الأربعاء، 15 يونيو 2011

حينما ينزل الله المطر...(ألماني،قصائد،أحداث)

 بسم الله الرحمن الرحيم





يبدو لي أحياناً بأن لحياتي إرادة مستقلة، تتصرف بمزاجية. تفرغ من الأحداث إلى درجة العقم لفترة طويلة، لتتولدها توائم بفترات حمل لا تكاد تذكر.
هذه الأيام هذا ما يجري معي، الكثير مما يجب أن أقلق لأجله أشد القلق، أو أتفائل به، ولي الاختيار، ولا حاجة لذكر ما اختار بطبيعتي.





حينما ينزل الله المطر...
تتلاشى أحزاني على وقع القطر...
وقد كان مقصوداً أن خلقت في مكان إليه يفتقر...
أعلم بأن الله جعل هذه أرضي...
لأن الحزن والأسف يرفعني...
واليأس يبصرني...
فقلبي المشطور...
المحزوم كهدية بشريط...
صار يأبى المخيط...
فما الفرق إذا ظل في كل حال مفطور...
إذ القدر حولي كالكفن التف...
فلم أعد سوى وقف...
سخرة...
مسلوب الإرادة...
كمكينة أنى لها أن تعرف معنى السعادة...
كضرير أضاع دربه...
وتاه في حشد أبكم وأصم...
وللوحشة استسلم...
ولما يلقى إليه من صدقات القلوب...
والتعاطف المسلوب...
من غرور مغلوب...
ليعطى إلى كبريائه المسكوب...





هذا الشهر مزدحم بمواعيد أمي على نحو لا يصدق. لا يخلو اسبوع من موعدين على الأقل. لكن ليست كلها في المستشفى الجامعي لحسن الحظ. اثنين في مدينة الملك فهد الطبية، بقي واحد منها. إما أنه سيكون نفحة من الأمل والشعور بالكرامة هذا الموعد، أو فقط تذكير مؤلم بما علينا أن نتعامل معه دائما من سوء حظ في المستشفى الجامعي.


كنت قد اتفقت مع الدكتور الألماني على اللقاء قبل أكثر من اسبوع في موعدنا المعتاد. لكنه اتصل وقال بأنه زميله، دكتور سعودي، طلب منه وألح أن يحضر اجتماع لمجموعتهم البحثية في البر، وقد أخبره الدكتور الألماني بأنه على موعد في الثامنة، فوعده بأنه سيكون في منزله في السابعة والنصف. علمت أن الدكتور تعرض لخدعة، فلن يعيده من البر في المساء في وقت العشاء، لقد خدعه ببساطة ليأتي، دون أن يهتم بخططه وما يريد هو. وكان ما توقعت؛ اتصل بي الدكتور معتذراً في وقت لاحق، قائلاً بأنه لن يتمكن من العودة، إذ أنهم سيبقون للعشاء. بدا مرهقاً، وغير سعيد بالأمر.
في الأسبوع التالي، بدا أن الحظ لم يكن حليفي أيضاً، في البداية. كان الدكتور سيسافر يوم الأحد، ولكنه قدم سفره إلى الجمعة، ولقاؤنا تم خلافاً للعادة يوم الخميس، أي أنه لن يمكننا أن نطيل البقاء كما حدث في المرات الأخيرة. علمت بهذا حينما التقيته، وقد ضاع بعض وقت اللقاء بإحضار سيارته من المغسلة.
جلسنا في المقهى وتحدثنا، كان سيذهب إلى أمريكا، وكان لدي ما أريده أن يحضره لي من توافه. حينما جاء الحساب، رفض كالعادة تركي لأدفع، متجاهلاً إلحاحي. كنت أساساً متوتر وغاضب لأنه سيعود إلى منزله باكراً وقد كان جلوسنا الذي انتظرته قصيراً، ذلك أنه ترك عاملاً ليصلح بعض الأمور هناك. احتجيت وألحيت بالاحتجاج، فحاول أن يفهمني بأنه كوالدي، وأني يجب أن لا أقلق لأمر الدفع، سوا أن قلقي ونزقي واستمرار احتجاجي جعلاه يقول إرضاء لي أخيراً بأنه سيتركني أدفع في المرة القادمة. ثم اتصل العامل، وقال بأنه فرغ من عمله؛ فقال الدكتور بأنه يجب أن يعود، مما أعاد احتجاجي مجدداً. قلت بأني لم أره منذ اسبوعين وهاهو يغادر باكراً، قلت هذا وأنا أفكر بنقمة بذلك الدكتور السعودي النصاب الذي أفسد خطتنا الاسبوع الفائت بأنانيته. ضحك وطلب مني أن لا أحتج، ولكني كنت متضايقاً فعلاً، فلم أسمع، وألحيت بالتذمر. حتى قال مراعياً بأننا إذاً سنذهب معاً إلى بيته، ونكمل أحاديثنا هناك. سعدت بالأمر، لأول مرة سأرى بيته. كنت أتخيل بأنه مكان فوضوي نوعاً ما وشديد البساطة. كان بسيطاً بالفعل، لكنه كان أنيقاً وجميلاً ومرتباً من الداخل، بإضائة صفراء وأثاث قليل ولكن أنيق، وأرضية خشبية فاتحة، مثل غرفتي، مع فارق أنها خشبية حقاً، وليست فقط بشكل الخشب. جلسنا نتحدث، كنت سعيداً وقد تحسن مزاجي. طلب أن أقرأ له آخر قصائدي، فوجدها معقدة وطلب إعادتها، ثم طلب إرسالها إليه ليتمعن بها أكثر. وتحدثنا عن أبنائه، ونحن ننظر إلى صورهم الفنية الجميلة. كلهم مثله؛ جميلو الخلقة. جرنا الحديث إلى مسرحية ابنته، التي تحدثت عنها في المدونة في وقت سابق، وعلمت بأنها موجودة على اسطوانة فطلبت أن يحضرها لي حينما يذهب إلى هناك. ثم فطنت، قلت بأنها ستكون بالألمانية، فلن أفهم شيئاً. قال بأنها بأربع نسخ، بأربع لغات. الانقليزية، والفرنسية، والألمانية، ولغة أخرى اسمها الرومانش. قلت: آه، هذه اللغة التي تتحدثها أقلية قرب إيطاليا في سويسرا، ويخاف الناس عليها الآن من الضياع؟. اقطب وقال نعم. واعتدل من جلسته المسترخية، وتسائل كيف أعرف هذه المعلومات؟ وامتدحني على نحو لا أستحقه، إذ كانت معرفتي لها صدفة. قال بأني أذهله باطلاعي، وتساءل كيف يعرف أحد في السعودية عن هذه اللغة المجهولة. أخبرته بأنها مصادفة، هذا شيء يقرأه المرء ويعبر به. مثل هذه اللحظات تحرجني، وتشعرني بأني متظاهر دون قصد، فحينما تقول معلومة صغيرة يحسبك الناس تعرف الكثير، وهذا أمر محرج.
تحدثنا حول أمور كثيرة، ورأى المدونة. يقرأ بعض الكلمات العربية، لكنه لا يفهمها، ويقرأها بلكنة مصرية، يجعلني الأمر أريد أن أضحك أحياناً.

بعد بعض الوقت، قررت الذهاب لأتركه يرتاح. خرج معي، وفي الطريق سألته إن كان الدكتور السعودي قد اعتذر منه في الأسبوع الفائت عن كذبه عليه. قال بأنه لم يعتذر فعلاً، قال فقط بأنه آسف ولكن أليس الجو والمكان جميلاً؟. مما أثار حنقي بشدة، إذ تأكد لي أنه كان ينوي منذ البداية إحضار الدكتور معه وعدم إعادته في الوقت المناسب، وهو يظن بأن التجربة التي يقدمها أهم وأفضل بالتأكيد من خطط الدكتور الأخرى (أنا بالواقع). قلت وقد عصبت بأن هذا شخص مخادع، فقد كانت نيته منذ البداية أن يأخذه ولا يعيده بالموعد، فهو لن يتعب ويكلف نفسه، وبنفس الوقت يظن بأنه صنع به معروفاً، بينما هو صنع معروفاً بنفسه بالواقع، هو ككثير من الناس هنا لا يهتمون بما يريده الآخرين، يهتمون بتنفيذ ما يريدون فقط حتى لو كذبوا وأسائوا لخطط الناس ورغباتهم. لقد كان ينوي أن لا يعيده منذ البداية، ويحسب بأنه يصنع خيراً هكذا مع ذلك. قال الدكتور بأنه يعتقد هذا، وأنه تضايق كثيراً بالفعل، وأنه على الأغلب لن يصدق مرة أخرى أو يلبي مثل هذه الدعوات. قال بأنه لا يحب هذا الجانب من الثقافة هنا؛ عدم المبالاة بظروف الآخرين طالما يريد المرء شيئا محدداً منهم. 

كنت قد سألته عن شخص رأيته معه بالجامعة، عربي، وقال بأنه زميل في القسم. سألني إن كنت لم أرتح إليه؟. قلت بأني لا أرتاح عموماً للدكاترة العرب، منهم السعوديون، لكن يوجد فارق. حيث أني حينما جئت إلى الجامعة كنت أحسب بأن التصرف على الطبيعة واللطف مع جميع الناس هو شيء جيد، لكن، وجدت أن الدكاترة العرب بعمومهم حينما تكون لطيفاً معهم فهم إما سيسيئون بك الظن ويحسبونك تريد منهم شيئاً، أو يسيئون النية تجاهك ويفهمونك على نحو خاطئ فيحاولون استغلالك، بسوء أحياناً. أما الدكاترة السعوديون فهم لن يلاحظوا وجودك أصلاً. وأخبرته بأني لهذا صرت أتجنبهم بشدة. قال بأنه يقدر ما أشعر به، لكن يجب أن أتغلب على مشاعري السيئة هذه.





في المقابل، قابلت همام، الصديق الصيني الصغير، ليريني الصور التي التقطها في لبنان، حيث ذهب إلى هناك في الإجازة الأخيرة للسياحة. لست ممن يشاهدون التلفاز تقريباً أبداً، ومع أني أرى الصور على الانترنت والمجلات والجرائد، إلا أني لم أهتم من قبل برؤية بلد عربي بتمعن على وجه الإجمال. صحيح أن لبنان وأهلها أكثر قبولاً لدي من سواهم، خصوصاً من جيرانهم، إلا أن اهتمامي بعيد عن بلدهم كل البعد، ككل البلدان العربية، مع استثنائين؛ اليمن وعمان. مع ذلك، وجدت أن همام، وهو مصور موهوب، قد التقط صور لأماكن لم أتخيل وجودها في لبنان. إنه ليس شيء غير معقول من حيث كمية الخضرة مثلاً، لكن من حيث التكوين الطبيعي والإرث الإنساني. رأيت شلالات جميلة جداً هناك، تهبط من أنهار إلى هاوية الوادي السحيقة، وحول النهر في الأعلى وحتى الحافة الصخرية المحيطة بالشلال، توجد بيوت قرية جميلة.




يوجد أثار جميلة كذلك، لكني كنت أعلم بوجودها ونوعيتها. الأسواق البسيطة والأرصفة الأنيقة على نحو غير متكلف أعجبتني جداً أيضاً. لا يوجد شيء استثنائي جداً باستثناء المساقط المائية والأودية الحجرية الجميلة التي تعتليها القرى حتى الحواف، حيث يبدو المكان جميل ومريح للعيش فيه، ولكن ليس أعجوبياً تماماً.
لست أقول بأنها لا تستحق الزيارة، لا، الآثار جميلة جداً، والمدنية راقية، والقرى بديعة، والناس حسب معرفتي ووصف همام طيبون.
بعض الممرات المحاطة بالمقاهي هناك ذكرتني بصور الأحياء التاريخية في الصين، وقد قلت هذا لهمام، ووصفتها بأنها الشوارع التي يجلس الناس في أطرافها على طاولات، ويلعب المسنون على الطاولة لعبة بأقراص صغيرة، قلت: تسمى: الماجونق. صمت متفكراً؛ ثم هتف: آآآه الماجيونق، ثم نظر إلي نظرة جانبية بعينيه الصغيرتين المليحتين وهو يبدي إعجابه بمعرفتي!!. 
بالطبع، لا أعرف كيف أكتب اسم اللعبة كما نطقها همام، حيث أن نطقي، وهو المكتوب على لساني أعلاه، ثقيل ظله بالمقارنة إلى أقصى حد، بينما يقولها هو بطريقة الصينيون التي لا أعرف كيف أترجمها إلى أحرف عربية، مع شعوري بأن خبير باللغة قد يستطيع كتابتها. تخرج الأصوات من مقدمة الوجه في الكلمة كلها، وفي معظم اللغة المندرية حسب فهمي، باستثناء حروف حلقية كالهاء، وحرف الخاء. ولكن ككل، يبدو وكأنهم يتكلمون من منطقة وسيطة بين الأنف والفم، أو وكأن الأنف والفم يتناوبان نطق الحروف المختلفة في الكلمة الواحدة.

أراني كذلك صور وفيديوهات التقطها في الجنادرية، خصوصاً للأوبريت، الذي لا يمثل الفلكلور بدقة بقدر ما أنه رقصات وأزياء مصممة للإستعراض والإذهال البصري. كان مهتماً بمعرفة انتماء الازياء إلى المناطق، والرقصات كذلك. وكما أعتقد منذ زمن بعيد، الرقص الجيزاني هو الأجمل، وقد وافقني همام
تكلمنا عن مناطق السعودية، وما يستحق الزيارة. سألني عن أكثر ما أحب من مدن السعودية أو مناطقها، هل هي الرياض؟ قلت بأني أحب الرياض حيث عشت طوال حياتي. لكني أحب القصيم أكثر. سألني لماذا؟ الهواء هناك طيب، والنخيل كثير، وأنا من هناك أصلاً. قال بأنه زار القصيم وأعجبه، كان قد ذهب لمساعدة وكالة الأنباء الصينية على تغطية مهرجان التمور السنوي في بريدة. وقال بأنه زار المزارع، ورأوا نبتة تزرع، يسمونها باللغة الصينية تساتسو أو  شيء من هذا القبيل. حسب وصفه، شعرت بأنها الكراث، ثم تأكدنا باستخدام الأجهزة للترجمة بأن ما رآه هو الكراث. أخبرته عن النكات المتعلقة بالكراث، واتهام أهل القصيم، خصوصاً النساء، بأنهم مدمنون عليه.



تفرجنا على الصور ثلاثية الأبعاد التي التقطتها بالثري دي اس، جهازي الجديد. وقد أعجبته جداً. إن الصور الثلاثية الأبعاد تعطي بعداً آخر للإبداع بالصور، وأعتقد بأنها ستصبح مقياسية قريباً جداً في الأجهزة




سأدعو الأصدقاء إلى العشاء في المنزل، كما فعلت في العام الفائت، وهم نفسهم باستثناء واحد. ذهبت الدكتور الصيني الكبير إلى بلاده، وسيحل محله خالد؛ صديق همام والمسلم الجديد. وبالطبع الدكتور الألماني الكبير وكذلك الألماني الأصغر. والتركي.





اليوم رأيت الدكتور التركي، الذي عاد مؤخراً من تركيا لينهي إجراءات خروجه النهائي من السعودية للأسف. إنه أمر حزين أن نخسره. يقول بأنه تعب من تعقيدات الخروج والعودة من وإلى البلد، الكثير من البيروقراطية، وإن خرج يخاف أن لا يتمكن من العودة، وإن عاد يخاف أن لا يتمكن من الخروج. وإجراءات الجامعة المتخشبة، وأعتقد أن عائلته كذلك لم ترتح في المكان تماماً. خسارة... كنت أرجو أن أصادقهم جميعاً، وقد حضيت بقبولهم، وثقتهم.
أوصلته إلى منزله، وكان مصراً على تقديم شيء لي، أراد أن يدعوني لأكل حلوى، لكن الوقت كان ظهراً والمحلات مغلقة. أراد أن يكافئني بأي شكل رغم أني لم أقم بشيء. أخبرته بأني أرجو أن تتأخر إجراءاته أكثر قليلاً، ليتمكن من حضور دعوتي لأصدقائي إلى العشاء. المرة الفائتة لم يتمكن لأنه كان مدعواً لدى السفير التركي.
يسألني دائماً؛ متى ستزور اسطنبول؟. مثله في ذلك مثل الأساتذة الماليزيون، الذين يسألونني متى سأزور ماليزيا دائماً، ويحاولون إقناعي بترتيبهم لزيارتي. أحدهم اقترح ذات مرة أن أتزوج ماليزية. ولما ظن أني أخذته على أنه يمزح أوضح جديته. أخبرته بأن الماليزية قد لا ترغبني، فلست أملك الكثير من المال ولا أعمل في وظيفة كبيرة. قال بأن الماليزيات لا يهمهن المال، إنهن يردن حسن الأخلاق، والشكل(الله لا يعمينا). كانت مجاملة كبيرة. شكرته عليها. هو شخص في قمة اللطف، وكذلك بقية الأساتذة الماليزيون. إن فيهم لطف ورقة في التعامل تستعصي على التصديق.





ذهبت إلى دايسو بصحبة أختي. لكننا استمتعنا بوقتنا، ولسبب ما لم تقترح أختي الخروج بسرعة من المحل رغم أني أعلم بأنها ملت. اشتريت الكثير من الأشياء، أشياء أعتقد أنها مهمة، علب للماء، وحافظات برودة، ورداء نايلون عن المطر، وأشياء من هذا القبيل.


يومين ويعود الدكتور الألماني إن شاء الله من أمريكا.


غداً سنذهب إلى مدينة الملك فهد الطبية، ورغم الزحام والطريق المتعب، ووقاحة الأمة في طريق خريص، إلا أني أشعر بالانتعاش للفكرة، وما العيب؟ أحب أن أشعر بالكرامة هناك، بعد الإذلال الدائم في المستشفيات الجامعية. إن الذهاب إلى المستشفى يشكل حدثاً في حياتي وأمي دائماً، مهما كثرت المواعيد وتقاربت.

وبذكر المستشفى، رأيت رجل من أنصاف المطاوعة على ما يبدو، وهؤلاء نوع أسوأ مما يبدون عليه، لأنهم حائرون بالمنتصف، ويصعب التفاهم معهم لأنهم يريدون إيصال صورة غير واضحة عن أنفسهم، وربما غير واضحة بالنسبة لهم أيضاً، بخلاف المطاوعة. هذا الرجل أوقف شاب من النوع الذي يعقص شعره على نحو غير مستحب هنا، وإن كان منتشراً كثيراً هذه الأيام. ولا خلاف لدي لو كان أوقفه بعيداً عن الناس، وحاوره بأدب، ونصحه بما بدا له دون جرح، ناهيك عن فضيحة. الرجل أوقفه أمام مسجد المستشفى، وجعل يناقشه على نحو لافت ومحرج، ويقول له: أنت مسئول، أنت منت بدادا! (لست طفلاً صغيراً). بينما الولد يحاول أن يفلت من الموقف المحرج وقد تجمع وجهه بيأس وخزي مؤلم لمن ينظر، كان الناس كثرة في المكان. كان الإمام قد أقام، والرجل لا زال يحاول أن يفضح بالولد أكثر. شعرت باشمئزاز شديد. أنا أيضاً لا أحب هذا الأسلوب، عقص الشعر المائع برأيي، لكن هل هو جريمة؟! والمشكلة أن الولد كان قادم للمسجد بوضوح، فيرجى فيه الخير والله حسيبه. لم أكن لأنصحه حول شيء لا أدري هل هو حرام أم حلال، ولو كنت أعرفه جيداً، لو كان أحد أصدقائي، لربما تكلمت معه على مستوى الثقافة التي تتبدل على نحو غير محكوم ومقلق، فالأمر شخصي. لكن، حتى هذا أمر قد لا أقوم به إلا في مستوى معين من المعرفة بيننا، وبظرف ضيق أيضاً. بدا الرجل الذي استوقف الشاب الذي يرد بضعف ويحاول إنهاء الأمر غبياً إلى أقصى حد، ولكن واثق أيضاً بنفسه كنموذج يحتذى. بعدما صلينا، رأيت الولد، ورأيت الرجل يصلي، إذ فاتتهم ركعات مما يعني أن النصيحة الفضائحية، التي قد لا يكون لها داع حتى، قد طالت وكانت حول أمر أهم من الصلاة نفسها بالنسبة للرجل على ما يبدو. ماذا كان يضر لو انتظره حتى بعد الصلاة ومشى معه بودية ولطف خارج المسجد، إلى حيث يريد أن يذهب، ليعطيه وجهة نظره إن كان مخلصاً لمبادئه إلى هذه الدرجة؟. نظرت إلى الرجل ذو اللحية المشذبة وأنا أخرج، وشعرت بأنه يبدو وهو ساكن أكثر بلاهة حتى مما بدا عليه وهو يشير إلى شعر الولد.
أنصاف المطاوعة هؤلاء عانيت منهم في حياتي كثيراً. هل تريد أن تعرفهم؟ إنهم غالباً من ينصحون حول شيء وهم يقومون بنفس ما يعتبرونه خطأ، وحينما تقول لهم ولكن أنتم تفعلون هذا يقولون: طيب إذا كنت أنا كذا تصير مثلي؟!. أو؛ ينهون عن شيء، ثم بعد فترة يقومون به نفسه.



