الاثنين، 16 أكتوبر 2017

الوقوع تجاه السماء (المعتاد،قصائد،كتاب،أجهزة)








بسم الله الرحمن الرحيم


















هل قرأتم يوماً حكمة، فأشعرتكم بالخجل من أنفسكم؟. رغم أني ذو عقل يراجع نفسه باستمرار، إلا أنه قد يسير في الطريق الخاطئ خلال هذه المراجعات، لوقت طويل. يحتاج المرء في أحيان إلى سنوات، ليلاحظ الأمر الصحيح، مهما كان متأملاً بطبيعته.
أعتقد بأن تغيري تكثف منذ ثلاث أو أربع سنوات الآن. لعل الأمر له علاقة بفلسفتي القديمة، بتقسيم حياتي كدورات تتكرر وتنتكس كل بضع سنوات، أربع إلى خمس سنوات، كل دورة تعقبها نقيضتها من حيث أمور كثيرة، يغلب على دورة سوء الحظ والتعاسة، وعلى التي تليها الهدوء والسكون، وشيء من الرضا على وجه العموم.
أخجل حتى من إيراد تلك الحكم للآخرين، لأنها تريني الخلل في مواقف سابقة لي، أو تعلمني مباشرة بأني الآن أفهم الأمور على نحو خاطئ.
لعل الأمر مرده إلى أن عقلي وقلبي يعتملان باستمرار مؤلم وغير صحي، وإن يكن مجدياً، إلا أنهما أحياناً يفتقران للنماذج المتنوعة، والناقد المحب المُقنع.
إنه لأمر مثقل للقلب، لكن لا بد منه. أجد هذه الحكم غالباً في حساب أجنبي على قوقل بلس، لموقع يهتم بالآثار والثقافات القديمة، لكنه يورد حكم صينية ويونانية ورومانية من وقت إلى آخر، من باب التغيير.












ما الغرض من الصراع؟ صراع الناس مع بعضهم البعض، أفراد، مجموعات، بصمت، بإعلان. بيد أن أكثر ما يعنيني، هو صراع المرء مع حظه، مع حياته، مع بؤسه والظلام، حيث يصعب، أو لا يجدر، لوم الآخرين.
لكني أعلم بأن هذا السؤال الواضح والمبدئي إنما يعني بالنسبة للإنسان: ما الغرض من الحياة؟ من العيش؟.
لا أعتقد بوجود سلام دائم، لكن أعتقد بوجود رضا.


"ابتسامتي...
هي حب لا شك فيه...
فلا تتساءل يا عزيزي...
إن كان هذا ما أعنيه...
اطمئن...
فرغم المآسي...
ورغم قلبي الذي يئن...
لا زلتُ بسعادتك راضي...
لا زلتُ أنتظر يوماً...
تأتي فيه إلي...
وفي قلبك لي بوحاً...
وإن كان هذا كثير علي...
فلا بأس بتقبلك حباً...
أعطيكاه بطيب من نفسي...
هدية...
عن الأقسام غنية...
لا أنتظر عنها جزاء...
ولا وعود وهمية...
لك مني عهد...
ألّا أذكرك بسوء...
فرغم كل شيء فعلته...
فأنا لحبك مسخر...
وبه قلبي يتفجر...
ينابيع من الأماني السعيدة...
والدموع التعيسة...
أغسلُ بها خيباتك...
حينما أعجز عن مواساتك...
وتستمد منها لغيري حنانك...
وأنت تعرف بأنك لن تعدم الحب يوماً...
وإن لم تَجزي عنه شيئاً...
فافرح بحياتك...
وحقق آمالك...
ولا تحمل لي هماً...
فستمر الأيام...
وكأنما كانت أحلاماً…"






لكن، هل أنا راضٍ حقاً؟…
أو صادق؟.
أسأل نفسي.














أعرف أن إكرام النفس هواها، ويعرف هذا الكثير من الناس، سوى أننا أحياناً في خضم احتفائنا لا ندرك أو نستوعب هذا الهوى رغم طيب نيتنا. ويوجد وجه آخر للموضوع؛ يوجد الكثير من الناس لا يستحقون أي شكل من الإحتفاء والتقدير. كنت أميل إلى إحسان الظن، وحينما أقدر أحدهم أجد نفسي أفرض سلامي عليه ولا أفكر كثيراً في رأيه بي، أو أحاول أن ألتقط الإشارات، وبالنهاية ألتقطها متأخراً على الأغلب.
يوجد أمثلة كثيرة في بالي لا يتسع المجال لذكرها كلها، لكن آخرها كان دكتور سعودي، وجه تقديري له هو أنه كان معلمي في الثانوية، وكنت أذهب للسلام عليه حينما أراه، وحدث أن أرسلت إليه معايدة، على أن هذه ليست عادتي مع أحد. كنت أحاول أن أحسن الظن وأقول ربما لم يرني حقاً حينما يصد وينظر في الإتجاه الآخر حينما يلمحني، لكني أدركت أخيراً بأن هذه الأفكار ساذجة، أو غبية على نحو أدق. لاحظت منذ زمن طويل أن الكثير من الناس حينما يظهر فقدان اهتمامك بهم، رغم أنهم كانوا يحاولون التخلص منه، يشعرون فجأة بالنقص، وهذا ما كان مع هذا الرجل. في المرة الأخيرة التي بادرت بالسلام عليه رأيته من بعيد يتحدث بالهاتف، وقد صد إلى الإتجاه الآخر، ولا أدري لماذا اتجهت نحوه حينما فرغ من مكالمته ولم أكمل طريقي. كان سلامه جيداً لقول الحق، لكن حينما فكرت بالأمر، لم تكن هذه المرة الأولى التي ألاحظ تهربه مني. ماذا كنت أفعل؟، كان تقدير لشخص لا يريده، ومن لا يريده لا يستحقه على الأغلب. صادفته لاحقاً بينما كنت اغسل يداي، وخرج هو من الحمام ليغسل يديه، لم أتظاهر بأني لم ألحظه، لم يكن هناك سوانا، لكني لم أقل شيئاً أو ألتفت نحوه. صمت هو، ينتظرني على ما يبدو، ثم سأل عن حالي؛ كيف حالك يا سعد؟. أجبته بأني بخير، دون أن أنظر إليه وخرجت بعدما أخذت وقتي بتنظيف يدي وتجفيفها. صادفته لاحقاً مرة أخرى، في الدهليز الكبير الرابط بين الكليات، وكنت أسير على عكسه، وفي الطرف الآخر من الممر الواسع، كنت بعيداً. لم أتظاهر بأني لم أره كذلك، وقد أبطأ سيره وكاد أن يتوقف وهو يواجهني، لكني استمريت بالتقدم ناظراً إلى الأمام. كان هواي الآن هو الفاعل. مع ذلك، كنت سأقدر قدومه تجاهي لمناداتي والسلام كما كنت آتي تجاهه، لو بادر كما كنت أبادر، لكنت عدت للمبادرة حينما أراه. أما هكذا، فليس له سوى حجم الإهتمام والتقدير الذي كان يعطيني إياه، لا أكثر.
مررت كثيراً بهذا الموقف، أكثر مما يمكنني أن أحكي هنا، لأني بطبعي أحتفي بالناس الذين أعتقد بأهميتهم المعنوية لي، ولكن هذا أمر يبدو أنه بدأ يتغير. دكتور آخر، كنت أراه وقت صلاة الظهر في الكلية التي أذهب إليها في الصلاة، وكنت أحرص على السلام عليه حينما أصادفه. لاحظت لاحقاً تصدده ورغبته بإنهاء السلام رغم أني بطبيعتي لا أطيل، فصرت لا أعبأ بوجوده، وفوجئت به ذات مرة يأتي بنفسه للسلام، وكانت تبدو عليه الحيرة لعلمه بأني رأيته بضع مرات ولم أعد آتي للسلام عليه. كان هذا مديري العزيز حينما عملت في وزارة التعليم العالي لبعض الوقت.
قديماً، كنت أحرص على السلام على زميل لي في سنواتي الأولى بالعمل وسؤاله عن حاله، لرؤيتي أن الجميع يحبوه، مع أني كنت أرى ارتباكه مني على نحو لا أفهمه، وربما حتى كراهيته لسلامي، كان هذا غباء شديد مني، لا يغتفر. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير حينما كنت أحادث والدتي بالهاتف في طريقي إلى الكلية وقت الصلاة، فرأيته مقبلاً وأخبرت والدتي بأني سأتصل بعد قليل، كان يراني، وكان حضورنا بعد العيد، ورغبت بمعايدته كما هي العادة، ورغم أنه رآني جيداً ولاحظ تحفزي، إلا أنه تجاهلني ومضى أخيراً حينما أتيحت له الفرصة عكس المرات السابقة. جرحني هذا وصدمني. حينما رأيته لاحقاً وأنا أنتظر قرب مكتب أحد المدراء لأجل القيام بعمل مطلوب مني، نظرت إليه وصددت بينما كان خارجا من الباب عن يساري. جاء ليسلم بحرارة لم أرها منه من قبل، وقال بأنه لم يرني وقت المعايدة الرسمية فأين كنت؟، كان سلوكه مفضوح، وكنت أشعر بالمهانة، فلم أستجب بحماس. ظل يحاول أن يلقي النكات ويمازحني كلما رآني، كنت أبتسم فقط، لسنوات. بعد سنوات بدأت أضحك على نحو طفيف ولا مبالي، بعدما أخذني شيء من الشفقة، لكن تقديري السابق له كان قد اختفى لأني تذكرت كل المرات التي قدرته فيها على نحو كبير رغم ضعف استجابته. لم يعتذر أبداً بالطبع، أو يحاول أن يتحدث عن الأمر. خرج لاحقاً من الجامعة، على نحو غير جيد للأسف، وقد حاول أن يعود إليها بلا جدوى. لا أدري كيف وجدني وعرف أن ذلك الشخص على قوقل بلس هو أنا، فأضافني ليتابعني، لكني لم أضفه بدوري، وقد أغلق حسابه بعد فترة طويلة على ما يبدو. لكن من يدري، لعله لم يدري أنه أنا وأضافني صدفة.
هذا الموقف أعلاه ليس هو الموقف المذكور في التدوينة السابقة، الذي تحفز الشخص المقابل فيه للسلام علي قبل أن يتعداني وأنا أستخدم الهاتف عائد من الكلية، مخطئ على ما يبدو ومشتبهاً بأني شخص آخر، فأتى سلامه حينما التفت إليه عديم الذوق، شديد البرود والاحتقار، على نحو لئيم وقاسٍ. هذا لن أبادر بنفسي بالسلام عليه مرة أخرى ولو وجدته على فراش الموت.
ربما النموذج الوحيد الذي قدرته كثيراً هو شخص آخر بالعمل، حدث معه موقف مقارب قبل سنوات طويلة، وإن لم يكن بذات الوقاحة، لكنه نوع من التجاهل. جاء لاحقاً بعد وقت قريب من الموقف إلي خصوصاً للسلام علي في مكاني، وتكلم كثيراً ومازحني، واجهته بابتسامة وبهدوئي المعتاد، لكنه ما إن شاء أن يمضي، حتى طلب مني بخجل أن لا أغضب عليه. هذا هو الموقف الوحيد الذي رضيت عنه تمام الرضا، وقد انتقل هذا الرجل إلى المدينة المنورة، حيث تمنيت قديماً أن أنتقل لآخذ والداي إلى هناك.
إن الدنيا أخذ وعطاء، ولا تدوم المحبة، ولا يدوم التقدير إن كان كلاهما يجابه بالتجاهل والقسوة.



صنعت قائمة بالذكريات...
حينما خشيت عليها من الضياع...
بائسة تلك الذكريات...
ملأى بالخداع...
لكنها تحمل الإجابات...
على ما أعاني من صراع...
وما يحيرني من خيبات...
















