الاثنين، 1 أغسطس 2011

الراحل إلى أمانيا (ألماني،قصائد،كتب،إنكا،فيديو)

بسم الله الرحمن الرحيم




خيبة الأمل، هل هي فقط التعبير الذي تظهره وجوهنا حينما يحدث ما توقعنا خلافه، و مجرد الشعور المؤلم في القلب حينما يقوم شخص نحبه بجرحنا من حيث لم نتوقع. كل هذه أمور لحظية، حينما يحدث خلاف ما توقعنا فإنه أمر حدث في لحظة معينة، وليس حدثاً مستمراً؛ لقد تبدل القدر وعلينا أن نتأقلم، وحينما يجرحنا أحد ما، ويحطم قلوبنا، فإننا قد اتخذنا موقفاً في تلك اللحظة؛ لقد خاب ظننا، وعلينا أن نبدل من رؤيتنا للأمور وما نفعله مع ذلك الشخص. ليست هذه أمور مستمرة. لكن هل هذا كل ما هنالك؟ هل خيبة الأمل نفسها أمر لحظي؟ أم أمر قد يعيش مع المرء طوال حياته.
إني أرجح أن خيبة الأمل ليست شيء يحدث وينتهي في لحظته؛ إنه تجربة، وبعض التجارب قد لا نغادرها، أو لا تغادرنا. إن ما سبب خيبة الأمل، من خلاف للتوقعات أو جرح للقلوب، هو الأمر الوحيد الذي توقف عن التطور والاستمرار بعدما اكتشفناه، فاختلاف المتأتي عن المتوقع لا يصدمنا بعد أول مرة، وجرح القلب قد يستمر ألمه، لكنه ليس متكرراً بطبيعته على الأغلب. لكن خيبة الأمل نفسها هي أمر آخر، يحتاج إلى تعامل، أو نظر وتأمل، على حدة.

قد تنتهي الأمور التي خاب أملنا فيها، وينتهون أهلها من حياتنا، لكن خيبة الأمل تظل تطبع رؤيتنا لكل ما يشبههم، ولو مبدئياً، إنهم يظلون معنا ويعيشون في قلوبنا ليس من خلال حبنا السابق لهم، وليس من خلال جرحهم لنا وشعورنا المستمر بالأذى، ولكن من خلال خيبة الأمل التي فاقت تحملنا وأخضعتنا.



حينما تمطر بخيبة الأمل عيناي...
ويضيع قلبي في الغيم بين حناياي...
ويبدأ الصقيع بالتكون حيثما وقعت خطاي...
سيظل قلبي ينبض...
طالما بقيتم فيه...
يا أحبائي...
وأعدائي...
يا دافع حياتي...
ومصدر شقائي...
ضائع في متاهة متصدعة...
تشبه قلبي حيث تضيعون...
لعلكم لا تجدوا لها نهاية...
حتى تنهار جدران متاهتي...
فتغفون في قلبي...
إذ أنام للأبد...



كنت قد أوضحت من خلال الفيديو في التدوينة السابقة أني مقدم على أمر مهم. بالواقع، لم يتم الأمر، والحمد لله. ماذا كان؟ كانت قوازه واتفركشت، قُم الصعايدة وفركشوها بالبارود (وكسروا بريق الغضارة اللي على راس الرقاصة).
لا، أمزح عليكم بالطبع. كان الأمر هو خطة سفر للعلاج، مع نفس الثلاثي "المرح" في العام الفائت، أمي وأختي وابنتها، ولكن ليس إلى الهند، إنما إلى ألمانيا. لم أكن مرتاحاً لا للسفرة هذه المرة ولا لترتيباتها ولا الضليعين في الترتيبات، وقد كان شعوري في محله، لهذا، أحمد الله ألف مرة. كنت مأزوماً بالواقع طوال الفترة الفائتة. لكن لم يكن لي من القرار شيئاً، كما قلت لأختي؛ أنا لا أقول إذهبوا أو ابقوا، أنا فقط أذهب إن ذهبتوا وأبقى إن بقيتوا.
الآن، يمكنني أن أستأنف حياتي في الصيف كما خططت إن كتب الله. كأنما كسبت وقتاً جديداً، غير محدوداً. فنحن لم نكن نعرف متى سنعود ولو على وجه التقريب، عكس رحلة الهند في العام الفائت. مع أنه لا بد مِن مَن سيحاول أن يأكل من وقتي، ويقوض خططي. 