 عرفت أن سوق العثيم مول على الدائري يسمح بدخول الشباب على ما يبدو. كنت أريد شراء بعض النواقص التي فكرت بها بعد المرة الأولى في دايسو. سعدت بالأمر بصراحة، لم أتجول في السوق، ذهبت رأساً إلى المحل، ولكني كنت سعيد بأنه لم يعترضني أحد. اشريت عدسة صغيرة، تثبت فوق الورق لتجعل الأحرف أكبر وأوضح. اشتريت اثنتين، واحدة لأمي، والأخرى للمدير الذي يواجه مشاكل مع الأحرف والأرقام الصغيرة طوال الوقت، ويستعين بمكبر وكأنه محقق، دون فائدة أحياناً. أمي كالعادة قالت بأنها لا تريدها، لكني تجاهلت الأمر وتركتها قرب سريرها، فقد تغير رأيها لاحقاً. أما المدير، وهو شخص حساس جداً تجاه ما يأتي به الناس، ومحب للأشياء التي آتي بها إليه وأريه إياها بالعادة، فقد قلت له بأني أحضرت له شيء سأبيعه عليه. ابتسم ودخل مكتبه مباشرة لأريه إياه. أريته، وفككت الغلاف وأعطيتها له وأريته كيف يستخدمها. لم أره سعيد إلى هذا الحد منذ زمن بعيد. كان فرح وجذل، لعل معاناته كانت أكبر من تصوري. سألني عن السعر، فقلت بأني سأبيعها عليه بريالين. حاول معرفة السعر الأصلي، فقلت بأنه لا يدخل محل ويسأل البائع بكم اشترى بضاعته، حاول معرفة السعر ولكني تمسكت بسعري الذي حددته فاستسلم، لكنه لم يدفعها بعد، وأرجو أن ينسى أمرها فهو كثير النسيان أصلاً. كانت بسبعة ريالات، ولكني أحب أن أهديه إياها، ولكن هذا مستحيل، ولو قلت ريالاً سيكون الأمر مفضوحاً وأكثر ابتذالاً. ريالين أقرب إلى الهدية والبيع المقنع.








سيارتي أصبحت جيدة أخيراً، صارت تعود إلى الوراء. لكن يظل هناك إشكال المكيف والكوابح. حينما ذهبت إلى الوكالة، عبداللطيف جميل، للحصول على قطع الغيار، قيل لي أن الموظف المسئول عن ديهاتسو قد غادر. ليست أول مرة يحدث الأمر معي، فهذه الشركة لا تشكل أولوية على نحو غريب للوكالة عكس تويوتا، وكأن زبائنها أقل أهمية، يأخذون السيارات صدقة بلا مقابل على ما يبدو. قيل لي أن دوامه أقصر، لهذا يرحل باكراً ويبقون هم. أما أنا، فيجب أن أعود بما يوافق دوام الموظف الخاص.

كم أكره هذه الوكالة المريضة.



عاد الدكتور اليوم، أبلغني برسالة. هذا الخميس إن شاء الله سيتعشى مع الأصدقاء الآخرين لدينا.



شعرت بالمرض في بداية هذا الأسبوع، وقد أغاضني الأمر لأن دعوتي للأصدقاء الأجانب في نهاية الأسبوع، رجوت الله أن لا يطول مرضي، وكافحته بشدة والحمد لله أجد أني بخير معظم الوقت. كحة وألم بالصدر والحلق وشبه زكام. العسل الجيد ممتاز في هذه الأحوال، لدي عسل فرنسي آكل منه ملعقة، وهو مدعم بالهلام الملكي، بينما العسل الآخر، سويسري الصنع، وهو بلا إضافات، أحلي به مشروب القنسنق، كما أشرب عند الضرورة البابونج بالعسل والفانيلا. هذه الأشياء تشعرني بالارتياح وألاحظ تحسني بعدها. لكني اشتريت حبوب كلارينيز زيادة في الاحتياط.
إني قلق جداً فيما يخص الدعوة. أرجو أن يستمتعوا بها وبالطعام.





هذا مقال عن أهل القصيم عموماً وأهل بريدة خصوصاً. وهو مقال جيد، في ظل سوء الفهم والتدليس الذي يسعد بعض الناس بترديده دون تبيّن أو تفكير (تفكير؟ هه).
http://www.al-jazirah.com/20110615/ms5d.htm





المزاج والرأي، عجيب تقلبه. أحياناً أجد نفسي فجأة معجب بشيء لم يكن يعجبني، والعكس صحيح. موسيقى مثلاً كنت لا أحبها، لكن الآن حينما أسمعها أشعر بأنها معبرة عن مرارة الغربة والاستوحاد، فأصغي إليها بشعور عميق. الكاتب زياد الدريس، بدأت بفقد اهتمامي بمقالاته، بعدما كانت تعجبني. حدث الأمر تدريجياً. أعجبني في البداية مقال له، ولا زال يعجبني، لكن مقالاته الأخرى بدأت تفقد بريقها، وبدأت أدرك أنه لا يكتب عموماً عن ما يهمني، وربما لا يكتب دائماً بالجدية المطلوبة. لا زلت معجب ببعض ما قرأت، ولم يتغير رأيي بالمقال الذي أعجبني في البداية، لكني وجدت أن انتظار مقال آخر بنفس الجودة منه مضيعة للوقت في قراءة مقالات لدي عليها مآخذ من حيث السخرية الزائدة والتبسيط الممجوج مع الإيحاء بعمق التفكير والتفرد على نحو لا يعجبني. أعتقد أني اكتشفت بالنهاية أني أُخذت مخدوعاً بأسلوب شخص هو مجرد دكتور سعودي بالنهاية، حاز على تدليل المجتمع كجميع أقرانه أو أكثر قليلاً، وخالط الأشخاص الملائمين لصعوده المهني، واكتسب الموهبة من راحة البال، وربما اكتسب طريقة تفكير مميزة بشكل ما، إلا أنها لا تعجبني. أي؛ دكتور سعودي في النهاية وجوهرياً، لا أكثر، أو ليس أكثر بكثير، فرح بنفسه، سعيد بمنصبه المميز، وعيشه في باريس. كنت أعتقد أنه محظوظ.





يصل الناس إلى المدونة كثيراً بطرق غريبة. توضح لوحة التحكم في الإحصائيات طريقة وصول الناس بقدر الإمكان. تعرض أحيانا ما كتبوه للبحث عن شيء ما فوقعوا على المدونة ودخلوا من النتائج. أحيانا تكون أشياء لا علاقة لها إطلاقاً، وأحياناً أشياء يتذكر الناس على نحو غامض على ما أعتقد أني كتبتها ويريدون العثور مرة أخرى على النص. وأحياناً أشياء مخجلة يبحثون عنها فتخرج مدونتي في النتائج لتوافق كلمة فيأتون. وأحيان أخرى يبحث عن اسمي فقط، وهذا شيء يتكرر كثيراً، أو عنوان مدونتي، ويوجد من يبحث باستمرار عن: آخر ما دون سعد الحوشان. رغم أن آخر ما دونت لا يظهر بالضرورة في النتائج، لكن ربما يتمكن من يبحث من الوصول إلى آخر ما قلت بالرجوع إلى الارشيف.
أما أغرب ما بحث عنه أحدهم، وكان لبحثه علاقة فعلية بي بحكم ورود اسمي؛ فهو ما لفت انتباهي اليوم، لأني لم أفهمه، أو أفهم المقصد.
كتب من بحث عني يقول: سعد الحوشان لا اعرف كيف اقول لك انك كالماء.
هذه جملة مفيدة غير معتادة، وغير مفهومة. والبحث تم في نطاق قوقل السعودي. هل كان يبحث عن قولي لهذه العبارة؟ لكني لم أذكر شيء مشابه. أو هل كان يبحث هكذا لأنه عرف سابقاً بأني أحب الماء والتحدث عنه؟، لكن لماذا تكون العبارة بهذا الشكل الموحي بغير ذلك. أو هل يريد أن يكتب هكذا، لأنه خبير ويعرف فكرة رؤيتي لنتائج البحث، ليوصل إلي رسالة بشكل ذكي جداً؟ لكن؛ على أن هذا الأمر غير وارد، ولأني لا أعتقد أن هناك من يهتم بإيصال رسائل غير مباشرة، كما أن الوسيلة غير مضمونة إنما على جانب من اللا معقولية، وكأنها محاولة يائسة، مع أنها نجحت بالوصول، رغم كل هذا إن كان الأمر مقصوداً كرسالة فهو غير مفهوم تماماً.







كان أمس يوم منتظر، إذ استقبلت ضيوفي أمس في منزل أختي، للمرة الثانية. كان هناك ما لذ وطاب، ولا شك لدي بأن الجميع استمتع، لكني لا أدري لماذا أشعر بأن التجربة ناقصة، وليست بكمال الأولى العام الفائت.
استمتعنا عموماً بوقتنا جيداً، تحدثنا كثيراً وأكلنا وشربنا كثيراً. محمد ابن اختي ارتدى الثوب كما طلبت، وجاء ليسلم. كان خجلاً هذه المرة. أحضر الدكتور الألماني الدمية المضحكة التي طلبت منه أن يشتريها لي من أمريكا. ولكنه أخطأ بإخراجها بوجود محمد، قلت ضاحكاً (كانت صيحة بالواقع انتهت ضحكة) حينما أخرجها وضغطها لتتحدث: اوه يا دكتور ما كان عليك إخراجها بوجود محمد، الآن سيأخذها مني. فوجئ الدكتور، وقد تناولت منه الدمية، فجاء محمد مباشرة وأخذها مني سعيداً بها. ضحك الجميع، وطمأنت الدكتور أن محمد سيشاركني بها فقط (!!)، إذ لدي دمية في المنزل على شكل ضفدع منذ سنوات (أقرب إلى وسادة صغيرة بالواقع)، وهو يلعب بها لدي. ذهب محمد مباشرة ليري أمه الدمية، التي تغني وتتكلم بالخرابيط وهي تفتح فمها المستدير المضحك فتبين أسنان صغيرة مليحة.
كان هناك الألمانيين الاثنين، وهمام وخالد الصينيون، والدكتور التركي الذي دعاني قبل فترة طويلة للإفطار مع عائلته في رمضان مضى. كان قد أحضر معه حلوى عربية لذيذة، كان يريد أن يذيقني إياها وهو يقول بأنها أفضل ما ذاق ولا حتى في تركيا يصنعون مثلها. كنا قد ذهبنا من قبل تحت إصراره لكن وجدنا محلها مغلقاً. وكانت فائقة الروعة.

لم أرى الدكتور الألماني الذي عاد قبل فترة قصيرة من مهمة عمل في أمريكا، فطلب أن يطلع على ردود الطبيب الألماني في القصيم. كان الطبيب الألماني قد تأخر جداً بالرد علينا، بإخبارنا بما فعله بوعده أن يسأل عن علاج لابنة أختي في ألمانيا، وأن يخبرنا عن رأيه بأشعة أمي التي قمنا بها بالرياض وبعثتها إليه عبر البريد قبل وقت طويل. كان الدكتور الألماني (صديقي) قد راسل رئيس الطبيب، طبيب آخر، وسأله عن سبب التأخير وحثه على الإرسال. لكن الرسالة بدلاً من أن تصل إلي وصلت إلى أخي الذي راجع مع الطبيب لأجل ابنه، وليس لديه خبرة حول حالة ابنة أختي أو أمي. أرسل أخي إلي الرسالة التي وصلته، مع استغرابي من عدم ارسالها إلي رغم إعطائي بريدي مرتين لهم وبعثي لرسالة مع الاشعة تحوي معلومات الاتصال وما نريد معرفته. مع ذلك، بدت الرسالة غامضة، وما اتضح منها غير مفيد، كما أنه لم يذكر أي شيء عن أمي، فقط القليل عن ابنة أختي. رددت طالبا الإيضاح، ومذكراً بأمر أمي. رد بإيضاح لا يقل غموضاً، وهو أمر أرعبني، إني أترجم الكثير من التقارير الطبية من شتى الجهات ولم أمر بمثل هذه الصعوبة بالفهم قبل الآن، شككت بقدراتي كثيراً، وانتابني الخوف من المستقبل القريب. أما أمي، فقال بأنه سيراجع المستشفى لاحقاً ليرى ملفها، ولم أتلقى رداً بعد ذلك لفترة طويلة.
في الوليمة أمس، أقول طلب الدكتور الألماني ان يرى رسائل البريد، فتحتها وأريته إياها، في البداية انتابه غضب قوي، وقال بحدة بأن الطبيب أحمق. وتسائل كيف يكتب بهذه الطريقة؟ كان يقرأ الرسالة الأولى، قبل أن يقرأ ردي وطلبي للإيضاح، فقلت بأني سألته الإيضاح، وربما كان يعتقد بأني أفهم بشكل أفضل. لكن الدكتور أصر بأن الطبيب أحمق ولا يكتب جيداً ولا يعرف كيف يوضح، وأنه يقوم بهذا عمداً ليغطي جهله بالحالة. أخبرته بأني طلبت الشرح، وأريته الرسالة الأخرى ورد الطبيب عليها، فأصيب بغضب كبير، وتوعد باتخاذ موقف وتوبيخهم، وأنه قد يقطع علاقته معهم لتعاملهم معنا هكذا، فهو لا يريد أن يكون له ارتباط مع أناس لا يعبأون بالآخرين هكذا، وعليهم أن يعدلوا من أسلوبهم واهتمامهم. أخبرته بأنه ربما سوء فهم، ربما حسبوا بأني أفهم أكثر مما أفهم بالواقع، لكنه أصر، وقال بأنه سيحدث رئيسهم غداً ويوبخه، ويسأل لماذا لم يقولوا شيئاً عن أمي، ولماذا كل هذا التأخير واللامبالاة والغموض.
هل تعرض سوانا معهم لنفس الموقف من التأخير وسوء الإيضاح؟ أتمنى أن لا يكون ذلك، فليس الكل يعرف الدكتور الألماني ليساعده.

بعد الحلوى، ثم الحبق والشاي، خرجنا. كان الوقت بعد منتصف الليل. كان أكثر ما تحدثوا عنه هو جودة الطعام، ويبدو أن أكلة جيب التاجر قد أصبحت ذكرى عزيزة لدى الجميع الآن.
أوصلت الجميع، وبقي همام وخالد، الأصدقاء الصينيون، كانوا آخر من سينزل في الجامعة قرب الإسكان. لكن عند مدخل البهو الجنوبي، شمال دوار الكتاب، وجدت شباب صغار، طلاب، يحاولون إسعاف حارس أمن تابع للجامعة، وهو يرقد على الأرض بلا حراك. نزلت مباشرة من السيارة وجريت إليهم، أخبروني بأنه وقع على وجهه فجأة بعنف. كان فاقد للوعي تماماً. اتصلت برقم ٩٩٨ وسألت من رد إن كان هذا رقم الإسعاف، لكن الذي رد تركني انشغل بالتحدث على من بجانبه، ثم عاد إلي وقال نعم؟ ولما كررت السؤال عاد لينشغل بمن بجانبه يتكلم معه ويقول: لا لا مصري. فقدت أعصابي وصحت بأعلا صوتي مكرراً السؤال. فقال: ٩٩٧. أغلقت الخط، وقررت أن آخذ الرجل بنفسي. لست أدري ما أصابه أو إذا كان تحريكه بنفسي قرار سليم، لكن أفضل من انتظار حمقى آخرين ليستجيبوا. طلبت منهم حمله إلى السيارة، وقال همام بأنهم سيكملون الطريق مشياً، إذ كان السكن قريباً. أخذت الرجل، وكنت أسمعه يتنفس، مما طمئنني. في إسعاف المستشفى الجامعي، كان قد بدأ يستعيد وعيه. وبعد سؤاله بضعة مرات تمكن من أن يشكو من صدره بصعوبة. كان شاب صغير، ربما في الخامسة والعشرين على الأكثر، وسيم الملامح، ومرتب جيداً.
شكروني، بعدما أخذوا رقمي واسمي، فمضيت. أتمنى أنه صار على ما يرام.



كان اليوم متعباً على نحو استثنائي في العمل. مثل أيام الاسبوع الفائت بشكل عام. غالباً ما ينحصر الأمر بمراجع او اثنين يعانون من مشكلة معقدة ويترددون لحلها. الكثير من المظلومين.
المشكلة هي أنه يوجد من لا يتفهم معنى الدور، واختصاص العمل. حينما أكون أعمل لمساعدة أحدهم كمترجم، أجد شخص يعتقد بأنه علي أنا بالذات أن أقوم بعمل معين لأجله، في حين يوجد أشخاص مختصين في جوارنا لا يرفضون القيام بعملهم، ويؤدونه بكفائه، لكن يتصور بأنه سيختصر الوقت من خلالي، أو لمجرد... لا أدري، والله لا أدري. فوجئت بأحدهم قبل فترة يقف فجأة، وهو رجل أجنبي كبير، ويناديني من خلف زجاج الاستقبال، ليطلب مني نزع ملصق يحمله من غلافه الواقي، قائلاً بأنه لم يعرف كيف ينزعه، في حين تبرع دكتور عربي ضاحكاً من اعتباطية الموقف بنزع الملصق لأجله وتركي أمضي لعملي، إلا أن الرجل رفض بجفاء (!!)، وأصر على إعطائي الملصق. نزعته له، فابتسم فرحاً بانتشاء. لماذا لم ينزعه بنفسه؟ الله أعلم، لماذا أنا بالذات؟ الله أعلم. يوجد مواقف تعبر هكذا أحياناً. ولكن الأغلب، أن البعض يريد أن يختصر الوقت من خلالي، ظاناً بأني يمكنني أن أقوم بالمستحيل. وأحياناً لمجرد الاعتقاد بأنه صديقي وسأجعله يسبق الآخرين.





اتصلت اليوم على الدكتور الألماني، إذ أوصاني أن أسأل له عن بعض الإجراءات، وأخبرني مباشرة بأنه تواصل مع الأطباء الألمان بالقصيم، وصب جام غضبه عليهم. وعدوه بأن يصحح الوضع بأسرع ما يمكن. كنت شاكراً، لكن خيبة ظن أهلي أفقدتهم الثقة على ما يبدو بالتشخيص حتى، رغم تقديرهم لجهود الصديق الدكتور. أخبرته بالإجراء، للحصول على مستحقاته من رحلته الأخيرة التي قام بها لأجل الجامعة، ولم يبلغه أحد أنه يستحق دعماً مالياً عليها!!، أي تركه قسمه يصرف من ماله الخاص دون إيضاح لمستحقاته، ولو لم أعلم عن الأمر لكان قد عمل مجاناً. هو عمل للجامعة، ولا أدري لماذا لم يخبروه بما يستحق معرفته.
قال بأنه هذا الخميس مدعو لمكان ما، ثم فطن بأننا نلتقي الاربعاء، فلا مشكلة إذاً. لكني رددت بطريقة مستبدة بأنه حتى لو كنا سنلتقي الخميس، كنت سأحدد موعد آخر لأراه، فلن أدعه يفلت من رؤيتي. ضحك كثيراً وقال بأنه يحب رؤيتي. طبعاً كان ما قلته للعلم فقط، وكنت أمزح بالطبع.





أقرأ هذه الأيام رواية للأديب الهندي المعروف طاغور، اسمها قلوب ضاله. ما قرأته حتى الآن رائع جداً. لكن لا يمكنني حتى الآن الحكم على الرواية بأنها جيدة حتى أنهيها. بدايتها تطرح صراع أخلاقي ونفسي لدى البطل.
الرواية تزخر بالتشبيهات الأدبية الراقية والمذهلة، وهي مكتوبة بلغة شخص رفيع الأخلاق راقي الشعور. لكن، من أنا لأشهد لأديب كطاغور.