كنت أخرج من المنزل غالباً لأتفرغ لنفسي، أقرأ الجريدة، وأكتب. صادقت في مكاني المفضل الكثير من العمال، فصار الغرض منتفياً عن المكان. صاروا يأتون إلي طوال الوقت للتحدث، باستمرار، فافتقدت الهدوء والتركيز الذي أخرج لأجله. الكثير من الأحاديث تدور حول إحباطاتهم، وبعضهم حول بعض الأمور الممتعة، يعتمد على شخصياتهم، والقليل حول فضولهم تجاهي، وتجاه حياتي، وأسرتي، إذ أني نافذة على المجتمع بالنسبة إليهم. كنت بالبداية أشعر بالتعب، وأفكر بوقتي هناك كثيراً، إذ أخرج أحياناً وأنا لم أقم بما جئت لأجله، مما يشعرني بالإحباط. لكن مع الوقت، أدركت بأني متنفس يحتاجون إليه كثيراً، ينتظرون وجودي، ويفتقدونني بشدة، ويأخذني بعضهم بالأحضان. فكرت؛ إن إستماعي لما يقولون، وتجاوبي معهم، وسؤالي عما جرى على أمورهم، يفيدهم كثيراً. صرت لا أتضايق، وأفكر بأني أقوم بالخير، بمساعدة أصدقاء، ولو على حساب نفسي. حينما يوجد ما لا يمكن تأجيله، أذهب إلى مكان آخر، لكن هذا يكون غالباً مرة من بين كل خمس مرات، والمكان الآخر حققت فيه صداقة، لكن الشخص مشغول، وما يهمه أكثر ما يهمه هو راحتي بالمكان، وقيامي بما جئت لأجله، لأنه لا يعاني من مشاكل، أو يفتقد التواصل على ما يبدو.
أتعرض بالمكان الأول لبعض المضايقات كذلك، من نفس الفئات من الزبائن التي يعاني منها موظفي المطعم. يحدث من وقت إلى آخر أن أسمع سخرية، أو حتى محاولات سخيفة للفت الإنتباه، ما نسميه تميلح. فوجئت بأحدهم ذات مرة يقوم بتصويري، بعد التحقيق معي حول لغتي واستملاح نفسه أمامي. حينما اكتشفت ذلك ولى هارباً مع أصدقائه، بسرعة وخوف. وما أرعبهم كان إخراجي للجوال، وتصوير سيارتهم، برقم اللوحة، وهم يرون. أسرعوا بالسيارة، بخوف لم أتوقعه. جاء أحد الأصدقاء من العاملين بالمطعم، وهو قد تعرض لإهانات منهم كما أخبرني، وأعلمته بما حدث. قلت بأني أفكر بإبلاغ الشرطة، بما أني حصلت على رقم لوحتهم. في يوم آخر، بعد ربما اسبوعين، حيث لم تتعاون الشرطة مع بلاغي وكل قسم يرسلني لآخر، جاء الصديقين بغير وجودي، وليس الشخص الذي صورني، وسألهم العامل لماذا صوروني؟ أنكروا في البداية، ثم قالوا بأن من صورني هو صديقهم، وليس هم، لكن العامل أخبرهم بأني أبلغت الشرطة برقم اللوحة. يقول بأنهم صمتوا، وصاروا يتهامسون وهم يأكلون وجباتهم، بسرعة، وخرجوا، ولم يرهم بعد ذلك، إذ صرت أسأل إن كان قد رآهم.

كما تعرفت على صديق رائع هناك، فلسطيني جاء من هناك رأساً لأول مرة. رجل مهذب وطيب وموزون الحديث. كان يرى العاملين يأتون إلي للسلام ويحرصون على الجلوس معي حينما يكون لديهم الوقت، ومع الوقت بدأ هو بالمجيء. وهذا موقف غير معتاد من عرب الشمال الذين رأيتهم يعملون بالمطاعم هذه، حيث أنهم حينما يهتمون بك يبدأون باستفزازك، وربما مضايقتك، ثم يظهر الاهتمام بوضوح. أعتقد أنه عدم تقبل لفكرة الإهتمام بأمر شخص سعودي والرغبة بالتعرف عليه، بسبب التراكمات التربوية المعروفة لديهم.
لم يكن صديقي هذا سعيد بعمله، فمؤهلاته أعلى، ولم تسر الأمور كما توقع، وقد تعرض للإستغلال المهني من دكتور سعودي في الجامعة، حسب رأيي. كنت أحاول أن أقدم المشورة، لكن لم يكن هناك الكثير من الممكنات لتحسين وضعه للأسف. في أحيان كثيرة كنت أشعر بأنه ابن أخ لي، كما أشعر تجاه الكثير من العمال هناك، حيث أن الشعور الأخوي المتكافئ محصور بقلة من الأشخاص هناك. امتدت صداقتنا هنا لأشهر طويلة، حتى أنهى تعاقده بنفسه وعاد إلى فلسطين، وكان وداعنا ثقيل على القلب. لا زلنا على تواصل، بيد أني خشيت بأنه تغير حينما تواصلت معه هناك بعد عودته، ربما بدأت أصير حساساً تجاه التواصل مع الأصدقاء العائدون إلى بلدانهم بعد تجربة مريرة. لكن أعتقد بأنه كان سوء فهم، فلا زال يحرص على التواصل معي، وإطلاعي على أخباره أولاً بأول.












خرجت من المنزل لغير ضرورة على غير عادتي عصر الجمعة، وحالما أغلقت الباب خلفي نظرت إلى الأعلى وكأن هناك شيء غريب لمحته أو شعرت بوجوده، فبدت لي السماء عميقة الزرقة إلى حد استغربته. لا أتذكر بأني استشعرت زرقة السماء على هذا النحو منذ رحلتي القديمة إلى البيرو فوق الجبال شاهقة الإرتفاع. وبدا لي الفراغ في الأعلى أكثر تجسداً من أي وقت مضى. أطلت الوقوف أنظر، وأستشعر العمق في الأعلى. لسبب ما شعرت بأني مغلوب على أمري، ولا أدري لماذا داهمتني ذكريات قابضة محزنة. تخيلت بأني أقع تجاه السماء؛ لا أطير، بل أقع. أو يقع كل شيء آخر تجاهها، بينما أبقى أنا، أراقب كل شيء يغادر، وأتشوف بشفقة وقلق ما يهمني في حياتي من بين ما أرى، وأبقى لوحدي، أرقب بكَرَب.



عالمي المقلوب...
أسفله عاليه...
لا يدري المرء...
أيضحكه أم يبكيه...
تتساقط بتلات الزهور الحمراء...
فتدور فوقي إذ أسير وحيداً في تيه...
وتتابعني بفضول كالفراشات...
قبل أن يغلبها الهواء وتجذبها السماء...
فتختفي مفقودة كآمالي الخائبات...


















حالفني حظ غير معتاد، حينما نقلت تقرير قصير منشور في صحيفة الشرق الأوسط عن كتاب شعري اسمه هايكو الحرب، يحوي أشعار مجمعة من حول العالم كثير منها يفطر القلب، حول الحرب. نوعية القصائد هي الهايكو، شكل من القصائد بالأدب الياباني. هي قصائد بالغة الصغر حصراً، يفترض أن تعبر بعمق رغم الإيجاز الشديد. لست خبيراً بها، رغم اطلاعي على عدة نماذج من قبل، وعلمي بنشر شاعر سعودي لديوان من هذا النوع، ديوان تجريبي، إما أنه يسمى ومضات، أو أن الكاتب وصف القصائد في مقابلة بالومضات، لا أتذكر.
التقرير في الصحيفة حوى عدة نماذج من الكتّاب، أعجبني بعضها أيما إعجاب. كنت أعلم بأني لن أجد الكتاب هنا. ربما سيتواجد في معرض الكتاب، الذي أقاطعه منذ سنوات لأسباب عدة. عرضت بعض النماذج من القصائد ومصادرها، وعبرت عن أمنيتي بالحصول على الكتاب. بعد فترة، فوجئت بمعد الكتاب العراقي آزاد إسكندر يعلق على رأيي، عارضاً إرسال الكتاب إلي، وواضعاً طريقة للتواصل. كان كرم بالغ، ولم أتخيل أن أحد يعبأ على هذا النحو، لكن هؤلاء الناس المهتمون بالأدب على جانب من الحساسية غالباً، أعني من لا علاقة لهم بأدبائنا ومبادئهم على وجه العموم، فهذا الرجل يقيم بالخارج، في السويد على ما أعتقد. والأمر بالنسبة إليه شخصي، فهو عراقي الأصل، حيث سوء الحظ ملازم منذ زمن بعيد.
تم التواصل، وأرسل إلي الكتاب عبر البريد الإلكتروني. قرأت الكتاب بينما أنتظر في المستشفى دخولي ووالدتي إلى الطبيب. أُخذت بكثير مما قرأت. وقرأت بالكتاب، وهو ليس بالكبير لكنه معد بعناية، قصائد كثيرة تحتاج إلى تأمل طويل، وعودة وتفكر.
لم أقرأ الكتاب فقط، لكني تفكرت بنفسي، بعض الأمور كنت أعرفها، لكني توسعت بها، وبعض الأمور احتجت إلى التفكير بها بعمق أكبر، وهمّ عميق، شعرت بالإنطفاء.
ما أعرفه هو ازدرائي اللا إرادي لمحاولات الغرب الشعور بالمعاناة، أو حتى وقاحة مقارنة معاناتهم بمعاناة ضحاياهم. أجد تعاطفي مع تعاطي الغرب للكثير من المآسي شبه معدوم. أشعر بأني شبعت، وامتلأت كبدي كما نقول.
تجد أمريكيين يتحدثون عن معاناة الجنود المحتلين للعراق وأفغانستان وأهاليهم. لقد اختار الجنود، والبلد بأكمله الذهاب إلى هناك، لكن لم يختر العراق ولا افغانستان ولا فيتنام الحرب والدمار. أما سائر الغربيين، فاشتراكهم مع الأمريكيين بالمبادئ، وازدرائهم لنا ومبادئنا، على نحو يجعلنا أقل إنسانية في نظرهم، لا يترك لي أن أرى سوى دموع التماسيح.
علاقاتي التي انتهت بأصدقاء غربيين، نقاشاتي معهم، تعرفي عليهم عن كثب، وتعاطيَّ مع غربيين عبر الانترنت، وبقائي في سويسرا لوقت قصير طويل، لا يساعدان موقفي فيما لو اخترت الإيجابية تجاههم كمجموعات وثقافات ودول. مع ذلك، أحاول أن لا أحكم على الأفراد حينما أقابلهم، أو أتعامل معهم، خصوصاً حينما تكون المبادرة منهم. أعلم بأنهم ليسوا كلهم سيئين، لا شك لدي بهذا، حتى سويسرا لم تخلو من المنصفين والمتعاطفين، ولا زلت على اتصال مع دكتور أمريكي عمل هنا بضع سنوات، والصديقة الألمانية التي عرفتها في المكسيك، وهي إنسانة رائعة.
أما تجاه نفسي، أدركت بعد إتمام قراءة الكتاب بأني لا أخلو من التمحور حول الذات، رغم كفاحي، ورغم إعادتي المستمرة للنظر، وعمل دماغي المستمر. أصابني هذا بالتعاسة.



مرايا كاذبة...
تتعاطف فتُجامل...
تعكس صورة ساطعة...
تخشى التحامل...
ولا تخبرني بالصورة الكاملة...
أي تلف...
أي تشوه...
فيَّ، في الخارج والداخل...
شكراً يا مراياي الطيبة...
إن تكوني زجاجات لامعة...
أو إنسان عن مداركي غافل...

















ذهبت لأقوم بإجراء مطلوب من كل موظفي الجامعة، يتعلق بنظام جديد لمواقف السيارات. أُحبطت حينما وجدت الموظف غير متفهم ولا ذواق حتى تجاه ظروفي التي  أحتاج لأجلها مكان معين لسيارتي لأجل سهولة الوصول من وإلى المستشفى، إذ أني أحمل أحياناً بعض الأغراض الثقيلة جداً. شعرت بيأس شديد وحزن، ليس لأجل ما جئت لأجله، لكن لقسوة قلبه وبروده. فكرت؛ هل يجب أن يمر الناس بنفس الظروف القاسية ليشعروا ببعضهم؟، ليفهموا؟.




















