسدي بطارد البعوض، فعدت إلى غرفتي جرياً، وأنا أشعر بالإحراج لأني قد أؤخر مجموعتي عن برنامجها. ورجعت أهرول كذلك بعدما فرغت، وكنت أفكر بأنه سيبدو عليهم ضيق مبرر، وقد حملت الهم وشعرت بإحراج بالغ. لكني حينما كدت أصل صاحوا ينادونني: سعد أسرع أسرع! تعال إلى هنا!. كانت هناك قرود تلعب على الأشجار في مقدمة الفندق، وكانوا يتفرجون عليها وقد خافوا أن تفوتني رؤيتها. كانت نوع من الكابوتشين على ما أعتقد، أو تشبهه، وكانت جميلة جداً، متوسطة الحجم.
حينما كدنا نمشي، سمعنا صوت صفير خافت من أطراف الغابة، ظنه موسس في البداية لقرود المارموست القزمة، فتحمست كثيراً، وقد كنت أعرف صوتها كذلك لأني رأيتها قبل سنوات طويلة في حديقة الحيوانات بالرياض. لكن للأسف، كان الصوت لقارض صغير يصيح على نحو محزن، وقد ابتلعت أفعى صغيرة نصفه الأسفل.
كان موسس قد نادى المارموست القزم بتقليد صفيره في اليوم الذي ذهبنا به إلى جسور قمم الأشجار، وقد رأينا حركتها في الأشجار البعيدة، ولكننا لم نرها.
حاول هذه المرة، وكان مصراً على تحقيق أمنيتي برؤيتها. جاء قرد واحد بالغ، وهي حتى حينما تكون بالغة لا يتعدى حجمها حجم الكف المفرود، أقول جاء وكأنما أشفق علي، وربما جاء به الفضول، ووقف فوقنا على غصن شجرة وتفرج علينا بقدر ما تفرجنا عليه، وهو يقلب رأسه يمينا ويساراً، ثم ذهب، وكأنما لم نعجبه. كنت فرحاً إلى درجة أني أريد أن أصيح بأعلى صوتي. قلت: "أريد أن آخذ واحداً معي!!" قالت مايا: "خذ اثنين فهي صغيرة وواحد لا يكفي".
كان موسس غالباً ما يحرص على بقائي معه في المقدمة لبعض الوقت. كان يسأل عن السعودية والحياة هناك، وعني وعن حياتي. كنت أول عربي يراه، وكان لا يخفي فضوله. قال بأنه يود لو رآني بملابسي التقليدية التي راها بالصور. كنت سأريه جوازي لكن لم أجد فرصة ملائمة للأسف.

كان يحب أن يسمي براز الحيوانات: شأنها Their business. أرانا أعشاش عملاقة للنمل الأبيض، الأرضة، وقال بأنها تبنيها بشأنها، وأحيانا توقع أغصان ضخمة لثقلها. وأرانا تلال تكاد أن تكون بطول الرجل، وكانت بيوت لنوع آخر من النمل الأبيض. والنمل الأبيض ليس نمل بالواقع، وإن كان منظم وعجيب مثل النمل، إلا أنه أقرب للصراصير من النمل. سألت عن أطول صرصار بالعالم، كنت قد قرأت أنه يعيش في الغابات الرطبة في تشيلي، فتسائلت إذا ما كان يعيش هنا كذلك، فقال موسس بأنه لا يعيش هنا. قالت مايا: الحمد لله!، لا نريد أن نراه!!. قلت: ولكنه نظيف يا مايا وغير ضار!. لكنها قالت: لا، الصرصار صرصار!.
في رحلة على القارب، وكان معنا مجموعات أخرى، رأينا شجرة تقع بالنهر، حيث تنهار ضفته باستمرار. وكانت رائحة كريهة تأتي من ناحيتها. قال بأنهم يسمونها شجرة الكاكا بسبب رائحتها. لم أفهم، وما هو الكاكا؟ قال: الشأن Business!. لم أفهم إلا متأخراً، وقلت عن نفسي: كم أنا بطيء. مما أضحك الآخرين من مجموعات أخرى وجعل أحدهم يطبطب على ظهري.
ونحن نخرج من غابة تحت قيادته، رأينا مجموعة تقودها مرشدة من السكان الأصليين، جميلة، رغم أنها غير متزينة بأي شكل، لكن كانت ملامحها المتناسقة تنم عن قوة شكيبة وتصميم لم أرى مثله. فرح موسس كثيراً حينما رآها، وقد حيتنا بوقار ورسمية. قال موسس لي حينما تقدمتنا لتمضي بأن هذه صديقته فلانه، كانت تمشي أمامنا بخطوات قوية، وكأنها غاضبة من شيء ما. قال موسس لي: إنها تحبني كثيراً، ولكني أنا لا أحبها. قلت باستغراب: وكيف يكون هذا؟ كيف لا تحبها؟ إنها جميلة جداً. فوبخت الفتاة موسس بالاسبانية بصوت قاس، لكنها كانت تكبت ابتسامة واضحة. ضحك موسس كثيراً، وكان مبتهجاً.

بعد عودتنا من جولة جميلة في وقت متأخر، كنت قد حملت فيها حقيبة بيتر عن زوجته كما اعتدت هناك، جلسنا في بهو الفندق نتحدث، ثم قرر البعض الخلود إلى الراحة في غرفهم فقاموا. فوجئت ببيتر لا يمضي، ولكن يقف بالقرب مني، ويحاول قول شيء، لكنه قال بالنهاية شكراً يا سعد. وقف قليلاً بتردد، وكأنه سيضيف، لكنه مضى.
في وقت لاحق، وفيما نحن نمضي بالمساء إلى غرفنا التي تتوزع في ممرات وسط الغابة كأكواخ صغيرة، قال لي بيتر بأن حركته صعبة لأنه يعاني من مرض باركنسون. فوجئت بهذا الكشف، وشعرت بالأسف. رفع يده قليلاً لأرى كم هي متصلبة، لمستها وسألت إن كانت تؤلمه. قال بأنه مرض لا يؤلم، لكنه يحد من حركته. كان فريتز يمشي خالفنا، ويراقب ما يجري، هو صديق قديم لبيتر وزوجته، بينما البقية لأول مرة يلتقونه، سوا أنهم يتقبلونه وكأنما عرفوه منذ الأمد.