كتبت قبل وقت طويل عن مقال كتبه سفير بريطانيا السابق لدينا في جريدة الرياض، وقد كان مقالاً غبياً ووقحاً في رأيي. كان يناقش إسقاط تهمة إزدراء الأديان على بريطانيا، ويقارن الأمر بتهمة الإرهاب المسحوبة على المسلمين، رغم أن الحيثيات لا تدعم المقارنة الوقحة.
أما الآن، فسفيرهم الجديد يريد أن يتحاذق هو الآخر. يتحدث في مقال نشر في نفس الجريدة مؤخراً عن عادات الشعوب في الأكل، والإختلافات المثرية، ويحاول في النهاية تصوير الأمر كمثال على كامل أساليب الحياة، وهو يعلمنا كيف ننظر إلى اسلوب حياتنا باحترام، لكن مع تقبل أنه سيتطور مع الزمن (!!). إنه غبي، ورسالته التي يتخيل بأنها ذكية ومهذبة هي توجيهية على نحو وقح، وغير منتظرة منه في رأيي.
هذا الاقتباس من مقاله البائخ:
وأخيرا، أجد أن التحدي الحقيقي الذي نواجهه هو الحفاظ بشكل متوازن على تقاليدنا (وتقبل أنها سوف تتطور مع الزمن) و احترام و تقدير تقاليد الشعوب الأخرى، وبالأخص في عصر العولمة الحالي الذي يفرض علينا التواصل مع العالم من حولنا وعدم التقيد بحدود دولنا.

ليته يسكت ويهتم فقط بشئون رعاياه. فهو لا علاقة له ليخبرنا بما يجب أن نتوقع أو كيف ننظر للأمور، كما أن توجيهه للنصيحة على هذا النحو العام ينم عن ثقة زائدة بالنفس. إن أكثر ما استفزني هو حثه على تقبل شيء لا يخصه، وفهمي بأنه يرمي لأمور أبعد.

هذا الرابط للمقال:








لقد غرقنا ببرامج الستاند أب كوميدي على اليوتيوب وما ماثلها من عروض فارغة على الأغلب. كنت أحسب أن مشكلة استخفاف الدم، ورغبة الجميع في أن ينكت وينافس عادل إمام محصورة، فقط في عائلتي الممتدة، فإذا بها متفشية في البلد كله. لقد كثر السعوديون العاملون على مثل هذه البرامج. لكن ما لاحظته هو أن الأسوأ يأتي عموماً من المنطقة الوسطى والشرقية من حيث قلة احترام الناس والمشاهد، بينما الأرقى يأتي من الحجاز بلا شك. إن أصحاب العروض من المنطقتين الأوليين يعتمدون على جرح الآخرين بشكل عام حتى لو كانوا أطفالاً صغاراً، والتهريج والتفوه بأفكار لا معنى لها. وهم يأخذون حريتهم بالتلميح عموماً من منطلق (عادي شباب). أما الحجازيين فهم في هذه العروض على الأقل لا يتجهون إلى الإسفاف، وغالباً ما يبحثون عن انتقادات ذكية وإن كانت ساخرة (حتى وإن لم ينجحوا دائماً)، وغالباً لا يتجهون لجرح الناس إلا حينما يبلغ السيل الزبى، وعلى نحو أكثر معقولية من سواهم، وفي حدود ضيقة لا تكاد تذكر وسياق ملائم. إنهم أفضل وأذكى، وأجدر باطلاع العالم من الكثير من الأغبياء في المناطق الأخرى. ما الأمر؟ هل يشب الحجازيون هذه الأيام على تربية أفضل ومنطق أكثر تهذيباً من شبابنا؟ حقاً لا أدري، لكن ربما لم يتغيروا هم، إنما شباب المنطقة الوسطى والشرقية هو الذي تزداد طباعه سوءاً.
إني لست ضد الترفيه القائم على الكوميديا، لكنها أصبحت في الأمور الشعبية هذه هي كل ما لدينا تقريباً. وهذا أمر تسطيحي في رأيي.






أشعر بكآبة خانقة مما أرى من الظلم الواقع على بعض الناس مؤخراً. مهما حاولت، لا أتمكن من المساعدة. إني أشعر بالقهر واليأس. حاولت قبل قليل أن أساعد الدكتور التركي لوحدي، بخطوة مرتجلة. سدت كل الأبواب في وجهه، وهو قريب من الانهيار. قررت الدخول على عميد إدارتنا، وهذا آخر ما أحب القيام به، وآخر مكان أريد الاقتراب منه، مع ذلك... إن ظني لم يخب، رغم صدق محاولتي، لقد علمت بعدما بدأت الحديث بقليل أنه لن يساعد الدكتور. لقد اتخذ موقف متشكك منذ البداية، بتعبير وجهه، واسئلته المقتضبة والصفيقة، مثل: والمطلوب؟، وتغير وضع جسمه إلى الاستعداد غير الودي. لهذا، قلت ما يجب أن يقال فقط، ولم أطل النقاش، فهو بحكم من قال: لا يعنيني الأمر. اقترح اقتراح غير جيد، بدلاً عن التدخل المباشر أو الاستقصاء، أو محاولة المساعدة على المستوى الإنساني على الأقل، منح بعض الثقة. لكن...
خرجت من عنده بسرعة كما دخلت، وسمعته وهو يشكرني برسمية على اهتمامي، ولكن كان من الواضح وضوح الشمس أنه لا يريد لهذا الاهتمام أن يتكرر.
يوجد أيضاً دكتور هندي، معاناته كبيرة، وظلمه قد بلغ الحدود القصوى من سوء النوايا والقهر، حتى أني أتصور بأنه فقد اتزانه بشكل ما. شعرت بالألم وهو يشكرني، ويشكرني، على ما لم أتمكن من القيام به؛ مساعدته. إنه يعتقد بأن الله أرسلني إليه لأعينه ولأخفف عنه، مما يؤلمني كثيراً، ويجعلني أتمنى أن يرسل من هو أكفأ مني.
وكأنما مشاكل الناس لا تكفي، وجدت المشاكل طريقها إلي، وتغمرني الحيرة تجاه مديري العزيز، الذي بت لا أعرف كيف سأتعامل معه بعدما خيب ظني بشدة.

كل هذا جعل يومي سيئاً، ولم يكن تأثير اليوم وحده، لكن الأسبوعين الأخيرين بشكل غريب ضما أسوأ حالات الظلم التي اطلعت عليها بنفس الوقت، ففي العادة تكون متفرقة، وليست ضاغطة هكذا، ومُشعرة بالعجز الشديد. فكرت بأني أود أن لا أذهب في اليوم التالي إلى العمل، لأرتاح، ولكني تركت القرار للصباح. سوا أني لم أستطع النوم في الليل، ربما بسبب تجمع الهموم والشعور بالأسف والعجز. لم أذهب الصباح. مع ذلك، حتى بعيداً عن العمل لم يتحسن حظي كثيراً.
لكن الخبر السعيد أن أمور الدكتور التركي سارت أخيراً بدلاً عن جمودها، وصحيح أنه ظل مظلوماً، ولكنه على الأقل تمكن من تسوية أموره ليرحل لأجل أمر مهم. رأيته اليوم قبل رحيله. كان وداعاً مقتضباً لانشغاله، شعرت بالحزن وأنا أنظر إليه في المرة التي قد تكون الأخيرة التي أراه بها. كان قد أحضر بعض الحلويات كهدية قبل مغادرته. شكرني، هو أيضاً، على ما لم أتمكن من القيام به؛ مساعدته.

ما الأفكار التي خطرت في بالي بعد كل هذا؟ إني لا أتحمل هذا العجز عن رفع الظلم، ولا أستطيع تجاهله وهو أمامي. فكرت بأن أعطي للأمور فرصة شهر، أرى إن كان يمكنني تحمل الأمور، أو أن أقلب الأمور في ذهني وأزنها أكثر. فإن رأيت أن الأصلح لي أن أغادر المكان، فسأسأل مديري أن يعفيني من وعدي؛ أن لا أغادر إدارته إن ساعدني بالعودة إليها قبل سنتين. فإن أعفاني من هذا الوعد، رجعت للناس الذين أرادوا استقبالي في الجامعة قبل سنوات، وأرى إن كانوا لا يزالون يريدونني لديهم. أما مغادرة الجامعة ككل، فهي غير واردة طالما هي والمستشفى في مكان واحد.
لكن بأي حال، يجب أن أفكر كثيراً. فرغم خيبة الظن التي أصابتني من مديري؛ هل أنا على استعداد للابتعاد عن شخص أحبه وأقدره إلى هذه الدرجة؟. لا أدري، لا شك أنه يحتل مكان كبير في قلبي رغم كل شيء.



الساعات الحلم لا تنتهي. إن حبي للساعات ذات الطابع المختلف ينبع على ما اعتقد لحبي لتأمل الميكانيكا الأنيقة، ودقة الصناعة، وحمل شيء بالغ التعقيد، لكن متناهي الصغر، على رسغ اليد.
أنظر فقط إلى هذه الساعة المجنزرة، المركبة يدوياً:


لا شك أنها تكلف ثروة.

هذه لا بأس بها، رأيت أفضل، لكنها جميلة ومميزة:



أما هذه، فهي مبتكرة جداً. تأتي بعدة أشكال بنفس الفكرة الجوهرية، لكن الأشكال الأخرى، الجميلة جداً، مغرقة في الكلاسيكية، وهذا شيء جيد، لكن هذه تلفت انتباهي أكثر، كما أنها لا تخلو في نظري من مسحة الفخامة الكلاسيكية:







اتهمتني أمي بالإنجراف خلف رفقة سيئة مجهولة، لخروجي كل مساء حاملاً "مزودتي"، تعني الحقيبة التي أحمل بها الحاسب والدي اس والقلم وخلافه. حلفت لها أني أجلس وحيداً كل ليلة، كما أفعل الآن، لأكتب وأقرأ فقط، وأني لا أرى أحد تعرفه أو لا تعرفه. على الأغلب أنها تعرف ذلك، لكنها مريضة مؤخراً أكثر من العادة، لهذا أعصابها تالفة. لا أدري ماذا أصنع، أتمنى لو بيدي حيلة للتخفيف عنها.
قبل فترة، علقت على حملي للـ"مزودة" خلفي بأني أذكرها دائماً بغجري كان يأتي إلى مزرعتهم في القصيم حينما كانت طفلة صغيرة، حاملاً "مزودة" مماثلة على ظهره، ليرب الدلال (ينظف ويلمع أواني القهوة)، وقد وجدت بأني أشبهه حينما أمضي هكذا، بنفس الطول والحقيبة، قالت هذا ضاحكة. هذا الغجري تعيس الحظ عشق بدوية تنزل في الجوار، وقال بها قصيدة جميلة، إذ كانت الصبية رائعة الجمال، مميزة بشكل لا يوصف، حيث كانت تراها أمي. القصيدة التي أخبرتني بها أمي نسيتها، لكنها جميلة وعفيفة، وتصف ملابس البدويات قديماً، البنطال الواسع والكرتة. لكن أهل الفتاة جاؤوا إليه وضربوه بقسوة لفعلته هذه، حيث أن هذا إجمالاً غير مقبول لدى العرب. لا أدري لماذا قال القصيدة وخصصها بالإسم، الغجري المسكين.





رأيت الدكتور الألماني قبل قليل، واستمتعنا كثيراً بوقتنا. سألته إن كان يود الذهاب إلى محل العطور الذي حدثته عنه، أم نذهب إلى المقهى، فقال بأن نذهب إلى محل العطور. لاحظت لاحقاً بأنه لا يهتم بالعطور كثيراً، إنما أراد الذهاب لأجلي فقط. محل العطور هو محل باسم القاسم على طريق الملك فهد، وكان الغرض هو أن أخلط العطر الذي أريد. استقبلنا موظف أجنبي، أردني على ما يبدو، وسألني عما أريد، وكنت واضحاً. لكنه عاملنا ببرود، وعرض علي أشياء لم أقل بأني مهتم بها. ثم تركنا سريعاً، مستأذناً ليعود بعد قليل، لكنه مضى إلى آخرين ولم يعد إلينا. طلب الدكتور أن نخرج. لم يعجبه الأسلوب، بالإضافة إلى أنه لا يفهم كثيراً بالعطور. أنا خاب ظني كثيراً بالمحل الذي أردت أن أذهب إليه دائماً. وبالأساس، روائح الفانيلا لديه لم تكن جيدة أو نقية كما توقعت. قلت هناك بأني في النهاية سأضطر للسفر إلى المكسيك لأحصل على عطر الفانيلا التي أريد. ضحك الدكتور، لكني يائس حقاً إلى هذا الحد. على الأقل، جرنا إحباطي إلى التحدث عن النبتة.
لم أتوقع أن هذا المحل الذي يروج له كثيراً بأنه راق ومميز، سيكون التعامل به بهذا السوء.



تحدثنا حول مواضيع كثيرة. لديه دائماً الكثير من المشاريع المبتكرة والرائعة، والغريب أنه يحب سماع رأيي واقتراحاتي وأفكاري حولها، رغم فقر تجربتي ورؤيتي. أحياناً أكون محبطاً له في بعض الجوانب على ما أعتقد، لكن هذا ما تقتضيه الأمانة، لأني أدرى ببعض الجوانب الاجتماعية والسمات النفسية للمجتمع هنا.
حدثني عن رحلته الأخيرة إلى أمريكا. يوجد في أمريكا مدينة مميزة في نظري، وكنت دائماً أشعر بأنها استثناء غريب في أمريكا، بسبب تاريخها وطبيعتها وثقافتها المميزة. المدينة هي نيو اورليَنز، وقد كان الدكتور قد ذهب إليها لحضور مؤتمر. أتسائل دائما لماذا لم يذهب إليها أي من إخواني، منذ أن اطلعت على تاريخها وتميزها على مستوى الثقافة الخاصة والطرز المعمارية. ربما ذهبوا، ولكن لماذا لم يحدثونا عنها؟ لعله لاختلاف مجالات الاهتمام.

حكيت له عن مشاكل العمل الأخيرة، التي باتت تتعمق لوجود شخص غير سوي نفسياً طرف فيها، وسلبية مديري تجاه الأمر. حكيت عن إحباطي، وتفكيري بالهروب إلى قسم بعيد لو سنحت الفرصة، وتشككي باستعدادي للقيام بهذا لأني لا زلت أقدر مديري. عموماً، على الأغلب أني سأترك الكثير من الأمور خلفي مع بدء الإجازة إن شاء الله، ولو لبعض الوقت.

خضنا جدلاً حول دفعي ثمن الدمية التي أتى بها. رفض رفضاً قاطعاً، ورفض أن يتركني أن أدفع حساب المقهى إلا بصعوبة، مما أزم الموقف، لأنه وعد في المرة الأخيرة أن يتركني لأدفع في المرة المقبلة، والآن يخلف وعده. شرحت له بأنه إن لم يأخذ ثمن الدمية الآن فسيكون موقفي صعباً لاحقاً فيما لو طلبت منه شراء شيء من الخارج، وأنه لا يمكنه أن يخدعني لأننا اتفقنا على أن تشترى لصالحي، فرد مشاكساً أن لا أطلب منه شيء لاحقاً، فقلت حسناً. ولكنه عاد ليقنعني بأني لا يجب أن أدفع مقابل الأشياء التي أطلبها منه، وأني يجب أن لا أتوقف عن الطلب لأنه لا يجعلني أدفع، فهذين أمرين لا علاقة لهما ببعض (!!)، وأشياء من هذا القبيل. فأخبرته بأنه يصعب الأمور هكذا، وأني لن يمكنني أن أطلب منه شيء لاحقاً إن رفض أخذ المال الآن، وهو الشخص الوحيد الذي يمكنني أن أطلب منه أن يحضر لي الأشياء، قلت هذا كالتماس وقد غلبت على أمري. فقال إذاً خذ هذه، ومد حافظة قارورة الماء التي اشتريتها له من دايسو، فشرحت له الفارق، أنه لم يطلب مني هذه فهي هدية. كان يخفي ابتسامته طوال الوقت، لاحظت هذا متأخراً، أو استوعبته، فعرفت بأنه يتلاعب بي ليضيع الموضوع الأساسي. أخبرته بأن لا يتلاعب بي أو يعاملني كشخص بسيط، فقال مجفلاً بأنه لا يفعل هذا، ولكني قلت بأنه يفعل، حينما يخل بالاتفاق ويضيع الموضوع في متاهات لا علاقة لها مثل حصوله على هدية من المحل الذي اشترى منه الدمية وهذا يجعله مدين لي وليس العكس، قلت بأن هذا عبث واضح. كنت أضحك من الطريقة التي يحاول خداعي بها. لاحقاً، قلت بأنه إن لم يأخذ المال، وقال لي بنفس الوقت بأن أطلب منه وقتما أشاء، فهو يجعل من نفسه كالسفير البريطاني الذي حدثته عنه، يرسل رسائل مبطنة بهذا التناقض، وسأفهم رغماً عني أن لا أطلب شيء مرة أخرى، وهذا ما سيكون. كانت حجة مؤثرة، وقد قلتها بمنطقية، وقد توقفت عن الضحك. وجد التشبيه فضيعاً، فأخذ المال على مضض. على أنه كان غاضب، وطلب مني أن أطلب منه ما أشاء دائماً طالما وافق على أخذ المال هذه المرة، بعد طلعة الروح طبعاً. علمت بأنه اشترى دمية أخرى أيضاً، لأنه ظن بأنه طالما أنا مهتم بها فبالتأكيد سيكون هناك أحد آخر يريدها، وسألني أن آخذ الأخرى لأعطيها أحداً أو أحتفظ بها لو أردتها، لكن قلت أعطها لفلان، الألماني الأصغر، فهو قد قال على العشاء في منزل أختي بأنه يريد واحدة. فقال: لا. قلت ولكنه يريد واحدة، فقال: ولكنه لن يحصل على واحدة. ضحكت، كنت أريد أن أكسب للألماني الآخر شيء، ولكن للدكتور وجهة نظر، إنه يريد أن آخذها، أو أن أجد شخص آخر ليأخذها. تكلمنا عن الألماني الأصغر، وخفة دمه، وكونه طيب.
في الطريق، تحدثنا عن نيو اورلينز وتجربته فيها. هي متأثرة كثيراً بالثقافة الفرنسية، والثقافة السوداء، لأسباب تاريخية، وهو مزيج مميز.  سألت عن تأثير الألمان بثقافتهم في أمريكا، ولماذا لا يكون بمثل هذا الوضوح والرقة في أماكن تركزهم، مينيسوتا وبنسلفينيا، ولماذا وجودهم دائماً مرتبط بوجود الاسكندنافيين؟. قال بأن الألماني تأثيرهم حينما يكون حاضراً فهو يكون أكثر تشدداً، مثل الجماعات الدينية الرجعية في أمريكا، الكويكر وخلافهم، فقلت والمينوتيت، فصحح لي الاسم، وتسائل كيف عرفت عنهم؟ قلت بأنه أمر يعبر بالمرء، ولكنه قال بأنه شيء مميز، وهو يظن بأن السعوديين لا يسمعون عن هذه الأمور غالباً، ولكنه مخطئ، فبالواقع ليس شيئاً مميزاً أن أعرف عنهم بعض الشيء، لقد قرأت عنهم حينما كنت صغيراً، ورأيت صوراً لهم فأحببت طريقة عيشهم المتقشفة والنقية والمسالمة، والتدين المريح الذي هم عليه، وتمنيت رؤيتهم بمبلابسهم القديمة، وهيئة النساء الحشيمة والفاضلة.




قرأت مقال مثير للاهتمام أرسله إلي أحد الزملاء. هو عن الجامعة حيث أعمل، بوجهة نظر أوافقها إلى حد بعيد.:




دوام الحال من المحال، لكن هل دوام الود من المحال؟. هذا ما بدا للحظة، حينما أمعن مديري بالمباعدة بيننا، بدون أي تقدير لما كان عليه الحال بيننا من تقدير وتعاون. هذا الصباح ضحك في وجهي وحاول تلطيف الأجواء، ثم بالمقابل يوصل إلي ملاحظة من خلال شخص آخر كان الأجدر به أن يوصلها بنفسه. هذا ما خيب ظني في الأسبوع الفائت، القيام بأمور متناقضة، دون اعتبار لما يشعر به الآخرين. تم الضغط علي بخصوص ظروف أمي الصحية ومرافقتي لها بمواعيدها، ولو كانت هذه الملاحظة قد جائت من المدير نفسه، لما فهمتها على هذا الأساس. إنهم لا يعجبهم تأخري بضع دقائق في عموم الحالات، رغم أني لا أوقع، وتخصم هذه الدقائق بأضعاف حقيقتها من راتبي، دون أن أعترض. يقال بأن لا أتأخر هذه الدقائق حتى يتساعدون معي في شأن ظروف أمي. قلت بأن يخبر المدير بأني سأحاول أن لا أتأخر هذه الدقائق، ولكن إن لم يكن الأمر كما يريد، فليخصم خروجي لأجل ظروف أمي كخروج بلا استئذان ويحسمه من راتبي. قيل بأنهم لا يريدون للأمور أن تصل إلى هذا الحد؛ لكن، ماذا يتوقعون؟ قلت بأن هذا ما لدي، فلن أتوقف عن الذهاب مع أمي إلى مواعيدها مهما كان السبب.
ثم تم التمنن علي بإجازة اضطرارية، رغم أنها من رصيد إجازاتي.