اشتريت جهاز ألعاب جديد، للشركة التي لا أفوت أجهزتها المنزلية خصوصاً. اسمه ننتندو سويتش. للأسف، كان شراء جهازهم السابق لهذا قرار شديد السوء، مجرد خسارة، فقد كان فاشلاً كجهاز من نواحٍ كثيرة. هذا الجهاز الجديد هو أكثر جهاز مبتكر في رأيي منذ عقد، وهو يجمع بين كونه محمولاً وكونه قابل للوصل بالتلفاز مثل البلايستيشن بكفاءة، وهذا أحد أوجه الإبتكار، حيث يتم فصل أجهزة التحكم حين وضعه في القاعدة الموصولة بالتلفاز، وإكمال اللعب الذي بدأته وأنت تحمل الجهاز، والعكس حين تريد مغادرة الغرفة، إذ أنه يحوي شاشة طبعاً. لا زلت لم أجرب الكثير من الألعاب، ولم أختبر قدراته وإبتكارات الشركة فيه على أكمل وجه، لكني متفائل جداً. أحب ميزة الإهتزاز الواقعية في يد التحكم، إنها كالسحر، فأنت تشعر بأشياء غير موجودة، كأن تشعر بكرات تتحرك داخل اليد، المطلوب منك تخمين عددها في أحد الألعاب.
تذكرت بأن هذه الأجهزة والألعاب تأخذ فكري بعيداً عن حياتي التي أعيش، مصدر للهو والنسيان في أوقات الفراغ القليلة بالمنزل، التي لا يفرغ فيها القلب من الهموم، ولا يتوقف الذهن عن العمل المرهق. بيد أني لم أعد ألعب به منذ فترة، ليس لأني لا أريد، لكنها ظروف تغيرت.
أعرف بأن الأغلبية العظمى ممن يقرأون أو يقرأن لا تلعب، خصوصاً الفتيات من كافة الأعمار، سوى ألعاب بسيطة على الجوال، لا تستولي على التفكير ولاتحرك العقل بعمق ولا تقص قصة عميقة على الأغلب، لماذا لا تجربون اللعب على الأجهزة؟، يوجد ألعاب جيدة على البلايستيشن كذلك، بألغاز معقولة ولكن تشعركم بالإنجاز، وعلى الأغلب هذه الأجهزة موجودة في معظم البيوت. لكن لاتقعوا في فخ كرة القدم أو ألعاب الحروب الخالية من المعنى، كما يجب على الأقل الضغط على أبنائكم للعب غيرها، ولو إلى جانبها، أقل الشرين. اللعب على الشبكة خطير كذلك، ويستوجب الإنتباه والمتابعة، وإن كان لديكم أبناء أكبر بفرق من أبنائكم الصغار فيستحسن وضعهم لمتابعة الأصغر دون التدخل الضاغط والمعاقبة، مهمتهم إبلاغكم أنتم، هذا دوركم، إنما أنصح بإقحامهم بالمراقبة لأنهم أعلى فهماً في هذه الأمور منكم. أنا أيضاً متأخر جداً باللعب على الشبكة، لأني لا ألعب بالأجهزة الشائعة إلا ما ندر، حينما أستعيرها للعبة راقية من أحد أبناء إخوتي، ولا ألعب على الشبكة حتى حينها. لاحظوا ’راقية’، هذا ما يفيد.

كنت حائراً بإختيار لون أجهزة التحكم، التي تشكل جزء من الجهاز. يوجد لون أسود أو رمادي كما الجهاز نفسه، ويوجد شكل بيدي تحكم زرقاء وأخرى حمراء، كلاهما فسفوريتين. اختار ابن أختي العزيز أن أشتري الملون، وهو قرار جيد بصراحة، فهي ألوان مبهجة. لكن ما حدث، كما حدث للكثير من مشتري الجهاز الأوائل، أن اليد اليسرى، الزرقاء بحالتي، تعاني من عيب مصنعي، ولا بد من إصلاحها أو استبدالها. لحسن الحظ اشتريت الجهاز بالضمان الرسمي، رغم ارتفاع سعره المهول من الوكيل، فتواصلت معهم بالبريد ودعوني للقدوم إلى مقرهم في سوق المعيقلية. لا يشك المرء بأن المكان تابع لننتندو، بالعلامة التجارية الخارجية للشقة والديكورات الجميلة بالداخل. حينما دخلت على مكتب المسؤول اللطيف وجدت على مكتبه عشرات أجهزة التحكم اليسرى، بألوانها الزرقاء والأخرى الرمادية. لم يطلب الفاتورة، فقط سأل من أين اشتريت الجهاز، ولما قلت جرير أخذ اليد. لما علم بأني أتيت من أقصى شمال الرياض كاد أن يولول، واقترح أن يرسلوا سائقهم بجهاز التحكم البديل، لألتقيه بنصف الطريق إليهم، أو تركه في محلهم الرسمي في سوق الفيصلية. اخترت الفيصلية، وتم إخباري بأنه لن يمكن إعطائي اللون الأزرق الأصلي، لكني سآخذ الأحمر، شعرت بحيرة، فقال بما أن جهازي ملون بالأساس فيسكون كله أحمر، وسيبدو أجمل. ربما أجمل، لكني لم أرد أن أخيب ظن ابن أختي الفخور بالإختيار لي. ما باليد حيلة.
لاحقاً ذهبت إلى الفيصلية وكان البائع في حيرة من أمره، إذ توقع بأن أحضر معي جهاز التحكم المعطوب، الذي سملته بدوري إلى الوكالة نفسها حينما زرتهم، شرحت له الأمر، بدا بأن حيرته لم تتبدد تماماً رغم ابتسامته، إلا أنه سلمني الجهاز البديل رغم ذلك، الملفوف بغلاف فقاعي وكأنه قطعة غيار، أي أنه بالفعل مخصص لهذا الغرض. اتصلت بالوكالة لأخبرهم بأني استلمت اليد، وأخبرتهم بأن البائع بدا حائراً تجاه تسليمي لليد المعطوبة، وأني سلمتها مسبقاً إليهم فاتصلت لأؤكد حتى أجنب البائع أي إحراج. ضحك الرجل وقال بأنه يعلم بأني سلمتها وهو يتذكرني، وأن البائع خلط بيني وبين آخر.



















لا تخف...
ولا تقلق...
إن رأيتني مستلقياً...
عن الوعي غائباً...
إذ تراني مبتسماً...
على هوينك قف...
وبأحلامي ارفق...

تأمل سلامي...
إن أكن متوسداً كفي...
أو ابتسم مشفقاً...
إن تكن رجلي قد التفت على رجلي...
لا تفقني من جنتي...
حيث أجد وعود الحب...
وأصدقها...
وراحة البال...
وأسكن إليها...

دعني وشأني...
أتنهد على مهلي...
وإن لم تصبر...
فمسد شعري...
أو استلق إلى جانبي...
أو بحنان أُقعد وأجلسني...
واحضني من خلفي...
وأغمض عينيك...
وجهك إلى جانب وجهي...
حالماً معي...
وتخيل سر ابتسامتي...
لعله يكون أنت…




















توطدت علاقتي بأستاذين يونانيين بالجامعة. أحدهما جديد، أما الآخر القديم فكان حضوره يوترني لسنوات لحرارة مزاجه وشعوري بأن لا شيء يرضيه، وكنت أتخيل بأنه يكره الدنيا بأكملها. الجديد رجل هامس شديد الهدوء، ذو حضور مريح وطلعة بهية، له لحية شقراء وشعر منحسر ملتف كالخواتم البرونزية وعيون شفافه، وهو حالة استثنائية حيث يميل القوم إلى سواد الشعر وغمقة اللون مقارنة بأوروبيي الغرب والشمال، وهو يشبه فلاسفتهم القدماء بالتماثيل.
كانت المبادرة التي فاجأتني من الأستاذ القديم؛ حيث أتى لي بهدية من اليونان بلا مقدمات، لأني ساعدته كثيراً كما يقول، وكان ذلك ليظهر الإمتنان. الهدية هي عبارة عن مستكا لزج ثقيل، في عبوة أنيقة. نحن نعرف المستكا كحبوب صغيرة، الجيد منه نادر هنا وهو يشبه الدموع، فكان ما أتى به جديد علي. أصل الشجرة التي تفرزه هو اليونان، ويبدو أنه لا يُنتج إلا هناك، وهو ثمين منذ فجر الدنيا، مثل اللبان العربي. أفهمني طريقة أكل هذا الشكل الجديد علي، تأخذ منه بملعقة، وتحركه بماء بارد، وهو لا يقع عن الملعقة لفرط لزوجته والتصاقه، فيتجمد إلى حد ما، ثم تأكله أو تمصه، وهو مفيد جداً، بالطبع. وجدته فائق اللذة، وقد أدمنته، فصرت أغطه كل يوم في العمل بمائي البارد الذي أمزجه بماء الورد الطائفي كالعادة. هو مفيد للبطن كذلك، لكني لا أدري ما هي فائدته. وأعتقد بأنه مفيد لرائحة الجسد العامة والتعرق، إلى جانب ماء الورد الجيد واللذيذ، والإقلال من اللحوم الحمراء، وهذه نقطة لفت انتباهي إليها ابن أخي، حيث قال بأن اللحوم الحمراء تعطي للجسم رائحة واضحة وسيئة، كما تفعل مع الضواري، أما من يأكلون على نحو نباتي حصراً فلا يعانون من المشكلة. إني لست أعاني من مشكلة ولله الحمد، مع ذلك، وجدت أن الإقلال من اللحوم الحمراء أفضل  في كل النواحي، حتى رائحة الجسم ولو لم يتعرق المرء، ورغم أني مقل بالأساس منها منذ وقت طويل، إلا أني أقللت أكثر حتى صار تناوله مناسبة نادرة جداً، إلى جانب الدجاج الذي لا أرغبة بالأساس.
عودة للموضوع، فوجئت بالهدية صدقاً، وأخبرته بأنه ما كان عليه أن يتكلف هكذا، وبدا سعيداً بالمفاجأة الصادقة التي شعرت بها. دعوته لاحقاً مع الأستاذ الآخر للمنزل لتناول العشاء. وفوجئت بالأستاذ الجديد يعود من إجازة قصيرة محمل بالهدايا لي ولأهلي، من أهله، كما أعدت والدته لنا نوع من الحلوى اليونانية.

وجدتهم كرماء جداً، لطيفو المعشر، بسطاء الحضور وشديدو التواضع، وعادلين بحكمهم على الناس. إني أخشى عليهم من الدكاترة السعوديين والعرب مع ذلك، هؤلاء يشوهون سمعتنا دائماً ويفسدون طباع سواهم.
أفهموني بأنهم مختلفون تماماً عن السويسريين وأهل أوروبا الغربية، من كل النواحي. علموا عن تجربتي في سويسرا. بدا الإختلاف واضحاً.
خططنا في وقت آخر للخروج إلى مقهى، وكان الترتيب صعباً، فالدكتور الكبير يحب شارع التحلية، حيث يوجد تجمع أسبوعي ليونانيي الرياض، بينما أنا والآخر لا نحب التحليه. اشتدت المناورات بيني وبين الكبير، وهو يريد مقهى معين بالذات في ذلك الشارع البغيض، يريد المقهى الذي سيتواجد فيه على أي حال، ذلك أنه اعتاد عليه وأحبه، بينما أنا كنت قد وعدت الأصغر بأن أجعله يتذوق القهوة بالكَرَميل المالح، وهي قهوة كنت قد تكلمت عنها هنا، يبيعها كاريبو كافيه، وقد افتتح قرب بيتنا وبيوتهم مؤخر. كان الكبير قد اعتاد على أن يختار ويقرر، مثلما عرفته سابقاً، لكني لم أتوقف عن المفاوضة عبر رسائل الهاتف، وحاولت أن أكون بارعاً وقاتلت، حتى اتفقنا على الذهاب إلى فرع كاريبو بنفس شارع التحلية، تضحية من الجانبين.
هناك تكلمنا كثيراً، وقد اختار الكبير لنا الجلوس في الخارج، رغم الإزعاج والزحام والسيارات، فهو يحب الأماكن الخارجية، ولأنه الكبير وكنت في حضوره كانت كلمته ملزمة، ولم يمكنني المفاوضة هذه المرة.
اتضح لي بأني قد بت شديد التشدد بعد سويسرا، لم أعد أتقبل بعض الأفكار العادية، كوجود سياح أجانب هنا، فقد صرت أتخيل بأن هذا أمر خطير على الثقافة، وعلى صورتنا، صرت أعتقد بأن الكل يريد أن يشوه سمعتنا، وبعض العرب الأجانب هنا يفعلون هذا دائماً، لكن يبدو أن هذا شر لا بد منه، أما السياح، فيمكن تفاديهم. قلت بأني كنت لا أمانع كثيراً وجود المجموعات السياحية، لكني الآن أمانع، وأريد أن تشترط المملكة سن معين لمنح التأشيرة السياحية، وحددت السن على سبيل المثال، فقال الأصغر: لكني أصغر من هذا!، فقلت إذا لا تأتي. فضحك بشدة. تناقشنا بالأمر، وقالوا بأن هؤلاء القلة من السياح سيفعلون هذا مع كل بلد يزوروه، وقد كان كلامهم معقولاً، فقد رأيت وقرأت لمثل هذه العينات في البيرو والمكسيك. لكني أخشى الظلم تجاهنا، مع كل الكراهية المحيقة، وأخشى الإهانات ومحاولات الإستعراض، إذ رأيت أمريكي يلبس في السوق ملابس عليها كتابات وقحة. قالوا بأنه لا يوجد أمور سيئة هنا، كل ما هنالك هو ثقافة مميزة ومثيرة للإهتمام، لو فتح المجال للإطلاع عليها فسيتسابق الكثيرين لرؤية البلد، وسيعجبون به، وسينقل الأغلبية صورة حسنة. تحدثوا كثيراً حول الموضوع، ليقنعوني بأن الأمر بسيط وإيجابي. قلت بأن تجاربي قد أثرت علي بالتأكيد، وبعض اللؤم الذي رأيته تجاه البيرو كذلك، لكن لعلهم على حق، وقد بدأت أغير رأيي وألين تجاه الموضوع.
لا يوجد إشكال بالعادة في مسألة خروجي لوحدي، ذلك أني أخرج أحياناً بعدما تأوي أمي إلى الفراش، إن لم يكن الخروج قبل ذلك ضرورياً لا يمكن تأجيله. وهذا أمر عادي، فأنا لا أرى أحداً خارج المنزل عموماً، وأخرج لوحدي، وإن رأيت أحد فهو أحد ممن يعرفونني ممن يقدمون لي الكولا، التي عدت إلى شربها، وإن يكن على نحو أخف بكثير عن السابق. لكني عرفت صعوبة الوضع حينما يريد اليونانيون لقائي، فما بعد الساعة العاشرة في وسط الأسبوع بالنسبة إليهم هو النوم، أما في نهاية الأسبوع ففرصتي للخروج مبكراً هو يوم الجمعة فقط في معظم الأسابيع. لو كانوا قابلين للسهر لما واجهت مشكلة في رؤيتهم أكثر.
























