بسم الله الرحمن الرحيم
هل بررت بكل أقسامي؟. لا يساورني شك على بري بها، أو تكفيري عنها، سوا قسم واحد. بشكل أو بآخر، أقسمت أن لا أنسى أمراً معيناً، أي؛ أقسمت أن أحقد على أحد ما.
أما شكي فليس بسبب كبر حجم قلبي، وليس بسبب طبيعته الطيبة المترفعة عن الكراهية والغضب. الأمر ببساطة ذو علاقة بالنسيان، وضعف التوثيق. بعدما كان لدي دائما مرجع للحقد، تخلصت منه بخدعة، ولم يعد لدي ما يذكرني بالأمر. كل ما أتذكره هو أني لا أريد أن أسامح شخص على فعلته. لا زلت أتذكر الكثير، لكني أنسى أسرع مما يجب، كما هي طبيعتي.
بيد أن الزمن والتجربة علماني كم هي طبيعة سيئة تلك التي تنسى، وتسامح لأنها تنسى. لأن الناس لا ينسون، ولا يقدرون النسيان والتجاوز. لم أعرف الراحة حتى كفيت عن مسامحة الكثير من الناس. فالآن؛ لا قهر من عدم التقدير، ولا قهر من الخيانة، ولا قهر من إعادة التجربة، وعدم التعلم من الماضي. يمكنك وضع كل شيء خلفك حينما لا تسامح، وتقطع الأواصر، في حين كانوا يقولون لنا دائما بأن المسامحة هي ما يترك الأمور خلف المرء، لكن، من يدرك أنه اناني يستبق بالتبرير، وهكذا هم الناس، يجب أن يقولون لك شيء، حتى لا يجدوا الوقت أو المبرر ليقولون لأنفسهم عن انانيتهم، وقسوتهم.
أتذكر صديق لي، جمعتني به صداقة مخلصة، يوبخني في وقت مأزوم من حياتي: "ما بالك يا سعد؟! ماذا جرى لك وتغيرت؟! لم تكن ضعيفاً هكذا! كنت قوياً، كنت أنت من يدعمني ويمدني بالقوة! أتتذكر؟؟"
قال هذا بينما وقفت أمامه مكسور القلب، شاعراً بضعف لم يبدو أن منه فكاك. ذكرني بما لم أنسى، لكني كنت أحسب بأن قوتي ذهبت إلى الأبد. كان تغيري مزعجاً، وجذرياً، وقد عانى هو منه كثيراً. كان الأمر ناتج عن صدمة قوية، هزت كياني كله. أصبحت بعدها متعباً، وقلقاً باستمرار، والأسوأ، محزوناً طوال الوقت.
كان هو الصديق الوحيد، من بين ثلاثة، الذي دعمني وأعطاني في ظروفي تلك. يا الله، كم كان رائعاً. الصداقة الحقيقية غالية جداً، حينما تفقدها لا يمكنك أن تقيِّمها ببساطة، لقد خسرت َشيئاً فريداً، ولو حصلت على صداقة أخرى جيدة، لا يمكنك أن تقارنها بما خسرت، ليس أنها أفضل أو أسوأ، فالأمر لايخضع للمقارنة، فكل صداقة جيدة فريدة لا غنى عنها بأخرى، كالأبناء. والأسوأ، أن الأفضل حدث ونحن لم نعد أصدقاء ليراه؛ لقد عدت قوياً، قادراً على دعمه في حياته الصعبة حد المأساة أحياناً، والوقوف معه، قادر على الأخذ والعطاء، الشيء الذي انفردت به صداقتي معه دوناً عن صداقاتي الأخرى، التي كانت إحداها تستنزفني كما تستنزف الآفة النبات.
ذاك الصديق المخلص؛ يمكننا أن نتصافح ليل نهار، دون أن نعود أصدقاء. عسى الله أن يحاسب من تسبب بهذا.
غداً، أودع جهازي الجديد، الذي سأرسله إلى الدمام لبضعة أيام، لتتم مراجعته من قبل موقع متخصص. أجد أني تعلقت به كثيراً، إلى درجة أني لا أدري كيف سأتحمل الفراق صدقاً!!.
اسخدامه ممتع، وأجمل ميزة فيه هي السرعة، سرعة التشغيل والعمل. اشتريت موزع لاسلكي صغير، لأوصل فيه الكونيكت التي كنت أستخدمها في جهازي السابق خارج المنزل، حيث لا يتعرف عليها الجهاز الجديد، ولاحظت مفارقة اليوم؛ ففي حين أن الوضع المعتاد أن تشغيل الكمبيوتر يتم قبل تشغيل الموزع، لأن الكمبيوتر بالعادة يأخذ وقتاً طويلاً ليبدأ العمل، يحدث العكس، لأن هذا الكمبيوتر يشتغل مباشرة تقريباً.
قبل قليل، في برقر كنق، أجفلت عن قراءة الجريدة، حينما رأيت فجأة شخص رث الهيئة على نحو لا يوصف، وقف أمامي مباشرة، مطالباً إياي بشراء طعام له. ألجمت المفاجئة لساني، كنت أحتاج إلى وقت لأفهم ماذا يريد بالضبط، وما أمره. ابتعد عني، وقد دعاه عمرو، العامل المصري بالمطعم، أن يأتي ليعطيه طعام، دعاه بحنان بالغ. لكن الشاب الصغير توجه إلى شاب سعودي آخر، وقف يعبئ كؤوسه من الكولا، وطلب منه ببساطة أن يشتري له "نقتس". كيف أجابه الشاب الآخر؟ نظر إليه باحتقار وانفعال غير مفهوم، وطرده متوعداً إياه. صدمني المشهد. اتضح بأن الشاب رث الهيئة مريض نفسي. بعد التوبيخ اتجه مسرعاً ليخرج من المطعم. قفزت من كرسيي، لأنه سريع، ولحقت به، استوقفته عند الباب، وأخبرته بأني سأشتري له ما يريد. نظر إلي بعدم ثقة، سألته: تبي نقتس؟ تعال، أنا اشتريها لك. لحقني. طالبني عمرو بالرجوع لتناول طعامي، وأنه سيهتم بالأمر، فسيعطيه وجبته الخاصة. وطالبني مدير المطعم بالرجوع كذلك، ولكن أمام إصراري، رفض هو اخذ مبلغ الوجبة التي يريدها الصبي كاملاً.
بعد الدفع، صار الصبي يروح ويجيء بالمطعم بانتظار وجبته، وهو يحدث نفسه دون صوت، ويقوم بحركات غريبة، وعلى جانب مفاجئ من العنف في بعض اللحظات. بينما وقف الشاب المقرف الذي نهره بالبداية، ينظر إليه بعصبية، وكأنما يريد ضربه. كانت تعابير وجهه الخالية من الرحمة مثيرة للاشمئزاز، تسائلت إن كان بالواقع يحترم نفسه.
كان الصبي لسبب ما يتفادى عمرو، بعنف حتى، وفي انتظار وجبته، جاء إلي وقال بأنه يريد أن يأكل بعض مما لدي. كان من الواضح أنه يتضور جوعاً. وبينما هو يأكل جاء عمرو لثنيه، فألقى بسرعة بما كان في يده وابتعد، متفادياً عمرو. كنت أريد أن أسأله عن بعض الأمور، عن بيته أو أهله، فالوقت متأخر، لكن عمرو أفسد علي دون أن يدري. لما جهزت الوجبة، وقد وضعوها له في كيس، انتحى في طاولة، وبدأ يأكل، بينما وقف عمرو قريباً، في تصرف خاطئ، يراقبه. كان وجه عمرو ينضح بالشفقة، وكان يخاطبه بحنية وهدوء، ويناديه بـحبيبي، لكنه كان يريد التأكد من أن الصبي لن يقوم بشيء خاطئ أو عنيف. حيث أن الولد أصلاً رفض بالبداية أخذ الكولا من عمرو، وكشر عن أنيابه كقط، تماماً، وهرب مبتعداً عنه. رفض عمرو أن يتركني أساعده، وقال بأنه ربما يكون عدوانياً. كان من الواضح أنه لا يرتاح إلى عمرو، وكنت أريد أن أتعاون بما أنه لا يمانع الاقتراب مني.
خرج بسرعة من المطعم لما فرغ. لحقته، وحادثته برفق سائلاً عن بيته أو أهله، وعرضت أن أوصله، أو أتصل بأهله. لكنه ابتعد هاربأ مني، وقد كشر عن أنيابه كقط، كما كشر لعمرو. بعد حوالي نصف ساعة عاد، بينما لازلت أقرأ، وجاء إلي يريدني أن أشتري له كولا.
كان الوضع لا يسكت عنه. كنت أفترض أنه ربما عاد لبيته، لكن لما عاد، بدأت أتسائل إن كان بيته قريباً، ربما هرب من أهله أو شيء من هذا القبيل. اتصلت بالهلال الأحمر، وقالوا لي بأني في مثل هذه الحالة يجب أن أتصل بالشرطة، والشرطة حينما خابرتها قالت بأن علي أن أتصل على الهلال الاحمر!!. أخبرته بأنهم هم من طلب أن أتصل بهم، فقال بأن الاتصال بهم يجب أن يأتي من الهلال الأحمر. عاودت الاتصال بالهلال الأحمر، فأضاعوا وقتي يحاولون إقناعي أن هذا عمل الشرطة!! وأنها هي من يجب أن يتصل بهم. اتصلت بالشرطة مرة أخرى، وشرحت الأمر، وقلت أن الصبي وضعه صعب، ويجب أن يهتم أحد بالأمر. قال الشرطي بأن المفترض أن الهلال الأحمر هو من يهتم بالأمر، ولكنه سيرى ما يمكن فعله، وتركني قليلاً على الخط، وعاد واعداً بأنهم سيرسلون أحداً. أخذ الوصف بدقه، وودعني. بعد قليل، رأيت سيارة الشرطة بأضوائها الدوارة تسير بسرعة. لا أدري إن كانوا قد وجدوه. على الأقل، يجب أن يأخذه أحد بعيداً عن البرد.
يبدو أن هذا لم يحدث. ربما لم يجدوه أمس. أنا في اليوم التالي، وقد جائني أحد عمال المطعم وأخبرني بأن الصبي تسلل إلى الدور الثاني حيث قسم العوائل. يبدو أنه تائه، أو ليس لديه مكان يعود إليه. اتصلت بالشرطة، وبشكل غريب استجاب المسئول مباشرة، ولم يطلب مني الاتصال بجهة أخرى. بعد القليل من أخذ المعلومات، وعدني بتواجد الشرطة خلال دقائق. أتمنى أن يمسكوه هذه المرة، ويودعوه حيث يجد من يعتني به حتى يجدوا أهله.
لقد جاءوا.
لم يأخذوه مع ذلك. يقولون بأنه مريض نفسي فقط، ولا يوجد ضده دعوى، فيكفي إخراجه من قسم العوائل. إن الأمر محزن، محزن جداً. كان الشرطي متعاطف رغم جلافته، وقد حاول أن يجد حلاً آخر. لكنه يقول بأن الخفر لن يستلمه دون إدعاء ضده، بينما المصحة النفسية لن تستلمه بلا إثبات، وقد بحث عن الإثبات في جيوب الصبي ولم يجد. هرب الصبي بالنهاية، رافضاً التحدث أو الرد.
هل يترك هؤلاء المساكين إذا في الشوارع؟ هل يجدهم أحد ميتين في الليالي الباردة، وحدهم، لا أحد يعرف عنهم شيئا، أو يهتم بأكثر من دفنهم؟ هل يوجد فرق بينهم وبين القطط في الشوارع من حيث الأنظمة؟.
كانت رائحته القوية تعبق بالمكان، وملابسه الرثة مشققة تكشف عن عورته، التي يغطيها بمسمسة ردائه فوقها. شعرت وبمزيج جارف من الاشمئزاز والرحمة.
اطلعت على موقف سخيف جداً، أداه أحد المدونين. كان الرجل قد كتب نص أدبي، لم يعجبني شخصياً، ولكن أعجب الكثير من الناس على ما يبدو، فنال الكثير من المديح والمجاملات. لكن معلقة واحدة أعلنت بأن النص لم يعجبها. ولما سألها أن تفصل رأيها، ردت بعفوية تشرح رأيها، وقد استرسلت، حيث أمنت جانبه، وأوضحت بحميمية من يخاطب صديقاً أو زميلاً أن أسلوبه في القصة لا يشبه عفويته المعتادة، إنما يشبه أسلوب الخطباء والدعاة من حيث السجع، وهي تعتبرهم مزعجين ولا تحبهم كما فهمت. أنا أيضاً لا أحب السجع المبالغ فيه، إن لم أقل كل السجع، ولا أحب أساليب الخطباء الممتلئة بالسجع، والكتيبات التي يؤلفها الدعاة وكأنما شخص واحد يكتبها، بالسجع الممجوج، بغصب الكلمات والتعابير. كل هذا؛ بغض النظر عن قيمة المادة التي يقدمونها. حيث يوجد شقين في الأمر، حيث لا إشكال أبداً حول انتقاد اسلوبهم الأدبي، فالأمر يخضع للذائقة، وبالتأكيد ليسو كلهم أدباء، أما عن انتقادها لهم كأشخاص، فرغم أنها لم تذهب بعيداً، وهي حرة بما تشعر، ولا يجب إرغامها على التظاهر بعكس ما تشعر، إلا أن من لديه رأي حول مشاعرها فيجب أن يحترمها طالما لم تخطئ عليه، أن يناصحها إن كان يجدها مخطئة، أن يناقشها بالحسنى. وهذا ما لم يقم به المدون متوقد الذكاء.
كان رده عليها هجومياً، ساخراً، موحياً بأنها شر مغلف، أنها ليست إلا دسيسة ضد الدعاة والشيوخ. وهذا أبعد مما ذهبت إليه هي، فبغض النظر عن كل شيء، هي لم تسئ إلى شخص أحد، خصوصاً المدون نفسه، هي تحدثت فقط عن شعورها تجاه الأشياء، وهذا أمر شخصي، وإن لم يعجبنا، فلن يغير التنكيل في معنوياتها من رأيها شيئاً، إنما سيزيد الطين بله.
ذهلت للهجته، في حين أنه يتظاهر دائماً بأنه بمنتهى الرقة والطيبة، وشعرت بأني حينما لم أجده مريحاً كنت محقاً. لقد أساء إلى موقفه بالواقع أكثر مما أساء إليها، حتى على المستوى الاحترافي. فهو إن كان يريد أن يكتب الأدب، ويسمع الانتقاد حوله، فلا يكفي أن يقول بأن صدره رحب، ويستقبل الأمور بصدر رحب فعلاً، لكن ظاهرياً، ثم يسعى للطعن والانتقام في اتجاه آخر. لو لم يفكر إلا بنفسه، لو كان ذكياً رغم أسلوبه الشرير، لما كان قد أخطأ بحقها وحاول جرحها مقابل حسن نيتها، لفكر بأن الناس قد يقولون بأنه حقد عليها وسعى إلى جرحها إنتقاماً لنفسه، حينما وجد فرصة حسبها مشروعة، بعيداً عن نصه. إنه لم يخالف نقدها، إنما خالف شخصها، فقد أخذ النقد على محمل شخصي. كان حسبه أن لا ينشر ردها فقط إن لم يشأ الرد عليها بما يكافئ إحسانها الظن به، وائتمانها لجانبه. هي مدونته، يحق له أن ينشرما يريد وأن يهمل ما لا يريد، لكن لا يجب أن يسيء للناس، فهم ليسو بجزء من المدونة.
لو استنصحني، لنصحته بأن يحذف ما قد يشعل الجدل، ما يعتقد بأنه يجرحها أو يجرح غيرها من طرفها، ويكف الشر ولا يجرح الناس وينفرهم أكثر من معتقده حول الأمور. هل أراد أن يبدو بطلاً أمام أحد آخر؟ كانت غلطة كبيرة. كنت أريد أن أرى بماذا ستجيب الفتاة. ولكنها لم تظهر في مدونته إلا في صندوق المحادثات، أفترض أنها لم ترى التعليقات، إذ أني لم أجدها في ذلك الوقت، ثم وجدتها لاحقاً.
مفاجئة غير عادية حدثت اليوم. الصديق الصيني الأصغر، اسمه الحركي هنا همام، بينما اسمه الحقيقي صيني، كان قد اتصل بي قبل فترة يدعوني للذهاب معه إلى معرض ثقافي صيني. لم تسر الأمور كما أراد، فلم نذهب. اتصل بي اليوم في العصر، وقال بأنه يود أن يدعوني إلى العشاء، حيث يريد أن يريني لصديق له جديد هنا. وافقت، واتفقنا على المكان والوقت؛ مطعم صيني متوسط الحجم في العليا في الساعة الثامنة. حينما وصلت وجدته ينتظرني أمام المطعم، سلمنا ودخلت. كانت أعين العاملين تحملق تجاهي، ربما لأني مع شخص صيني، نسير كأصدقاء بحميمية واضحة. وصلنا إلى الطاولة في غرفة جانبية حيث ينتظرنا صديقه. كان شاب صيني صغير في الخامسة أو الرابعة والعشرون من عمره، مثل همام، لكن بشرته خمرية مشربة بحمرة، وكأنه من منغوليا، وكان وسيم الملامح عموماً، ضخم الجثه. بينما همام شديد البياض، ضئيل البنية، ذو عينين صغيرتين لطيفتين، كأشد ما تكون عليه الأعين المغولية من ملاحة وظرف. سلمت على الرجل، عرفني همام باسمه الصيني، ثم باسمه العربي الذي اتخذه لنفسه هنا، خالد، كعادة غالبية الصينيون. أثنيت مجاملاً على جمال الاسم. عرفت أن الرجل لا يعرف الكثير من اللغة الانجليزية، ولا يزال يتعلم العربية في بداياته. كان همام عموماً يترجم بيننا. قلت بأنه يبدو شبيهاً بممثل أراه في الأفلام الصينية. ضحكوا. اقترحوا أسماء، لكني قلت بأني لا أعرف اسمه. حان دوره ليعلق على شكلي، فقال مجاملاً بأني وسيم جداً. كانت من دعايات همام بوضوح، مما أحرجني حقاً. ضحكت وقلت بأن هذا لطف منه. تدخل همام، وتكلم عن تلك الصورة التي التقطوها لي لتنشر في وكالة الأنباء. ضحكت وقلت بأنها كانت فضيعة. لكن همام أصر على المديح، والتعليق على الأمر في محاولة لإحراجي أكثر، ضحكنا كثيراً. ثم قال همام بأن خالد مسلم. ابتسمت وذكرت الله. ثم فاجأني قائلاً بأنه هو أيضاً دخل في الإسلام مؤخراً، في رحلته قبل أشهر إلى الصين. شعرت باضطراب عنيف في قلبي، وشهقت متفاجئاً. وقبضت على يده. باركت له وحمدت الله. وسألته لماذا لم يخبرني من قبل. قال بأنه أراد أن يلقاني ليخبرني، لكني كنت مشغولاً في الفترة الأخيرة. سألته عن الدافع، ماذا جعله يدخل الإسلام؟. قال بأنه قرأ القرآن كثيراً من قبل، وأنه كان يشعر شيئاً فشيئاً بأن هذا هو الحق. وقال بأنه حينما جاء إلى السعودية تأثر بتعامل الناس. ثم أضاف بأنه بعد الله، كنت أنا إلى حد ما دافع لدخوله في الإسلام، فقد تأثر بي كثيراً. كرر هذا أكثر من مرة، مما أشعرني بمزيج غريب من المشاعر، مشاعر تدور في معظمها حول الحيرة، وهي مستقلة عن مشاعري بالفرح له، إنما أشعر بالحيرة تجاه ما يخصني من القصة. كان قد أخبرني منذ فترة طويلة مع الدكتور الصيني الأكبر بأنهم يرون أن أسلوب حياتي جميل ورؤيتي للأمور تعجبهم. لكن، أكثر من الصداقة والمحبة، هل يوجد ما يمكنني تقديمه؟. كنت قد سألت وبحثت عن أماكن تعطي دورات في الدعوة. لا أفكر بأني سأسير على منهجها، لكنها قد تجيب على بعض أسئلتي الخاصة، وقد أستلهم منها الأفكار، والأهم، أريد أن أطلع على الرؤية المنهجية أو غير المنهجية السائدة عن أخلاقيات الدعوة وتناولها، وماذا يفعل الدعاة، وكيف يعملون، وما هي رؤيتهم للأمور. لا أشعر بأني سأتفق بالضرورة، لكني أريد أن أطلع. عموماً، لعل همام يجاملني فقط فيما يخص دوري في إسلامه.
سألت عن خالد، كيف أسلم؟. خالد أسلم من تلقاء ذاته. كان سيأتي للسعودية لدراسة اللغة العربية، لهذا بدأ يقرأ عن الثقافة السائدة هنا، وعن الإسلام. فدخل قلبه، وأسلم ببساطة. ما شاء الله، هذه الثقة والإقدام، كم هي مثيرة للإعجاب.
حكينا عن شتى الأمور، عن رحلة همام إلى ابو رقيبه، مكان بعيد تقام فيه مسابقات الجمال للإبل. أراني صورة له وهو يحمل صقراً، حيث دعاه رجل هناك إلى حمله. أما من صوره، فهو مدير وكالة الأنباء الصينية هنا، وهو نفس الشخص الذي صورني من قبل وأنا أستخدم السواك، لتنشر الصورة لاحقاً في موقع وكالة الأنباء الصينية، أخبرني مذكراً إياي؛ يبدو أن هذه الذكرى تشعره بالسعادة. ضحكت متذكراً الصورة، قال همام بأنها كانت جميلة، وعلق بأني لدي ابتسامة جميلة، وهم يريدون أخذ المزيد من الصور لي. أخبرته بأنه يقول هذا لأنه طيب، حيث كانت نظرتي في الصورة أقرب ما تكون إلى الشريرة. ضحكنا. أخبرته بما قاله لي أحدهم مازحاً، أني سأجد صورتي في غرفة كل فتاة صينية الآن. وقد استفاد من هذه الذكرى حينما أخبرتهم بأنه قبل زمن طويل ذهب سعوديون إلى الصين، ولم يكن الناس قد اعتادوا بعد على رؤية الأجانب هناك. فتصادف أن التقوا أطفال مع معلمتهم في رحلة مدرسية إلى منطقة أثرية. دهش الأطفال لرؤيتهم، فجائت المعلمة إلى الرجال السعوديون وقالت بأن الأطفال يودون الحصول على صورة معهم. وافقوا بالطبع، فتجمع الاطفال حولهم وجلسوا في حجورهم وتعلقوا في رقابهم، وأخذت صورة مضحكة. قال همام بأني لو ذهبت الآن إلى الصين، فلن يجتمع الأطفال علي ليأخذوا صورة، إنما سيتجمعن الفتيات لطلب صورة. ضحكنا، كانت محاولة جيدة لإحراجي، قلت: ربما في الجنة، لكن ليس في الصين.
تحدثنا عن الممثلات الصينيات الجميلات.
وتحدثنا كذلك عن السوق الصيني الجديد في الرياض، الذي لم أرى أحد معجب به ممن زاروه، لا بالباعة ولا بالبضاعة. ذهبت يوم الخميس إليه، لآكل في المطعم الجديد فيه. غالب العاملين صينيون. ولسبب ما لا يوجد قسم للعوائل، يوجد فقط بضع غريفات يمكنهم الجلوس فيها لو أرادوا. التعامل فيه جاف وغير مرحب أبداً، والأسعار غالية، والطعام يميل للسوء أكثر مما يميل للجودة. كانت تجربة فاشلة على كل المقاييس. حالما أتيت على ذكر السوق والمطعم أنّ همام بألم، وحادث خالد باستياء باللغة الصينية. ثم أخبرني بأن السوق والمطعم بمن فيهما كارثة. أخبرته عن خيبة أمل الناس. وجهة نظري التي قلتها أنه يوجد سوء فهم واضح بين الناس والباعة الصينيون، فالناس لا يأتون للسوق لمجرد التسوق، حيث أنهم يتوقعون أن للأمر بعد ثقافي، يتوقعون الإطلاع عليه، ويتوقعون التعرف على الصينيون الذين لا يزال الناس لا يعرفونهم هنا، فكل ما يعرفه الناس هو الصداقة الحديثة والحميمة بين حكومتنا وحكومتهم، وكياسة وتواضع حكومتهم مع حكومتنا رغم قوتها، وهم يتوقعون نفس الودية، لكن يخيب ظنهم أمام التعامل السيء للباعة. قلت بأني أفترض بأن تعليمهم ضعيف، ولا يفهمون تمثيلهم لبعد ثقافي، إنما الأمر بالنسبة لهم مجرد تجارة بحتة، وهذا خطأ لن ينتج عنه نظرة جيدة للناس هنا، رغم جهود السفارة. فكر بوجهة نظري وقال بأنه يوافقني، وأن السفارة يجب أن تعلم بالفعل عن الوضع السيء هناك، فهي مهتمة بالأمر، وهمام له صداقات في السفارة. أخبرني عن تجربة خالد، الذي شعر بالسعادة حينما جاء بوجود سوق صيني يمكنه الذهاب إليه حينما يشعر بالحنين، لكنه حينما زاره كرهه وشعر بالفوضى والغباء هناك.
همام يريد أن يأخذني لاحقاً لرؤية أصدقاء آخرين. إني أؤخذ كثيراً ليراني الناس أكثر مما أؤخذ لأراهم، مع أغلب الأصدقاء الأجانب، مما يشعرني أحياناً بأني قشري الوجود. أي أني أقرب للفرجة، شيء طريف مثير للاهتمام، لكن رأيه ليس بنفس القدر من الأهمية. لست أنقم بالطبع، لأني مدرك لحسن النوايا والمقاصد. لكن، أشعر فقط بأن أهميتي تنتهي بسرعة عند هذا الغرض، أي أني أحزن على نفسي.
قرأت اليوم عن طبيبة صومالية بطلة، اسمها حواء عبدي (أحب اسم حواء). هي امرأة كبيرة، أنشأت في فوضى الصومال مستشفى كبير ومدرسة وما يمكن أن يطلق عليه مدينة. بطبيعة الحال، ونظراً للظروف، تعتمد كثيراً على المساعدات الخارجية، التي تكون شحيحة، وقد لا تصل لأسباب كثيرة، ليس أقلها فوضى البلد والأخطار التي تموج به.