أمر مضحك (مضحك؟)، أعتقد أن مديري لن يمانع أبداً الآن أن يعفيني من ذلك الوعد.
عموماً لا بأس، سأرى ما يمكنني القيام به، بعد الصيف إن شاء الله.


شعرت بضيق كبير، وحاولت الذهاب طالما ليس لدي شيء إلى القسم المجاور، إلى صديقي خالد المؤذن، وهو شقيق المدير، لأروح عن نفسي قليلاً ببرائته وطيبة قلبه. لكني وجدته مشغولاً، لم أعلم أين أذهب. فكرت بالنزول لشراء قهوة أو شوكولاته ساخنة، لكن
في وقت الصلاة سأشرب، فلا داعي للخروج الآن وقد بقي على الصلاة حوالي ساعة.


حسبك...
قد أنهكني ظلمك...
إن الصدود منك عقاب...
فكيفك بي إذ أواجه غدرك...
كنت أحسب بأنك لن تتغير...
وكنت أحسب أن تقدير الشعور طبعك...
كم حسبت وأخطأت...
فيك وفي غيرك...
ولم أتعلم...



وجد بعض الناس في الأمر الذي جرى في ذلك اليوم وبدأ المشاكل أمر غير معتاد، رغم أن المشاكل تحدث في القسم من وقت إلى آخر. كان غير المعتاد كما فهمت أنهم لأول مرة يروني فاقد للتحكم بأعصابي. هتف أحدهم بعد يوم: تصدق أول مرة أشوف سعد معصب؟ من 4 سنين ما شفته مرة وحدة معصب!. كان يقول هذا وعلى وجهه تعابير سعادة لا توصف، ولا تُفهم. بينما جاء آخر من إجازة طويلة، وقال لي بعد أكثر من أسبوع من حدوث المشكلة التي لم يحضرها، بأنه سمع بأمر جديد، أني "عصبت" أخيراً. كان يجد الأمر مضحكاً. أخبرني بأن فلاناً أخبره قائلاً هل أخبرك بأمر مستحيل؟ لما سأله، قال بأن سعد فقد أعصابه! هاهاها. كنت تعيساً جداً حينما جاء ليخبرني باكتشافه المثير هذا. ثم أخبرني بأن من أخبره، وهو ممن حضروا الإشكال، قال بأن الخطأ كان على الطرف الآخر، وهو شاب يطرد من قسم إلى آخر بسبب مشاكله، وأن رايتي "بيضاء". طيب، لا أدري هل أصدق بأن ذلك الرجل قد قال هذا فعلاً، مع ذلك، لا شك لدي بأني لم أخطئ، ولم أفقد أعصابي مباشرة، إذ أني تفاديت الاصطدام بقدر المستطاع، ولكن ذلك الرجل اصر على ابتلائي بنفسه. لدي يقين بأنه غير سوي نفسياً الآن، لذلك تمنيت بأننا لم نصطدم، رغم أن الأمر لم يعدو كونه نقاش حاد. وكان لينتهي الأمر في وقته، لكن المدير لم يتصرف بحكمة كما تخيل.
بل إن المدير، بقدر ما أفهم؛ باعني بتراب. مهما برر واختلق من أعذار.
ما باليد حيلة...




كان يوم جميل وحافل، يوم الاربعاء. أسبوع سيء بالعمل، ولكن يستحق هذا اليوم العناء.

حينما عدت إلى المنزل، واستعديت للقيلولة، كان لابن أختي، محمد ذو الشعر اللفائف، وجهة نظر، كان يريد أن أشغل له الوي ليلعب ماريو(الفطر). مع بعض الإقناع خارج الحجرة، جلوساً على الأرض، اقتنع بأني سأنام، ولكنه أراد أن ينام معي. دخلنا، وكنت أحسب بأنه سيخرج بعد قليل، ولكنه نام بالفعل. كان أمر رائع، لم أنم كثيراً كما أردت، لكن كنت سعيد وأنا أغطيه كل لحظة وأخرى، ورأسه الصغير مستدير إلى الجهة الأخرى. كانت أحلى قيلولة حضيت بها منذ الأزل.

بعد ذلك اتصل الدكتور الألماني، وكان موعد لقائنا المعتاد بعد ساعتين تقريباً، وسألني إن كنت أود أن نذهب لنستقبل صديقه القادم من ألمانيا معاً في المطار. صديقه هذا هو المسئول الأول في المشروع الطبي المشترك بين جهته ومستشفى في القصيم، وهو طبيب مخضرم وذو تاريخ غير متوقع. سعدت بالاقتراح، لأنها تجربة مختلفة، ولأن الدكتور كان يمكنه أن يعتذر لأنه سيستقبل صديقه، ولن يكون بإمكاني أن أقترح الذهاب معه بنفسي. ذهبنا، وفي الطريق الطويل إلى المطار تكلمنا حول الكثير من الأمور. أخبرته بما جرى في العمل بيني وبين مديري، وقد احتار في الأمر المؤسف. إني أتألم لأني خسرت صداقتي والمدير على ما يبدو، وإن لم أقل هذا لأحد، وأتألم أكثر لأني أعتقد بأن الأمر لا يعني المدير كثيراً. لكن، لا بأس.

تحدثنا عن الطعام، وعرفت بأنه تذوق لحم الحوت في النرويج، ويقول بأنه لحم رائع جداً. ومما تكلمنا عنه كان جبال الألب، لأننا تكلمنا عن هايدي. أخبرته بأني أجدها منذ كنت صغيراً جبالاً موحشة ومخيفة، حتى حينما كنت أراها مرسومة في هايدي. قال بأني على الأغلب على عكس الجميع أرى حقيقتها. لا زلت أتصور بأنها موحشة جداً، رغم شعوري بوجود مناظر جميلة فيها هنا وهناك. تكلمنا عن هايدي، وكان يستغرب بأني أعرف عنها، لكني أخبرته بأن قصتها معروفة جداً هنا وشعبية، الكل تقريباً يحبها. تناقشنا بالقصة قليلاً.

وصلنا إلى المطار، وأوقفنا سيارتي المستأجرة، ودخلنا. في طريقنا إلى صالة استقبال الطيران الدولي مر إلى جانبنا رجل أوروبي كبير السن، ضخم الجثة على نحو غير عادي، وله لحية قصيرة كستنائية، وكان ذاهب إلى عكس اتجاهنا، ونظر إلى الدكتور نظرتة لم تفتني، إذ كانت قوية وغريبة. حينما وصلنا أمام البوابة حيث يخرج القادمون، وقفنا إذ كان الآسيوين يستحلون كل المقاعد. وبعد لحظة، عاد الأوروبي الذي كان ذاهباً، ووقف إلى جانب الدكتور تماماً. كان المكان مزحوماً، وكان الكل يقف قرب الآخر، ولكن هذا الرجل كان يعتقد بأنه يعرف الدكتور، أو يريد أن يتعرف إليه. كان ينظر إلى الدكتور كل لحظة وأخرى، وصار ينظر إلي كذلك بطريقة غريبة كل لحظة وأخرى، دون أن يهتم حينما أنظر إليه، إنما يتأمل لبعض الوقت ثم يصد. التفت الدكتور ورآه، وقال لي هامساً، بأن هذه هي البنية الألمانية التقليدية، فهمست بأنه يذكرني بجد هايدي كثيراً، فضحك الدكتور، وهمس بأنه سيكون فخوراً لو علم بما قلت، فالجد شخصية محبوبة لديهم، فقلت بأنه ربما لهذا يعجبني هذا الرجل، لأن الجد شخصيتي المفضلة أيضاً في القصة. كان الرجل الجسيم أقل شقرة وحمرة من الدكتور، لكنه كان أوروبيا صميماً مع ذلك من حيث الشكل والبنية، أكثر من المعتاد. بعد وقت طويل ذهب الرجل. يقول الدكتور ربما جاء ووقف إلى جانبنا لأنه يريد أن يعرف جنسيته.
وجود جد هايدي إلى جانبنا قبل قليل جعلني أتحمس للتحدث عن المسلسل، ومن صنعه أو ساهم به. هياو ميازاكي، فناني المفضل على الإطلاق. حكيت عن الفنان الياباني هذا الذي أخرج أجمل الأفلام في نظري، والأكثر تأثيراً من بين الأفلام على رؤيتي لبعض الأمور، وقد حاك قصصها المؤثرة أيضاً. قلت بأني أتخيل دائماً بأن الدكتور لو قام بشيء، فسيشبه ما يقوم به هذا الفنان الرائع، وكنت خجلاً من قول هذا التخرص، لكن، هذا ما اشعر به، وقلت بأنه يذكرني به كثيراً. ابتسم الدكتور، وقال بأني يجب إذاً أن أرى كتاباته وأحكم. الدكتور مؤلف لبضعة أمور. ولكنه قال بأن المشكلة بأنها بالألمانية، فقلت محتجاً بأني أترجم له ما أكتب، إذا ليترجم هو لي أيضاً، فضحك، وقال بأنه سيفعل، ثم تذكر بأنه كتب شيء بالانجليزية بالأصل.

فوجئت بعد ذلك برجل شاب خلفي يناديني، وهو شامي مريح القسمات، نحيل وعلى جانب من الصهابة، وسألني بعد السلام أين أعمل. كنت قد لاحظته منذ فترة يقف خلفنا. أخبرته، ثم سألني كم يعطونني كراتب؟ وكان سؤال غريب. قلت بأني سعودي، وفي الحكومة للسعوديون في مراتب معينة نفس الراتب. ولكنه أصر على المعرفة. فأخبرته على وجه التقريب. بدا عليه بأنه سمع ما يريد. ثم طلب رقم هاتفي. استغربت وسألته لماذا يريده؟ فأخبرني بأنه يعمل في مجموعة شركات فلان الفلاني، وهم بحاجة ماسة لشباب يجيد تحدث اللغة الانجليزية، وأنه يعطون رواتب مجزية جداً، لهذا يريد التواصل معي في الأمر. ابتسمت، وأخبرته بأني بالواقع مرتاح في وظيفتي. بدا عليه نوع من الإحباط، ثم سألني إن كنت أعرف شاباً آخر؟ اقترحت عليه التواصل مع كلية اللغات والترجمة، فعلى ما أتذكر كانوا يحاولون التوفيق بين خريجيهم وموفري الأعمال. سألني إن كنت أريد أن أفكر بالأمر، أو شيء من هذا القبيل، لكني كنت متأكداً، فشكرته. جاملني ببعض المديح، وافترقنا. حينما عدت إلى الدكتور، الذي كان أمامنا، أخبرته. اتسعت عينيه، ولكني أخبرته بأني قلت بأني راض بوظيفتي. مما حير الدكتور، لقد كنت أفكر بالانتقال من القسم حينما كنا في السيارة قبل قليل، فأوضحت بأني من المستحيل أن أترك الجامعة، لحاجتي للمستشفى، وأني حينما خرجت إلى الوزارة قبل سنتين صار الأمر صعب جداً على أمي وأهلي، وكان قراراً خاطئاً لا يجب أن أعيده. قال لأنهم يتساهلون في الجامعة مع خروجي للمواعيد؟ فقلت بل لأن المستشفى قريب، ففي الوزارة كانوا لا يخالفون (على الأقل في القسم الأخير الذي عملت فيه)، ولكن بعد المستشفى والمنزل جعل عودتي للعمل بعد المواعيد غير مجدية.
مع ذلك، بدا أن الدكتور سعيد بالعرض الذي تلقيته قبل قليل، وظل مبتسماً.

حاولت أن أعلمه كيف ينطق بعض الحروف، حينما علمت بأن بعض الأصوات البديهية ليست موجودة في اللغة الألمانية، كصوت الراء. نطق اسمي على نحو جيد بعد بعض التدريب، ولكن حرف الحاء أشكل عليه كثيراً. كان بعض الآسويون قد التفتوا يتابعون التدريبات بفضول، حتى توقفنا. بالواقع، كان بعض الآسيويون فضوليين من قبل ذلك.
بعد قليل، أشار إلينا أحدهم بأن ننظر إلى الأمام، كان صديق الدكتور يشير إليه باسماً من خلف الحاجز. وكان رجل ذو شكل ملفت. مقارنة بالألمان يعتبر رجل قصير القامة، ولكنه بالأصل في طولي على ما أعتقد، وأنا هنا متوسط الطول، لست بالقصير، ولست بالطويل. وجهه ليس أحمر كالدكتور، وليس على جانب من الصفرة مثل جد هايدي الذي وقف معنا قبل قليل، ولكنه ترابي أو أسمر كجلد مدبوغ فاتح اللون، وشعره بني غامق وقد شاب صدغيه نوعاً ما، وقد صفف الشعر القصير بعناية كبيرة، وبأناقة جريئة وشابة، ولكن غير مبالغ فيها وإن تكن لافتة، وجديرة بفنان. عينيه ملونتين بلون رمادي غامق، وملامح وجهه وسيمة عموماً، ولكن توحي بأنه على جانب من الحدة واللذاعة. قلت للدكتور ونحن نمشي لنقابله في المخرج: (يبدو ذكياً و..) قاطعني الدكتور مؤكداً بأنه ذكي جداً بالفعل.
وصلنا، صافحه الدكتور، ثم صافحني الطبيب وعرفه الدكتور بي باللغة الألمانية، وفهمت بأنه يقول بأني صديق جيد. نظر إلى الطبيب نظرة حادة وفاحصة، أفزعتني صدقاً. ولم يبدو على وجهه الترحاب، إنما ردد اسمي وكأنه يريد أن يحفظه، وهو يتفحص وجهي. كان معه شاب سعودي، جاء لاستقباله، وهو يتحدث اللغة الانقليزية جيداً، وكان ابن شريكهم في المستشفى حسبما فهمت. سلمهم بطاقات دعوة إلى زواج أخيه. وجاء موظف هندي وسلم على الجميع. أخبرهم الدكتور الألماني بأني سأوصله والطبيب، وأنهم يمكنهم الذهاب فلا مشكلة. كان الولد لبقاً جداً، ولكنه شاب صغير غير متحفظ بما يكفي في رأيي. لكن لم نذهب لبعض الوقت لأن امرأة ألمانية طلبت المساعدة من الدكتور، كان معها جهاز آيفون ولم تستطع استبدال الشريحة لأنها ليس معها دبوس. هذا الجوال الغريب. ساعدناها، إذ ذهب الشاب ووجد دبوساً وساعدها، وقد عاد في الوقت الذي ولفت فيه دبوساً من البلاستيك (يقالك مقايفر) لم يعد له حاجة حينما جاء الدبوس الحقيقي. دعاني الشاب إلى الزواج قبل ذهابه، وهو زواج أخيه، فقلت رداً على المجاملة بأني قد أحضر مع الدكتور إن أمكن. بالطبع لم أكن أنوي الحضور، لكني قدرت المجاملة.
في طريق العودة حمل كل منا حقيبة. وظل الرجلين يتحدثان في اللغة الألمانية خلفي. وفي السيارة كذلك. فهمت بعض الشيء، بحكم أن بعض اللغات على بعض التقارب. سألت بعد قليل أين يريدون الذهاب؟ كنت لا أعلم إن كان الطبيب سيذهب إلى فندق، أو مع الدكتور. فقال الدكتور بأن آخذهم إلى المنزل، لأن الطبيب متعب وسيرتاح بعد الرحلة، خصوصاً أن الوقت متأخر (بعد الحادية عشرة). في الطريق شكرني الطبيب بطريقة غريبة، وبلكنة تشبه الاختبار الواضح، على خدماتي، وقد كان يرمقني من الخلف باستمرار، ويبدو أن صمتي لم يعجبه. وبدأ بالتحدث باللغة الانقليزية عن موظفة جديدة لديهم ستأتي، وهي ممرضة شابة من الجزء الشرقي من ألمانيا. تريد القدوم هنا لأنها تريد ضمان مستقبل والديها في الشيخوخة. هذا سبب نبيل ومؤثر.

لكن هذا الطبيب مباشر، ويفاجئ المرء بتحدثه عن أمور اتفق الناس عموماً على عدم التحدث عنها في بعض الظروف، إن يكن لعدم جدواها، أو ابتذالها لكثرة ما نوقشت، أو لأنها فقط حساسة. ليس أني أتحسس مما قال، أو أن كل تلك الأسباب تهمني، فهي لا تهمني، لكني استغربت أنها لم تهمه هو كذلك. لعله ذكي وعرف أنها المواضيع الصميمة، مهما ابتذلت، وأن الناس حينما تركوها لفترة طويلة فقد أمنوا جانبها، ففكر بأنه موضوع صادم.
بدا من الواضح أنه يريد أن يعرف أرائي في بعض الأمور على نحو استغربته، اهتمامه الشديد بمعرفة رأيي بالتحديد جعلتني أتسائل إن كان يريد أن يعرفه بالفعل، أم أنه من الغرب الاستفزازيين فقط، ولكني لم أشعر بالاستفزاز، ولكن بالحيرة فقط. من النادر أن أحتار في مثل هذه الأمور، ومن المفاجئ أن أحتار من هذا الرجل الأقل هدوءاً، وعمقاً، على ما يبدو.
في البداية كان الأمر حول الكنائس، ولماذا لا تفتح هنا طالما المساجد تفتح لديهم. قلت بأن الكنائس مسموح بها في أماكن كثيرة حول العالم الاسلامي، مصر وسوريا كمثال، ولكن هذه الأرض حالة استثنائية، بتعليمات خاصة حولها، كما أن الأجانب ليسو هنا ليبقوا، ولكنهم يأتون لفترة محدودة لعمل محدد ويذهبون، لن يبقوا طوال عمرهم، بينما في الغرب المسلمون موجودون هناك ليبقوا، فتلك هي بلادهم. أكد أنها بلادهم بسرعة، وباستغراب من إجابتي أو صدمة لصراحتها ومباشرتها، ومعه الدكتور كذلك.
ثم تكلمنا عن الكنائس السرية، وسألني إن كانت ضد القانون، قلت بالطبع. وأنها ما كان يجب أن تفتح بالأساس بدون تصريح، فلو فتح مسجد بلا تصريح في الغرب لأغلق. فقال: ولكنها تمنح التراخيص، فقلت لكن الكنائس لا تمنح هنا، فهي إذاً مسألة قانونية أيضاً.