بدأت منذ فترة جيدة الآن بطهو طعامي أكثر فأكثر. أعتقد أن رحلتي إلى سويسرا قد أكسبتني خبرة لا بأس بها، وإن كنت أحاول الإختصار والإقتصار بقدر الإمكان على القليل من المكونات الصحية، وأتفادى التقطيع والقلي، الذي تعلمته هناك لكني أكرهه. أكثر طهوي أساساً يتم بالمايكرويف، بقدر خاص ومصنوع بذكاء للطهو فيه، عبارة عن وعاء سيراميك داخل وعاء بلاستيك يغطيه غطاء بشقوق طولية لتجميع البخار ثم الغطاء العلوي، حيث أطهو أرز الحبة اليابانية أو الإيطالية أو القمح المبخر، وهو يؤكل كالأرز، يأتي من فرنسا. أضيف إليه إما جبن البارميزان بعدما ينضج مع أجبان أخرى لأصل إلى القوام الذي أحب كما الريزوتو، أو بهار اسباني أحمر يستخدمونه لأكلة لديهم تسمى الباييا، ونعرفها بالبايلا. الكينوا طبعاً مهمة كذلك.

وبذكر الكينوا، وبعد سنوات من زيارتي للبيرو، لم يمض يوم منذ ذلك الوقت لم أفكر فيه بالبيرو وأتذكرها، وأكثر من مرة في اليوم. تقول والدتي بأنها فتنة، لكني لا ألوم نفسي. لو كانت الظروف تسمح لقمت بأكثر من التفكير، وحتى أكثر من مجرد الزيارة.




















المغفرة…
يا من جرحني…
السماح والمعذرة...
يا من أخطأ بحقي...
تأكلني الندامة…
إذ قسى وجرؤ قلبي…
لأتجاهل تلك الإبتسامة…
لأتردد تجاه يدك الممدودة نحوي…
وأصمت عن أسئلتك المشتاقة...
ما كان اندمال جرحي بيدي…
والقسوة من الغالي لصميم القلب طعانة…
لستَ جاهلاً بما فعلت بقلبي…
ولم تخفى عليك غصتي الحيرانة...





















لقرب الريف والمنتزهات البرية من شمال الرياض، أرى طيور مهاجرة من وقت إلى آخر، سواء قرب المنزل أو في الجامعة حيث أعمل. أحياناً، يكون الموقف فرصة عمر، كذات مرة هبطت فيها الغرانيق الوردية على دوار في الجامعة، ووقفت على رجل واحدة، بكامل أناقتها وجمالها.
لكن لا يقتصر الأمر على هذا، بعض الطيور الأكثر شيوعاً لها جمالها الخاص كذلك، حينما يأتي موسم هجرتها فتمر وتبقى قليلاً في القرب.
ما يجذبني دوماً هي طيور الخواطيف، وهي طيور تطير بسرعة وكفاءة غير عادية، وتستعرض مهاراتها وتلعب في الهواء في تجمعاتها، لمجرد اللعب، إذ لا يوجد طائل واضح لما تقوم به. هي من أقرب أقارب الطيور الطنانة، الطيور التي أفضل بلا منازع بين الطيور، وأحب الحيوانات إلى قلبي، لا ينافسها سوى حوت الأوركا.
كنت في مكتب مديري الجديد، بعدما تقاعد السابق الذي عرفته منذ أن توظفت، قبل فترة طويلة. كان متأثراً ومحزوناً على تقاعد المدير السابق، الذي قضى فترة معه كنائب، يقضيان معظم اليوم معاً، حتى المغرب أحياناً. كانت الخواطيف تلعب خارج النافذة، وكنت أراقبها بانقباض وانطفاء. تمنيت لو كنت منها، طير بلا هموم ولا وعي ذاتي، ولا واجب غير البحث عن الطعام والشريك. كنت مع ذلك أكثر تماسكاً من مديري المتأثر، إذ أني أكثر واقعية حيال الأمر، رغم أني عرفت مديري المتقاعد عن قرب لفترة أطول. لا بد من وصول المرء إلى نهاية رحلة، وبدء أخرى، هكذا هي سنة الحياة. وعلى الأقل، فرصة التواصل غير مفقودة. ولعل قلبي أقسى بكثير مما كان، وأكثر انشغالاً في حياتي الخاصة وواجباتي ووحدتي الطويلة ووحشتي، وجوع قلبي، والجوع القلبي لا ينهي حياة المرء كالجوع المعروف، يزداد ولا ينقص ولا تموت مع ذلك.
ليتني كنت خاطوفاً، أمارس المخاطرة التي أحب ولا أقدر عليها، دون عواقب مهمة تصيب من يعتمدون علي، أو قيود.

آهات...
يغزلها نول صدري...
وأنين...
يتصاعد في قلبي...
وعيني تبكي...
بلا دمع يُرى...
ولا تنهدات تَشفي...
يسرهم قناعي...
فلا يسمعون..
ولا يرون ما يجري...
لا أحد يسأل...
لا أحد يهتم...
لا أحد يدري...
بالموت القابع في جوفي...
ولا باليأس الراسخ من قدري...




















ذهبت لأيام مع أوبر، خدمة سيارات الأجرة، إذ أن سيارتي كانت في الوكالة للصيانة، وقد طال بقاؤها أكثر مما توقعت. الأمر العجيب هو مصادفتي لإثنين من الزملاء العاملين بها في نفس اليوم، أحدهما يعمل بعيداً عن مكتبنا الآن، والآخر بقربي. أحدهم لم يعنني أمره، سوى أن الصدفة كانت غريبة، وإن كنت قد فضلت أن لا أراه.
أما الآخر، فكان الأمر مختلفاً، للعلاقة المتذبذبة سابقاً، وكان المشوار معه خروجاً من الجامعة إلى منزلي بعد نهاية الدوام. كان المشوار غير مريح، فمن جهة فوجئت به، ومن جهة ظللت أفكر إن كان ود أن يرفض الطلب قبل أن يصلني، لو علم أنه أنا، رغم أنه اتصل ليتأكد أنه أنا، بينما لم أعلم أنه هو السائق لأنه اتصل مباشرة قبل أن تظهر صورته حتى، ولكنه حتى لو لم يحب أن يوصلني كان اتصاله قد ورطه فيما أحسب، وذلك رغم ما أظهره من جذل واحتفاء كبير على نحو غير عادي، إلا أني لم أعرف كيف أتفاعل مع هذا الجذل.
كنت قد عملت مع اوبر بنفسي بعد عودتنا من سويسرا، بعدما سببت إحراجاً لفرعهم السعودي بشكواي إياهم للشركة الأم في أمريكا، لتجاهلهم لرسائلي بعد أول رسالة، كان من تجاهلني موظف هندي، وكان السائقين في غالبيتهم هنوداً، إذ كانوا قد بدأوا بقبول السعوديين للتو. بالواقع، أجد إدارتها متعجرفة جداً، ومتأمركة إلى أقصى حد، بعد مقابلة مسؤول سعودي صغير في السن، كانت شخصيته تنم عن تصنع وتبني مبادئ أمريكية حتى على مستوى التعامل الصفيق على أساس العملية الزائفة.
لم أعمل معهم في ذلك الحين لأجل المال، لكن لأجل رؤية الناس. كنت قد تفاءلت بهذا بعدما وجدت الأمر ممتعاً في سويسرا بالنسبة لبعض السائقين كذلك. لكن تبين أن الأمر أقل متعة بكثير هنا، لأن أكثر الراكبين نساء، وحينما يركب رجل، فغالباً ما يكون مشغول بالهاتف، فتوقفت. لكن يبدو أن الوضع تغير الآن، لقد ازداد عدد الزبائن، وتنوعهم بوضوح، رغم سيادة النساء، ربما كان لقبول الأجرة مباشرة من الناس أخيراً بدلاً عن البطاقة الائتمانية الدور الأكبر، فأكثر الناس وإن امتلكوا البطاقة يخشون من استخدامها في الدفع في التطبيقات والمواقع. ندرة من أوصلتهم وكان للأمر متعة. النساء يصمتن وإن لم يصمتن فهم يردن معرفة كل شيء عنك على نحو مزعج لا يشبه التفاعل والحكي المتبادل. أما الرجال فأغلبهم صامت ومتحفظ، وبعضهم مشبوه ومخيف، وقد يدعوا المرء للنزول معه للضيافة بإصرار غير طبيعي، قبل الوصول حتى، أو القدوم معه لمشواره، فلا أصدق أني نجوت من شيء ما حين التخلص منهم، لكنهم ليسوا الأغلبية. ربما أفضل من ركب معي كان رجل سوري كبير في أربعيناته، كان لطيفاً وذواقاً وقد أعجبته سيارتي (هو سوري وهي رينو)، لكن للأسف اتصلت به زوجته حالما بدأ يتحدث، وظلت تكلمه في إشكال كبير.
مع ذلك، يكون الأمر مزعجاً حينما تكون الراكب أحياناً عندما يكثر السائق الحديث دون اهتمام واضح منك الأجانب لا يتحدثون عموماً، إلا فيما ندر، وأنا حذر منهم لإتخاذ بعضهم تدابير جشعة أحياناً، من حيث الإبطاء ومحاولة التوقف عند الإشارات، خلافاً لقلة الأدب واللؤم أحياناً في قبول رحلة وعدم الحضور، منتظرين منك الإلغاء حتى لا يخسرون هم بإلغاء الرحلة، رغم أنه قرارهم هم. كما أني أفضل نفع السعوديين ولا أقبل بسواهم حينما أملك الوقت الكافي. لكن للإنصاف، السودانيين مختلفين عن الكل، ودائماً أفضل من بقية الأجانب، ولا أفرق بينهم وبين السعوديين. استخدامي للخدمة أغلبه للذهاب إلى المستشفى مع والدتي، والقدوم منه، حتى بوجود سيارتي، وذلك لننزل معاً قرب المدخل ولا نتأخر ولا تتعب والدتي أو تمل من إنتظاري وأنا أركن السيارة أو آتي بها. لهذه الوجهة غالباً ما نصادف أردأ السائقين في الصباح، ولا أدري ما السبب. أحياناً، تكون الرائحة مقرفة إلى أقصى حد، إلى درجة أني أبقيت وجهي في النافذة المفتوحة طول الطريق، وحمدت الله أن والدتي لا تشم جيداً، ونظافة السيارة من الداخل معدومة، وأعتقد بأن الإهتمام بنوعية السائقين ومتابعتهم باتت معدومة وصار الربح أهم من الجودة. كما أن توظيف السائقين الذين يستخدمون سيارات كفلائهم بلا علمهم على الأغلب بات شائعاً، وهو أمر غير أخلاقي أبداً، لكن الشركة لا تهتم لأنهم ليس لديهم وطنية على ما يبدو.
غالباً ما يكون أفضل السائقين سعوديون من الأحياء الأرقى، وهم غالباً أشخاص يقومون بالأمر للمتعة المحضة، وبعضهم سيارته غالية وفخمة. أحياناً، أتمنى لو كانوا أصدقائي، مثل شاب كبير ظريف ودمث، وعلى استعداد للضحك على نحو مضحك. كبار السن من ذوي الإطلاع موجودين بكثرة كذلك، مثل عكسهم، وهم غالباً ما يكونون لطفاء، وإن كان الحديث من طرف واحد، من طرفهم، ولكن هذا يسري على كل المجتمع، فالكل يريد أن يتكلم ولا أحد يريد أن يستمع، كرجل غامدي شديد اللطف/ متقاعد من أرامكو، تبين بأنه يعرف أخي معرفة وثيقة في عمله بالعقار سابقاً، وآخر متقاعد كذلك من مكة، رائع وشديد اللطف والطيبة، سوى أني استغربت حينما سألني إن كنت من الرياض بعد الحديث الطويل وفي منتصف الرحلة، فبالعادة لا يسأل الحجازيين هذا السؤال، وإن لم أكن قد خبرتهم كثيراً بصراحة في مثل هذا المواقف، فلا أدري، قد يكونون هكذا. لكني لا أدري كيف افترض بأني لست من الرياض حتى يسأل. كان الرجل يقوم بالأمر ليقضي على وقت الفراغ الطويل، حيث أن جميع من بالبيت مشغول، اكتشف هذا بعدما تقاعد.





