لا أدري لماذا لا تمنعنا فوضى لبنان عن مساعدته في كل الظروف، بمسلميه ونصاراه، في حين أن مسلمي أفريقيا لا نظهر في حياتهم إلا على مستوى بعض المنظمات الخيرية، التي لا حول ولا قوة لديها في مثل ظروف الصومال. لماذا نفتقر إلى روح المبادرة حينما يتعلق الأمر بإخواننا المسلمين الزنوج في أفريقيا. هل لأنهم زنوج؟ هل هذا يجعلهم أقل قيمة؟ هذا الواضح. فلون البشرة لا يجعل أفشل الدول تحتقر نفسها حينما تكون بيضاء. فقد سمعت سياسيي لبنان، أعان الله أهلها عليهم فما أكرههم من سياسيين، أكثر من مرة يسخرون ويمثلون بالأفارقة ودولهم بالفشل والعجز الذي هم ليسوا عليه (!!). لا يعطي هذا إنطباع إلا بعظم مصيبة أهل لبنان، الذي يديره أناس جهلة ضيعفوا الثقافة، مع بعض الاستثناءات. مع ذلك، مصيبة الصومال ليست أقل، ولم تكن مصيبة غينيا أقل فداحة على أي مستوى. نسمع عن الصومال، وقد يظهر تصريح حولها. لكن هل سمعتم بما جرى في غينيا قبل فترة؟، هل تعرفون ما هي غينيا؟ غينيا بلد أكثر سكانه مسلمون، أكثر من 80%، مثل اندونيسيا. لديهم حاكم مستبد، أطلق قبل فترة جنوده الذين لا يخافون الله على متظاهرين سلميين، حيث أعملوا أسلحتهم على الناس وقتلوا العشرات، واغتصبوا العشرات من النساء أمام الناس في الشوارع، كعقاب، وقد تم تصوير هذه الاغتصابات، وظهرن نساء ينهضن عن الأرض مكسورات، يرتدين ملابسهن المنزوعة في الشوارع أمام الملأ ليغطين عوراتهن بعد الإغتصاب. بينما زرن العشرات منهن العيادات والمنظمات الخيرية للعلاج مما لحقهن من أضرار وعنف، سراً لأسباب كثيرة. بالطبع، شرفهن وشرف عوائلهن غير مهم بالنسبة لباقي المسلمين، فهن لسن بيضاوات، ولا يختلف إن كن بائعات هوى أم نساء عفيفات، فهن سوداوات في النهاية. لكن، إن لم نكن نغار، فالله يغار، والكل يعلم بأنه يساوي، حتى لو لم نساوي نحن.
كان يجدر بدولنا كلها أن تحتج وتضطرب وتفعل المستحيل لما جرى في غينيا، لكن لم يحدث أي من هذا، وليس بدافع الخوف بوضوح، فلا علاقة للغرب بما جرى، كان الأمر فقط أنهم لا يهتمون، الأمر لا يعنيهم ببساطة، وكأنما إنسانية الناس هناك محل شك، ناهيك عن إسلامهم. كان يجب ربما أن يحدث في لبنان، أو فلسطين، أو البوسنة، أو أفغانستان حتى نشعر بالإهانة. لكن القدر لا يميز، هل نضمن أبداً أنه لن يحدث في أي مكان آخر "حيث يعشن البيضاوات"؟. لا حول ولا قوة إلا بالله. كن الدول الغربية هن من قرأت احتجاجاتهن، وهن من هدد باتخاذ الإجراءات.
لطالما كان المسلمين الزنوج مُهملين، متروكين لشأنهم البائس.
في الخميس الفائت، كنا قد اتفقنا على اللقاء، أنا والدكتور الألماني. لكنه اقترح وقت أبكر من المعتاد. علمت حينما وصلت أنه يريد أن يدعوني إلى الغداء. اختار مطعماً قريباً، من المطاعم التي تجمع بين صفة المقهى والمطعم التي تكثر على شارع التحلية. لم أعرف ماذا يبيع المطعم، لكن لسوء الحظ؛ كان أكثر ما يبيع هو أكلات وسندويتشات على الطريقة اللبنانية. ولم يكن رخيصاً أيضاً، بقدر ما كان ما تذوقت من طعامه غير مميز حقاً. تلك الخبزة النحيلة التي يسمونها صفيحة، وهي مملوءة حتى تكاد أن تنفجر باللحم الممتزج بالخضار والصلصات والجبن، دون أن تشعر بأنه يمكنك أن تفصل مكون عن الآخر ولو على نحو يسير. كانت الكمية كبيرة، لكن غير لذيذة. ربما تعجب أحد آخر، لكني غير معجب بالمطبخ اللبناني بقدر ما يعجبني تهذيب أهله.
تكلمنا حول الكثير من الأمور كالعادة، وكان حديث ممتع. لكني رأيت أنه لا يزال يقلب تركي لبرنامج الماجستير في ذهنه، وربما يشعر بالمرارة أو الغبن لتركي إياه. لكني واسيته بأن أخبرته، وكنت أحتفظ بالأمر كشبه مفاجئة، بأني أسعى على نحو جاد ومثابر في أمر آخر مثير للاهتمام. اسعده الأمر، وجعلني أحكي له القصة، وناقشنا التفاصيل.
لعل ما لا يعجبه هو أنه يتخيل بأني هربت من البرنامج. قلت له باسماً: بأنه لديه مشكلة مع الهروب من الأمور، لكني ليس لدي مشكلة مثله، لا خلاف لدي بالهروب حينما لا أشعر بأني حيث يجب أن أكون، ولا مشكلة لدي بالهروب حينما يكون هذا الخيار الأفضل. فوجئ، وقال بأنه ليس لديه مشكلة مع الهروب حينما يشعر المرء بأن الأمر لم يعد يصلح، بل إنه يسمي الأمر اختصار للخسائر، حيث توقفت قبل أن أخسر أكثر. إذاً، هو فقط حزين للأمر، وليس معارض له تماماً.
قرأت له ترجمة لقصيدة كتبتها مؤخراً، وهي قد لا تبدو مفهومة أو واضحة المعالم. وهي مبنية على انطباعات قديمة، على ذكريات لم يعد لها تأثير على ما أتصور. هاهي:
يقول مديري الحبيب بأن طبعة شكلي: "شقراوية" نسبة إلى شقراء، حيث ينتمي. بالطبع يمزح ويجامل. لكني سعدت بهذه المزحة، وبمجاملته وكأنه يقدرني إلى حد أنه يحب لو انتميت إلى نفس المكان. طبعاً، لديه ما يستند إليه، فعائلة جدتي رحمها الله تنتمي إلى هناك قبل أن تأتي إلى القصيم، قبل زمن طويل، ولا يزال أقاربهم هناك.
أتذكر أقارب لنا قبل فترة ليست بالبعيدة زارونا بالمنزل. حينما دخلت المنزل راجعاً من مشوار، ولم أكن أعلم من الضيوف، أُخذت حينما رأيت أشكالهم؛ كانوا أقرب شبه إلي مما أرى في أقاربي الأقرب، أبناء العمومة والخؤولة. شعرت بأني بالواقع من هؤلاء الناس. حينما علمت من يكونون، شعرت بأن الأمر منطقي. والدي يشبههم ولا يشبه عائلتنا، وإن لم أتشابه مع والدي، ولكني ورثت جينات يغلب عليها طابعهم ربما. أخي الأكبر يشبه أهلنا أكثر من والدي، بل إنه لا يشبه سواهم، حيث يشبه جدي رحمه الله كما يقال عنه. أعتقد أن عائلتنا غريبة. المهم أن كبيرهم كان ودوداً جداً معي في ذلك اليوم، وتكلم معي وسألني عن أمور مختلفة.
لكنه سأل والدي أن يحضرني معه حينما يحضر إلى القصيم، و قال بأنهم سيزوجونني. كان أمر محرج، وكان سيكفي لو قيل لمرة واحدة، لكنه كرر بأكثر من صيغة، وتكلم بجدية. حينما أخبرت أختي الكبرى وأنا أضحك، ضحكت معي (طبعاً). لكنها تسائلت بجدية، لماذا لا أتزوج منهم بالفعل؟ فهم عائلة جميلة. بالطبع، لا أعتقد أني سأتعداهم لو رغبت بأحد من الأقارب أو الجماعة، لكن، هل أرغب بذلك؟ إني أفضل التعرف على أناس جدد.
جاء أخي الكبير ذات مرة إلى العمادة حيث أعمل، كان لديه شأن يتطلب حضوره. طلبت منه أن يأتي ليسلم على مديري. دخل وسلم، جاملا بعضهما برسمية زائدة في نظري. هل لأنهما في أعمار متقاربة؛ يحذرون من بعضهم؟. حينما خرج أخي، كان مديري يبتسم بطريقة غريبة. كأنما يريد أن يضحك. استغربت. سألني إن كان هذا أخي من من أمي وأبي؟ قلت باستغراب: نعم، ما الأمر؟ قال بأنه يسأل فقط. لا يجب أن يكون الإخوة نسخ كربونية، لكن بعض الناس لم يتعودوا. وربما لمحدودية أفراد عوائلهم دور. أنا لا أعتقد أن بيننا اثنين يتشابهون في العائلة. أتهم أنا بأني أشبه أحد إخواني الكبار، لكن بموضوعية، ربما لدينا لون بشرة متقارب إلى حد ما، لكن الاختلافات واضحة. عينيه أصغر، وكذا شفتيه( ما لدي هو من النوع الذي يسمى براطم. كولاجين طبيعي كما كان يصفها أحد الأصدقاء وهو يضحك)، في حين أن الأنف مختلف. المضحك أن كل أبناءه ورثوا عني صفة عجيبة، كانت خالتي العزيزة، زوجة خالي ووالدة زوجة أخي، قد نبهت إليها؛ لديهم ميزة في أرنبة الأنف، وكأنما نتوء جانبي صغير لا يكاد يلحظ، في حين أن هذا الأمر لا يتواجد لدى أخي. بالطبع، أفرح بأنهم ورثوا عني هذا الشيء الخاص جداً، الذي لا يتواجد لدى أحد آخر في العائلة سواي. ربما حينما ينظرون في المرايا لاحقاً ويتفحصون وجوههم، يتذكرونني. وربما ورثوها لأبنائهم، تلك الميزة التي لم توجد لدى غيري في العائلة، ولا أدري عن الأسلاف طبعاً. يقول صديقي سيد أمس: أنفك جميل، لهذا النظارة الشمسية تبدو عليك جميلة. أعتقد أن أنفي غريب، وكأنه صلصال، لكنه ليس جميل بالضرورة، ولا قبيح، لكني أرجو أن يكون أبناء أخي المذكور أعلاه راضون عن أنفي أيضاً. تفحصت أنف أصغرهم، بالكاد عمرها سنة، وهي مدمجة الحجم، لذيذة الخدين، ووجدت أنفها كأنفي. فرحت. لا أريد بالطبع لأي من أبناء إخواني أو أخواتي أن يشبهوني، أريدهم أن يكونون جميلين، لكن، مجرد شيء صغير لا يضر للتذكير أعتبره أمر جيد.
وبذكر أبناء أخي هؤلاء، عاد ابن اخي من كندا، قبل فترة، خائب الأمر. ماذا بوسع المرء أن يفعل...
كان محمد ابن أختي، المحمد ذو الشعر المتموج، يتبعني إلى غرفتي كالعادة. لكن، حدث أمر غريب هذه المرة. حينما دخلت، أخذت المعطر لأصبغ غرفتي بالرائحة التي أعشق، الفانيلا، فهرب محمد بسرعة من الغرفة ووقف يتابع أمام الباب على نحو غريب. بدأت بالرش، ثم أمرني بعصبية أن أرش في اتجاهه، بينما تراجع إلى الوراء!. رششت، فاقترب ببطء، وتوقف، ثم سمعته يتشمم الجو كجرو صغير!. ثم أطلق زفرة ارتياح أمام دهشتي!.
لديه موهبة رائعة بالتصوير ما شاء الله، رغم أن عمره 4 سنوات. كثيراً ما يذهلنا.
السهر نقيض النوم، مع ذلك، ما أجمل الاثنين. أقدر النوم كثيراً، خصوصاً قبل أيام نهاية الأسبوع وخارج الإجازات، حيث يأتي الأطفال في نهاية الأسبوع ويسببون لي انهيارات عصبية كلما صرخوا يلعبون وانا أحاول النوم، نهاراً أو ليلاً. أما السهر، فقيمته بالنسبة لي تكمن بالخلوة، والانشغال بالذات، ألا تكفي هذه كأسباب وجيهة؟.
قرأت رواية أفريقية مؤخراً. لا يجب أن نتوقع أن رواية ستكون جيدة بسبب موضوعها أو مكان انتمائها. كنت قد قرأت رواية: أشياء تتداعى، للكاتب تشنوا أتشيبي، وهو أفريقي وأجواء الرواية أفريقية، وأعتبرها من أروع وأجمل وأكمل ما قرأت من الروايات. أما الاخيرة، واسمها: مذبحة ويريامو، فهي في رأيي راحت ضحية المبالغات والسذاجة، وعدم ضبط الشخصيات وضعف المنطق خلفها، أضف إلى هذا إقحام الفلسفة على نحو زائد عن الحد، وفي أماكن وعلى ألسنة غير ملائمة، وحيث لا يتوقعها المرء ولا يريدها، مما يثير ازدراء القارئ، بدلاً عن التأثير عليه. إن موضوعها يتعلق بالمستعمر الأوروبي، مقاومته أو مداهنته، كراهيته أو الانبهار به، عبر شخصيات كثيرة. كل هذه مقومات كانت لتصنع رواية مثيرة للاهتمام، ويوجد شخصيات كانت لديها الامكانية لتصبح مؤثرة، لكنها لم تستثمر، وعولجت بسذاجة وسطحية. كان وصف المآسي أحياناً يشعر المرء بالضيق والاستنكار، ليس لإتقان الوصف، لكن للحط من قدر الموقف المؤلم بسبب ضعف الأسلوب، الأمر الذي جعل المأساة على جانب من الكوميديا أحياناً، مما يثير الغيظ.
فشل بالأسلوب، وليس في النوايا، لكنه فشل.
هذا رأيي بها. للأسف، لا أدري إن كنت سأقرأ مرة أخرى شيء بجودة رواية أشياء تتداعى، تلك الرائعة فوق الوصف. لم يكن الأمر مجرد جمال وإثارة قشرية بالنسبة لرواية "أشياء تتداعى"، إنما كان هناك مغزى عميق جداً، يمكن إسقاطه على الكثير من الشعوب والامم. نفكر بتشابه الامراض، وقد يكون ما نتحدث عنه هنا هو مرض واحد أو علة واحدة، لكننا ننسى أن الاجساد التي تستقبل نفس المرض متشابهة، وإن باعدت عنها المسافات. في رواية تشنوا أتشيبي، يرى المرء الإرادة القوية وهي تتحطم، والموت الذي نهرب منه بغريزتنا، بينما هو يزحف إلينا من كل اتجاه، نجد أنفسنا مدفوعين باليأس والخيبة إلى إحتضان هذا الموت.
اليوم الخميس، وهو يوم جميل. ذهبت مع الدكتور إلى المتحف الوطني، لنرى في أحد صالاته معرض الحدائق الأندلسية.
في السيارة، تكلمنا حول رؤيتنا للناس وأنواعهم، فلسفنا الأمور
في الطريق سائرين قرب المعرض، تكلمنا عن أوروبا، وتسائلت إن كانت سويسرا تشبه جنوب ألمانيا. شرح لي الإختلافات والتشابهات. قلت بأن سويسرا كانت دائما مثال هنا على الجمال. لكني أعقبت بأني لسبب ما، منذ أن كنت صغيراً، لم تثر أوروبا اهتمامي، رغم أني أعلم بأنها جميلة، وأني لو ذهبت إلى هناك، فلن أنسى التجربة، إلا أني لا أشعر حقاً بالاهتمام كثيراً. قال بأن هذا شيء متوقع، فهي مختلفة عن هنا كلياً. قلت لكن الناس الذين يذهبون إليها يحبونها كثيراً، كل من أعرف أحبها حينما ذهب. قال بأنهم "ربما يحبون الحرية هناك، ولكني لا أعتقد بأن الحرية هي الأمر الذي تشعر أنت بأنه ينقصك هنا، أو تبحث عنه، إنك لديك أشياء أخرى تبحث عنها، لذلك لا أتصور بأن أوروبا ستبهجك كثيراً".
لا أشعر بأني مفتقد للحرية هنا، لكني مفتقد للماء الجاري على الأرض، وانشغال الناس بأنفسهم. مع ذلك، استشعرت مباشرة بأنه بدأ يعرف خبايا نفسي بسرعة، دون أن آتي على ذكرها، ولو من بعيد.
لمن يريد أن يعرف؛ المعرض تافه جداً. إنه أشبه بعذر عن شغل المكان، وتنفيذ لمجاملة قيلت، عنه عرض لحدائق وأساليب تنسيقها أو أسباب اختلافها عما لدى العالم. لن يرى الزائر نماذج لحدائق، ولا حتى صور كافية عنها، إنما صور عابرة. ما سيرى المرء هو علب يستنشق منها روائح النباتات التي كانت تزرع هناك، وأكثرها مألوف، رغم أنه ربما يكون هذا هو المغزى. المرة، وأكليل الجبل، الذي حينما شممته عرفت أنه دواء تعطيه أمي لمن يمرض لكن باسم مختلف، والكمون، وأشياء عادية في مجملها. كما يوجد نماذج لآلات الري والطحن، نواعير وتروس جميلة، لكن، أليست النواعير تملأ الشام؟ وأليست التروس تملأ مزارعنا سابقاً على هيئة السواني؟. أتفهم أن وجودها ضروري بالمعرض، ليخبرنا أن الناس هناك كانوا امتداد لنا ولثقافتنا، لكن هذا التهافت لإيصال هذه الفكرة الوحيدة، وإهمال الجانب العملي والمتوقع من عنوان المعرض، كان أمر مثير للضيق، وكأنما كان خدعة.
ترى نموذج صغير في المدخل لأصص يفترض أن تعطي انطباع عن حديقة بمساحة مترين أو ثلاثة. ثم بعض الروائح بالطريق إلى الصالة، محبوسة في علب بلاستيكية بمقابض جانبية حينما تحركها يتحرك الهواء في الداخل فيخرج من فتحات الاستنشاق، حيث تقرب أنفك. ثم نموذج لناعور، وهو نموذج متقن وجميل. ثم الكثير من الروائح، وعرض جانبي للبذور والأوراق، ثم مدخل الصالة الصغيرة. يوجد منصة لأجهزة حاسب تعرض برامج، أعتقد أن كلها باللغة الاسبانية، وزجاجة تحوي كتابين قديمين أحدها بلغة أوروبية والآخر بالتركية بخط عربي، وكلها مترجمة عن كتب عربية عن الصحة وطيب العيش والزراعة على ما أتذكر. المزيد من الروائح والنماذج الصغيرة، وهكذا دواليك. لم تكن المعروضات عموماً كثيرة أو مثيرة للاهتمام. بعد قليل من دخولنا، سمعنا صوت مرتفع لعزف على عود. صمت وأنا أحاول أن أستوعب، هل هو نغمة لجوال، أم شخص يعزف فعلاً، أم تسجيل؟. أكمل العزف، فعرفت أنه تسجيل لإضفاء الجو للمعرض. ضحكت وقلت: "قبل بضع سنوات، لم يكونوا ليجرؤوا على هذا."
استدار إلي الدكتور، وقد شد هذا التعليق انتباهه، واجهني جانبياً، حاثاً إياي على التوقف بهذه الطريقة، وسأل: "هل تعتقد أنه من الأفضل أن يكونون أكثر تشدداً؟"
أجبت: "أعتقد أن القرار يجب أن يعود للناس. إن أرادوا تشدداً أقل، فليكن، وإن لم يريدوا، فليكن، فالأمر يجب أن يرجع لهم، يجب أن يكون قرارهم، لا أن يرغموا على الأمر. أعلم بأن الكثيرين سيعجبهم تخفيف التشدد، كسماع الموسيقى هكذا، لكنهم لن يريدوا أن يرغموا على القبول بالأمر، بينما سيعجب آخرين الإرغام على الأمر، لمجرد أنه وافق هواهم، دون اكتراث بالآخرين."
صمت الدكتور، وقلب نظره متأملاً. ثم قال بأن هذا صحيح.
كنت خائب الظن بالمعرض أكثر من الدكتور، الذي ربما أخفى خيبة ظنه حتى لا أندم على جرجرته إلى هناك. لما كدنا أن نخرج اقترحت أن نزور المتحف الوطني نفسه. حينما وصلنا لشراء التذاكر، عشرة لكل واحد منا، قال ببساطة أنه هو من سيدفع، وثناني بهدوء. ابتسمت، قلت بأنه لا يهتم بالمال. لاحظت منذ البداية أنه كريم جداً. وهذا أمر مبهر، لأننا في الجزيرة العربية نتخيل بشكل لا واعي بأننا وحدنا الكرماء، محاطون بأناس يقدرون المال أكثر من المطلوب في محيطنا العربي. أما باقي العالم، فلا نعرف عنه غير الحكايات الفردية، التي تكرس لبخل الأوروبيين مثلاً.
دخلنا، في البداية كان هناك أحجار ومعادن، ثم هيكل ضخم لنوع من الفيلة كانت تجوب الجزيرة العربية قبل ملايين السنين. كان المتحف جميلاً، يوجد فيه الكثير مما يثير الاهتمام. لكني أعتقد أنه من الممكن أن يكون أفضل. أكثر ما أسعدني هو أني رأيت على الطبيعة قناع ذهبي صغير، وقفاز طويل ذهبي أيضاً، أقرب ما يكون غطاء للذراع، وأشياء أخرى، وهي كلها بمقاس يلائم طفل بعمر السادسة إلى الثامنة. هذه الأشياء أكتشفت في المنطقة الشرقية، في قبر فتاة ماتت قبل آلاف السنين، أكتشف القبر قبل حوالي سنتين، وقد قرأت الخبر ونظرت إلى الصور باهتمام كبير في ذلك الحين. قيل في الخبر أن الفتاة على الأغلب هي أميرة يونانية. القناع بدا لي يوناني الطابع إلى حد بعيد. كثيراً ما خطرت في بالي هذه المكتشفات، لكني لم أتوقع أن أجدها هنا في المتحف.
للأسف، هذرت على رأس الدكتور أكثر مما أردت، لم أصمت أبداً. شعرت بالأسف، لأني فكرت لاحقاً بأني ربما أفسدت تجربته دون أن أريد. أخبرته عن الكثير من الأشياء التي أعرف عنها في المتحف، وحكيت له القصص، وأشغلته كثيراً. هي الزيارة الأولى لكلينا. تكلمت بحماس عن قرية الفاو، وقد غاب عني أننا على الأغلب سنصل إلى أمور معروضة عنها. لكن خاب ظني كثيراً حينما لم أجد تمثال مجنح بديع، كان قد وجد في الفاو. أين يمكن أن يكون؟.
كانت أشكال الكتابات العربية القديمة تخلب اللب، حيث أنها لا تشبه كتابتنا هذه، بل هي حروف مختلفة كلياً، إنها جميلة وتشعر المرء بأنها تحمل إحساساً راقياً ومتطوراً. كنت قد قرأت أن أهل الفاو قد شغفوا بالكتابة حد الجنون، بحيث تجد الكثير من الكتابات لهم على كل شيء حول كل الأمور. يا للروعة والرقي والحس بأهمية التعبير. أخبرت الدكتور بهذه المعلومة، وضحكت، قائلاً بأني أتمنى لو كنا قد ورثنا هذا عنهم. ثم رأينا صورة أعرفها، أخذت عن رسمة وجدت في الفاو. صورة لأمير أو شخص مهم، شاب وسيم مكحول العينين، ينظر نظرة جادة، بينما حوله فتاتين يقمن بطقس معين، غير واضحات المعالم، والصورة جميلة، ملونة بألوان زاهية لا يدري المرء من أين حصلوا عليها. للأسف، لم أرى من تماثيلهم شيئاً، رغم وجود تمثالين صغيرين مع عدة الفتاة اليونانية، ورغم أني أعلم بأن أهل الفاو كانوا متطورين جداً في صنع التماثيل، وقد ضاهوا اليونانيون إلى حد بعيد، كما أنهم كانوا وثنيون.
في أحد الأقسام، رأيت إبر معدنية كبيرة، مصنوعة بإتقان. فتذكرت قصة قديمة كنت أحبها حينما كنت صغيراً. قصيتها على الدكتور. وهي عن فتاة بدوية جميلة، ذهب أهلها لتلبية دعوة وتركوها لوحدها في الخيمة. حينما خيم الظلام ولم يعد ذووها، خافت، فهي لا تعرف كيف تشعل النار، رأت خيمة بعيدة وأمامها نار. ذهبت إلى الخيمة، ووجدت رجل مسن عند النار. استأذنت لتأخذ من ناره، لكنه رفض. حاولت إقناعه، لكنه رفض مع ذلك بعناد. فقدت أعصابها، فضربت الشيخ وأخذت بعض النار ومضت. لم يكن الشيخ وحيداً، فقد عدن بناته ووجدنه يبكي، ولما أخبرهن ذهبن إلى خيمة البدوية الجميلة، وهي اسمها نجلاء في النسخة التي سمعت، وضربنها، ووخزن فروة رأسها بإبر نحيلة لا ترى، وسحرية، بحيث جعلتها تذهب في غيبوبة. وتركنها هكذا. حينما عاد أهلها، فوجئوا بالمصاب، وطلبوا عون الأطباء والغجر، لكن لم يستطع أحد أن يعرف العلة، فلا أحد يمكنه رؤية الإبر السحرية فيعلم بوجودها. ربطها أهلها فوق جملهم الأثير، وأطلقوه ليهيم بالصحراء، ولتواجه ابنتهم قدرها، أو يتولاها الله برحمته، بعدما لم يعد في يديهم حيلة. لكن الجمل اقترب لاحقاً من قرية للحاضرة، ولم يتمكن الناس من الإمساك به، سوا أن شاب جميل تذكر بأنه رأى هذا الجمل مع أهله البدو عند أحد السواقي، وتذكر أن اسمه: سيف. نادى الجمل، فتوقف الجمل، وعاد إليه. حينما فلوا القماش الذي يحمله، وجدوا نجلاء في الداخل، لا تستيقظ. أخذت إلى منزل أهل هذا الشاب، ولم يتمكنوا من مساعدتها. بعد حين، وصلتهم دعوة إلى وليمة، وكانوا بالعادة يتركون أحدهم للعناية بجدتهم الطاعنة بالسن، والعمياء. لكنهم قرروا أن يذهبون جميعاً، ويتركون نجلاء إلى جانب الجدة الخرفة، لتجسرها فلا تخاف، وهي لن تعلم بأن الفتاة لا تعي ما حولها. بدأت الجدة حينما غادروا تمسد رأس نجلاء الجميل، وتحكي لها الحكايات، ولكنها شعرت بالإبر، وانتزعتها واحدة واحدة، فرغم أن كل من عاينوا نجلاء مبصرين، إلا أن هذه العجوز العمياء هي الوحيدة التي توصلت إلى الإبر. فتحت عينيها نجلاء، وأفاقت من غيبوبتها. لما عاد الأهل، وقع الإبن في حب نجلاء، وتزوجها.
ضحك الدكتور في نهاية هذه القصة. إنها طفولية وساذجة، لكنها جميلة جداً ومعبرة، لهذا لا زلت أحبها. فهذه العجوز الضريرة سخرها الله لتفعل ما لم يفعله المبصرون دون أن تدري، لأنها حنونة.
وصلنا إلى قسم الحج، ولما خرجنا، سألني إن كنت قد ذهبت إلى مكة؟ ضحكت، وأخبرته بأني ذهبت كثيراً، ولكني أفضل المدينة المنورة عليها. قال بأنه يعتقد أن المدينة أجمل بالفعل. بالتأكيد، رأى هذه المدن المقدسة بالصور. قلت له، بأن الأمر لو ترك في يدي،،، ثم لم أكمل، فقد فطنت أنه علي إيضاح الأولويات. قلت بأني لو كنت سأنتقل من الرياض، فسأذهب إلى المدينة المنورة بأمي وأبي. ثم أعقبت؛ لكن، لو ترك الأمر بيدي، أو لنقل لو أرغمت على مغادرة المكان، لاخترت العيش في عمان، وأخذت أمي معي.
