الخميس، 15 مايو 2014

حرية النسيان (رحلة علاج،قصائد،أجهزة،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم







مداهمة ذكرى...
حملتها ريح عطرية...
وحيرة استجدت...
هل كان النسيان حرية؟...
كان حرية...
اقشعرت لصلصلة قيود قلبية...
ثم استكانت...




لا بد أنه ذوقي البسيط، لكن الصعب تفهمه من الآخرين، بالعطور، وإعطائي أهمية كبرى لحاسة الشم المهملة غالباً، ما يجعلني أربط بين الكثير من الأشياء وروائح، بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة.
تداهمني ذكريات عزيزة أو غير عزيزة على نحو صادم أحياناً، ودون أن أعلم بأني ربطت بينها وبين رائحة معينة حتى اللحظة في أحيان أقل.
أحياناً، يبدو أن رائحة معينة تضعني على حافة مجال زمني آخر، حتى أكاد أن أرى ما قد مررت به وحصل قبل سنوات.
قد يكون عطر أجده مبتذلاً، لكن الذكرى المرتبطة تحيلني إلى شعور أكثر عمقاً، وكأن الرائحة كانت مجرد بطاقة عبور إلى ما هو مهم، بطاقة عبور وجدتها فجأة، وحالما لمستها أخرجتني، أخرجتني من مكان ما، أو كادت.
أنتزع نفسي دائما بشعور مختلف من ذلك المجال، أحياناً بأسف، أو حتى ندم، أحياناً بحس حميم، وأحياناً بالعودة إلى تنشق ريح الحرية، بعيد عن عطر مبتذل، في أغلب الظن.


كنت قد حكيت من قبل عن بطئ الإدراك لدى صديق طيب قديم وتدرجه، حتى يدرك خطأ شنيع قام به، ويندم...
أعتقد أني أتسم بهذه الصفة كذلك، بطئ الإدراك. تصاعدياً، أشعر بخسارة أمر ما، وأستوعبها شيئاً فشيئاً، ويتقلص قلبي ألماً، شيئاً فشيئاً، ويفيض يأسي، أكثر فأكثر، حسياً. لم أخطئ، لكن، لبعض الأمور دورة، فتصل إلى نهايتها.


أفكر أحياناً بالندم، الفكرة الواضحة والمخيفة في حالات، المختبئة بغموض بين طيات القدر والرجاء في حالات أخرى. مع العمر، صار يبدو لي شيئاً فشيئاً أن الندم مجرد فكرة أو قيمة كادت أن تندثر، أمر يتحدث الناس عن وجوده وكأنما عن علم وتجربة واطلاع، بينما يكاد أن يكون بالواقع أشبه بعنصر أرضي نادر، يُعرف بوجوده، لكن نادراً ما يُرى.
لا أتخيل بأن هناك من يندم على شيء عموماً، إلا قلة قليلة لا أظن أني قابلت أحد منها. أعتقد أن القلوب أقسى مما يتصور أصحابها. أتصور بأن الندم من أوضح الإشارات الإنسانية على الوعي الذاتي، وأعتقد أن الضمير يتفرع عن الوعي الذاتي. عدم القدرة على الندم جعلت الناس أشبه بالحيوانات في فئاتها الأبسط.


عموماً، هذا أنا أبتدئ الكتابة، من بلد العلاج والغربة القصيرة -بإذن الله- سويسرا، بعد يومين من الوصول.
كانت رحلة القدوم متعبة، بحقائب كثيرة للانتباه إليها، وإزعاج تلاميذ في رحلة مدرسية من أحد المدارس العالمية. لكنها لم تخلو من حظ جيد، بعض الشيء.
وصلنا إلى جنيف، ونبهتني امرأة عاملة إلى أني يجب أن أطلب خدمة المساعدة من رجل ينتظرني عند باب الطائرة، دون أن أنتبه إليه. كنت أحمل ابنة أختي، وكنا في الجسر الرابط بين الطائرة والمبنى، حيث ينزل الناس في نهايته عبر درج إلى قسم تدقيق الجوازات. كان الرجل قد جاء حينما هممت بالعودة أدراجي، وفتح لنا باب غرفة في رافعة، حيث أنزلنا مع أمي وأختي وأخذنا إلى قسم من الجوازات لا يوجد به غيرنا. كانت الأمور ميسرة إلى حد بعيد، كان الرجل الذي رافقنا لطيفاً، لكن موظف تدقيق الجواز كان ينظر تجاهنا بكراهية وضيق واضح، ربما لملابسنا جميعاً، فأمي وأختي يغطين وجوههن، وأنا ألبس الثوب والبرنوس.
في استقبالنا وجدنا شاب مليح وقصير، أوروبي الملامح، اسمه أحمد، بريطاني الجنسية لكن من حمص في سوريا أصلاً، وهو رجل بكل ما تحمل الكلمة من معنى طيب. سرعان ما بدأنا بتبادل الأحاديث، وقد تركنا أهلي بالسيارة لنشتري أرقام محلية للجوالات. فهمت منه، وهو واسع التجربة، أن الناس هنا على جانب كبير من العنصرية، وبعد يومين، لا أراه سوا محقاً منصفاً. عاش أحمد معظم سنواته في أوروبا في بريطانيا، التي يحمل جوازها، وقد جاء إلى سويسرا منذ سنتين لأجل زوجته التي لم تستطع التأقلم مع الحياة في بريطانيا، حيث أنها من مواليد سويسرا. قال بأن البريطانيين أفضل بكثير، وهو بهذا يعني الانقليز فقط على الأغلب. في حين أني أرجح حسن الذوق في الايرلنديين والاسكوتلنديين مما سمعت.
أخذنا أحمد إلى مدينة بيرن، وهي العاصمة وتقع بالمنتصف وفي الشق الألماني من البلد. كنت قد استأجرت شقة لدى أسرة هناك عبر الانترنت، قبل مجيئنا إلى هنا بفترة، وكنت أفكر بأننا على الأغلب سنبقى في الشقة فترة وصولنا حتى نجد مكان آخر، أرخص وأكثر ملائمة لظروفنا الصحية؛ والدتي التي تتعب في ارتقاء الدرج، وتصعيد الكرسي المتحرك ثم النزول لتصعيد ابنة أختى، والعكس، كان أمر مرهق جداً بالنسبة لي، حيث أن الشقة في مكان منخفض من المنزل، يؤتى من درج صعب قليلاً وليس بالقصير. لكن يبدو أننا سنظل هنا، حيث لا يبدو أن هناك شقق ملائمة بأسعار يمكننا دفعها، ونحن بالكاد ندفع سعر هذه. لكن لعله من العدل الإشارة إلى أن هذه هي النقيصة الوحيدة في مكان الإقامة، أما خلافاً لهذا؛ فالشقة ممتازة ومجهزة على نحو غير متوقع، وذات موقع ممتاز.
لكن الجانب الطيب من الموضوع هو أن صاحب المنزل وزوجته أناس طيبون جداً، على خلاف من صادفت من أهل ذلك البلد. لديهم استعداد كبير للمساعدة وإجابة الأسئلة وتوجيه النصائح. وهم يميلون للطف الشديد وإبداء التعاون والتعاطف (ربما لهذا يؤجرون للأجانب جزء من منزلهم).
مترجمنا ومنسقنا، رجل طيب اسمه ابو يوسف، بدا مذهولاً من السعر الذي رأيناه مرتفعاً للشقة، إذ قال بأنه رائع وعلينا التمسك بها، حتى أنه طلب هاتف صاحب الشقة.
الشقة نفسها لا يمكن أن تكون أفضل، باستثناء الدرج بالطبع. إنها دافئة، بغرفتين جيدتين، ومطبخ مجهز تماماً، وطاولة طعام وحمام. يوجد جكوزي في الشرفة، لكني أخبرت صاحب المنزل بأننا لن نستخدمه بالطبع. يوجد انترنت، مما يبسط أمر التواصل ويقلل التكاليف كثيراً، ويوجد تلفاز، ببضع قنوات عربية، وبلايستيشن ٣ لن ألعب به، ومشغل دي في دي مع دولاب كامل من الأفلام. غرفة الغسيل مستقلة عن منزله، وإلى جانب باب شقتنا، ويمكننا استخدامها بما فيها من مواد تنظيف. حتى المطبخ مجهز بآلة قهوة مع عليباتها، حيث توضع العلبة في مكان معين من الآلة، ويضغط زر لتُجهِّز القهوة، وغلاية، وفرن، ومايكرويف، وحماصة خبز، وبهارات، وأنواع مختلفة من الشاي، وعليبات حليب للشاي والقهوة، وزيوت، زيتون ونباتي للطبخ، وأشياء متفرقة. هذا سهل الأمور علينا كثيراً.
أما أهل بيرن، فهم بالمجمل غير متحضرين كما قد يفترض المرء، كثير منهم وقح، يحملقون بازدراء، وقد يضحكون، أو يتصنعون الضيق والقرف، وكأنما ليقنعون أنفسهم أنهم شيء آخر مختلف. إن ما خطر على بالي في اليوم الثاني لوصولنا هو أننا قد نكون قد وصلنا إلى مهد العنصرية في العالم.
إني أتفهم الفضول، ولا خلاف لدي حوله، لكن الفضول واضح، والعنصرية واضحة، وبطبيعة الحال، يبدو أن الناس هنا أساساً يعانون من قصور في فهم حسن الذوق والتأدب، وتقدير أبسط الإشارات الإنسانية، كالابتسامة أو الترحاب.
ربما باستثناء صاحب المنزل وزوجته، لم أصادف سوا شخص واحد بدا أنه يريد إظهار نوع من الإحترام وحسن النية. كنت أدفع عربة ابنة أختي، لآخذها إلى متحف قريب للحيوانات، وقد كنت في منطقة المتحف لكني لم أكن متأكداً من أني سلكت الطريق الصحيح، فرأيت رجل في عمري على ما يبدو، معه طفلة تسير إلى جانبه، وسألته عن المتحف. كانت لغته الانقليزية ضعيفة، ولغة الناس الإنقليزية هناك عموماً ليست قوية، أخبرني بأنه في نهاية الطريق، واقترح بأن نسير معهم. سار أمامي للحظة، ولكن يبدو أنه توقع أني سأسرع لأجاوره، ولما لم أفعل، توقف هو ليسير إلى جانبي ويسألني إن كنت سائحاً، ويخبرني عن نفسه. بعد تبادل القليل من الكلمات وصلنا، وأخبرنا بأن نذهب من الخلف حيث الطريق مجهز للعربات، وبالداخل نبه امرأة في الاستقبال لتفتح الباب لنا.
خلافاً لهذا الرجل، لم أصادف إلا ربما شخص أو شخصين تحملا إظهار ابتسامة أو أداء تحية بارتباك، دون التصدد بقرف أو الحملقة والضحك، أو النظر باشمئزاز.















وسط بيرن التاريخي جميل إلى حد كبير. ليس أجمل ما يمكن للمرء تخيله، لكنه جميل مع ذلك. وربما للموسم، وللظروف، دور بعدم تقديري الكامل لما رأيته من معمار. أخذنا المنسق أبو يوسف، وهو فلسطيني سويسري طيب، في جولات حول المدينة. أبو يوسف هو من كنت أنسق معه وأتواصل قبل مجيئنا إلى سويسرا من حوالي الشهر. كان يجد أمي ظريفة، فكان يحاول أن يفاجئها ويصدمها بما ترى، فيضحك على تعليقاتها التي تشبه تعليقات والدته كما يقول. أخذنا إلى الكنيسة القديمة، حيث في واجهتها يوجد تماثيل ورسوم تمثل الجنة إلى جانب النار، وفي الوسط الحساب. كنت قد رأيت بعض التماثيل العتيقة جداً بالمتحف، الذي زرته وحدي، وهي نسخ طبق الأصل مما رأيت في الواجهة فوق باب الكنيسة، سوا أنه يبدو أن النسخ في الكنيسة أحدث.
يوجد تماثيل مروعة من العصور الوسطى، تمثل الشياطين في جهنم، وهي تعزف، وفي بعض جوانب أجسادها عيون محملقة، يصعب فهم سبب وجودها سوا بث الرعب في قلب الناظر، وتحتها رجل يتعذب يطل من كوة ضيقة. كانت والدتي تتسائل لماذا لا يدعو أحد السويسريين إلى الإسلام. قال أبو يوسف بأنه يتمنى أن يثبت المسلمين على دينهم في هذه الظروف. سألت أبو يوسف أن كان بالإمكان دخول الكنيسة. بدا أنه أخذ على حين غرة، لكنه سأل البواب ذو اللبس الغريب فوافق مباشرة. دخلنا وتمشينا. كانت فكرة دخول الكنيسة مفاجئة لوالدتي أيضاً، ولو لم تؤخذ على حين غرة لرفضت الدخول بدافع القلق والخوف من المجهول على ما أتصور. كانت تتسائل إذا كانوا سيوبخوننا بالداخل.
تمشينا قليلاً، وكانت والدتي قد تعبت من المشي، فلم نطل البقاء كثيراً. بيد أن فوجئت حينما وجدت الكنيسة مليئة بالكراسي، وتسائلت كيف يصلون على هذا النحو.
أخذنا أبو يوسف كذلك إلى منزله، حيث قابلت أختي ووالدتي زوجته وبعض أطفاله، فيما جلست أنا وهو في مكان منفصل نتحدث.
حينما كدنا نخرج كانت زوجته قد تبعت أهلي مودعة، فسلمت عليها وأنا أحمل ابنة أختي، وطالبتنا المرأة الطيبة بأن لا نحتسب هذه الزيارة وأن نأتي مرة أخرى. كانت خطة والدتي هي دعوتها وأبو يوسف وأبنائهم، أكبرهم بالجامعة، إلى العشاء قبل مغادرتنا سويسرا، وقد بدأَت بالفعل بتحديد أماكن جلوس الرجال؛ في الغرفة حيث أنام، وجلوس النساء في سائر المنزل.
لكن؛ قيل لنا في موعدنا مع الطبيب الذي جئنا لأجله أنه لن يرانا، حيث يجب أن يرانا طبيب من تخصص آخر، في مدينة أخرى، حسب نصيحة الطبيب، الذي تمكن من فتح الأشعة من السعودية التي أرسلناها قبل وصولنا، وقالوا لنا بأنها غير قابلة للتشغيل على أجهزتهم، وهكذا، كان يجب أن نرحل من بيرن، أبكر مما توقعنا. ذلك أننا كنا ننتظر رؤية هذا الطبيب ليحدد مدة بقائنا، لكننا لم نتوقع هذا الرأي.
أصبنا بإحباط شديد، ضاع أسبوع كامل من التحضيرات، والإنتظار الطويل، بلا فائدة. وكنت محرجاً من صاحب المنزل. إن السكن في الشقة التي تشكل جزء من منزله مكلف، لكن يعتبر مقبولاً مقارنة بمن مثله، خصوصاً لقربه الشديد من مركز المدينة والمستشفى، والأهم من هذا كله جودة المنزل، وطيبة أهله؛ الرجل وزوجته كانا أكثر من رائعين. حاضرين دوماً للمساعدة والاطمئنان. كرماء، حتى مطبخ الشقة مجهز بالكثير من الأشياء بحيث لم نحتج لشراء كل شيء. كانوا متعاطفين مع حالة ابنة أختي، وقد عرض علي توصيلنا للمستشفى في حال تواجده، مما فاجئني وأشعرني بالامتنان، وتخفيض الاجار بما يساوي عشرة بالمئة، ورفض عرض بالاستئجار من عائلة أخرى، وذلك رغم أني أخبرته بأننا غير متأكدين من كوننا سنستمر هناك. كان ينتظر لقائنا بالطبيب المختص لنعرف مدة بقائنا ونخبره. وهكذا ضاعت عليه فرصة شغل الشقة بأحد آخر. حينما اعتذرت عن إضاعة هذه الفرصة عليه، قال بأن المال ليس كل شيء، وأنه يتمنى أن تشفى ابنة أختي وأن تكون أمورنا على ما يرام. وجاء وزوجته لتوديعنا في يوم مغادرتنا إلى المدينة الأخرى.
المدينة الأخرى أشهر وأكبر بكثير من بيرن، هي زيوريخ، وبشكل ما، أجدها أريح وألطف من بيرن رغم ازدحامها، وكرهي للازدحام، وحبي للمدن الصغيرة والمتجانسة، لكن أهالي بيرن كانوا صدقاً لا يطاقون، وليس أن أهل زيوريخ لطفاء، لكنهم أكثر تحضراً على ما يبدو لي، مع اشتراكهم ببعض السمات التي لاحظتها على أهالي بيرن، كعدم استيعاب أبسط اللفتات الإنسانية عموماً.
أخذنا أبو يوسف إلى هناك، رغم أنه ليس عمله لكنه أراد الوقوف على كل شيء معنا لنشعر بالاطمئنان، لأنه استوعب أن معنوياتنا اهتزت كثيراً بعدما لم نرى الطبيب الذي انتظرنا فترة طويلة رؤيته، منذ أن كنا بالسعودية، وخصوصاً أنه لم يسمع منا ولم نسمع منه، فكان أمر محير ومحبط، رغم أن الأمور اتضحت على نحو أفضل مع الوقت.
وصلنا أبكر مما أراد أبو يوسف إلى زيوريخ. كان لدينا موعد في نفس اليوم، فكانت الخطة هي ترك والدتي وأختي وابنتها مع مترجمة عراقية ثبت أنها رائعة وقديرة، والذهاب مع السائق المغربي الذي سيتولى إيصالنا ومساعدتنا، ويسمى أبو يوسف كذلك، لرؤية شقة كان أبو يوسف منسقنا من بيرن قد حادث صاحبها عبر الهاتف واتفق معه. لكن بما أننا وصلنا مبكرين، ذهب بنا أبو يوسف إلى البحيرة الشهيرة في تلك المدينة. وأعطانا رجل من أهل زيوريخ بطاقة وقوف اشتراها وقد انتهى من الوقوف بالمكان، فكانت هذه لفتة كريمة زادت من تفاؤلي بالمدينة. بالطبع، كان أبو يوسف مهتم برأي أمي بكل شيء أكثر من آراؤنا. ولم يبدو الذهول أو الإعجاب على أمي، بل إنها شككت بنظافة الماء. ضحك كثيراً أبو يوسف وقال لوالدتي بأن هذا المكان الذي لا يهمها يدفع الكثير من الناس ما دونهم وما خلفهم لرؤيته، وقال بأن رد فعلها نفس رد فعل والدته. ثم شرح بأن والدته أصلاً ترفض الخروج كثيراً، كما لاحظ على والدتي. ثم بالطريق إلى المستشفى، مررنا بساحة تحيط بها مباني جميلة ومحلات تسوق وتماثيل. لم يبدو الإعجاب على والدتي أو الانبهار. فقال أبو يوسف بأنه لو كانت والدتي من جنسية معينة، لفقدت صوابها وقالت بأنها بالجنة وأنطلقت بعبارات المديح والانبهار، لكن، من مثل والدتي ووالدته هم أناس لا ينبهرون بسهولة، قناعتهم كبيرة ومقاييسهم مختلفة غير شكلية.