شتاء جديد سيأتي حتماً بالصقيع...
وهل انقضى الشتاء يوماً في قلبي...
حيث يقبع حب ذابل ينتظر الربيع...
الإنتظار أعياه...
ولكن على التنازل عن الأمل لا يستطيع...
أجلس على جرف الإنهيار...
يرُدّني سور الحيرة المنيع...
وأتساءل...
متى أحسن القدر بي الصنيع؟...


















كُسرت شاشة جوالي قبل فترة حينما وقع مني على وجهه. لم أكن قد غلفت الشاشة بزجاجة واقية. ذهبت به إلى جرير، حيث أمضى سنة عندي، والضمان الآن أصبح سنتين. لكن جرير تعمل فقط كهمزة وصل، وتحصل الكثير من الرسوم لأجل إرساله إلى الوكيل. بالواقع، صارت جرير تطلب المال حتى لتركيب واقيات الشاشات وإن اشتريت كل شيء من عندهم، وهذا الجشع بعينه.
الشاشة بأكثر من ستمائة ريال، وهذا جشع من شركة هواوي كذلك، لكن أفضل من شراء جوال جديد، خصوصاً أن الجوال ممتاز، وبه أفضل ما يهمني في الجوال. دفعت، وقيل لي متى سيكون الجوال جاهزاً. إلا أني فوجئت بإتصال لاحقاً لإخباري بعدم توفر شاشة!، وكان هناك إصرار غير عادي لثنيي عن استعادة الجوال. أعتقد، بل أجزم، أنهم أفسدوا الجوال خلال إصلاحه، وقد تورطوا وأصبح الأمر يكلف أكثر من إعطائي جوال جديد بنفس القيمة الحالية. فكان عرضهم هو أن أذهب إلى جرير وأحصل على الجوال نفسه أو أي جوال هواوي بنفس السعر الحالي. لم يكن باليد حيلة، والحمد لله أني كنت قد حفظت الصور التي صورت، حيث أن أهم ما بالجوال بالنسبة لي هو كاميراتين في الخلف، تسمحان بتعديل التركيز والعزل حتى بعد أخذ الصورة، لذا أصبحت صوري أكثر أهمية. قررت أخذ جوال من اونر، وهي ماركة فرعية عن هواوي، بجوال بنفس السعر لكن بمواصفات أقل قليلاً من حيث المعالج والشاشة، وليس الكاميرا، التي تأتي كذلك بميزة ليزر التركيز، والكاميرا المزدوجة، بعدستين، هي ما يهمني. هي كاميرا متطورة حقاً. أما جهاز البصمة الخلفي فهو قابل للضغط كزر، للدخول إلى اختصارات يمكن تعيينها بعدد الضغطات، وهذه ميزة أحببتها جداً ولم تكن موجودة في الجهاز السابق الأرقى. وكان مثل السابق يتعرف على الحركات من مفصل الإصبع للقيام بعمليات رائعة، كأخذ صورة عن الشاشة بسرعة، أو تحديد جزء منها للصورة، أو أخذ صورة طولية لموقع أو مقال مثلاً للحفظ، وكذلك كتابة حروف ترمز لإختصارات يمكن تعيينها، كالكاميرا والموسيقى وما شئت من تطبيقات مهمة. أما من حيث الشكل فهو أجمل بكثير من السابق، زجاجي من الأمام والخلف، بلون أزرق غامق (هذا ما اخترت) كالمرآة من الخلف بلمعة طولية تشبه الخداع البصري وهي ملفتة للنظر. وكان هناك عرض من جرير، في حال شرائه تحصل على علبة اكسسوارات من هواوي تساوي 300 ريال، وقد سألت إن كان بإمكاني الإستفادة من العرض، رغم أن هذا جهاز تعويضي، فقيل لي لا بأس. وهو عرض لا ينطبق على الجهاز السابق.
أنا سعيد به منذ فترة الآن، ومعجب خصوصاً بإضافة زر البصمة بضغطاته المحسوسة، وقد عينت مختلف الضغطات إلى ما يهمني، كالدخول مباشرة إلى المفكرة، وهذا أمر مهم للسوق حينما أشتري احتياجات المنزل، أو للأفكار المداهمة التي يجب أن تُسجل حالما تطرأ، والقصائد.

مرة أخرى، قبل شراء آيفون أو سامسونق بتكاليفها العالية وعدم تميزها، فكروا بالشركات الأخرى، كهواوي ولينوفو وخلافها، كما انه يوجد موديلات ممتازة متوسطة السعر تفي بأغراضكم على نحو ممتاز، لأني أعرف أن معظم الناس لا يستفيدون أي شيء من الأجهزة المكلفة التي يشترون، ولا أرقامها التقنية من حيث المعالجات المبالغ بها ومن هذه الأمور تعنيهم أو تفيدهم بشيء.

















سألني صديق أجنبي عزيز، يعيش في كوريا وإن لم يكن منها، ويحادثني ببرنامج على الجوال، عن أي شيء من الماضي أشتاق إليه. قلت بأن هناك أمر عجيب يخطر على بالي هذه اللحظة، ومؤخراً على نحو متكرر، لذا لن أذهب بعيداً في الماضي. بشكل غريب ومفاجئ، أشتاق إلى شيء معين في سويسرا، وهو مما لا يحب المرء أن يشتاق إليه، لكني أجد نفسي كذلك؛ إني أشتاق إلى الميلانكوليا التي شعرت بها هناك باستمرار، الوحدة والتأمل وإن يكن بتعاسة وانقباض. لماذا؟، ربما لأن هناك ما كان يُتمنى، ما يتطلع إليه المرء، ولو بحسرة. التساؤل، إكتشاف الإجابات وإن كان أمر مرير، الرضا بالقدر وبالوضع الجديد في الحياة، السير كشخص خفي، على نحو أعمق هناك مما استشعره هنا في البلاد، فالميلانكوليا هي حياتي بالواقع، هنا أو هناك، وإن اختلفت النكهة.
الآن، يبدو أني رضيت بالوحشة، إلى حد أني صرت أتمسك بها، احتضنها حتى لا تتركني.

من أكثر ما يمر على بالي هو محطة صغيرة في زيوريخ، كان الترام يتوقف عندها دائماً حينما أستخدمه، اسمها شتاوفاخا Stauffacher. مكان مزحوم إلى حد ما، غير جميل أو مميز جداً على وجه التحديد، في خلفيته حديقة صغيرة لكنيسة لطالما شعرت بأنها مهجورة أو مقفلة. لكن هناك ما يجعل ذلك المكان مختلفاً بشكل ما، بحيث كان ذهني فيه دائماً حاضر للتأمل بوعي، ربما لكونه نقطة عبور مجردة، مع القليل للقيام به خلافاً لهذا. قد ينزل المرء ليستقل عربة بأخرى، وربما ليمر على المطعم القريب، ويخرج. لكن متابعة الناس هناك تشبه تقريراً مبسطاً عن الحياة بأسرها؛ لا يتوفر لدى الناس سوى القليل، القليل من الوقت، والكل منسي، ولا أهمية واضحة له بذاته، هكذا كان يخيل لي. تأتي بعده محطة لا تعبر ذهني كثيراً، وهي ساحة كبيرة مزدحمة، تتقاطع فيها الترامات، وينصفها محل أقرب للأكشاك. هناك الضجيج أعلى حيث تمتلئ الساحة بالحياة، ولكن ليست الحياة التي أقصد؛ لا أشتاق إلى تلك الساحة، كانت تزعجني وتذكرني بالتفاهة والقشرية، اسمها باغاده بلاتز Paradeplatz.
خلافاً للمحطة، تراودني لمحات كثيرة عن مضيي الجهم إلى السوق لشراء الحاجات، حيث أشعر بأني معزول في فقاعة تُري الناس ما خلفها، وليس ما بداخلها. عن بؤس البيت الأخير على وجه الخصوص، ياله من بيت، كم المعاناة والتعب. وبعض الرضا، الميلانكوليا من نوع آخر، من نوع متصالح، في مطعم المستشفى، حيث أشتري مشروباً، وأجلس للكمبيوتر، بينما أمي تمضي الوقت مع أختي وابنتها في الغرفة وقت الزيارة. لعل تلك اللحيظات التي أقضيها لوحدي هي مستراحي الوحيد، مخرجي ونسياني وأنسي بنفسي، إن كان لي بنفسي أنيس. كان يحدث أن يعكر صفوي نظرات محيرة وغير لطيفة، خلال المرور المتكرر من طبيب كان في البداية لطيفاً، ثم تغير لسبب أجهله، وهذا الموقف من أكثر المواقف التي مرت علي من أهل ذاك البلد، الذي لم يخلو من الطيبين؛ أقول هذا بعد انتهاء صراع مع نفسي وذكرياتي عنه، للسنتين الفائتتين؛ أعتقد أني شفيت بالنهاية.



حياتي سيرك...
وجمهوري مهرجون...
يجلس تعسائهم في الخلف...
ولا يضحكون...
ولسخرية القدر...
يضحك علي المتقدمون...
على فشلي...
على محاولاتي البائسة يتغامزون...
فشلت كل حيلي...
إذ أني وحيد بلا عون...
فاستلقيت على ظهري عاجزاً أنزف...
إذ كنت غدراً مطعون...
ولم تشفع جهودي...
حتى يتعاطف المقهقهون...
سحبت من ثوبي خرقة عتيقة...
تنشقت منها ذكرى الخائنون...
رف قلبي وأغمضت دامعاً...
فانتبه من في الخلف من البائسين...
جاؤوا ليرفعوني كالميت...
وخرجوا بي سائرون...
في مسيرة صامتة...
بحزن يتراقصون...
وكنت خفيفاً كورقة خريف...
حينما على الأرض سجون...
عند نافورة رقراقة…
إذ كانوا بما أسكن إليه يعلمون...
ثم شرعوا بأصابعهم على وجناتهم يومئون...
يريدون رسم دموع النحيب...
إذ أنهم كانوا من البكاء محرومون...
أم أنهم كشأن مهنتهم...
هل كانوا يمثلون؟...
غفوت وأنا أتسائل...





