في مساء آخر جلسنا بعد العشاء فيه نتحدث. كنت أعطيهم نصائح بما تجدر رؤيته في الباقي من رحلته، بناء على الأماكن التي سيزورون، وكانت ريناته تسجل في دفتر ملاحظات نصائحي. ثم تحدثوا عن غرابة معرفتي بالكثير من التفاصيل هناك. لكن فريتز قال: "ليس هذا الغريب فقط، لكن الغريب هو جلوسهم مع سعودي في الامازون يهتم بالطبيعة والآثار، ويعلمهم أين يذهبون وماذا يجب أن يرون وماذا تعني الآثار وتاريخها، فالسعوديين بالعادة لا يأتون إلى هنا ولا يبالون بهذه الأشياء، ستجدهم فقط في ميونيخ ولندن وباريس يتسوقون ويجلسون بالمقاهي". ضحكوا على الفكرة، لم أضحك لكني ابتسمت، لم أحب الملاحظة كثيراً، لكني لم أعتقد أنه كان سيء النية، كان يقول ما يعرفه فقط، فكونه من سكان ميونيخ هذا ما يراه. وبالواقع، لم يخالف صديقي الدكتور بأنه يعتقد أن هذه أسباب أغلب السعوديين بالتواجد هناك.

جئت في أحد الأيام مرتدياً جهاز الموسيقى الأثير لدي، وهو غير منتشر أو معروف على وجه العموم. حسبته مايا قلادة؛ وسألت إن كان رمزاً دينياً؟ (!!). قلت له إنه مشغل موسيقى فقط. أمر مضحك، إن كل شيء جاهز للتأويل على نحو غامض لدى الأجانب.

في اليوم الأخير، قال منسق الفندق بأن قاربي سيأتي قبل الآخرين، أي أني سأغادر قبل أصدقائي. قالوا بأننا يجب أن نودع بعضنا باكراً إذا، ويجب أن نأخذ صورة جماعية.
اتفقنا على البقاء على اتصال دائماً، وهذا ما نحن عليه الآن. لكن، تبين أننا سنغادر على القارب نفسه لاحقاً. فودعنا بعضنا مرة أخرى في استراحة الفندق حيث استلمنا حقائبنا الكبيرة المودعة هناك؛ إذ كنت سأغادر قبلهم.

حينما وصلت إلى المطار، وأدخلت حقائبي، قيل لي أن أنتظر قبل الدخول إلى الصالة، لا أدري لماذا، لكنهم لم يسمحوا بدخول أحد. ربما لأن الصالة ممتلئة، بينما رحلاتنا لن تكون قبل بعض الوقت. اشتريت حلويات وكولا ومياه استعداداً، الكولا هناك أطعم كولا معلب تذوقته، لكني فوجئت بالشاب ذو الأشباه الملاوية الذي استقبلني حينما وصلت، يناديني ويأتي إلي. كان هو كذلك من أوصلني للمطار، وقد ودعنا بعضنا بالفعل، لكن تبين أنه سيستقبل سياح آخرين، وقد استغرب أني لم أدخل بعد. كان لطيفاً جداً بالبداية حينما استقبلني باليوم الأول، ثم فجأة أصبح متحفظاً بالفندق، متحفظاً جداً. كنت قد احتجت إلى مساعدته، وهو منسق الفندق بالواقع، حينما أردت الاتصال على أهلي. لم يكن هناك شبكات للجوال في منطقة الفندق النائية بالأمازون، وكنت قد نسيت أن أخبر والدتي بأني لن أتصل لمدة ثلاثة أيام، لأنها اعتادت أن أتصل بها كل يوم، حيث أن هذا كان شرط قبل سفري (غالباً ما كانت ترسل سلامها للمرشدين معي، أو إلى كارلا). لم أتمكن من الاتصال لأني أعطيته الرقم خاطئاً، ربما بسبب التوتر والخوف على أمي من القلق. لكني تمكنت من الاتصال على كارلا وإخبارها بالمشكلة، حيث أخبرت أختي إذا أنهن على اتصال منذ سفري عبر الوتساب للاطمئنان علي.
فوجئت لأنه جاء إلي بالمطار بصراحة بعدما ودعني. لأني شعرت بأنه ندم على لطفه وانفتاحه معي بالبداية. شعرت بأنه ندم على موقفه ربما، الله أعلم. كان في يده وشم باللغة العربية لاسم امرأة. سألته عنه، فقال بأنه اسم والدته؛ إنها مريضة بالسرطان، وهو يعمل بالإضافة للدراسة بالجامعة ويستفيد من دعم الأقارب لعلاجها ومتابعة حالتها في ليما، حيث يذهبون بمواعيد كل فينة وأخرى بالطائرة لزيارة مستشفى متخصص هناك. اعتصرت قلبي ظروفه، شعرت بالألم لأجله ولأجل والدته. أخبرته بأني أود أن أساهم وأساعدهم، لكنه رفض بعدما تفاجأ بالعرض. حاولت بإصرار، ولكنه شعر بخجل شديد ورفض قطعاً، وكأنما ندم على إخباري. تحت إصراري وقولي بأنها مجرد مساهمة في علاج والدته قبِل بخجل، وقال هي للعلاج؟، قلت لأي شيء قد يساعد والدته.