قال متفاجئاً: عمان؟
قلت: نعم، عمان، فأهلها طيبون، ومتحضرون بطبيعتهم، وأتصور بأن العيش سيطيب لي هناك.
قال بأنها بلد جميل، وأهلها بالفعل طيبون ومتحضرون، وأن الحضارة ضاربة بجذورها هناك، إذ أنه زارها.
خرجنا، ومشينا بالحدائق الخارجية المزدحمة، وكان هناك بعض المياه الجارية اصطناعياً. أخبرته بأن النوافير هي من أكثر الأشياء التي أحب في حياتي، رغم أني لم أرى نوافير جيدة هنا، أو نظيفة. وحينما تكون مقبولة، تكون مهملة وقذرة، كلها هكذا هنا. وافقني، قائلاً بأن هذه هي مشكلة كل الدول العربية، فالأمور تهمل بسهولة. وقال بأن النوافير جزء متأصل في حضارتنا نحن، ويمكن رؤيتها في المدن القديمة، دمشق، القاهرة، وخلافها. سألته عن النوافير في ألمانيا؟ قال بأنها كثيرة جداً، بدا الأمر وكأنه يغريني، أو يشعرني بالأسف، سألته إن كان قد شرب منها؟ قال بأنه يشرب منها، فهي صافية ومنعشة، والشرب منها طيب. أخبرته بأني أتمنى لو وجدت نافورة جميلة، ونظيفة، لأنام فيها. أجاب بأنه لن يمكنني أن أطيل النوم، فستكون المياه باردة على الأغلب. صَمَتّ.
سألته إلى أين يود أن يسافر، كانت دولة آسيوية. قلت بأني لو سافرت، ولست بشخص مسافر، لذهبت إلى البيرو. فوجئ، وابتسم، وقال نعم، البيرو تلائمك، وخذ معك هذا البونشو. يقصد التشادر الأبيض الكريمي الذي أتلفع به اتقاء للبرد. ضحكت، وقلت بأني لو ذهبت بناء على ما ألبس، لذهبت إلى أفغانستان. استغرب، فشرحت له أن هذا اللبس يأتي من هناك، ومن باكستان. التشادر هو قطعة قماش مستطيلة، طويلة جداً وعريضة، ترى كثيراً على أهل تلك المناطق.
حينما اقتربنا من السيارة، سألته عن أفضل الروائح التي يحب. قال بأنها كثيرة، ولكن لا شيء محدد، فهو يحب الروائح المتجمعة بعدما يهبط المطر في الغابات في ألمانيا، ويبرز روائح كل شيء، الأرض، النباتات، الأشجار. قلت بأني أحب الفانيلا. ضحك، متذكراً بأني أعطيته قارورة صغيرة من زيتها. أخبرته بأسف بأنها لم تكن من أفضل نوع، حيث أن النوع الرائع الذي كنت أشتريه لم يعد يأتي به المحل، فاضطررت بعد بحث إلى هذا النوع الذي لم أجد غيره، وأعطيته منه. ابتسم، قائلاً ونحن نمشي: دائماً تبحث عن أفضل شيء. قلت بأن غيره يقولون بأني غريب يبحث عن أغرب الأشياء.
حينما اقتربنا من منزله، سألته؛ لو كان سعودياً، فماذا يحب أن يكون اسمه؟. هذه الأسئلة السخيفة التي أحب أن آتي بها من وقت إلى آخر، وهو لا يمانع سخافتي. فكر طويلاً، ثم قال: طارق. لا أحب هذا الاسم، لكني لم أقل شيئاً. إلا أنه استمر بالتفكير، قائلاً بأن هناك اسم يحبه حقاً، ولكنه لم يستطع تذكره. اقترحت: لماذا لا تسمي نفسك هادي؟. تسائل: هادي؟ قلت: نعم، هو اسم جنوبي، وأنت من جنوب ألمانيا، هذا يجعل الأمر معقولاً. ضحك، وسألني عن معنى الاسم؟ لما شرحته تفكر قائلاً: "ااه، هاديه! مثل هاديه! ولكنه مذكر." قال هاديه بلكنة مصرية، حيث عاش هناك لوقت ليس بالقصير، وكل أصدقاءه هنا من المصريين على حد علمي. أما أنا؛ حينما سألني ماذا قد أختار لنفسي (لم يقل لو كنت سعودياً بالطبع). قلت بأني لست متأكداً، ولكني حاولت قبل زمن طويل أن أغير اسمي، حيث لم يعجبني، ولكن والدي عارض الفكرة بقوة، حيث سماني على عمه، الذي لم أصبح مثله بالنهاية. الآن، نسيت ما كنت أريد أن أختار لنفسي. مع ذلك، لو غيرت اسمي الآن، لاخترت اسم: سعود. تسائل: سعود؟ لم ينطقه بشكل صحيح، فصححت له، وشرحت: "أريد أن أسمي نفسي سعود لأن هذا ما رغبت أمي أن تسميني به، حيث أنها تقدر أمير اسمه سعود الفيصل كثيراً، وهو وزير الخارجية، وتعتقد بأنه ذكي جداً ومحنك، فأرادت أن تسميني سعود تيمناً به، لكن والدي رفض" قال الدكتور بأنه لم يكن ليرفض هذا.
في الليل، تناولت العشاء مع خالد، زميلي في العمل، وهو مؤذن مسجد الآن، انتقل إلى شمال الرياض في الشهور الأخيرة. تعشينا في مطعم طوكيو. كان عشاء طيب وممتع، وتندر خالد كثيراً على التشادر. كنت قد رأيت من خلف الحواجز الحصيرية وجه مألوف حينما دخلنا للمطعم، فاستأذنت من خالد، وذهبت إلى خلف الحاجز، وسلمت على زميلين من أيام الجامعة. أحدهما كان ليس أقل من صديق في بداية الجامعة. تندر بأنه كان يجب أن يعرف أنه سيجدني في هذه الأماكن إن اختفيت. كنت أتهم في الجامعة بالكثير من الأشياء، بأني لي طابع ياباني، وأحياناً بأني أبدو كرسمة أنيمي (الشخصيات الكرتوني اليابانية) وأحياناً كفنان أوروبي (حسب القبعة)، أحيانا أشياء كثيرة أخرى. دعوني للبقاء معهم، ولكني استأذنت بأن معي أحد. حالما غادرت الغرفة نسيتهم، والغريب أن خالد هو من ظل يتذكرهم ويسأل عنهم!! خالد عجيب. حكيت للدكتور الألماني عنه، قلت: لدي زميل في الجامعة، سألني ذات مرة: لماذا تحب الأشياء الغريبة؟ فرددت: يجب أن تسأل نفسك هذا السؤال، فأنا أحبك. ضحك الدكتور الألماني كثيراً. وكان هذا في تتمة النقاش حول كوني أبحث عن أفضل الأشياء أم أغربها. وصفت خالد بأنه رجل طيب جداً، مؤذن للصلاة، شديد البراءة والبساطة، حتى أنه يبدو لي كطفل في معظم الأحيان (في النصف الثاني من ثلاثيناته بالواقع). قال الدكتور: إذاً، هو لا يستوعب عمق شخصيتك وحساسيتك. يصفني الدكتور أحياناً بأوصاف من هذا القبيل، حتى يشجعني ويجعلني أشعر بأني شيء مميز.
عودة إلى العشاء مع خالد؛ فوجئنا بأن كل أماكن المطعم تسمح بالتدخين، وكان هذا شيئاً سخيفاً، لكن خالد طلب من الأشخاص بجانبنا عدم التدخين.
ثابر خالد في محاولة استخدام عيدان الأكل، ولم يعطني الفرصة الكافية لتعليمه، أو يدقق كثيراً على تعليمات استخدامها على الغلاف. لكنه نجح على نحو مقبول. أحضرنا لاحقاً الأدوات المعتادة للأكل، وأكلنا بأيدينا حتى.
قلت لخالد، بأن المرة القادمة سنذهب لتناول السوفليه في مقهى قريب. وصفت السوفليه بأنه حلوى لذيذة، لها شكل بطن خالد، خصوصاً أنه كان يرتدي ثوباً بنياً في تلك الليلة.
حينما خرجنا من المطعم، قال خالد بأنه يريد أن يمشي في ممشى الملك عبدالله. ذهبنا ومشينا، وتكلمنا كثيراً. بائع عطور هناك، حينما علم أن خالد يريد شراء البخور لتعطير مسجده، رفض أخذ المال، وثاوب به لأمه رحمها الله. أما أنا، فلم يعجبني عطر الفانيلا لديه أبداً، ولا أدري كيف بعض المحلات تسمي الرائحة التي لديها بالفانيلا، هل يعرفون الفانيلا حقاً؟.
ثم دخلنا بيته الجميل، وأراني إصلاحاته، وهو بيت المسجد. بيت فريد، لا فناء يحيط به، إنما فناء خلفي مستطيل فقط. وقد أعجبني هذا كثيراً. كانت إصلاحات خالد رائعة، وذوقه جميل بالاختيارات، مع زوجته بالطبع.
وجدت اتصالات من همام الصيني، وعرفت منه لاحقاً، وهو يكاد أن يكون منقطع الأنفاس من فرط الجدية، أنه يحتاج لرؤيتي الليلة لأساعده بتحرير ترجمته لنص صيني ضروري لجهة رسمية. وجدت ترجمته ممتازة، رائعة جداً ما شاء الله. لكنه فعلها في يوم واحد والنص طويل، وكان يحتاج إلى اختصار الوقت في التحرير. حررناها في ساعتين في مقهى جافا تايم، بعد صلاة العشاء. ثم مكثنا نتكلم عن شتى الأمور.
هاقد عاد جهازي العزيز من الدمام، كم اشتقت إليه. قرأت نتيجة دراسة أجنبية في الجريدة حينما كنت صغيراً، تقول بأن الرجال أشد تعلقاً بممتلكاتهم من أدوات وآلات من النساء اللائي لا يتعلقن بها عاطفياً مثل الرجال. يعني أن الرجل مثلاً قد يتعلق عاطفياً بسيارته أو ساعته، في حين أن المرأة تنظر إلى هذه الأشياء بطريقة عملية، وسائل يمكن استبدالها، قيمتها مادية لا معنوية. لكن من يدري، لعل الدراسة مخطئة.
الجو اليوم استثنائي بمعنى الكلمة. في الصباح كان ممطراً ومنعشاً. وقد لبست الجكيت لأول مرة للعمل هذا الشتاء. فرحت بالواقع، فأنا كنت أود أن ألبسه في العمل، لا في المساء فقط. من المؤسف أني لا أستطيع جلب التشادر إلى العمل، حيث لن يبدو جيداً مع الغترة. الجكيت الذي ألبس كثيراً ما كان محل اعتراض امي، حيث تعتقد بأنه لا يجلب الدفء، لأنه يخلو من الفرو أو البطانة الثقيلة في الداخل. لكني أشعر بأنه دافئ بما يكفي. اشتريته قبل سنوات من برناردي قبل أن يغلق، بسعر أقرب للبخس في وقت تخفيضات. أتلقى حوله عموماً تعليقات إيجابية حتى الآن رغم مرور سنوات وهو لدي، خصوصاً للونه المميز، الذي لا أدري ما اسمه. كيف يمكن للنساء تسمية كل الألوان؟!.
عموماً، لدي شغف بالحفاظ على الملابس لفترة طويلة. لست من النوع الذي يميل لشراء الملابس كثيراً، سوا حينما أجد شيء مختلف واستثنائي حقاً. وكلما ازداد تقادم القطعة التي أحب، كلما ازدادت قيمتها لدي. ليس الأمر بخلاً، لكني أحب الوفاء لما أحب من الأشياء غير الالكترونية. فالملابس وما شاكلها من هندام وخلافه أرى بأنها تعكس شخصيتي، لهذا أحرص وقت الاختيار ولا أشتري كثيراً، أرى بأن هذه الأشياء تصطبغ بالشخصية مع الوقت، وتصبح شبه قطعة من المرء. أعترف عموماً أن الأمر حينما يداخل الثياب البيضاء والغتر، لا أهتم بأمرها كثيراً. لأني لا أرى فيها تميزاً كبيراً فيما بينها، وأشعر بأنها استهلاكية، حتى جودتها مهما دفعت تظل متدنية ولا تعيش طويلاً. وهنا يطل التكاسل برأسه، بالإضافة إلى عدم الرغبة بالتبذير، فلا أفصل أو أشتري الثياب إلا على فترات أبعد من اللازم. لكن قد يحسب البعض أن هذا هو السبب الذي لا يجعلني أمانع خياطة الشقوق غير الكبيرة متى ما كان هذا ممكناً، حيث تخيطها لي أمي، لكن هذا غير صحيح. أنا أهتم بخياطة الثياب وإصلاحها بعداً عن التبذير، حتى لو اشتريت ثياباً جديدة، لا أحب التخلص من ثوب لأنه انقطع على نحو يسير، أو لأن البعض قد يضحك حينما يرى الخياطة، فمن يضحك على أمر كهذا يسعدني أنه يضحك علي وليس لي، لأن مقاييسه مقلوبة وشخصيته غير عميقة، فحكمه حينما يأتي معاكساً فهذا مما أعده بشارة. لا أحب الكِبر، يمكن للمرء أن يظهر أنيقاً وحسناً حتى لو كانت ثيابه مخيوطة الشقوق الصغيرة على نحو معقول، طالما أنها ليست رثه أو مهترئة تماماً، وطالما أنها نظيفة. فوجئت بسيد، صديقي الهندي، يُشده حينما رأى بأن ثوبي مشقوق ومخيط من عند باطن الكوع. ذكر الله، وتأمل الثوب ممسكاً بيدي، وقد استغربت كثيراً. لكنه قال بأني أول سعودي يراه يخيط ثيابه، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان هكذا. لست أدري عن صدق الادعاء هذا، لكني حزنت على كون خياطة الثياب المشقوقة ليست بالأمر الدارج.
كما أني أهتم بإصلاح ما أحب من الملابس وما أجده أثيراً بنفس القدر. لدي صديرية فرو، أصلحتها ذات مرة بدبوس حتى لا يقع الكتف، وظلت جميلة ومميزة، أسئل عنها في بعض الأماكن.
رأيت الدكتور الألماني اليوم، كانت لدينا مهمة؛ شراء فساتين لحفيداته الصغيرات. فساتين ملكة سبأ. لم أفهم بالبداية ما حكاية ملكة سبأ، حينما أخبرني في منتصف الأسبوع عبر البريد. شرح بأنها فقط فساتين جميلة. أخبرني القصة اليوم؛ الطفلتين الصغيرتين رأين خالتهن تمثل في مسرحية دور ملكة سبأ، فأعجبن بفستانها. أعمارهن ٦ و٧ سنوات. دخلنا محل، ولم ينتبه كثيراً لما اقترحته بثقة منذ البداية؛ كان فستان غريب وبسيط بنفس الوقت، له رقبة زرقاء مطاطية عريضة وطويلة تغطي الرقبة (الأزرق شرط مهم) بينما الفستان أبيض ومنسدل بثنيات واسعة، بلا أكمام أو حتى كتوف. لم تبدو لي الفساتين التي لفتت انتباهه وشرع بقياسها بالمتر جميلة أبداً، لهذا كان علي أن أخبره بسبب اختياري حتى يكون على بينة. قلت بأن الفساتين التي اختار عادية ومعاصرة، بينما الفساتين التي اخترتها أنا للفتيات غريبة وغير تقليدية لهذا الزمن، وكأنما صممت في حضارة قديمة مختلفة وتوحي بالفخامة البسيطة والقدم، فسيبدين كملكات قديمات بها. دقق النظر بالفساتين، وفرح جداً، استوعب الفكرة. مع ذلك، أقنعته بالانتظار، لنرى المحلات الأخرى، لم يبدو أنه صار يريد غير هذه الفساتين لحفيداته، فتوصلنا إلى الاتفاق على إبقائها محجوزة لدى البائع ريثما نعود. خرجنا وهو يتكلم بأنه سعيد لأنه لقي الفستان المناسب، رغم أنه لم يدرك هذا في البداية، إلا أن رؤيتي للأمر أعجبته. تكلم عن حمله لهمّ الفساتين، الذي سقط الآن، واعتبرني منقذ. عرفت أن دوراننا على المحلات الأخرى لن يكون له طائل، طالما هو معجب بتلك الفساتين الصغيرة إلى هذه الدرجة. لكنه على الأقل وجد أكاليل من زهور صناعية، واصر على شراءها، واشترى كذلك طرحات سوداء مزينة لهن.
عدنا للمحل، فاصلت الرجل، وبالكاد أنزل بعض السعر. في المحلات الأخرى، كان لا يعجبه ما يصفه بالتصاميم الأمريكية الطابع.
صاحب محل حسب أنه أمريكي، ودلنا على محل يحتوي موديلات أمريكية، وكان هذا آخر ما يبحث عنه الدكتور.
عرفت أنه معارض كبير للألعاب الالكترونية، وتناقشنا حول الأمر. قلت بعدما لم أتمكن من إقناعه: أعرف ما العلة، لأنك لا تستمتع بها ولا تعرف استخدامها تحاربها مثل الكثير من الناس. صمت مبتسماً، ثم قال بأن هذا صحيح. صحت: أرأيت؟!. لكنه قال سأسمح لك إذا باللعب. عرفت أنه يمزح، فضحكت.
سألته إن كان سيذهب إلى أمريكا؟ حيث أن ابنه باحث هناك على مستوى عال. فوجئت بأنه يخطط للذهاب بعد فترة. سألني لماذا أسأل؟ قلت لأجعله يشتري لأجلي أشياء من هناك. سألني ماذا أريد؟ وأضاف باسماً: ألعاب فيديو؟ قلت: لا، أريد دمية مضحكة تباع هناك، لها شفتين وأسنان، أريد أن ألاعب بها أبناء إخواني (أريد أن ألعب بها وحدي أكثر لقول الحقيقة، فهي شكلت صرعة في الفترة الفائتة حتى على مستوى الكبار هناك، لأنها كوميدية ومضحكة).
لكن لاحقاً، تم الإعلان عن جهاز ألعاب محمول جديد، وأشعر بأني تورطت لأني أريده. لو كان شيء آخر لطلبته أيضاً لاحقاً، لكن هذا جهاز ألعاب، وربما لن يعجبه أن يحضره معه. بالطبع، سأعطيه ثمن كل شيء، لكن هل سيتضايق لو طلبت شيء لا يشعر بالارتياح تجاهه؟.
تأخر الوقت، ولم يعد بأمكاننا الجلوس وشرب القهوة والتحدث لأن الصلاة حلّت، لكن لا بأس، في الأسبوع القادم إن شاء الله. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء في المرة القادمة، فيما يشبه التعويض.
ما أسرع مرور نهاية الأسبوع هذه، رغم امتلائها بالأحداث. ليس بالأمر المعتاد بالنسبة لي.
وصلتني رسالة من باكستاني طيب يعمل في الجامعة. هي للسلام، وهي مشوبة بالمرارة كذلك. يقول بأنه حينما يأتي إلى الإدارة لأجل عمل فإنه يواجه بوقاحة الموظفين. بعض الموظفين فعلاً قساة، ولكن عن ضعف بالوعي، وهي مشكلة خطيرة واسعة النطاق في المجتمع. كذلك أعلم بأنه يعاني من جهة أخرى من الدكاترة السعوديين. قال لي متعاقد قبل فترة أنهم يبحثون طوال الوقت ويقدمون الأوراق التي يجب أن تشتمل على اسم دكتور سعودي، الذي لا يقوم بشيء، حتى يترقى إلى مرتبة علمية أعلى.
قال الباكستاني بأني الاستثناء الوحيد في العالم العربي كله. فعرفت بأن زملائه من العرب أيضاً يشكلون معضلة. سمعت الكثير من الشكاوي عن الأساتذة المصريون وخلافهم وسوء معاملتهم للهنود وبقية الآسيويون. وهذا أمر يسيء إلينا كثيراً. بخلاف المال، هل يجد هؤلاء القوم إيجابية لدينا؟.
رددت عليه أشكره، وأخبره بأني أخشى بأني مخادع أو أعرض أصدقائي لسوء الفهم حينما يفاجئونني بمثل هذا المديح. وناقشت رؤيته للعرب، وطلبت منه أن يتحلى بحسن الظن، لمعرفتي بقلبه الكبير.
كان من المتحمسين للعرب حينما جاء في بادئ الأمر. أتذكر هذا جيداً.
أتساءل مؤخراً عن دور المدارس في التربية أكثر فأكثر. كل ما ينتقده الناس هو المواد العلمية السيئة، والإختصار المخزي للعلوم الدينية واللغة العربية، والمدرسون السيئون. لكن بدون النظر إلى عناصر المدرسة هذه، هل نحتاج إلى إضافة عناصر جديدة ونصممها دون ماض أسود لسوء التدبير؟. حينما أرى الشباب الصغار هذه الأيام، وحتى الكبار، فإني أتمنى لو صحت بأقصى صوتي طالباً أن يعلمون بعض الأساسيات الحياتيه.
لن أتكلم عن المناهج القائمة، فهذا نقاش يجلب لي الغثيان، ويشعرني بالملل، وأنه دون الأولويات بالنظر إلى ما سأتحدث عنه.
ما سأتحدث عنه؟ سأتحدث عن ماذا كنت سأضيف وسأعلم هؤلاء الطلاب لو كان لي من الأمر شيء.
أول مادة ستكون النظافة الشخصية. لماذا نأخذ في اعتبارنا دائما أن مجرد كوننا مسلمين هو شهادة صحية لنا، بأننا أنظف أناس بالعالم؟. لدينا الأساسات بالدين، لكن من المضحك أننا نظل مع ذلك غير نظيفين تماماً، والمبكي في الأمر أننا لا نشكك بحقيقة نظافتنا مهما كان ما فعلناه أو لم نفعله. أتذكر ذات مرة أني تكلمت مع مدير مطعم عن موظفه الذي خرج من الحمام دون غسل يده، وكانا كليهما مصريين(هارديز على ما أتذكر)، فقال المدير من ضمن حججه بأن الرجل مسلم!!!. يا إلهي، هل قذارة المسلم طاهرة إذاً؟!. بالواقع، حتى مع توفير الجامعة مؤخراً بعد انفلونزا الخنازير للصابون في "بعض" حماماتها وكأنما للاختبار، لا أتذكر بأني رأيت شخص يغسل يديه بالصابون بعد الخروج من الحمام سوا مرة أو اثنتين، مهما كانت جنسيته، لكن أغلب المستخدمين للمرافق هم السعوديين، بحكم المكان طبعاً. لماذا؟ الأمر غير مهم إذ لم يتعودوا، لا يعرفون ضرورته. حتى معقمات الأيدي التي لا تحتاج إلى الماء، التي وزعت على المكاتب، حالما خف زخم الحمى صارت فتحاتها تنسد لانعدام الاستخدام.
كما أن الناس أنفسهم تكون روائحهم أحياناً جالبه للمرض. يمكنني قول أن بعض الأجانب روائح أفواههم سيئة نتيجة لنوعية طعامهم، وعدم مراعاتهم لعدم تعودنا، وربما حتى روائح أجسادهم بالنسبة للبعض، وهذا راجع على الأغلب لخلفياتهم الحياتية في بلدانهم. لكن نحن، من نتأذى، هل نحن أفضل منهم أم أن ثيابنا فقط هي النظيفة؟. تفوح أحياناً روائح العرق، حتى لتتسائل هل يستحم من أمامك أبداً؟ هل يضع على جسمه ما يسيطر على الروائح الطبيعية حال الإجهاد؟ هل يعرف العطر بخلاف وضعه عند الدعوات والولائم؟. هل يعرف كم أسنانه قذره ومثيرة للاشمئزاز؟. هل يهمه أصلاً؟ ترى كتل الطعام متراكمة منذ، يعلم الله، أيام الأسنان اللبنية التي سقطت عن الأوساخ لتلبسها الأسنان الدائمة.
أما استخدام الأدوات العامة، فهذه طامة. وهي تزداد سوء مع الوقت، بمعنى أن الأجيال تتردى. إن الدخول إلى حمام عام هو بمثابة سبب من أسباب الحنق والحقد على المجتمع. ليس الأمر فقط من غلط الجهات الرسمية، التي لا توفر أحداً لتنظيف الحمامات، لا، بل حتى حينما يوفر هؤلاء العاملين لا يتحسن الوضع كثيراً. إذ قد تدخل حماماً تعلم يقيناً بأنه حديث عهد بالغسل والتعقيم، سوا أن من قبلك لم ينظفه بعد استخدامه له قبل أن يخرج. لا أريد أن أقرف من يقرأ، لكن الأمر خطير من جهات كثيرة؛ صحية، وأدبية، واجتماعية، وحتى دينية، فلو كنت كافراً لا قدر الله لا أدري هل كنت سأسلم بعد دخول حمام بعد شخص مسلم هنا؟! هؤلاء الذين يتغنون بالوضوء خمس مرات باليوم، والاستحمام عن الجنابة، والتطهر عن النجاسة، هؤلاء لا يعرفون تنظيف الحمام قبل الخروج منه. بل إنهم يتصرفون كالأطفال أو أسوأ، إنك تجد نجاستهم قد ارتشقت على أرضية الحمام وجدرانه وهم "يطهرون" أنفسهم.
لا أدري ما مرد الأمر، ولماذا ساء أكثر في حين أن الوضع الطبيعي هو ازدياد الوعي. هل لأن تربية الأبناء تركت للخادمات الجاهلات؟.
أما المادة الثانية، فستكون أداب التعامل مع الناس وأصول التهذيب، ومتى تتحدث أيها المرء ومتى تصمت، وما يقال وما لا يقال، وما يتوقع منك وما لا يتوقع. للأسف، لم يعد ممكناً الاعتماد على الآباء والأمهات في هذا الزمان الكسيف أخلاقياً، فهؤلاء الأباء والأمهات هم بأنفسهم يجهلون هذه الأمور. كل هذا بعدما أصبحت التربية منذ زمن بعيد عبارة عن مجرد شراء الخبز والجبن، وزاد عليها الآن شراء البلاكبيري.
أما المادة الثالثة؛ فستكون لتعليم الهوية وتقدير الذات على النحو الصحيح لهؤلاء الصغار الذين يزدادون حماقة على نحو يحطم القلب؛ بشعورهم المنفوشة، وألسنتهم العيية، و جهلهم بمعنى وجودهم أو إمكانية إضافتهم لشيء. ولتعريفهم بالآخرين كذلك، وكيف يجب أن ينظرون إليهم كأناس مختلفون، ولكن أناس يستحقون الاحترام.
ولن يقتصر الأمر على هذا، يجب أن يفهموا أموراً أكثر تعقيداً، هويتهم كمسلمين كيف يتعاملون معها، ويظهرونها بفخر وتحضر. كما أني أود كثيراً لو يتعلم الصغار عن هوياتهم الجنسية كذلك، كيف يجب أن يشعروا تجاه أنفسهم والآخرين، كيف تتم الأمور بشكل منطقي، وحاجة الجنس للآخر بأي شكل يجب أن تكون لتصبح سليمة. بالتأكيد، سيهمني أن تتم الأمور على نحو يخلو من الإسفاف والمخاطرة، باستمداد الأخلاقية من التقيد بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية وتجارب السلف الصالح، مع جعل الأمور ذات طابع حديث.