تركنا النساء مع المترجمة، وذهبنا مع أبو يوسف الآخر. كان أبو يوسف المغربي يعرف صاحب الشقة، وهو محامي تركي الأصل يدير بضع عمارات، لكن أبو يوسف من بيرن كان لأول مرة يلتقية، ويبدو أنه أخذ رقمه من أبو يوسف الآخر. التقينا الرجل التركي، لعله في بداية الأربعينات، ضئيل البنية، جاد الملامح على بعض النزق. صعدنا لرؤية الشقة، فوافقت، كانت ممتازة، ليست بالطبع كشقة بيرن، التي لم يعيبها سوا الدرج الطويل، لكنها كانت ممتازة على كل المقاييس؛ أي مقاييسنا.
نزلنا للاتفاق على السعر، في مكتب يستخدم لإدارة العمارة، خلافاً للمكتب الرئيسي. كان أبو يوسف قد أخبرني بأن السعر رائع، لكن، كنت حراً بالمفاصلة، وكانت هذه اشارة أشبه بالتحفيز. سألت ببساطة إن كان يمكن للسعر النزول أكثر، أو السماح لنا بأخذها بهذا السعر لأقل من أسبوع حتى نسمع قرار الطبيب قبل التورط بالدفع. فشرح لي التركي بأنه لم يؤجر أحد من قبل بمثل هذا السعر، وأنه لن يكون مجدياً أبداً لأقل من أسبوع، وكانت نظراته إلى أبو يوسف البيرني منذ البداية تشي بنوع من المرارة. ثم تدخل أبو يوسف ذاته باللغة العربية، لنصحي بقبول العرض. وأبو يوسف من النوع المسهب بالكلام، فكان أمر محرج جداً بالنسبة لي، التحدث بلغة لا يفهمها أحد الأطراف، على هذا النحو المسهب. لم أكن رافض للعرض، كانت محاولة حفزني هو إليها، شعرت بأن الموقف كوميدي بشكل ما. قاطعت أبو يوسف حينما حانت فرصة، متوجها بالانقليزية إلى الرجل التركي، وقلت بأني أدرك جيداً منذ البداية بأنه أعطانا سعر جيد وأقدر هذا الصنيع صدقاً، لكني فقط أشعر بالقلق بسبب خروجي من بيرن أبكر من اللازم، وقد خشيت من مصير مشابه هنا، لكني أشكره على لطفه ومرونته وأود استئجار الشقة. بدا راضياً ومرتاحاً لما قلت، واتفقنا على أن يصعد بعد فترة إلينا بالشقة، بكروت فتح الأبواب وآلة الدفع عبر الشبكة.
كانت هناك معضلة، كان هناك مكان للنوم لوالدتي وشقيقتي والطفلة، لكن ليس لي، كنت سأنام على كنب عريض، يبدو أنه أختير لهذا الغرض، فلم أرى أعرض منه من قبل، إذ يبدو كالسرير لولا التفاصيل التصميمية. قال أبو يوسف من بيرن أن أسأل الرجل حينما يأتي أن يزيدنا بطانية، لأن الفتاة الصغيرة قد تبرد (!!)، وذلك لأن طلب فراش زائد قد يزيد القيمة أكثر من اللازم، فللأمر حساباته.
جلسنا معاً لبعض الوقت بالشقة، وأدينا الصلاة، وأجرى أبو يوسف من بيرن الكثير من المكالمات، منها مكالمة إلى شاب سيأتي ببقية حقائبنا من بيرن إلى زيوريخ. قال بعدما انهى المكالمة بأن الشاب اشتكى من أن أحد الحقائب كادت أن تكسر ظهره لثقلها. ولكنه أعقب، بحب، بأنه يريد الشاب هذا أن يتعب، وذلك بعدما أبديت قلقي عليه. قال بأنه علينا أن نتركه يأتي بالحقائب بنفسه إلى أعلى، وأن لا نساعده، قلت باستنكار لماذا؟ قال ليتعب، قلت بشفقة ونفس طويل: حرام. فضحكوا. بالطبع، نزلنا لمساعدته بعدما غادر أبو يوسف البيرني الشقة. كان أبو يوسف قد حدثني عن هذا الشاب عدة مرات، وكان يصفه بمحبة بأنه شاب طيب ورائع، لتوه بدأ العمل معهم. أعتقد أن إتعاب الشاب هي طريقة أبو يوسف لصنع رجل.
بقيت أنا وأبو يوسف المغربي نتكلم. أبو يوسف المغربي موجود في سويسرا منذ أكثر من 35، وهو رجل مسن لديه أولاد. لديه موقف سيء جداً من العرب بعمومهم. كنت قد استغربت صراحته حينما رآني لأول مرة، وقال لي بدون تردد بأن لا ألبس الثوب، وألبس ملابس غربية. سألته لماذا؟ قال بأني قد أواجه مشاكل هنا، قد يلحقني البعض ظناً بأني أملك مال الدنيا. قلت بأني لم أواجه مثل هذه المشكلة في بيرن، قال بيرن ليس فيها عرب، هنا الكثير من العرب، أما السويسريين؟ فلن أواجه منهم مشكلة هنا ولن يكرهوني للباسي(قد لا يفتعلون المشاكل، لكني أشك باحترامهم للباس مختلف)، إنما المشكلة بالعرب هنا، وهم من يخاف علي منهم. نبه علي أكثر من مرة في ذلك اليوم بأن أغير ملابسي حالما أستطيع، وهو يتذمر من العرب. في الشقة حينما بقينا لوحدنا، سألته إن كان يريدني أن أعد له قهوة أو شاياً. لم يُرد. وصار يحدثني عن حياته المثيرة للاهتمام، أعني تاريخياً. كان قد غادر المغرب وهو ابن السابعة، ونشأ في أسبانيا وتعلم حتى شب، ثم جاء ليعيش في سويسرا. وهو يعتبر أن اسبانيا، وخصوصاً المدينة التي نشأ فيها قرب بلنسية، أجمل مكان بالعالم، أجمل من المغرب وسويسرا والسعودية، التي يقدر مكانتها، بلد الأولياء كما يصفها، لكن تلك البلدة التي يحملها في قلبه أجمل.
جرنا الحديث إلى العرب، وأخبرني بأنهم أكثر خلق الله كذباً، وأضعفهم ضميراً. حدثني عن والده رحمه الله، الذي مرض بالمغرب، وذهب إلى هناك ليشرف على علاجه. أخبروه بالمستشفى أن عملية بالبروستاتا ستكلف أكثر من 60 ألف ريال، وأخمن بأنهم علموا عن معيشته في سويسرا. وقد دفع وظل يدفع، حتى اكتشف بأن والده الذي منعوهم من زيارته بحجة العناية الفائقة كان متوفى منذ يومين أو ثلاثة، وقد اختفى الطبيب المسئول. صُدمت بالقصة، واغرورقت عيناي بالدمع، وفهمت مدى تعقيد مشاعره. قال وأنا أجفف عيناي بسلهامي بأنه لهذا يعتقد بأن العرب عموماً بلا ذمة أو ضمير، حيث لن يكذب عليك طبيب أوروبي لأجل المال.


الحمد لله، لم أقابل سوا الرائعين من العرب حتى الآن. أحمد السوري، أبو يوسف، وأبو يوسف، ورجل طيب ساعدني في بيرن في محطة الحافلات، اتضح أنه فلسطيني، وآمل أن أتواصل معه قريباً لشكره على الأقل. لا أحد كامل بالطبع، لكن ما رأيته منهم كان أفضل مما توقعت بكثير، أو حتى نقيض ما توقعت وجربت من قبل.


ها نحن بالشقة منذ يومين. لا يمكن أن أصف حالنا بالسعادة، فالأمر صدقاً شاق، والظروف الصحية على الأقل صعبة. لكني أجد زيوريخ أكثر قبولاً بكثير من بيرن، وأهلها الأقل تجانساً أفضل إلى حد بعيد، رغم فكرتي السيئة عن المدن غير المتجانسة كالرياض وليما.
مررت من أمام مطعم تركي، ورأيت أتراك بالداخل شواربهم كثة كالمكانس، ولسبب ما شددت انتباههم، فأشاروا إلي وأقتربوا من الزجاج لمتابعتي، لم يكن بالمطعم زبائن. ربما اشتبهوا بأني هندي يعرفونه، حيث أرى الهنود هنا بنسبة غير قليلة. حيّنا عموماً يشتهر بكثرة اليهود فيه، اليهود المتدينين، بقبعاتهم ولحاهم. أحدهم رأيته مرتين إذ يبدوا أنه يسكن بالجوار، يشبه جارنا في حيّنا القديم بالرياض تماماً، بنفس اللحية والملامح وربما حتى درجة اللون، سوا أن الجار كان أقصر من هذا.
ضعت لفترة وجيزة، حينما عدت بالخطأ من طريق آخر من المحل الذي أشتري منه الخبز والحاجيات. هنا في سويسرا، أدركت القيمة الكاملة للجي بي اس بالجوال. صحيح أني غير متمكن تماماً من استخدامه حتى الآن، لكنه أنقذني بضع مرات، وهو يشعرني بالاطمئنان، ويمنحني بعض الشجاعة في استكشاف المكان.
كنت قد أشتريت جوال جديد قبل سفرنا بأسبوع. وهو جوال ممتاز حتى الآن، بسعر أكثر من رائع لمزايا غير متوقعة، من لينوفو. أحضرت جوالي السابق كذلك معي كاحتياط، وهو قد بدأ بالتوقف عن العمل فجأة أكثر من مرة باليوم، وإعادة تشغيل نفسه، وتصعيب الأمور. العجيب أنه بدأ القيام بهذا بنفس الوقت الذي بدأ به جهاز ابن أختي، من نفس الشركة، سوني، ونفس الجيل، إذ اشترينا الجوالين بفارق أقل من شهر. أعتقد أنهم يصممون الأجهزة لتعطب بعد فترة معينة من الاستخدام.


















































السويسريون في الشق الذي نحن فيه من البلاد، بيرن وزيوريخ، متحفظين، وباردين، في أحسن الأحوال، وبعد المجاملة، إذ أرجح أنهم عنصريون وبشدة. وأعتقد بأن التواصل البصري يربكهم، إذ أنهم يتفادونه بشدة كما لاحظت، حتى بين بعضهم.
لكن سويسرا رغم حجمها الصغير جداً هي بلد على جانب من التنوع. هنا أربع لغات؛ الفرنسية، الألمانية؛ متكلمة في زيوريخ وبيرن ومدن أخرى كثيرة، والإيطالية، والرومانش، وأهلها قلة قليلة في الجنوب الشرقي حسبما أتذكر من قراءاتي.
ولا يتحدث معظم الناس هنا اللغة الانقليزية إلا على نحو مبسط جداً، وإن تحدثها أحد ما فإن هذا يكون بصعوبة وبلا إتقان، عكس ما سمعته عن ألمانيا.
ما أحب أن أراه هنا هو الجنوب الفلاحي، منطقة تسمى فاليه، أو فالوا، حسب اللغة، أحب أن أرى أهله وتقاليدهم، وبالواقع، يخطر في بالي الجبن كثيراً، وهم يشتهرون بصناعته، وهو من أحب المأكولات إلى قلبي. مشكلة الأجبان الأوروبية هي أنها طبيعية عموما، وأقول بأن هذه الميزة مشكلة لأننا إجمالاً لم نتعود على هذا الشيء، إن الشيء الطبيعي ستكون له رائحته المميزة، وهي رائحة أحبها عموماً، لكن أهلي لا يحتملونها، لقد تعودنا على الأجبان المصنعة والمعالجة أكثر من اللازم، لتكون قابلة للدهن وبلا رائحة، لكن هل هذه أجبان فعلاً؟.
هنا كل شيء مرتفع الثمن، لا أعتقد أني رأيت ما يباع بفرنك واحد. لكن مع ذلك يوجد تدرج بالخيارات، وبالتعود على تقييم السلع هنا شيئاً فشيئاً يجد المرء ما يعتبر رخيص نسبياً وجيد. الفراولة هنا على الأقل أرخص مما لدينا، وهي أطعم فراولة تذوقتها. أعشق الفراولة، لكنها لا تتوفر كثيراً بالرياض بسعر معقول، ولا أدري الآن إن كان ما يتوفر في الرياض سيعجبني بعد هذه هنا، لكني سأنسى بالتأكيد مع الوقت.
مع ذلك، شكلت سويسرا لي نوع من الصدمة، أعتقد أن أهلها إجمالاً متكبرين، جافين جداً. لم أحبهم، ولم يحبوهم أهلي.


على الأقل، تحسن الأمر من ناحية ما أتى بنا إلى ذلك البلد، وبتنا نسير في طريق أكثر وضوحاً تجاه هدفنا، فخطوات علاج ابنة أختي تم تحديدها أخيراً بعدما قابلنا طبيبنا. ولعل أطبائهم لطفاء جداً كجزء من المهنية، إذ أني لا أصدق بأن ثقافتهم قائمة على اللطف والاحترام. وقد أوضح لنا كل شيء، وأشعرنا هذا بالاطمئنان.


أكمل الآن بعد عودتنا من سويسرا بأسابيع. كانت رحلة طالت لثقلها أكثر من طولها الحقيقي.
خلصت إلى أن السويسريين في الشق الألماني على الأقل من ذلك البلد ليسوا ممن قد يحب المرء رؤيتهم والتعرف إليهم. لم أرى شعب بهذه الغطرسة.
عدنا ولله الحمد وقد حققنا غرضنا في النهاية، وهذا هو المهم، وما يستحق كل عناء. أجرت ابنة أختي العملية، وكانت عملية ناجحة جداً والشكر لله، أتمنى أن تكون فاتحة خير على حالتها الصحية، إذ أنها البداية فقط. إننا نرجو أن يتمكن الأطباء هنا من إكمال باقي الإجراءات، القيام بما تحتاج إليه من عمليات، حيث أن ما كان يعترض طريقهم حسب فهمنا هو ما أرسلونا إلى سويسرا لأجله، عملية معقدة تتعلق بالأعصاب. لكن إن لم يتمكنوا، فسنضطر للعودة في العام المقبل إلى سويسرا.


لم أكون صداقات، لكني أحببت البعض كثيراً. لم أتوقع بأن العرب هناك سيكونون بهذه الطيبة والتعاون صدقاً، إنهم ليسوا مثل من نرى في بلدنا أو في بلدانهم حسبما أسمع.
في المستشفى، حيث لم يشاهد مريض عربي منذ فترة طويلة، حازت ابنة أختي على الكثير من الاهتمام من قبل رجلين عربيين يعملان هناك. قابلت أحدهم، وهو رجل لبناني كبير، طيب جداً وكثير الظرف، يقيم في سويسرا منذ أكثر من ثلاثة عقود (ما أكثر من يقيمون هناك منذ فترة مماثلة، لابد أنها فرصة أتيحت للهجرة في ذلك الوقت على نحو لا يمكن تفويته). تكلمنا كثيراً، وكان يرى بأن السويسريين ليسوا بالسوء الذي أتصوره، لكنه لم يقنعني. أصر على تبادل وسائل الإتصال، حيث أن شقيقه رجل أعمال يزور الرياض، ويتمنى هو أن يزورها، حينما يزور شقيقته ووالدته في جدة، مثلما أتمنى أنا أن يفعل، من كل قلبي. أرسلت إليه بطاقة بريدية حينما عدت، أشكره على اهتمامه ولطفه، وأتمنى أن أراه وشقيقه وأستضيفهم في حال زاروا الرياض. كما أرسلت إلى أبو يوسف، الظريف لكن المراوغ، الطيب جداً لكن الصعب، أشكره وأسئله أن ينقل سلامي إلى كل من ساعدونا هناك، السكرتيرة فاطمة، والعزيز جداً، جداً، أحمد من حمص، وهو من لم أره سوا مرة واحدة لبضع ساعات، لكني أحببته من قلبي وقدرت حسن أخلاقه وحضوره النادر.


هناك، تعاملت مع شركة سيارات أجرة، فتحت فرعها مؤخراً في الرياض، اسمها أبر Uber ، وهي خدمة معقولة السعر بالمقارنة في غيرها في زيوريخ. ليست أرخص من النقل العام، لكن والدتي لم تستطع مواصلة استعمال النقل العام لأن المشي من وإلى المحطة القريبة أتعبها كثيراً، خلافاً إلى تغيير محطات الترام. لكن أعانني الله على مصاريف التاكسي على نحو لم أتوقعه، فقد بت أتنقل به مجاناً. حينما يشترك المرء بالخدمة، يزوده البرنامج على الجوال برقم ترويجي، يمكن للمستخدم نشره كيفما شاء، وحينما يستخدم أحد الرقم الترويجي، يحصل على رصيد مجاني لأول رحلة بـ ٢٠ فرنكاً (الفرنك يساوي حوالي ٤ ريالات ونصف)، وتضاف مثلها على حساب صاحب الرقم، فوصل ما حصلت عليه إلى حوالي ٤٠٠ فرنك. ورغم أنه تبقى معي الكثير منها، إلا أن قانون الشركة يقول بأن الرصيد لا يستخدم إلا في البلد الذي حصل عليه فيه الزبون. رقمي على Uber هو: RT5Z3
لست أدري كم سيوفر من أول مشوار على مستخدمه في جدة أو الرياض، لكني أرجو أن يساهم.
يحدد المرء موقعه على البرنامج بالخريطة أو البحث عن العنوان، ويحدد إذا شاء وجهته كذلك، وخلال دقائق، حيث يمكنه رؤية السيارات على الخريطة تتحرك، تصل إحداها لنقله. يمكن حتى اختيار نوع السيارة، لكن ليس في الرياض، حيث الخدمة لا زالت تجريبية على حد علمي. الدفع بالبطاقة الائتمانية، فالمرء لا يحتاج إلا إلى الركوب والنزول في وجهته، وإن كان لديه رصيد قد ربحه فالخصم منه تلقائي.