حينما سمحوا لي بالدخول، أخرجت كتاباً لأقرأ. مرت بعد قليل امرأة مسنة من السكان الأصليين للأمازون، ومعها ابنتها، امرأة شابة، وابنة البنت، طفلة صغيرة ومليحة ما شاء الله لعلها بالرابعة، أوقفت الطفلة وأعطيتها كيس الحلوى الذي اشتريت قبل قليل، شكرتني الجدة كثيراً ومضت.
ما لم أتوقعه هو أن تتأخر رحلتي كثيراً، وكان هذا أمر سيء، إذ أني سأسافر الليلة، وكنت أطمع ببعض الوقت في ليما لشراء بعض الهدايا. يوجد ثلاث شركات طيران تعمل داخلياً في بيرو، وقد كانت سفراتي كلها مع اثنتين، أما هذه التي تأخرت فهي مرتي الأولى معها.
فوجئت بأصدقائي من الفندق يأتون!. ضحكنا حينما التقينا، وأخبرتهم بأن طائرتي تأخرت. كان يفترض أني قد سافرت من قبل أكثر من ساعة.
جلسنا معاً، رأيت تابوتاً يشحن في طائرة، ولفت انتباههم وأنا أتسائل، لم أكن متأكداً. قال فريتز بأنه ليس تابوت، بينما وافقتني ريناته. اتضح بالنهاية أنه فعلاً تابوت كما أخبرنا أحد العاملين. كانت الطائرة ستقلع، لكنهم أوقفوها باللحظة الاخيرة لشحنه.
تحدثت مع ريناته عن عادات الدفن والجنائز. قلت بأن عاداتهم مؤسفة صدقاً، إنها متكلفة وثقيلة على النفس. لا يدري المرء هل يحزن أم ينتبه للتفاصيل وكأنما يعد لفرح. أخبرتها بأننا حينما يتوفى فينا أحد، فقط يؤخذ إلى دار ملحقة بالمسجد ليغسل ويعد للدفن على نحو بسيط، تعطير ونحوه، ثم يلف بقماش عادي، ويصلى عليه صلاة قصيرة، ثم يؤخذ للمقبرة ليوضع ويدفن فقط. وكل هذا لا يكلف شيئاً، إذ حتى القماش يتكفل به فاعلي الخير.
أذهلها الأمر، وقالت بأن هذا لا بد أن يكون الأصل، وأكثر الامور طبيعية، وأنه لا بد أنهم كانوا هكذا في وقت ما. أما الآن، فأمورهم صعبة جداً. وقصت كيف عانت حينما توفيت والدتها من اتخاذ القرارات هي وأختها، وأنهم لا يدرون هل كانت تريد أن تدفن أو تحرق، والانتباه للتكاليف الباهضة والاتفاق مع دار الدفن.
بالواقع، كنت قد ناقشت هذا الأمر مع شخص آخر هناك. المرشدة في تشكلايو. مررنا من مقبرة غريبة، فيها مباني صغيرة، مزخرفة ومزينة، وبها مداخل كالدولاب الكبير، يوضع فيها الأموات. أخبرتني بأن الدفن مكلف جداً، ومرهق جداً، وأن العوائل تشتري مقابر بالجملة. كان أمر مؤسف بشدة، من يريد الاهتمام بهذه الشئون وقد مات له غال؟. ولا يمكن للمرء إلا أن يتعجب من هذه التجارة السخيفة، خصوصاً في مكان في وسط الصحراء كتشكلايو وتروهيليو. أخبرتها كذلك بما نقوم به، وأن القبور لا تباع، ولا حتى الكفن. تعجبت، وقالت كما قالت ريناته: لا بد أن هذا هو الأصل والامر الطبيعي. شرحت كذلك للسائق ما قلت باهتمام بالغ، وتناقشا فيه وقد بدا عليه الاهتمام الشديد كذلك.

فوجئنا بعد قليل بمجئ الجدة بحفيدتها، تلك التي أعطيتها الحلوى، لتسلم علينا. سلمت على الطفلة ولاطفتها وقبلتها. لكن ما أذهلني هو أن أغلب من معي سلموا عليها وكأنما يسلمون على إنسان راشد؛ صافحوها وسألوها عن حالها، باستثناء ريناته، التي سحبتها وقبلت خدها مثلي ولاطفتها، وربما دانييلا. شكرنا الجدة وودعناها وهي تمضي، وحينما نظرت إلى اتجاهها رأيت ابنتها تنظر بعدم رضا، أعتقد أنها كانت معترضة على تلك المجاملة، لكني كنت سعيد بها جداً، وقد أدفأت قلبي. تسائلت ريناته باستغراب: هل تعرفهم؟ قلت بأني أعطيت الطفلة بعض الحلوى فقط. هذا ما يتوقعه المرء من السكان الأصليين هناك، نقاء السريرة والتقدير الشديد.
حينما أخبرت صديقي الدكتور الألماني بطريقة سلام الأغلبية على الطفلة، وقد كنت مستغرباً، ولا أتجاوز إن قلت حتى مستهجناً، أخبرته بأني أفترض أن ريناته عرفت كيف تسلم على النحو الملائم على الطفلة لأنها عاشت في كوستاريكا، فتعلمت من أهلها الطريقة الصحيحة. قال بأن هذا صحيح على الأغلب، وأن في الأمر بعد حضاري، إن رؤيتي للأمر وطريقتي فيه تنم على العمق الحضاري الأنساني للعرب، حيث يخفق الغرب، كان يقول هذا بمرارة.

جائت طائرتي أخيراً، وودعتهم على وعد التواصل، ولا زلنا نتواصل منذ ذلك الحين، وقد عرفت أن رسالة أرسلها إلى أحدهم يقرأها الجميع في اجتماعاتهم باستمتاع، وقد كنت أفاجأ بالبداية من التعليقات اللماحة من بيتر حول أمور لم أحدثه عنها، مما أضحكني.
يرسلون صورهم حينما يجتمعون، غالباً في حديقة منزل بيتر ودانييلا الكبير، وهم يضحكون أو يتمشون. أقول: أتمنى لو كنت معكم، يقولون: تعال.
باستثناء فريتز الألماني حصراً، حيث يعيش في ميونيخ مثل صديقي الدكتور، يعيش البقية في كاليفورنيا. بينما لا يمكن أن يقال نفس الشيء تماماً عن بيتر ودانييلا؛ ذلك أنهم أصلاً لا يبقون في مكان واحد أكثر من ثلاثة أسابيع أو شهر غالباً، فهم دائموا السفر والاستمتاع بالحياة، ويملكان بيت آخر في ميونيخ، يقسمون وقتهم بين البيتين وسفراتهم السياحية، حيث حالما عادوا من البيرو سافروا إلى جزيرة كاريبية للاحتفال بذكرى زواجهم.
قررت قبل فترة الذهاب لرؤيتهم في التشيك، حيث ظننت أنهم سيجتمعون كلهم هناك، إلا أنه تبين أن بعضهم فقط سيتواجد هناك، فقررت أن أؤجل رؤيتهم لفرصة أخرى، رغم أني أوقعت نفسي في موقف محرج تحت إصرارهم اللطيف، ومزحات بيتر المضحكة واللاذعة، كقوله حينما قلت بأني صرفت النظر بأن زوجته كانت قد قررت التظاهر بأنها سائحة لأجلي هناك، حيث أنها أصلاً من هناك.