وكأنما هذا الموضوع الغريب، ولكن الممتع، لا يكفي بغرابته، أتى على ذكر الثورات العربية، على نحو بدا أنه أضمره من قبل، وكأنما رتب المواضيع. تسائل عن أسبابها. كان يريد رأيي مرة أخرى. فقلت بأنها الكرامة، السبب الأساسي هو الكرامة. فهتف: الكرامة!. قلت نعم، لقد سئم الناس في بعض البلدان التسلط عليهم والحط من كرامتهم، لا يتعلق الأمر بالطعام أو الرواتب أو أساليب العيش، لكن بالكرامة في المقام الأول. لكن لماذا الآن؟ ولماذا فجأة، وبدون مقدمات؟ قلت بأن الأمر في رأيي عبارة عن عملية عمل للضمير الجماعي، لقد تراكمت التجارب وازداد الوعي والاطلاع على الآخرين، والتفكر بالأسباب ونقاشها. بعض الشعوب هنا أكثر وعياً من الأخرى، لكن بالمجمل وعي الجميع ازداد. هكذا شرحت، وأضفت بأنهم في تونس قالوا: الكرامة قبل الخبز. وقلت بأن الكرامة بالواقع كانت سبب لثورات كثيرة، وليس الثورات العربية فقط، فالثورة الفرنسية قامت بالأساس انتصاراً للكرامة على حد علمي.
فضل يردد: الكرامة... الكرامة. وحتى بعد صمت، أو حينما نتكلم حول شيء آخر ونتوقف، يعود يردد: الكرامة.. مما أضحك الدكتور الألماني، فقد بدا بأنه يقلب الفكرة في رأسه كثيراً.
تكلم كذلك بصراحة عن تعامل بعض السعوديين مع بعض الأجانب باستعلاء، وكأنهم عبيد. للأسف أن هذا قائم وموجود، ولكني أعتقد أنه في تراجع، أو أتمنى ذلك.
تكلم أكثر من مرة عن كونه كان لاعباً في نادي بايرن ميونيخ، أشهر أندية ألمانيا، وكان من الواضح أنه يلفت انتباه الناس المفتونين بالكرة هنا، لا سيما الشباب، بهذه الحقيقة والتجربة. أما أنا، الذي ليس لي ناقة ولا جمل في كرة القدم، فقد وجدت أن هذا جيد لأذهل أبناء إخواني، بأني تعرفت على لاعب بايرن ميونيخ سابق! وكأنما أعيد تصنيع التجربة لاستهلاك غيري.
رغم إفزاعه لي في البداية، إلا أن حيويته وقفزه بين المواضيع على نحو يتخيل معه على ما يبدو أنه يعزف على أوتار حساسة بلا رحمة جعلاني بالواقع أميل إليه وأرتاح إلى رفقته، فقد شعرت بأنه سليم النية بالأساس، وليس خبيثاً، وإلا لما اتجه إلى المباشرة على نحو ساذج إلى حد ما. إنه يشبه تمرد على نوع من البراءة المستحكمة.
بعد الكثير من النقاشات والحديث، وحينما كدنا نصل إلى المنزل في منطقة العليا، قال الطبيب للدكتور شيئاً، وتناقشوا قليلاً حوله، تحدثوا باللغة الألمانية، وهي مضحكة إلى حد ما، لا تكاد تخلو كلمة منها من صوت الشين وبالدرجة الثانية السين. ثم قال الدكتور فجأة، وكأنما اتفقوا: سعد لنتوقف في مقهى ونشرب بعض الشوكولاته. يعلم الدكتور بأني أحب أن أشربها، لهذا كان المقهى ليس للقهوة. لم أفهم، فقد كان يقول بأن الطبيب متعب، فقلت بأن الطبيب متعب بعد الرحلة، ألا يجب أن يرتاح؟. فتكلم الطبيب بأني شخص مثير للاهتمام، وأنه يريد أن يتكلم معي وأن يعرفني أكثر. ثم أعقب بأنه من المفيد الجلوس مع الشباب، فهذا يعيد للمرء بعض شبابه، فقلت إذا فقد علقت مع الشخص الخاطئ، فقد كنا قد اتفقنا بأن روحي معمرة، أنا والدكتور، ضحك الدكتور، وشرح للطبيب بأن لست بشخص حداثي.

وصلنا، وأخرجت حقيبتي معي، ولكن الطبيب طلب أن تفتح شنطة السيارة، ولما سألت لماذا قال بأنه سيخرج ماله من الحقيبة. رفضت وقلت بأني أنا أدعوه هذه المرة. لكن الدكتور الألماني تدخل بحزم، مستبقاً اعتراضي، قائلاً بأن الأمور لن تتم هكذا هذه المرة، فأنا آخر من دفع (وبدا بأنه يحمل الأمر في قلبه كجرح!!) وإذا لم أفتح الشنطة فسيبقون في الخارج. جادلت بأنه دفع في كل مرة قبل ذلك، كما أنه يهتم للأمر كثيراً، فتدخل الطبيب قائلاً بأنه رجل غني (متحدثاً عن نفسه) لهذا يجب أن يدفع، وأن كليهما أكبر مني فلا يجب أن أدفع(!!). لكني رفضت وقد عصبت، وقلت للدكتور بأني لأول مرة أرى الطبيب وأني أريد أن أدعوه، وهو في مدينتا فمن العيب أن يدفع. أمام هذا مضوا، بعد انتظار يسير لأغير رأيي، وكان الدكتور غير راض، وقد أقطب حاجبيه.
جلسنا لنتكلم، وتحدث عن الصحة المتدهورة هنا للنساء خصوصاً. وكيف أنه يرفض القيام بعمليات استبدل مفاصل الورك للناس هنا قبل تخفيف أوزانهم، لأنه يعتقد بأن أوزانهم ستزيد أكثر حتى، حينما لا يشعرون بالألم من مفاصلهم، مما سيسيء لصحتهم، ويجعلهم بحاجة إلى عملية أخرى أقل فرصة بالنجاح من الأولى، بعدما يقصرون عمر المفصل الاصطناعي من عقود إلى بضع سنوات بسبب الوزن غير الصحي، الذي تسبب بفساد المفصل في المقام الأول. وأن النساء هنا مظلومات وغير واعيات، فقد جائت امرأة في الأربعة والأربعين من عمرها، تعاني من مشاكل كثيرة، ليس أقلها السمنة المفرطة، ولديها ثمانية أبناء، وتشكو من مفاصلها، وهي مرضعة كذلك. يقول بأنه أخبرها بأنها يجب أن تتوقف عن إنجاب الأطفال، فالأمر خطير عليها وجسمها لم يعد يحتمل. لكن زوجها غضب من تدخله، وقال بأنه يريد طفل آخر. أخبرت الطبيب بأنه أخطأ بالتعامل مع الموقف. كان يجب أن يعطي الزوج إعتباره هنا في التوعية والنصح وتقييم قراره إن كان يريد الصالح لمريضته، فالأمر هنا مختلف والرجال يريدون الانتباه إليهم. قال لكن المرأة هي مريضتي وليس الرجل، لماذا أخاطبه هو؟! قلت بأن الأمر يتعلق بالثقافة هنا، إن تجاهلك للرجل جعله يتحداك، ثم عدت أنت وتحديته، والضحية هي الزوجة المسكينة. سألني وقد استغرب وطفح فيه الكيل، إذا ماذا يجب أن يفعل؟ قلت بأن يحدثهما معاً، وأن لا يتجاهل الزوج إطلاقاً، وإن كان لزاماً عليه أن يتجاهل أحداً، فليتجاهل الزوجة لأن بعض الرجال أغبياء وعلى جانب من ضعف الوعي، هذا إذا أراد الأفضل للمريضة. لم يعجبه ما قلته، وقال بحماس بأنه علي أنا إذا أن أغير من طريقة تفكيري، فتدخل الدكتور يخبره بأني أشرح له حقيقة فقط، أسدي له النصح. ثم شرحت له أنا كذلك، قلت بأني أعلم بأن المريضة هي من يجب أن يخاطب بالأساس، وهي الأهم، لكني أحاول فقط أن أوضح لك أن تحدي الناس وأفكارهم لن يأتي بنتيجة جيدة، إن تجاهل الرجال وإن كانوا ليسوا المرضى الأساسيون قد يكون عكسياً على مريضاتك، وأنت تريد الأفضل لهن، فلا تتحدى الرجال وتحاول أن تثبت وجهة نظرك مهما اعتقدت بأنها صحيحة، لأن المرأة ستكون هي آخر من يستفيد، وتسائلت عن الفائدة التي ستجنيها المريضة من محاولته إثبات صحة رأيه حتى لو كان صحيحاً، طالما زوجها لن يتفهم. فهم، وقد اقتنع على ما يبدو. لكن الأمر سّلاه، من الواضح أنه يحب الخلاف والمشاكسة.
تحدث عن توعيته لمرضاه، ولكني تسائلت عن فائدة التوعية وقول الحقيقة الصريحة للمرضى، حينما يكون حافزهم ضعيفاً لمساعدة أنفسهم. كمثال، الناس الذين يحتاجون إلى تخفيف أوزانهم غالباً ما لا يقومون بهذا بمجهود ذاتي مهما كان هذا أفضل لهم، إنما يريدون من طبيب أن يستأصل الشحوم أو يربط معدتهم (وهو أمر خطير جداً كما وصف لي). بدا في البداية أنه مكتف يقول الحقيقة بلا تبسيط وفخور بالأمر، وهو أمر جيد، لكني لم أرى له قيمة كبيرة في مجتمعنا الاتكالي إلى حد بعيد. شرحت له بأن الناس عموما هنا يائسون، ويصعب تحفيزهم، وأن قول الحقيقة لا فائدة منه بلا تحفيز. ولكن كيف يكون التحفيز؟ هذا ما لا أعرفه، لكني أعرف بأن قول الحقيقة لا يعنيهم كثيراً، طالما لن يكمل الطبيب العمل على المشكلة بنفسه دون مساهمة من المريض. تناقشنا حول التحفيز، وفي البداية بدا أن الفكرة تثير اهتمامه، لكنه لا يفهمها تماماً، ويعتقد بأن قول الحقيقة يكفي، وأن من لا يساعد نفسه، فقانون داروين (الإنتقاء الطبيعي) كفيل به، لكني جادلت بأنه هكذا لم يساعد مرضاه فعلاً.
وقد تحدث عن المطاوعة هنا، لديه وجهة نظر واضحة ضدهم، وهو يعتقد بأنهم لا يطبقون الإسلام على الوجه الصحيح، الذي يحث على الاعتناء بالبدن والتفهم. وهو يتوقع حدوث تغير كبير على المستوى النسائي. وأنهن لن يصمتن طويلاً. تناقشنا حول هذا الأمر كثيراً. أي نوع من التغيير يتوقعه؟ يوجد إشكالات كثيرة حول تغير المجتمع بدافع خارجي. قال بأنه يتفهم بأن وجود أمهات بلا أزواج مشكلة لا يريد السعوديون التوجه في الطريق إليها كما في ألمانيا. طال النقاش إلى حد ما. لم أكن أناقش على أساس إشكالات النساء هنا فقط، إنما المجتمع بشكل عام. قال بأن هناك من هو واع لما يجري ومشكلة النساء هنا ويسعى لتغيير الوضع، فقلت بالتأكيد هناك من يعي ويمكنه التغيير، لكن السؤال هو: هل سيقوم بما هو صحيح أم لا؟ فالأمر مثل مرضاك، يحتاج إلى التحفيز الصحيح، وليس الإجراء الخاطئ. كان الدكتور الألماني، صديقي، يستمع طوال الوقت، ومن النادر أن يتدخل، وقد يضحك بخفة أحياناً على شيء أقوله، رغم أني لم ألقي أي نكتة، وهو يلعب بلبادات الكؤوس. ولكنه هنا أطلق ضحكة واضحة وقوية، وقد ترك ما يلعب به على الطاولة. فالتفت إليه، وقد تعودت على هذا النوع المفاجئ من الضحك على ما أقول، واستمر يضحك، ابتسمت وسألته لماذا يضحك؟ فقال بأن الطريقة التي أقول بها هذا جميلة.

حينما انتقلنا إلى موضوع آخر، المجتمع هنا، وجدت بأن الطبيب لديه الكثير ليقوله، خصوصاً عن المرأة هنا. إني أعتقد بأن المرأة هنا تعاني من الكثير من المشاكل، ولا تتلقى الرعاية الخاصة التي تستحقها، ولكني لا أنتظر الحل من الخارج، ولا أريد أن أنظر للأمر بأن مشكلة المجتمع الوحيدة تتمحور حول المرأة، فالكثيرون سواها يعانون. قال بعض الأمور التي أتفق معها، مثل الاهتمام بصحة المرأة، وممارستها للرياضة، وهذه الأمور، ولكنه قال أمور أخرى، عادية إلى حد ما، لكن اندفاعه حول الأمر أشعرني بأنه مغتر كثيراً بحضارته الغربية، وربما على جانب من الصفاقة أحياناً، كما قال في لحظة بأنه لا يستطيع أن ينقل ١٤٣٢ إلى ٢٠١١ في لحظة واحدة، مما جعلني أتسائل عن مقاييسه للحضارة، ومدى عمق تفكيره فيما يقول ويعتقد. لكني قدرت حسن نواياه ورغبته في تحسن أمور بعض الناس هنا، وإن لم يكن يعرف على وجه التحديد العلة، أو ولو لم يكن لوجهات نظره اعتبار كبير كونه لم يطل البقاء هنا وليس بذلك الشخص اللماح على المستوى الفكري حسب اعتقادي.

خلاصة الأمر، لا أحد يخلو من عيوب، لكني أحب حسن النية، أحب البراءة الصميمة وإن غطيت بالتذاكي والتحذلق. لقد أعجبني إلى حد بعيد بحضوره اللطيف ووضوحه ومباشرته، أياً كانت أفكاره، فأنا أقدر الصدق، ولا أقدر الالتواء، أما الأفكار والمعتقدات، فليس لي غير نقاشها والتحدث حولها، والحكم الله سبحانه أولى به. كما أقدر بعده عن السخرية وجديته. فالسخرية سيئة النية هي ما يستفزني في النقاشات هذه.
تحدثنا كذلك عن الكثير من الأمور الأخرى. تجاربه في الماضي والآن هنا، عائلته كذلك. قال بأن أبنائه سيحضرون إلى هنا لزيارته، وقال بتأكيد يشبه الفرض اللطيف بأني سأقابلهم. أبهجني الأمر، وبدأت أسأل عنهم. لديه الكثير من الأبناء ما شاء الله، خصوصاً بمقاييسهم، وهو يقول عن هذا أنه أدى خدمة كبيرة لألمانيا بهذا الإنجاب الوفير!. بالطبع، هو صادق، فهم ليسو مثلنا. كان الدكتور صديقي قد أخبره بأني وإخواني عشرة، من أم واحدة، حينما كنا نتحدث عن الأمور الطبية واستنزاف النساء.

حينما أردنا الخروج، وجيء بالحساب، قال الدكتور صديقي مبتسماً بطريقة مخادعة بأنه سيدفع عن نفسه، بينما أدفع أنا عن نفسي وضيفي، ولكني رمقته بنظرة خاصة، وجأرت بالشكوى، مما جعله يستسلم مباشرة، وهو يكظم غيضه ناظراً في اتجاه آخر. بدأت أتعب أعصابه مؤخراً في هذا الموضوع. لا أدري لماذا لا يريدني أن أدفع أبداً.

خرجنا، وأوصلتهم إلى منزل الدكتور. وفي الطريق أخبره الدكتور عن ظروفي، وظروف أهلي الطبية، وكانت هذه مقدمة لإحراجه بخصوص فحوص أمي، لكنه استبق الأمر وقال بأنه سيرغم الطبيب الذي فحصها على الإدلاء بما عنده.
أرجو أن أرى هذا الطبيب مرة أخرى، إنه طيب جداً.





في العمل، لا زلت أتفادى التعامل الطبيعي مع مديري، وأركز كل تعاملي معه على المستوى العملي، خصوصاً بعد إرساله لشخص آخر لينقل عنه ملاحظات، بينما كان يراني، ومكتبه على مقربة.

مديري هذا الأسبوع يحاول أن يكون لطيفاً، ويصطنع لأي حدث صغير امتدادات طويلة، ويدعو لي طوال الوقت، ويحاول أن يجعلني أجلس في مكتبه كالسابق، ويترك لي الخيارات على نحو غير معتاد ويحاول أن يبرز بأنه يريد أن يخدمني في كل شيء.
لكن...
حينما أرسل ذلك الشخص ليخبرني بملاحظاته في الأسبوع الفائت، كان يتلطف قبل ذلك أيضاً، وإن على نحو أقل من هذا الأسبوع، تجاهي منذ صباح ذلك اليوم. هذا جرح لم يبرأ، وما يدريني أنه يتطلف لي الآن، ثم يرسل إلي نفس الشخص مرة أخرى، بملاحظة أخرى...
أختي الكبرى، صديقتي الصدوقة، تشفق على المدير، وتقول بأنه رجل كبير نادم على ما حدث، وأني يجب أن أخبره بما يجول في خاطري لأصحح الوضع.
لكني لا أدري. إني أشعر بالخجل من تلطفه، ولا أريد أن أجرحه بتجاهله، وهذا ما أحاول أن أقوم به، أن أرد بالحد الأدنى، أن أصطنع ابتسامة ولو كانت غير صادقة.





في التميمي قبل يومين، وجدت رجل مسن يبحث في قسم الخبز عن ساندويشات معجونة بالحليب، وتكون ١٢ حبة في الكيس. كان الرجل ضئيل بلحية طويلة، ولهجة جنوبية قوية، وحركة سريعة ما شاء الله. كان يمسك حينما ناداني لأساعده من بعيد، ولا أدري لماذا اختارني، كان يمسك كيس فيه ٩ ساندويشات صغيرة الحجم. أخبرني بما يريد، ولم أجد له ما يريد بعد بحق في رفوف الشركات المختلفة، فلم يكن الخبز يعبأ بالشكل الذي يريده، فقال بأنه إذا سيأخذ ما وجد ويمضي، لكني نبهته متسائلاً: أليس حجمها صغيراً؟ وأخرجت له كيس فيه حبات أكبر، من النوع الذي يؤخذ إلى المدرسة، إذ خمنت بأن هذا ما جاء به، تلاميذ في المنزل. شكرني بذهول، وقد بدا بأنه لم ينتبه إلى مسألة الحجم. أخذ كيسين، وقبل الذهاب جرني وقبلني وهو يدعو لي، على نحو فاجئني، ثم مضى مستمراً بالدعاء. بالواقع، شعرت بامتنان أكثر مما قد يتوقع المرء، لأني لا أدري إن كنت اشتهي أن أقبل نفسي.







أمس، كلمني مديري بلطف، محتجاً على طول تغيري عليه، وعلى حساسيتي مما جرى. قلت بأني حسبت بأنه يريد أن يضع حداً جديداً، فأحببت أن ألتزم به. لم يفهم، فسألته لماذا أرسل شخص آخر لينقل عنه رسالة، وهو يراني طوال اليوم؟ قال بأنه لم يفعل. ظهر بأن الأمر كان خطأ ذلك الشخص، الذي أقحم اسم المدير لسبب ما، ربما ليتفادى إحراج نفسه. كان أمر في قمة السخافة. شعرت بغضب شديد، وقلت بأني لا أريد أن أتعامل مع ذلك الشخص مرة أخرى، لا أريد أن أتعامل مع هذا المستوى من الغباء. أخبرت المدير بأنه حتى ساومني على السماح لي بمرافقة أمي إلى مواعيدها، وتعنت في موضوع إجازة اضطرارية من حقي. قال المدير بأن في الأمر سوء فهم، وأن ذلك الشخص لم يعرف كيف يعبر على الأغلب. أصريت على أن لا أتعامل معه مرة أخرى. فاقترح المدير أن يكون تعاملي معه مباشراً. لكني قلت بأنه يعلم بأنه يجب أن يكون لي مدير فرعي، وهذا سيسبب له الإحراج، كما سيسبب لي الإحراج حينما يقول الآخرين بأني أحضى بمعاملة خاصة، فقال بأن هذا غير صحيح، ولا يهم الإحراج. كان قد تفادى التعامل المباشر على المستوى الرسمي منذ زمن بعيد، لأن القوانين الجديدة تقتضي تعيين مدراء فرعيين. مع ذلك، أصر أن يكون تعاملي معه مباشر من الآن فصاعداً، وأن أنسى أمر ذلك الرجل ولا أغضب، وطلب مني أن لا أكون حساساً، فهو يقدرني كثيراً، ويريد أن يعود سعد الذي كان يعرفه قبل اسبوعين. تكلم كثيراً، عن رأيه بي، ورأي الآخرين فوقه وبمستواه بي. أعرف أنه يريد أن يشجعني. طال النقاش حول بعض الأمور. وخلص إلى أنه يريد أن يرضيني، وأنه يهمه صالحي كثيراً. 
إني ممتن لمشاعره كثيراً. لكن التفاصيل أشكلت علي. إني أشعر بأني فقدت الثقة بما يقول إلى حد بعيد. وهذا رغماً عني.
فرح حينما سألني إذا ما كانت الأمور على ما يرام الآن. فقلت نعم. يحاول الآن أن يكون ألطف من السابق.
مع ذلك، لا أدري لماذا أشعر بأن نفسي عافت القسم إلى حد ما. وصرت أطمع بالمغادرة تجنباً لازدحام المكان بالكثير من غير الأسوياء، وابتعاداً عن الذكريات السيئة.