غداً موعد قصير لأمي في مدينة الملك فهد. إن من يجد لي أقل القدر لديه، أو حتى يكن لي كراهية معقولة ومتعقلة، أسأله أن يدعو الله لأمي وصحتها، وأن يكون كل شيء على ما يرام.







التقيت بالدكتور الألماني في منزله الاسبوع الفائت، كنا ننوي مشاهدة فيلم الأميرة مونونوكي معاً. لكن الجهاز الذي أحضرته معي، وهو ليس جهازي لأن جهازي ضخم جداً، لم يشغل الاسطوانة للأسف. أمضينا الوقت بالتحدث عموماً، ومناقشة بعض الأمور. كان لديه آية من القرآن الكريم يتسائل حولها، وقد وجد لها أكثر من تفسير. جرنا هذا لأمور أخرى مشابهة، وتكلمنا حول رؤية الدين لقصة أحد الأنبياء عليهم السلام، وقال بأن التوراة تقول كذا. قال هذا بتأكيد، فقلت بأني لا أصدق هذا، فبالنسبة إلي التوراة مبدلة. قال بأنها لم تبدل، إنما تعبيرها تبدل. واستمر يتحدث عن رؤيتها ورؤية الانجيل. فأوضحت بأن هذه مصادر فاقدة للمصداقية بالنسبة إلي، على عكسه، وهذا يحصر مصادري أكثر، ويجعل فهمي للأمور أسهل. بدا أن ما قلته لم يكن متوقعاً، أو غير مرغوب، لأنه سيحصر النقاش كثيراً.
لكن في خضم نقاشنا، وقد كنا نتناقش عن سبب حمل الإنسان للأمانة بعدما رفضتها الأرض والجبال، ووصفه بالجهل، سألته عن سبب اهتمامه بهذه الآية بالذات، فقال بأنه يريد أن يفهم لماذا قبِل الإنسان، ولماذا وصف هكذا. أخبرته بأن أكثر ما شد انتباهي منذ أن كنت صغيراً في هذه الآية ليس الإنسان، فهو أحمق بطبيعته عموماً وهذا أمر مفروغ منه، هكذا خلق، لكن كون الأرض لها إرادة، وكأنما لها روح أو هي حية. هذا، جعله لاحقاً يقول بأني أنحاز للطبيعة دائماً، وأكره الإنسان. هو عموماً اتهمني كثيراً بأني أكره الإنسان من قبل. أنا أكره الإنسان، ولكني أحب الناس.


إني أعمل حالياً على تدوينة أجمع فيها فيديوها وآرائي بها وتأثيرها علي، وليست الفيديوهات هي المعنية بقدر الأفلام التي اقتبست منها وما أريده قوله حولها. أرجو أن تنتظروا التدوينة.






يضايقني طبع بعض الناس الذين يأتون من ثقافات مختلفة أحياناً. إني أجد لهم العذر، لكن أحياناً يفوق الأمر احتمالي. بعض الناس مثلاً يقترب منك حينما يريد محادثتك إلى حد لصيق. ومهما تراجعت للخلف يظل يقترب، وحتى حينما تبدأ بالتراجع بوضوح وبرد فعل سريع على اقترابه يظل يقترب أكثر. غالباً لا تكون رائحة أفواههم مقبولة، وهذا يزيد المشكلة، السيئة أصلاً، سوءاً في نظري. أبدأ بفقد التركيز، والتوتر كلما اقتربوا أكثر. أخشى أحياناً بأني سأمد يدي واوقفهم على مسافة معينة برفق، لكن هذا سيكون جارحاً. أتذكر أن أحدهم طاردني وأنا أتراجع إلى الخلف باستمرار وأصر على الاقتراب من وجهي وهو يتحدث حتى حصرني على جدار، دون أن ينتبه أني لا أريده أن يقترب إلى هذا الحد، مما جعلني أفكر ببديهته البطيئة. كنت أتراجع بقوة لأن رائحة فمه كانت فضيعة. يجب أن تتحمل الكثير حينما تكون مترجماً، لكن ليست كل التجارب هكذا بالطبع، إن الترجمة المباشرة للناس وبينهم أمر جيد غالباً.