لا ترى بالطبع سائقين سويسريين عموماً. يوجد عرب، وأتراك، وأكراد غالباً. الأتراك أقل ما يقال عنهم أنهم بغضاء، أبغض من السويسريين حتى، متكبرين أنذال، لا مروءة لهم قاتلهم الله. العرب، كغالبية العرب هناك ممن صادفت، رائعين. لكن الأفضل على الإطلاق كانوا الأكراد.
لا نعرف الأكراد تماماً، جل ما نعرفه عنهم هو نزعتهم الانفصالية، التي ثير في الناس دائما الحمية تجاه العراق على وجه الخصوص. قابلت كردي واحد من أكراد تركيا في بلدي، وكان دكتوراً في جامعتنا. كان رجل كريه بصراحة، ولم يعطني انطباع جيد. لكنه رجل واحد.
قابلت ثلاثة أكراد في زيوريخ، وأسهبت بالتواصل مع اثنين. الأول من أكراد تركيا، والآخر من أكراد ايران. كليهما رائعين، بشوشين ورقيقي الطبع. كانوا لطفاء على وجه الخصوص تجاه والدتي، محاولين التحدث إليها بالعربية، واستدراجها للدعاء لهم. لم يتجاهلا وجودها بسبب حاجز اللغة، وقد أتيا بكل ما يعرفان ليقولا لها شيئاً، وهذا سلوك أحاول الإتيان به كذلك حينما يصطحب أحد معارفي الأجانب في الجامعة والده الذي يكون في زيارته لسبب أو لآخر.
صادف أن أوصلني الكردي الإيراني ثلاث مرات، من خلال طلبي لسيارة عبر تطبيق الشركة بالجوال. كنا نتحدث حول مختلف الأمور، وكان الرجل بنفس عمري. يعيش هناك منذ فترة طويلة، وهو متزوج من امرأة سويسرية تعمل محاضرة بالجامعة، متخصصة بثقافات الشرق وتتحدث الفارسية حسبما فهمت. سينال الجنسية السويسرية قريباً كما يأمل. قال بأني أذكره بالفرس، وهو أمر مضحك، سألته لماذا؟ قال لأني راغب بالتحدث والتعرف والضحك، على عكس معظم العرب الذين أوصل من قبل، بالإضافة إلى الشكل. ضحكت، وسره أني وجدت الأمر مضحكاً. قال بأنه يود أن يراني قبل أن أسافر في يوم إجازته، لنجلس ونتحدث. كنت قد تعرفت عليه قبيل انتهاء فترة العلاج وعودتنا إلى السعودية. أخبرني باليوم الذي يريد أن يراني به، وأعطاني بطاقته. لكنه في ذلك اليوم للأسف انشغل بمقابلة في الجامعة، مع أستاذ زميل لزوجته متخصص كذلك بثقافات المنطقة.
لكن بعد يوم أو اثنين، صادف أن ذهبت إلى حديقة الحيوان، وحينما طلبت سيارة لتعيدني، بما أنها ستكون مجانية، ظهر لي على التطبيق أن هو من سيأخذني، حيث أن التطبيق حينما يجد أقرب سائق أو السائق المتفرغ، يظهر صورته واسمه ومعلوماته ووقت وصوله المتوقع. بعد دقيقة اتصل على جوالي فرحاً، وقال بأنه قادم في الحال.
كان الطريق طويلاً، وقد تكلمنا كثيراً خلال الرحلة. قال بأنه سيأخذني للتمشي قرب بحيرة زيوريخ، حيث يحب أن يمشي ويتأمل بالعادة، فهو يمكنه الاستراحة من عمله قليلاً.
توقفنا، واشترينا ايسكريم ومشينا. كان الرجل غاية باللطف والكرم. تكلم عن عائلته في إيران، والحياة هناك. إنه مثلي، أصغر إخوته، سوا أن إخوته أكبر منه بأكثر مما يكبرني إخوتي، حيث أن أحد أبنائهم يماثله بالعمر. سألني عن رأيي بالسويسريات، فقلت بأني غير معجب بهن بشكل عام. يبدو أن هذا فاجئه، ضحك وسأل لماذا. قلت بأني أشعر بأنهن مغرورات، غريبات الأطوار، مفتعلات ومفرطات بالاهتمام بالمظاهر، وحدثته عن ما لاحظته بالفتيات بالهند، والبيرو، من أنوثة بالطباع، وحضور عفوي لطيف.
بعد التحدث عن مواضيع كثيرة، وقضائنا لوقت أطول بكثير مما خططنا له، إذ أخذتنا الأحاديث الطيبة دون أن ندري، عدنا إلى السيارة وأعادني إلى المبنى حيث أقيم.
الحي الذي أقمنا به في زيوريخ يشتهر بأنه حي يكثر فيه اليهود. واليهود الذين يُرون هناك هم من النوع المتدين، ذوو اللحى والظفائر والقبعات متنوعة الأشكال. بعضهم لهم أشكال مألوفة جداً. أحدهم يسكن بالقرب منا، ذكرني كلما رأيته بجارنا بالرياض في حينا القديم، نفس الشكل إلا اللهم أن هذا الرجل في زيوريخ أطول.
كانوا إجمالاً يتفادون النظر إلينا، وإن يكن بضيق حينما يكتشفون وجودنا فجأة. لكن بعضهم كان ينظر بإزدراء وقح، لكن هذا يسري على الكثير السويسريين كذلك، وبعض العرب للأسف، في حالتين صادفتهما في بيرن.
كما يرى المرء في زيوريخ الكثير من الهنود، أكثر مما توقعت. والكثير من الاثيوبيين والصوماليين. قرب منزلنا هناك كنت أرى مقهىً اسمه الحبشة، وكان يبدو مهملاً أو غير مجهز إلا بأسوأ ما يمكن من أثاث ولوحات خارجية، يملؤه الشبان الأحباش يلعبون على الطاولات، وتتعالى ضحكاتهم إلى خارج المحل.


في سوق معروف ومنتشر للمواد الاستهلاكية، تعرضت إلى موقف عبر لي عن مشكلة الناس في ذلك البلد تجاه ذوي السمات الشكلية المختلفة، مثلي. كنت أتفرج وأجمع ما أحتاج، وكنت قد دخلت ذلك الفرع لأول مرة، إذ كان هذا حينما بدأنا بزيارة أختي وابنتها حينما بقيتا بالمستشفى، فكنت أستغل بعض الوقت للخروج وتسوق الاحتياجات.
اختارتني موظفة كبيرة بالسن، دوناً عن أي شخص آخر في المحل المزدحم، لتسألني لماذا أنظر إلى مختلف الأشياء؟ تصورت بأني أنوي أن أسرق شيئا، ورغم أن الجميع كان يتسوق مثلي، إلا أن الجميع كانوا ذوو سحنات أوروبية. أخبرتها بأن تنادي مديرتها فوراً. جائت المديرة، وشرحت لها ما جرى، وهي لا تتقن الإنقليزية تماماً. أخبرتها بأنه لمجرد كون بشرتي أغمق لا يعني تلقائياً أني هنا لأسرق، أما الأشياء التي كنت أحملها فهاهي، لن أشتريها بسبب هذا السلوك الوقح والعنصري. اعتذرت، لكن بلا اهتمام حقيقي.
حينما عدت إلى المنزل، كتبت إلى الشركة شكوى، وأضفت بأني لا أتوقع رداً، لكن ليعلموا بأني سأنصح كل من لديه حس بالعدالة والمساواة أن لا يشتري من محلاتهم. بعد فترة طويلة، جائني رد باللغة الألمانية، وبعد ترجمته تبين أنهم يحققون بالأمر. ولا أدري لماذا لم يردوا بلغة أفهمها في شركة عالمية الطابع، منتشرة في عدة دول في أوروبا. جاء ردين بنفس المحتوى على مدى أسابيع، حتى جاء رد، بالألمانية أيضاً، بعد أن عدت إلى السعودية، يحمل اعتذار، وبشكل ما، يشكك بفهمي الصحيح لما جرى. رددت على هذه السخافة بعدم قبول الاعتذار، والسخرية منه، وتوبيخهم على حسهم المتعالي بالتواصل.


إن تصوري عن عشاق سويسرا من السياح هو أنهم لا يخالطون الواقع الذي خالطته. أعرف عموماً أن سياحنا يذهبون إلى البلدان دون أن يلتقوا أهاليها أو يهتموا. هكذا، لا يرى المرء إلا موظفي المنتجعات والمطاعم الراقية غالباً، الذين سيحاولون بطبيعة الحال المجاملة والتلطف.
وللأنصاف، يسيء كذلك بعض الخليجيين إلى سمعتنا الجماعية بسوء تقديرهم للأمور. قيل لي أكثر من مرة عن مبالغاتهم بالإكراميات التي تظهرهم بمظهر الأغبياء، وهي اكراميات لا يعطونها للعرب كما فهمت من أكثر من شخص حينما يكونون عاملين في مكان ما هناك. بل إن بعضهم يرفض التعامل مع العرب هناك على وجه الإطلاق، إذ يجدون متعة خاصة على ما يبدو في التعامل مع السويسريين والتظاهر أمامهم بشتى المظاهر.
أخبرني أحمد عن أسرة اماراتية عاملته بإستعلاء قاس، وكان يرى أنهم ينفحون السويسريين إكراميات بالمطاعم قد تصل إلى الألف فرنك، في حين أنهم بعد شهر من إيصالهم بالسيارة لم يعطوه حينما أوصلهم إلى المطار أكثر من ٥٠ فرنك. قال بمرارة بأنه يتمنى لو لم يعطوه ذلك المال، إنما لو عاملوه كما يجب.
افترضت بالبداية بأن الأمراء والشيوخ هم من يسيئون التعامل ويتعاملون باستعلاء، لكن أحمد نفى الأمر قطعاً، قائلاً بأنهم بالواقع الأفضل تعاملاً وتقديراً إنسانياً، والأكثر انضباطاً بالمواعيد، قائلاً بأننا نذكرهم بهم. بصراحة؛ لم أقتنع بالبداية، ليس هذا هو تصوري عنهم، إني لا أرى فيهم خلاف الاستعلاء. لكني حاولت التأكيد لاحقاً من أبو يوسف من بيرن، بينما كنا نتناقش حول أنواع الناس الذين يتعامل معهم، فأخبرني جوهرياً بما أخبرني به أحمد، بعد قال كذلك بأننا نذكره بهم، خصوصاً لانضباطنا بالمواعيد وحسن ذوقنا.
لعل النظرة الاستعلائية يتم توفيرها حتى العودة إلى الوطن بالنسبة إليهم.


عانت والدتي في محطات الترام من أمر مضحك. كنت أحياناً أتركها على الكرسي لشراء تذكرة، أو لشراء طعام من السوق عند المحطة عند عودتنا للمنزل. وحينما أعود أجد أحياناً أنها رأت رجل وامرأة انشغلوا بتقبيل بعضهم أمامها، مما كان يصيبها بالذهول والصدمة. تقول بأنهم ربما يرون خمارها فيتعمدون القيام بذلك أمامها. لا زلت أضحك حينما أتذكر الأمر.
لكن بصراحة، لم تكن هذه الاستعراضات العاطفية شائعة جداً، ربما كان الناس هناك على بعض التحفظ، أو أقل ميل إلى لفت الانتباه، ربما كانوا خلاف هذا في مناطق أخرى كذلك، كما رأيت من اختلاف بين الناس من حيث المحافظة والتحفظ في البيرو بين مختلف المناطق.


كنت أتمنى لو استقبلنا أحمد في محطة القطار في جنيف، حيث يتوقف القطار في المطار نفسه من حيث سنغادر إلى الرياض. حينما اتصلت بأبو يوسف لأرتب الأمر، إذ كان يجب أن أحصل على أوراق من الملحقية عبر مكتب أبو يوسف قبل أن نسافر، تفكر لبعض الوقت من سيقابلنا في المحطة. قلت مقترحاً: أحمد يستقبلنا، أحمد حبوب. ضحك أبو يوسف مطولاً، ويبدو أنه فوجئ، وقال بأن أحمد أصبح بيبي سِتر، ولا يمكنه القدوم. ربما رزق بمولود، الله أعلم. كان يوم مقلق، كان علينا التوجه من زيوريخ إلى جنيف بالقطار، في يوم سفرنا عائدين إلى الرياض. واحتاج الترتيب للأمر إلى أكثر من شراء تذاكر القطار. كانت حقائبنا كثيرة وثقيلة، وكان من المستحيل حملها معنا على القطار. لهذا، ذهبت إلى محطة القطار المركزية قبل أيام، بمعظم حقائبنا، وشحنتها لتصل إلى مطار جنيف قبلنا.  لم يكن الشحن مكلف نسبياً، لكن طبعاً كان هناك شروط للوزن. للأسف، فشلت بإقناع أمي وأختي بالاستغناء عن بعض الأشياء مسبقاً، لكن هذا الفشل لن يتكرر، مهما كان، في الرحلات القادمة إن حدثت إن شاء الله. بعد شحن الحقائب، ذهبت إلى المحطة لتسوق بعض حاجات المنزل، بعض الخضار وخلافها قبل العودة إلى المنزل بالترام. لكن فوجئت باتصال من مكتب الشحن يدعوني للعودة، إذ أن وزن بعض الحقائب كان أعلى من المسموح. سمحوا لي مشكورين بالدخول لفض الحقائب وتوزيع بعض الأشياء بينها، لمعادلة الوزن. كان الأمر مرهق جداً واستغرق وقتاً طويلاً، وكنت ممنوناً لمرونتهم والمساحة التي أعطيت للعمل بحيث حاولت بقدر الإمكان أن لا أترك أحد من أهل المكتب يحمل الحقائب لوضعها على الميزان. شعرت بحنق شديد على من بالمنزل حينما فرغت أخيراً، وكدت أن أنفجر وأنا أجاهد نفسي حينما تلقيت اتصالاً منهم بعدما فرغت من الحقائب، وأنا أدعو الله بأن تتكسر (الزمزميات) بالحقائب. (برادات الشاي والقهوة).


ذهبنا بالقطار فجراً، كنا ننوي الذهاب إلى المحطة باكراً حتى نغادر في الساعة السابعة والنصف. لكن هناك، وجدنا قطار سيغادر في تلك اللحظة، فاستقليناه. في طريقنا إلى المحطة، أخذنا أبو يوسف المغربي عبر حارة مليئة بالحفريات وإصلاحات الشارع والتحويلات على نحو غير مألوف هناك. أسميتها حارة الرياض.
لحسن الحظ، كان مستودع العفش في أعلى رصيف المحطة حينما وصلنا، ورغم أني كدت أن أواجه مشكلة في استلام الحقائب لكثرتها وعدم وجود عربات كافية أو حتى قريبة، إلا أن العامل بالمستودع تعاون معي، وأتى بالحقائب على عربتهم الكبيرة حتى مكان جلوسنا.
للأسف، كانت ترتيبات شركة الفرسان لعودتنا غير تامة، وهو أمر صدمني صدقاً حينما أخبرني موظف الخطوط، جزائري على ما يبدو، بأن تذاكرنا لم تصدر، وأن الحجوزات التي معي لم يتم تأكيدها. لا أدري لماذا لم يكونوا أكثر دقة. تخيل لو لم تكن الطائرة مليئة بالمقاعد الشاغرة، مثلما كانت ممتلئة عن آخرها حينما جئنا. لحسن الحظ، تدبر الرجل الأمر لنا جيداً، فجزاه الله خير الجزاء.
كان حمل الحقائب بتلك الأحجام والكمية معضلة أخرى. ليس الأمر ببساطته في مطار الرياض. لكن موظف الخطوط دلني على مكان الحمالين. وقال الحمال بأنه من غير المسموح له أن يصل إلى صالة محطة القطار المجاورة، لكنه سيجعل لنا استثناء.
الإكراميات ليست جزء من الثقافة السويسرية عموماً، لكن البعض يتوقعها، خصوصاً العاملين الأجانب، وهي أمر ينظر إليه كحق مرهون بكرم وذوق العميل أو الزبون، ولكن هذا لا يجعل منها أمر قليل الأهمية، فبعض الناس تشكل بالنسبة إليهم جزء مهم من الدخل يعينهم على الحياة كما تعلمت مع الوقت. هي ثقافة مثيرة للإهتمام، ربما لأنها ليست جزء من ثقافتنا، أو أنها أمر مستجد عليها، مع تزايد تعاملنا مع الأجانب وتوقعاتهم.
أعجبني أن حقائبنا وزنت لدى مقر الحمالين وأعطينا ورقة لأخذها إلى موظف بطاقة الصعود، ليس كما أرى في سفري القليل. بعد أخذ بطاقات الصعود، عدت بوريقة إلى الحمال، فأدخل الحقائب من عنده للتحميل إلى الطائرة.
كان علينا كذلك أن نخاطب مكتب مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، لأخذ ابنة أختي بعربة إلى الطائرة باستخدام الرافعة، واختصار الصفوف بالذهاب عبر طريق مخصص. لن تصدقوا سعادتي حينما رفضت المفتشة دخول بعض الأغراض إلى الطائرة معنا، وهي الأغراض التي رفض أهلي الاستغناء عنها حينما كنا بالمنزل، وتعذبت كثيراً في مكتب الشحن في زيوريخ حينما فتحت الحقائب، وعدت بها معي للمنزل، بعدما لم أجد لها مكاناً دون أن تؤثر على الوزن.
لكن قبل الدخول، جلسنا ننتظر، وقد رأيت رجل مسن أحمر البشرة له لحية أنيقة ويعتمر قبعة، حسبته أوروبياً لأول وهلة، يتجه إلى المنطقة التي جلس فيها أهلي في انتظار وقت الرحلة الذي بات قريباً. حينما عدت، وكنت ذهبت لأسئل عن شيء، وجدته يداعب ابنة أختي، ويحاول أن يتواصل مع أمي وأختي. سلمت عليه، وعرفت أنه تركي. كان مقيم في فرنسا منذ سنوات وهو متقاعد الآن، وهو يتحدث القليل من اللغة العربية، والقليل من الانقليزية. حاولت التواصل معه بشتى الطرق لتستمر أحاديثنا، واستخدمت الترجمة بالجوال لأخبره بما أريد. كان سعيداً بالمحادثة. سأل إن كنا من إيران. وهذا سؤال غريب واجهناه كذلك من امرأة مسلمة هناك من البلقان. وتقول أختي الأخرى التي زارت تركيا أنها سؤلت إياه. أعتقد أن الناس يخلطون ويظنون أن النساء اللاتي يغطين وجوههن يكن من إيران، رغم أن الإيرانيات لا يغطين وجوههن. كان يحفظ الكثير من الأحاديث والآيات، التي لا يدري معناها تماماً، وقد كانت تبدو عليه سيماء التدين، ويقول بأنه يقضي وقته بالاطلاع وقراءة القرآن. أخبرني بأنه درس العربية حينما كان صغيراً، ويحاول أن يمارسها حينما يستطيع. كان ذاهب لزيارة أبناءه في اسطنبول.
تسائل لماذا تغطي أمي وأختي وجوههن، لماذا لا يتحجبن فقط؟ واصفاً غطاء الوجه بأنه ثقيل. قلت بأنها الطريقة التي نراها صحيحة، فقد قال الله: يدنين عليهن من جلابيبهن. قال بأنها مذاهب. ولا أدري لماذا تدخل طالما أنه يدري أنها مذاهب. يجد الناس من مختلف البلدان الحق بالتدخل الوقح، رغم أنه لا يأتي أحد إلى بلدانهم ليقول بأن على النساء أن يغطين وجوههن، إننا نقدر هذا الإختلاف، وهم لا يقدرونه، ويتهموننا بالنهاية بكافة التهم التي تنم عن غباء وضيق أفق. لست أحب قول هذا في سياق حديثي عن ذلك الشيخ الطيب، لكني فعلاً أقرف من هذا التدخل الفج وغير المطلوب.
عموماً، أخذنا الحديث إلى أمور كثيرة. أخذ رقم هاتفي ليتصل حينما يزور السعودية. أتمنى أن أسمع منه إتصال في يوم ما، أتمنى من قلبي.
لاحظت بأنه ينظر إلى قوارير الماء في أيدي المارة وهو يتحدث. فسألته إن كان عطشاناً، وقمت لأبحث عمن يبيع الماء. حاول أن يعطيني مالاً قبل أن أذهب، ولم أقبل، كانت مجرد قارورة ماء. حينما عدت بالقارورة، أخرج كؤوس بلاستك ليصب من الماء لنا، وبالكاد أقنعناه بأننا معنا قواريرنا التي نشرب منها.
قال في وقت لاحق: ابحثوا عن أهل التقوى، وأضاف بأن لديه ابنة متعلمة ومحجبة، وأنه يود لو تزوجتها. شكرته باسماً. إنها لا تعدوا كونها مجاملة بالطبع، فمن سيختار لابنته زوجاً لأول مرة يلتقيه في مطار، وبالكاد يتواصلان؟. أخبرت والدتي وأختي لحظتها، فسألني إن كنت أخبرتهن، وضحك.