كثيراً ما أريد أن أكتب أمر ما، ثم حينما أجد الوقت للمحاولة، لا أجد ما أكتب، أنسى، أو يبدو ما نويت كتابته غير مثير للاهتمام أو ذو قيمة. يشعرني هذا بالإحباط، خصوصاً مع تحسن الظروف المكانية والتقنية للكتابة.
حسناً، جربت السفر إلى القصيم على القطار، المحطة في الرياض جيدة، القطار سريع، لكن لا يمكنك رؤية شيء من النافذة لأنها مغطاة بلصقة واقية من الخارج، فتشعر بأنك في حجرة طويلة معزولة تخنق النَفْس. المقاعد كانت خليقة بحافلة تنقلك لمشوار عشر دقائق لا أكثر، فهي غير مريحة أبداً، أمر في منتهى الرخص، إذ يجب عليك حجز الدرجة الأولى للحصول على مقعد يليق ببشر، وبسعر غير منطقي. لا أدري لماذا، لكن بعدما تعدينا المجمعة أصابني ألم فضيع في بطني وكلاي، كان الأمر بالكاد قابل للتحمل، أمر فضيع، لكنه تحسن وخف حينما وصلنا. حينما وصلنا إلى محطة القصيم، واجه ابن أخي في غيابي وقاحة غير عادية ولا مبرر لها من موظف، ولا أدري إن كان الموظفين هناك قد خضعوا إلى أي نوع من التدريب، فالموظفين في الرياض غاية في اللباقة. محطة القصيم مشابهة لمحطة الرياض، لكنها مع ذلك أضعف تجهيزاً من حيث النقل بعد الوصول. لم تتوفر سيارات للإيجار سوى في شركة واحدة، موظفها شديد البطء، ولم تتوفر سيارات أجرة في الخارج، كل ما توفر هو شركة نقل فخمة تنقل المرء إلى بريدة بـ٧٠ ريالاً. إهمال ولا مبالاة، وكأن مسؤوليتهم تتوقف عند وصولك إلى المحطة، وحينما تصل يمكنك المبيت بها إن لم يكن لديك فرصة للإستئجار أو أحد ينتظرك.
كانت تجربة تعيسة بالنسبة لي، غير متفائل أبداً. السرعة لا تكفي لرحلة جيدة، حتى النظر من النافذة غير ممكن.
الأمر المضحك هو أنه بينما أنا واقف في القطار، سألني أحدهم بلهجة قصيمية أقوى من لهجتي، إن كنت أعمل بالجامعة؟، كان مبتسماً، وكان حتى يعرف في أي قسم أعمل، تبين أنه كان يعمل قبل أربع سنوات في قسم آخر بعيد، ويبدو أنه كان يلمحني في ذلك الوقت ما شاء الله تبارك الله. كيف تذكر؟!، ما شاء الله. سألته إن كانت أموره أفضل بعد ترك العمل معنا؟ ثم أعقبت قبل أن يجيب وكأن سؤالي كان غبياً: بالطبع أفضل، طالما تركت الجامعة. قلت هذا من باب المجاملة، وضحك.
ليس هذا الموقف الوحيد الذي واجهت من هذا النوع، كنت في فرع الدرعية من برقر كنق، وكنت أنتظر قدوم العامل لأطلب مشروبي الجديد المفضل، حينما دخلت مجموعة من الشباب الصاخب، بعضلاتهم الضخمة المفتولة، ويبدو أنهم لتوهم غادروا النادي الرياضي. كالعادة، وعلى طريقة سوء حظي الذي بات يخلو من الإبتكارية، استهبل علي أحدهم، يريدني أن أنظر للخارج لأرى شيخاً مسناً، وهو يسأل إن كان معي. لم ألتفت كما طلب، قلت فقط بأني رأيته وهو ليس معي، بإبتسامة مؤدبة، ثم صددت عنه، أصر بأن ألتفت لكني رفضت. ظل يتأمل، وربما شعر بالإحراج من زملائه الذين صمتوا. لكن تبين بأنه كان يتذكرني، إذا سأل إن كنت أعمل بالجامعة. شعرت بالذهول، فمثل قريني القصيمي، لا أتذكر أني رأيت وجهه في حياتي. قلت نعم، وسألته في أي قسم يعمل؟، قال بأنه لا يعمل هناك، لكنه مر ذات مرة في البهو ورآني، ولم ينسى وجهي. الآن بت أتساءل إن كان هناك علامة فارقة في وجهي وأنا الوحيد الذي لا يعرفها، فهي ليست المرة الوحيدة التي يخبرني أحد لا أعرفه بأنه رآني قديماً. كيف يتذكرون؟، ما شاء الله.
























في رحلاتي الأخيرة إلى القصيم، لا أمكث ما يكفي من وقت، حيث أن والدتي لم تعد تحب أن تبقى هناك لأكثر من يومين أو ثلاثة، إن لم تطلب العودة في اليوم التالي كما حدث مؤخراً في رحلة لها مع ابن أخي.
كنت كذلك قد حاولت ترتيب رحلة لها إلى جورجيا، وقد عملت على الأمر لوقت طويل للإتفاق مع وكالة هناك. للأسف، قررت أمي عدم الذهاب في النهاية، بعدما اشتريت تذاكر الطائرة.
في القصيم، صرت أكثر ملاحظة في زياراتي القصيرة للسلبيات هناك، ربما فقط في مدينتي الصغيرة المذنب؛ لا أحد يجيب السلام في الأماكن العامة، ولكن لا خلاف لدى الأغلبية على مراقبتك ومتابعتك إن لم يعرفوك كحق طبيعي لهم. في الرياض، رغم كل المساوئ، يرد الناس عموماً وغالباً السلام.
كانت والدتي قد ذهبت بدوني إلى القصيم قبل فترة، برفقة أختي وأبناؤها. لم تصبر كثيراً، وتبين بأنها تريد حضوري إلى هناك سريعاً. كانت تلك أول مرة أسافر لوحدي على السيارة، إذ كانت والدتي على الأقل دائماً معي. ظننت بأني لن أسأم كثيراً بالطريق، لكن بدأ السأم يتسلل إلي. توقفت عند محطة لتعبئة الوقود في المجمعة، وعند خروجي رأيت باكستاني جسيم كأغلبهم يحمل ملفاً أخضراً، ويبحث عن أحد ليوصله. توقفت وسألته إلى أين سيذهب؟. قال بريدة، أخبرته بأني ذاهب إلى المذنب، ويمكنني تركه في الغاط حيث مفترق الطرق لو أحب. لكن وجهه تهلل، وقال أنا أيضاً ذاهب للمذنب!. أعتقد بأنه قال بريدة لأنه لم يتوقع أنه سيواجه من يذهب إلى المذنب، لأن بريدة أكبر بكثير وأكثر سكاناً وزواراً. ركب معي، وكان يتحدث من وقت إلى آخر. كنت أتفاعل، لكني لم أكن أتحدث بدوري أو أبادر حينما يسكت. لم يبدو لي أن هناك ما هو مشترك، أو ما يمكنني السؤال عنه أكثر من الأسئلة القصيرة في البداية. كان يسأم بوضوح فيبدأ بالتحدث بعد كل فترة صمت، ثم بدأ يريني صور والده وإخوته في جواله. ثم تحدث عن كفلائه، وكلهم من البدو، من قبيلتين مختلفتين، وكان له رأي بهذه القبائل، وكان يقدر العتبان كثيراً على وجه الخصوص، بينما القبيلة الأخرى لم تكن تعجبه بتاتاً. سألني إن كان لدي مكان أنام به حينما أصل، إذ أنه سيستضيفني مع أصدقاءه، أخبرته للمرة الثانية بأن أختي هناك وسأذهب إليها، وشكرته. قال بأني سعودي جيد لا أتحدث كثيراً(!!)، ولا أسرع كثيراً فتصورني الكاميرات، وأقود بهدوء. أخذته إلى المكان الذي يريد بالمذنب، وكل المذنب من بعضه قريب لا بعيد فيه، وحاول بإصرار أن يشتري لي ببسي.




















مشروب أنصح به، جديد في السوق ولا يشبه أي شيء أعرفه. اسمه فروتي، وهو لا يباع إلا في برقر كنق حالياً. هو من شركة كوكاكولا، لكنه غير غازي، ويبدو أنهم يجربون ردة الفعل حالياً. بدأوا ببيعه من بعد عيد الفطر، وهو كثيراً ما ينتهي من عندهم، وقد فهمت بأنه حتى العمال بالمطعم يعشقونه. اسمه يجمع بين كلمة الفاكهة والشاي، Frutea. وبوسع المرء إدراك نكهة الشاي بسهولة، أما نكهة الفواكه فهي لا يمكن تحديدها برأيي.
قد تحب المشروب أو قد لا تحبه، لكنك ستتذوق مشروب لم تذق مثله من قبل، هذا ما حدث معي على الأقل، أليس هذا أمر نادر في مكاننا وزماننا؟.
لحسن حظ أهل مصر، يبدو أنه يباع لديهم بقوارير بالدكاكين.































لو لم أكن من القصيم، لرغبت أن أكون من الدرعية. بالواقع، لا أعرف الكثير عن أهلها، لم أعرف سوى واحد منهم على نحو وثيق، وقد كان إنساناً مميزاً وجميلاً من حيثما نظرت إليه، وعلى كل المستويات المعنوية والشكلية. لكن ليس له تأثير برغبتي هذه. إني ببساطة أحبها، أزورها دائماً، وفي كل مرة أشعر بأني أرى شيئاً جديداً، جديداً ولكني أشعر بأني أعرفه من قبل معرفة وثيقة، وكأني أنتمي إليه، ولا يوجد من يقول لي خلاف هذا. أعتقد بأنها لها تاريخ كانت خلاله تشبه الجنة على نحو ما، واحة من الأمل. تاريخها، ككل مكان أحبه، مشوب بالألم كذلك، والمأساة. هل أطارد وأفتش عن الأقدار المأساوية، أم هي ما يطاردني؟.

نطارد أقدارنا...
وهي تطاردنا...
لم يقدر أن ألقى حبيبي...
وكم تمنيت أن أخدع نصيبي...
وأسبق الأقدار...
حتى لقاه أختار...
ثم أختبئ معه بالأحلام...
كما أفعل بالمنام...
حتى ننتظر خلف الزمان...
إذ يهادننا ويمنحنا الأمان...
وإن سأل عنا شقي محتار...
فليُبشَّر؛ أن نجيا من الأقدار…



















رأيت شخص قبل فترة كنت أراه عرضاً في العمل وأسلم عليه بالمناسبات كالعودة من إجازات الأعياد، على نحو مخصوص، فهو دائما التبسم لي والحرص على السلام علي منذ سنوات. لم أكن أعرف اسمه، مع أنه يبدو أنه يعرف إسمي. قررت أن أتعرف عليه حالما تأتي الفرصة. أتت الفرصة في معرض في الجامعة، صادفته فيه وصارحته بأني لا أعرف اسمه بالواقع، وكان متفهماً ولطيفاً. أمسك بيدي وأخذني إلى شخص يريد هو أن يتحدث معه، إذ لم يردني أن أذهب.
تكلم لاحقاً معي عن المجتمع، وأمور يجدها مشكلة. كان لديه فكرة واضحة عما يقول، ورأي واضح ومدروس، وحماس لشرح أفكاره لي. لكني لم أتفق مع بعض الحيثيات، بعد وقت طويل، طويل من الإستماع الذي لم أمانع بصرفه عليه، إذ كان هو من يتكلم طوال الوقت. حينما بدأت التحدث، وقلت بأني لا أتفق مع الفكرة الفلانية، قاطعني وغير الموضوع، ثم ودعني مباشرة.
خيبة ظن. بدا لي بأنه أعقل وأكثر حساسية في البداية.
لقد نسيت اسمه الآن...


















يوجد أسئلة في حياتي وعن حياتي أعلم يقيناً بأني لن أجد لها إجابات. ليس لأنه لا أحد يملك إجابة، لكن لاستحالة الحصول عليها منهم.

عيّنت لرقمك نغمة موسيقى...
رغم علمي أني لن أسمعها...
في الأيام الحبلى...
إنه الانتظار اليائس...
لمكالمة مستحيلة...
لبوح هامس...
بالحب ووعود غير صريحة...
لم يعد من دمع يذرف...
ولا من قلب يُقطف...
إذ ذبل لطول الانتظار...
أتلفته كثرة الإنشطار...
وهاهو بالكاد يبقيني حياً...
في إنتظار نغمة موسيقى...