سعد الحوشان

الثلاثاء، 10 مايو 2011

خزائن النسيان (قصة،ألماني،قصيدة،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم












كان اليوم مميز بشكل ما، على نحو يشعر المرء بأن للأمور العادية مغزى آخر؛ لقد أصبح كل شيء حاث على التفكر فجأة.
رأيت اليوم شخص كان عزيزاً علي، لم أره منذ سنوات، وقبلها بسنوات لم نكن نتكلم، أو حتى نسلم أو نرد السلام. لقد أردت أن أقول شيئاً اليوم، دون أن أقوله حقيقة وفعلاً. كان الأمر صعباً. في البداية، قررت أن أنتظر منه مبادرة. وقفت لأكثر من ساعة، ليلاحظني، فإن تجاهلني، أمضي ببساطة فهو لا يريد السلام، وإن أشار إلي؛ جئت وسلمت، ومضيت. صعب علي أن أعرف إن كان قد لاحظني أم لا، كان المكان شديد الازدحام، وهو ضعيف الملاحظة بطبيعته. بعد حوالي الساعة والنصف، تذكرت شيئاً مهما؛ لا يمكنني أن أعتمد عليه، إذ لطالما شكل حالة استثنائية في حياتي، من حيث أنني كنت دوماً من يبادر. قررت أن أبادر، أيا كانت ردة فعله.
في آخر مرة بادرت بشيء تجاهه، كانت بسلام ألقيته على شخصين هو أحدهما، ولم يرده، لكنه ظل ينظر إلي طوال الوقت، بينما أوليته أنا ظهري في ذلك الحين؛ كنت أرد النظر إليه طوال الوقت أيضاً، من خلال سطح صقيل، دون أن يدرك ذلك.
مر وقت طويل حتى جاءت الفرصة اليوم. إني حينما أريد شيئاً، أثابر حتى أفشل على الأغلب.


جئت إليه وسلمت، ومددت يدي مصافحاً. بدا عليه الذهول، ربما الصدمة، وقد وقف ليسلم علي. تسائلت في نفسي إن كان قد عرفني؟ لم يأت على ذكر اسمي. سألني عن حالي وسألته عن حاله، وكان من الواضح أن كلينا ليس لديه ما يقوله في ذلك الظرف، لذا مضيت مودعاً حالما سكتنا، على نحو أعلم بأنه غريب. لكن ما قمت به لم يكن سلاماً بالأساس؛ كان رسالة سلام.
ولأهمية الأمر، بدأت بالشك بمعرفته لمن أكون، فقد مضت سنوات، ووجهه لم يبين شيئاً. أعلم بأنه بالأصل لم ينساني، لكن، ربما تغيرت كثيراً عما كنت عليه. 
عدت أدراجي لأراه، وأقيس نظرته إلي، التقت عينينا مرتين. كان يحادث أحدهم، وبدا من الواضح أنه مشغول الذهن، على خلاف ما كان عليه قبل السلام. لكان يمكنني أن أقول أنه بدا مشغول الذهن لأنه يحاول أن يتذكر من كان ذلك الرجل غريب الهيئة، لكن، اتضح أيضاً أنه كان متجهماً؛ لقد تذكرني إذاً.
التقت عينينا مرتين وأنا أمضي، وهو يشيح بنظره ويواصل التحدث إلى من أمامه.
غادرت المكان، وأنا أشعر بالرضا. لم أكن راضياً لأني حققت شيئاً، على العكس، لم أحقق شيئاً، ولم يتمخض الأمر عن شيء، ولم أتوقع أي شيء أصلاً، فقد كنت أنا من سيقوم بالأمر، وكنت أعلم بأنه لن يكون هناك ردة فعل مهمة في أفضل الأحوال. بل لعلي تأكدت أنه لا يزال يكرهني. لكني كنت راضياً لأني قمت بشيء نابع من قلبي، وبكل صفاء نية. لقد قلت شيئاً، قد لا يفهمه، لكنه قيل بأقصى ما أستطيع، وما يسمح به هو، والظرف، والماضي، من فصاحة.
حينما مضيت، تذكرت سوء الفهم الكبير الذي لف معرفتي به، ولا أقول صداقتنا، فلم نكن أصبحنا أصدقاء، لكننا نجحنا بالتوصل إلى أكبر سوء فهم مر في حياتي. تذكرت شخص واحد ساهم كثيراً بسوء الفهم هذا، ودعوت الله أن لا يوفقه. لكني ابتسمت، إذ أعلم بأن الله سبحانه لم يعد يستجيب لأدعيتي منذ زمن طويل، إذ لعلي أقوم دون أن أدري بما يمنع الاستجابة، أو لا أقوم بما يعززها.
إن التدخل في حياة الناس يكون أحياناً خطيراً عليهم، مغيراً للكثير من خططهم وطبيعة أيامهم.
لقد كانت صحته طيبة، وكانت السعادة الجلية تبدو على وجهه الحسن، وبعموم حضوره، كان يبدو أكثر سعادة بكثير مما كان عليه حينما كنت أراه ( أو يراني؟) أكثر...


في نفس اليوم، سيعود الدكتور الألماني من سفره، الذي امتد لثلاثة أسابيع من الوحدة. هذا كان الحدث الأهم من حيث الطبيعة، لكن الحدث الأول اكتسبت أهميته من عدم توقعه.










أفكر أحياناً في تراكمات الحياة، والأمور التي تحتاج إلى عناية ومتابعة مستمرة. أفكر بأني أريد الحصول على مساعدة؛ وحينما أفكر هكذا أفكر بالزواج تلقائياً. هذه أنانية، إني فقط أفكر بتخفيف الأعباء الحياتية عن نفسي. لكن، لا أعتقد أن فتاة أصلاً ستقبل بهذه الظروف.






قد يحدث أمر مهم بعد شهر او اثنين إن شاء الله.






سيارتي في الوكالة، التي رفضت استقبالها إلا بموعد مسبق (!!). الوكالة هي عبداللطيف جميل. وكأن الموعد يختلف، جاء أناس بلا موعد، ولم يتم تقدير الدور، وكان الأمر فوضوياً، ولم ينادوا بالأسماء كما أخبروني حينما حجزت، ولم يوزعوا أرقام للانتظار حتى.
عموماً، تعاملت مع مهندس سعودي هناك، وهو شاب لطيف، من ملامحه ولهجته بدا لي حجازياً. لكني لا أدري، لأني بعد يوم حينما تواصلت معه اعتذر عن عدم اتصاله أو رده في اليوم السابق، وأنه لديه ظرف طارئ اليوم وهو في طريقه إلى المجمعة. سألني إن كنت مستعجلاً، فيعود في اليوم نفسه. أخبرته بأن يأخذ وقته، فلست بمستعجل. في اليوم التالي، اتصل، وكان من الواضح أنه لا يريد أن يصدمني بالأسعار، رغم أني بالواقع أتوقع الأسوأ، ولدي خبرة معهم. لكنه كان نصوحاً، واقترح إجراءات قد تفي بالغرض وتكفيني شر التكاليف الزائدة، قائلاً بأنه قام بها لأجل سياراته. وثقت بنصائحه، بخصوص القير، وأخبرته بأن يفعل ما يراه ملائماً. بعد قليل اتصل، وأخبرني بأنه أيضاً طلب منهم التصرف وفق طريقة معينة مع المكيف، عكس ما تقوم به الوكالة بالعادة من تبديل النظام كاملاً، وأن هذا قد ينفع. كنت شاكر جداً لاهتمامه.
لا أدري لماذا مع ذلك، أشعر بأني يائس من عودة السيارة للعمل كما كانت. إنها أول سيارة أحبها إلى هذه الدرجة، وكنت أتمنى أن تستمر معي لسنوات، ولا زلت أتمنى ذلك، لكني أشك بأنها ستسمر.






ذهبت إلى معرض التعليم العالي، في آخر يوم قبل أن ينتهي. كنت أحسب ذلك اليوم هو اليوم الذي يبدأ به!!. بأي حال، سبب ذهابي الرئيسي كان لرؤية الألماني الأصغر، الذي يعرض هناك كما بالعام الفائت. كان معه زميل لأول مرة أراه، وهو قد جاء من ألمانيا خصيصاً للعرض بالمعرض. كان يتحدث العربية بطلاقة، وكان لطيفاً، ويريد أن يضحك باستمرار، مما أشعرني بأن الطيور حقاً على أشكالها تقع. عرفني صديقي الألماني إليه بكثير من المديح المحرج لي، شكرته، قائلاً بأني لم أكن لأطلق هذه الصفات على مثلي، لكنه أضاف بأني متواضع جداً. بالواقع؛ كان مديحه يكبرني بكثير.
رأيت الكثير من الناس الذين أعرف أو أرى في الجامعة، لكني لم أسلم على أحد منهم. أكثرهم لا علاقة لي بهم. دكتور تركي فقط هو من رغبت بالسلام عليه، لكنه بدا مشغولاً وبعيداً جداً.






التقيت الدكتور الألماني أخيراً، وقد مر شهر أو أكثر منذ آخر لقاء لظروف سفره. أحضر لي هدية صغيرة؛ علبة من راحة الحلقوم من تركيا. كان مشغولاً في رحلته هذه إلى درجة أني لم أرد حقاً أن يشغل نفسه بشراء هدية أياً كانت. 
قرأت له قصائد من كتابتي، وأخبرته عن قصة قصيرة أعمل عليها الآن، وأتمنى أن أتمكن من إنهائها. هي تتحدث عن مجتمع منكوب، وفي هذا المجتمع المنكوب يوجد مع ذلك من يعتبرون بالمقارنة سيئوا حظ، مثل البطلة.


تكلمنا عن مواضيع لا حصر لها، وبالواقع لم أتوقع أن نطيل البقاء إلى هذا الحد، وقد بقينا حتى أكثر من آخر مرة. كان هناك إزعاج في المقهى في منطقة العليا؛ كان هناك مباراة بين فريقين اسبانيين، في اسبانيا، والصياح والإزعاج لدينا هنا. هل يتخيلون بأنهم جزء من العالم حينما يشجعون فريق كرة قدم، أكثر مما يتخيلونه فيما لو تعلموا عن مختلف الشعوب وحياتها أكثر. كان المقهى، الذي أكرهه، تغشاه سحب الدخان المقيتة، فلا حياء لدى المدخنين. إن التدخين شكل من أشكال الإدمان، وهو محرم. عدم منعه أمر محير، إنه أصبح من المسلمات فيما كان يجب أن يعتبر بيعه واستهلاكه جريمة في رأيي. خرجنا لاحقاً في الجلسات الخارجية، وأكملنا أحاديثنا.
 هناك أمر مستجد، لكن الحديث مبكر حوله الآن بالنسبة للمدونة. أخبرته عنه، وأبدا اهتماماً كبيراً، أكبر من أن يفصل لي أفكاره حوله، فقط بدأ برسم بعض الخطط ويفكر بما سيمكنه القيام به فيما يخص الأمر.


طبعاً، أريته الننتندو المحمول الجديد، الذي أريه لكل أحد تقريباً، وقد أذهله جداً، ولم يعلق على تفاهة ألعاب الفيديو لحسن الحظ.


حكيت له عن مقابلة لأميرة سعودية مع مجلة أو جريدة اسبانية، وكيف أني تألمت لأسلوبها الذي تحدثت به عن الناس هنا. كان يبدو وكأنها تعتذر عن ما نحن عليه، وكأنما هم ينتمون إلى الغرب ولكنهم عالقون معنا. قالت بأنه لا يمكن دفع الناس إلى الأمام بسرعة (الأمام الذي يهم الغرب على ما يبدو) لكن لن يسمحوا لنا (!!) بالجمود. لم تكن أول مرة أطلع بها على مثل هذا الأسلوب. لكن لحداثة عهد اطلاعي على الأمر الأخير هذا، لا زلت غير قادر على تجاوز الألم الذي شعرت به، والرغبة بالانعزال. شعر الدكتور أيضاً بالألم للأمر. ما باليد حيلة...


تكلمنا عن رحلته الأخيرة، التي كانت متعبة جداً، ولكنه استمتع بها. قال بأنها كانت طويلة، لكنها مرت بسرعة. قلت بأنها مرت بسرعة عليه، لكنها بالنسبة لي كانت مملة وكأنها سنوات. لم أقابل أحداً خلال الفترة، من أرى؟ ومن أكلم؟. ما أكثر الناس حولي، وما أقلهم.


لقد ذهب إلى بعض بلدان آسيا، وأخبرني بأنه تمنى الاطلاع على سمرقند، التي يراها ملتقى للحضارات والقصص الخيالية. أخبرته بأنه يمكنه أن يرى أهلها في جدة على الأقل. تسائل مذهولاً، كيف؟ قلت بأن الكثير منهم ومن بخارى هاجروا إلينا منذ زمن طويل، وهم يحتفظون بأسمائهم هكذا: سمرقندي، بخاري، وهم كثر في الحجاز. وهم سعوديون الآن، لكن أشكالهم مختلفة بالطبع.


قلت بأني أتمنى أحياناً أن أغادر إلى مكان آخر. قال متحمساً بأنه يجدر بي ذلك، يجدر بي توسيع إطلاعي على العالم. قلت بأنه لم يفهم، إني لا أفكر بالإجازة، إني أتخيل الابتعاد إلى مكان أبسط، وأكثر عزلة وهدوءاً.
إلا أنه بعد وقت، قال بتفكر بأنه علي مغادرة البلد، وتغيير نظرتي للعالم، الذي أراه عدائياً. قلت بأني لا أرى كل العالم عدائياً، إنما الغرب فقط. أخبرته بأن أحد ما طلب مني أن نسافر معاً، إلى أي مكان أحبه. وهو نفس الشخص الذي تكلمت عنه في التدوينة السابقة،  وقلت بأني أقدر لطفه معي، لكني أجد صعوبة بالثقة في استمرارية هذا اللطف وعدم انقلابه. حضني الدكتور على الموافقة، لكن هذا مستحيل بالطبع. أخبرته بأني أود أن آخذ أمي، أريد حقاً أنا أسافر معها إلى مكان بعيد، وهذا أمر لن يحدث قريباً نظراً إلى صحتها.  أتمنى أن أتمكن من ذلك بالمستقبل، أتمنى لو أخذتها إلى نيوزيلاندا، وأن نمكث هناك في مكان ريفي، ونتمشى، وننظر إلى الأغنام، ونشرب من الماء الجاري في السهول. وربما نركب قطار الترانز ألباين في رحلة واحدة. لا يهم أن أرى أثاراً أو شعوباً أصلية أو أنشطة ثقافية في ذلك الوقت، المهم أن نرى معاً صورة كبيرة وجميلة عن ما وصفته من طفولتها(تزوجت والدي وهي في الثانية عشر تقريباً) دائماً بالثراء رغم فقره المدقع؛ الطبيعة الخضراء في المواسم والحياة في الريف والرعي، والمياه الجارية. بالطبع، لن نجد بدو هناك لنلعب مع أطفالهم في المراعي، ولن يمر الغجر من وقت إلى آخر ليتسولون أو يعرضون علاجاتهم، أو يحضرون الأخبار والقصص من الأماكن القصية، لكن التجربة ستفي بالغرض.


عودة إلى الدكتور العزيز، مضى وقت طويل على جلوسنا، ولم أتوقع بصراحة أن يجلس طوال هذا الوقت قبل أن يتعب ويرغب بالمغادرة، ولكنه استمر بالتحدث معي. 


شاهدنا المدونة، وقرأ العنوان، دون أن يفهم شيء تقريباً، كان يقرأ الكلمة وأنا أشرح له المراد. لكنه عرف "ألماني" وضحك ابتهاجاً. قفز كلمة "القصيم" في العنوان، فحسبت أنه بدأ يقرأ من اليسار إلى اليمين، كدت أن أضحك. خجلاً من تصحيح وضعه وإخباره بالملاحظة؛ نظرت إليه جانبياً، واضعاً أنفي إلى جانب الشاشة، إذ كنت أمسك بالجهاز في اتجاهه ليرى. قال بأنه يعرف لكنه قفز الكلمة بالخطأ، وقال ضاحكاً لابد أني أعتقد أنه غبي. بالطبع لا. نزل عن العنوان وتفرج على الصور، وضحك حينما رأى القبعة التي أحضرها من ألمانيا لي، وقال بأنه من المذهل صفي لصور أشياء غير متوقعة أو معتادة، أشياء بسيطة غير ذات أهمية كبيرة، وعرضها على هذا النحو المنسق. قلت، قاصداً تعبيره بالأشياء غير المهمة، بأن هذا كل ما لدي بالواقع. صدمته الفكرة، لكنه الواقع. قال بأنه لا يصدق هذا، لدي الكثير. قلت لا، ليس هناك سوا الأشياء الصغيرة. بدا أن الفكرة أزعجته.


ناقشنا قوله بأنه لا يشتاق كثيراً لأحد، خصوصاً حينما يكون بعيداً لسبب وجيه. كان قد أخبرني من قبل بهذا. قد يشتاق قليلاً لبعض الناس لأسباب محددة غالباً. قلت بأن هذا أمر نختلف فيه، إني أشتاق بسرعة. أنا بالواقع أشتاق إلى أمي في العمل أحياناً. أخبرته بأني اشتقت إلى كثير من الناس من قبل، لكني أعلم بأنه لم يشتق لي أحد من قبل. أيضاًً قال بأنه لا يصدق هذا. قلت بأن هذه حقيقة، ولسبب واقعي؛ إن الناس الذين أشتاق إليهم لا أبتعد عنهم كثيراً فلا يشتاقون إلي، أما الناس الذين أفترق عنهم فغالباً ما يكون الأمر بسبب مشكلة، فيكونون قد كرهوني، فلا يشتاقون إلي. لم يصدق، لكنه لم يجد حجة يجادل بها. بدا عليه شيء من الضيق للفكرة، وتأمل متفكراً وهو ينظر في اتجاه آخر.








هذا الأسبوع مر سريعاً، ورغم أن أيامي تمر سريعة جداً، ولعله أمر محمود، إلا أن هذا الأسبوع أشبه باللص المحترف.








اتصلت قبل يومين بالألماني الأصغر، وسألته إن كان لديه الوقت لنذهب إلى مقهى، كان الوقت لديه، وكان سعيداً بالاتصال. أي مقهى؟ سأل، كاريبو كافيه، كم سيستغرق قدومك؟ هكذا سألت، قال: لوضع الميك أب، ربما نصف ساعة، ضحكت على المزحة، وتخيلت شكله بلحيته الكثة وحاجبيه الثخينين، وقد وضع الحمرة والألوان. التقينا، وحينما نلتقي نبقى تقليدياً لوقت طويل نتكلم. لديه اهتمام كبير بالإسلام، لكنه شديد الجدلية، وهذا أمر لا آخذه بجدية. يذكرني أحياناً بالمثقفين السعوديين، ورغم أني أقدره كثيراً إلا أن هذا ليس مديحاً بالطبع. إن له سمات جيدة أخرى عموماً، لكن أعتقد أنها تتمركز حول الجوانب الحياتية الأقل عمقاً وأهمية بالنسبة لي. هو لطيف المعشر، ومتأقلم، ورغم أن بيئته الاجتماعية والثقافية مختلفة عن الدكتور الألماني الكبير، إلا أنه كريم أيضاً بطبيعته، رغم أنه لا يجيد التواصل من هذه الناحية جيداً، لكن كرمه واضح. بالواقع، وعلى نحو غير متوقع، أجد أن اصدقائي الأجانب بعمومهم كرماء جداً، وأواجه معهم غالباً مشاكل عند دفع الحساب، فيما السعوديون يتفاوت الأمر بينهم أكثر، ناهيك عن العرب. ربما كان الكرم حاله مثل حال النظافة لدينا، التي تحدثت عنها في إحدى آخر التدوينات؛ لا نشكك بكرمنا وكأنه من المسلمات.
يوجد مؤتمر أو شيء من هذا القبيل عن الحنفية، وهو متحمس له. لم أفهم بالبداية ما يريد أن يقول حينما أخبرني بأنه "حنيفة"، يريد أن يقول حنفياً. ثم شرح فهتفت: آه! حنفي!!. شرحت له الفرق. وسألني إن كان أكثر الناس هنا يفهمون الحنفية؟ قلت بالطبع. فابتسم مرتداً إلى الوراء على نحو متشكك، وقال: بالطبع؟ ليس كل الناس مثلك يا سعد، يوجد أناس أقل تعليماً. أخبرته بأن الكل مر بمراحل التعليم الأولية على الأقل، وهذه الأمور تشرح في تلك السنوات. إنه يتكلم دائما بمزيج من الأسف والسخرية عن ضعف اطلاع الناس هنا، وقلة قراءتهم للكتب. أحياناً يغلب الأسف كثيراً، خصوصاً حينما يتحدث عن صدمته تجاه موقف، مثل مستوى التعليم هنا ومخرجاته مقارنة بالعالم، حيث زودني بوثائق مؤسفة تتأخر فيها الدول العربية على نحو متوقع بالواقع، لكنه لم يعلم مثلي بأن الأمر بهذا السوء. وأحياناً تغلب السخرية المضحكة؛ مثل حينما قابلته في معرض الكتاب في الجناح الخاص بالتعليم في ألمانيا، وأراني الأوراق التي يوزعونها، ومن بينها كتاب، قال بأن الكتاب غير مهم، وأعطاني الكثير من المطويات. سألته لماذا الكتاب غير مهم؟! قال بأنه يعطي تفاصيل محشوة لا داعي لها، مع ذلك لا يطلب الناس غيره، وقلدهم بطريقة ساخرة وهم يطلبون الكتاب، وأضاف بمرارة: رغم أني لم أرهم يهتمون بالكتب الحقيقية!. ما أكثر ما ينتقد هذا الأمر، وهو أمر غريب، يبدو لي أحياناً أنه يهتم كثيراً بالصالح العام هنا أكثر من أهل البلد. وبالطبع؛ هذا ليس صحيحاً، لكن اهتمام الناس هنا محصور بنوعية وعيهم وحجمه. سوا أن اهتمامه يظل كبيراً. ناقش معي من قبل سبل زيادة إطلاع الناس على الكتب هنا، وناقش معي خططي العملية التي أخبرته بها، ولاحقاً أرسل إلي مقالات وهو يأمل أن تساعدني لمساعدة الناس هنا.