حان موعد رحلتينا بنفس الوقت. مضيت وأهلي بسعادة تجاه الطائرة، يدفع عربة ابنة أختي رجل حاول بقدر ما يستطيع أن يكون متعاوناً. كان الأكثر عبوساً هم الأشخاص الذين يختمون الجوازات، حينما جئنا وحينما مضينا.
كم كانت رحلة سعيدة، صدقاً، ونحن نعود من ذلك البلد الذي لم نحبه إطلاقاً.


لا أتمنى أن أرى الباقي من سويسرا. بالواقع، أشعر بأني فهمت بعض الأمور على نحو أفضل عن بعض أنواع الأوروبيين. أعتقد أن تعاملي مع السويسريين قد هز اتزاني بعض الشيء، لقد حزنت كثيراً هناك، تألمت وبدأت بالتساؤل حول الروابط الإنسانية. إنه يسهل على المرء أن يأخذ الطريق الأسرع والأوضح، طريق الحقد والكراهية وتبريرها، لكن هذا طريق لا أرتضيه لنفسي، لذلك، وقعت في دوامة الحيرة بما علي القيام به تجاه ما رأيت واكتشفت، ولعل هذا ما زاد في جعل التجربة نفسها وتذكرها لاحقاً أمر ضاغط ومثير للكآبة.


وفي كل الأحوال، أشكر الله سبحانه على تيسيره. كانت رحلة ميسرة إلى حد بعيد، على طولها.


تجملي يا سويسرا قدر ما شئت...
فجمال البلدان بأخلاق أهاليها...
وإذا ما قال قائل أنك جنة سأقول خسئت…
أو كفانا الله شر جنة أهلك هم ساكنيها…


اكتشفت منذ فترة الآن أن قرار شرائي لابتوب قوقل المكلف كان أسوأ قرار شرائي في حياتي. كنت قد عملت على نظامهم الكروم منذ سنوات الآن ولم أجد ما يلائمني أكثر منه. لكن الجهاز هذا بقوته الزائدة، وما يرافقها من تجهيزات، يحدان من بعض أهم مزايا النظام البسيط، أي عمر البطارية، وكونه لا يحتاج إلى هذه التجهيزات أساساً فتكون الأجهزة خفيفة بالعادة، خلافاً لهذا الجهاز الثقيل الذي يكاد أن يخلع كتفي حينما أحمل الحقيبة.
زاد من سوء الأمر التحديثات الأخيرة التي أفسدت الطباعة باللغة العربية، وهي أهم ميزة بالطبع بالنسبة لي. بالبداية كان الإشكال في علامة ترقيم، ثم بتحديث آخر زالت امكانية الطباعة بحرف الذال، ثم توقفت عن استخدام الجهاز قبل التحديثين الأخيرين، حيث لم يعد يهمني صدقاً أي حرف آخر أو علامة لن أتمكن من طباعتها.
ولسعره المرتفع جداً لم يكن لدي استعداد لشراء جهاز آخر بسعر مرتفع، ولو من نظام آخر، ناهيك عن كوني لم أعد أحب استخدام نظام الويندوز خصوصاً خارج المنزل، أو أي نظام تقليدي آخر. لقد أفسدني الكروم، بسرعته بالعمل وخفته وبساطته.
انتظرت لفترة طويلة، بيأس بصراحة. وبدا لي أنني لن أجد ما يلائمني لفترة طويلة، بعدما صرفت النظر عن كروم كلياً بسبب مشكلة الطباعة باللغة العربية التي حدثت مؤخراً.
لكني رأيت جهاز رخيص أثار اهتمامي. لابتوب بنظام أندرويد من لينوفو، شركتي المفضلة منذ سنوات. لم أتحمس بصراحة كثيراً لأندرويد خارج إطاره المعتاد، الجوالات (مثل جالكسي)، واللوحيات. ورغم أني قرأت من قبل عن لابتوبات صغيرة الحجم بنظام أندرويد من شركات غير معروفة، إلا أن انطباعي كان أنها مجرد أجهزة تجريبية، موجهة لصغار السن بالدرجة الأولى.




الشاشات الصغيرة ليست غريبة علي، إذ ظللت لسنوات أعمل على نتبوك لينوفو بحجم ١٠ انشات، ولا زالت أختي تعمل عليه دون مشاكل. كنت غير متأكد من ملائمة أندرويد لاهتمامي بالكتابة، رغم تطور البرامج عليه، مثل درايف وخلافه، وكتابتي على الجوال لقطع الوقت عند الانتظار بالمستشفى مع أمي.
سعره بـ٨٠٠ ريال، وهذا سعر جعلني أشعر بالأمان من خيبة أمل أكبر من التحمل، بعد أكثر من ٤٠٠٠ ريال للكروم الأخير. قرأت الكثير من المراجعات التي وصفته بالمعقول، وبدا أن ميزة البطارية التي تعيش لأكثر من ٩ ساعات أكبر من أن أتجاهلها، بالإضافة لمدخل الشحن الذي يماثل مداخل الجوال، فيمكنني الاستفادة كذلك من البطاريات الاحتياطية التي أحمل للجوال.
جربته في مكتبة جرير، وتأكدت من طباعة كل حرف. وقررت الشراء.
أستخدمه الآن لبعض الوقت. يمكنني القول بأنه غير كامل ولكنه ممتاز مع ذلك. لوحة المفاتيح جيدة، يشتغل الجهاز بسرعة، وإن يكن يعمل لاحقاً أبطأ مما يجب، رغم وجود معالج رباعي معقول حسب ظني. عدلت لينوفو نظام الأندرويد بعض الشيء ليعطي الشعور بنظام تشغيل مكتبي، والشعور يصل بالفعل، لكن لا يخلو من منغصات غبية، مثل لوح المهام أسفل الشاشة غير القابل للإخفاء، رغم أن الأيقونات عليه يمكن إخفاؤها.
الشاشة دقتها ضعيفة، لكنها مريحة للقراءة والكتابة جداً، وفي اعتقادي وحسب تجربتي، وكما قرأت للبعض وهو يقول، أن الدقة الأضعف أريح للكتابة والقراءة. أعتقد أن الدقة العالية ملائمة أكثر لمشاهدة الفيديو والصور وتعديلها.
حسبما أعرف، لا يمكن الاعتماد كثيراً على أمل التحديث في أجهزة لينوفو، باستثناء الحاسبات التقليدية. الجوالات مثلاً لا يعلن عن تحديثها، كما الحال مع جوالي الحالي من لينوفو أيضاً، وهذا الحاسب أقرب للجوالات من حيث النظام. ربما لو يتم تحديثه لأراد الناس تحسين لوحة المؤشر (الماوس) وعملها لتكون أكثر من اصبع افتراضي على جهاز لمس، بالإضافة إلى استغلال المعالج على نحو أمثل، وإخفاء لوح المهام.
لحسن الحظ، المتصفحات للجوالات باتت أكثر تطوراً، ويمكن طلب صفحات الانترنت كما هي على الأجهزة المكتبية، وهكذا أجد أني أعمل إلى حد بعيد في بيئة مشابهة لأجهزة الكروم.
يمكن ثني شاشة الجهاز بزاوية حادة لتكون لوحة المفاتيح قاعدة، فيصبح الجهاز أكثر ملائمة للعامل مع اللمس، ولكني لا أقوم بهذا عموماً، مع أني أتخيل بأنه سيكون وضع جيد للتواصل عبر الكاميرا لو وضع على مكتب أو طاولة. ويأتي بلونين، لدي الأسود، أما البني، فرأيت بأن الجهاز يبدو أكثر رخصاً به على خلاف عادة هذا اللون (الجهاز أساساً لا يبدو لافت للانتباه أو غالي المظهر).
يحتوي على بلوتوث مثل معظم الأجهزة، وقد صرت أربطه للدخول على الانترنت بجوالي حينما أكون خارجاً بدلاً من تحويل جوالي إلى نقطة اتصال لاسلكية (واي فاي، أو وايرلس)، إذ وجدت هذه الطريقة تكاد أن لا تستهلك شيء من بطارية الجهازين خلافاً لنقطة الاتصال الاستنزافية، ووجدت أن السرعة هي نفسها، خصوصاً ان اتصالي أساساً من الجيل الثالث، وهو أكثر من كافٍ بكثير لاستخداماتي خارج المنزل.


وبذكري مسبقاً للجوال من لينوفو، اشتريت قبل سفرنا بأسبوع هذا الجوال، حيث لم يعد الانتظار مجدي، لكون جوالي السابق بدأ يفقد الوعي أكثر فأكثر في أسوأ اللحظات.
كنت أخطط لشراء جوال من ألكاتيل، تابعت مع وكالته الجديدة لأشهر في انتظار نزوله، وكانوا يؤجلون الأمر، وبدا أنهم لا يقدرون اهتمامي من خلال أسلوبهم بالرد، فقررت عدم الشراء منهم.







كان لينوفو هذا لتوه نزل بالسوق، وقد جذبني وجود واقي خلفي له يحتوي على قطعة مطاطية تلتوي بالسحب فتكون قاعدة ليقف عليها الجهاز عرضياً. مزاياه معقولة جداً، خصوصاً بالنظر إلى سعره الجيد، ٨٠٠ ريال كذلك. لا زلت سعيد به. كاميرته معقولة جداً، ٨، وسرعته ممتازة بمعالجه الرباعي، ووزنه خفيف، وشاشته واضحة على سعره المعقول، ومقاومة للخدش. لا أجد فيه عيب غير موجود بكافة الجوالات التي أرى؛ كلها صارت تتشابه، ولا يوجد شيء مميز فيها إلا فيما ندر.
أستغرب من شراء معظم الناس لأجهزة مرتفعة الثمن، من شركات لا يحيدون عنها، في حين أنهم لا يستفيدون من مزاياها، إما لا يعرفون أو لا يهتمون، فيصبح الشخص الكبير يملك جهاز مثل جهاز صبي أو صبية بالمتوسطة. حينما يرى بعض الناس استخدامات مفيدة للأجهزة الذكية، مثل مسح الوثائق أو تبادلها أو التعامل الصوتي، ينظرون للأمر وكأنه معجزة، فيتسائل المرء؛ لماذا يشترون هذه الأجهزة أساساً إذا لم يكن لديهم الاستعداد للاستفادة القصوى منها، لماذا لا يوفرون نقودهم، او على الأقل لا يبالغون بشراء أجهزة مرتفعة الثمن جداً؟.






أشعر بالألم دائماً حينما أقرأ اسم سخيف لا يمت للعربية بصلة، يعطى لمولودة على الأغلب، في مباركات الجرائد، أو أسمعه من الناس. قرأت قبل يومين مباركة لشخص اتفق هو وزوجته على تسمية ابنته "جوانا". وغير هذا من الأسماء الأجنبية. مثل من يسمي ابنته روز، ما المشكلة في اسم وردة؟. وبمثل درجة السوء أشعر حينما أقرأ أو أسمع عن اسم غير مفهوم أو بلا معنى واضح. مثل "رادا". كنت دائماً أقول بأنه غالباً النساء يؤلفن أسماء غريبة، ثم إما يؤلفن لها معنى أو يبحثن عن معنى بعيد لهذه الأسماء، معنى بعيد غير مطروق ولا مؤثر لأسماء عجيبة وسخيفة، غالباً برنة أجنبية. أو يأتين بإسم لا يستخدم لتسمية الناس، لكن لكونه يتشابه مع اسم أجنبي يقلن حينما يسألن عن المعنى معناه الأصلي؛ مثل جودي، يقلن الجودي في القرآن الكريم، إذاً البنت سفينة؟ هل سنسمع عن طفلة اسمها سيارة؟ فإسم سيارة اسم صحيح كذلك. إن ما يثير تعاستي هو كوننا قلب العرب، نحن العرب بلا بشك، منذ عصور سحيقة ونحن العرب، أي أننا الأصل، فتجد حرة عربية اسمها اسم لا يمت للعربية بأصل، وبلا مبرر. حينما أرى رجل متزوج من أجنبية أو يعيش في الخارج، قد أفكر بأنه ربما لديه عذر، رغم أني أتمنى أن لا أقوم بالمثل لو وقعت في يوم ما في مثل ظروفه، لكن قد أفكر بأن مثله لديه عذر، يريد اسم غير مستغرب، أو أن زوجته مؤثرة على نحو خاص ويريد أن يراعيها، أو يريد تكريم شخص مهم جداً، هذه أسباب مفهومة بالنسبة لي ومعقولة. لكن ما يثير استغرابي هو أناس بظروف عادية، بلا مؤثرات إجبارية واضحة على وضعهم الثقافي، يلجأون لهذه السخافة والتفسخ من الثقافة الأصلية. ما المشكلة في البحث عن الأسماء العربية الصميمة القديمة، إن كان الشائع ليس من رغبة الوالدين؟. كما تجد أناس يختارون أسماء عرب الشمال السخيفة، تالا ومالا ولالا، على نحو لا يمت لبيئتنا وثقافتنا بصلة.
سيفكر الناس بأني ليس لي علاقة بما يسمي الناس أبناؤهم، لكن الثقافة، والأسماء جزء منها، هي أمر يهم الجميع؛ إن تسمية الأبناء بأسماء أجنبية هو انهزام، وليته انهزام بعد حرب أو غزو، لقد انهزمنا من مناحي كثيرة ونحن لم يغزنا أحد، ولم يحتلنا أحد، ومع ذلك هانحن مهزومين من نواحٍ كثيرة، إننا ننهزم باستمرار بلبسنا، الذي لا نطوره أو نكتفي بتطعيمه، لكننا نتخلى عنه تماماً في ظروف كثيرة في عقر دارنا. إننا لن نصبح شيء آخر إذا غيرنا ملابسنا، ناهيك عن أسماؤنا، فلدينا أسماء جيدة بمعانٍ متفائلة إن كان الأمر يتعلق بالنصيب من الاسم، فما نصيب جوانا أو رادا من أسمائهن؟.
إن المؤسف أكثر أن الأطفال لم يعودوا يربون على الاعتزاز بثقافتهم، صارت الثقافة لبس في العيد فقط، ومن يسمى بإسم عليه اعتراض، كما أثير قبل فترة حول أسماء ذات مدلولات غير ملائمة مستوردة من ثقافات أخرى، لا يهمهم سوا أن اسمهم مختلف، ويسعدهم الجدل حوله ويشعرهم بالتميز، لأنهم للأسف تربوا على أن يكونوا تافهين على الأغلب، سيطرت عليهم ثقافة الفردية الزائدة عن الحد في رأيي.

إن البنات لسن ألعاباً لأمهاتهن، يسمين أسماء غريبة لمجرد أنها بدت مليحة، إنهن كيانات ستصبح منتجة وربما والدة ومربية لأجيال في المستقبل، يجب أن تعتز بما هي عليه وما تكون بالأصل. لن تصبح البنت أجمل أو أملح لأن اسمها أجنبي أو غير مفهوم، بل ربما بدا الأمر مثير للسخرية.
يوجد أسماء أصلية لا أرى فيها خلاف وإن لم أحبها على وجه الخصوص، لكني أحترمها وأقدر من يختارها لتسمية بناته بدلاً عن الانسياق خلف موجة التفاهة واللا مسئولية هذه.








منذ شهور طويلة، توقف التميمي عن جلب الكينوا لسبب ما. ولم أستطع إيجادها في أي مكان آخر. لكن مؤخراً، افتتح الدانوب فرع صغير وقريب من منزلنا. هناك، فوجئت بوجود نوعين لم أجربهما رغم قرائتي عن مختلف أنواعه. إني لم أجرب سابقاً سوا النوع التقليدي الأكثر انتشاراً. وجدت النوع الأسود والنوع الأحمر. يوجد نوع لؤلؤي كذلك من شركة النوع الأسود، آمل أن يتوفر لاحقاً. لكن المفاجئة كانت حينما وجدت الأمارانث، وهي حبوب من نبتة من عائلة قريبة من الكينوا، لكنها تأتي من المكسيك، وكانت طعام أهلها الأصليين، الازتيك على وجه الخصوص، وهي تعتبر من الأطعمة التي تصنف مجازاً بالأطعمة الخارقة، وإن كانت أقل شأناً من الكينوا على وجه العموم. 



هي حبوب كروية بالغة الصغر، تأتي من شجرة أهم ما يذكر عنها أنها شجرة بالغة الجمال، تحافظ على زهاء ألوانها حتى بعد قطعها. منع الاسبان، كعادتهم، زراعة هذه الشجرة على العباد حينما استولوا على بلدهم، وذلك للربط النبتة بأساطير دينية لدى الشعوب الأصلية. وبالواقع، أتصور بأنها ظلت تزرع على نطاق ضيق في المناطق النائية، مثل الكينوا، التي كانت محل ازدراء الاسبان المتكبرين، بوصفها طعام الفلاحين.
لم أتوقع صدقاً أن أجد الامارانث أبداً، فذكره أساساً نادر. بالطبع، اشتريت علبة منه، إلى جانب الكينوا السوداء والحمراء. مشترياتي الأخيرة سببت تشويشاً لوالدتي، فهي ليست الكينوا التي تعودت على طبخها، حتى أنها صارت تتفنن وتطبخ أطعم كبسة يمكن تخيلها بالكينوا التقليدية.

بدأت والدتي بطبخ الكينوا السوداء، ورغم تأكيدي على عدم طبخها لأكثر من نصف ساعة طبختها لثلاث ساعات، لأن قوامها رفض أن يرق، وقد تساقطت الجذيرات الصغيرة التي تمتد إلى خارج الحبة بالعادة عند الاستواء، لطول فترة الطبخ وإضافة الماء. الكينوا السوداء أساساً ذات قشرة قوية، ليست قاسية تماماً لكنها متماسكة، يشعر المرء بها تتكسر تحت أسنانه، وهو شعور ممتع صدقاً. طعمها جيد، لكن لعل المتعة تكمن في قوامها الغريب أكثر من طعمها. في المرة الثانية كانت الطبخة ناجحة، بعدما فهمت والدتي أنها مختلفة عن الكينوا السابقة




. أما الكينوا الحمراء فهي أطعم بوضوح، أغنى نكهة من السوداء، وتقع بالمنتصف من حيث القوام بين البيضاء العادية والسوداء. وجدتها لذيذة جداً، لكني لم أتذوق الكينوا العادية منذ فترة طويلة، فلست متأكداً أيها أغنى بالنكهة. بيد أن السوداء أكثر قابلية للإضافة على الاطعمة الأخرى في رأيي، وقوامها غير المعتاد مصدر متعة عند المضغ لا يمكن تجاهله.