يا لسخافاتي، طموح مضحك، وحتى لو كان لي من الأمر شيئاً، لن يرغب الناس بمثل هذه الإضافات.
بلغتني رسالة اليوم من جهة تقدمت إليها للإنضمام إلى نشاط تعليمي فيها، هناك مقابلات، وقد وصلت إلى هذه المرحلة والحمد لله، ما لم يكن هنالك خطأ في الأمر.
لو انضممت، سيكون هذا أمر طيب. لقد حاولت الانضمام قبل سنتين تقريباً، في بداية نشاط الجهة في مجال اهتمامها. وقد قابلني رئيسها، وقد كان متحمس لي ولورقتي التي تقدمت بها، بسبب سوء فهم!!. لقد أساء فهم مشروعي. وفي حين أني كان لدي مشروع احتياطي، إلا أن تأثير خيبة الظن قضى على أي فرصة. لكني على الأقل، خرجت دون أن أفقد الأمل في نفسي؛ وكان السبب أن الدكتور الذي قابلني، رغم خيبة ظنه، إلا أنه أطال التحدث معي، وبدا آسفاً على كوني لن ألتحق، لأنه رأى كما يقول الإمكانيات لدي.
الآن، ما سأتحدث عنه هو مشروعي البديل، الذي صار الأهم. وعسى الله أن يكتب الخير والصالح.
أكتب بعد يوم،
لقد كانت المقابلة كارثة.
مع ذلك، وصلتني بعد أيام رسالة بقبولي "إحتياطياً". هذا عزاء، بالنظر لأدائي السيء. لا أعتقد بأن هناك من أدى أسوأ، لكن ربما أخذ بالاعتبار كوني موظف في الجامعة، وربما أشفقوا علي.
اليوم، رجع بعض الزملاء الذين غادرونا بأوقات متفاوته خلال الشهر الفائت، لأجل الاستعداد للاختبارات وأدائها، فهم يدرسون الآن انتساباً. بقي واحد فقط لم يعد. أما من عادوا، فوجئت بأني بشكل ما اشتقت إليهم، ليس كلهم بالطبع، ولا يعني هذا أني أكره أحدهم، لكني اشتقت على وجه الخصوص إلى اثنين. بالواقع، كنت أعلم بأني أنتظر عودتهم، ولكني لم أعلم بأني سأفرح وأشعر بالراحة للأمر. وهذه مشاعر ساذجة، لا تليق. لكن، لا تضر ما دمت واعياً لها.
وقعت ضحية سوء تصرفي، واضطررت لشراء شيء بسعر مرتفع. كان الأمر أني وجدت قلم للكتابة على شاشات اللمس، التي لا تعمل إلا بالاصابع بالعادة، وهو أنيق وبألوان مختلفة. أردت الأخضر. لكن البائع على موقع سوق يطلب سعر مرتفع، فوق سعر التوصيل من الموقع الذي سيأخذ عشرة ريالات أكثر، رغم أن البائع في الرياض، فيصبح المجموع لأجل قلم أعرف بأنه لن يكلف أكثر من خمسة في سعر الجملة ٣٢ من الموقع. أخبرته بأني أود أن أقابله وأشتريه منه، فقال بأن الموقع سيوصله لي وأنا مرتاح. كان رفض مؤدب. فقلت لا، أنت من سيرتاح فأنت لن تدفع العشرة! وخضنا جدل عقيم، حول عدم عدالة الأمر، وتسببت بإحراج البائع، ولم أنتبه إلا بعد وقوع الفأس بالرأس. والمشكلة أنه لا يمكن حذف الحوار الظاهر على صفحة السلعة. اعتذرت، وقلت بأنه ما كان علي أن أطيل الجدل، وشكرته على سعة صدره، و طلبت اللون الأخضر!. أردت تصحيح غلطتي، رغم أني لا زلت غير مقتنع بعدالة الأمر، لكن لم يرغمني أحد حتى أحرج الناس، لو كان الأمر على البريد خفية لكان أفضل، لكنه أمام الناس وقد يسيء لحظ التاجر. سارع البائع مشكوراً بإرسال القلم. ولما استلمته بدا صغيراً، ولكن جميل، و، لم يعمل على هاتفي!!. رغم أنه يفترض أن يعمل على الشاشات التي تتعامل مع الأصابع (كباستف). خاب ظني، فذهبت وبحثت عن أحد لديه جوال بنفس تقنية اللمس، إذ وصلني في مقر العمل. جربته على آيفون٤، وعمل بأفضل حال. هل العلة من تغييري للملصق الواقي للشاشة؟ لكنه يعمل بأصابعي بشكل ممتاز. أعتقد أن الله يؤدبني فقط.
لم أذهب اليوم إلى العمل كما خططت، كان لدى أمي موعد في المستشفى، وكنت لم أنم تقريباً أبداً في الليلة الفائتة، رغم نعاسي الشديد. وهذه مشكلة، حيث أني لا خلاف لدي حول الذهاب إلى العمل دون نوم حينما لا أكون ناعساً جداً، لكن أن اكون ناعساً ولا أقوى على النوم طوال الليل فهذه مشكلة. خصوصاً أني ملتزم بتدريس ابن اخي مادة الانقليزي قبل امتحانه. قررت إخبار مديري الأصغر بأني لن أحضر وسأحتسب الأمر كإجازة اضطرارية. خصوصاً أني لو ذهبت وعدت من العمل لا أدري إن كنت سأستيقظ لإكمال تدريس ابن أخي، وهذه أولوية. تدريس أبناء إخواني يقصر عمري على فكرة في كل مرة، وإن تباعدت الفترات. لأني أشعر بالأسف كثيراً على إهمالهم طوال السنة ثم توقع أن الأمور ستسير على ما يرام حينما أعلمهم قبل الاختبار بيوم أو اثنين. لماذا لا يطلبون المساعدة مني خلال أوقات الدراسة على امتداد السنة؟. لا، هذا سيطيل بعمري، لعلهم لا يريدون هذا. كدت أن أموت اليوم حينما أخبرني بأنه لم يراجع ويحفظ ما حددته له البارحة، رغم وجود اليوم بطوله وتأخره في الحضور في اليوم التالي، بأعذار واهية، في حين أن الوقت أضيق من أن أضيعه بالتوبيخ.
عموماً، في المستشفى اضطررت للشراء من د.كيف اللص حتى تخرج أمي من العيادة، حيث لا يسمح لي بالدخول معها على خلاف العادة. أردت شوكولاته ساخنة، لكن ليس لديهم منها، وهذا غريب. طلبت كأس شاي صغير جداً بـ٥ ريالات، وأنا من يشتكي من بيع المكينة للشاي العدني بـريالين. المشكلة هي أني لا أريد لا شاي ولا قهوة، حتى الشاي العدني أجبر عليه في بعض الأيام حينما أكون ناعساً جداً، لكن كان يجب أن أشرب شيء دافئ ومنشط حتى العودة إلى المنزل. أضفت إلى الشاي سكر بني، وهو لم يحليه بأي شكل، فكرت بأن السكر البني ربما مزحة أو قطع زجاج أو شيء. أضفت بودرة القرفة، والسكر الأبيض، فأصبح الشاي جيداً حقاً.
كتبت هناك قصيدة، حيث أن الجو بشكله وطبيعته هذه الأيام يكثف مشاعري كما يكثف ألوان الأشياء، حيث أرى الأشجار حول المنزل أغمق خضرة، والبيوت أجمل وأكثر جذباً للانتباه، ولون كل شيء مضاعف، وكأنما كان كل شيء ميتاً ثم عاد إلى الحياة.
القصيدة بائسة، ولعلها تتناقض للرائي مع شعوري بالحياة الذي شرحته قبلها. لكن بالواقع؛ هذا سوء فهم، لأن الحياة في الحقيقة كلما ازدادت تجلياً، ازدادت بؤساً.
جاء قبل قليل عمرو، الصديق المصري الطيب في برقركنق. رأى جهازي الجديد من قوقل، وعلق على جماله. عمرو يسأل دائماً عن الأجهزة، وكان معجباً بالنتبوك من لينوفو الذي آل لشخص آخر الآن. أعجبه شكل هذا أكثر، وسأل عن سعره. أعجبه أنه مجاني.
شكل الجهاز جميل عموماً، كل المراجعات التي قرأتها امتدحت تصميمه، لأنه بسيط ويخلو من البهرجة، ويشبه أجهزة أبل. لا يجتذب سطحة أو سطح شاشته البصمات، لأن كليهما ليسا بخامة لامعة ملساء، إنما بخامة مضببه. هذا يجعل شكله أقل لمعاناً، وأكثر تميزاً، ولكن بالنسبة للشاشة، هذا أمر فارق وحاسم. فالشاشة الملساء اللامعة هي الأفضل والأجود لمتابعة الأفلام والألعاب، بينما الشاشة المضببة هي الأفضل للكتابة والقراءة. وكأنما الأمرين نقيضين، وهذا أمر مضحك وساخر. لكني سعيد بأن شاشته من هذا النوع الجيد للكتابة والقراءة، فهذا ما أقوم به أنا بشكل أساسي.
في حين يلفت انتباه الناس أول ما يلفته أن الجهاز مجاني، كما يقول أحدهم: البلاش ربحه بين، أنسى دائماً أنه مجاني لسبب ما، ربما لأني لا أفكر كثيراً بقيمة الأشياء بعد أن أشتريها، فهي تصبح غالية بالتساوي لدي. وبقول: البلاش ربحه بين، يظهر أن الكثير من الناس لا تهمهم مواصفات الشيء طالما أنه مجاني.
للجهاز ميزات كثيرة، وهي ستزداد مع الوقت إن شاء الله، فالنظام حالياً غير مكتمل تماماً، ويخضع للتحسين باستمرار. الجميل هو أن التحديثات تلقائية. ويوجد كذلك سوق البرامج. وهو حالياً غير متطور تماماً لأسباب كثيرة، لعلها تختلف مع الوقت إن شاء الله. لكن يوجد ما يفي بالغرض عموماً.
الشيء الذي أنتظره بفارغ الصبر هو تفعيل العمل على مستندات قوقل، وربما حتى بلوقر، بدون الاتصال على الانترنت. كان الأمر قابل للتطبيق قبل فترة، ولكن قوقل أوقفته لتطور التقنية وتحسنها، بالاعتماد على لغة برمجية متطورة.
النقطة الأخرى هي أنكم ستضطرون إلى إعادة صياغة أوقاتكم عند تشغيل الحاسب، لكن على نحو إيجابي. فلن تنتظر وقتاً طويلاً يجب أن تملأه بالتأفف أو تقليب الأوراق حتى يعمل الجهاز، فهو يعمل تقريباً مباشرة عند التشغيل، وعند إيقاظه من وضع الإنتظار يعمل فعلياً مباشرة، فلا وقت لتضييعه وهذا أمر مبهج. تخيل أنك تريد أن ترى البريد في ساعة متأخرة قبل أن تنام، أو تريد أن تقرأ شيئاً أو تتأكد من شيء، لن تحمل هم تشغيل الجهاز بعد الآن.
أصفه كجهاز العارفين ماذا يريدون تماماً، العمليون الذين لا يريدون خلاف ما يقدم، ولا يريدون الدفع لخلاف هذا أيضاً. فمعلمة مثلاً، لماذا تشتري جهازاً غالياً، يفسده أبناؤها باللعب ووضع الاسطوانات المعارة عليه، وتفسده فيروسات ملفات بناتها (الطلبات) معظم الوقت، حينما يحضرن النشاط على ذاكرة فلاش من بيوتهن. ولا تعرف كيف تحميه من الفيروسات ولا كيف تحدث مضادات الفيروسات، ولا ماذا يقول لها مضاد الفيروسات أصلاً. لماذا كل هذا، وهي تريد فقط أن تكتب الأسئلة، وتستخدم الباوربوينت، وتجمع المعلومات من الشبكة؟.
كذلك، هو لذوي الشجاعة على الاختلاف وفهم الأشياء المختلفة عن المعتاد، الذين لا يشعرهم مجرد الحصول على ما يحصل عليه الآخرين بالأمان، فأي أمان والأجهزة المعتادة دائماً معرضة للفيروسات، بينما هذا لا؟ فهذا النظام حتى إن أصابه العطل، فإن قوقل أعدته على ترميم نفسه عند الحاجة عن طريق الشبكة، فحتى هذا لا يجب أن تحمل همه. إن كل ما عليك القيام به هو استخدام الجهاز فقط، متابعة شئون حياتك عليه، لا رعايته والخوف من تحمل مسئولية أي خطوة لا تعرفها على حساب عمل الجهاز.
وهو لمن يريد العمل بسرعة، الوصول إلى ما يريد بسرعة. فليست الأجهزة للنظر إليها دون عمل حتى تشتغل، سيصبح الجهاز بعد فترة مملاً، ويصبح العمل المتأخر هو الأهم، لا شكل الجهاز.
إني سعيد جداً بالجهاز، والحمد لله أني حصلت عليه، فلست أتخيل انتظار إصداره للبيع.
قوقل تحب من يحبها بوضوح. هل يا ترى ستحبني رينو في يوم من الأيام؟ آآآآه لاقونا...
اتصلت بالدكتور الألماني اليوم، كان مرهقاً، لتوه خرج من منتدى التنافسية الدولي المعقود في الرياض. لم أكن أعلم بأنه سيذهب، رغم أنه كان يجدر بي توقع ذلك. ما دفعني للاتصال هو أنه لم يجب رسالتي هذا الصباح، حيث أرسل عادةً في منتصف الأسبوع لأنسق لموعدنا في نهاية الأسبوع إن كان بإمكانه رؤيتي. لحسن الحظ، لن يسافر نهاية هذا الأسبوع. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء، كالمرة ما قبل الفائتة. لم ينسى أنه أراد هذا، من الواضح أنه يريد أن يعوضني عن المرة الأخيرة حينما لم نتمكن من الجلوس للتحدث، إذ قال في ذلك الحين أنه يريد أن يدعوني للغداء. وقال بأنه يريد أن يسمع نصوصي كذلك، حيث كانت الخطة هي أن أقرأها له بأنانية في المرة الفائتة. للأسف، لم يعطوه جهاز آيباد، ومن الواضح أنه لم يسعى للأمر. حزنت حد التلوي، مما أضحكه.
غداً سيكون يوم متعب لأمي في المستشفى، عسى الله أن يعينها ويهون تعبها.
تذكري رأسي الصغير في حضنك ذياك المساء...
أتنبأ بأني سأقع على وجهي قريباً. حذائي تالف، وويلتوي للأسفل أحياناً فأدوسه متعثراً. المشكلة أني لم أجد الحذاء المناسب رغم أني بحثت جيداً. ربما سأذهب مع أختي إلى سوق كبير وأرى. أفكر في ماركة تودز، لكني أعتقد أنها ستكون مرتفعة السعر جداً.
لسبب ما يتمكن مدير الجامعة من سحر الكثير من طيبي القلوب. كان أمس موعد لقاءه مع الموظفين والدكاترة، وقد أتى ببعض الأفكار الصادمة كما سمعت، لكني لا زلت لا أثق به. وكأن هذا سيصنع فرقاً.
يرصف الآن طريق الملك عبدالله قرب جامعة الملك سعود. تابعت الأمر من أمام برقر كنق، حيث أحصل على جرعتي اليومية من الكولا العالي الجودة.
الرصف أنيق وجميل، وبعد يومين من انتهائهم منه، تم تفكيك أجزاء كبيرة منه! حفر مربعة خطيرة، تظهر مواسير في باطن الأرض. الواضح هو أن المقاول الذي كلف بالرصف، كلف بهذا قبل المقاول الذي كلف بالأعمال تحت الرصيف، في خطوة غير منطقية، بل تعبر عن غباء مطبق، لا يحتج عليه أحد، رغم أنه يحدث في كل الأحياء وفي كافة المشاريع.
قابلت الدكتور الألماني أمس. وقضينا وقتاً ممتعاً. أخبرني عن منتدى التنافسية، حيث كان أكثر متحدث أثار إعجابه هو بِل كلنتون، رئيس أمريكا لفترتين في وقت سابق. حكى لي عن أفكار الرئيس الجيدة، وعن كونه شخص ذكي جداً، وملاحظ دقيق، وذو نوايا طيبة. قلت بأني أعتقد بأنه ذكي بالفعل، لكن لا أظن بأن نواياه طيبة، لقد حكم لفترتين، ولم يصحح الكثير من الأشياء، فأمريكا، والغرب بعمومه، لا يمكن أن ينوي الخير لنا أبداً، هذا ما أعتقده، لأن هذه هي طبيعة الأمور، يجب أن ينوي المرء الخير لنفسه، لا أن ينتظر الأخرين لينووه عنه. قلت هذا ثم واصلت: ما يجري هو أننا نعتمد كثيراً على الغرب في تصحيح الأمور، ننتظر الآخرين دوماً ليقوموا بالأمور لأجلنا، ونتوقع أن هذا واجبهم لا واجبنا نحن. لقد خرج مفتي من أحد الدول العربية، حينما شجب بابا الفاتيكان تفجير المسيحيين في بلداننا، ولام البابا على الأمر، متسائلاً لماذا لم يشجب البابا التفجيرات التي تطال المسلمين، وهو يعتقد أنه يفضح البابا هكذا، بينما هو يفضح غباؤه، فالمسلمين ليسوا رعايا البابا، لماذا نتوقع من الآخرين دوماً العناية بنا والاهتمام لأمرنا؟!. إني أشعر بالقرف من إعتمادنا المعنوي على الآخرين، الذين لا يهمهم صلاحنا.
بعد هذه الخطبة المشحونة، تفكر الدكتور للحظات، ثم قال بأني محق، إن الاعتماد على الآخرين الذين لا يملكون النوايا لتصحيح الأمور أمر سيء.
رفض الدكتور أن يتركني أحاسب، وهذا أمر مقلق، ففي المرات الأخيرة كلها يرفض قطعاً أن أدفع الحساب، وهو يقول دائما عند هذا الموقف بعدما يفرض رأيه ويبدأ بإخراج المال، وكأنما يحدث نفسه:"لم يكن يجب أن أدعك تدفع الحساب من قبل". وكلما سألت لماذا؟ تأتيني الإجابة المعتادة؛ هو أكبر مني، ومن واجبه أن يدفع. لكن في المرة الأخيرة اختلفت الإجابة، واكتسبت تفاصيلاً أكثر: ففضلاً عن كونه أكبر، هو يملك مال أكثر، وهو يأخذ هذا المال من بلادي!. ناقشته بالأمر بلا فائدة. يجب أن أجد حلاً، لا يمكنني أن أكون عالة عليه حينما أراه. في المقهى، بعد الغداء، بعد أخذ ورد حول دفع الفاتورة، لم يستطع قرائتها، فقد كتبت بخط باهت، فسلمني إياها، واحتفظ بمحفظة الفاتورة بيده. كانت حيلة مضحكة.
سألته في وقت لاحق، إن كان بإمكانه إحضار شيء لي من ألمانيا؟ قال بالتأكيد، وسألني ماذا أريد؟ أخرجت مبلغ من المال، ورفض أخذه، فرفضت التحدث. ولم استمر بالعناد، فقط قلت لا حاجة إذا للأمر، وصَمَتُ، موحياً بأني لا أنوي متابعة الأمر. تغيرت تعابير وجهه، ورغم أنها لطيفة دائماً إلا أنها أصبحت ألطف، حثني على أن أتحدث، ولكني قلت بأنه لم يكن شيئا مهماً، وطلبت منه أن لا يحمل همه، فبدت عليه خيبة الأمل، وسألني بلطف أكثر أيضاً، وكأنه بالواقع قد جرحني ويريد تطييب خاطري، وحثني باهتمام صادق وحثيث بأن أخبره بما كنت أريد. وشرح لي بأن الأصدقاء لا يعطون بعضهم المال هكذا، فحينما يأتي بما أريد منه يمكننا التحدث حول المال، لكن إعطائه المال منذ الآن يجعل الأمر وكأني أشتري منه، وكأنه بائع وليس صديق، كما أنه سيأخذ مني المبلغ حتى لا أكف عن طلب الأشياء منه. شوشني كلامه، ولكني التزمت الصمت. ثم ابتسم وسأل إن كان شيء الكتروني؟ قلت لا، قال شيء يؤكل؟ قلت لا، ثم ابتسم وكأنما يمزح وقال: قبعة بافارية؟ قلت نعم. فاتسعت عينيه وقد فوجئ، وقال: هذا ما تريد؟ قبعة بافارية فقط؟ قلت نعم. كنت قد أخبرته بوقت قديم بأني أعتقد بأنها قبعات جميلة. شرحت له هذه المرة بأنها كانت أمنيتي منذ أن كنت طفلاً صغيراً، أن أحصل على واحدة. وسألني أي شكل أريد؟ قلت بأني لا أعرف، لم أفكر من قبل بالأشكال المختلفة، لأنها كانت تبدو لي دائما ذات طابع موحد باختلافات يسيرة، بيد أني ملت إلى ذات الريشة، لكني لم أكن متأكداً. اقترح علي بضعة اقتراحات، ثم اتفقنا على أن يختار ما يراه ملائماً.
خرجنا بعدما قرأت له بعض القصائد التي كتبت، لكن كانت إحداها قصيدة قالتها أمي، وهي قصيدة رقيقة وحزينة ككل قصائدها الجميلة والمؤثرة تأثير المنامات الكاشفة.
سعد الحوشان
هل بررت بكل أقسامي؟. لا يساورني شك على بري بها، أو تكفيري عنها، سوا قسم واحد. بشكل أو بآخر، أقسمت أن لا أنسى أمراً معيناً، أي؛ أقسمت أن أحقد على أحد ما.
أما شكي فليس بسبب كبر حجم قلبي، وليس بسبب طبيعته الطيبة المترفعة عن الكراهية والغضب. الأمر ببساطة ذو علاقة بالنسيان، وضعف التوثيق. بعدما كان لدي دائما مرجع للحقد، تخلصت منه بخدعة، ولم يعد لدي ما يذكرني بالأمر. كل ما أتذكره هو أني لا أريد أن أسامح شخص على فعلته. لا زلت أتذكر الكثير، لكني أنسى أسرع مما يجب، كما هي طبيعتي.
بيد أن الزمن والتجربة علماني كم هي طبيعة سيئة تلك التي تنسى، وتسامح لأنها تنسى. لأن الناس لا ينسون، ولا يقدرون النسيان والتجاوز. لم أعرف الراحة حتى كفيت عن مسامحة الكثير من الناس. فالآن؛ لا قهر من عدم التقدير، ولا قهر من الخيانة، ولا قهر من إعادة التجربة، وعدم التعلم من الماضي. يمكنك وضع كل شيء خلفك حينما لا تسامح، وتقطع الأواصر، في حين كانوا يقولون لنا دائما بأن المسامحة هي ما يترك الأمور خلف المرء، لكن، من يدرك أنه اناني يستبق بالتبرير، وهكذا هم الناس، يجب أن يقولون لك شيء، حتى لا يجدوا الوقت أو المبرر ليقولون لأنفسهم عن انانيتهم، وقسوتهم.
أتذكر صديق لي، جمعتني به صداقة مخلصة، يوبخني في وقت مأزوم من حياتي: "ما بالك يا سعد؟! ماذا جرى لك وتغيرت؟! لم تكن ضعيفاً هكذا! كنت قوياً، كنت أنت من يدعمني ويمدني بالقوة! أتتذكر؟؟"
قال هذا بينما وقفت أمامه مكسور القلب، شاعراً بضعف لم يبدو أن منه فكاك. ذكرني بما لم أنسى، لكني كنت أحسب بأن قوتي ذهبت إلى الأبد. كان تغيري مزعجاً، وجذرياً، وقد عانى هو منه كثيراً. كان الأمر ناتج عن صدمة قوية، هزت كياني كله. أصبحت بعدها متعباً، وقلقاً باستمرار، والأسوأ، محزوناً طوال الوقت.
كان هو الصديق الوحيد، من بين ثلاثة، الذي دعمني وأعطاني في ظروفي تلك. يا الله، كم كان رائعاً. الصداقة الحقيقية غالية جداً، حينما تفقدها لا يمكنك أن تقيِّمها ببساطة، لقد خسرت َشيئاً فريداً، ولو حصلت على صداقة أخرى جيدة، لا يمكنك أن تقارنها بما خسرت، ليس أنها أفضل أو أسوأ، فالأمر لايخضع للمقارنة، فكل صداقة جيدة فريدة لا غنى عنها بأخرى، كالأبناء. والأسوأ، أن الأفضل حدث ونحن لم نعد أصدقاء ليراه؛ لقد عدت قوياً، قادراً على دعمه في حياته الصعبة حد المأساة أحياناً، والوقوف معه، قادر على الأخذ والعطاء، الشيء الذي انفردت به صداقتي معه دوناً عن صداقاتي الأخرى، التي كانت إحداها تستنزفني كما تستنزف الآفة النبات.
ذاك الصديق المخلص؛ يمكننا أن نتصافح ليل نهار، دون أن نعود أصدقاء. عسى الله أن يحاسب من تسبب بهذا.
غداً، أودع جهازي الجديد، الذي سأرسله إلى الدمام لبضعة أيام، لتتم مراجعته من قبل موقع متخصص. أجد أني تعلقت به كثيراً، إلى درجة أني لا أدري كيف سأتحمل الفراق صدقاً!!.
اسخدامه ممتع، وأجمل ميزة فيه هي السرعة، سرعة التشغيل والعمل. اشتريت موزع لاسلكي صغير، لأوصل فيه الكونيكت التي كنت أستخدمها في جهازي السابق خارج المنزل، حيث لا يتعرف عليها الجهاز الجديد، ولاحظت مفارقة اليوم؛ ففي حين أن الوضع المعتاد أن تشغيل الكمبيوتر يتم قبل تشغيل الموزع، لأن الكمبيوتر بالعادة يأخذ وقتاً طويلاً ليبدأ العمل، يحدث العكس، لأن هذا الكمبيوتر يشتغل مباشرة تقريباً.
قبل قليل، في برقر كنق، أجفلت عن قراءة الجريدة، حينما رأيت فجأة شخص رث الهيئة على نحو لا يوصف، وقف أمامي مباشرة، مطالباً إياي بشراء طعام له. ألجمت المفاجئة لساني، كنت أحتاج إلى وقت لأفهم ماذا يريد بالضبط، وما أمره. ابتعد عني، وقد دعاه عمرو، العامل المصري بالمطعم، أن يأتي ليعطيه طعام، دعاه بحنان بالغ. لكن الشاب الصغير توجه إلى شاب سعودي آخر، وقف يعبئ كؤوسه من الكولا، وطلب منه ببساطة أن يشتري له "نقتس". كيف أجابه الشاب الآخر؟ نظر إليه باحتقار وانفعال غير مفهوم، وطرده متوعداً إياه. صدمني المشهد. اتضح بأن الشاب رث الهيئة مريض نفسي. بعد التوبيخ اتجه مسرعاً ليخرج من المطعم. قفزت من كرسيي، لأنه سريع، ولحقت به، استوقفته عند الباب، وأخبرته بأني سأشتري له ما يريد. نظر إلي بعدم ثقة، سألته: تبي نقتس؟ تعال، أنا اشتريها لك. لحقني. طالبني عمرو بالرجوع لتناول طعامي، وأنه سيهتم بالأمر، فسيعطيه وجبته الخاصة. وطالبني مدير المطعم بالرجوع كذلك، ولكن أمام إصراري، رفض هو اخذ مبلغ الوجبة التي يريدها الصبي كاملاً.