كنت قد تأخرت، وفي استقبالي في ليما وجدت اليزابيث. مرة أخرى، أخذت أبعد الطرق، وكانت تريد أن تريني الأشياء، وتحكي قصص مضحكة وممتعة، وتسأل عن الرحلة وعن حياتي، وهي تريد أن تزور السعودية يوماً وترتدي النقاب لتجرب. دعوتها لتناول وجبة، إذ كان التسوق الذي خططت له قد صار مستحيلاً. هي امرأة مكافحة وطموحة، بالإضافة إلى عملها المرهق والدقيق تكمل دراستها. وقد أخبرتني عن عائلتها؛ لديها أخوين. تحب الصغير الذي في الكلية الآن، فهو كابن لها لأنها كانت تغير حفاظاته.
قالت اليزابيث قبيل قيامنا من الطاولة: لماذا لا تعيش هنا يا سعد؟، إن المكان يلائمك وأنت تلائمه، إنك محبوب هنا حتى من قبل من لم يروك، حيث يسأل عنك الجميع في الوكالة (الوكالة مختلفة عن شركة كارلا، ولكنهما متعاونتين) إذ اكتسبت شعبية، جد عمل هنا يا سعد، واذهب وعد بوالدتك وعيشوا معاً هنا.
ليت الخيارات بهذه البساطة. أخبرتها بأني لا أستطيع ذلك، حتى لو تهيئت ظروف عودتي وإقامتي، ماذا سأعمل هنا؟ إني شخص بلا مواهب مهمة، ولا حرفة ضرورية؛ لست مهندساً، ولست طبيباً، ولست شيئا يحتاجونه هنا فعلاً، كما أني لا أتحدث الاسبانية. قالت بأني بوسعي أن أتعلم، وبوسعي أن أعمل معهم بالسياحة، فأنا مطلع على بلدهم جيداً. بالطبع، ليست الأمور بهذه السهولة، لكني أقدر مشاعرها ولطفها كثيراً.
رغم المرح الكبير الذي تظهره، إلا أني أشعر بأنها على جانب من التعاسة الداخلية؛ ظروف حياتها، وحدتها، خصوصاً أنها في النصف الثاني من الثلاثينات، نشأتها التي يبدو أنها كانت متعبة وفي ظروف صعبة، كل هذه الأمور تتجلى بصمتها أحياناً، ومحاولاتها الواهنة للتغطية على شعورها حينما تتحدث عنها.


هذه الحديقة على شاطئ ليما، وهو شاطئ شهير بمركز تجاري مفتوح على البحر، زرته عدة مرات، لتناول الطعام بالطبع، فلست من محبي الأسواق الحديثة.





اتصلت كارلا قلقة، إذ ذهبت تبحث عني بالفندق ولم تجدني. أخبرتها اليزابيث بأنها ستوصلني الفندق قريباً. مضينا إلى الفندق، وودعت اليزابيث إذ سيأخذني شخص آخر إلى المطار، للعودة إلى الوطن.
اتصلت بكارلا وسألتها إن كانت تريد أن نلتقي في مقهى، لمحادثة أخيرة قبل سفري كما اتفقنا سالفاً، لكنها قالت بأنها تريدني أن آتي إلى شركتهم القريبة من الفندق، لأن الناس هناك يريدون أن يروني. وصلت، وهي في طابق مرتفع من مبنى كبير. وجلست في مكتبها. تحدثنا قليلاً، وأعطتني أكياس فيها هدايا لطيفة لأمي وأخواتي ولي، وطلبت مني أن أوصل سلامها إليهم. جائت زميلة لها كانت قد ساعدتني ذات مرة عبر الهاتف، وكانت لطيفة جداً. لكننا حينما أردنا الخروج من الشركة، رأينا فتيات في مكتب قريب من مكتب كارلا يؤشرن مرحبات ثم يتصددن ضاحكات بخجل. أخذتني كارلا إليهن قائلة: تعال، إنهن يردن رؤيتك!. دخلنا، ورحبن بنا، وسألن عن حالي ورحلتي، وعرّفن بأنفسهن. مزحنا قليلاً. إحداهنا كان لها شكل مغربية خالص، فأخبرتها بأنها لو جائت إلى السعودية لتمنى الكثير من الرجال الزواج بها، إذ للمغربيات شعبية هناك. ودعناهن ومضينا. كان المساء قد حل، وكنا سنذهب إلى مقهى قريب. وفي طريقنا وجدنا صديقة كارلا، وهي كانت تعمل معها حتى وقت قريب، إذ ستتزوج قريباً وترحل مع زوجها إلى أمريكا. الملاحظ على تلك الشركة؟ كل من يعملن بها جميلات إلى حد غير عادي. قلت لهن: إن مديركن يتصرف وكأنه يختار مضيفات طيران حينما يختار موظفاته، فكلكن جميلات. شكرنني بخجل. بالواقع، لديهم زميل ذكر واحد خلافاً للمدير المحبوب، ولا يبدو أنه يحضى بأي شعبية، كما فهمت من كارلا، رغم أني لم أقابله.