وجدت  أن طبخ الكينوا غامقة اللون مع الأرز يجعله منه أطيب، فحفاظها على قوامها مقابل طراوة الأرز يجعل التجربة مختلفة، وهي تضيف كذلك العناصر التي يفتقدها الأرز، وهو بالواقع يفتقد الكثير بما أنه مقشور، بينما تملك الكينوا الكثير.
أما الأمارانث، فهو لذيذ وجيد، ولكنه أكثر حياداً من حيث النكهة من الكينوا، وأكثر قابلة للتنويع بالأطباق منها. تشبه الكينوا بالعادة بالكسكس لدى الغرب، رغم أني لا أرى الشبه من حيث الطعم صدقاً، أو حتى الشكل، إلا اللهم بالحجم، لكنهم يقصدون إمكانية إضافتها إلى مختلف الأطباق، كالسلطة والمرق، خلافاً لطبخها كالأرز. أما الأمارانث، فلا يستغرب المرء إن طبخ كالأرز، أو قدم كالمهلبية، وهو سريع التأثر بالطبخ. أول مرة كان قوامه غير متماسك بقدر الجريش، إذ أن والدتي لم تصدقني حينما قلت بأن الماء يكون ضعفي كمية الحبوب، وأضافت أكثر بكثير. لكنه كان لذيذ جداً في كل الأحوال.


طلبت لوالدتي من الخارج قبل فترة بذور الشيا، وهي كذلك من الأطعمة الخارقة، وذلك بعدما بحثت بالأمر، وقرأت لها عدة مقالات أثارت حماسها حينما كنا في سويسرا، إذ أنها تحوي الكثير مما تحتاج إليه والدتي من مغذيات، خصوصاً الاوميقا ٣ والكالسيوم، إلى جانب فوائد كثيرة أخرى. وهي قابلة للإضافة إلى أي شيء. لكن حينما وصلت البذور خافت والدتي من تناولها لفترة مما أحبطني جداً، لكنها اقتنعت شيئاً فشيئاً بإضافتها إلى طعامها بكمية صغيرة. هذا أفضل مما جرى لزيت الساتشا انتشي، وهو زيت ممتاز وخارق، تذوقته لمرة واحدة قبل تركه.
المشكلة هي أن السمك هنا غير عملي ومكلف، وفي ظروفنا يصعب حقاً التنويع كثيراً، حيث أن طبخ السمك يحتاج إلى إعداد على خلاف طريقتنا المعتادة، وهو مجهود لا قبل لوالدتي به، ولا أظن الخادمة لديها الالتزام الكافي. أتيت بسمك سلمون، أطعم سمك تذوقته وأحبه، لكن والدتي رفضت تناوله، لأنه ذكرها بالتونة (غطت خبزة ذات مرة في التونة بالخطأ فزعقت زعقة مدوية دون أن تستطيع رفع يدها من الصحن، فوبيا ربما). عرفت أن المشكلة لدى والدتي تقع في الأسماك الدهنية ككل، رغم أنها الأكثر فائدة على حد علمي. والسمك الآخر يصعب أخذه طازجاً، أما المجمد المستورد من آسيا فيحذر منه لسبب ما.








توفي عمي، رحمه الله، قبل أسبوع. حينما أخبرتني والدتي، كان ما خطر في ذهني هو ابنته الصغرى، كيف ستشعر؟، إنها الأخيرة غير المتزوجة، وفي نظري، ولفارق العمر، لا زالت طفلة. كانت والدتي تشاركني الإحساس على ما يبدو، إذا لا زالت تخصها بالدعاء، خلافاً للجميع، وهي تبكي. ذهبنا للصلاة عليه، وكانت والدتي تمشي بصعوبة، بمساعدة أختي. لم أتمكن من تقديم العزاء بالمسجد أو مرافقة الجنازة، إذ كان يجب أن أعيد أمي وأختي إلى المنزل. ذهبت في اليوم الثاني، إلى منزله الثاني، حيث تقيم ابنته الصغرى وخالتي، زوجته الثانية. كنت قد دخلت ذاك المنزل مرة واحدة قبل سنوات طويلة؛ كنا قد ذهبنا أنا وابن عم لي لإيصال غرض إلى عمي رحمه الله رحمة واسعة، وكان لتوه اشترى البيت وبدأ بتأثيثه، فأخذ ابن عمي، وأنا بالتبعية، إذ لطالما كان الآخر أقرب إلى قلبه، ليريه المنزل. مازحنا وهو يرينا المكان، وقد كان سعيد بخياراته. قلبت نظري بالمجلس، حيث أجلسونا في العزاء، بدا أنني رأيت المكان منذ عهد قريب، حينما أفكر به على نحو مجرد. احتج أحد أبناء عمي بأنه لم يرني منذ زمن بعيد، وهو يقوم بهذا بالعادة لتبيان تقصيري على ما أعتقد، وهو محق، صدقاً. فوجئت بآخر يسألني عن حالي، لم يكن هذا معتاداً، لكني سعدت به. في تلك المناسبة، يتمنى المرء لو تصفوا القلوب، ولو قليلاً، ولو لبعض الوقت.
في وقت لاحق، اتصلنا بخالتي الأولى، سلمنا عليها وعزيناها، إذ أنها ليست بالرياض. سألتها عن ابنتها، التي رُدت إليها لفرط تأثرها، قالت بأنها بخير. لطالما بدت لي ابنة عمي هذه قوية من حيث الشخصية حينما كنت صغيراً، قوية على نحو خارق.


لقد تباعدنا كثيراً. كانت المناسبات والزيارات العائلية بالطفولة مدعاة للاحتفال بالنسبة لي، وكان يخيل إلي بأني أحب الجميع والجميع تقريباً يحبني، شأن كل الأطفال فيما أحسب، وأرجو. لكن، لقد تغير الكثير مع العمر، لقد عرفت أكثر، وقد اتخذت الكثير من المواقف، وصار علي أن أتحمل أكثر، ولم يبدو أني بحاجة للتحمل طوال السنوات الفائتة، ولم يبدو أن هناك ما يستحق الجهد. لكني أتمنى الآن أن أحاول أكثر، مجرد محاولة، لأرى، هل يمكنني القيام بالأمر؟ هل يمكنني أن أعود بالعلاقات والمعرفة إلى حالها بالطفولة؟. لا أظن أن هذا ممكن، إنه يشبه الآمال السخيفة التي يعقدها البعض حينما يحالفهم الحظ، أو يكونون سعداء على نحو مفاجئ، هذا يذكرني بتغير إخوتي المؤقت حينما يتزوجون، أو يحصلون على بعثة دراسية، أو حتى مديري، حينما يتحقق أمر أراده، فيسعد. لم أكن آخذ هذا النوع من التغير والمحاولات المرافقة لتصحيح الأمور المشكلة على محمل الجد، إذ أني أدرك وقتية هذا التغير وسذاجته.
بيد أني وجدت نفسي للأسف راغب بالتغيير للأفضل كذلك حينما واجهني هذا الحدث الحزين، وليس بمواجهة حدث سعيد شأن ما كنت ألاحظ على الآخرين، لكن ما الفرق؟، أعتقد أني حزين، حتى في أبلغ حالات سعادتي. السعادة لحظية، والرضا أكثر ديمومة.




سعد الحوشان

الاثنين، 3 فبراير 2014

كمين القلوب (ما سقط سهواً،متنوعات عن الرحلة،المعتاد،قصيدة)

بسم الله الرحمن الرحيم





أعادني الحظ وبقيت روحي بمنفاها...
وظل قلبي في كمين القلوب ومهواها...
أين زهيرات الانديز وفراشاته...
أين أهله وحدائقه وساحاته...
أين الصحاري المغايرات بأنهارها...
أين السهول والمراعي وحيواناتها...
ألا أيها المحيط الأبدي خذني بأحشائك...
واحبل بي هوناً تسعمئة عام رجعية...
ثم بمخاض يسير الفظني...
برفق على شواطئ تلك الأرض النقية...





مرت الأيام الآن، دون أن يخيل إلي أن الرحلة صارت بعيدة العهد، لا أدري ما السبب. إني أنظر إلى الشهور وأشعر بالضيق، وكأنما بازديادها تفرقني وجودياً عن ذكرى جميلة.
عموماً؛ أردت أن أتحدث هنا عن بعض الجزئيات الجانبية من الرحلة، كتجربة المطارات المختلفة، وما نسيت ذكره خلال رصدي للرحلة في التدوينات السبع الفائتة، خلافاً للمتفرقات المعتادة.


أتذكر أمور متفرقة أحياناً، أكون قد نسيت أن أذكرها في التدوينات الأساسية عن الرحلة، مثل قرية في تشاتشابوياس بالشمال، ينشط أهلها بصنع الفخاريات الجيدة، ولهم أشكال مختلفة عن أهل المنطقة الأصليين، يكمن السبب في التاريخ البعيد. كان الإنكا قبل وصول الأسبان يلجأون إلى إعادة توطين أهل القرى والمدن الذين يثورون أو يسببون المشاكل في مناطق اخرى، وأهل هذه القرية هم بالواقع من العرق الذي ينتمي إليه الإنكا في جنوب البيرو حالياً وفي قلب الانديز، وقد وطنوهم الإنكا منذ ذلك الوقت في الشمال، حيث لا زالوا يعيشون ويمارسون أنشطة أجدادهم، ويعرفون بتاريخهم وانتمائهم الأصلي.
إن تأثير الإنكا على الحياة لا يزال حاضراً بقوة، ومع ازدياد الوعي والحس القومي لدى أهل الجنوب، أو الكيتشوا كما يسمونهم، يرى المرء توجه مختلف للبلد وثقافته على وجه العموم. مع أن المرء يلاحظ ضيق أهل الشمال باستحواذ الجنوب وتاريخه على الاهتمام، وربما اعتزاز أهل الجنوب بتاريخهم وثقتهم المتزايدة بأنفسهم. وبالواقع، يرى المرء أن أهل الشمال أكثر انهزاماً ثقافياً من أهل الجنوب، حتى الأصليين منهم. أتخيل بأن هذا عائد إلى العمق الحضاري المختلف في الجنوب. إذ رغم قيام حضارات عظيمة في الشمال، آثار عبقريتها لا زالت موجودة، إلا أن الطموح كان دائماً يأتي من الجنوب، حيث تبدأ الحضارات الجنوبية توسعها دائماً على حساب الشمال، مثل الإنكا وقبلهم الواري، الذين ورثهم الإنكا، والجنوب الأبعد الأقل تحضراً من الناحية المادية (تشيلي وشمال الأرجنتين حالياً). يخبرك أهل الشمال بمرارة بأن الإنكا استفادوا من خبرات أسلافهم في حضارتهم، وكأن هذه نقيصة، في تجاهل للبعد الحضاري للاستفادة والإندماج. قالوا لي بأن تومي، آلهة مشهورة على مستوى المنطقة، إنما تبناها الإنكا من حضارة قائمة في لمباييك بسطوا نفوذهم على أهلها، رغم أن هذا في رأيي أمر مذهل، هذا الإنفتاح والتواضع الحضاري. يقولون لي بأن الإنكا مثلاً استفادوا من خبرات حضارة تشيمو بالهندسة المائية، ولكن هذا أمر رائع. يحاول بعضهم تقويض أهمية الحضارة التي توسعت ونظمت المنطقة، لتخيلهم بأنها بالواقع تغطي على إرثهم الأصلي، رغم أن هذا غير صحيح. كان أمر غير سوي هذا الاستهتار في رأيي، ومثله الإنهزام. قيل لي، بنوع من السخرية، أن أهل الجنوب أكثر تمسكاً بالتقاليد وبالهوية الأصلية، أما أهل الشمال فهم أكثر انفتاحاً، لكني لم أرى سوا أنهم أكثر تغرباً، وإن يكونوا بالواقع محافظين كذلك ومهتمين بالهوية نوعاً ما. أتصور بأن الأصليين من المناطق الشمالية لا يرون الغزو الإسباني خسارة لهم بقدر ما كان خسارة لأهل الجنوب. نعم، إنهم يدركون أن الغزو كان خسارة لهم، لكن لم يبدو لي أنهم يشعرون بمرارة تساوي مرارة أهل الجنوب، الذين يصفون أحياناً الخسائر الثقافية والحضارية التي خلفها الأسبان.
وعموماً، أعتقد أن الشعور المتزايد بالهوية الأصلية ينبع من الجنوب دائماً. بينما غالباً ما كانت النخبة الحاكمة ذات أصول اسبانية مع الأسف، إلا أنه يبدو أن هناك تغييراً في بعض الدول في المنطقة. كان رئيس بوليفيا، وهي مجاورة للبيرو وجزء منها كان تحت نفوذ الإنكا، هو أول رئيس من السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية. كذلك، يوجد مطالبات بتدريس أكبر لغتين أصليتين بالمدارس، لغة الكيتشوا والايمارا. وقد أثير جدل قبل سنوات لاداء نائبة جديدة بالبرلمان القسم بلغة الكيتشوا، حيث احتج الغالبية، وهم اسبان الأصل على ما أعتقد، بوقاحة قل نظيرها.
إن الناس هناك من ألطف من قابلت عموماً، خصوصاً خارج ليما. إن الناس في ليما ليسوا سيئي الطباع على نحو خاص، لكنها مدينة تجمع كل من هب ودب، مثل الرياض، لذا لا يعول المرء كثيراً على طبيعة أهلها، خصوصاً أنه يوجد تركز كبير لذوي الأصول الاسبانية والأجانب فيها، على الأقل في المنطقة التي تمشيت فيها، حيث أن الأحياء العشوائية والفقيرة تمتلئ بالسكان الأصليين. لا زال توزيع الثروة والدخل هناك غير عادل، أعتقد مثلنا كذلك، وقد قرأت بأن ذوي الأصول الأسبانية لا زالوا عموماً يسيطرون على مقاليد الأمور ويتسببون بهذا الخلل، وإن كان الوعي ومحاولات التغيير في ازدياد كما قرأت، ومن مؤشرات ذلك ما أشرت إليه من دخول النواب الأصليين البرلمان، وقد سمعت كذلك أن الرئيس الحالي ذو أصول أصلية أو مخلطة على الأقل، وهو رئيس جيد بوضوح، يميل للعمل والأداء، وليس للظهور والخطابة كغالبية الرؤساء في أمريكا الجنوبية. ورغم أني سمعت أكثر من شكوى من الناس هناك، لأنه لا يحب الظهور كثيراً، إذ يبدو أن أهالي تلك البلدان اعتادوا على دراما السياسيين ومسرحياتهم العجيبة، مثل مسرحيات رؤساء فنزويلا والارجنتين والاكوادور وحتى بوليفيا الأبسط برئيسها من السكان الأصليين.
البيرو حالياً هي أسرع بلدان أمريكا الجنوبية نمواً، وأسرعها رأباً للصدع بين الفقراء والأغنياء، ورفع مستوى المعيشة. ويبدو أن هناك اهتمام حقيقي بالتعليم يأتي بنتائج، على عكسنا.

في إعتقادي، لدى البيروفيين الأصليين، وهم الغالبية العظمى، مشكلة جماعية في النظرة إلى أنفسهم وإلى الأجانب. أعتقد بأنهم لم يتخلصوا بعد من صدمة الغزو والاحتلال الاسباني قبل أكثر من 500 عام. إنهم شديدو اللطف والبساطة على وجه العموم، لكنهم يعانون بوضوح من مشاكل بالثقة بالنفس، واهتزاز في رؤيتهم لهويتهم، حيث أنهم أُفقدوا الثقة بقيمتها على مدى طويل وبطريقة قد تكون ممنهجة. إنهم في ظرف أفضل الآن، ولم يعد الخضوع لثقافة أخرى مفروض عليهم، لهذا يجدون أنفسهم أمام المزيد من الخيارات والتحديات، وبالنسبة لكثير منهم، يشكل هذا تشويشاً، ورغم أنه قليل من الشعوب، في ظروف تاريخية أفضل، لم تعد سالمة من التشويش والشعور بالضياع، إلا أن الأمر منطقياً مضاعف بالنسبة لسكان البيرو الأصليين في رأيي، ومن شاكلهم من ضحايا الأوروبيين.
لكن حسبما قرأت، بدأ الاتجاه إلى تعزيز حضورهم في شئون الحياة المهمة يقوى ويزداد أهمية لدى ذوي العمق الفكري منهم منذ منتصف القرن الفائت. وهم الآن على ما أعتقد يجمعون شتات كرامتهم ويستعيدون توازنهم، أو يحاولون بجد.
لاحظت بأن عمومهم لا يتوقعون دائماً لفتات اللطف والاحترام، ويكون تقديرهم لها مخلوطاً بالذهول في أحيان كثيرة. وأتصور أن هذا مرده إلى الرؤية الدونية المؤسفة تجاههم من قبل الآخرين.
بيد أن بعضهم ممن قابلت وحادثت على جانب كبير من الوعي، دون فقدان للطف المميز وبساطة التعامل، ولعل هذا مرده إلى ترويج الوعي القومي المتزايد والحرص على التعليم والتعلم عن الآخرين.
لكن مع ذلك، لا زالت الحياة العامة والحديثة تتجاوز أو تتجاهل تقاليد الأصليين وحضورهم. بالتلفاز، لا يرى المرء علاقة بين أشكال وحضور الظاهرين بالدعايات والغالبية العظمى ممن يرى بالشوارع. ترى بالتلفاز أشخاص لهم مظاهر أسبانية، وأحياناً أشكال تتخطى حتى المظهر العام المتوقع من الأسبان إلى الأوروبيين الخالصين، وأساليب الحياة الغربية المنمطة يروج لها بشدة على التلفاز.
ماذا بوسعي أن أقول عن المطارات؟ إني غير مجرب إلى حد بعيد، لكني لم أتوقع بعض الأمور صدقاً. مطارنا بالرياض، كالعادة، مكان شديد البرودة معنوياً، شديد الجلافة، وكأنما كل ما فيه، خصوصاً العاملين به، مجرد تماثيل ذات أشكال تلقي الهم بالنفس، وهذا ينعكس على مرتاديه كذلك، على نحو مفهوم.

سافرت على الخطوط البريطانية في ذهابي إلى لندن، محطتي الأولى. وقد ذهلت من جودة الخدمة، والتهذيب الشديد الذي كان العاملين عليه، إنه تعامل راق على مستوى شخصي. ورغم أني لم أجرب السفر كثيراً كما أسلفت، إلا أني خلال الرحلة ومروري على بضعة خطوط عرفت أن الخطوط البريطانية خطوط لا غبار عليها إجمالاً.

كان هبوطي الأول في مطار هيثرو في لندن خلال ذهابي. كنت قلق جداً، لعلمي بضخامته. لكن حالما هبطت الطائرة أرشد كابتن الطائرة المسافرين بطريقة سلسة ورائعة، مع إعادة باللغة العربية من قبل مضيفة. قال فقط بأن من سيواصلون رحلتهم يتبعون اللوحات ذات اللون الفلاني، ومن سينزلون في لندن يتبعون اللون الآخر. كان هذا نصف القصة عموماً، لكن حتى النصف الثاني لم يكن صعباً أيضاً. وكان العاملين بالمطار غاية بحسن التعامل والذوق إجمالاً، ولا خلاف لديهم على إرشاد المرء، خلافاً لما يشاع لدينا. إذ استوقفت عامل شحن أسود، وأرشدني بلطف لما أحتاج.
هو مطار ضخم، ولكن يسهل على المرء فيه أن يجد طريقه، إذ أنه منظم على نحو رائع جداً، بحيث يصعب الضياع حينما يجد المرء المسار الصحيح.
حينما وصلت قرب بوابتي كان علي الانتظار لوقت طويل، فتمشيت في محلات تبيع مختلف الأشياء. كان المكان أشبه بسوق، لكني لم أكن مهتماً بشراء شيء، سوا كتاب أثار اهتمامي واشتريته في طريق عودتي.