بعد الدفع، صار الصبي يروح ويجيء بالمطعم بانتظار وجبته، وهو يحدث نفسه دون صوت، ويقوم بحركات غريبة، وعلى جانب مفاجئ من العنف في بعض اللحظات. بينما وقف الشاب المقرف الذي نهره بالبداية، ينظر إليه بعصبية، وكأنما يريد ضربه. كانت تعابير وجهه الخالية من الرحمة مثيرة للاشمئزاز، تسائلت إن كان بالواقع يحترم نفسه.
كان الصبي لسبب ما يتفادى عمرو، بعنف حتى، وفي انتظار وجبته، جاء إلي وقال بأنه يريد أن يأكل بعض مما لدي. كان من الواضح أنه يتضور جوعاً. وبينما هو يأكل جاء عمرو لثنيه، فألقى بسرعة بما كان في يده وابتعد، متفادياً عمرو. كنت أريد أن أسأله عن بعض الأمور، عن بيته أو أهله، فالوقت متأخر، لكن عمرو أفسد علي دون أن يدري. لما جهزت الوجبة، وقد وضعوها له في كيس، انتحى في طاولة، وبدأ يأكل، بينما وقف عمرو قريباً، في تصرف خاطئ، يراقبه. كان وجه عمرو ينضح بالشفقة، وكان يخاطبه بحنية وهدوء، ويناديه بـحبيبي، لكنه كان يريد التأكد من أن الصبي لن يقوم بشيء خاطئ أو عنيف. حيث أن الولد أصلاً رفض بالبداية أخذ الكولا من عمرو، وكشر عن أنيابه كقط، تماماً، وهرب مبتعداً عنه. رفض عمرو أن يتركني أساعده، وقال بأنه ربما يكون عدوانياً. كان من الواضح أنه لا يرتاح إلى عمرو، وكنت أريد أن أتعاون بما أنه لا يمانع الاقتراب مني.
خرج بسرعة من المطعم لما فرغ. لحقته، وحادثته برفق سائلاً عن بيته أو أهله، وعرضت أن أوصله، أو أتصل بأهله. لكنه ابتعد هاربأ مني، وقد كشر عن أنيابه كقط، كما كشر لعمرو. بعد حوالي نصف ساعة عاد، بينما لازلت أقرأ، وجاء إلي يريدني أن أشتري له كولا.
كان الوضع لا يسكت عنه. كنت أفترض أنه ربما عاد لبيته، لكن لما عاد، بدأت أتسائل إن كان بيته قريباً، ربما هرب من أهله أو شيء من هذا القبيل. اتصلت بالهلال الأحمر، وقالوا لي بأني في مثل هذه الحالة يجب أن أتصل بالشرطة، والشرطة حينما خابرتها قالت بأن علي أن أتصل على الهلال الاحمر!!. أخبرته بأنهم هم من طلب أن أتصل بهم، فقال بأن الاتصال بهم يجب أن يأتي من الهلال الأحمر. عاودت الاتصال بالهلال الأحمر، فأضاعوا وقتي يحاولون إقناعي أن هذا عمل الشرطة!! وأنها هي من يجب أن يتصل بهم. اتصلت بالشرطة مرة أخرى، وشرحت الأمر، وقلت أن الصبي وضعه صعب، ويجب أن يهتم أحد بالأمر. قال الشرطي بأن المفترض أن الهلال الأحمر هو من يهتم بالأمر، ولكنه سيرى ما يمكن فعله، وتركني قليلاً على الخط، وعاد واعداً بأنهم سيرسلون أحداً. أخذ الوصف بدقه، وودعني. بعد قليل، رأيت سيارة الشرطة بأضوائها الدوارة تسير بسرعة. لا أدري إن كانوا قد وجدوه. على الأقل، يجب أن يأخذه أحد بعيداً عن البرد.
يبدو أن هذا لم يحدث. ربما لم يجدوه أمس. أنا في اليوم التالي، وقد جائني أحد عمال المطعم وأخبرني بأن الصبي تسلل إلى الدور الثاني حيث قسم العوائل. يبدو أنه تائه، أو ليس لديه مكان يعود إليه. اتصلت بالشرطة، وبشكل غريب استجاب المسئول مباشرة، ولم يطلب مني الاتصال بجهة أخرى. بعد القليل من أخذ المعلومات، وعدني بتواجد الشرطة خلال دقائق. أتمنى أن يمسكوه هذه المرة، ويودعوه حيث يجد من يعتني به حتى يجدوا أهله.
لقد جاءوا.
لم يأخذوه مع ذلك. يقولون بأنه مريض نفسي فقط، ولا يوجد ضده دعوى، فيكفي إخراجه من قسم العوائل. إن الأمر محزن، محزن جداً. كان الشرطي متعاطف رغم جلافته، وقد حاول أن يجد حلاً آخر. لكنه يقول بأن الخفر لن يستلمه دون إدعاء ضده، بينما المصحة النفسية لن تستلمه بلا إثبات، وقد بحث عن الإثبات في جيوب الصبي ولم يجد. هرب الصبي بالنهاية، رافضاً التحدث أو الرد.
هل يترك هؤلاء المساكين إذا في الشوارع؟ هل يجدهم أحد ميتين في الليالي الباردة، وحدهم، لا أحد يعرف عنهم شيئا، أو يهتم بأكثر من دفنهم؟ هل يوجد فرق بينهم وبين القطط في الشوارع من حيث الأنظمة؟.
كانت رائحته القوية تعبق بالمكان، وملابسه الرثة مشققة تكشف عن عورته، التي يغطيها بمسمسة ردائه فوقها. شعرت وبمزيج جارف من الاشمئزاز والرحمة.
اطلعت على موقف سخيف جداً، أداه أحد المدونين. كان الرجل قد كتب نص أدبي، لم يعجبني شخصياً، ولكن أعجب الكثير من الناس على ما يبدو، فنال الكثير من المديح والمجاملات. لكن معلقة واحدة أعلنت بأن النص لم يعجبها. ولما سألها أن تفصل رأيها، ردت بعفوية تشرح رأيها، وقد استرسلت، حيث أمنت جانبه، وأوضحت بحميمية من يخاطب صديقاً أو زميلاً أن أسلوبه في القصة لا يشبه عفويته المعتادة، إنما يشبه أسلوب الخطباء والدعاة من حيث السجع، وهي تعتبرهم مزعجين ولا تحبهم كما فهمت. أنا أيضاً لا أحب السجع المبالغ فيه، إن لم أقل كل السجع، ولا أحب أساليب الخطباء الممتلئة بالسجع، والكتيبات التي يؤلفها الدعاة وكأنما شخص واحد يكتبها، بالسجع الممجوج، بغصب الكلمات والتعابير. كل هذا؛ بغض النظر عن قيمة المادة التي يقدمونها. حيث يوجد شقين في الأمر، حيث لا إشكال أبداً حول انتقاد اسلوبهم الأدبي، فالأمر يخضع للذائقة، وبالتأكيد ليسو كلهم أدباء، أما عن انتقادها لهم كأشخاص، فرغم أنها لم تذهب بعيداً، وهي حرة بما تشعر، ولا يجب إرغامها على التظاهر بعكس ما تشعر، إلا أن من لديه رأي حول مشاعرها فيجب أن يحترمها طالما لم تخطئ عليه، أن يناصحها إن كان يجدها مخطئة، أن يناقشها بالحسنى. وهذا ما لم يقم به المدون متوقد الذكاء.
كان رده عليها هجومياً، ساخراً، موحياً بأنها شر مغلف، أنها ليست إلا دسيسة ضد الدعاة والشيوخ. وهذا أبعد مما ذهبت إليه هي، فبغض النظر عن كل شيء، هي لم تسئ إلى شخص أحد، خصوصاً المدون نفسه، هي تحدثت فقط عن شعورها تجاه الأشياء، وهذا أمر شخصي، وإن لم يعجبنا، فلن يغير التنكيل في معنوياتها من رأيها شيئاً، إنما سيزيد الطين بله.
ذهلت للهجته، في حين أنه يتظاهر دائماً بأنه بمنتهى الرقة والطيبة، وشعرت بأني حينما لم أجده مريحاً كنت محقاً. لقد أساء إلى موقفه بالواقع أكثر مما أساء إليها، حتى على المستوى الاحترافي. فهو إن كان يريد أن يكتب الأدب، ويسمع الانتقاد حوله، فلا يكفي أن يقول بأن صدره رحب، ويستقبل الأمور بصدر رحب فعلاً، لكن ظاهرياً، ثم يسعى للطعن والانتقام في اتجاه آخر. لو لم يفكر إلا بنفسه، لو كان ذكياً رغم أسلوبه الشرير، لما كان قد أخطأ بحقها وحاول جرحها مقابل حسن نيتها، لفكر بأن الناس قد يقولون بأنه حقد عليها وسعى إلى جرحها إنتقاماً لنفسه، حينما وجد فرصة حسبها مشروعة، بعيداً عن نصه. إنه لم يخالف نقدها، إنما خالف شخصها، فقد أخذ النقد على محمل شخصي. كان حسبه أن لا ينشر ردها فقط إن لم يشأ الرد عليها بما يكافئ إحسانها الظن به، وائتمانها لجانبه. هي مدونته، يحق له أن ينشرما يريد وأن يهمل ما لا يريد، لكن لا يجب أن يسيء للناس، فهم ليسو بجزء من المدونة.
لو استنصحني، لنصحته بأن يحذف ما قد يشعل الجدل، ما يعتقد بأنه يجرحها أو يجرح غيرها من طرفها، ويكف الشر ولا يجرح الناس وينفرهم أكثر من معتقده حول الأمور. هل أراد أن يبدو بطلاً أمام أحد آخر؟ كانت غلطة كبيرة. كنت أريد أن أرى بماذا ستجيب الفتاة. ولكنها لم تظهر في مدونته إلا في صندوق المحادثات، أفترض أنها لم ترى التعليقات، إذ أني لم أجدها في ذلك الوقت، ثم وجدتها لاحقاً.
مفاجئة غير عادية حدثت اليوم. الصديق الصيني الأصغر، اسمه الحركي هنا همام، بينما اسمه الحقيقي صيني، كان قد اتصل بي قبل فترة يدعوني للذهاب معه إلى معرض ثقافي صيني. لم تسر الأمور كما أراد، فلم نذهب. اتصل بي اليوم في العصر، وقال بأنه يود أن يدعوني إلى العشاء، حيث يريد أن يريني لصديق له جديد هنا. وافقت، واتفقنا على المكان والوقت؛ مطعم صيني متوسط الحجم في العليا في الساعة الثامنة. حينما وصلت وجدته ينتظرني أمام المطعم، سلمنا ودخلت. كانت أعين العاملين تحملق تجاهي، ربما لأني مع شخص صيني، نسير كأصدقاء بحميمية واضحة. وصلنا إلى الطاولة في غرفة جانبية حيث ينتظرنا صديقه. كان شاب صيني صغير في الخامسة أو الرابعة والعشرون من عمره، مثل همام، لكن بشرته خمرية مشربة بحمرة، وكأنه من منغوليا، وكان وسيم الملامح عموماً، ضخم الجثه. بينما همام شديد البياض، ضئيل البنية، ذو عينين صغيرتين لطيفتين، كأشد ما تكون عليه الأعين المغولية من ملاحة وظرف. سلمت على الرجل، عرفني همام باسمه الصيني، ثم باسمه العربي الذي اتخذه لنفسه هنا، خالد، كعادة غالبية الصينيون. أثنيت مجاملاً على جمال الاسم. عرفت أن الرجل لا يعرف الكثير من اللغة الانجليزية، ولا يزال يتعلم العربية في بداياته. كان همام عموماً يترجم بيننا. قلت بأنه يبدو شبيهاً بممثل أراه في الأفلام الصينية. ضحكوا. اقترحوا أسماء، لكني قلت بأني لا أعرف اسمه. حان دوره ليعلق على شكلي، فقال مجاملاً بأني وسيم جداً. كانت من دعايات همام بوضوح، مما أحرجني حقاً. ضحكت وقلت بأن هذا لطف منه. تدخل همام، وتكلم عن تلك الصورة التي التقطوها لي لتنشر في وكالة الأنباء. ضحكت وقلت بأنها كانت فضيعة. لكن همام أصر على المديح، والتعليق على الأمر في محاولة لإحراجي أكثر، ضحكنا كثيراً. ثم قال همام بأن خالد مسلم. ابتسمت وذكرت الله. ثم فاجأني قائلاً بأنه هو أيضاً دخل في الإسلام مؤخراً، في رحلته قبل أشهر إلى الصين. شعرت باضطراب عنيف في قلبي، وشهقت متفاجئاً. وقبضت على يده. باركت له وحمدت الله. وسألته لماذا لم يخبرني من قبل. قال بأنه أراد أن يلقاني ليخبرني، لكني كنت مشغولاً في الفترة الأخيرة. سألته عن الدافع، ماذا جعله يدخل الإسلام؟. قال بأنه قرأ القرآن كثيراً من قبل، وأنه كان يشعر شيئاً فشيئاً بأن هذا هو الحق. وقال بأنه حينما جاء إلى السعودية تأثر بتعامل الناس. ثم أضاف بأنه بعد الله، كنت أنا إلى حد ما دافع لدخوله في الإسلام، فقد تأثر بي كثيراً. كرر هذا أكثر من مرة، مما أشعرني بمزيج غريب من المشاعر، مشاعر تدور في معظمها حول الحيرة، وهي مستقلة عن مشاعري بالفرح له، إنما أشعر بالحيرة تجاه ما يخصني من القصة. كان قد أخبرني منذ فترة طويلة مع الدكتور الصيني الأكبر بأنهم يرون أن أسلوب حياتي جميل ورؤيتي للأمور تعجبهم. لكن، أكثر من الصداقة والمحبة، هل يوجد ما يمكنني تقديمه؟. كنت قد سألت وبحثت عن أماكن تعطي دورات في الدعوة. لا أفكر بأني سأسير على منهجها، لكنها قد تجيب على بعض أسئلتي الخاصة، وقد أستلهم منها الأفكار، والأهم، أريد أن أطلع على الرؤية المنهجية أو غير المنهجية السائدة عن أخلاقيات الدعوة وتناولها، وماذا يفعل الدعاة، وكيف يعملون، وما هي رؤيتهم للأمور. لا أشعر بأني سأتفق بالضرورة، لكني أريد أن أطلع. عموماً، لعل همام يجاملني فقط فيما يخص دوري في إسلامه.
سألت عن خالد، كيف أسلم؟. خالد أسلم من تلقاء ذاته. كان سيأتي للسعودية لدراسة اللغة العربية، لهذا بدأ يقرأ عن الثقافة السائدة هنا، وعن الإسلام. فدخل قلبه، وأسلم ببساطة. ما شاء الله، هذه الثقة والإقدام، كم هي مثيرة للإعجاب.
حكينا عن شتى الأمور، عن رحلة همام إلى ابو رقيبه، مكان بعيد تقام فيه مسابقات الجمال للإبل. أراني صورة له وهو يحمل صقراً، حيث دعاه رجل هناك إلى حمله. أما من صوره، فهو مدير وكالة الأنباء الصينية هنا، وهو نفس الشخص الذي صورني من قبل وأنا أستخدم السواك، لتنشر الصورة لاحقاً في موقع وكالة الأنباء الصينية، أخبرني مذكراً إياي؛ يبدو أن هذه الذكرى تشعره بالسعادة. ضحكت متذكراً الصورة، قال همام بأنها كانت جميلة، وعلق بأني لدي ابتسامة جميلة، وهم يريدون أخذ المزيد من الصور لي. أخبرته بأنه يقول هذا لأنه طيب، حيث كانت نظرتي في الصورة أقرب ما تكون إلى الشريرة. ضحكنا. أخبرته بما قاله لي أحدهم مازحاً، أني سأجد صورتي في غرفة كل فتاة صينية الآن. وقد استفاد من هذه الذكرى حينما أخبرتهم بأنه قبل زمن طويل ذهب سعوديون إلى الصين، ولم يكن الناس قد اعتادوا بعد على رؤية الأجانب هناك. فتصادف أن التقوا أطفال مع معلمتهم في رحلة مدرسية إلى منطقة أثرية. دهش الأطفال لرؤيتهم، فجائت المعلمة إلى الرجال السعوديون وقالت بأن الأطفال يودون الحصول على صورة معهم. وافقوا بالطبع، فتجمع الاطفال حولهم وجلسوا في حجورهم وتعلقوا في رقابهم، وأخذت صورة مضحكة. قال همام بأني لو ذهبت الآن إلى الصين، فلن يجتمع الأطفال علي ليأخذوا صورة، إنما سيتجمعن الفتيات لطلب صورة. ضحكنا، كانت محاولة جيدة لإحراجي، قلت: ربما في الجنة، لكن ليس في الصين.
تحدثنا عن الممثلات الصينيات الجميلات.
وتحدثنا كذلك عن السوق الصيني الجديد في الرياض، الذي لم أرى أحد معجب به ممن زاروه، لا بالباعة ولا بالبضاعة. ذهبت يوم الخميس إليه، لآكل في المطعم الجديد فيه. غالب العاملين صينيون. ولسبب ما لا يوجد قسم للعوائل، يوجد فقط بضع غريفات يمكنهم الجلوس فيها لو أرادوا. التعامل فيه جاف وغير مرحب أبداً، والأسعار غالية، والطعام يميل للسوء أكثر مما يميل للجودة. كانت تجربة فاشلة على كل المقاييس. حالما أتيت على ذكر السوق والمطعم أنّ همام بألم، وحادث خالد باستياء باللغة الصينية. ثم أخبرني بأن السوق والمطعم بمن فيهما كارثة. أخبرته عن خيبة أمل الناس. وجهة نظري التي قلتها أنه يوجد سوء فهم واضح بين الناس والباعة الصينيون، فالناس لا يأتون للسوق لمجرد التسوق، حيث أنهم يتوقعون أن للأمر بعد ثقافي، يتوقعون الإطلاع عليه، ويتوقعون التعرف على الصينيون الذين لا يزال الناس لا يعرفونهم هنا، فكل ما يعرفه الناس هو الصداقة الحديثة والحميمة بين حكومتنا وحكومتهم، وكياسة وتواضع حكومتهم مع حكومتنا رغم قوتها، وهم يتوقعون نفس الودية، لكن يخيب ظنهم أمام التعامل السيء للباعة. قلت بأني أفترض بأن تعليمهم ضعيف، ولا يفهمون تمثيلهم لبعد ثقافي، إنما الأمر بالنسبة لهم مجرد تجارة بحتة، وهذا خطأ لن ينتج عنه نظرة جيدة للناس هنا، رغم جهود السفارة. فكر بوجهة نظري وقال بأنه يوافقني، وأن السفارة يجب أن تعلم بالفعل عن الوضع السيء هناك، فهي مهتمة بالأمر، وهمام له صداقات في السفارة. أخبرني عن تجربة خالد، الذي شعر بالسعادة حينما جاء بوجود سوق صيني يمكنه الذهاب إليه حينما يشعر بالحنين، لكنه حينما زاره كرهه وشعر بالفوضى والغباء هناك.
همام يريد أن يأخذني لاحقاً لرؤية أصدقاء آخرين. إني أؤخذ كثيراً ليراني الناس أكثر مما أؤخذ لأراهم، مع أغلب الأصدقاء الأجانب، مما يشعرني أحياناً بأني قشري الوجود. أي أني أقرب للفرجة، شيء طريف مثير للاهتمام، لكن رأيه ليس بنفس القدر من الأهمية. لست أنقم بالطبع، لأني مدرك لحسن النوايا والمقاصد. لكن، أشعر فقط بأن أهميتي تنتهي بسرعة عند هذا الغرض، أي أني أحزن على نفسي.
قرأت اليوم عن طبيبة صومالية بطلة، اسمها حواء عبدي (أحب اسم حواء). هي امرأة كبيرة، أنشأت في فوضى الصومال مستشفى كبير ومدرسة وما يمكن أن يطلق عليه مدينة. بطبيعة الحال، ونظراً للظروف، تعتمد كثيراً على المساعدات الخارجية، التي تكون شحيحة، وقد لا تصل لأسباب كثيرة، ليس أقلها فوضى البلد والأخطار التي تموج به.
لا أدري لماذا لا تمنعنا فوضى لبنان عن مساعدته في كل الظروف، بمسلميه ونصاراه، في حين أن مسلمي أفريقيا لا نظهر في حياتهم إلا على مستوى بعض المنظمات الخيرية، التي لا حول ولا قوة لديها في مثل ظروف الصومال. لماذا نفتقر إلى روح المبادرة حينما يتعلق الأمر بإخواننا المسلمين الزنوج في أفريقيا. هل لأنهم زنوج؟ هل هذا يجعلهم أقل قيمة؟ هذا الواضح. فلون البشرة لا يجعل أفشل الدول تحتقر نفسها حينما تكون بيضاء. فقد سمعت سياسيي لبنان، أعان الله أهلها عليهم فما أكرههم من سياسيين، أكثر من مرة يسخرون ويمثلون بالأفارقة ودولهم بالفشل والعجز الذي هم ليسوا عليه (!!). لا يعطي هذا إنطباع إلا بعظم مصيبة أهل لبنان، الذي يديره أناس جهلة ضيعفوا الثقافة، مع بعض الاستثناءات. مع ذلك، مصيبة الصومال ليست أقل، ولم تكن مصيبة غينيا أقل فداحة على أي مستوى. نسمع عن الصومال، وقد يظهر تصريح حولها. لكن هل سمعتم بما جرى في غينيا قبل فترة؟، هل تعرفون ما هي غينيا؟ غينيا بلد أكثر سكانه مسلمون، أكثر من 80%، مثل اندونيسيا. لديهم حاكم مستبد، أطلق قبل فترة جنوده الذين لا يخافون الله على متظاهرين سلميين، حيث أعملوا أسلحتهم على الناس وقتلوا العشرات، واغتصبوا العشرات من النساء أمام الناس في الشوارع، كعقاب، وقد تم تصوير هذه الاغتصابات، وظهرن نساء ينهضن عن الأرض مكسورات، يرتدين ملابسهن المنزوعة في الشوارع أمام الملأ ليغطين عوراتهن بعد الإغتصاب. بينما زرن العشرات منهن العيادات والمنظمات الخيرية للعلاج مما لحقهن من أضرار وعنف، سراً لأسباب كثيرة. بالطبع، شرفهن وشرف عوائلهن غير مهم بالنسبة لباقي المسلمين، فهن لسن بيضاوات، ولا يختلف إن كن بائعات هوى أم نساء عفيفات، فهن سوداوات في النهاية. لكن، إن لم نكن نغار، فالله يغار، والكل يعلم بأنه يساوي، حتى لو لم نساوي نحن.
كان يجدر بدولنا كلها أن تحتج وتضطرب وتفعل المستحيل لما جرى في غينيا، لكن لم يحدث أي من هذا، وليس بدافع الخوف بوضوح، فلا علاقة للغرب بما جرى، كان الأمر فقط أنهم لا يهتمون، الأمر لا يعنيهم ببساطة، وكأنما إنسانية الناس هناك محل شك، ناهيك عن إسلامهم. كان يجب ربما أن يحدث في لبنان، أو فلسطين، أو البوسنة، أو أفغانستان حتى نشعر بالإهانة. لكن القدر لا يميز، هل نضمن أبداً أنه لن يحدث في أي مكان آخر "حيث يعشن البيضاوات"؟. لا حول ولا قوة إلا بالله. كن الدول الغربية هن من قرأت احتجاجاتهن، وهن من هدد باتخاذ الإجراءات.
لطالما كان المسلمين الزنوج مُهملين، متروكين لشأنهم البائس.
في الخميس الفائت، كنا قد اتفقنا على اللقاء، أنا والدكتور الألماني. لكنه اقترح وقت أبكر من المعتاد. علمت حينما وصلت أنه يريد أن يدعوني إلى الغداء. اختار مطعماً قريباً، من المطاعم التي تجمع بين صفة المقهى والمطعم التي تكثر على شارع التحلية. لم أعرف ماذا يبيع المطعم، لكن لسوء الحظ؛ كان أكثر ما يبيع هو أكلات وسندويتشات على الطريقة اللبنانية. ولم يكن رخيصاً أيضاً، بقدر ما كان ما تذوقت من طعامه غير مميز حقاً. تلك الخبزة النحيلة التي يسمونها صفيحة، وهي مملوءة حتى تكاد أن تنفجر باللحم الممتزج بالخضار والصلصات والجبن، دون أن تشعر بأنه يمكنك أن تفصل مكون عن الآخر ولو على نحو يسير. كانت الكمية كبيرة، لكن غير لذيذة. ربما تعجب أحد آخر، لكني غير معجب بالمطبخ اللبناني بقدر ما يعجبني تهذيب أهله.
تكلمنا حول الكثير من الأمور كالعادة، وكان حديث ممتع. لكني رأيت أنه لا يزال يقلب تركي لبرنامج الماجستير في ذهنه، وربما يشعر بالمرارة أو الغبن لتركي إياه. لكني واسيته بأن أخبرته، وكنت أحتفظ بالأمر كشبه مفاجئة، بأني أسعى على نحو جاد ومثابر في أمر آخر مثير للاهتمام. اسعده الأمر، وجعلني أحكي له القصة، وناقشنا التفاصيل.
لعل ما لا يعجبه هو أنه يتخيل بأني هربت من البرنامج. قلت له باسماً: بأنه لديه مشكلة مع الهروب من الأمور، لكني ليس لدي مشكلة مثله، لا خلاف لدي بالهروب حينما لا أشعر بأني حيث يجب أن أكون، ولا مشكلة لدي بالهروب حينما يكون هذا الخيار الأفضل. فوجئ، وقال بأنه ليس لديه مشكلة مع الهروب حينما يشعر المرء بأن الأمر لم يعد يصلح، بل إنه يسمي الأمر اختصار للخسائر، حيث توقفت قبل أن أخسر أكثر. إذاً، هو فقط حزين للأمر، وليس معارض له تماماً.
قرأت له ترجمة لقصيدة كتبتها مؤخراً، وهي قد لا تبدو مفهومة أو واضحة المعالم. وهي مبنية على انطباعات قديمة، على ذكريات لم يعد لها تأثير على ما أتصور. هاهي:
أحببت شكل قلبك...
بدا لي أنه جميل...
أعجبني شكلك...
حسبت أنه جليل...
لم تتغير...
أعجز الله فيك...
كأنك تمثال...
وقد قدّ قلبك...
من خاصرة حجر...
كنت غال...
ولكنك الآن فرجة...
كنت عالٍ...
ولكنك الآن سُخرة...
روح تمثال حجرية...
لطول السهر...
لم تغادر كالمؤمنين جسمه...
فمن سمع عن تمثال تغفو عينه...
أو لقلبه خفقه...
مع ذلك...
أعلم أن التماثيل ترى...
وأني كنت لعينيك تحفة...
كانت معجزة قلبي الخافق بدعة...
وتبدل تعابير وجهي خدعة...
كنت حقيقياً...