اليوم الاربعاء، وقد مر سريعاً، وليس حسب الخطة.


في العمل، سمعت زميلي الملتزم الكبير يتحدث منتقداً من اسمهم سعد، وهو أكثر اسم متكرر في قسمنا من العمادة، إن لم يكن في كل العمادة. كان يحاول إغاضة صديقه وزميلنا، ملتزم آخر. أنا أعلم عن وجهة نظره، نصف الجدية؛ إنه يعتقد أن من اسمهم سعد غالباً ما يكونون غريبي أطوار.
لاحقاً، وقفت بينه وبين زميل آخر، وهم على مكاتبهم، وسألته عن وجهة نظره تلك، التي أعرفها مسبقاً، لبدء محادثة فقط. أخبرني، أو بالواقع أخبرته. سألني إن كنت أوافقه؟ قلت ربما، وأوضحت أني بالأساس لا أحب اسمي، قلت بأن اسمي كان يجب أن يكون سعود. تسائل قائلاً بأن سعد اسم جميل، واجمل من سعود. هو أول من يعتقد أن هذا اسم جميل. ثم قال "لنناديك إذا بالكنية، أنت أبو ماذا؟" وهذا أمر أسوأ من اسمي برأيي. قلت له بأني لا أحب هذا، فليناديني باسمي فقط. أصر، وألح لأخبره أنا أبو ماذا؟؟. لما رفضت الاستجابة، قال وهو يعمل: "أجل نناديك أبو شكيب؟".
أنا: أبو شكيب؟!.
هو: "ايه، أبو شكيب!! وش فيه شكيب؟ شكيب اسم جميل.." ثم بدأ يسترسل بذكر أشخاص تاريخيون.
قاطعته بضيق: لحظة طيب، ليش أبو شكيب؟!
هو: عشان يعني شكلك سوري (هذا أبعد ما يكون عن شكلي، لست أبيضاً مثلهم، كما أن شكلي مختلف).
أنا: شكلي مهوب سوري، وين.
هو: شكلك سوري والا اسباني؟.
أنا: لأ!
هو: الا شكلك سوري والا اسباني؟ اسباني؟
يضايقني حينما يطرح الخيارات التي يراها ملائمة فقط لما يريد. وهو دائما ما يشبهني بأجناس جديدة في كل مرة.
أنا وقد هالني بُعد الخيارات: لا، لا شكلي هذا ولا هذا.
هو: أجل؟
أنا: شكلي قصيمي..
هو: بس لونك ابيض.
أنا: مهوب كثير، وكثير من القصمان ألوانهم فاتحة.
هو: مهوب كذا.
أنا: إلا.
هو: يمكن أهل الرس بس.
لا أكذب إن قلت بأني أتمنى أحياناً لو لكمته أو خنقته في مثل هذه اللحظات.
أنا: لا، اسأل فلان. 
أدركت خطأ اختياري متأخراً، فذلك الفلان فاقد للتركيز.
الملتزم الكبير: هذا أبيض؟! مفارقه.
أنا: مهوب هو... صح يا فلان واجد قصمان ألوانهم فاتحة؟
وقف ذلك الرجل ليبدأ محاضرة غير ذات علاقة: الأكل هو اللي يخلي الشكل حلو، الأكل الصحي، يخلي الواحد أبيض ووسيم.
الملتزم الكبير: لا؟ الأكل الصحي؟ وش تاكل يا سعد؟
أثار الأمر حنقي، قلت: ليش؟ بتكتب لي وصفة؟
كان الأجدر أن أسأل إن كان سحدد لي حمية.
هو: لا، عشان ناكل مثلك!
أنا: هاها.
ثم بدأ النقاش يسوده هرج ومرج، وباتت وجهات النظر الغريبة وغير المعقولة تتوارد. لكني ابتعدت سريعاً، قبل أن يجرفني النقاش الذي بدأ اعتباطياً أصلاً.
قبل يومين شبهته بدمبلدور، الساحر الكبير ذو اللحية مع هاري بوتر، ولحقني ليضربني بعدما علم أنه ساحر خيالي. ربما حسبه مثل اؤلائك الذين يجمعون الأظافر والشعر.
أحياناً يقودني للجنون حينما يعاملني بطريقة غريبة، طريقة تشبه تعامل المرء مع أطفاله. حينما أقول ما لا يعجبه، يرفض إكمال النقاش وهو يقاطعني قائلاً بصوت مداهن: طيب قل آسف! طيب أول قل آسف؟.
كنا أصدقاء على نحو أقرب بالسابق، لكني قلصت العلاقة، وكنت قد حكيت كثيراً عن الأمر في المدونة. لكني لنت مع الوقت مع تغيير أسلوبي تجاهه، بحيث أميل إلى إقلاقه من وقت إلى آخر، رغم أن الأمر يعجبه إلا أنه يخيفه بنفس الوقت بوضوح. أخبرته كذا مرة بصريح العبارة بأن هذا الأسلوب الناجع معه، أن يقسو المرء عليه، فيتحسن اسلوبه هو بالتالي. وهذا ما يحدث؛ لقد تحسن أسلوبه، ولم يعد يقوم بما يثير احتجاجي سابقاً. أعتقد بأني علمته أمراً، أو أعطيته درساً. أتمنى أن يكون قد قدر الفائدة.




وبذكر السوريين؛ قبل فترة ألقيت السلام عند المصعد، ولم يكن هناك سوا دكتور سوري مسن، ممن يلبسون مثلنا. لم يسمعني. حينما مر شخص آخر، سلم الدكتور عليه، لكن الرجل لم يجب. سألني الدكتور السوري لماذا الناس لا يجيبون السلام أو لا يسلمون، قلت بأنهم ربما لا يسمعون لانشغال بالهم أو لا يعطون الأمر أهمية. فابتسم وكأنه أمسك بي متلبساً، وقال: طيب أنت ليش ما سلمت؟ قلت بأني سلمت، قال بأني لم أفعل، فحلفت، وقلت لكنك لم تسمع. قال: إذا هيك، تستاهل مكافئة. وقال بأن معه حلو ودس يده في جيبه يبحث، فمددت يدي بانتظاره. وجدها ووضعها في يدي الممدوده، حلوى ليمون، وفككت الغلاف ووضعتها في فمي مباشرة.
أتمنى أن أجده وأن لا ينتبه لسلامي مرة أخرى، وعسى أن يكون حمل الحلوى عادة لا يتخلى عنها.


هذه قصة قصيرة كتبتها قبل سنوات، ونشرتها في مدونتي القديمة التي لم تعد موجودة الآن.
هي عن الحلول غير المتوقعة، أحياناً لأشخاص لا يبدو أنهم يبحثون عن حلول، إنما يريدون حلاً معيناً فقط. الأمر الساخر؛ أني في ذلك الوقت لم أتعلم من القصة، ولسنوات بعد ذلك.
أرجو أن تستمتعوا بها، ولمن لا يريد قرائتها، فليبحث عن الخط الأحمر في نهايتها ويتابع القراءة من هناك.




تعابير وجه دميم







هكذا خلقه الله، ذلك العبدالرحمن.

طفت ذات ليلة تعابير جميلة ورقيقة تأسر الناظر، على وجه دميم، وأبله، فيما يدعى بالإعجاز الإلهي...

 اليوم هوبعد شهر من توظف عبدالرحمن، بعيدا عن ممتلكات والده طبعا. واليوم أيضا، سيخرج مع أمه، ووالده، ليخطبوا هيفاء، إبنة، إبنة العم. كان والده الوسيم فاحش الثراء يلتفت إلى إبنه طوال الطريق مستمتعا بجماله وسعادته ذلك اليوم. عبدالرحمن دميم، هذا أمر لا شك فيه، ومن يشك فيه، فالامر أدعى أن يشك ببقية الثوابت. ولكنه جميل بعيني والده، الذي يخرج، رغم صرامته الشديدة، بمميزات في ولده يسرها باسما في أذن زوجته البدوية البسيطة، أم عبدالرحمن.

هيفا، يا جنى العمر ومناه     لفّا، تبز القمر في حلاه

كان عبدالرحمن جميل الروح، وينطق كثيرا بلسان قلمه بهكذا شعر، في دفاتره السرية. لا ينفي هذا بأنه ولد سطحي جدا رغم اطلاعه وتعليمه الجيد، وساذج جدا، رغم صرامة وحنكة والده.

كان يتذكر هيفاء قبل الغطاء. كانت أجمل الفتيات، وأرقهن،،، وأكثرهن عصبية. ولكنها كانت تلجأ إليه كثيرا حين اللعب، وكانت تخصه بمميزات ياما وياما تعرض لاضطهاد منافسيه من أجلها. كانوا أطفالا بالطبع، ولكن ألا يولد الحب مع المرء؟ هكذا كان يحدث نفسه، منذ أن أسر إليه صديقه القديم: ماذا لو نسيت هيفاء كل هذا؟ كان صديقا حكيما بالطبع، ويخاطب عبدالرحمن حسب مستواه الفكري كي لا يجرحه، ولكن كمصير جميع العقلاء في حياة عبدالرحمن، كان التشكيك والإحباط سبب كاف لإيقاف صداقة عند حدها باختلاقه أسباب أخرى للتمويه المكشوف. لم يمنع هذا أبدا، تلك التنهدات القائلة:" آه... الله يذكرك بالخير يا مساعد". ألم أخبركم بأن قلبه طيب؟ حتى أنه لم يخفي عني سر هذه التنهدات الصغيرة. ولم يخفي عني سر وعد هيفاء بالزواج مع تلك القبلة الصغيرة خلف الباب الحديدي أواخر أيام الطفولة، ولكني، ويا للندم، كنت نصف أذكى من مساعد، فلم أتكلم لألا أطرد من حياته، ولكن بالمقابل، لم أسعى إلى أن أكون مخلصا، نصف ما كان عليه مساعد. " والله انه دميم مساعد، لا ادري على أي أساس يحسب نفسه وسيم" علق هكذا عبدالرحمن بعد مدة قصيرة من اختفاء مساعد، لم يكن مساعد يقول بأنه وسيم، ولكن غيرة عبدالرحمن المسكين أدركت هذه الوسامة بذاتها. عفوا، ليست مواضيع جديرة بأن يتطرق إليها رجل شارف على الأربعين، يفترض بأنه فقد اهتمامه بالشكليات إلى حد بعيد، كما أنها لا تعطي صورة حقيقية عن عبدالرحمن، أرجو السماح.

ما كان من الأمر، هو أن الرفض جاءهم باليوم التالي. في تلك اللحظات الغامقة، كانت ملامح والده الوسيمة، تنطق بكل تعاطف العالم مع ابنه الساذج، وكان جسده المرتخي، يكذب صورة ذلك الجسد الصحيح المشدود المعتاد، نعم، حتى أجسادنا تعبر بهذه القوة، لقد رأيت هذا بنفسي. بيد أنه لم يكن من قلة الحصافة بأن يقسم على تزويج ابنه أروع الفتيات، أو أن يعوضه بفتاة أخرى. لم يكن ممن يصطدمون مع حقيقة الزمن، وتأثيره إن لم يأخذ مجراه الصحيح. لم يذهب عبدالرحمن إلى العمل حتى فصل. كانت أخته غير الشقيقة من السذاجة أن حاولت أن تجعله يكره هيفاء بعد رفضها له. أخبرته بأنها أسرت لبقية الفتيات بأنها لا تريد أن تتزوج رجلا ضعيفا، يعيش تابعا لوالديه، وفوق هذا، دميم جدا، فهي لا تريد أن تورث أبناءها أنوفا بهذا الحجم. لم تكن تقصد أخته التي تكبره أن تجرحه، فهي قد جرحت عندما علمت بكلام هيفاء الصغيرة حتى خرجت من المناسبة التي جمعتهن وبكت بمرارة، وعادت بلا عشاء والحزن يقتلها بمهانة أخيها الحبيب، ولكنها ظنت أن الحقيقة ستكفي ليكره هيفاء... ويا إلهي، كم كره ذاته...

"لماذا أنفي بهذا الحجم؟" "لماذا أنا لا أشبه والدي؟ أو حتى أمي؟" كانت هذه هي أول مرة يتنبه فيها عبدالرحمن، أنه كان من الأجدر به حسب ما يتخيل لو كان يشبه والده، فهو لم يقارن بين الشكلين من قبل، لأن والده جزء منه حتى هذه اللحظة. أما عن تأجيله لشبهه بأمه، فأولا لأنها ليست أجمل من أبيه، وثانيا، أن أشباهه جاءت من طرفها وإن لم يكن مثلها لسوء الحظ، فقد صار نسخة من أخيها.


كانت والدته تدخل عليه الطعام وتجلس إلى جانبه على سريره  وهي تواسيه بأمور غير ذات صلة، بلهجة بدوية رفضت أن تتخلى عنها. بينما زارتهم اخته من بيت زوجها كثيرا، وجرحه لأول مرة بحياته، ان أحضرت له هدايا طفولية من الحلويات رغم أن هذا ما تفعله في كل مرة تزورهم بها بالعادة حتى آخر مرة قبل اسبوع. تودد إليه والده مما نكأ جرحه الخفي أكثر. أخبره بأنه يحتاج إلى من يدير بعض المعارض التجارية. ولكن كان رده الساهي والساذج أكثر من صفعة لوالده الذي حبس أنفاسه... " أريد أن أخضع لعملية تجميل". شرح له كل من يأبه حرمة هذا الأمر حينما لا يحتاج إليه المرء، وأن جمال روحه وأخلاقه هو ما عميت عنه تلك الحقيرة كما قالوا، وإن لم ترى هذا، فمن الأفضل أن لا يفعل شيئا آخر لتراه، فهي لم تعد تستحق. أخبرني بكل هذا، واستنتجت التفاصيل بنفسي. فضلا عن صداقة أختي وأخته المتأخرة، سآتي على ذكرها لاحقا. أطلعني على الأمر، فرفضت قطعا، ويبدو بأن غضبي من مجرد فكرة أن يغير شكله قد رفع من معنوياته، فلم أستند على الأساس الديني لأني لاحظت بأنه لم يعد يهتم كثيرا للصلاة حتى، ولكني أخبرته بأن جماله الروحي هو أكثر أنواع الجمال بريقا مما شاهدته بحياتي، وأن من يرى هذا، لا يأبه بالصورة، لم آت على ذكر هيفاء طبعا، مما أعطاه الأمل بالناس الآخرين.

ما استطعت أن أقنع به صاحبي المنطفئ لاحقا، هو أننا بإمكاننا أن نخرج للدراسة قليلا بالخارج، فلتونا تخرجنا تقريبا، أنا ثري، وهو ثري، فأين المشكلة؟ كان الأمر بالغ التعقيد إلى درجة تدعو للحنق ثم البكاء، فمجرد ذكر أي شيء، أي شيء على الإطلاق، يذهب عقله إلى هيفاء الحمقاء، ليخبرني بأنها ليست ثرية، ولا يدري بأي مستوى ستعيش لو لم تتزوج من يستحقها. أعتقد بأن قلوب حمقاء كهذه، يشترك بها العقلاء والأغبياء لو قدر الله، فلا شأن لها بمقدار الذكاء.

خرجنا، ودرسنا، كانت من أجمل سنوات العمر حقا. ولا يجدر بي التكلم عن حياتي الخاصة، وكيف افتقدت أصدقائي بالوطن، وكيف افتقدت أمي وأختي الوحيدة، وكذلك أخي صعب المراس بعيد القلب، ووالدي الطيب. لا يجدر بي حتى التكلم عن المغامرات التي يجترها الشوق، فهذا قد خصصته لعبدالرحمن، ولن أشاركه فيه.

عدنا بشهادات الماجستير. كانت المعاهد الحكومية تريدنا. كانت الرواتب عالية. ليس وكأننا نحتاجها حقا، فيمكننا التبرع لهذه المعاهد، ولكنه أمر يشيع الفخر بالنفس أن يحتاج إليك الآخرين إلى هذا الحد. لن أسهب بشرح الأسباب، ولكن رفض عبدالرحمن العمل... لقد تزوجت هيفاء حين عدنا.

ما علاقة هيفاء بالأمر؟ كان حتى لن يتقدم للزواج منها. اقترحت هيذر، صديقتنا الصدوقة في أمريكا، أن يعود ليتزوج هيفاء، فقد كبرت بالتأكيد وتفهمت الحياة. ولكني وبختها لاحقا. وأخبرتها بأن هيفاء مهما كبرت، تظل إنسانة حقيرة ومما يجرح الكرامة أن يعود إليها مرة أخرى خاطبا. لم تفهم هيذر، ولكنها تفهمت. مع أن ردة فعلي كانت أقوى، ولكن ردة فعل عبدالرحمن كانت أبلغ، حيث قال لهيذر" لقد كانت قصة وانتهت عند ذلك الحد، لا أريد حتى أن أختبر قواي العقلية مرة أخرى." بالتأكيد، كان إدراكه للأمور وذكاؤه قد زادا كثيرا.

لم تعد علاقتنا كما كانت. لقد صار عبدالرحمن منعزلا. رغم أني حين أزوره، أو حين لا يتعذر بكذبة حين أعرض الزيارة، كان يضحك ويتبسم. وكان وجهه ملؤه النور. كذلك، سلمت على والدته، كانت قد صارت عجوزا أكثر في ظل الثلاث سنوات التي قضيناها بالخارج، الشوق يعجل بالشيخوخة. اما والده، فكان من الناس الذين يزدادون بهاء مع العمر. صار رجلا لينا، رقيق الحاشية، سريع التأثر، وقوي التأثير كذلك. لو كنت يا عم أكثر شبابا، وبهذه المشاعر بنفس الوقت، لاختطفتك هيذر الحالمة. لم أتجرأ طبعا بنطق مثل هذا القول علانية.

أكثرنا الضرب على الحديد. زادت زياراتي. وكانت هيفاء حاضرة بلا حضور، وكأنها مؤامرة خفية حيكت ضد عبدالرحمن، حاكها أناس خفيون أيضا، أو لا وجود لهم حتى.

رغم ذلك، قاومت هذا الأمر، وبدأت التحدث كرجل كبير متزوج، إذ كنت قد تزوجت حقا. وماذا يمنعني؟ أخبرته بأني لم أعرف زوجتي قبل الزواج، ولكني اخترتها بطلبي لفتاة لها كذا من الأوصاف، وحتى هي اختارتني بنفس هذا المبدأ. كانت لدينا قريبة مطلقة. لا أعرف عنها الكثير شخصيا. ولكن أختي المتعاطفة كانت تتحدث دوما باقتراحها على صاحبي كزوجة. لم تجد استجابة، وهي من ذوو القلوب الرحيمة، قررت أن تحيك الأمر بنفسها. لم يطل الوقت حتى بدأ الأهل بتبادل الزيارات العائلية، رغم أنه من غير المستغرب أن زوجتي، التي ليست على وفاق تام مع أختي، امتنعت عن تكرار الزيارات الودية من بعد أول مرة. لم يطل الوقت حتى أصبحن الأختين، أختي وأخت صاحبي، صديقتين. بيد أن مساعي أختي في اقتراح تلك القريبة، لم تفلح إذ رفض عبدالرحمن الزواج جملة وتفصيلا. كان الزمن يتقدم بنا، وكنت أعيش قلقا لا يعيشه عبدالرحمن.