واصلت الرحلة من لندن إلى ميامي في أمريكا، على الخطوط الأمريكية. ويرى المرء الفرق بين الشركتين على نحو واضح. إنه لأمر غريب أن تختلف ثقافتين بأمور مؤثرة رغم تشابهما من حيث المبادئ إلى حد التطابق. حالما جلست في مكاني لاحظت أن المضيفين والمضيفات نافدي الصبري، مباشرين بصفاقة وغفلة. رأيت مضيفة يشرح لها راكب وزوجته أمر ما، فأوقفتهما بيدها قائلة: هذا كل ما أحتاج إلى سماعه، وحينما حاول أن يبين أكثر كررت بطريقتها الشوارعية، ثم شرحت له ما بدا أنه يشكل عليه، ويبدو أنه يتعلق بشئون الهجرة، أي أنها لم تكن غاضبة. وهم يتكلمون عموماً وكأنما هم منزعجين من العمل والاضطرار للتعامل مع الناس.
أما الشيء الغريب فكان الطعام على تلك الرحلة. لم يتوقفوا عن إطعام الناس، تارة وجبات كاملة، وتارة أطعمة خفيفة، حتى صرت أرفض عرضهم للطعام، إذ لم يكن هناك مجال لأكل كل هذا. حتى الوجبات كانت كبيرة على نحو غريب، بكميات لم أرها على خطوط أخرى.
كنت متحمس لشيء معين... كان الكولا. كنت أريد أن أتأكد إن كان الكولا سيكون جيداً. وكانت العلب منتجة في أمريكا. لم يكن جيداً، ربما أفضل بقليل لما يعلب لدينا، لكنه ليس جيد، وليس بجودة ما أشرب في برقركنق، أو شربت بالبيرو. ربما كان هذا لاستخدامهم شراب الذرة للتحلية بدلا عن السكر، إذ أن هذا شيء منتشر في أمريكا، استبدال السكر بشراب الذرة، لأنه أرخص بالنسبة إليهم لإنهم ينتجونه بكميات ضخمة، على عكس السكر الذي يستوردونه على حد علمي.
إلى جواري، ويفصل بيني وبينهم الممر، رجل هندي مسن بالثمانين من عمره، وزوجته من نفس العمر. وهم هندوس. كانوا لطفاء، دائمو التبسم تجاهي، وقد رأيت الزوجة تلفت نظر زوجها إلي؛ لعلها تقول بأني أشبه أحد الأقارب.  ساعدتهم بفتح علب الكولا، إذ لم يستطيعوا فتحها بأنفسهم، وملئت لهم الاستمارات المطلوبة في المطار الأمريكي لسلطات الهجرة، إذ لا يعرفون الكتابة باللغة الانقليزية. كان الشيخ يتحدث بلغة انقليزية على جانب من الضعف. لسوء حظهم، العجوز خصوصاً، أن أمامهم عائلة أوربية شرقية، رجل وزوجته وطفلتهم الرضيعة، وكان الرجل أمام العجوز قليل ذوق بصدق، يميل المقعد إلى أقصى حد عليها، حتى آلم ركبها، وكلما لفتوا انتباهه رفع الكرسي، ثم عاد وخفضه بعد دقيقتين أو ثلاث بقلة إحساس غير معقولة. حتى المضيفة أفهمته بلا فائدة، فكفت العجوز عن تنبيهه. كانت مرهقة في تلك الرحلة الطويلة، ولم تتمكن من النوم. عرضت عليها مبادلة المقاعد حتى تستريح قليلاً، ووافقت ونامت مباشرة. تحدث زوجها معي، متسائلاً من أين أنا، وأخبرني عن نفسه. هو رجل هندوسي على جانب من الثراء، يملك مصنعين ومزارع، لكنه لم يتعلم كثيراً. وهو يزور كل بضعة أشهر ابنين وابنة له مقيمين في أمريكا، يعملون أطباء ومهندسين، بعدما اهتم جيداً بتعليمهم. سألني إن كنت متزوجاً، فلما نفيت تسائل لماذا، وحاول إقناعي. قال لاحقاً بأني سأدخل الجنة، لم أستوعب رغم قوله جنة باللغة العربية إلا بعدما أوضح بتأكيد بأنها الجنة التي لدى المسلمين كذلك وسواهم، قائلاً بأن أمثالي لا بد أن يدخلوا الجنة. شكرته على رأيه، ولكنه أوضح أنه ليس بالأمر مجاملة، فالجنة للناس الطيبين.

نزلت في مطار ميامي. هناك تعرفت على حقيقة جديدة، ذكرتها بالتدوينة السابقة؛ السود الأمريكان ليسوا لطفاء إجمالاً. إنهم على جانب كبير من السوقية وسوء التهذيب وقلة الصبر. كان هناك فتاة سوداء تنظم الناس وكأنهم غنم، وتصدح بصوتها بأبعد أسلوب عن الذوق. لحسن الحظ، كان مسؤول الهجرة رجل أبيض طيب، لعله في أواخر الأربعينات من العمر، نظر إلي بتأمل، وتسائل لماذا أذهب إلى البيرو، وأفهمني بأني يجب أن أملأ استمارة غير التي ملأت، وحاول أن يكون متساعداً. كنت مرتبكاً إلى حد بعيد، لكنه حاول أن يكون مُطمئناً. قال لي حينما فرغت من عنده: لا تقلق، وكررها. أعتقد بأنه لسبب ما تعاطف معي.

ذهبت لأنتظر الحقائب، وقد استغرقت وقت طويل جداً لتصل؛ ففي المطارات الأمريكية، حتى لو كنت عابراً، يجب أن تستلم حقائبك وتمر بها على التفتيش، على خلاف ما يجري في بريطانيا، وهذا أمر سخيف، لكن على الأغلب يتعلق بوسواس الأمن لديهم.
في ذلك المطار، لا يدري المرء أين يذهب، لا شيء واضح، ليس مثل هيثرو. وجدت امرأتين لاتينيتين خلف طاولة استعلام، يتحدثن بحماس عن شأن في حيات إحداهن على ما يبدو، لكنهن كن لطيفتين وساعدنني بابتسامة. وقفت في صف طويل، وكان هناك كثير من التذمر. كانت أمامي امرأة لا أدري من أين هي، لعلها في الخمسينات، وتكلمت عن طول الصف، وسألت من أين أنا، وتبسمت. لسوء الحظ، كان من سيفحص جوازي أمريكي أسود، نافد الصبر، كريه إلى أقصى حد. بعده مررت حقائبي في جهاز، وسألوني عما بها، ويبدو أن الرجال السفهاء الذين يراقبون الجهاز قد وجدوا ما يضحك في حقائبي، ولا أدري ما هو، ولكنهم على الأقل انتظروا حتى ابتعدت ليضحكوا، وهم رجال بيض. وربما لو كانوا سوداً من ذلك البلد لقالوا النكت أمامي، من يعلم؟.

لم أدري أين أذهب، لا يوجد علامات واضحة على البوابة، بالكاد وجدت طريقي، وقد تأخرت كثيراً، كثيراً، حتى كدت أخشى فوات الرحلة، بسبب الإجراءات الطويلة والغبية رغم أني لن أنزل في بلدهم. وبالواقع، كانت الرحلة قد أوشكت على المغادرة، فلو ظللت طريقي أكثر، ومع تباعد المسافات بالمطار، لفاتتني الرحلة. إنه مطار غبي حقاً، ليس بسبب الإجراءات فقط، لكن لعدم تنظيمه على نحو بديهي.
إلى جانب البوابة حيث سأصعد إلى الطائرة، تواجد محل ايسكريم، يبيع فيه شاب لطيف جداً، لاتيني، لا يحسن الانقليزية كثيراً، فقط بعض كلمات، وحاول ممازحتي، لانه يبدو أنه بطبيعته محب للناس. كان الايسكريم لذيذ.
أما البوابة، فقد أثارت اهتمامي لأني رأيت الكثير من البيروفيين الأصليين، وكان الجو على جانب من الصخب، وكأنما يجمع الناس حس احتفالي غريب.

الحمامات بالمطار غير نظيفة عموماً، ويبدو أن الناس هناك لا يحترمون النظافة العامة في الحمامات مثلنا تماماً.

حينما صعدت الطائرة المتوجهة إلى ليما كان مكاني فيها إلى جانب امرأة مسنة من السكان الأصليين، وحاولت محادثتي بالاسبانية، وبدا عليها الاضطراب الشديد، كان لديها شيء مهم لتقوله، لكني لم أفهم، قلتُ بعجز: نو اسبانيول. ابتسمت لي بارتباك، وكأنما وقَعَت في ورطة. ناداها رجل مسن، ضخم الجثة ذو حضور رزين، من جنسها، وقالت له بأني لا أتحدث الاسبانية. أشار إلي الرجل الواقف عند كرسي آخر بعيد، في الممر الموازي من الطائرة، فذهبت إليه مسرعاً. بكلمات انقليزية قليلة قال بأن تلك زوجته، وأن هذا مقعده هنا. فهمت مباشرة، وأخذت بطاقته وقلت مبتسماً: حسناً، وأعطيته بطاقتي. حينما هممت بالجلوس استوقفني، وبدا مذهولاً، ومد يده مصافحاً، وقال بالانقليزية: شكراً.
أما من كان إلى جانبي هنا، فكان رجل، كالغالبية العظمى من الموجودين، من السكان الأصليين، وبدا بأنه على مستوى عال من العلم، حيث كان يراجع ويكتب أموراً عن الكيمياء في أوراق كثيرة معه وعلى الحاسب كما لاحظت. لكن، بدا وكأنه متضايق مني بشكل ما. جائت مضيفة، وكلمتني باللغة الاسبانية، وكنت أنتظرها لتفرغ حتى أخبرها بأني لا أفهم، لكن الشيخ الذي بادلته المقعد صاح من جوار زوجته بعيداً:"نو اسبانيول!!". كان يتابع أمري من بعيد. أعتقد أنهم يحسبون أني بيروفي.
لسوء الحظ، قلمي توقف عن العمل، وهو قلم منحني إياه الدكتور الألماني هدية منذ فترة طويلة. كنت خجلاً جداً، لكني تجرأت بالنهاية واستعرت من جاري قلمه، وأعطاني إياه بصمت، وإن يكن بلا تردد. كان يجب أن أملأ استمارة وزعت علينا.
إلى جواري عبر الممر الضيق، جلست امرأة جميلة جداً، بيروفية، ومعها طفلها، لعل عمره سنتين، من أجمل الأطفال الذين رأيت. يبدو أن والده رجل أبيض، إذ أن له ملامح والدته الأصلية، ولكن له الشعر الأشقر الخفيف، والعينين الشفافتين العسليتين. اسمه ايثن. لاعبت الصبي، وكان لعوباً، لكن لم يكن صعب المراس مع والدته، التي كانت فرحة به جداً، لا تمل من ملاعبته.
قبل هبوط الطائرة، بدأ بعض الرجال المسنين بالتحدث بصوت مرتفع جداً، وكأنما هم لوحدهم، ثم بدأوا يغنون ويقلدون عزف الموسيقى بأصواتهم، كانوا مزعجين جداً. وحينما هبطت الطائرة، كلمني جاري أخيراً. أعتقد أنه ظنني أمريكياً. ولما قلت بأني عربي من السعودية، شُده، وربما أُخذ، كان أمر غريب، وبدأ يسأل بفضول، أين سأذهب؟ وكم سأبقى؟ ولماذا اخترت البيرو؟، وظل يحادثني، وكان الناس قد بدأوا بالوقوف استعداداً لأخذ حقائبهم، وقد تجمهروا من كانوا بالقرب علينا، وسألوا الرجل، وأخبرهم بأني عربي. وحينما أنظر كان الناس يبتسمون في وجهي. وجه آخرين بعض الأسئلة كذلك، ورحب البعض بي، بينما هز الآخرين رؤوسهم موافقين.
حينما نزلت، وعبرت الجوازات كما قلت في أول تدوينة عن الرحلة. مطار ليما حديث التصميم، على جانب كبير من العملية والبساطة، لا يوجد بهرجة واستعراض هندسي، لكن التنقل فيه واضح جداً، ولا مجال للضياع. وهو بطبيعة الحال أصغر من المطارين السالفين، وأصغر من مطارنا حتى، لكنه ليس مثل مطارات المدن الصغيرة الأخرى طبعاً.
وجدت فتيات من شركة اتصالات، يعرضن على القادمين شراء شرائح سياحية. وكن من شركة قرأت لكثير من الأجانب ممن ينصحون باستخدام ارقامها على الانترنت، لكني لاحقاً اعتقدت بأنها أقل جدوى من شركة أخرى منافسة، يلجأ إليها البيروفيين أكثر. تقول كارلا بأنه ربما تكاليف الاتصالات الدولية أقل في الشركة التي اشتريت، لكني لا أعتقد هذا.
لم أعرف كيف أتصل بكارلا، وصادفت جاري بالطائرة، الذي جاء ليسألني إن كان كل شيء على ما يرام. أخبرته بالمعضلة، فساعدني بالاتصال عبر جواله، لكن جوال كارلا كان مشغولاً.
عند استلام الحقائب، لاحظت أمر شديد الغرابة؛ العاملين هناك يتواصلون عن بعد بالصفير، صفير أشبه بتغريد الطيور، التغريدة تجيب الأخرى بصوت ونمط مختلف، وكأنما هي لغة، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى التحدث. يشعر المرء في لحظات معينة، حينما يستمع إلى "الحوار" الصفاري، بأنه في حديقة غناء.
وعلى وجه العموم، لاحظت أن الناس هناك، خصوصاً بالمجتمعات الصغيرة الأصلية، ماهرون بالصفير، على نحو لم أسمع مثله من قبل.
تذكرت ذلك الحين برنامج وثائقي قديم جداً، رأيته حينما كنت في الثامنة على الأغلب، عن أهل جبال الانديز، وتواصلهم من مختلف القمم وعبر الوديان بالصفير.
بيد أن المرشدة في تشاتشابوياس، حينما سألتها لماذا يصفر الرجال لسائقنا، قالت بأنهم أصدقاؤه وهكذا يلفتون انتباهه، ولكن هذا السلوك ليس مهذباً.

المطارات الأخرى بالبيرو كانت بسيطة، وصغيرة كما هو متوقع. مطار كوزكو كان على بعض الفخامة المعقولة، لكن ليس بمستوى مطار ليما، العملي أساساً.

عند مغادرتي مطار كوزكو إلى بويرتو مالدونادو، كانت رحلتي قد تأخرت كثيراً، حتى أن البوابة لم تفتح، ولم يبدو أن هناك أي إشارة إلى الرحلة. قلقت بشدة. وبعد وقت طويل كلمت موظفة، يبدو أنها مشرفة، تقف قرب أجهزة تفتيش الحقائب، ولم تكن تتحدث الانقليزية، لكنها اهتمت كثيراً بفهم ما أريد، ربما لكوني توترت كثيراً، ولم أفهم لماذا لا يوجد إشارة في أي مكان إلى الرحلة. حينما فهمت مشكلتي، بعدما أخذت أوراقي وفهمت بضع كلمات، أشارت علي، بصرامة شخص يتحكم بعدة موظفين، أن أجلس بالقرب من موقعها وأن لا أبتعد، واستخدمت جهاز الاتصال اللاسلكي لبعض الوقت. ثم جعلت أحد ما يخبرني بأن الرحلة لم تلغى، وأنها فقط تأخرت وستوضع شاراتها عند البوابة قريباً، حيث سيأتي موظفيها. كان الموظفين على البوابة منذ وقت طويل تابعين لشركة أخرى، ولم يساعدوني بطبيعة الحال، ولم يكن لديهم معرفة بأمر الرحلة الأخرى.

كنت قد سافرت على حافلات هناك لساعات طويلة، وذلك لأني أردت زيارة مناطق غير مطروقة كثيراً من قبل السياح، ولا مطارات فيها. كنت في الدرجة الأولى بالحافلة، وهي تختلف حقاً عن الدرجة المتأخرة، المقاعد مريحة جدا، ويوجد مضيفة تقدم الوجبات اللذيذة والمشروبات، ويوجد حمام نظيف، ولا أدري عن الدرجة المتأخرة. وقد حيرني وجود درج في الحافلة، وكنت أواجه صعوبة بالفهم أين يجب أن أتوجه، ربما لأني لم أعتد الحافلات، إذ لا نقل عام بالرياض، وحينما أسافر داخل المملكة يكون هذا بالسيارة عموماً، سوا مرة واحدة بالحافلة، ولم يكن هناك شيء مميز. لحسن الحظ، كان الناس يتعاطفون معي كثيراً في محطات الحافلات والأماكن العامة، حينما يرون بأني لا أدري أين أذهب ولا أستطيع التواصل جيداً لعدم تحدث الأغلبية للإنقليزية، فيبذلون جهدهم لمساعدتي.
وعلى وجه العموم، الحمامات العامة بالبيرو نظيفة جداً، على الأقل مما رأيت. في محطات الحافلات مثلاً، حيث آتي لأسافر بين بعض المناطق، وهي محطات بسيطة وعادية، كانت الحمامات دائماً نظيفة، ولم أرى شخص يدخل لينظف بعد كل مستخدم للحمام، بالواقع لم أرى شخص ينظف رغم أنه بالتأكيد يأتي أحد لهذا الغرض من وقت إلى آخر، لكن حتى الدخول بعد شخص آخر إلى الحمام لا يجعلك تجد المكان قذراً أو متسخاً، يبدو أنه أمر ثقافي، إنه يتركون الحمام نظيفاً بعد استخدامه. أشعرني هذا بالأسف على حالنا كثيراً. إني أمتنع في أغلب الأحيان عن استخدام الحمامات في الأماكن العامة في بلدي كالمطاعم لأنه لا يمكن أن يستخدمها أحد كما يجب، أو يتركها نظيفة بعد الاستخدام، رغم جهود الكثير من المطاعم بالتنظيف. تدخل الحمام وتجد البول في كل مكان، والمناديل الرطبة تتوزع على الأرضية، وإن كان الحمام من النوع العربي فستجد الفضلات على البلاط.

عندما أردت مغادرة البيرو، سألتني الموظفة بالمطار، بعدما استئذنت لسؤالي عن أمر شخصي. سألت لماذا لا ألبس مثل ما ألبس على الجواز؟. أخبرتها بأن ملابس مماثلة معي بالواقع بالحقيبة، لكن قيل لي هنا بأن لا ألبسها، لأنها قد تسبب سوء فهم وخطر من قبل البعض، من حيث السرقة وخلافه.
لكن بعد انتهاء الرحلة، لا أعتقد أن الأمر بالسوء الذي صورته كارلا حينما نصحتني بعدم ارتداء الثوب. ربما في ليما، لكن ليس بالأماكن الآخرى. ولو عدت، سأرتديه على ما أعتقد.