حياً وحيوياً...
سوا عيب صغير...
إذ حين كان قلبك نحت من حجارة...
فقد شكل قلبي من زجاجة...
نُفخ من قوارير شفافة...
تظل الحجارة على القسوة...
أما الزجاج فيتحطم من دفعة...
أو تدمره صدمة...
كعناق للحظة...
من تمثال متعثر...
قلبه المشفق قاس...
أجتزءَ من جلمود صخرة...
حينما فرغت، كان يستمع بابتسامة وضحكة، يقول بأن سببها أنه يتعلم كيف يعمل عقلي؛ طلب مني إعادة القصيدة، جزء تلو الآخر، مع التوقف لدى كل جزء، والنقاش حوله. أوضحت له الأمور المتعلقة بالثقافة والمعتقد، كفكرة مغادرة الروح للجسد وقت النوم.
امتنعت عن قراءة قصيدة أخرى ترجمتها له، شعرت بأنه لن يفهمها، حاول اقناعي، لكني قلت لا. أما القصيدة الثالثة، وهي عن أمي، فلم أقرأها لأني لم أترجمها بعد، رغم أنه أراد أن يسمعها بشدة.
بحثنا عن صور لأفراد عائلته على الانترنت. رأيت صورة لابنه، وهو شاب في عمري، فائق الوسامة، ويعمل موسيقاراً. وهو الآن يستمتع بمنحة في البندقية، بعدما أدى جيداً في تأليف الموسيقى.
وبذكر الصور، صرت أجد من وقت إلى آخر، من خلال إحصائيات المدونة، من يبحث عن صورتي على الانترنت. لن يجدها. ربما ترونها في وقت ما، من يعلم. لكن؛ صورة الأفاتار في أعلى الصفحة تشبهني، قال هذا أيضاً مدير الجمعية الذي تحدثت عنه في التدوينة الفائتة.
تكلمنا عن الحيوانات، هو يحب البعير. وأنا لا أحبه. أخبرته بأني أحب الأوركا، والدقونق (بقر البحر) والجاموس الأمريكي، والطير الطنان. للأسف؛ لم أرى هذه الحيوانات على الطبيعة، ولن أراها على الأغلب أبداً. سأظل أحبها من بعيد، شأنها شأن الكثير من الأمور الأخرى. ذكرت له بأني أحب الغنم النجدي، وسألته إن كان قد رآه؟ قال بأنه رآه، وأنه جميل بالفعل. هو جميل جداً، لكن ليس هذا كل شيء، فهو مختلف عن الخرفان الأخرى، يتحرك بأناقة ورشاقة، ولا يبدو غبياً كالخرفان الأخرى، وينظر برقة. أخبرته بوجهة النظر هذه، فوافقني، قائلاً بأن هذا وصف حسن. يكفي النظر إلى طول الخرفان النجدية وبنيتها الأنيقة، ليعلم الإنسان أن الله خلقها الاجمل في جنسها. لطالما أردت الاحتفاظ بحمل نجدي في المنزل، أردت أن يكون لي، قرب غرفتي في السطح حينما كانت غرفتي الرئيسية، لكن أمي كانت ترفض.
أخبرته بأمر الشاب المريض المشرد، وقصته. اقترح طرق للمساعدة، وقال بأنه يريد أن يساهم في الأمر معي، لنساعد الصبي، اقترح بأن نشتري له ملابس وأشياء. لا أدري إن كنت سأرى الصبي مرة أخرى. سأل إن كان لدينا دور للأيتام؟ قلت بأننا لدينا، لكنه كبير عليها. قال بأنه سيحادث جهة خيرية هنا لها علاقة في نشاط يشرف عليه في الجامعة، ليرى إن كان يمكنهم عمل شيء.
سألني، لماذا لا أكتب عن الأمر، وألفت الانتباه؟ قلت بأني أكتب عن أمور مثيلة، لكن لا يوجد تأثير لما أكتب، بأي شكل، وأني لا أتوقع له تأثيراً على أي أحد. ثم أعقبت: يجب أن أكون دكتوراً ليسمعني أحد هنا. قال: إذا كن دكتوراً، ادرس وأصبح دكتوراً. ابتسمت.
اليوم، أرسلت إليه أخبره عن معرض الحدائق الأندلسية، الذي أتت به اسبانيا إلى الرياض. قلت بأن الأسبان يصفون المعرض بأنه هجرة عكسية، وهو ما اعتقدت بأنه سخرية غير مقصودة، أو شعرت. أخبرته بأني مفتون بالحدائق في كل الأحوال، وأني أود الذهاب، وأريده أن يأتي معي. واقترحت أوقات مطاطة ليختار منها.
كل يوم أريد الكتابة عن شيء، وحينما أبدأ، أنسى.
لدي طفرة هذه الأيام بالمواد الجيدة، على ما يبدو، للقراءة. حتى أني لم أعد أجد الوقت الكافي. لدي روايتين، إحداها اكتشفت أني اشتريتها قبل مدة ونسيتها. ولدي مجلتين ناشونال جيوقرافيك لم أفتحهما، والكثير من المقالات والبروشورات المحفوظة، حول أمر أريد أن أنشغل به إن أعان الله.
في بعض الأوقات، أتمنى أن أقرأ شيء مثير للاهتمام فلا أجد. يوجد الكثير بالطبع في مكتبة المنزل، رغم ما طالها ويطالها من نهب، وعلى الانترنت، لكنه لا يوافق مزاجي في تلك الفترات.
لدي طفرة هذه الأيام بالمواد الجيدة، على ما يبدو، للقراءة. حتى أني لم أعد أجد الوقت الكافي. لدي روايتين، إحداها اكتشفت أني اشتريتها قبل مدة ونسيتها. ولدي مجلتين ناشونال جيوقرافيك لم أفتحهما، والكثير من المقالات والبروشورات المحفوظة، حول أمر أريد أن أنشغل به إن أعان الله.
في بعض الأوقات، أتمنى أن أقرأ شيء مثير للاهتمام فلا أجد. يوجد الكثير بالطبع في مكتبة المنزل، رغم ما طالها ويطالها من نهب، وعلى الانترنت، لكنه لا يوافق مزاجي في تلك الفترات.
يقول مديري الحبيب بأن طبعة شكلي: "شقراوية" نسبة إلى شقراء، حيث ينتمي. بالطبع يمزح ويجامل. لكني سعدت بهذه المزحة، وبمجاملته وكأنه يقدرني إلى حد أنه يحب لو انتميت إلى نفس المكان. طبعاً، لديه ما يستند إليه، فعائلة جدتي رحمها الله تنتمي إلى هناك قبل أن تأتي إلى القصيم، قبل زمن طويل، ولا يزال أقاربهم هناك.
أتذكر أقارب لنا قبل فترة ليست بالبعيدة زارونا بالمنزل. حينما دخلت المنزل راجعاً من مشوار، ولم أكن أعلم من الضيوف، أُخذت حينما رأيت أشكالهم؛ كانوا أقرب شبه إلي مما أرى في أقاربي الأقرب، أبناء العمومة والخؤولة. شعرت بأني بالواقع من هؤلاء الناس. حينما علمت من يكونون، شعرت بأن الأمر منطقي. والدي يشبههم ولا يشبه عائلتنا، وإن لم أتشابه مع والدي، ولكني ورثت جينات يغلب عليها طابعهم ربما. أخي الأكبر يشبه أهلنا أكثر من والدي، بل إنه لا يشبه سواهم، حيث يشبه جدي رحمه الله كما يقال عنه. أعتقد أن عائلتنا غريبة. المهم أن كبيرهم كان ودوداً جداً معي في ذلك اليوم، وتكلم معي وسألني عن أمور مختلفة.
لكنه سأل والدي أن يحضرني معه حينما يحضر إلى القصيم، و قال بأنهم سيزوجونني. كان أمر محرج، وكان سيكفي لو قيل لمرة واحدة، لكنه كرر بأكثر من صيغة، وتكلم بجدية. حينما أخبرت أختي الكبرى وأنا أضحك، ضحكت معي (طبعاً). لكنها تسائلت بجدية، لماذا لا أتزوج منهم بالفعل؟ فهم عائلة جميلة. بالطبع، لا أعتقد أني سأتعداهم لو رغبت بأحد من الأقارب أو الجماعة، لكن، هل أرغب بذلك؟ إني أفضل التعرف على أناس جدد.
جاء أخي الكبير ذات مرة إلى العمادة حيث أعمل، كان لديه شأن يتطلب حضوره. طلبت منه أن يأتي ليسلم على مديري. دخل وسلم، جاملا بعضهما برسمية زائدة في نظري. هل لأنهما في أعمار متقاربة؛ يحذرون من بعضهم؟. حينما خرج أخي، كان مديري يبتسم بطريقة غريبة. كأنما يريد أن يضحك. استغربت. سألني إن كان هذا أخي من من أمي وأبي؟ قلت باستغراب: نعم، ما الأمر؟ قال بأنه يسأل فقط. لا يجب أن يكون الإخوة نسخ كربونية، لكن بعض الناس لم يتعودوا. وربما لمحدودية أفراد عوائلهم دور. أنا لا أعتقد أن بيننا اثنين يتشابهون في العائلة. أتهم أنا بأني أشبه أحد إخواني الكبار، لكن بموضوعية، ربما لدينا لون بشرة متقارب إلى حد ما، لكن الاختلافات واضحة. عينيه أصغر، وكذا شفتيه( ما لدي هو من النوع الذي يسمى براطم. كولاجين طبيعي كما كان يصفها أحد الأصدقاء وهو يضحك)، في حين أن الأنف مختلف. المضحك أن كل أبناءه ورثوا عني صفة عجيبة، كانت خالتي العزيزة، زوجة خالي ووالدة زوجة أخي، قد نبهت إليها؛ لديهم ميزة في أرنبة الأنف، وكأنما نتوء جانبي صغير لا يكاد يلحظ، في حين أن هذا الأمر لا يتواجد لدى أخي. بالطبع، أفرح بأنهم ورثوا عني هذا الشيء الخاص جداً، الذي لا يتواجد لدى أحد آخر في العائلة سواي. ربما حينما ينظرون في المرايا لاحقاً ويتفحصون وجوههم، يتذكرونني. وربما ورثوها لأبنائهم، تلك الميزة التي لم توجد لدى غيري في العائلة، ولا أدري عن الأسلاف طبعاً. يقول صديقي سيد أمس: أنفك جميل، لهذا النظارة الشمسية تبدو عليك جميلة. أعتقد أن أنفي غريب، وكأنه صلصال، لكنه ليس جميل بالضرورة، ولا قبيح، لكني أرجو أن يكون أبناء أخي المذكور أعلاه راضون عن أنفي أيضاً. تفحصت أنف أصغرهم، بالكاد عمرها سنة، وهي مدمجة الحجم، لذيذة الخدين، ووجدت أنفها كأنفي. فرحت. لا أريد بالطبع لأي من أبناء إخواني أو أخواتي أن يشبهوني، أريدهم أن يكونون جميلين، لكن، مجرد شيء صغير لا يضر للتذكير أعتبره أمر جيد.
وبذكر أبناء أخي هؤلاء، عاد ابن اخي من كندا، قبل فترة، خائب الأمر. ماذا بوسع المرء أن يفعل...
كان محمد ابن أختي، المحمد ذو الشعر المتموج، يتبعني إلى غرفتي كالعادة. لكن، حدث أمر غريب هذه المرة. حينما دخلت، أخذت المعطر لأصبغ غرفتي بالرائحة التي أعشق، الفانيلا، فهرب محمد بسرعة من الغرفة ووقف يتابع أمام الباب على نحو غريب. بدأت بالرش، ثم أمرني بعصبية أن أرش في اتجاهه، بينما تراجع إلى الوراء!. رششت، فاقترب ببطء، وتوقف، ثم سمعته يتشمم الجو كجرو صغير!. ثم أطلق زفرة ارتياح أمام دهشتي!.
لديه موهبة رائعة بالتصوير ما شاء الله، رغم أن عمره 4 سنوات. كثيراً ما يذهلنا.
السهر نقيض النوم، مع ذلك، ما أجمل الاثنين. أقدر النوم كثيراً، خصوصاً قبل أيام نهاية الأسبوع وخارج الإجازات، حيث يأتي الأطفال في نهاية الأسبوع ويسببون لي انهيارات عصبية كلما صرخوا يلعبون وانا أحاول النوم، نهاراً أو ليلاً. أما السهر، فقيمته بالنسبة لي تكمن بالخلوة، والانشغال بالذات، ألا تكفي هذه كأسباب وجيهة؟.
قرأت رواية أفريقية مؤخراً. لا يجب أن نتوقع أن رواية ستكون جيدة بسبب موضوعها أو مكان انتمائها. كنت قد قرأت رواية: أشياء تتداعى، للكاتب تشنوا أتشيبي، وهو أفريقي وأجواء الرواية أفريقية، وأعتبرها من أروع وأجمل وأكمل ما قرأت من الروايات. أما الاخيرة، واسمها: مذبحة ويريامو، فهي في رأيي راحت ضحية المبالغات والسذاجة، وعدم ضبط الشخصيات وضعف المنطق خلفها، أضف إلى هذا إقحام الفلسفة على نحو زائد عن الحد، وفي أماكن وعلى ألسنة غير ملائمة، وحيث لا يتوقعها المرء ولا يريدها، مما يثير ازدراء القارئ، بدلاً عن التأثير عليه. إن موضوعها يتعلق بالمستعمر الأوروبي، مقاومته أو مداهنته، كراهيته أو الانبهار به، عبر شخصيات كثيرة. كل هذه مقومات كانت لتصنع رواية مثيرة للاهتمام، ويوجد شخصيات كانت لديها الامكانية لتصبح مؤثرة، لكنها لم تستثمر، وعولجت بسذاجة وسطحية. كان وصف المآسي أحياناً يشعر المرء بالضيق والاستنكار، ليس لإتقان الوصف، لكن للحط من قدر الموقف المؤلم بسبب ضعف الأسلوب، الأمر الذي جعل المأساة على جانب من الكوميديا أحياناً، مما يثير الغيظ.
فشل بالأسلوب، وليس في النوايا، لكنه فشل.
هذا رأيي بها. للأسف، لا أدري إن كنت سأقرأ مرة أخرى شيء بجودة رواية أشياء تتداعى، تلك الرائعة فوق الوصف. لم يكن الأمر مجرد جمال وإثارة قشرية بالنسبة لرواية "أشياء تتداعى"، إنما كان هناك مغزى عميق جداً، يمكن إسقاطه على الكثير من الشعوب والامم. نفكر بتشابه الامراض، وقد يكون ما نتحدث عنه هنا هو مرض واحد أو علة واحدة، لكننا ننسى أن الاجساد التي تستقبل نفس المرض متشابهة، وإن باعدت عنها المسافات. في رواية تشنوا أتشيبي، يرى المرء الإرادة القوية وهي تتحطم، والموت الذي نهرب منه بغريزتنا، بينما هو يزحف إلينا من كل اتجاه، نجد أنفسنا مدفوعين باليأس والخيبة إلى إحتضان هذا الموت.
اليوم الخميس، وهو يوم جميل. ذهبت مع الدكتور إلى المتحف الوطني، لنرى في أحد صالاته معرض الحدائق الأندلسية.
في السيارة، تكلمنا حول رؤيتنا للناس وأنواعهم، فلسفنا الأمور
في الطريق سائرين قرب المعرض، تكلمنا عن أوروبا، وتسائلت إن كانت سويسرا تشبه جنوب ألمانيا. شرح لي الإختلافات والتشابهات. قلت بأن سويسرا كانت دائما مثال هنا على الجمال. لكني أعقبت بأني لسبب ما، منذ أن كنت صغيراً، لم تثر أوروبا اهتمامي، رغم أني أعلم بأنها جميلة، وأني لو ذهبت إلى هناك، فلن أنسى التجربة، إلا أني لا أشعر حقاً بالاهتمام كثيراً. قال بأن هذا شيء متوقع، فهي مختلفة عن هنا كلياً. قلت لكن الناس الذين يذهبون إليها يحبونها كثيراً، كل من أعرف أحبها حينما ذهب. قال بأنهم "ربما يحبون الحرية هناك، ولكني لا أعتقد بأن الحرية هي الأمر الذي تشعر أنت بأنه ينقصك هنا، أو تبحث عنه، إنك لديك أشياء أخرى تبحث عنها، لذلك لا أتصور بأن أوروبا ستبهجك كثيراً".
لا أشعر بأني مفتقد للحرية هنا، لكني مفتقد للماء الجاري على الأرض، وانشغال الناس بأنفسهم. مع ذلك، استشعرت مباشرة بأنه بدأ يعرف خبايا نفسي بسرعة، دون أن آتي على ذكرها، ولو من بعيد.
لمن يريد أن يعرف؛ المعرض تافه جداً. إنه أشبه بعذر عن شغل المكان، وتنفيذ لمجاملة قيلت، عنه عرض لحدائق وأساليب تنسيقها أو أسباب اختلافها عما لدى العالم. لن يرى الزائر نماذج لحدائق، ولا حتى صور كافية عنها، إنما صور عابرة. ما سيرى المرء هو علب يستنشق منها روائح النباتات التي كانت تزرع هناك، وأكثرها مألوف، رغم أنه ربما يكون هذا هو المغزى. المرة، وأكليل الجبل، الذي حينما شممته عرفت أنه دواء تعطيه أمي لمن يمرض لكن باسم مختلف، والكمون، وأشياء عادية في مجملها. كما يوجد نماذج لآلات الري والطحن، نواعير وتروس جميلة، لكن، أليست النواعير تملأ الشام؟ وأليست التروس تملأ مزارعنا سابقاً على هيئة السواني؟. أتفهم أن وجودها ضروري بالمعرض، ليخبرنا أن الناس هناك كانوا امتداد لنا ولثقافتنا، لكن هذا التهافت لإيصال هذه الفكرة الوحيدة، وإهمال الجانب العملي والمتوقع من عنوان المعرض، كان أمر مثير للضيق، وكأنما كان خدعة.
ترى نموذج صغير في المدخل لأصص يفترض أن تعطي انطباع عن حديقة بمساحة مترين أو ثلاثة. ثم بعض الروائح بالطريق إلى الصالة، محبوسة في علب بلاستيكية بمقابض جانبية حينما تحركها يتحرك الهواء في الداخل فيخرج من فتحات الاستنشاق، حيث تقرب أنفك. ثم نموذج لناعور، وهو نموذج متقن وجميل. ثم الكثير من الروائح، وعرض جانبي للبذور والأوراق، ثم مدخل الصالة الصغيرة. يوجد منصة لأجهزة حاسب تعرض برامج، أعتقد أن كلها باللغة الاسبانية، وزجاجة تحوي كتابين قديمين أحدها بلغة أوروبية والآخر بالتركية بخط عربي، وكلها مترجمة عن كتب عربية عن الصحة وطيب العيش والزراعة على ما أتذكر. المزيد من الروائح والنماذج الصغيرة، وهكذا دواليك. لم تكن المعروضات عموماً كثيرة أو مثيرة للاهتمام. بعد قليل من دخولنا، سمعنا صوت مرتفع لعزف على عود. صمت وأنا أحاول أن أستوعب، هل هو نغمة لجوال، أم شخص يعزف فعلاً، أم تسجيل؟. أكمل العزف، فعرفت أنه تسجيل لإضفاء الجو للمعرض. ضحكت وقلت: "قبل بضع سنوات، لم يكونوا ليجرؤوا على هذا."
استدار إلي الدكتور، وقد شد هذا التعليق انتباهه، واجهني جانبياً، حاثاً إياي على التوقف بهذه الطريقة، وسأل: "هل تعتقد أنه من الأفضل أن يكونون أكثر تشدداً؟"
أجبت: "أعتقد أن القرار يجب أن يعود للناس. إن أرادوا تشدداً أقل، فليكن، وإن لم يريدوا، فليكن، فالأمر يجب أن يرجع لهم، يجب أن يكون قرارهم، لا أن يرغموا على الأمر. أعلم بأن الكثيرين سيعجبهم تخفيف التشدد، كسماع الموسيقى هكذا، لكنهم لن يريدوا أن يرغموا على القبول بالأمر، بينما سيعجب آخرين الإرغام على الأمر، لمجرد أنه وافق هواهم، دون اكتراث بالآخرين."
صمت الدكتور، وقلب نظره متأملاً. ثم قال بأن هذا صحيح.
كنت خائب الظن بالمعرض أكثر من الدكتور، الذي ربما أخفى خيبة ظنه حتى لا أندم على جرجرته إلى هناك. لما كدنا أن نخرج اقترحت أن نزور المتحف الوطني نفسه. حينما وصلنا لشراء التذاكر، عشرة لكل واحد منا، قال ببساطة أنه هو من سيدفع، وثناني بهدوء. ابتسمت، قلت بأنه لا يهتم بالمال. لاحظت منذ البداية أنه كريم جداً. وهذا أمر مبهر، لأننا في الجزيرة العربية نتخيل بشكل لا واعي بأننا وحدنا الكرماء، محاطون بأناس يقدرون المال أكثر من المطلوب في محيطنا العربي. أما باقي العالم، فلا نعرف عنه غير الحكايات الفردية، التي تكرس لبخل الأوروبيين مثلاً.
دخلنا، في البداية كان هناك أحجار ومعادن، ثم هيكل ضخم لنوع من الفيلة كانت تجوب الجزيرة العربية قبل ملايين السنين. كان المتحف جميلاً، يوجد فيه الكثير مما يثير الاهتمام. لكني أعتقد أنه من الممكن أن يكون أفضل. أكثر ما أسعدني هو أني رأيت على الطبيعة قناع ذهبي صغير، وقفاز طويل ذهبي أيضاً، أقرب ما يكون غطاء للذراع، وأشياء أخرى، وهي كلها بمقاس يلائم طفل بعمر السادسة إلى الثامنة. هذه الأشياء أكتشفت في المنطقة الشرقية، في قبر فتاة ماتت قبل آلاف السنين، أكتشف القبر قبل حوالي سنتين، وقد قرأت الخبر ونظرت إلى الصور باهتمام كبير في ذلك الحين. قيل في الخبر أن الفتاة على الأغلب هي أميرة يونانية. القناع بدا لي يوناني الطابع إلى حد بعيد. كثيراً ما خطرت في بالي هذه المكتشفات، لكني لم أتوقع أن أجدها هنا في المتحف.
للأسف، هذرت على رأس الدكتور أكثر مما أردت، لم أصمت أبداً. شعرت بالأسف، لأني فكرت لاحقاً بأني ربما أفسدت تجربته دون أن أريد. أخبرته عن الكثير من الأشياء التي أعرف عنها في المتحف، وحكيت له القصص، وأشغلته كثيراً. هي الزيارة الأولى لكلينا. تكلمت بحماس عن قرية الفاو، وقد غاب عني أننا على الأغلب سنصل إلى أمور معروضة عنها. لكن خاب ظني كثيراً حينما لم أجد تمثال مجنح بديع، كان قد وجد في الفاو. أين يمكن أن يكون؟.
كانت أشكال الكتابات العربية القديمة تخلب اللب، حيث أنها لا تشبه كتابتنا هذه، بل هي حروف مختلفة كلياً، إنها جميلة وتشعر المرء بأنها تحمل إحساساً راقياً ومتطوراً. كنت قد قرأت أن أهل الفاو قد شغفوا بالكتابة حد الجنون، بحيث تجد الكثير من الكتابات لهم على كل شيء حول كل الأمور. يا للروعة والرقي والحس بأهمية التعبير. أخبرت الدكتور بهذه المعلومة، وضحكت، قائلاً بأني أتمنى لو كنا قد ورثنا هذا عنهم. ثم رأينا صورة أعرفها، أخذت عن رسمة وجدت في الفاو. صورة لأمير أو شخص مهم، شاب وسيم مكحول العينين، ينظر نظرة جادة، بينما حوله فتاتين يقمن بطقس معين، غير واضحات المعالم، والصورة جميلة، ملونة بألوان زاهية لا يدري المرء من أين حصلوا عليها. للأسف، لم أرى من تماثيلهم شيئاً، رغم وجود تمثالين صغيرين مع عدة الفتاة اليونانية، ورغم أني أعلم بأن أهل الفاو كانوا متطورين جداً في صنع التماثيل، وقد ضاهوا اليونانيون إلى حد بعيد، كما أنهم كانوا وثنيون.
في أحد الأقسام، رأيت إبر معدنية كبيرة، مصنوعة بإتقان. فتذكرت قصة قديمة كنت أحبها حينما كنت صغيراً. قصيتها على الدكتور. وهي عن فتاة بدوية جميلة، ذهب أهلها لتلبية دعوة وتركوها لوحدها في الخيمة. حينما خيم الظلام ولم يعد ذووها، خافت، فهي لا تعرف كيف تشعل النار، رأت خيمة بعيدة وأمامها نار. ذهبت إلى الخيمة، ووجدت رجل مسن عند النار. استأذنت لتأخذ من ناره، لكنه رفض. حاولت إقناعه، لكنه رفض مع ذلك بعناد. فقدت أعصابها، فضربت الشيخ وأخذت بعض النار ومضت. لم يكن الشيخ وحيداً، فقد عدن بناته ووجدنه يبكي، ولما أخبرهن ذهبن إلى خيمة البدوية الجميلة، وهي اسمها نجلاء في النسخة التي سمعت، وضربنها، ووخزن فروة رأسها بإبر نحيلة لا ترى، وسحرية، بحيث جعلتها تذهب في غيبوبة. وتركنها هكذا. حينما عاد أهلها، فوجئوا بالمصاب، وطلبوا عون الأطباء والغجر، لكن لم يستطع أحد أن يعرف العلة، فلا أحد يمكنه رؤية الإبر السحرية فيعلم بوجودها. ربطها أهلها فوق جملهم الأثير، وأطلقوه ليهيم بالصحراء، ولتواجه ابنتهم قدرها، أو يتولاها الله برحمته، بعدما لم يعد في يديهم حيلة. لكن الجمل اقترب لاحقاً من قرية للحاضرة، ولم يتمكن الناس من الإمساك به، سوا أن شاب جميل تذكر بأنه رأى هذا الجمل مع أهله البدو عند أحد السواقي، وتذكر أن اسمه: سيف. نادى الجمل، فتوقف الجمل، وعاد إليه. حينما فلوا القماش الذي يحمله، وجدوا نجلاء في الداخل، لا تستيقظ. أخذت إلى منزل أهل هذا الشاب، ولم يتمكنوا من مساعدتها. بعد حين، وصلتهم دعوة إلى وليمة، وكانوا بالعادة يتركون أحدهم للعناية بجدتهم الطاعنة بالسن، والعمياء. لكنهم قرروا أن يذهبون جميعاً، ويتركون نجلاء إلى جانب الجدة الخرفة، لتجسرها فلا تخاف، وهي لن تعلم بأن الفتاة لا تعي ما حولها. بدأت الجدة حينما غادروا تمسد رأس نجلاء الجميل، وتحكي لها الحكايات، ولكنها شعرت بالإبر، وانتزعتها واحدة واحدة، فرغم أن كل من عاينوا نجلاء مبصرين، إلا أن هذه العجوز العمياء هي الوحيدة التي توصلت إلى الإبر. فتحت عينيها نجلاء، وأفاقت من غيبوبتها. لما عاد الأهل، وقع الإبن في حب نجلاء، وتزوجها.