بشكل عام، السعوديين حساسين عموماً تجاه اقتراب الناس إليهم، خصوصاً إلى وجوههم. بينما الهنود يتلاصقون على نحو عجيب حينما يريدون التواصل.
قد يقترب السعوديين من بعضهم عند السلام، لكن ليس إلى درجة لصيقة، باستثناء حينما يقبلون بعضهم بالخد.







قرأت قبل قليل مقابلة للداعية العريفي. كنت قد قلت من قبل بأني لا أجده مريحاً، هو والقرني. في المقابلة تأكد شعوري أكثر بأن هذا الرجل لا يعجبني. لا تعجبني ثقته بنفسه، وإشاراته الواثقة والمباشرة لجمال شكله، الذي صدقاً أراه عادياً أو أقل. أما على المستوى الفكري، فأيضاً لا يعجبني. أشعر بأنه سطحي محب للظهور المفرط وغير الرزين تماماً، مثل القرني، وهذا قد يلائم البعض، لكنه لا يلائمني.
ورغم أني اكتشفت بأني لا أحب الرجال من كبار السن في مجتمعنا، إلا أني أحب الشيخ المطلق.







أمس يوم الاثنين، وقد التقيت الدكتور الألماني على خلاف العادة. أخبرني برسالة الكترونية مبكراً في نفس اليوم أنه سيسافر، إذ توفي أخيه، وأنه يمكننا أن نلتقي قبل أن يذهب في المساء، طالما لن يكون موجوداً في نهاية الأسبوع. عزيته، وأخبرته بأني سآتي. فكرت بأنه لو كان يريد أن يخلو بنفسه لقال بأنه سيسافر فقط.
كانت وفاة أخيه متوقعة منذ مدة، فقد كان مريضاً جداً، وقد كنت على علم بهذا. وجدت الدكتور في حالة جيدة وإن يكن أكثر هدوءاً، سوا أن ذهنه يشرد أحياناً، ويتنهد في أحيان أخرى بصمت. تحدثنا عن أخيه، وأهله. يجب أن يذهب سريعاً ليبقى مع العائلة في وقت الدفن والعزاء.
كان يجب أن نتحدث عن أمور أخرى، وحاولت أن أسليه، فأمامه وقت مشحون بالأسى والعاطفة.
أراد أن يعرف آخر أخبار صحة أمي كالعادة، وآخر أخباري. تناقشنا حول بضعة أمور أخرى.
اتصل به شخص، كان الدكتور يقول له، وقد طالت المكالمة كثيراً، بأنه غير قادر على فهمه، وأن الضجيج عال هنا؛ كان الدكتور يلمح بتهذيب لإنهاء المكالمة. لكن الآخر استمر بالتحدث، وبالكاد انتهت المكالمة. خمنت مباشرة بأن المتصل دكتور سعودي، وكان هذا صحيحاً. عرفت لأنه لحوح، ولا يفهم بسرعة، ويريد التحدث كثيراً وبلهفة غير عابئ بما يقول الدكتور، وكأنما التحدث معه امتياز يجب أن يستفيد منه إلى آخر لحظة، فلو كان يكلم دكتور سعودي مثله، لما طالت المكالمة رغم التلميحات التي قيلت، لتفهم أو حتى فقد الاهتمام، فالدكاترة العرب والسعوديين عموماً مبهورين بنظرائهم الغربيين. قال الدكتور بأنه يواجه مشكلة مع هذا الدكتور لأن لغته الانقليزية سيئة. ينخدع الناس بالدكاترة السعوديين وكل من درس في أمريكا، بل إن الدكاترة ينخدعون بانفسهم. بشكل مجمل لغتهم الانقليزية سيئة قواعدياً، محدودة المفردات، استعراضية على نحو سمج، ويحبون التظاهر المستميت بأنهم يجيدون اللغة كأهلها أمام من لا يتحدثها، مما يجعلهم يصرون على التحدث مع الأجانب لفترات طويلة أمام الآخرين غير المدركين لمهزلة ما يقولون. ويحبون كذلك أن يحكمون على لغات الآخرين، خصوصاً حينما يريدون القول بثقة بأن لغتهم جيدة، وكأنما لغتهم هم ليست بمحل سؤال، وهذا هو المغزى. وتبلغ بهم الجرأة أحياناً حد انتقاد ما يكتبه الآخرين، ومحاولة تصحيحه باستماتة لإثبات بأن لغتهم جيدة جداً، وقد حدث هذا لزميلي المترجم الآخر في العمل. أما نطقهم لما يقولون، فهم كالغراب الذي أراد تقليد الحمامة فنسي مشيته ولم يقلد الحمامة، يحاولون أن يبلعوا الحروف دون وعي أو علم بأنهم يبدون سخفاء (يعنني امريكان)، وذلك لخداع السامع، ويحاولون الاتيان بمفردات شعبية وقد تقارب السوقية أحياناً للتفاهم مع الأجانب كدليل على اندماجهم بالثقافة. إنهم مثيرين للشفقة، مجموعة سطحية بمجملها من الناس المغلفين بغلاف رخيص وممزق، لا يخفي بالحقيقة الجوهر البسيط غير المثير للاهتمام.