كانت رحلة العودة مرهقة جداً، وأطول من رحلة الذهاب. نزلت في مطار نيويورك بدلاً عن مطار ميامي، وكان مطار نيويورك أكبر بكثير وأقبح، وأهله أكثر فظاظة، ورواده كذلك من الامريكيين كما لاحظت. وكان أسوأ ما بالأمر هو أني لم أجد مكان أخزن فيه حقيبتي حتى تأتي الرحلة، لأن اماكن التخزين في صالات أخرى. وكانت موظفة الطيران فظة، آسيوية أمريكية، وقد طلبت ورقة لم أعطى إياها مناولة في مطار ليما، وأصرت بأني أعطيت إياها، واكتشفنا بالنهاية بأنها دست في جوازي حينما كانت موظفة الطيران تطابق معلوماتي في ليما.
يبدو أن سمعة أهل تلك المدينة نيويورك التي تروج بالأفلام صحيحة.
أخذت دوري في صف لشراء وجبة من مكدانلدز، وكنت متقدماً عن كثيرين جاءوا بعدي، وقد افتعل رجل متأنق مشكلة مع امرأة اخرى، وكلهم امريكان، قائلاً بأنها تعدت على دوره، ولم يبدو لي ذلك، حيث أني رأيتها قبل أن أراه. وأطال الموضوع بسفاهة، لكنها لم تهتم، بعدما حاولت أن توضح بالبداية بلا جدوى.
العجيب كان حجم البرقر، كان ضخماً، أضخم مما يباع لدينا أو بالبيرو، رغم أنه من نفس النوع.
بعد انتظار امتد إلى نصف يوم، وقد غلبني الإرهاق، صعدت الطائرة، حيث نمت كثيراً إلى وصولي إلى لندن. هناك، كان الوضع أفضل قليلاً، لكني لم أعد أطيق الانتظار أكثر، كنت أشعر بإرهاق غير عادي. على الأقل، في مطار هيثرو الحمامات نظيفة، عكس قذارتها في مطار جون كندي في نيويورك، التي تفوقت على قذارتها في ميامي. 
هناك، نسيت جوازي لدى موظف شركة الطيران لحسن الحظ، حيث ذهبت لأخذ بطاقة الصعود. عدت وأعادها إلي غامزاً، مقدراً بوضوح القلق الذي شعرت به حينما لم أجد جوازي معي.
الكثير من العاملين بالمطار هنود الأصل، أو أفارقة، لكن، يا للفرق الشاسع بينهم وبين الامريكيين. إنهم أفضل أدباً وذوقاً وتعاملاً، وفي أسوأ الحالات هادئوا التعامل محافظين على مساحة من الاحترام.
مفتشة حقائب شابة، تفتش الحقائب التي تحمل مع الراكب، وجدت في حقيبتي كريم الشعر، وقالت بأن العلبة أكبر من الحجم المسموح، واعتذرت لأني لا أستطيع الاحتفاظ بها. قالت بأسف بأنها تخشى بأنهم أفسدو إجازتي، وذلك حينما بدى علي عدم الرضا لأن الكريم لم يؤخذ في مطارين سابقين. تفهمت حاجتها لأخذ العلبة، وقدرت اهتمامها بشعوري.

حينما صعدت الطائرة، كان غالبية الموجودي سعوديين، على عكس رحلة الذهاب. ولكن أقرب راكب كان بريطاني، يفصل بيني وبينه كرسي. بدا كرجل أعمال، ومع اننا لم نتكلم، إلا أنه كان يحاول التلطف والتبسم باستمرار، خصوصاً بعدما فتحت له نافذة أمامي ليرى منها، بعدما لاحظ بأنه لا يستطيع أن يرى من نافذتي جيداً.
المضيفات كن مختلفات عن مضيفات الذهاب، كن أكثر صرامة، وقد رفضت إحداهن ترك حقيبة ظهري بين رجلي، كما كنت أفعل طوال الرحلات. لكن تواجدت مضيفة عراقية على ما يبدو، لعلها في أواخر ثلاثيناتها، كانت تلقي بنظرات غريبة ومتأملة تجاهي، وكانت تتصدد حينما تمد تجاهي وجبة أو ما شابه، رغم ردها على شكري بذوق مرتبك، وكأنها لم تتوقعه. أما ما استغربته كان مضيف آخر، شاب، عراقي كذلك ما يبدو، نظر تجاهي بضع مرات بازدراء غير مفهوم، ثم حينما وجدني نائماً ألقى علي خبزة مغلفة كان يوزعها على من يريد. لم أفهم سبب تلك الوقاحة، ولست أتخيل بأن جميع السعوديين عانوا منها على الطائرة، إذ رأيته يتعامل مع آخرين بأدب أفضل. لم أقل شيئاً، لكني راسلت الشركة حينما عدت مشتكياً، وقد ردوا معتذرين، موضحين بأنهم سيتخذون موقفاً من هذا المضيف.


لم أسافر كثيراً، لذا يبدو لي أنه من المحرج أن أتقدم بنصائح وأفكار لمن يريد السفر، مع ذلك، ربما أفادت هذه الأفكار شخص مثلي، لا يسافر كثيراً ولا يعرف.
من أفضل النصائح التي أفادتني جائت من أخي الكبير، نصحني بأن آخذ حقيبة أخرى أصغر من حقيبتي الأساسية، وتكون سهلة الحمل وبسيطة. كنت أشعر بأن هذا أمر لا داعي له، خصوصاً لحملي حقيبة صغيرة على الظهر. لكن تبين أن الحقيبة الأخرى مفيدة جداً، خلال التنقل بين المطارات والانتظار خلال الرحلات الطويلة جداً، وخلال الاستمتاع بالرحلة نفسها بعد الوصول. قد يترك المرء حقيبته الكبيرة في مكان، ويستغني بالحقيبة الصغيرة ليوم أو اثنين، حتى يزور منطقة قريبة ويعود، دون أن يجرجر حقيبته الكبيرة. هذا خلافاً لوضع الأشياء الاحتياطية خلال التنقل بين الطارات فيها، وكذلك لمساهمتها في تخفيف وزن الحقيبة الكبيرة التي يكلف وزنها مالاً حينما يزيد عن حد معين عند الشحن. وأتخيل بأنه يمكن اختصارها بحقيبة ظهر كبيرة، كما رأيت كثيراً بالمطارات، وهذا أمر مقبول، لكني لا أتخيل بأنه مريح حين الوصل إلى الجهة المقصودة والبدء بالتنزه، بحمل كل هذه الحقيبة الضخمة على ظهرك في كل مكان.
أما الحقيبة الرئيسية الكبيرة، فنصيحتي هي أن تكون كبيرة فعلاً، وليست صغيرة، على الأقل متوسطة، خصوصاً لرحلة طويلة وبعيدة، وخصوصاً إذا ما كان المرء سيعود بهدايا، وهي في أسوأ الأحوال يمكن أن تخزن الحقيبة الثانوية إذا لم يجد المرء لها استخداماً.

حينما تذهب إلى بلد غريب، كن مستعداً وراغباً بتكوين صداقات، هذه العلاقات تساعد بجعل ذكرى الرحلة حية، وتكسب المرء علاقات إنسانية بأبعاد قد لا يكون قد استكشفها أو تأمل بها.
لا مفر كذلك من سوء الفهم الثقافي، لكن تصحيحه ممكن جداً، وقد يصنع ذكرى جميلة كذلك.

كن كريماً بقدر ما تستطيع، أعتقد بأن الأمر لا يتعلق بصنع ذكريات جميلة للمرء نفسه فقط، لكن للآخرين كذلك. والكرم لا يكون مادياً فقط، لكن معنوي كذلك. إن المبدأ نفسه مهم في رأيي مثل أي غرض آخر من السفر؛ صنع ذكريات حلوة للآخرين، سواء أهل البلد أو زواره، إنه أمر يصنع المعجزات في العلاقات الإنسانية، ورؤية الناس لبعضهم البعض، ولقلب المرء نفسه.

بالنسبة للتصوير، إن الكاميرات العادية تفي بالغرض بالنسبة لمستخدم عادي في رأيي، أما المحترف فلا يحتاج إلى نصيحتي. لا أقترح الإسراف بشراء كاميرات مرتفعة الثمن، فالكاميرات بخمسمئة أو ستمئة ريال، أو حتى أقل، كثير منها ممتاز في السنين الأخيرة، وتملك مزايا كثيرة، كما أنها سهلة الاستخدام وممتعة.
لكن ما أعتقد أن الكثيرين يغفلون عنه هو مسألة كاميرا الجوال. ما أقترحه هو أخذ جوال جيد في سفرك، بكاميرا ممتازة في حال نسيت كاميرتك في الفندق أو لم تكن مستعداً بها.  يفكر معظم الناس بأخذ جوالات رخيصة معهم حتى إن سرقت لا يخسرون الكثير، لكن كاميرا الجوال ضرورية جداً في رأيي إلى جانب الكاميرا المستقلة. أرى أن يأخذ المرء جوال جيد بكاميرا ممتازة ويحرص عليه جيداً، فهو سيفيد حتى بالتواصل وإرسال بعض الصور إلى الأهل في البلاد.
ويجب تصوير كافة الوثائق المهمة كالجواز والهوية والتأشيرات بكاميرا جيدة، أو باستخدام برنامج سكنر على الجوال، وهو برنامج أنصح بشدة بالاحتفاظ به على كل جوال. ويجب رفع الصور على الشبكة في حساب المرء، على البريد أو خدمات التخزين.
كذلك، البطاريات الاحتياطية مهمة جداً، تلك البطاريات المحمولة التي تشحن كالجوال، ثم يمكن استخدامها بشحن الجوال أو الكاميرا في أي مكان. إنها منقذة للحياة، وبالواقع أحملها معي كثيراً حتى بالرياض.

التأمين الطبي لا يجب إغفاله أبداً. إن كان المرء سيسافر بمساعدة وكالة سياحية فليسأل عنه ويعرف كيف سيستخدمه، وإن كان سيعتمد على نفسه فقط فليشتريه فتكلفته معقولة أمام ضرورته. ذهبت إلى الطبيب مرتين هناك، وقد أفادني التأمين كثيراً وبسط أموري. حتى الأدوية أخذتها مجاناً. لا يدري المرء إن كان سيحصل له عرض مفاجئ أو حادث. لم يحصل لي حادث هناك لكن جرح في قدمي تطور (أعتقد أنه ترك ندبة دائمة فيها، لكنها ندبة حلوة ستذكرني بالبيرو)، وكان يجب أن يراه الطبيب لأن قدمي تورمت وساء حالها.
وهذا ما يمكنني قوله، ربما أوحى بفكرة لأحد ما يرغب بالسفر.

كنت أبحث عن مشروب لوالدتي في دكان صرت أتردد عليه مؤخراً، لكثرة خيارات المياه الجيدة فيه، حينما جاء أحد العاملين، صبي يمني أراه كثيراً، وحاول التعرف إلي. لست أفاجأ حينما يسألني أحد إن كنت من خارج الرياض، خصوصاً حينما لا يكون سعودياً، لكني لم أفهم مفاجئته الكبيرة حينما لم أكن كما توقع، ولم أفهم كذلك لماذا لم يرد أن يخبرني ماذا توقع بالضبط. قلت بأني لست من الرياض، فقال بأنه خمن هذا، فأنا هادئ، وهي ملاحظة سمعتها من الكثير من غير السعوديين في الأماكن التي أتردد عليها، رغم أني لا أرى صدقاً أن السعوديين من فئتي العمرية أصخب الناس. أراد المعرفة أكثر، قلت بأني من القصيم. اتسعت عينيه، لأنه توقع إجابة أخرى، ربما توقع أن يصدق تخمينه مرة أخرى. قال بأني لست مثل أهل القصيم، الذين وصفهم بعدم الهدوء كذلك. إني أشك عموماً بأنه يعرف أهل القصيم؛ فلا يبدو لي أنه عاش هنا منذ فترة طويلة، نظراً للهجته و حضوره وصغر سنه. سألته من أين توقع أن أكون؟ ارتبك، رغم ابتسامتي، وقال من بعيد، ورغم تكرار للسؤال، إلا أنه كرر؛ من بعيد. قلت: توقعت أني من الجنوب؟ قال لا.
أخبرني بأنه يعرف طبيب أمريكي مسلم يأتي إلى الدكان كذلك، وهو يتحدث القليل من العربية، بينما الصبي نفسه يتمنى لو تعلم الانقليزية، وقال بنوع من الزهو أنه يعرف الأحرف الانقليزية، لكن عقب بخيبة بأنه تعلم هذا حينما كان بالمدرسة، وأنه يتمنى لو تعلم أكثر. شعرت بالأسف، بالواقع، ليس كذلك أول من يخبرني برغبته بتعلم اللغة الانقليزية؛ يمني آخر، في دكان آخر، كان قد أخبرني برغبته، ولا أدري لماذا اختارني ليسألني إن كنت أعرف اللغة، لكن سره أني أعرف ليحدثني عن طموحه.
بيد أن هذا الصبي أثر بي كثيراً بموقفه، إنه يعمل هنا ولم يكمل دراسته، وهو صغير بوضوح، وهو يريد أن يتعلم أكثر. أتمنى لو كان بيدي مساعدته، ولو على الأقل لتعلم اللغة الانقليزية. لا خلاف لدي على شراء شيء أعتقد أنه قد يعينه على تدريس نفسه، شيء بسيط ويناسب الاستخدام في دكان. فكرت بشراء قاموس الكتروني بسيط، من النوع الذي يحوي دروساً، لكن هل سيعرف استخدامه، أو هل سيثير اهتمامه ويفيده؟. اشتكى كذلك من ضعفه باللغة العربية، وسألته إن كان يقرأ الجرائد الموجودة؟ قال بأنه لا يقرأ إلا الفيسبوك والوتساب، أخبرته بأنه يقرأ الصحف، ويحاول بصوت مرتفع لكي يسمع نفسه جيداً.
تساءل إذا ما كنت قد أتيت هنا من قبل؟ عرفت بأنه متشكك، رغم أني أعرف بأنه يراني في كل مرة، فهو غالباً من يحضر شد قوارير الماء لي من المستودع، لكنه غير واثق هذه المرة لتغيير في مظهري. قلت بأني آتي دائماً، وأني أنا من يرى لكن ربما القبعة غيرت مظهري قليلاً. قال بأنه لا يدري، لكن شكلي اليوم ملفت جداً. إنها قبعة صوفية، بيني، اشتريتها قبل سنوات بخمسة أو ثلاثة ريالات، ألبسها أحياناً بالشتاء مع اخت لها، لكن لعلها كانت اختيار موفق، حيث سؤلت عنها بضع مرات على مر السنوات.
هؤلاء الصغار من اليمن خصوصاً، لماذا يسمح لهم بالقدوم للعمل بالدكاكين؟ ما الضرر لو تم دعم مدارسهم ومعيشتهم وأهلهم هناك بدلاً عن الانشغال بسواهم؟ فالأقربون أولى بالمعروف.


كنت قد قلت في تدوينة سابقة عن تسجيلي بموقع للتعارف والمراسلة، حيث حققت فيه نوع من النجاح لم أعرفه في مواقع أخرى.
إني سعيد جداً بالفرص التي أتاحها لي الموقع، تعرفت على بضعة أشخاص مثيرين للاهتمام، من أماكن مختلفة، وقد بدأوا يهتمون بأمري ويسألون عني بعد القليل من المراسلة.
أعتقد أن أفاتاري، الموجود كذلك أعلى هذه المدونة، يجذب الكثير من الناس، حيث أني لم أنشر صورة وجهي هناك. ولم أكن أرغب بصراحة بإرسال صورتي إلى أحد، لولا حسن نية شخص آخر بادر بإرسال صورته، وضاعت بالبريد، فلم أستطع أن أخفف من خسارته، إذ أنها صورة خاصة بالملابس التقليدية لا يملك منها إلا نسختين، فأرسلت صورتي، حيث قال بأنه ابتسم حينما رآها، إذ أنها تشبه الأفاتار الذي صممته لنفسي فعلاً.
استلمت كذلك من شخص آخر هدايا لطيفة، أشعرتني بالخجل. إن الكرم وسلامة النية واللطف لا يعرفان انتماء محدد، صحيح أن هذه الصفات قد تزيد وتغلب في مكان عن آخر، لكنها لا تحتكر في مكان أو تمتنع كلياً عن مكان في اعتقادي. رددت بإرسال هدايا، لكن رد عليها بأفضل منها.
ربما العلة في هذه الهواية تكمن في طبع بعض الناس في اعتبارها مجرد مراسلة مجردة من المعنى، وكأنما كل ما في الأمر هو جمع مراسلين من كل مكان بالعالم للمفاخرة بهم. مثل هؤلاء غالباً ما يرسلون نفس الكلام إلى الجميع، حيث لديهم قوالب جاهزة كتبوها مسبقاً. أحد من أراسلهم، الذي بدا أني أثير اهتمامه بشدة، لديه هذا الطبع. أعتقد أنه يحاول أن يخصص بعض الحديث لي. سأرى إن كان الوضع سيتحسن، وإلا سأضطر آسفاً لإفهامه مشكلتي مع طريقته بصراحة.