ضحك الدكتور في نهاية هذه القصة. إنها طفولية وساذجة، لكنها جميلة جداً ومعبرة، لهذا لا زلت أحبها. فهذه العجوز الضريرة سخرها الله لتفعل ما لم يفعله المبصرون دون أن تدري، لأنها حنونة.
وصلنا إلى قسم الحج، ولما خرجنا، سألني إن كنت قد ذهبت إلى مكة؟ ضحكت، وأخبرته بأني ذهبت كثيراً، ولكني أفضل المدينة المنورة عليها. قال بأنه يعتقد أن المدينة أجمل بالفعل. بالتأكيد، رأى هذه المدن المقدسة بالصور. قلت له، بأن الأمر لو ترك في يدي،،، ثم لم أكمل، فقد فطنت أنه علي إيضاح الأولويات. قلت بأني لو كنت سأنتقل من الرياض، فسأذهب إلى المدينة المنورة بأمي وأبي. ثم أعقبت؛ لكن، لو ترك الأمر بيدي، أو لنقل لو أرغمت على مغادرة المكان، لاخترت العيش في عمان، وأخذت أمي معي.
قال متفاجئاً: عمان؟
قلت: نعم، عمان، فأهلها طيبون، ومتحضرون بطبيعتهم، وأتصور بأن العيش سيطيب لي هناك.
قال بأنها بلد جميل، وأهلها بالفعل طيبون ومتحضرون، وأن الحضارة ضاربة بجذورها هناك، إذ أنه زارها.
خرجنا، ومشينا بالحدائق الخارجية المزدحمة، وكان هناك بعض المياه الجارية اصطناعياً. أخبرته بأن النوافير هي من أكثر الأشياء التي أحب في حياتي، رغم أني لم أرى نوافير جيدة هنا، أو نظيفة. وحينما تكون مقبولة، تكون مهملة وقذرة، كلها هكذا هنا. وافقني، قائلاً بأن هذه هي مشكلة كل الدول العربية، فالأمور تهمل بسهولة. وقال بأن النوافير جزء متأصل في حضارتنا نحن، ويمكن رؤيتها في المدن القديمة، دمشق، القاهرة، وخلافها. سألته عن النوافير في ألمانيا؟ قال بأنها كثيرة جداً، بدا الأمر وكأنه يغريني، أو يشعرني بالأسف، سألته إن كان قد شرب منها؟ قال بأنه يشرب منها، فهي صافية ومنعشة، والشرب منها طيب. أخبرته بأني أتمنى لو وجدت نافورة جميلة، ونظيفة، لأنام فيها. أجاب بأنه لن يمكنني أن أطيل النوم، فستكون المياه باردة على الأغلب. صَمَتّ.
سألته إلى أين يود أن يسافر، كانت دولة آسيوية. قلت بأني لو سافرت، ولست بشخص مسافر، لذهبت إلى البيرو. فوجئ، وابتسم، وقال نعم، البيرو تلائمك، وخذ معك هذا البونشو. يقصد التشادر الأبيض الكريمي الذي أتلفع به اتقاء للبرد. ضحكت، وقلت بأني لو ذهبت بناء على ما ألبس، لذهبت إلى أفغانستان. استغرب، فشرحت له أن هذا اللبس يأتي من هناك، ومن باكستان. التشادر هو قطعة قماش مستطيلة، طويلة جداً وعريضة، ترى كثيراً على أهل تلك المناطق.
حينما اقتربنا من السيارة، سألته عن أفضل الروائح التي يحب. قال بأنها كثيرة، ولكن لا شيء محدد، فهو يحب الروائح المتجمعة بعدما يهبط المطر في الغابات في ألمانيا، ويبرز روائح كل شيء، الأرض، النباتات، الأشجار. قلت بأني أحب الفانيلا. ضحك، متذكراً بأني أعطيته قارورة صغيرة من زيتها. أخبرته بأسف بأنها لم تكن من أفضل نوع، حيث أن النوع الرائع الذي كنت أشتريه لم يعد يأتي به المحل، فاضطررت بعد بحث إلى هذا النوع الذي لم أجد غيره، وأعطيته منه. ابتسم، قائلاً ونحن نمشي: دائماً تبحث عن أفضل شيء. قلت بأن غيره يقولون بأني غريب يبحث عن أغرب الأشياء.
حينما اقتربنا من منزله، سألته؛ لو كان سعودياً، فماذا يحب أن يكون اسمه؟. هذه الأسئلة السخيفة التي أحب أن آتي بها من وقت إلى آخر، وهو لا يمانع سخافتي. فكر طويلاً، ثم قال: طارق. لا أحب هذا الاسم، لكني لم أقل شيئاً. إلا أنه استمر بالتفكير، قائلاً بأن هناك اسم يحبه حقاً، ولكنه لم يستطع تذكره. اقترحت: لماذا لا تسمي نفسك هادي؟. تسائل: هادي؟ قلت: نعم، هو اسم جنوبي، وأنت من جنوب ألمانيا، هذا يجعل الأمر معقولاً. ضحك، وسألني عن معنى الاسم؟ لما شرحته تفكر قائلاً: "ااه، هاديه! مثل هاديه! ولكنه مذكر." قال هاديه بلكنة مصرية، حيث عاش هناك لوقت ليس بالقصير، وكل أصدقاءه هنا من المصريين على حد علمي. أما أنا؛ حينما سألني ماذا قد أختار لنفسي (لم يقل لو كنت سعودياً بالطبع). قلت بأني لست متأكداً، ولكني حاولت قبل زمن طويل أن أغير اسمي، حيث لم يعجبني، ولكن والدي عارض الفكرة بقوة، حيث سماني على عمه، الذي لم أصبح مثله بالنهاية. الآن، نسيت ما كنت أريد أن أختار لنفسي. مع ذلك، لو غيرت اسمي الآن، لاخترت اسم: سعود. تسائل: سعود؟ لم ينطقه بشكل صحيح، فصححت له، وشرحت: "أريد أن أسمي نفسي سعود لأن هذا ما رغبت أمي أن تسميني به، حيث أنها تقدر أمير اسمه سعود الفيصل كثيراً، وهو وزير الخارجية، وتعتقد بأنه ذكي جداً ومحنك، فأرادت أن تسميني سعود تيمناً به، لكن والدي رفض" قال الدكتور بأنه لم يكن ليرفض هذا.
في الليل، تناولت العشاء مع خالد، زميلي في العمل، وهو مؤذن مسجد الآن، انتقل إلى شمال الرياض في الشهور الأخيرة. تعشينا في مطعم طوكيو. كان عشاء طيب وممتع، وتندر خالد كثيراً على التشادر. كنت قد رأيت من خلف الحواجز الحصيرية وجه مألوف حينما دخلنا للمطعم، فاستأذنت من خالد، وذهبت إلى خلف الحاجز، وسلمت على زميلين من أيام الجامعة. أحدهما كان ليس أقل من صديق في بداية الجامعة. تندر بأنه كان يجب أن يعرف أنه سيجدني في هذه الأماكن إن اختفيت. كنت أتهم في الجامعة بالكثير من الأشياء، بأني لي طابع ياباني، وأحياناً بأني أبدو كرسمة أنيمي (الشخصيات الكرتوني اليابانية) وأحياناً كفنان أوروبي (حسب القبعة)، أحيانا أشياء كثيرة أخرى. دعوني للبقاء معهم، ولكني استأذنت بأن معي أحد. حالما غادرت الغرفة نسيتهم، والغريب أن خالد هو من ظل يتذكرهم ويسأل عنهم!! خالد عجيب. حكيت للدكتور الألماني عنه، قلت: لدي زميل في الجامعة، سألني ذات مرة: لماذا تحب الأشياء الغريبة؟ فرددت: يجب أن تسأل نفسك هذا السؤال، فأنا أحبك. ضحك الدكتور الألماني كثيراً. وكان هذا في تتمة النقاش حول كوني أبحث عن أفضل الأشياء أم أغربها. وصفت خالد بأنه رجل طيب جداً، مؤذن للصلاة، شديد البراءة والبساطة، حتى أنه يبدو لي كطفل في معظم الأحيان (في النصف الثاني من ثلاثيناته بالواقع). قال الدكتور: إذاً، هو لا يستوعب عمق شخصيتك وحساسيتك. يصفني الدكتور أحياناً بأوصاف من هذا القبيل، حتى يشجعني ويجعلني أشعر بأني شيء مميز.
عودة إلى العشاء مع خالد؛ فوجئنا بأن كل أماكن المطعم تسمح بالتدخين، وكان هذا شيئاً سخيفاً، لكن خالد طلب من الأشخاص بجانبنا عدم التدخين.
ثابر خالد في محاولة استخدام عيدان الأكل، ولم يعطني الفرصة الكافية لتعليمه، أو يدقق كثيراً على تعليمات استخدامها على الغلاف. لكنه نجح على نحو مقبول. أحضرنا لاحقاً الأدوات المعتادة للأكل، وأكلنا بأيدينا حتى.
قلت لخالد، بأن المرة القادمة سنذهب لتناول السوفليه في مقهى قريب. وصفت السوفليه بأنه حلوى لذيذة، لها شكل بطن خالد، خصوصاً أنه كان يرتدي ثوباً بنياً في تلك الليلة.
حينما خرجنا من المطعم، قال خالد بأنه يريد أن يمشي في ممشى الملك عبدالله. ذهبنا ومشينا، وتكلمنا كثيراً. بائع عطور هناك، حينما علم أن خالد يريد شراء البخور لتعطير مسجده، رفض أخذ المال، وثاوب به لأمه رحمها الله. أما أنا، فلم يعجبني عطر الفانيلا لديه أبداً، ولا أدري كيف بعض المحلات تسمي الرائحة التي لديها بالفانيلا، هل يعرفون الفانيلا حقاً؟.
ثم دخلنا بيته الجميل، وأراني إصلاحاته، وهو بيت المسجد. بيت فريد، لا فناء يحيط به، إنما فناء خلفي مستطيل فقط. وقد أعجبني هذا كثيراً. كانت إصلاحات خالد رائعة، وذوقه جميل بالاختيارات، مع زوجته بالطبع.
وجدت اتصالات من همام الصيني، وعرفت منه لاحقاً، وهو يكاد أن يكون منقطع الأنفاس من فرط الجدية، أنه يحتاج لرؤيتي الليلة لأساعده بتحرير ترجمته لنص صيني ضروري لجهة رسمية. وجدت ترجمته ممتازة، رائعة جداً ما شاء الله. لكنه فعلها في يوم واحد والنص طويل، وكان يحتاج إلى اختصار الوقت في التحرير. حررناها في ساعتين في مقهى جافا تايم، بعد صلاة العشاء. ثم مكثنا نتكلم عن شتى الأمور.
هاقد عاد جهازي العزيز من الدمام، كم اشتقت إليه. قرأت نتيجة دراسة أجنبية في الجريدة حينما كنت صغيراً، تقول بأن الرجال أشد تعلقاً بممتلكاتهم من أدوات وآلات من النساء اللائي لا يتعلقن بها عاطفياً مثل الرجال. يعني أن الرجل مثلاً قد يتعلق عاطفياً بسيارته أو ساعته، في حين أن المرأة تنظر إلى هذه الأشياء بطريقة عملية، وسائل يمكن استبدالها، قيمتها مادية لا معنوية. لكن من يدري، لعل الدراسة مخطئة.
الجو اليوم استثنائي بمعنى الكلمة. في الصباح كان ممطراً ومنعشاً. وقد لبست الجكيت لأول مرة للعمل هذا الشتاء. فرحت بالواقع، فأنا كنت أود أن ألبسه في العمل، لا في المساء فقط. من المؤسف أني لا أستطيع جلب التشادر إلى العمل، حيث لن يبدو جيداً مع الغترة. الجكيت الذي ألبس كثيراً ما كان محل اعتراض امي، حيث تعتقد بأنه لا يجلب الدفء، لأنه يخلو من الفرو أو البطانة الثقيلة في الداخل. لكني أشعر بأنه دافئ بما يكفي. اشتريته قبل سنوات من برناردي قبل أن يغلق، بسعر أقرب للبخس في وقت تخفيضات. أتلقى حوله عموماً تعليقات إيجابية حتى الآن رغم مرور سنوات وهو لدي، خصوصاً للونه المميز، الذي لا أدري ما اسمه. كيف يمكن للنساء تسمية كل الألوان؟!.
عموماً، لدي شغف بالحفاظ على الملابس لفترة طويلة. لست من النوع الذي يميل لشراء الملابس كثيراً، سوا حينما أجد شيء مختلف واستثنائي حقاً. وكلما ازداد تقادم القطعة التي أحب، كلما ازدادت قيمتها لدي. ليس الأمر بخلاً، لكني أحب الوفاء لما أحب من الأشياء غير الالكترونية. فالملابس وما شاكلها من هندام وخلافه أرى بأنها تعكس شخصيتي، لهذا أحرص وقت الاختيار ولا أشتري كثيراً، أرى بأن هذه الأشياء تصطبغ بالشخصية مع الوقت، وتصبح شبه قطعة من المرء. أعترف عموماً أن الأمر حينما يداخل الثياب البيضاء والغتر، لا أهتم بأمرها كثيراً. لأني لا أرى فيها تميزاً كبيراً فيما بينها، وأشعر بأنها استهلاكية، حتى جودتها مهما دفعت تظل متدنية ولا تعيش طويلاً. وهنا يطل التكاسل برأسه، بالإضافة إلى عدم الرغبة بالتبذير، فلا أفصل أو أشتري الثياب إلا على فترات أبعد من اللازم. لكن قد يحسب البعض أن هذا هو السبب الذي لا يجعلني أمانع خياطة الشقوق غير الكبيرة متى ما كان هذا ممكناً، حيث تخيطها لي أمي، لكن هذا غير صحيح. أنا أهتم بخياطة الثياب وإصلاحها بعداً عن التبذير، حتى لو اشتريت ثياباً جديدة، لا أحب التخلص من ثوب لأنه انقطع على نحو يسير، أو لأن البعض قد يضحك حينما يرى الخياطة، فمن يضحك على أمر كهذا يسعدني أنه يضحك علي وليس لي، لأن مقاييسه مقلوبة وشخصيته غير عميقة، فحكمه حينما يأتي معاكساً فهذا مما أعده بشارة. لا أحب الكِبر، يمكن للمرء أن يظهر أنيقاً وحسناً حتى لو كانت ثيابه مخيوطة الشقوق الصغيرة على نحو معقول، طالما أنها ليست رثه أو مهترئة تماماً، وطالما أنها نظيفة. فوجئت بسيد، صديقي الهندي، يُشده حينما رأى بأن ثوبي مشقوق ومخيط من عند باطن الكوع. ذكر الله، وتأمل الثوب ممسكاً بيدي، وقد استغربت كثيراً. لكنه قال بأني أول سعودي يراه يخيط ثيابه، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان هكذا. لست أدري عن صدق الادعاء هذا، لكني حزنت على كون خياطة الثياب المشقوقة ليست بالأمر الدارج.
كما أني أهتم بإصلاح ما أحب من الملابس وما أجده أثيراً بنفس القدر. لدي صديرية فرو، أصلحتها ذات مرة بدبوس حتى لا يقع الكتف، وظلت جميلة ومميزة، أسئل عنها في بعض الأماكن.
رأيت الدكتور الألماني اليوم، كانت لدينا مهمة؛ شراء فساتين لحفيداته الصغيرات. فساتين ملكة سبأ. لم أفهم بالبداية ما حكاية ملكة سبأ، حينما أخبرني في منتصف الأسبوع عبر البريد. شرح بأنها فقط فساتين جميلة. أخبرني القصة اليوم؛ الطفلتين الصغيرتين رأين خالتهن تمثل في مسرحية دور ملكة سبأ، فأعجبن بفستانها. أعمارهن ٦ و٧ سنوات. دخلنا محل، ولم ينتبه كثيراً لما اقترحته بثقة منذ البداية؛ كان فستان غريب وبسيط بنفس الوقت، له رقبة زرقاء مطاطية عريضة وطويلة تغطي الرقبة (الأزرق شرط مهم) بينما الفستان أبيض ومنسدل بثنيات واسعة، بلا أكمام أو حتى كتوف. لم تبدو لي الفساتين التي لفتت انتباهه وشرع بقياسها بالمتر جميلة أبداً، لهذا كان علي أن أخبره بسبب اختياري حتى يكون على بينة. قلت بأن الفساتين التي اختار عادية ومعاصرة، بينما الفساتين التي اخترتها أنا للفتيات غريبة وغير تقليدية لهذا الزمن، وكأنما صممت في حضارة قديمة مختلفة وتوحي بالفخامة البسيطة والقدم، فسيبدين كملكات قديمات بها. دقق النظر بالفساتين، وفرح جداً، استوعب الفكرة. مع ذلك، أقنعته بالانتظار، لنرى المحلات الأخرى، لم يبدو أنه صار يريد غير هذه الفساتين لحفيداته، فتوصلنا إلى الاتفاق على إبقائها محجوزة لدى البائع ريثما نعود. خرجنا وهو يتكلم بأنه سعيد لأنه لقي الفستان المناسب، رغم أنه لم يدرك هذا في البداية، إلا أن رؤيتي للأمر أعجبته. تكلم عن حمله لهمّ الفساتين، الذي سقط الآن، واعتبرني منقذ. عرفت أن دوراننا على المحلات الأخرى لن يكون له طائل، طالما هو معجب بتلك الفساتين الصغيرة إلى هذه الدرجة. لكنه على الأقل وجد أكاليل من زهور صناعية، واصر على شراءها، واشترى كذلك طرحات سوداء مزينة لهن.
عدنا للمحل، فاصلت الرجل، وبالكاد أنزل بعض السعر. في المحلات الأخرى، كان لا يعجبه ما يصفه بالتصاميم الأمريكية الطابع.
صاحب محل حسب أنه أمريكي، ودلنا على محل يحتوي موديلات أمريكية، وكان هذا آخر ما يبحث عنه الدكتور.
عرفت أنه معارض كبير للألعاب الالكترونية، وتناقشنا حول الأمر. قلت بعدما لم أتمكن من إقناعه: أعرف ما العلة، لأنك لا تستمتع بها ولا تعرف استخدامها تحاربها مثل الكثير من الناس. صمت مبتسماً، ثم قال بأن هذا صحيح. صحت: أرأيت؟!. لكنه قال سأسمح لك إذا باللعب. عرفت أنه يمزح، فضحكت.
سألته إن كان سيذهب إلى أمريكا؟ حيث أن ابنه باحث هناك على مستوى عال. فوجئت بأنه يخطط للذهاب بعد فترة. سألني لماذا أسأل؟ قلت لأجعله يشتري لأجلي أشياء من هناك. سألني ماذا أريد؟ وأضاف باسماً: ألعاب فيديو؟ قلت: لا، أريد دمية مضحكة تباع هناك، لها شفتين وأسنان، أريد أن ألاعب بها أبناء إخواني (أريد أن ألعب بها وحدي أكثر لقول الحقيقة، فهي شكلت صرعة في الفترة الفائتة حتى على مستوى الكبار هناك، لأنها كوميدية ومضحكة).
لكن لاحقاً، تم الإعلان عن جهاز ألعاب محمول جديد، وأشعر بأني تورطت لأني أريده. لو كان شيء آخر لطلبته أيضاً لاحقاً، لكن هذا جهاز ألعاب، وربما لن يعجبه أن يحضره معه. بالطبع، سأعطيه ثمن كل شيء، لكن هل سيتضايق لو طلبت شيء لا يشعر بالارتياح تجاهه؟.
تأخر الوقت، ولم يعد بأمكاننا الجلوس وشرب القهوة والتحدث لأن الصلاة حلّت، لكن لا بأس، في الأسبوع القادم إن شاء الله. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء في المرة القادمة، فيما يشبه التعويض.
ما أسرع مرور نهاية الأسبوع هذه، رغم امتلائها بالأحداث. ليس بالأمر المعتاد بالنسبة لي.
وصلتني رسالة من باكستاني طيب يعمل في الجامعة. هي للسلام، وهي مشوبة بالمرارة كذلك. يقول بأنه حينما يأتي إلى الإدارة لأجل عمل فإنه يواجه بوقاحة الموظفين. بعض الموظفين فعلاً قساة، ولكن عن ضعف بالوعي، وهي مشكلة خطيرة واسعة النطاق في المجتمع. كذلك أعلم بأنه يعاني من جهة أخرى من الدكاترة السعوديين. قال لي متعاقد قبل فترة أنهم يبحثون طوال الوقت ويقدمون الأوراق التي يجب أن تشتمل على اسم دكتور سعودي، الذي لا يقوم بشيء، حتى يترقى إلى مرتبة علمية أعلى.
قال الباكستاني بأني الاستثناء الوحيد في العالم العربي كله. فعرفت بأن زملائه من العرب أيضاً يشكلون معضلة. سمعت الكثير من الشكاوي عن الأساتذة المصريون وخلافهم وسوء معاملتهم للهنود وبقية الآسيويون. وهذا أمر يسيء إلينا كثيراً. بخلاف المال، هل يجد هؤلاء القوم إيجابية لدينا؟.
رددت عليه أشكره، وأخبره بأني أخشى بأني مخادع أو أعرض أصدقائي لسوء الفهم حينما يفاجئونني بمثل هذا المديح. وناقشت رؤيته للعرب، وطلبت منه أن يتحلى بحسن الظن، لمعرفتي بقلبه الكبير.
كان من المتحمسين للعرب حينما جاء في بادئ الأمر. أتذكر هذا جيداً.
أتساءل مؤخراً عن دور المدارس في التربية أكثر فأكثر. كل ما ينتقده الناس هو المواد العلمية السيئة، والإختصار المخزي للعلوم الدينية واللغة العربية، والمدرسون السيئون. لكن بدون النظر إلى عناصر المدرسة هذه، هل نحتاج إلى إضافة عناصر جديدة ونصممها دون ماض أسود لسوء التدبير؟. حينما أرى الشباب الصغار هذه الأيام، وحتى الكبار، فإني أتمنى لو صحت بأقصى صوتي طالباً أن يعلمون بعض الأساسيات الحياتيه.
لن أتكلم عن المناهج القائمة، فهذا نقاش يجلب لي الغثيان، ويشعرني بالملل، وأنه دون الأولويات بالنظر إلى ما سأتحدث عنه.
ما سأتحدث عنه؟ سأتحدث عن ماذا كنت سأضيف وسأعلم هؤلاء الطلاب لو كان لي من الأمر شيء.
أول مادة ستكون النظافة الشخصية. لماذا نأخذ في اعتبارنا دائما أن مجرد كوننا مسلمين هو شهادة صحية لنا، بأننا أنظف أناس بالعالم؟. لدينا الأساسات بالدين، لكن من المضحك أننا نظل مع ذلك غير نظيفين تماماً، والمبكي في الأمر أننا لا نشكك بحقيقة نظافتنا مهما كان ما فعلناه أو لم نفعله. أتذكر ذات مرة أني تكلمت مع مدير مطعم عن موظفه الذي خرج من الحمام دون غسل يده، وكانا كليهما مصريين(هارديز على ما أتذكر)، فقال المدير من ضمن حججه بأن الرجل مسلم!!!. يا إلهي، هل قذارة المسلم طاهرة إذاً؟!. بالواقع، حتى مع توفير الجامعة مؤخراً بعد انفلونزا الخنازير للصابون في "بعض" حماماتها وكأنما للاختبار، لا أتذكر بأني رأيت شخص يغسل يديه بالصابون بعد الخروج من الحمام سوا مرة أو اثنتين، مهما كانت جنسيته، لكن أغلب المستخدمين للمرافق هم السعوديين، بحكم المكان طبعاً. لماذا؟ الأمر غير مهم إذ لم يتعودوا، لا يعرفون ضرورته. حتى معقمات الأيدي التي لا تحتاج إلى الماء، التي وزعت على المكاتب، حالما خف زخم الحمى صارت فتحاتها تنسد لانعدام الاستخدام.
كما أن الناس أنفسهم تكون روائحهم أحياناً جالبه للمرض. يمكنني قول أن بعض الأجانب روائح أفواههم سيئة نتيجة لنوعية طعامهم، وعدم مراعاتهم لعدم تعودنا، وربما حتى روائح أجسادهم بالنسبة للبعض، وهذا راجع على الأغلب لخلفياتهم الحياتية في بلدانهم. لكن نحن، من نتأذى، هل نحن أفضل منهم أم أن ثيابنا فقط هي النظيفة؟. تفوح أحياناً روائح العرق، حتى لتتسائل هل يستحم من أمامك أبداً؟ هل يضع على جسمه ما يسيطر على الروائح الطبيعية حال الإجهاد؟ هل يعرف العطر بخلاف وضعه عند الدعوات والولائم؟. هل يعرف كم أسنانه قذره ومثيرة للاشمئزاز؟. هل يهمه أصلاً؟ ترى كتل الطعام متراكمة منذ، يعلم الله، أيام الأسنان اللبنية التي سقطت عن الأوساخ لتلبسها الأسنان الدائمة.
أما استخدام الأدوات العامة، فهذه طامة. وهي تزداد سوء مع الوقت، بمعنى أن الأجيال تتردى. إن الدخول إلى حمام عام هو بمثابة سبب من أسباب الحنق والحقد على المجتمع. ليس الأمر فقط من غلط الجهات الرسمية، التي لا توفر أحداً لتنظيف الحمامات، لا، بل حتى حينما يوفر هؤلاء العاملين لا يتحسن الوضع كثيراً. إذ قد تدخل حماماً تعلم يقيناً بأنه حديث عهد بالغسل والتعقيم، سوا أن من قبلك لم ينظفه بعد استخدامه له قبل أن يخرج. لا أريد أن أقرف من يقرأ، لكن الأمر خطير من جهات كثيرة؛ صحية، وأدبية، واجتماعية، وحتى دينية، فلو كنت كافراً لا قدر الله لا أدري هل كنت سأسلم بعد دخول حمام بعد شخص مسلم هنا؟! هؤلاء الذين يتغنون بالوضوء خمس مرات باليوم، والاستحمام عن الجنابة، والتطهر عن النجاسة، هؤلاء لا يعرفون تنظيف الحمام قبل الخروج منه. بل إنهم يتصرفون كالأطفال أو أسوأ، إنك تجد نجاستهم قد ارتشقت على أرضية الحمام وجدرانه وهم "يطهرون" أنفسهم.
لا أدري ما مرد الأمر، ولماذا ساء أكثر في حين أن الوضع الطبيعي هو ازدياد الوعي. هل لأن تربية الأبناء تركت للخادمات الجاهلات؟.
أما المادة الثانية، فستكون أداب التعامل مع الناس وأصول التهذيب، ومتى تتحدث أيها المرء ومتى تصمت، وما يقال وما لا يقال، وما يتوقع منك وما لا يتوقع. للأسف، لم يعد ممكناً الاعتماد على الآباء والأمهات في هذا الزمان الكسيف أخلاقياً، فهؤلاء الأباء والأمهات هم بأنفسهم يجهلون هذه الأمور. كل هذا بعدما أصبحت التربية منذ زمن بعيد عبارة عن مجرد شراء الخبز والجبن، وزاد عليها الآن شراء البلاكبيري.