لا أملك ولله الحمد حساباً على تويتر، ولا يهمني بشيء سوى مؤخراً، إذ أدخل صفحة رجل قطري أشعر بأنه يمثل الموقف المتحاذق والملتبس لسياسة تلك الدولة خلال هذه الأزمة، وكنت قد ذهبت إلى حسابه بضع مرات قديماً ومنذ فترة طويلة لأرى ما جديده، لسبب أجهله صدقاً، فأنا لا أحبه ولا أكرهه، وأقول لا أكرهه لأن البعض يرى الكراهية كمبرر أقوى من المحبة لمتابعة أخبار الناس، كما يجري من البعض تجاهي.
بالبداية لم أنظر هذه المرة إلى تغريداته لأن شخصه يهمني، ولكنه القطري الوحيد الذي أعرف أو عرفته عبر تعليقات قديمة في مدونته. هناك قطري آخر عرفته في سويسرا في عمارتنا، ولا أتذكر اسمه رغم أن الظروف جمعتنا أكثر من مرة بحكم الأسباب والأغراض من إقامتنا هناك. كان عسكرياً ذو رتبة على ما يبدو، بسيط الفكر ولكن ليس بسيط الحضور تماماً؛ بشكل ما، كنت أشعر بإزدراءه لظروفنا المادية، مهما غلف الذوق بحده الأدنى تعامله، وأبقتني حدودي المحسوبة جيداً على مبعدة منه.
أما هذا في تويتر، فقد كان هناك ما يجمعنا بالواقع، بعيداً عن الظروف، كان لديه مدونة، ويكتب بالأدب، وهذا أمر يثير اهتمامي مبدأياً، وعن بعض رحلاته، وهذا كذلك يفترض أن يمتعني، إلا أنه حتى هذا الإهتمام المشترك كان يصيبني دائما بالذهول من منطقه وثقته واعتداده بنفسه بشراسة يغلفها بالسخرية والاستظراف والتجريح، على نحو لطالما أشعرني بأن هذه القسوة وهذا التهريج والجذل يخفي وراءه هم وفراغ وتعب، ورغبة بالشعور بالقبول من أشخاص لا يستطيع تحديد صفاتهم. كما أن سوقيته ثم محاولته إحراجي جعلتني أصطدم به ذات مرة. ورغم أني توقفت عن متابعة مدونته منذ زمن بعيد، إلا أني عدت لأرى ما لديه في تويتر، فقد ظل لدي الحد الأدنى من الإهتمام، لأنه بشكل ما مختلف.
أنظر في ما يسمى تغريدات في ذلك الموقع على حسابه، ولا أرى غالباً سوى ما يشبه التجشؤ المرضي مؤخراً، وكأن كبده صارت تعاني علة، أو في هذا الحال، منطقه ونفسه، ولا علاقة للأمر بالتغريد. يؤخذ بجد من متابعيه وأعداءه لأنه لا يتوانى عن قول أي شيء، ورغم مطالبته بحسن الحوار إلا أن تحذلقه لا يترك للآخرين إحسان الظن بنواياه وما يريد أن يقول.
منذ البداية حينما اتجهت لأرى رأيه بالأزمة، أدركت أسلوبه الملتوي اللئيم، ودعايته غير المُقنعة، وهو يعتبر المنفذ الوحيد لي تجاه وجهة النظر المضادة لوجهة نظر بلدي. فيما بعد، ومع متابعتي كل بضعة أيام لما يكتب، وجدت بأنه بالواقع يعاني كثيراً في معظم الأحيان، ويكتب وكأنه يعيش صداعاً وضغطاً لابد أنه شيب رأسه، ويكون ذلك عند كل منعطف حاد في الأزمة التي يصر على تسميتها حصاراً، رغم علمي بأنه يدرك حقيقة الأمر. عدد من يعارضون رأيه كبير وهم لا يصمتون. ورغم أن توجهه كان في أيام الرضا والمزاج الرائق هو مخاطبة السعوديين، كما قال ذات مرة لمن ينتقدون استخدامه للهجتنا أنه يتجه للجمهور الأوسع الذي يخاطب اهتماماته أو شيء من هذا القبيل، بات الآن يسخر بمرارة من السعوديين، بعدما طال صبره على مهاجميه، وصار يعمم سخريته على أحباب الأمس. كان قديماً يقول بأنه لا يمكن للسعوديين أن يقولوا لبقية الخليجيين بأنه لا شأن لهم بما يحدث في بلادنا، فهم امتداد لنا ومن هذا القبيل، والآن يتحدث ويدافع عن السيادة القطرية ويشكو من التدخلات في سياستهم الخسيسة التي جلبت الترك بكل دنائتهم ونجاستهم إلى عقر الدار وصاروا يأمرون القوات القطرية ويفتشون القطريين في قطر على نحو مثير للقهر، وإلى جوارنا، ناهيك عن الفرس. كما يتحدث عن معتقلي الرأي وينسى أحرار العرب منزوعي الجنسية بالجملة، رغم التجنيس الممنهج لكل من هب ودب من العجم ومن لف لفهم، وهذا ما يخرج عيناي من محجريهما، إنه حتماً ليس غبياً إلى هذه الدرجة، هو سوقي ومفتقر للذوق، لكنه حتماً ليس غبياً، لماذا يفعل هذا؟، هل هو منتفع إلى هذه الدرجة من حكومتهم؟.
ورغم دخولي كل بضعة أيام في البداية، بات دخولي الآن أقل بكثير، إذ أنسى، وربما أسأم أو آسف.
كان فقدانه اتزانه على مر الأيام واضح بالنسبة لي، ربما لأني أتمعن، وهو أمر محزن، ولا أدري لماذا يحزنني كثيراً، ويشعرني بأني أود لو أنقذته بشكل ما، لو أخذت الجوال والحاسب وخبأتهما بعيداً عنه، فهذا أظهر أسوأ ما فيه خلال هذه الفترة، وأجلسته وسليته بالأحاديث وتركته يتحدث عن أمور يحبها، كالبر لدينا، ومغامراته في الخارج، على نحو غير خارج بالطبع. رغم علمي منذ أن خبرته بأن جمعي وإياه في مجلس واحد لا يمكن أن ينتهي على خير.
ماذا بوسع المرء أن يفعل. أرجو أن لا يحدث ضرر لهذا الرجل أو منه على نحو لا يقبل الإصلاح لاحقاً.



















عرفت دكتور هندي في عملي منذ سنوات طويلة، وهو يعمل مع زوجته في طب الأسنان. أعتقد بأنه مكث لدينا لحوالي 6 سنوات. نصراني، وهذا يعطيه اختلاف أوضح من بقية الهنود، الهندوس والمسلمين. يميل الهنود النصارى إلى الحضور الحسن، من حيث الهندام والذوق والهدوء، وهم يهتمون بالتعليم على نحو أعمق بوضوح من الآخرين، وكأنما يرون في الأمر أكثر من وسيلة للكسب، إنما للإعتداد كذلك. هذا ما لاحظته عليهم، كما أن السيخ يظهرون كرامة أعلى من الهندوس والمسلمين من الهنود فيما بدى لي. ربما للصراع الحياتي والثقافي دور في هبوط الهندوس والمسلمين من هذه النواحي، فالنصارى والسيخ أكثر بعداً عن هذه الأمور، والسيخ على وجه الخصوص تكون مشاكلهم داخل الطائفة ذاتها، وليست مع الطوائف الأخرى.
لطالما أظهر هذا الرجل لي المودة والتقدير، وكنت دائماً أعامله ببساطة وأعطيه الثقة، فهو ممن يرتاح المرء لهم مباشرة، حيث لا كلام أكثر من المطلوب كالتملق، وصدق ومباشرة، وابتسامة صادقة، وهذه أمور تتفاوت بين الهنود الآخرين وعلى المرء التريث لإكتشافها، رغم أني بلا شك أحب الهنود وأفضلهم على غيرهم من الأجانب أياً كانوا، ربما باستثناء البشتون من باكستان، وليس البنجاب، الذين يأتون في أسفل القائمة بلا منافس. كنت أرسل معه سلامي لزوجته، حيث يأتي دائماً لإنهاء بعض إجراءاتهما سوياً، مع أني لم أرها من قبل، كما كانت ترسل سلامها إلي. جاء لي بهدية صغيرة ذات مرة، رمزية وبسيطة، محفظة وقلم.
كان دائما يقول بأن زوجته ترغب برؤيتي، وكنت أقول ربما يوماً ما. جاء لاحقاً ليبدأ إجراءات الرحيل النهائي، ذلك أنه سيهاجر إلى نيوزيلاندا. أخبرني بأن زوجته ستأتي أخيراً إلينا، وذلك لرؤيتي وتوديعي، فأخبرته بأني بالإنتظار. جائت المرأة لاحقاً، وقد كانت مهندمة مثله، أنيقة بتحفظ وبساطة. والأناقة والهندام بشكل عام ليست جزء من ثقافة الهنود من المجتمعات الأخرى، ربما كانت في وقت مضى، لكن ليس الآن بكل تأكيد. سلمت وسألت عن الحال، وتكلمنا نحن الثلاثة عن خططهم، ومتى سيذهبون، حيث سيمكثون في الهند لبعض الوقت ريثما تنتهي إجراءات الهجرة. أخبرني الرجل بأن والديه يسلمان علي، ويشكراني على معاملتي لإبنهم، ويقولان بأني علي زيارتهم والبقاء معهم متى ما زرت الهند، وكانت زوجته تومئ موافقة، وأعقبت بأني يجب أن أزور نيوزيلاندا يوماً ما، وحينما أذهب إلى هناك فإني مدعوا للبقاء معهم بمنزلهم، وكان الزوج الآن يومئ برأسه ويقول بالتأكيد!. رددت بأني أشكرهم جميعاً وسأبقي هذه العروض في ذهني، وأن يسلم على والديه عني ويخبرهم بأني أشكرهم على حسن تربيتهم له، التي أعتبرها هدية للعالم. قالت الزوجة بأنهم لطالما ظنا بأني أطيب شخص هنا، ومن القلة اللطيفة التي واجهوا هنا، وكانت تقول هذا بمرارة لم تخفى علي. شعرت بالأسف، هل كانت تجربتهما إلى هذه الدرجة من السوء؟.
ودعاني الوداع النهائي ومضيا.
كانوا قد طلبوا بريدي الإلكتروني، وأرسلا لي في نفس اليوم رسالة شكر وتأكيد على دعوتي إلى الهند ونيوزيلاندا.




