جلسنا في مقهى قريب ومزدحم، لكن في مقاهيهم لا تسمع صيحات مفاجئة لشباب وتميلح سقيم ولفت انتباه. جلسنا وطلبنا، تذوقت كريب بالكريمة والفراولة من ألذ ما يمكن، بالإضافة إلى مشروب كاكاو رائع، بينما أخذت كارلا سلطة فاكهة وعصير. جلسنا نتحدث كثيراً حول تجاربها هي بالسفر. لقد سافرت عدة مرات إلى أمريكا، لزيارة أقارب في فلوريدا وللسياحة، ويبدو أن الكثير من البيروفيين لديهم أقارب هناك، والكل منهم يريد السفر إلى فلوريدا، ربما لأنها الأقرب ولكثرة البيروفيين المهاجرين فيها.
تقول بأنها أخذت معها طعام ذات مرة كهدية لأقاربها، وكادوا أن يغرمونها بالمطار، أعتقد أنها أتت بلحم مجفف، لكنهم اتفقوا معها على التخلص منه فقط. أخبرتها بأني لم أواجه مشكلة بالدخول بالتمر والحلوى التي أتيت بها، لكن ربما لأني لم أدخل بلدهم، رغم أنهم سألوني.
أخبرتها بأمر لاحظته في مطار ميامي ولم أتوقعه من قبل؛ لقد وجدت العاملين السود في المطار سيئوا التعامل والمواجهة، سيئين بشدة، بل كريهين إلى أقصى حد، فيما كان البيض ألطف وأرق بكثير، وأكثر تهذيباً وتعاطفاً وتفهماً، كما كان اللاتينيين كذلك. وجدت السود سوقيين، نافدي الصبر، غير متعاونين ومتعالين بشدة. اتفقت معي كارلا برأيي، فتجربتها كانت مماثلة.
كنا نتحدث وإلى جوارنا في المقهى الجميل رجل غربي، أمريكي على ما يبدو، وبدا لي أنه ينصت إلى محادثتنا. وكنت حينما ألتفت إليه يبتسم، ويحييني بهزة من رأسه، إذ أجده دائماً ينظر تجاهي، ربما لأني امتدحت البيض مقابل السود؟ اعتقد أنه البيض الأمريكيين يعانون من اهتزاز صورتهم على وجه العموم في العالم.
في الجهة الاخرى إلى جوارنا تجلس امرأة كبيرة بيروفية لوحدها، متأنقة بشدة، حالما غادرت كارلا كرسيها لشأن لها التفتت إلي وسلمت، وسألت من أين أنا بابتسامة، ثم رحبت بي وسألت إن كنت استمتعت في رحلتي. أعتقد أنها كانت تنصت إلى محادثتنا كذلك، وربما أصابها الفضول تجاه خلفيتي.
طلبت مني كارلا أن أقول شيئا باللغة العربية. قالت بأن صوت اللغة غريب. طلبت سماع أغنية في جهازي فخلعته وأسمعتها. قالت بأنها جميلة، وسألتني أن أترجم لها الأغنية.

خرجنا ومشينا قليلاً، تحدثنا عن رحلتي، قلت بأني سأعود حتماً في يوم ما، لكنها حثتني على زيارة بلدان أخرى كذلك. ثم أتت على ذكر العائلة التي قضيت ليلة لديها في جزيرة أمنتني، وضحكت متسائلة ماذا فعلت بهم؟ اذ أنها وصلتها أخبار اتصالهم بشأني على الوكالة المحلية في بونو وإرسال شكرهم. قلت بأني لم أفعل شيء صدقاً، وأني بالواقع أشعر بالأسف عليهم، وأخبرتها بقصة أمنية الأم بالذهاب إلى فرنسا، قلت بأني شعرت بالأنانية حينها، وتمنيت لو أمكنني تحقيق امنيتها.
ودعتها وأرسلت سلامي لعائلتها. شكرتها كثيراً على الهدايا، إنها بالغة الطيبة. عدت إلى الفندق، ووجدت مكان للهدايا بالكاد. ولم أكد أسترح قليلاً حتى اتصل بي استقبال الفندق، لأن السائق جاء ليأخذني إلى المطار.
كان السائق ظريف، لم يكف عن إلقاء الحكايات المضحكة طوال الطريق، والتحدث عن مشاريعه وآماله، ونظام الضرائب المتعب على الأعمال. حينما تراه، لو ألبسته ثوباً، لقلت بأنه من وسط نجد، من القصب ربما.

كنت قد قررت مفاجئة والدتي، فلم أخبرها بموعد عودتي. أختي بالطبع على اتصال بكارلا، وكانت تشك في أمري. حينما سألت كارلا أخبرتها بموعد قدومي، ولكنها أوصتها بأن لا تخبر أمي لأني أريدها مفاجئة لها.
بالواقع، لست أحب المفاجئات، لكني لم أردها أن تنتظر من جهة، ومن جهة أخرى لم أرد لأحد أن يتطوع لاستقبالي، كنت أريد أن أعود بنفسي إلى المنزل. ولا بأس إن جربت وفاجئت والدتي.
كانت رحلة الذهاب أطول بكثير من رحلة القدوم، لتوقفي في نيويورك لنصف يوم، وفي لندن لبضع ساعات. لحسن الحظ، وجدت أنه يمكنني دخول الانترنت مجاناً عن طريق جهاز الثري دي اس، جهاز الألعاب المحمول، وقد سلاني هذا قليلاً.
في المطار، وجدت الأشياء غالية جداً. الماء مكلف، وظننت بالبداية بأنه ربما هذه هي الأسعار في أمريكا. لكن امرأة أمريكية قالت للبائعة: "لماذا الماء غال هكذا؟ لابد أنها أغلى قارورة ماء في أمريكا". ربما الأجارات بالمطار الضخم هذا عالية جداً.
لم أعرف كيف أتصرف بالعملات المعدنية، ولم أفهم المبلغ المقصود حينما يقولون مثلا: نيكل. أخبرت البائعة في انتي آنز، محل يبيع فطائر أعتقد أن فروعه أغلقت بالرياض للأسف، حينما اخبرتني بالحساب، أني لا أفهم مالهم ولا أدري كم أعطيها من العملات المعدنية. وضعت ما معي على الطاولة، وأخذَت ما يكفي، وهي تريني قرش وتقول هذا نيكل.

جربت مكدانلدز في البيرو، ولم أجد فرق في البرقر عما لدينا، سوا أن الوجبة لديهم تكلف أكثر قليلاً. أما في المطار، ففضلاً عن أنها تكلف أكثر، كان البرقر أكبر بكثير مما لدينا على ما أعتقد، فوجئت بحجمه، لكن ربما لأن الناس هناك يأكلون أكثر بالعادة. لكنهم لا يعيدون تعبئة الكولا مجاناً، رغم أن أخي يقول بأنهم يعيدون، لكن ربما لأنه المطار والناس يطيلون البقاء فيه. من السهل أن تجد أناس نزقين في مطاراتهم. وكان رجل قد أحدث مسرحية لأنه اتهم امرأة بأنها سرقت دوره، رغم أني لا أعتقد ذلك، وكان صلفاً وتافهاً جداً.
عموماً سأحكي لاحقاً عن أمر المطارات.