أما المادة الثالثة؛ فستكون لتعليم الهوية وتقدير الذات على النحو الصحيح لهؤلاء الصغار الذين يزدادون حماقة على نحو يحطم القلب؛ بشعورهم المنفوشة، وألسنتهم العيية، و جهلهم بمعنى وجودهم أو إمكانية إضافتهم لشيء. ولتعريفهم بالآخرين كذلك، وكيف يجب أن ينظرون إليهم كأناس مختلفون، ولكن أناس يستحقون الاحترام.
ولن يقتصر الأمر على هذا، يجب أن يفهموا أموراً أكثر تعقيداً، هويتهم كمسلمين كيف يتعاملون معها، ويظهرونها بفخر وتحضر. كما أني أود كثيراً لو يتعلم الصغار عن هوياتهم الجنسية كذلك، كيف يجب أن يشعروا تجاه أنفسهم والآخرين، كيف تتم الأمور بشكل منطقي، وحاجة الجنس للآخر بأي شكل يجب أن تكون لتصبح سليمة. بالتأكيد، سيهمني أن تتم الأمور على نحو يخلو من الإسفاف والمخاطرة، باستمداد الأخلاقية من التقيد بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية وتجارب السلف الصالح، مع جعل الأمور ذات طابع حديث.
يا لسخافاتي، طموح مضحك، وحتى لو كان لي من الأمر شيئاً، لن يرغب الناس بمثل هذه الإضافات.
بلغتني رسالة اليوم من جهة تقدمت إليها للإنضمام إلى نشاط تعليمي فيها، هناك مقابلات، وقد وصلت إلى هذه المرحلة والحمد لله، ما لم يكن هنالك خطأ في الأمر.
لو انضممت، سيكون هذا أمر طيب. لقد حاولت الانضمام قبل سنتين تقريباً، في بداية نشاط الجهة في مجال اهتمامها. وقد قابلني رئيسها، وقد كان متحمس لي ولورقتي التي تقدمت بها، بسبب سوء فهم!!. لقد أساء فهم مشروعي. وفي حين أني كان لدي مشروع احتياطي، إلا أن تأثير خيبة الظن قضى على أي فرصة. لكني على الأقل، خرجت دون أن أفقد الأمل في نفسي؛ وكان السبب أن الدكتور الذي قابلني، رغم خيبة ظنه، إلا أنه أطال التحدث معي، وبدا آسفاً على كوني لن ألتحق، لأنه رأى كما يقول الإمكانيات لدي.
الآن، ما سأتحدث عنه هو مشروعي البديل، الذي صار الأهم. وعسى الله أن يكتب الخير والصالح.
أكتب بعد يوم،
لقد كانت المقابلة كارثة.
مع ذلك، وصلتني بعد أيام رسالة بقبولي "إحتياطياً". هذا عزاء، بالنظر لأدائي السيء. لا أعتقد بأن هناك من أدى أسوأ، لكن ربما أخذ بالاعتبار كوني موظف في الجامعة، وربما أشفقوا علي.
اليوم، رجع بعض الزملاء الذين غادرونا بأوقات متفاوته خلال الشهر الفائت، لأجل الاستعداد للاختبارات وأدائها، فهم يدرسون الآن انتساباً. بقي واحد فقط لم يعد. أما من عادوا، فوجئت بأني بشكل ما اشتقت إليهم، ليس كلهم بالطبع، ولا يعني هذا أني أكره أحدهم، لكني اشتقت على وجه الخصوص إلى اثنين. بالواقع، كنت أعلم بأني أنتظر عودتهم، ولكني لم أعلم بأني سأفرح وأشعر بالراحة للأمر. وهذه مشاعر ساذجة، لا تليق. لكن، لا تضر ما دمت واعياً لها.
وقعت ضحية سوء تصرفي، واضطررت لشراء شيء بسعر مرتفع. كان الأمر أني وجدت قلم للكتابة على شاشات اللمس، التي لا تعمل إلا بالاصابع بالعادة، وهو أنيق وبألوان مختلفة. أردت الأخضر. لكن البائع على موقع سوق يطلب سعر مرتفع، فوق سعر التوصيل من الموقع الذي سيأخذ عشرة ريالات أكثر، رغم أن البائع في الرياض، فيصبح المجموع لأجل قلم أعرف بأنه لن يكلف أكثر من خمسة في سعر الجملة ٣٢ من الموقع. أخبرته بأني أود أن أقابله وأشتريه منه، فقال بأن الموقع سيوصله لي وأنا مرتاح. كان رفض مؤدب. فقلت لا، أنت من سيرتاح فأنت لن تدفع العشرة! وخضنا جدل عقيم، حول عدم عدالة الأمر، وتسببت بإحراج البائع، ولم أنتبه إلا بعد وقوع الفأس بالرأس. والمشكلة أنه لا يمكن حذف الحوار الظاهر على صفحة السلعة. اعتذرت، وقلت بأنه ما كان علي أن أطيل الجدل، وشكرته على سعة صدره، و طلبت اللون الأخضر!. أردت تصحيح غلطتي، رغم أني لا زلت غير مقتنع بعدالة الأمر، لكن لم يرغمني أحد حتى أحرج الناس، لو كان الأمر على البريد خفية لكان أفضل، لكنه أمام الناس وقد يسيء لحظ التاجر. سارع البائع مشكوراً بإرسال القلم. ولما استلمته بدا صغيراً، ولكن جميل، و، لم يعمل على هاتفي!!. رغم أنه يفترض أن يعمل على الشاشات التي تتعامل مع الأصابع (كباستف). خاب ظني، فذهبت وبحثت عن أحد لديه جوال بنفس تقنية اللمس، إذ وصلني في مقر العمل. جربته على آيفون٤، وعمل بأفضل حال. هل العلة من تغييري للملصق الواقي للشاشة؟ لكنه يعمل بأصابعي بشكل ممتاز. أعتقد أن الله يؤدبني فقط.
لم أذهب اليوم إلى العمل كما خططت، كان لدى أمي موعد في المستشفى، وكنت لم أنم تقريباً أبداً في الليلة الفائتة، رغم نعاسي الشديد. وهذه مشكلة، حيث أني لا خلاف لدي حول الذهاب إلى العمل دون نوم حينما لا أكون ناعساً جداً، لكن أن اكون ناعساً ولا أقوى على النوم طوال الليل فهذه مشكلة. خصوصاً أني ملتزم بتدريس ابن اخي مادة الانقليزي قبل امتحانه. قررت إخبار مديري الأصغر بأني لن أحضر وسأحتسب الأمر كإجازة اضطرارية. خصوصاً أني لو ذهبت وعدت من العمل لا أدري إن كنت سأستيقظ لإكمال تدريس ابن أخي، وهذه أولوية. تدريس أبناء إخواني يقصر عمري على فكرة في كل مرة، وإن تباعدت الفترات. لأني أشعر بالأسف كثيراً على إهمالهم طوال السنة ثم توقع أن الأمور ستسير على ما يرام حينما أعلمهم قبل الاختبار بيوم أو اثنين. لماذا لا يطلبون المساعدة مني خلال أوقات الدراسة على امتداد السنة؟. لا، هذا سيطيل بعمري، لعلهم لا يريدون هذا. كدت أن أموت اليوم حينما أخبرني بأنه لم يراجع ويحفظ ما حددته له البارحة، رغم وجود اليوم بطوله وتأخره في الحضور في اليوم التالي، بأعذار واهية، في حين أن الوقت أضيق من أن أضيعه بالتوبيخ.
عموماً، في المستشفى اضطررت للشراء من د.كيف اللص حتى تخرج أمي من العيادة، حيث لا يسمح لي بالدخول معها على خلاف العادة. أردت شوكولاته ساخنة، لكن ليس لديهم منها، وهذا غريب. طلبت كأس شاي صغير جداً بـ٥ ريالات، وأنا من يشتكي من بيع المكينة للشاي العدني بـريالين. المشكلة هي أني لا أريد لا شاي ولا قهوة، حتى الشاي العدني أجبر عليه في بعض الأيام حينما أكون ناعساً جداً، لكن كان يجب أن أشرب شيء دافئ ومنشط حتى العودة إلى المنزل. أضفت إلى الشاي سكر بني، وهو لم يحليه بأي شكل، فكرت بأن السكر البني ربما مزحة أو قطع زجاج أو شيء. أضفت بودرة القرفة، والسكر الأبيض، فأصبح الشاي جيداً حقاً.
كتبت هناك قصيدة، حيث أن الجو بشكله وطبيعته هذه الأيام يكثف مشاعري كما يكثف ألوان الأشياء، حيث أرى الأشجار حول المنزل أغمق خضرة، والبيوت أجمل وأكثر جذباً للانتباه، ولون كل شيء مضاعف، وكأنما كان كل شيء ميتاً ثم عاد إلى الحياة.
تلك الظروف...
التي تتلف القلب...
تلك الحياة...
التي تعتاش على الكلل...
تلك الظلمة الفاحمة...
حيث أسير...
تحت ظلمة كفيّ خائبي الأمل...
ظلمة المعاناة...
تلك الظلمة المتمددة أبداً...
حيث خيال النور يتبادى في البعيد...
في تلك اللحيظات...
حينما أرفع عن وجهي كفوف الهزيمة...
فأرى نهاراً بعيداً...
كساحل ينحسر أبداً...
أو كمؤمن محرم...
راح يسعى خلف مروىً...
لن يبلغها يوماً...
تاركني لوحدي...
في ظلمة موحشة...
حيث تعمى البصيرة...
ويقتل الأمل...
بلا جريرة...
القصيدة بائسة، ولعلها تتناقض للرائي مع شعوري بالحياة الذي شرحته قبلها. لكن بالواقع؛ هذا سوء فهم، لأن الحياة في الحقيقة كلما ازدادت تجلياً، ازدادت بؤساً.
جاء قبل قليل عمرو، الصديق المصري الطيب في برقركنق. رأى جهازي الجديد من قوقل، وعلق على جماله. عمرو يسأل دائماً عن الأجهزة، وكان معجباً بالنتبوك من لينوفو الذي آل لشخص آخر الآن. أعجبه شكل هذا أكثر، وسأل عن سعره. أعجبه أنه مجاني.
شكل الجهاز جميل عموماً، كل المراجعات التي قرأتها امتدحت تصميمه، لأنه بسيط ويخلو من البهرجة، ويشبه أجهزة أبل. لا يجتذب سطحة أو سطح شاشته البصمات، لأن كليهما ليسا بخامة لامعة ملساء، إنما بخامة مضببه. هذا يجعل شكله أقل لمعاناً، وأكثر تميزاً، ولكن بالنسبة للشاشة، هذا أمر فارق وحاسم. فالشاشة الملساء اللامعة هي الأفضل والأجود لمتابعة الأفلام والألعاب، بينما الشاشة المضببة هي الأفضل للكتابة والقراءة. وكأنما الأمرين نقيضين، وهذا أمر مضحك وساخر. لكني سعيد بأن شاشته من هذا النوع الجيد للكتابة والقراءة، فهذا ما أقوم به أنا بشكل أساسي.
الجهاز مفتوح على صفحة البرامج والروابط المفضلة والمغلقة مؤخراً
في حين يلفت انتباه الناس أول ما يلفته أن الجهاز مجاني، كما يقول أحدهم: البلاش ربحه بين، أنسى دائماً أنه مجاني لسبب ما، ربما لأني لا أفكر كثيراً بقيمة الأشياء بعد أن أشتريها، فهي تصبح غالية بالتساوي لدي. وبقول: البلاش ربحه بين، يظهر أن الكثير من الناس لا تهمهم مواصفات الشيء طالما أنه مجاني.
للجهاز ميزات كثيرة، وهي ستزداد مع الوقت إن شاء الله، فالنظام حالياً غير مكتمل تماماً، ويخضع للتحسين باستمرار. الجميل هو أن التحديثات تلقائية. ويوجد كذلك سوق البرامج. وهو حالياً غير متطور تماماً لأسباب كثيرة، لعلها تختلف مع الوقت إن شاء الله. لكن يوجد ما يفي بالغرض عموماً.
الشيء الذي أنتظره بفارغ الصبر هو تفعيل العمل على مستندات قوقل، وربما حتى بلوقر، بدون الاتصال على الانترنت. كان الأمر قابل للتطبيق قبل فترة، ولكن قوقل أوقفته لتطور التقنية وتحسنها، بالاعتماد على لغة برمجية متطورة.
الخط العربي على الجهاز لا يزال غير قابل للتغيير
لكن من الجيد أن اللغة العربية تتوفر منذ البداية والنظام تجريبي
الجهاز جيد ورائع لمن يقضي وقته على الانترنت في معظم استخداماته، أي كأغلب المستخدمين العاديين، وهو جيد على وجه الخصوص لمن لديهم رؤية تقدمية وعملية في استخدام التقنية، فأنت ستحصل على ميزات، ولكن يجب أن تتأقلم مع بعض التغيرات. فأنت لن تستخدم مثلاً مايكروسوفت أوفيس بالشكل المعتاد، وستلجأ على الأغلب إلى مستندات قوقل، وهي من البدائل المجانية للأوفس بمميزات مشابهة وأخرى متقدمة. ولن تلعب الألعاب إن كنت من اللاعبين الجادين على الكمبيوتر سوا إن كانت من ألعاب الشبكة مثل ترافيان وخلافها. وستحصل على ألعاب مطورة خصيصاً للكروم، متصفح ونظام تشغيل، لكنها بسيطة حالياً. ولن تتمكن من وضع الاسطوانات، فلا يوجد لها مكان، لأن قوقل تريد أن تدفع بالمستخدم نحو المستقبل، بحيث يعتمد على الشبكة في تخزين ملفاته واستعادتها. وهذا أمر أروع مما تتخيليون. لا احمل ذاكرة فلاش معي لأعمل على كتاباتي، فأنا أدخل عليها وأكملها من أي جهاز حاسب.هذا المودم الكونيكت(باللون الأسود) موصولاً بالراوتر الذي يجعل الانترنت لا سلكي
وقابل للاستخدام من أكثر من جهاز
النقطة الأخرى هي أنكم ستضطرون إلى إعادة صياغة أوقاتكم عند تشغيل الحاسب، لكن على نحو إيجابي. فلن تنتظر وقتاً طويلاً يجب أن تملأه بالتأفف أو تقليب الأوراق حتى يعمل الجهاز، فهو يعمل تقريباً مباشرة عند التشغيل، وعند إيقاظه من وضع الإنتظار يعمل فعلياً مباشرة، فلا وقت لتضييعه وهذا أمر مبهج. تخيل أنك تريد أن ترى البريد في ساعة متأخرة قبل أن تنام، أو تريد أن تقرأ شيئاً أو تتأكد من شيء، لن تحمل هم تشغيل الجهاز بعد الآن.
صورة مقربة لصفحة البرامج والروابط، يمكن تغيير شكل الطابع العام للجهاز
بأشكال كثيرة من متجر كروم
أصفه كجهاز العارفين ماذا يريدون تماماً، العمليون الذين لا يريدون خلاف ما يقدم، ولا يريدون الدفع لخلاف هذا أيضاً. فمعلمة مثلاً، لماذا تشتري جهازاً غالياً، يفسده أبناؤها باللعب ووضع الاسطوانات المعارة عليه، وتفسده فيروسات ملفات بناتها (الطلبات) معظم الوقت، حينما يحضرن النشاط على ذاكرة فلاش من بيوتهن. ولا تعرف كيف تحميه من الفيروسات ولا كيف تحدث مضادات الفيروسات، ولا ماذا يقول لها مضاد الفيروسات أصلاً. لماذا كل هذا، وهي تريد فقط أن تكتب الأسئلة، وتستخدم الباوربوينت، وتجمع المعلومات من الشبكة؟.
أماكن الحروف لا تختلف عن لوحة المفاتيح العادية، بيد أنه لا يوجد حروف عربية مطبوعة، وهذه ليست مشكلة لمن يطبع دون نظر، ويمكن حلها مع ذلك بملصقات للحروف تباع بالسوق، أزرار فنكشن في الأعلى غير موجودة، يوجد بدلاً عنها بعض الأزرار التي تساعد في التعامل مع المتصفح كالتقديم والرجوع والجهاز كالتحكم بالصوت واللإضائة. وتم استبدال زر الكابس، الذي يجعل الحروف أكبر، بزر للبحث، ولكن هذا خيار يمكن تعديله.
كذلك، هو لذوي الشجاعة على الاختلاف وفهم الأشياء المختلفة عن المعتاد، الذين لا يشعرهم مجرد الحصول على ما يحصل عليه الآخرين بالأمان، فأي أمان والأجهزة المعتادة دائماً معرضة للفيروسات، بينما هذا لا؟ فهذا النظام حتى إن أصابه العطل، فإن قوقل أعدته على ترميم نفسه عند الحاجة عن طريق الشبكة، فحتى هذا لا يجب أن تحمل همه. إن كل ما عليك القيام به هو استخدام الجهاز فقط، متابعة شئون حياتك عليه، لا رعايته والخوف من تحمل مسئولية أي خطوة لا تعرفها على حساب عمل الجهاز.
شكل الجهاز جميل بخامته المطفية وتصميمه البسيط بلا شعار
إني سعيد جداً بالجهاز، والحمد لله أني حصلت عليه، فلست أتخيل انتظار إصداره للبيع.
قوقل تحب من يحبها بوضوح. هل يا ترى ستحبني رينو في يوم من الأيام؟ آآآآه لاقونا...
اتصلت بالدكتور الألماني اليوم، كان مرهقاً، لتوه خرج من منتدى التنافسية الدولي المعقود في الرياض. لم أكن أعلم بأنه سيذهب، رغم أنه كان يجدر بي توقع ذلك. ما دفعني للاتصال هو أنه لم يجب رسالتي هذا الصباح، حيث أرسل عادةً في منتصف الأسبوع لأنسق لموعدنا في نهاية الأسبوع إن كان بإمكانه رؤيتي. لحسن الحظ، لن يسافر نهاية هذا الأسبوع. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء، كالمرة ما قبل الفائتة. لم ينسى أنه أراد هذا، من الواضح أنه يريد أن يعوضني عن المرة الأخيرة حينما لم نتمكن من الجلوس للتحدث، إذ قال في ذلك الحين أنه يريد أن يدعوني للغداء. وقال بأنه يريد أن يسمع نصوصي كذلك، حيث كانت الخطة هي أن أقرأها له بأنانية في المرة الفائتة. للأسف، لم يعطوه جهاز آيباد، ومن الواضح أنه لم يسعى للأمر. حزنت حد التلوي، مما أضحكه.
غداً سيكون يوم متعب لأمي في المستشفى، عسى الله أن يعينها ويهون تعبها.
تذكري رأسي الصغير في حضنك ذياك المساء...
حيثما كان البرد والندى لنا غطاء...
حينما هدهدتي ضعفي دون نوم بينما الوقت سرى...
بين ذلك اليوم والآن عمر انقضى...
وكأنما الزمان تعدانا إذ جرى...
إذ ظللنا نفتش في جال المطاريق عن أمل انتهى...
وما انتبهنا إلا والحياة كخرز إذ همى...
تفرق شمله لا يتلامس كالنجم في السما...
والقلب ما عاد بطاقته الحزن والبكا...
ما عاد بالقلب حيز إلا لخيال قد غفى...
إيه يا أمي إذ القدر انقضى...
كتب علينا الله الرحيم البؤس والشقا...
لتغفي الآن على كتفي...
عسى أن لا يوقضك نبض صخيب في قلبي...
أنا أحميك...
فاحلمي...
دعي الذكريات تسري وللهم لا تحملي...
تذكري...
طفلة يتيمة...
كانت محاطة بقلوب رحيمة...
وجنة برّية...
وسلة صغيرة تملأها بالكمأ...
وتستطعم الفطر على جال صافي السواقي...
كان زمان بكل شيء امتلأ...
صحراء وكلا..
حنان وجفا...
ولكنه لم يطل...
حتى لم يعد سوا نصفه...
كراهية وشقا...
قهر وبكا...
ثم بعد حين...
أنا...
ولم أكن كثيراً...
لكن ها أنا...
اطمئني...
فأنا هنا...
لعل حبي يا أمي يغسل الشقا...
وإن كان قلبي أيضاً مثقل بالعنا...
لكن حبي صافٍ...
كبئر خبرتيها...
كان الناس يقصدونها للارتوا...
لم أكفك...
ولن أكفيك...
لن أنسيك...
ليتني ولكن حتى لن أعزيك...
لكن ها أنا...
سأظل هنا...
سأظل هنا...
أتنبأ بأني سأقع على وجهي قريباً. حذائي تالف، وويلتوي للأسفل أحياناً فأدوسه متعثراً. المشكلة أني لم أجد الحذاء المناسب رغم أني بحثت جيداً. ربما سأذهب مع أختي إلى سوق كبير وأرى. أفكر في ماركة تودز، لكني أعتقد أنها ستكون مرتفعة السعر جداً.
لسبب ما يتمكن مدير الجامعة من سحر الكثير من طيبي القلوب. كان أمس موعد لقاءه مع الموظفين والدكاترة، وقد أتى ببعض الأفكار الصادمة كما سمعت، لكني لا زلت لا أثق به. وكأن هذا سيصنع فرقاً.
يرصف الآن طريق الملك عبدالله قرب جامعة الملك سعود. تابعت الأمر من أمام برقر كنق، حيث أحصل على جرعتي اليومية من الكولا العالي الجودة.
الرصف أنيق وجميل، وبعد يومين من انتهائهم منه، تم تفكيك أجزاء كبيرة منه! حفر مربعة خطيرة، تظهر مواسير في باطن الأرض. الواضح هو أن المقاول الذي كلف بالرصف، كلف بهذا قبل المقاول الذي كلف بالأعمال تحت الرصيف، في خطوة غير منطقية، بل تعبر عن غباء مطبق، لا يحتج عليه أحد، رغم أنه يحدث في كل الأحياء وفي كافة المشاريع.
قابلت الدكتور الألماني أمس. وقضينا وقتاً ممتعاً. أخبرني عن منتدى التنافسية، حيث كان أكثر متحدث أثار إعجابه هو بِل كلنتون، رئيس أمريكا لفترتين في وقت سابق. حكى لي عن أفكار الرئيس الجيدة، وعن كونه شخص ذكي جداً، وملاحظ دقيق، وذو نوايا طيبة. قلت بأني أعتقد بأنه ذكي بالفعل، لكن لا أظن بأن نواياه طيبة، لقد حكم لفترتين، ولم يصحح الكثير من الأشياء، فأمريكا، والغرب بعمومه، لا يمكن أن ينوي الخير لنا أبداً، هذا ما أعتقده، لأن هذه هي طبيعة الأمور، يجب أن ينوي المرء الخير لنفسه، لا أن ينتظر الأخرين لينووه عنه. قلت هذا ثم واصلت: ما يجري هو أننا نعتمد كثيراً على الغرب في تصحيح الأمور، ننتظر الآخرين دوماً ليقوموا بالأمور لأجلنا، ونتوقع أن هذا واجبهم لا واجبنا نحن. لقد خرج مفتي من أحد الدول العربية، حينما شجب بابا الفاتيكان تفجير المسيحيين في بلداننا، ولام البابا على الأمر، متسائلاً لماذا لم يشجب البابا التفجيرات التي تطال المسلمين، وهو يعتقد أنه يفضح البابا هكذا، بينما هو يفضح غباؤه، فالمسلمين ليسوا رعايا البابا، لماذا نتوقع من الآخرين دوماً العناية بنا والاهتمام لأمرنا؟!. إني أشعر بالقرف من إعتمادنا المعنوي على الآخرين، الذين لا يهمهم صلاحنا.
بعد هذه الخطبة المشحونة، تفكر الدكتور للحظات، ثم قال بأني محق، إن الاعتماد على الآخرين الذين لا يملكون النوايا لتصحيح الأمور أمر سيء.
رفض الدكتور أن يتركني أحاسب، وهذا أمر مقلق، ففي المرات الأخيرة كلها يرفض قطعاً أن أدفع الحساب، وهو يقول دائما عند هذا الموقف بعدما يفرض رأيه ويبدأ بإخراج المال، وكأنما يحدث نفسه:"لم يكن يجب أن أدعك تدفع الحساب من قبل". وكلما سألت لماذا؟ تأتيني الإجابة المعتادة؛ هو أكبر مني، ومن واجبه أن يدفع. لكن في المرة الأخيرة اختلفت الإجابة، واكتسبت تفاصيلاً أكثر: ففضلاً عن كونه أكبر، هو يملك مال أكثر، وهو يأخذ هذا المال من بلادي!. ناقشته بالأمر بلا فائدة. يجب أن أجد حلاً، لا يمكنني أن أكون عالة عليه حينما أراه. في المقهى، بعد الغداء، بعد أخذ ورد حول دفع الفاتورة، لم يستطع قرائتها، فقد كتبت بخط باهت، فسلمني إياها، واحتفظ بمحفظة الفاتورة بيده. كانت حيلة مضحكة.
سألته في وقت لاحق، إن كان بإمكانه إحضار شيء لي من ألمانيا؟ قال بالتأكيد، وسألني ماذا أريد؟ أخرجت مبلغ من المال، ورفض أخذه، فرفضت التحدث. ولم استمر بالعناد، فقط قلت لا حاجة إذا للأمر، وصَمَتُ، موحياً بأني لا أنوي متابعة الأمر. تغيرت تعابير وجهه، ورغم أنها لطيفة دائماً إلا أنها أصبحت ألطف، حثني على أن أتحدث، ولكني قلت بأنه لم يكن شيئا مهماً، وطلبت منه أن لا يحمل همه، فبدت عليه خيبة الأمل، وسألني بلطف أكثر أيضاً، وكأنه بالواقع قد جرحني ويريد تطييب خاطري، وحثني باهتمام صادق وحثيث بأن أخبره بما كنت أريد. وشرح لي بأن الأصدقاء لا يعطون بعضهم المال هكذا، فحينما يأتي بما أريد منه يمكننا التحدث حول المال، لكن إعطائه المال منذ الآن يجعل الأمر وكأني أشتري منه، وكأنه بائع وليس صديق، كما أنه سيأخذ مني المبلغ حتى لا أكف عن طلب الأشياء منه. شوشني كلامه، ولكني التزمت الصمت. ثم ابتسم وسأل إن كان شيء الكتروني؟ قلت لا، قال شيء يؤكل؟ قلت لا، ثم ابتسم وكأنما يمزح وقال: قبعة بافارية؟ قلت نعم. فاتسعت عينيه وقد فوجئ، وقال: هذا ما تريد؟ قبعة بافارية فقط؟ قلت نعم. كنت قد أخبرته بوقت قديم بأني أعتقد بأنها قبعات جميلة. شرحت له هذه المرة بأنها كانت أمنيتي منذ أن كنت طفلاً صغيراً، أن أحصل على واحدة. وسألني أي شكل أريد؟ قلت بأني لا أعرف، لم أفكر من قبل بالأشكال المختلفة، لأنها كانت تبدو لي دائما ذات طابع موحد باختلافات يسيرة، بيد أني ملت إلى ذات الريشة، لكني لم أكن متأكداً. اقترح علي بضعة اقتراحات، ثم اتفقنا على أن يختار ما يراه ملائماً.
خرجنا بعدما قرأت له بعض القصائد التي كتبت، لكن كانت إحداها قصيدة قالتها أمي، وهي قصيدة رقيقة وحزينة ككل قصائدها الجميلة والمؤثرة تأثير المنامات الكاشفة.
سعد الحوشان