جميل أن صارت العلاقات العائلية بهذا العمق. فصار عبدالرحمن أكثر انفتاحا لما أطل بشكل أقرب على اختلاجات الناس الاجتماعية. صار يكثر التحدث. ولكني لم أكن أكف عن لوم نفسي بعد كل جلسة، بعد أن اعتادت عيني على الجمال أينما أكون إلا بحضرته. لقد فشلت أنا للأسف أيضا، أن أركز على الجمال الروحي الذي أنادي به. ليسامحني الله. كان ينظر إلي وهو يتحدث باسما عن أحداث دواماته القصيرة في محلات والده. أحداث صغيرة وسخيفة، أكثرها عن تبادل النظرات بينه وبين الناس فقط، وما يأتون به من ردات فعل، وما يفعلنه بعض اللعوبات. ولكني كنت أنسى نفسي كثيرا، فأبحر بعظمة أنفه، وعمق عينيه، أو لنقل محاجر عينيه لقول الحق، فكانت عينيه خاليتان من العمق حينها، ولكنهما عميقتان كخلقة، صغيرتان كالمسامير، ربما بسبب حجم أنفه. كان فمه صغيرا ومتجمعا بنقطة دائرية، مما يجعل وجه المسكين يوحي للمرء برؤيا مخجلة، تجعل وجهه مجرد " كيلون"، أو مقبض باب بسبب أنفه الشبيه بالمقبض، ووجهه الطويل الممتد النحيف، وفمه الصغير كمكان ثقب المفتاح، وعينيه اللتين لا يقام لهما اعتبار. ولكني رغم كل هذه الدمامة، لم أغفر أبدا، لتلك اللعينة المدعوة هيفاء. وكأن الله قد أراد الجبر بخاطري، تطلقت هيفاء.



مرت سنوات، أحداث كثيرة جرت بحياتي، وأنا لا زلت أعيش بصبيانية. ولكن ما يعنينا هنا، هو الجانب المتعلق من حياتي بحياة عبدالرحمن. لن أجعل أنانيتي تقودني إلى التحدث عن مأساتي الشخصية.

ولكن سيسعدكم بالطبع أن تعلموا بأن عبدالرحمن صار يزورني. ويداعب أطفالي. خرجنا ذات شتاء نتمشى على أقدامنا في الشوارع  المبللة، في باكورة أمطار ذلك الموسم. عدنا إلى بيتي جريا، ونحن نضحك ونتمازح، ونخلع القبعات الصوفية الشبابية في ذلك الممر الداخلي لمنزلي ونلقيها أرضا. كانت لائقة علي، لأني أبدو أصغر سنا، ولكن بالنسبة لعبدالرحمن، فلا شيء يليق عليه على ما يبدو. جعلت أتأمله وضميري يؤنبني. " لا يتعلق الأمر بالشكل، إن خاله يعيش حياة يتمناها الجميع، وهو محبوب" هذه المرة أنا حادثت نفسي وأنا أتأمل تلك المواسير التي تسمى جسدا تتخلص من ملابس الفراء والقفازات الثقيلة. نظر إلي فجئة، وبقينا ننظر إلى بعضنا. لقد انقطع حبل أفكاري، وأضعت حتى شعوري السابق. ولكنها كانت فرصة نادرة، يعبر فيها ذلك الوجه الدميم بتعابيره الجميلة، التي أفتقدها منذ زمن، دون أن يتكلم. كانت نظرة عميقة. تشبه سؤالا يوجهه عبدالرحمن، ليس لي، ولكنه يوجهه للحياة كلها، سؤال يقول: وماذا بعد؟. كانت لحظة يائسة، وجمال حزين يقطع نياط القلب. وبدت مشاعره واضحة المعالم لأول مرة منذ زمن طويل، تماما كجسده الذي بان هزاله بعد انتفاخ الصوف. شعرت بشعور غريب يتملكني. شعرت بأني أريد أن أواسيه، أن أعيش معه مأساته. شعرت بأني مذنب. لأن حياتي تخلو من هيفاء. كنت أعلم بأن جميع قصائده الرمزية موجهة لها. بدا لي في تلك اللحظة بأنه يقارن بين كل شيء في عالمينا، يقارن بين حظي وحظه، شكلي وشكله، حياتي وحياته، سخرتي له رغم تفوقي، وسخرته التي ليست لأحد، كان ملك نفسه تماما، وهذا ما يجعله يمتلك الآخرين أيضا. قطعت الصمت بنوع آخر من الصمت. ابتسامة حاولت أن تكون بريئة. ولكن حتى  فمه الذي كان مشدودا ارتخى بتعبير ناضج لم يكن يقدر عليه من قبل، وكأنه يقول: أنت السبب. إلهي ارحمني من هذا العذاب. لقد نضج أخيرا، هذا ما كنت أتمناه، وما كنت أخشاه بذات الوقت.

لاحقا، أخبرتني أختي، التي صارت تدعى في مناسبات بيت عبدالرحمن النسائية، أن الحديث يدور عن بحث هيفاء عن زوج للستر. لم أخفي ضحكتي بكل خبث. ضحكت بتشف عجيب. انتصرنا. أخبرت أختي بأن الحقيرة تستحق الطلاق، مؤكد أن زوجها اكتشف ما يغلفه جمالها من دناءة. لكن نظرة أختي كانت تقول أمرا آخر. لم تشأ الإفصاح عنه. ولم أشأ السؤال. ذلك أن الإجابة حتما ستقضي علي.

" حبيبي عبدالرحمن، هل أنت متأكد بأنك تريد هذه المرأة؟"
" هي تريدني الآن أيضا"

ذهب كل العمق الذي بناه الحزن. كنت أخاطب طفلا يلعب مع طفلي على سجادتي في مجلسي وعند أقدامي.

" لكن، ألم تثبت... أعني، ألم تتعلم من التجربة؟"

لا أخفيكم، بأن قلبي كاد أن يتوقف لأسباب كثيرة. أولها أني لم أسال ضميري هل هذا ما تلزمني الأمانة بقوله؟ وثانيها، أني تذكرت مساعد. بيد أن الرد جاء كتنهيدة، وكلمات مصفوفة بافتعال.

" وماذا أفعل يا سلطان؟ العمر يجري بي جريا. لم أعد صغيرا. وأريد أن أنجب أطفالا"
" أستطيع أن أجد ألف فتاة تتمناك يا صاحبي، فأنت شاب ومثقف، رجل بمعنى الكلمة"
" وماذا يضر لو تزوجت من احببت؟"
كانت لهجته هنا أكثر انفعالا، علمت بأن حدودا قد بدأت تنشأ.

" إذا على بركة الله، متى ستذهبون لخطبتها؟"


خطبوا المرأة. وكانت أيام مليئة بالتمتمات المحتقرة والغاضبة بالنسبة لي. فكما تعلمون، لم تصادق أختي أخت عبدالرحمن فقط بعدما تطلقت هيفاء، كانت أختي تعرفها، وتعرف تشفيها الحاقد بحالة عبدالرحمن لتغيض أخته. وهاقد عادت السافلة تستجديه، هو من أخفينا جميعا بتواطؤ خفي معرفتنا لموقفها منه قبل طلاقها بأيام، بأيام بلا مبالغة.

طرق بابي عبدالرحمن بعد أسابيع من إزعاجه بحكايات هيفاء وطلباتها، وتدبيره لعرس فخم. لم يطرق بابي بوقت مناسب على أي حال، مما جعلني أتوجس. لم يدخل، ولكننا خرجنا معا. ونزلنا في ذلك الحي المثالي حيث نمشي دائما وهو يرفض الكلام حتى ذلك الحين.

" هيفاء، لقد غيرت رأيها"

لقد فهمت ما قال، ولكني لم أدرك أبعاده، وكأني لم أستوعب بأن قلب صاحبي قد استحال أشلاء نابضة كثوب عجوز فقيرة علق ليجف في مهب الريح. بدأ ينتفض ويكرر ما قاله وهو يمشي. استوقفته ولم يقف. مررنا بالقرب من دكان صغير فحاولت أخذ بعض الماء منه لأسعف الموقف، ليشرب منه، لأرشه عليه، فقد كان يمشي متشنجا، أقسم على ذلك، ولا أدري كيف يكون هذا. لم يتوقف، استمر ولحقته مسرعا لأوقفه قبل أن ينتهي الرصيف. وكأن حياته تحتاج إلى المزيد من الدراما، وكأن حكاية هيفاء الأخيلية تلك تخلو من العجائب وما يشبه الافتعالات من واقع، كانت هناك سيارة تمر. صحت بأعلى صوتي وأنا أجري وكأن سكينا خفيا غرس في بطني حينما ارتطمت به السيارة المنعطفة، ومرت على فخذيه وهو ساقط، توقفت عند هذا المشهد وأغمضت عيناي ومزقت شعري بقبضتين لا أعرفهما بفجيعة. كان رأسه، بفضل ارتباك السائق وميلانه على الرصيف لسبب أجهله، محشور بين إطار السيارة والرصيف، حتى تكاد رقبته أن تكسر. كان مشهدا مخيفا، ومثيرا للسخرية في آن، شأنه شأن كل شيء بحياة هذا الرجل. لا أعلم من أين أتوا الناس، هدأني بعض الأجانب وسكبوا علي الماء وأنا عيناي لا ترفان. أخيرا، بعدما قاموا بالعمل المجهد أولائك الإخوة، نهضت وأدخلت ذراعي من تحت ذلك الجسد المحرر، ورفعته.

بقي الرجل لأسابيع بالمستشفى، ولم تكن زوجتي رغم مشاكلنا حينها، إلا داعمة لي. أرادتني أن أبقى بجانبه طوال الوقت. أعيد هذا  إلى أنها تحبني أكثر من كونها  تتعاطف معه، فعلمها بفشلي بجهات كثيرة بحياتي، يجعلها تتخيل بأني أحقق ذاتي باعتنائي بهذا الصديق المتطلب على ما يبدو. كانت أمه وأخته غير الشقيقة هناك على الدوام بالمستشفى، وكذالك والده كبير الجسم جميل الهيئة، من ينظر إليهم ما كان ليتصور بأن بينهم قرابة سوا حينما يرى التشوه بقدمي الرجلين، من أثر استئصال إصبع سادس. سمعت عبدالرحمن يبكي ويقول لامه:" لماذا حظي كذا يا يمه؟ لماذا حظي كذا يا يمه؟" بصوت أجش وشهيق وزفير، بينما تتواصل الآيات القرآنية من فم أخته.

رأيت خاله كثيرا، وأولاده الكثيرون، الذين يسلمون علي باحترام مفتعل لا يظهر تجاه من لا يعرفونهم. كانت سمعتي تسبقني بتلك العائلة. جلست ذات مرة بالقرب من عبدالرحمن، بينما كان خاله واقفا. كان عبدالرحمن منفعلا أكثر من كونه حزينا لأمر قيل له، أجهله حتى هذا اليوم. قال له خاله: لا تزعل يا ولدي، العوض عندي وأنا أبو هيف!"

رد عبدالرحمن بصوت خافت: " ما نبي لك عوض الله يلعنك"

صدمني هذا القول حتى جحظت عيناي، وحمدت الله كثيرا أن أحدا غيري لم يسمع سوا التمتمات. تعاطفت مع صديقي أكثر وأكثر، بيد أني أرخيت السمع أكثر لأسمع ما قد يقوله عني بصوت أخفت.

بعد أيام، جئت إلى جناحه بالمستشفى مسرعا، إذ أني تأخرت. ولكني شاهدت فتيانا من أقارب عبدالرحمن البدو يقفون بانفعال، بينما يعبرهم طيف عباءة. اقتربت وسلمت، وقيل لي بأن أهله بالداخل فوقفت. سمعت صوتا شجيا، ناعما وصادقا، أعماقه ضاربة بالرزانة، بحيث أنه لولا رنته العشرينية الجذابة، لقلت بانه صوت عجوز فاضلة.

" مساك الله بالخار يا عبدالرحمن"

أعدت ترتيب كلمة الخير، التي نطقتها قريبته البدوية بطريقة أخرى، وأنا أفترض بأن عبدالرحمن هكذا رد، بأن أبدل أماكن ألف وراء " الخار". وانتظرت انفجارا طفوليا. كنت أرجو الله كثيرا أن ينهي هذه الكوابيس منذ أن عدنا من أمريكا، وتزوجت هيفاء. كان هذا هو عوض خاله، وكان عبدالرحمن حسب ما أعرف لا يريد عوضا. ولكني لم اسمع سوا تمتمات تتواصل بين الصوتين. والإخوة يتبسم أصغرهم ويزجره الآخر. خرجت الفتاة، وكانت بحق حتى من خلف خمارها جمالا متجسدا. ولما لمحت هذا الجمال قبل أن أوليها ظهري، بدأت أنظر إلى إخوتها، بالتأكيد بأن الخال الدميم، قد اختار جمالا يكفيه ويكفي كل دميم بعائلته في آن.

أخبرت أختي، التي أخبرتني بأنها تعرف الفتاة. وأمسكت برأسي حينما علمت عن حياة هذه الفتاة كيف تكون. إن شخصيتها قوية. وهي تعمل كذلك، في صيدلية مستشفى. لم تكن بدوية خالصة على أي حال، كان أصلها ولهجتها فقط هو البدوي فيها. والأهم، أنها تبز هيفاء بجمالها وأخلاقها.

لم يكن صديقي يحتاج إلا أن يطلع على العالم أكثر. لم ينفع تعاطفي، لم تنفع نصائحي بالنسيان. ولكن قلبا رقيقا من نوع خاص أدى الغرض في لحظات. بدأ الأمل يعاود الظهور في حياة عبدالرحمن المكابر. وتذوقت في حياتي سعادة لم أشعر بمثلها منذ مأساة هيفاء. لا أبالغ. لماذا إذا انتهت كل مشاكلي، بعدما دخلت على عبدالرحمن، بعد خروج البدوية؟ لماذا نمت ليلتي باسما، أتهامس أخيرا كلمات الحب مع زوجتي العزيزة... أخيرا أدركت بأني أنهيت مهمة صعبة بحياتي، بغض النظر عن كون شخص آخر هو من أنهاها فعليا. اطمأننت على حياة شخص اعتمد علي كثيرا ليعيش فقط، كمجرد علاج، حتى يدخل الشفاء ساعيا إليه من حيث لم ندري، في غرفته بالمستشفى. الحمد لله بأن السيارة صنعت به ما صنعت، الحمد لله أن ذلك الموقف لم يعد يحبس أنفاسي حين أتذكره، لقد اكتشفت أن مأساتي هي أني  لم أنظر إلى البعد الكافي، في حين كان يجب أن أنظر من أجل نفسي، ومن أجل عبدالرحمن، أعمى البصيرة، حتى يجد من ينظر من أجله.



يؤسفني أن قلبي رغم كل الأحداث التي جعلت منه هشا، لا زال على جانب من السواد. لا زلت أتساءل دائما، هل سيعاقب الله هيفاء؟ هل لعبدالرحمن حق عليها؟ أم أن الله فقط شاء أن نكون أشقياء حتى أجل مسمى؟ تزوجت هيفاء على أي حال. وعاشت بسعادة هي الأخرى رغم كل دعواتي. ولكن حسبي من كل هذا الأمر، أن الله استجاب دعواتي لأكون وصديقي وكل من نحب سعيدا. أليس السر إذا، في شرط : كل من نحب؟ قلوب كقلب عبدالرحمن لا تكره، إنها كقلوب الطيور، لقد كان خطأ بلاغيا إذا بدعائي، ولكن لعل حكمة الله قد اقتضت هذا الخطأ، فاليد التي كتبت كرهي لهيفاء، قد كتبت محبة صاحبي لأكثر من امرأة.


تمت.
_______________________________________



كم أشعر بالقهر والحزن حينما أقرأ عن فضائع شنت ضد مسالمين في حروب غير عادلة. ما أخس الإنسان إذا ما أراد هذا؛ إنه أخس من الحيوان في بعض الأحيان، ولا ينفع أن الله سبحانه خلقه بالأساس أكرم مخلوقاته، فهو يصر على الإنحطاط.
أعلم أن الحروب ليست لعباً، وهي بكل الأحوال مؤلمة. لكن، لها أخلاقيات، على أن الأمر السائد هو تجاوزها. ورغم أن المسلمين كانوا دائماً لديهم الرادع في دينهم، إلا أني أتسائل أحياناً إذا ما كنا سنختلف عن سوانا مع ضعف ديننا في أنفسنا، وسوء فهمنا له في الوقت الحالي.
قرأت عن أمور مؤلمة كثيرة، في أماكن مختلفة من العالم. لكن؛ تتعدى الوحشية مستوى إدراكي، وتجعلني أتسائل إن كان بعض البشر بالواقع شياطين.
ما البشر؟ هل يعتمد هذا على ما يقومون به، أم أنه مجرد تصنيف علمي.
أمور كثيرة فضيعة قرأت عنها، ولحسن الحظ أن المسلمين لا علاقة لهم غالباً بهذه الفضائع إلا اللهم حينما يكونون الضحايا.
قرأت اليوم عن ما فعله اليابانيون حينما اجتاحوا العاصمة الصينية في وقت من الأوقات، نيانكينق. كان القادة يقيمون المنافسات فيما بينها أيهم أول من يصل قتلاه إلى مئة في وقت معين. والأسوأ، هو البحث عن الإناث من باب إلى باب لإغتصابهن وقتلهن، وقلت الإناث لإن الأمر تم بحق جميع النساء، في فعل هو أبعد في شروره من غريزة حيوانية بلا رادع، تعدى الأمر هذا. فلم يفرق بين عجوز طاعنة ورضيعة تشق لتوسع فيتمكنون من اغتصابها. ثم تطعن الأنثى في منطقة العفة بعد الانتهاء منها بحربة أو أي أداة تصلح للأمر، وتولج فيها القوارير. ومن يعترض أو يتحدث فهو يقتل مباشرة. في الموسوعة صورة قديمة لفتاة مقتولة بهذه الطريقة الخسيسة والمتوحشة.
كما لم يسلم الرجال من الاغتصاب.
وليس وكأن المسلمين لم يعانوا الأمرين في ذلك البلد، فهو مليء بهم تاريخياً.
تسائلت بعدما قرأت وقلبي يعتصره الألم؛ هل قنبلة أو حتى قنبلتين ذريتين هما أسوأ ما قد يواجهه الناس؟. ليس أني أقلل من معاناة الأبرياء في اليابان من تلك القنابل، لكن الأمر يدعو للتأمل...
بيد أني شعرت بالفخر بالمسلمين هناك، خصوصاً في الحرب التي شنتها ثمان دول على الصين الامبراطورية، ودافع المسلمون عنها ببسالة وشجاعة يصعب تخيلها. وكانت الخيانة من قائد غير مسلم. كاد المسلمين أن يدحروا الأعداء، وكان الأمر ممكناً.
أنظر إلى وجوه القادة المسلمين من هناك، صورهم الجميلة بلحاهم الفاضلة وملامحهم المغولية، فأرى نبل لا تخطئه عين.
ولكن ما تركني في حيرة هو استجابة السلطان عبدالحميد الثاني لألمانيا، التي طلبت منه أن يقنع المسلمين بالتوقف عن المقاومة، فاستجاب وأرسل مرسولاً، ولكنه وصل بعدما انتهت المقاومة بفضل الخيانة. لماذا؟ ماذا كان الدافع؟ ما السبب بالضبط؟. أتمنى لو عرفت.
المفارقة المؤلمة هي أن أفدح عمليات الاغتصاب المنهجي تمت على أيدي الألمان والروس، وكانوا من بين جنود تلك الدول هم من يطعنون النساء بعدما يفرغون منهن.










كنا أغرار وأبرياء...
حينما كان كل الناس لنا أصدقاء...
والقلوب نحسبها لا تنكسر...
والحب بحر لا ينحسر...
واليأس بركان لن ينفجر...
والعصافير أطفال...
ربما يزورون الجنة كل فجر...
والناس حنونين...
كلهم طيبين...
حيث الأشرار بقوا فقط بين طيات كتاب...
ما بين ساحرات وذئاب...
والأماني تستبدل وتغسل كالثياب...
والأحلام الساذجة لا تستعاب...
ولا تكلف شيئاً...
إذ كان العيش بالقليل قد طاب...
ثم مع الأيام صار القليل علي كثيراً...
وبعدما كانت القلوب تسع الجميع...
صارت تحية من غريب معروفاً جزيلاً..
وقد كانت الأحزان تغسل بالبكا...
والآن لا يتذكر المرء آخر مرة بكى...
إذ صارت الأيام كالسنين...
والحياة دوماً كدر وشقا...
لا شيء يستحق النحيب...
ولا حتى وداع يائس لحبيب...
إذ صار الأمر سيان...
وبعدما كنا نبحث عن النسيان...
عرفنا أن الآخرين نسونا...
وفي خزائن وعيهم القصية تركونا...
نأسف في العزلة على أحلامنا...
ثم ننسى بالتدريج طموحاتنا...
ثم نتساءل إن كنا في يوم قد كنا...
أم أننا في النسيان وُلدنا...
وبذات اللحظة فيه دُفنّا...






سعد الحوشان