حينما وصلت الرياض، استأجرت تاكسي لندن، السيارات السوداء غريبة الشكل التي جيء بها منذ سنوات إلينا. إن أفضل ما فيها هو أن السائق لن يزعجك، والسعر مدفوع سلفاً وواضح وإن لم يكن أرخص، لكن السيارة مريحة، والسائق مريح. مع أني أتمنى لو كان بالإمكان تحديد المنزل من المطار، حتى يصل إليه مباشرة، دون أسئلة عند الوصول إلى الحي.
وصلت في منتصف الليل. ولم أتوقع أن هناك من ينتظر. لم تبلغ أختي والدتي، لكن والدتي أحست بشكل ما فلم تنم، إنما بقيت في الصالة، على كرسي مقابل الباب. حينما دخلت رأيتها، وهجم علي الاطفال للسلام. دخلت إلى والدتي، التي أحتضنتني وهي جالسة، وشمتني، وقبلتني وبكت.
انتهت الرحلة، لكني لا أتخيل بأن أثرها سينتهي أبداً.
إذ، متى مر علي وقت في حياتي وقلت بأني حققت أمنية؟ ولو واحدة؟.



في التدوينة المقبلة، سأتحدث إن شاء الله عن مقتطفات ومتفرقات عن الرحلة، أمور لعلي نسيت ذكرها، أو أمور أحب أن أعلق عليها أكثر، أو ما يتعلق بالسفر وإن كان هناك أي نصائح أو أفكار قد تكون مفيدة بعد التجربة.




لا زالت الرحلة تؤثر بي كثيراً، لكن انشراحي انقضى بعد مواجهة الحياة هنا لبعض الوقت، شهر أو اثنين ربما. إني لا زلت أتكلم عنها كثيراً حينما أجد الفرصة، وقد بدأت أمي تكره ذكر البيرو للأسف.
نعاني من ظروف صعبة، ولكنها ليست جديدة، سوا أن الدراما مستمرة، والأحداث البائسة تتوالد وتتجدد. والدتي امرأة كبيرة، ولم تسترح بعد أو تعيش بهدوء رغم شيب أصغر أبناءها. وإن لم تعش أمي براحة، لا أعيش على نحو مختلف، إذ أن حياتينا مرتبطتين أكثر من سوانا. قلت لها قبل فترة بأني أتمنى لو استخرجنا هويتين جديدتين، واختفيت أنا وهي. أكملت وهي تتوقع ما سأقول: بالبيرو؟. هذا ما يأتي في أفكاري، لكني لم أعد أقول هذا في كل مناسبة حتى لا أزعجها، رغم أني أتذكر البيرو وأفكر بها كل يوم.
حينما نزل القليل من المطر قبل أيام، أخذتها إلى الدرعية، وهي جوار بيتنا، لنتنزه بالسيارة، وذلك بعد إلحاح مني واستحلاف.
رأينا بيوت في أعلى قارة، فقالت ما تقول دائماً عن حبها للجبال، وامنيتها في قضاء حياتها فوقها. أنتهزت الفرصة وأخبرتها بأنها عليها أن توافق وتأتي معي يوماً ما إلى البيرو، وترى جبال الانديز وأهلها، لن ترى أجمل من ذلك المكان أو أطيب من أهله.
لعل حبي للجبال موروث عنها، مثل أشياء أخرى كثيرة، أولها سوء الحظ، عسى أن يكون في الدنيا فقط، لا بالآخرة.





اتصل بي قبل فترة أحدهم، وكان يحاول إقناعي بالقيام بعمل لزملاء له، ولم يكن لي رغبة بالاحتكاك بزملائه صدقاً، إذ أني لا أبلي حسناً مع نوعيتهم، فأنا لا أحبهم. لم يتفهم، وأخبرته أمام إلحاحه المحرج بأني لا أقوم بأمر قلبي لا يرتاح إليه. حينما لا أفهم شيئاً، أحاول أن أتفهم، أن أقتنع بأسباب الناس الخاصة، لكنه لم يفعل المثل. قال ببساطة ووضوح في لحظة بأني ليس لدي شيء أقوم به سوا القراءة والكتابة وشرب الكولا. القراءة والكتابة وشرب الكولا، هذا كل ما يراه في حياتي. كوّن حياته، لم يردعه أي شيء عما يريد، اختار مسئولياته الخاصة وتخلى عما سواها لعقود، وهو الآن لا يرى شيء في حياتي المُعطلة سوا المتع القليلة التي أتمكن منها.
جرحني قوله أيما جرح، ورغم مرور الأسابيع إلا أن قلبي لا زال يدمي، تجاهل كل شيء على مر السنوات على هذا النحو، والسبب؟ مشاركته المسئولية مؤخراً في أمور محددة، كان يجب أن يقوم بها منذ سنوات، بعد إحراج وبعدما عجزت حقاً عن ملاحقة كل شيء.
يبدو أن أي شيء أقوم به لأجل نفسي سيحتسب ضدي؛ كنت أتخيل هذا منذ قبل سفري إلى البيرو، وأعتقد الآن أني محق، صار الناس يعتقدون أني أخذت أكثر مما أستحق ويكفي، وكأنما سرقت نفسي لبعض الوقت ويجب أن أعيدها وأكون رهن الإشارة، فلا حياة مختلفة لي يمكنهم تخيلها.
لم أقل شيئاً، ولا زلت أتصرف وكأنما ما قيل لم يكن شيئاً. لكني أشعر بالإنطفاء كلما تذكرته.


تتفكر أحياناً عن جدوى سنوات من صداقة مخلصة وصادقة أمحضتها لأحد ما، حينما تجد أن مجرد تغير روتين معين سينهيها. هل كانت صداقة فعلاً؟، أم كانت مجرد ظرف، وتغير.
إن مجرد كفك عن الزيارة مثلاً، مهما كانت ديدنك طوال سنوات، سيترتب عليه حتى الكف عن السلام عليك، مهما طالت السنوات التي بذلتها؛ بهذه البساطة. أو قل حينما يحدث خطأ بيّن في حقك، فإن الإعتذار وجبر الخاطر أثمن من أي معروف بذلته أو حسن نية أبديتها طوال سنوات، فلا يعطى لك، إن لم تُواجه بالإزدراء.
لقد عرفت أشخاص قدرتهم كثيراً، ومنهم شخص عمل معي، يشهد الله أني لم أعتبره أقل من أخ، وليس ككل الإخوة، إنما أخ اخترته أنا، مع ذلك، أشعر الآن بأني أخطأت التقدير على نحو فادح، لكن كان هذا قبل وقت طويل.
لا يدرك معظم الناس أن الدنيا أخذ وعطاء، ولا تستقيم الأمور بالأخذ فقط، والإتكال على طرف وحد، والاعتماد على حلمه وكأنما ليس لشيء حدود.