عموماً، أجد نفسي الآن في انتظار رحلة أخرى، ليست للتنزه، لكن للعلاج مع أهلي. أحمل الكثير من الهم، سيكون الأمر مرهقاً جداً، الجو بارد على نحو أخشى معه على أهلي. والكثير مما يجب ترتيبه والقيام به في مكان غريب ومكلف.
سأرافق إن شاء الله نفس الثلاثي في رحلة الهند. والدتي، وأختي، وابنتها، التي نحن ذاهبون لأجلها حصراً هذه المرة.
مرت أشهر طويلة في متابعة الأمر، شارفت على الثمانية أشهر. تكاليف العلاج تتكفل بها الحكومة، وإلا لما تمكنا من القيام بالرحلة. لكن للأسف، لا يعطون مبلغ يغطي المصاريف المعتادة هناك، كما فهمت من المترجم والمنسق المكلف من الملحقية السعودية، لهذا سيكون الوضع صعباً جداً على ما أعتقد، ولا يمكنني الاستعداد بما يكفي، إذ أن ظروف معينة قد أسائت إلى وضعي المالي كثيراً.
ربما أكثر ما يخيفني هو السكن. لم نجد بعد السكن المناسب، رغم اقتراب الرحلة. السكن هناك مكلف جداً، مكلف بجنون، والملحقية لن تتكفل به، ستمنحنا فقط 4500 ريال حينما نصل كما فهمت، ونحن قد نبقى هناك لمدة ثلاثة أشهر، لكني أرجو أن تكون أقل بكثير.
كان طبيب ابنة أختي قد اقترح هذا الحل لمساعدتها. قال بأنه سيكتب توصية لعلاجها لدى طبيب يعرفه، ويعتبره أفضل طبيب في تخصصه. كان هذا قبل حوالي التسعة أشهر. هذه التوصية أخذت إلى الهيئة الصحية، جهة تابعة لوزارة الصحة تعمل على هذه الأمور. وقد أعطانا الطبيب هذا موعد بعد سبعة أشهر، مفترضاً بأننا سنكون قد عدنا من هناك بعد اتمام العلاج، وكأنما في الأمر سخرية. بالطبع جاء الموعد وقابلناه وفهم منا بأن الأمر ليس بهذه السهولة للأسف.
يُخيل إلي دائماً بأن العاملين في سفاراتنا وملحقياتنا بالخارج يتصورون بأنهم في إجازة دائمة في تلك البلدان. أحدهم لم يرسل موعد الطبيب إلى الهيئة الطبية بالرياض لأنه وصله في آخر يوم دوام قبل إجازة رسمية هناك، ولم يكن إلى جانبه موظف ليرسل الموعد بالفاكس كما عبّر، ففاتنا الموعد دون أن نعلم، سوا من اتصال المترجم الذي كان مستغرباً لماذا لم نتواصل معه لنخبره بموعد وصولنا أو نسأل عن شيء وقد تبقى ثلاثة أيام على الموعد، كادت أختي أن تفقد عقلها. بالواقع، كانت الملحقية في وقت سابق قد قالت أصلاً بأنه لم يصلهم جواب، وأنهم سيبحثون لنا عن طبيب بتخصص مماثل في بلد آخر. كانت صدمة.
حينما تواصلت مع ذلك الموظف كان يحاول أن يجيب بقدر ما يستطيع، لكن لم يكن لديه استعداد لإعطاء وقت واضح ليرسل الموعد الجديد، ولم يكن لديه استعداد للإجابة عن أي أسئلة في شأن السفر والإجراءات. بيد أنه أعطاني على الأقل بريد شخص آخر بالملحقية، الذي لم يكلف نفسه حتى الرد بذوق أو التظاهر بأنه قرأ الرسالة، قال فقط بأن أسأل الهيئة، رغم أن المعضلة كانت من الهيئة وإجابتها غير المنطقية، إذ قيل لنا بأننا يجب أن نتوجه إلى دولة أخرى أولاً لزيارة الملحقية، ثم إلى بلد العلاج المشمول تحت تغطية الملحقية. كان أمر مثير للغيض، طلبت من الأول توجيهي إلى شخص لديه استعداد للمساعدة، لكنه لم يجب، فزميله أهم. المؤسف هو أنه أجاب السؤال حينما جاء من المترجم، وتعاون معه جيداً.
تمنيت لو لم يكن لدينا سفارة هناك، وكان تعاملنا يتم عن طريق سفارة دولة خليجية أخرى.
حصلت على التذاكر مؤخراً لحسن الحظ. بالعادة، أحد إخواني هو المسئول عن مراجعة الهيئة الصحية لأجلنا، وقد قيل له بأن التذاكر لن تصدر حتى نحصل على التأشيرة. وبالمقابل، أخبرني موظف سفارة بلد العلاج في الرياض بأن التأشيرة لن تصدر حتى نأتي بالتذاكر، وقد أخبرهم أخي، دون فائدة، إذ أن هذا الإجراء المتبع مع كل الدول، والكل يحصل على تذاكره بهذه الطريقة بلا مشاكل، ويبدو أن القليل جداً من المرضى من يتم إرساله إلى حيث سنُرسل، فلا يبدو أن لدى الناس بالهيئة فكرة واضحة عن ذلك البلد. لم يتمكن أخي في أحد الأيام من الذهاب لمتابعة شأننا، لمرافقته ابنته إلى المستشفى، فذهبت أنا. كنت ذاهب لإنجاز بعض الأوراق فقط، ولم أطمع بالتذاكر، لكن لحسن الحظ، والحمد لله، حصلت على التذاكر بلا مشكلة، وكان شيء غريب، حيث قيل لي فقط بأن أحدث المدير العام، الذي لم يناقشني حتى بعد أول عبارة قلتها، فقط كتب على أوراقي: يمنح التذاكر، ووقع. فوجئ الموظفين، وتجمعوا لرؤية الملاحظة، وقال أحدهم مازحاً عن المدير: أجل خله يتورط!، فضحكوا. ذهبت إلى ناسخ هناك لطباعة بعض الخطابات لي، وكان لطيفاً، بينما احتفى زميليه بي على نحو غير مفهوم، ولكني حينما خرجت وجدت ما بدا انه خطأ، وما كدت أعود حتى سمعته يقول عني، دون أن أسمع السياق كاملاً: جزاك الله خير والله يجزاك الجنة! في تعليق على أسلوبي بالشكر. بدا الإحراج واضحاً على وجهه مباشرة حينما رآني، لكني تكلمت مباشرة، وتظاهرت بأني لم أسمع، فشرح لي بأن ما على الورقة خطأ غير ضار، إذ أنه قالب مستخدم للكل. كان الخطأ هو وضعي في خانة الوالدين للمريضة.
تتعامل الهيئة مع مكتب الفرسان للسفر، ومقر الهيئة عبارة عن فيلا قديمة قرب مستشفى الشميسي (حيث ولدتني أمي)، ومكتب الفرسان يقع في ملحق الفيلا الصغير. يعمل هناك شخصين لطيفين، احدهما سوري على ما يبدو، والآخر آسيوي، ولأن تذاكري متعددة، ولأني سأشتري تذكرة والدتي لأنها غير مشمولة بتغطية الحكومة للرحلة، تأخرت كثيراً لديهم. رأيت رجل سعودي كبير بالمكتب، يسأل ويدقق بالأمور ويتابعها. لم أفهم بالبداية ما دوره، لكني وجدته يراقبني، حتى حينما كدت أفرغ وطلبت بطاقة الموظف الآسيوي الطيب جاء، وسألني إلى أين سأذهب، وأخبرته بأنها سويسرا. قال للموظف أن يكتب رقم جواله  كذلك على الورقة مع اسمه، وأخبرني بأن أتصل عليه في حال واجهت أي مشكلة أو أردت أن أسأل، ثم أخبرني بأنه مدير المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية في شركة الفرسان. شكرته على لطفه البالغ. اسمه سعد كذلك، حركة.
كاد أخي أن ينفجر غيضاً حينما أخبرته بأني حصلت على التذاكر من الهيئة دون جهد، وقال صائحاً بصوته الغليظ في مثل هذه الظروف: بَروح أتهاوش معهم!(!!). ربما كانوا قد ملوا منه لأنه راجعهم كثيراً.
ذهبت في يوم لاحق لإتمام أوراق أخرى وللاستفسار من مكتب السفر عن تأكيد الحجز وتفاصيل أخرى. كنت لم أذهب إلى العمل في ذلك اليوم لأني كنت في الصباح بصحبة والدتي بالمستشفى، ولم نفرغ قبل الظهر، لذا لم أكن تحت أي ضغط. رحب بي الناسخ وزميله جيداً، وقد كانا بالغي اللطف، ومزحا كثيراً. وسأل الزميل عن موقع بلد العلاج الجغرافي. لا يبدو أنهم يرسلون الكثيرين إلى هناك بالفعل. كنت قد كتبت اسم الدولة لهم لأنها غير مكتوبة ضمن قوالبهم الجاهزة للخطابات.
إني أحمل هم هذه الرحلة منذ أشهر، البرد الشديد، التكاليف التي يحاول المترجم أن يجعلني مستعد لصدمتها، التنقلات هناك، الفترة الطويلة التي قد نقضيها، وحالتي المادية السيئة، أو حالتنا عموماً.
إن ما يهون من الأمر هو الأمل، أن تتحسن حالة ابنة أختي الصحية. لو خرجنا بنتيجة واضحة وجيدة، ستكون كل صعوبة مبررة.
أسأل الله المعونة لنا والشفاء.



كانت أم الجيران في زيارة والدتي، وهي امرأة كبيرة طيبة القلب تداوم على التواصل مع والدتي، ويبدو أنها تحبها كثيراً. أحضّر لهن الفشار بنكهة الزبدة بالعادة حينما يتصادف وجودي، وهو شيء تفضله أم الجيران من "يديّ الحلوة"، بما أن محاولات الآخرين فشلت بإعداده بطريقة مرضية، رغم أن الأمر لا يتطلب أكثر من ضغط زر "فشار" على المايكرويف، بعد وضع الظرف. عموماً وقفت قرب الباب للسلام، ودعت لي المرأة، ثم تسائلت متى سأتزوج؟ وألحت بالسؤال، قائلة بأنها ووالدتي مللن انتظاري وانتظار ابنها، الذي أعتقد بأنه أصغر مني، ولم يتزوج بعد. كان أمر محرج، ولا يبدو أن لدي رد خلاف: الله يكتب الخير والصالح.




أحياناً تود أن تؤدي خدمة لأحد ما، تؤديها بتقدير واهتمام ودون مقابل بالطبع، لكنك تفاجأ بأنك علقت بدوامة لن تنتهي من تقديم الخدمات، فالخدمة تجر الخدمة، وإن انتهت شئون الشخص فلصديقه شأن يحتاج فيه إلى خدمة، فيمحو بطلب هذه الخدمات المتلاحقة أي تقدير بدأت به خدماتك، ليتحول الأمر إلى مرارة وسأم.
أعرف أن مساعدة الناس أمر طيب، ويعلم الله أني دائماً أحاول ما بوسعي لمساعدة من يمكنني مساعدته، أحاول أن أكون خدوماً كما يقال، رغم أني من النادر أن أجد من يعيد الخدمة أو يقدرها.
لكني أجد نفسي أحياناً وقد استنزفت لأجل شئون يمكن أن يقوم بها غيري، لأشخاص قادرين على مساعدة أنفسهم لكنهم يفرضون أنفسهم بشكل ما. وأشخاص لا يحتاجون فعلاً إلى مجهود كبير لمساعدتهم، لكنهم بثقل حضورهم، وتطلبهم وتشرطهم يصيبونك بالمرض وربما البغض تجاههم. لن أنسى شخص تعرفت عليه مع زميل، وجاء إلي لاحقاً في حاجة لتعريف مترجم من الجامعة، وكلما أعددت تعريفاً أراد أن يجمله بشكل ما لأنه سيقدمه إلى سفارة، بسفاهة لم أرى مثلها، حتى طبعنا ما يقارب العشرين تعريف، وصرت أنتظره يقترح أن أضع روج وأطبع قبلة محل التوقيع تملقاً للسفارة. كان متطلباً ولا يفهم، كان التعريف بأبسط صوره يؤدي الغرض، فما تريده الجهات هي معلومات واضحة ومباشرة. بالنهاية، ولبطء بديهته، لاحظ غليان دمي المكبوت، ولم يعجبه طبعاً، وقبل بالتعريف الأخير، ولم أره مرة أخرى لحسن الحظ.
وكان لي صديق لم يكن يكف عن طلب الخدمات المتعبة، ويتصرف مع ذلك وكأنه صاحب المعروف، إلى درجة أني أخدمه عند الحاجة متى طلب، وحينما أحتاجه كان يقول بنذالة بأنها ليست مشكلته، حتى انتهت الصداقة ولله الحمد غير مأسوف سوا على الوقت الذي ضاع عليها؛ سنوات وسنوات من الطفولة حتى الشباب.




قبل اسبوعين تقريباً، ذهبت إلى معارض الرياض الدولية، لحضور معرض التصوير الفوتوغرافي ألوان. وجدت المواقف مزدحمة، ليس بالسيارات فقط، لكن بالواقفين من الشباب الذين فهمت أنه لم يسمح لهم بالدخول. سمعت أن الهيئة موجودة، وكانت الشرطة كذلك حاضرة، وبدا الأمر مثيراً للأعصاب وكأنما هم هنا لردع شغب. حينما صعدت إلى البوابة، وقبل أن أصل، تعالى صياح وهرج، فرأيت شاب يصيح بالآخر، لماذا يغازل أهله؟. ثم اشتبك الشابين، بينما صحن النساء المسكينات، أخوات أحدهم، بذعر. لا يريد المرء الإقتراب وهو أعزب من هذه المواقف. سألت الشاب المسئول على الباب أن أدخل، فقال بأنه للعوائل فقط، قلت بأن الإعلان لم يقل شيئاً كهذا، قال بأنهم أعلنوا على تويتر، وكأن كل الناس يتابعونهم، أو حتى يشاركون في هذا الموقع. شرح بأن الهيئة جائت وتسببت بهذا القرار، مما أشعرني بكراهية متعاظمة تجاههم. كان إلى جواري شابين يريدان الدخول، فقال بأنه للعوائل، وما كانوا ليسمحوا لهم أصلاً بسبب ملابسهم، وقال هذا بازدراء لا معنى ولا داعي له إلا سوء تربيته. وبالواقع، رأيت أنه أسهل ما على القائمين على منع أو إدخال الناس حتى بالأسواق هو التكلم بوقاحة عما يلبسه الناس والانتقاد بجرأة. إني لا أحب صدقاً هذه الملابس، وأشعر بالحزن حينما أرى شباب لا يلبسون غيرها، وأموت قهراً وأنا أجد الثوب يزداد ندرة مع تجدد الاجيال، لكني لا يمكن أن أقدر مواجهة الناس بهذا الأسلوب الوقح، والحكم عليهم والتجرؤ بالانتقاد الشخصي دون مناسبة أو مسوغ. لم يكن الشابين يلبسان ملابس سيئة صدقاً، لم تكن الملابس أقصر من اللازم أو لافتة للانتباه على نحو خاص. مع ذلك، صار الشباب المكسور يبتلع مثل هذه الإهانات، إذ أننا شعب مُروع. ورغم أن القوي في المجتمع يأكل الضعيف، إلا أننا كذلك على جانب من التجبر والشراسة حينما تحين الفرصة حتى للضعفاء، ولا مكان للعدل واحترام كرامة الآخرين للاسف.
نزلت مشمئزاً، عبر المنحدر المؤدي إلى المواقف، وتقافزت إلى جواري طفلة لعلها بالرابعة من عمرها، فوَقَعَت، رفعتها مسمياً ونفضت ثويبها، وتأكدت بأنها بخير. حينما تحركت ماضياً قالت والدتها التي كنت أسمعها ولم أرها من خلفي: جزاك الله خير.
فكرت مباشرة، ماذا لو لم تفهم والدتها أني إنما أمسكت الطفلة شفقة، ونفضت ثوبها كما أنفض ثياب أطفال العائلة؟. ماذا لو أسائت الظن؟، فكرت بهذا وأنا أتذكر التشكك غير العادي الذي جعل الهيئة تأتي وتمنع كل العزاب عن الدخول، دون استثناء حتى لمن بعمري هذا.
إني أفهم بأن هذه مبالغة، في زمن الناس هذا، لكن بالمستقبل، مع الاستمرار بتقديم الشك والريبة في كل الناس، وتأكيد القدرة والحق بالحكم على أي أحد لحالته الاجتماعية أو شكله أو أسلوبه باللبس، ماذا يمكن أن يحدث؟. إنه لأمر مؤسف. قبل فترة، قبض على رجل تبدو عليه سيماء التدين، في سوق العثيم مول، كما أوردت صحيفة سبق على الانترنت، حيث يعمل هذا الرجل على قناة محافظة، ويقوم بأنشطة تثقيفية للأطفال بالسوق، أقول قبضوا عليه لكونه صار يستعمل الأطفال في عهدته جنسياً، وقد اكتشفوه حينما صاحت امرأة رأته يخرج بأحد الصبية، وقالت بأنه هو من استغل ابنها مؤخراً. يقال بأن الرجل انهار باكياً، وقال بأنه مُبتلى. لا شك لدي بأن مثل هذا الرجل كان سيدخل في المعرض الذي ردوا عنه كل من لا يرافق امرأة، دون أن يرده أحد، فقد رأيت هذا سابقاً بالأسواق.




هذا أغنية أحبها. بشكل ما، أجدها تعبر عن بعض أفكاري حول أمور معنوية وحياتية. أهديها للإزابيلات والفرديناندات في مجتمعنا. شق منهم سيسمع الأغنية بلا خلاف، وشق سيمتنع لأسبابه، فلا ينتمي هؤلاء القوم إلى فئة واحدة من المجتمع، إنهم ينتشرون في كل فئاته، يحاكمون، يرغمون، يفتشون عن العيوب، ويتظاهرون بالأفضلية.







حضرت زواج لقريب غالٍ مؤخراً، وكان في مكان قصي ومخفي إلى درجة ضياعي إلى حوالي الساعة قبل الوصول، وحينما يئست وكانت آخر محاولة أقوم بها قبل أن أعود أدراجي. 

رأيت هناك بعض الوجوه القديمة من الوسط الفني العائلي؛ فنانين باللطف والطيبة، وفنانين بالسخرية، وفنانين بالتمثيل، وفنانين بالنصب، وفنانين باللؤم والنذالة، وفنانين باللباقة والذوق، وفنانين بثقل الظل. بيد أنه ليس كل فنان موهوب وناجح فيما يقوم به.
لكني سعيد بحضوري، تقديراً للعريس وأهله، ولرؤية بعض من أقدرهم صدقاً من الضيوف الآخرين. سمعت مجاملات، في حين تفادى بعضهم السلام علي حتى حين، إلا أني لا أشقى بالأمر. وبالواقع، لا يتجاهل الجميع بعضهم عمداً، إن السلام على عدد كبير من الناس، وبالترتيب الملائم حسب الشروط الإجتماعية الدقيقة والاتيكيت المحلي، أمر مشوش حقاً. فقد يؤجلك البعض لأنك بالمكان أو الاتجاه الخطأ، أو لأنهم يتوقعون منك المبادرة والاقتراب، أو فقط لمجرد ضغط الموقف. لكن لا شك أن البعض يتجاهل أفراد معينين لأنه لا يريد السلام عليهم. تجاهلني أحدهم، ولم أسعى إليه، وهو دون شك لا يرتاح إلي ولا يحبني، لكني فوجئت به يسلم لاحقاً، ولا أدري لماذا.
رأيت قريب يأخذ رقم جوالي في كل مرة نلتقي، حتى لو لم تتح الفرصة لنا للجلوس أو الوقوف معاً والتحدث، مع وعد بالاتصال للتنسيق للقاء قريب، دون أن يحدث شيء. بدأت أجد الأمر مضحكاً. لكني بالحقيقة أحب رؤيته.
صادفت شاب من بعاد الأقارب من ألطف من عرفت في حياتي. قال بأننا لم نرى بعض منذ حوالي خمس عشرة سنة. لم أصدق، لكنه أوضح بأننا لم نرى بعضنا منذ زواج شقيقتي حينما تورمت يدي وآلمتني من تقديم القهوة. ضحكت لأنه تذكر الأمر بهذه الصورة، وتبين أنه محق. بالواقع، قدرت حساسيته وتذكره للمناسبة على هذا النحو، في حين أن قريب آخر كان قد غضب في تلك المناسبة لأني جلست أستريح حينما بدأوا بفرش السمط للعشاء، دون أن يفكر بأني لم أغضب لعدم مساعدة أحد لي بتقديم القهوة للجميع. بقيت يدي تؤلمني لبضعة أيام بعد تلك المناسبة، وبقيَت ليومين على وضع قبضة الدلة بالكاد أحركها. لقد بدأت بتقديم القهوة منذ العصر حينما جئنا حتى وقت متأخر من الليل.
سلمت على قريب من الأقارب الأعزاء بالقصيم، الذين يشبهون الهنود الحمر، وناديته بخلاف اسمه ممازحاً، لأن والدتي مصرة على أن اسمه عبدالسلام. أخبرته أن والدتي لا زالت تسميه بهذا الاسم. وبالواقع، سألتني بعد المناسبة إن كنت قد رأيت عبدالسلام، فهي تحبه.
قريب آخر قال مجاملاً بأنه في كل مرة يراني يجدني قد صغرت بينما هو قد كبر. قلت له ضاحكاً بأنه لابد يقصد العكس. لا شك.



سعد الحوشان