وردني اتصال من شركة أبحاث، حيث تم إخباري بأن شركة رينو الفرنسية تجري دراسة حول علامتها التجارية، وجرى ترشيحي لها كعميل، كان من رشحني هو الوكيل. تم إفهامي بأن الأمر يتعلق بالشركة الفرنسية نفسها، فهي من كلفهم بالدراسة، ولا علاقة للوكيل بالأمر. اتصلت بالوكيل مع ذلك، لأتأكد من أمر الشركة، وذلك لأعرف بأن المسألة حقيقية وليست خدعة بعد الوصول إلى قاعدة المعلومات بشكل ما. تبين بأنهم صادقون.
وافقت على المشاركة، وقد كان هناك مقابل مادي رمزي كهدية للمشاركة، 250 ريالاً. واعدتهم، وكنت أظن أن محدثي سعودي، لكن تبين أنه رجل كبير فلسطيني. لم يكن هو من سيقابلني كذلك، كان هذا فلسطيني اردني على ما يبدو، كبير كذلك، من أضخم الناس جسماً ما شاء الله، وأخبرني بأنه يعمل هنا منذ 30 سنة تقريباً. جلسنا، وشغل المسجل. طلب مني أن أعرف بنفسي ومهنتي وهذه التفاصيل، وكان يبدي اهتماماً بما أقول، وأعتقد أن هذا لتحديد الفئة المهتمة بالشركة، وكان مهتماً بمعرفة من أين أنا، وأعتقد أن هذا كان سؤال من باب الفضول الشخصي. سألني لماذا اخترت رينو، أخبرته بأني أحب السيارات الفرنسية والإيطالية، والحس الإنساني بتصميمها، وقلت بأني أبحث عن سيارة تعكس شخصيتي بالعادة، وقلت بأني اخترت هذه السيارة لأسباب أخرى كذلك وبعد بحث مستفيض. سألني ماذا يهمني بالسيارة، ولم أكذب، قلت بأن التصميم والراحة الداخلية هي ما يهمني بالدرجة الأولى، ثم الإقتصاد بالوقود والحالة البيئية، والجودة بشكل عام. تناقشنا بما يفضل الناس هنا، وأولوياتهم، ولماذا، وتاريخي مع السيارات. كان هناك ما لفت نظري، هو محاولته التعليق بأني "مثلهم" ثم شرح بأنه يقصد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين في المرة الأولى، على أكثر من نقطة. فعندما قلت بأن الإقتصاد بالوقود يهمني، قال بأن هناك من يقول بأن الوقود رخيص السعر هنا رغم رفعه مؤخراً، وأنه ليس بالأمر الهام كثيراً عند اختيار السيارة، فأجبت بأن صرف الوقود المرتفع بحد ذاته مشكلة، كما أن الإستهلاك حتى في حال انخفاض السعر من المهم خفضه والتوفير، حتى لو كان رخيصاً، لماذا يبذر المرء بلا تفكير؟، أبدى إعجابه، وعلق بأني "مثلهم". راجعنا تاريخي مع السيارات، وكان يهمه بأن أول سيارة جديدة شُريت لي كان بيجو، إذ فهم بأن اهتمامي تاريخيٌ بالواقع. وعرف بأن سيارتي الأخيرة ظلت معي لأكثر من 11 سنة، استغرب وسألني لماذا؟ قلت بأني كنت أحبها جداً، وكانت ممتازة خدمتني كثيراً، وهي جميلة وتصميمها كان يذكرني بالطابع الإيطالي والفرنسي العملي والبسيط، وهي ذات جودة عالية واقتصادية جداً، وأنا أحب أن أستهلك ما أشتري وأحافظ عليه، لكن كان لابد من تغييرها، حيث أن عمرها قد طال وبات إصلاحها بالنسبة إلى سعرها غير مجدٍ. بدا بأن الأمر أبهره، قائلاً بأن الناس هنا يميلون إلى تغيير السيارات في ظرف 4 إلى 5 سنوات، لم يعجبني ما يقول، ضايقني بالواقع، فقلت بأنه ليس كلهم هكذا، لكنه علق بإعجاب مع ذلك بأني "مثلهم"، أي عرب الشمال. شعرت بأن هناك تعميم ظالم على الناس هنا، فكنت أخبره عند كل ملاحظة بأنه ليس كل الناس كما يتصور عنهم، وهذه الأفكار الشائعة.
طالت المقابلة كثيراً، وما استغربته هو أنه بدا أن رينو رتبت أولوياتها بشكل أعتبره نوعاً ما منكوساً؛ كان حال الوكيل هنا يعنيهم بالمقام الثاني أو الثالث، بينما علامتهم التجارية بحد ذاتها ورؤية الناس لها بالمقام الثاني، مع أني أعتقد بأن دور الوكيل برضا الناس عن الشركة والترويج لها وتعريف الناس بها أهم وهو ما تصورت أن الأمر سيتركز عليه، إذ أنه سينعكس بالنهاية على العلامة التجارية الشعبية. لكنه كان مصر على أن الأمر لا يتعلق بالوكيل إلا في أضيق الحدود. لم أتخيل بأن شركة أجنبية سيهمها ما يقوله عملاءها هنا عنها، أعتقد أن هذا مرده ما تعودناه من اليابانيين والكوريين، الذين يقلد الناس بعضهم البعض في شراء سياراتهم، فلا يهمهم ما يعتقدون بشكل عام عنها، ولا يستجيبون لشكاوى الناس وملاحظاتهم المباشرة، لا بد أنها العقلية الآسيوية التي لا تحيد عن الأرقام المالية الآنية على نحو مزعج. ملاحظاتي عن السيارة نفسها كانت مهمة كذلك، لكن هذا أدخلنا في مسألة الوكيل في النهاية والصيانة التي يقدمها. أخبرته بأن اللطف والإحترام بالتعامل الذي يجده المرء لدى موظفي الوكيل لا يغني عن المعرفة والجودة في الخدمات، وهي للأسف ليست عالية إطلاقاً، وأعطيته عدة أمثلة مؤسفة حول جهل المهندسين والخسائر التي تكبدتها بسبب ضعف معرفتهم، ومشكلة لا زلت أعاني منها ففقدت الأمل من حلها. كما تحدثت عن إشكال قلة أماكن الصيانة، وازدحامها، فهم يبيعون الكثير من السيارات، فإحدى سياراتهم هي الأعلى مبيعاً على الإطلاق في الخليج مقارنة بالمنافسين من فئتها. كما أني حينما واجهت مشكلة بالقصيم لم يكن هناك سوى وكيل للوكيل لتقديم الصيانة الإعتيادية!، وقد تعاون مدير الشركة مشكوراً لإرسال مهندسين خصوصاً لي بالقصيم، رغم أن المشكلة حلت في النهاية ولله الحمد حتى تم تحديث حاسوب السيارة لاحقاً في الرياض. بدا أن نقطة المعرفة قد أثارت اهتمامه، وركز عليها أخيراً، في موضوع يخص الوكيل مباشرة. لكنه عاد للتحدث عن تصميم السيارة العاكس للشخصية، وما أعنيه بذلك، فأخبرته بأني أعني البساطة النسبية مع لمسات مختلفة وأنيقة وملفتة رغم بساطتها وعدم مبالغتها أو بروزها، كالسقف مختلف اللون، على نحو يعطي إنطباع بعودة كلاسيكية على نحو عصري، فانا أحب خلط الأفكار القديمة في الحديث من المنتجات. سألني كذلك ماذا أعرف عن رينو ومتى تعرفت إليها، ومن هذه الأسئلة المتوقعة.
ما أعجبني هو أنه بالنهاية طلب مني توجيه رسالة إلى شركة رينو، أقول فيها ما أشاء، فقلت بأنهم عليهم أن يخاطروا، ويأتوا بسياراتهم الأخرى المميزة ليعرفها الناس ويعرفوا ما لدى رينو خلافاً للسيارات البسيطة نسبياً لدينا، المضمونة البيع، فالمخاطرة والشجاعة في الأعمال شيء مهم وقد يثمر على المدى الطويل، أما السير على نفس النمط وعدم التجريب لن يغير الصورة النمطية أو يعطي انطباع بالتنوع الكافي على كافة المستويات، وضربت مثلاً بسيارة تويوتا الهجينة مؤخراً. هذا رأيي الشخصي، فأنا أقدر المخاطرة. وتكلمت مرة أخرى عن الخدمة بعد البيع، واقترحت إعادة النظر بها.
























حاولت اختيار وجهة سفر من الوجهات التي لطالما وددت زيارتها، وذلك وفق شروط محددة، ذلك لوجود مرافق معي هذه المرة. لن أقول ماذا اخترت في البداية، لأن الأمر لن ينجح، ولأني لا أريد أن أفشي سر قد أتحدث عنه لاحقاً حينما أزوره لوحدي إن شاء الله.
تواصلت كعادتي مع وكالة سفر اخترتها في ذلك البلد، وانتظرت الرد. كنت قد أوضحت ما أريد أن أرى، وحددت بعض الأمور بعينها، إذ أنها ضمن ما كان يحثني لسنوات على رؤية ذلك البلد. وصلني الرد  سريعاً، وكان رد غريب جداً من عدة أوجه، الرد بحد ذاته أعطاني شعور بأنه مغامرة وبداية ممتعة. المفاجئ أن الرد أتى من مؤسس الشركة، وقد بدا أن ما جعله يتحمس للتواصل معي شخصياً هو أني سعودي، وهو له صلة بالسعودية من خلال ذكريات والده، الذي عمل لدينا لأكثر من عقدين. كان مبهوراً كذلك لعدة أسباب أخرى. سأل لماذا اخترت بلدهم؟ إذ لا يزورهم بالعادة سياح عرب، وأنا أول عربي يتواصل معهم، وكيف لي أن أعرف الكثير عن بلدهم وأقلياته المختلفة، التي أردت أن أزرها وأطلع على عاداتها، وأحدد ما أريد بتلك التفاصيل، وبعضها أمور بدت له خفية بالعادة عن السياح فلا يدرون عنها أو يطلبونها. أخبرته بأني لطالما تمنيت زيارة بلدهم، فهو كان على قائمتي منذ سنوات طويلة، كما أني قرأت الكثير عنه وعن أهله عبر الزمن. أخبرني عن والدها، وتجربته هنا التي يتذكرها بحنين، إذ كان مهندساً ساهم ببناء مطار الطائف وعدة مشاريع أخرى.
كان الرجل شديد الحماس لترتيب قدومي، وكانت مراسلاتنا لا تخلو من اهتمام شخصي، وقد شعرت بأن الخطة هي فضلاً عن رغبته بمقابلتي، كان يريدني أن أقابل والدها، وهذا يشكل دافع كبير لحماسه لرؤيتي.
أما رفيق سفري، فقد كان قد فوضني لترتيب كل شيء، حسب ما أريد تماماً. كان مأخوذا بتجربتي بالبيرو والمكسيك، لطالما كان مأخوذاً بها، وبالواقع ليس وحده من بين الأقارب والمعارف من أخبرني برغبته بالسفر معي كثيراً عبر السنوات، لكنه انتهز فرصة انسحاب والدتي من رحلة جورجيا ليأخذ مكانها، فأخبرته بأن اختياري لجورجيا أتى لاعتبارات راحة والدتي والتسرية قبل كل شيء، وليس لأني مهتم بذلك البلد، وأنه بما أننا رجال فيجب أن نذهب إلى مكان مختلف أريد أن أراه، ورؤية ما أريد أن أراه شخصياً، وكان هذا شرطاً، شرط أناني لكنه شرطي لمن أوافق على قدومه معي، وهو عموماً وبالأساس يريد هذا الأمر بالذات. في البداية، كنت أريد زيارة بلد لاتيني آخر على قائمتي، لكن تبين بأن التذاكر مرتفعة السعر رغم رخص البلد، وكان ميزانيتنا محدودة. أخذت التذاكر كاعتبار لا يقل عن أي حيثية في الموضوع، وعلى هذه الأساس كانت أول ما بحثت عنه لبعد الوجهة الأخرى.
بعد الترتيب الدقيق مع الرجل الذي أراد بوضوح أن يجعل الرحلة مريحة ومشوقة، تبين أن السعر مرتفع إلى حد ما، لكن ذلك البلد لم يكن رخيصاً بالأساس، وإن لم يكن غالياً على وجه العموم. الوكالة مشهورة ومرغوبة، وهذا على ما أعتقد سبب آخر لزيادة التكلفة بشكل ما، كما أن الكثير من الأمور متضمنة في العرض. لكن كان الأمر بالنسبة لمرافقي مرتفع، وقد كانت أول رحلة إلى الخارج. حاول الرجل أن يخفض السعر بتخفيض بعض التفاصيل، واقتراح مساعدتنا على القيام ببعض الأمور بأنفسنا في العاصمة، بتوجيهات ونصائح شخصية منه. لكن ظل السعر مرتفعاً. لم أكن أريد أن أقترح تغيير بعض التفاصيل لعلمي بأن الرحلة بشكلها يستحيل أن توافق ميزانية مرافقي التي اكتشفت بأنها أقل مما توقعت، وذلك لأنها أول رحلة بعيدة له، ولم يكن لديه خبرة بأن السفر إلى أماكن كهذه قد يكون مكلفاً حينما يتم الترتيب لكل شيء عبر وكالة سفر. أخبرت الرجل هناك بأني لا أريد أن اضيع المزيد من وقته لأني لا أريد أن اضغط على صاحبي، فأنا أريده أن يستمتع بأول رحلة له خارج الجزيرة العربية كما يجب وبإرتياح. لذا، سأؤجل الزيارة إلى حين قدومي لوحدي إن شاء الله، وسيكون لدي البرنامج جاهزاً ووجوده كمنسق لرحلتي في المستقبل. رد الرجل بخيبة ظن واضحة، قائلاً بأنه كان متحمساً لرؤيتي ودعوتي لرؤية والده، فهذا الأمر كان ليمثل الكثير له. كان أمر مؤسف ومحرج، لكن ما باليد حيلة.
الآن، أفكر بسيلان، كجهة معقولة وغالباً ممتعة لصاحبي، متوازنة على نحو مُرضي. لكني أواجه حالياً الشعور بعدم الثقة بالوكالات هناك؛ أحدهم سأل عن جنسيتي، أخبرته بأني لا أدري ما علاقة هذا بالبرنامج. هم عموماً يميلون للإستغلال. الكل طبعاً يريد استغلال السعوديين لسمعتهم كأغنياء، رغم أني متوسط الحال، لكن أهل جنوب وجنوب شرق آسيا وبعض الجهات القريبة كتركيا يصيبهم طمع فيما يخصنا، على نحو غابن ومقرف، وهذه مشكلة محيرة.
أفكر كذلك بوكالة سفر محلية قد أستطيع ترتيب رحلة معقولة من خلالها، قد يكون هذا حل مريح بما أنها سيلان، وجهة مألوفة إلى حد بعيد.
بشكل عام، أعتقد أني أحتاج إلى إجازة ممتعة، ولا شك لدي بأن صاحبي هذا هو أفضل من يمكنني أن أختار للسفر معي، مع شعوري بالتقدير لكل من أراد السفر معي، فأنا بالوضع الطبيعي أفضل السفر لوحدي.












سقوطي الحر...
في سماوات قلبك الواسعة...
مستمر لثلاثة عشر سنة...
إذ نسيتني بعدما طالنا اليأس...
من إنقاذ حب...
وأمل بحسن العِشرة...
لا زلت هناك، مع ذلك...
فمن في ظنك يسقي خزامى قلبك؟...
من بَذرها في جدرانه المتصدعة...
وواساك في بؤسك؟...
لمحات خاطفة تراني فيها...
فتتجاهل بألم قصة حبك...
لا بد من قرار...
إما أن تصل إلى يقين...
فتنتظرني في سويداء قلبك...
لتتلقفني في حضنك...
أو تحررني ليغيب ذكري...
ويندمل جرحي وجرحك…











سعد الحوشان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما رأيك بالقول؟