كذلك، يوجد من يضمن محبتك وتقديرك حتى يقدم عليك كل الناس حينما يجامل أو يسدي معروفاً، فهذا الشكل من الناس يتخيل بأنك حتى لو تسائلت فلن تقول شيئاً، لن تتخذ موقفاً، إنك، كما نقول، بالجيب، مضمون لا حاجة لك بأي مراعاة.
حتى تصل الأمور إلى الوقوف ضدك مجاملة ومراعاة لغيرك حينما تتعرض للظلم أو لخطأ في حقك، أو في أحسن الأحوال، وربما أندرها، الوقوف بالحياد موقف المتفرج.
لا تُراعى رغباتك كذلك، يتم إحراجك بورقة التقدير الشديد الذي تكنه لهم، فترغم على القيام بأمور لا تريد القيام بها، وحتى حينما تقول بأنك لا تريد يُضغط عليك، وذلك غالباً لصالح طرف ثالث لا يستحق حتى التفاتة بالاتفاق، لكنك بالجيب، وهو ليس كذلك، فتجري محاولة كسبه على حسابك وحساب شعورك.
تفكر بأن هؤلاء الناس يستحقون التضحية، لكن لكل شيء حدود، تجد نفسك مع الوقت غير قادر على الاحتمال، وتبدأ بالنأي بنفسك.




تفرجت مؤخراً على فيلم وجدة، للمخرجة هيفاء المنصور. وهو فيلم تدور أحداثه بالسعودية وإن يكن بإنتاج ألماني، حول طفلة وما يدور حولها من حراك اجتماعي، وتفردها بشخصية تعجب المزاج الغربي.
المخرجة شديدة الثقة في نفسها إعلامياً، إذ تجرؤ على الحكم بأن الفيلم يختصر المجتمع السعودي، حسب تصورها المتحيز طبعاً، إذ أنها هي كشخص لا تمثل النمط العام للسعوديين، بغض النظر عن مهنتها.

ولا يضيرني أمرها لولا أنها إنسانة على جانب كبير من الخبث. إنها تعرض المجتمع برؤية من يعرفه، لكنها تضيف بخسّة تفاصيل مزيفة تروق كثيراً للمزاج الغربي، وتشوه مجتمعنا على نحو افترائي ومبالغ فيه.
يتعرض المشاهد لتلك التفاصيل المختلقة على نحو مكثف في ثلث الفيلم الأول، وكسعودي وجدت نفسي مستغرباً من تلك الإضافات الخبيثة خلال عرض طبيعة المجتمع. يبدو في الفيلم وكأن الهم ونقطة الجدل في المجتمع هو منع الفتيات من أمور عادية، وهو أمر غير صحيح، فعلى سبيل المثال تصور هذه المخرجة للمشاهد أن الفتاة تمنع من قيادة الدراجة فقط للمنع، مع التلميح الوضيع، والحاط من الوعي الجماعي، على فهم المجتمع لطبيعة جسم الفتاة. بالواقع؛ لا تمنع الفتاة عن قيادة الدراجة لأجل المنع، ولا أتذكر، والله يشهد، أن فتاة في عائلتي الممتدة وأقاربي قد قيل لها أن لا تقود الدراجة، بل إن قريباتي كن يقدن الدراجات معنا، وكذا بنات الجيران في منازلهم. وكما تقول شقيقتي؛ إن الناس فقط كفوا عن جعل أبنائهم يخرجون للشارع للعب بعدما امتلأ البلد بالعمالة الاجنبية وصار الأمر غير مطمئن أو آمن. ولا شك لدي بأن المخرجة تعرف هذه الأمور فهي تعرض الكثير مما يدل على فهمها الذي لا تشوبه شائبة، لكنها، كما أرى؛ خبيثة وسيئة النية.
توجد نقاط أخرى مختلفة وعلى نفس المستوى من سوء النية واللؤم، لكن يمكن للمرء أن يراها بوضوح بلا إشارة؛ كالهوس بالبكارة، وتوقف رجل لتوبيخ الفتاة الصغيرة وابن الجيران في مرحلة معينة على نحو غريب، وبتناقض مع سياق الفيلم في باقيه.
إنها تعرض ما يريد الغرب أن يراه بوضوح، ولا أجد غرابة في ذلك، لكون المخرجة أساساً مدعومة ومرعية من السفارات الغربية حتى في حوادث أخرى سابقة خلافاً لهذا الفيلم، فلا عجب من هذه الوضاعة والنفاق.
لا يريد الغرب بالضرورة أن يرى الحقيقة؛ إنه يريد كل المبررات، أكانت سليمة أم لا، لتستمر رؤيته لنا كما هي. وبوجود أمثال هذه المخرجة بدسائسها في الفيلم، لا أرى سوا أنهم سيجدون المبرر للعمل ضدنا دائماً بضمير مرتاح، إن تواجد هذا الضمير أساساً فيما يتعلق بنا.
لا يهمني ما يراه الناس هنا بالفيلم بالدرجة الأولى، ذلك أن اللبيب سيرى الكذب مباشرة، أما الغبي فسيحب أن يصدقه، إذ يوجد الكثير من الناس ممن يريدون جعل الامور تبدو على أسوأ ما يكون في مجتمعنا، فقط لأنهم أغبياء ويحبون أن يظهروا بالمظهر الواعي المتنور. لا يخلوا مجتمعنا من نقائص ومشاكل مؤرقة، لكن تأليف مشاكل أخرى لا تمت بالواقع بصلة أمر فائق الخسة وضار جداً. نعم، إني غير راض عن أمور كثيرة، لكن الكذب وتحوير الواقع لنقد مجتمع ما يفقدني أي أحترام قد أكنه لمختلق تلك الأكاذيب.
لكن المخرجة عموماً لا تسعى لنيل الاحترام هنا، هي كمعظم أمثالها من المنغمسين بالرؤية الغربية للأمور، لا ترانا بالواقع شيئاً، إننا فقط يجب أن نعرض بالطريقة التي تبرر شعورها بالاختلاف والتفرد. ذكرني هذا بمقابلة أجرتها مجلة اسبانية مع أميرة من هنا، حيث راحت تتحدث عن الشعب بطريقة متعالية، وكأنها تشارك الغرب رؤيته لنا.
كما قلت، الفيلم موجه للجمهور الغربي، حتى الطفلة في الفيلم لها تلك السمات التي يقدسها الغربيون؛ كالوصولية، وازدراء العادات وعدم المبالاة تماماً بالدين، وحدة اللسان والوقاحة حسب ترجمتهم للجرأة والاستقلالية، وما إلى ذلك.
إني لا أنتقد المخرجة لأدافع عن قيَم معينة، فالفيلم أصلاً لا يعرض قيَم حقيقية في معظمه، إنما يختلق قيَم لا وجود لها ليشوه صورتنا، وهذا ما يشعرني بالقرف من مخرجة العمل وكاتبته هيفاء المنصور.

ما خطر في بالي بعد مشاهدة الفيلم هو حاجتنا لأشخاص ذوو مواهب حقيقية لصنع أفلام لا تحيد عن الواقع، ولا تهدف إلى تشويه صورة المجتمع، أشخاص ذوي نزاهة وضمير ورؤية؛ يمكنهم مناقشة مشاكل موجودة بالفعل، لكن يمكنهم الإسقاط كذلك على حتمية الاختلاف والتعايش، على احترام الاختلاف وميزة التنوع، على التعاطف.





يزورنا الأقارب من وقت إلى آخر، لرؤية والدي بالمقام الأول. لا أفضل أن يرى والدي سوا أقرب الأقارب، والمداومين على زيارته منهم، في حالته الصحية هذه. لكن، يواجهنا أحياناً سوء فهم غريب من البعض لهذا الموقف. قريب لنا أتى بشخص لا صلة قرابة له بنا، ولم يزرنا من قبل، وبالواقع، له نظرة فوقية تجاهنا وتجاه والدي في وقت سابق، إذ أن الكِبر يجري في دمه. لم يكن لدي خلاف أبداً على زيارة ذلك القريب لنا ورؤيته لوالدي، لقربه من والدي بغض النظر عن نظرتي له، لكن اتيانه بشخص آخر لا صلة له بالأمر ودون إبلاغنا جعلني أشعر بأن الأمر بالنسبة إليه فرجة. حاول أحد أفراد العائلة إفهامه أننا لا نريد لكل من يطلب أن يقابل والدي، وذلك احتراماً لحالته، لكنه لم يبدي فهماً. لحسن حظه؛ لم يصادف أن استقبلته مع أحد آخر، إذ أني لا يرف لي جفن حينما أقول بأن والدي لا يستقبل أحداً حينما أرى أن الأمر يتطلب ذلك. يستحي بعض إخوتي للأسف، وقد وقعت في موقف محرج حينما أخبرت قريب عزيز بأن والدي لا يرى أحداً، في حين طلب مني أخي الذي حضر لاحقاً، وهو يشعر بإحراج، أن أرى إن كان والدي قد استيقظ من النوم، رغم تفهم اؤلائك الأقارب لما قيل لهم مسبقاً، رغم أنهم صدقاً أصحاب حق لولا تردي حال والدي بشدة.
لكن ما أذهلني، هو حضور شخص لا أتذكر أني رأيته من قبل، وأجزم بأنه لم يزر والدي بالمنزل، وأجزم كذلك أنه يعرف حال والدي، ويعرف أن والدي على الأغلب لن يتعرف إليه. عرف بنفسه، وهو من أسرة أسمع عنها فقط، لكن لا علاقة لنا بهم، وقال بأنه يعرفني حينما كنت صغيراً، وتلطف بقوله بأني كبرت وتغيرت. الغريب كان وجود شخص آخر معه، من عائلة أقرب معرفة من عائلته، وقد ظل بالسيارة ينظر إلي دون أن يتكلف النزول والسلام أو حتى التأشير من داخل السيارة، وهو من نفس أسرة ذلك المتكبر آنف الذكر، فلا عجب. وجدت حضورهم غريب، ولا معنى له صدقاً. أعتقد أن الأسلم دائماً في مثل هذه الظروف هو الاتصال على أهل المريض وسؤالهم عنه، لا مداهمتهم فجأة وبلا صفة. أخبرته ببساطة بأن والدي لا يستقبل أحداً، وكنت قد وجدته أصلاً يتحدث مع أحد أطفالنا ممن فتحوا الباب وعلى نحو لم يشعرني بالارتياح، ويبدو أنه سأله عن تفاصيل، مثل من يتواجد بالمنزل من الرجال ومن لا يتواجد. سأل عن حال والدي، وسأل عن إخواني، وقال بأن أنقل سلامه لوالدي، هو وفلان القابع بالسيارة، وسألني إن كنت أعرفه، يقصد القابع بالسيارة، قلت بأني أعرفه، وكرر سؤاله وهو يشير تجاهه ربما ثلاث مرات، يريد مني أن أنظر في تجاه الرجل، لكني لم أنظر، إذ قلت فقط بأني أعرفه. إنه لا يرى لي قدر كرجل جاء هو إليه ضيفاً حتى ينزل من السيارة ويسلم، إذا هو لا يستحق حتى النظر. صمت الرجل محتاراً، لا يبدو أنه فهم لماذا لن أنظر تجاه ذلك الأحمق، وهذه غفلة غريبة. بالواقع، والدي لن يعرفهم مهما قلت. سأل قبل أن يمضي إن كان هناك أحد آخر بالمنزل من إخواني، وهو سؤال لا أدري ماذا يريد منه، لكن لعله للتحقق من معلوماته التي استخرجها من أحد أطفالنا كما أسلفت، ورغم وجود أحد، إلا أني قلت لا يوجد سواي، فما شأنه؟ خصوصاً أنه رفض الدخول للمنزل.
لا أتصور أن أحد فتح هذا الباب علينا غير ذلك القريب صاحب فكرة الفرجة على ما يبدو، فحتى أقرب الأقارب الذين لا شك في حبهم لوالدي يتفهمون جيداً حينما يقال لهم أن رؤيته غير ممكنة. إن حال والدي ليس محل مجاملة، وما أتصور بأنه يريده لو كان في تمام عافيته سيكون، فلا أحد يحب أن يُرى ويجالس بالحال التي هو عليها، سوا من أهله ومن داوم على زيارته طوال الوقت ويعرف حاله جيداً ويتفهم، وهؤلاء فقط هم من يسمح لهم برؤيته دون تردد أو تفضل، فهو حقهم، بل إني أشعر بالامتنان لوصلهم وإصرارهم على رؤيته ومجالسته، فجزاهم الله خير الجزاء.




سعد الحوشان