إني أذهل لقدرة الدكتور على السيطرة على مشاعره، رغم أنه إنسان بالغ الطيبة والرقة. 
لم أتحدث عن دفع الحساب هذه المرة، تركته يدفع بصمت.







فوجئت باتصال أختي باكراً صباح اليوم، إذ أخبرتني بأن السائق تعرض لحادث بعدما أوصلها ومضى، وقد اعتدى عليه الطرف الآخر في الحادث، وهو رجل باكستاني حسبما علمت. لأن زوجها قد ترك سيارته في الورشة، ذهبت أنا لأقوم بما يلزم. وجدت سائق أختي، وهو هندي مسالم وغير صغير، يبدو عليه الإرهاق، بينما زجاج السيارة الكبير الجانبي الخلفي قد تحطم. ثم جاء السائق الباكستاني، وهو سائق حافلة، وسلم علي. وجدته شاب غير كبير، ذو عينين شفافتين ووجه حسن، ولا تبدو عليه العدوانية. إلا أن أثار أظافره كانت على رقبة سائقنا. سألته لماذا ضرب السائق. أنكر في البداية، ثم علل بأن سائقنا حاول إبقائه في سيارته رغماً عنه وأخذ المفتاح حتى لا يهرب، رغم أنه لم ينوي الهروب. وهذا ما يقول سائقنا عكسه. وبالواقع، أرجح بأنه حاول الهروب، لأن الحادث لم يترك أثراً على سيارته، ولم يبدو عليه أنه شخص صادق. قال بأنه سيدفع لنا التكاليف. لكن لابد من استدعاء المرور أو نجم، وهي شركة متعاونة مع المرور. بالتواصل مع موظف نجم، وقد كان موظفهم صبوراً علي إلى حد بعيد، إذ لا يوجد أي أسماء شوارع في الحي الحديث أو معالم واضحة، تمكنت من مواعدته وإحضاره إلى مكان الحادث. أغلِّب بأن الشاب الذي جاء شيعي من القطيف، بحكم لهجته وسحنته. سرعان ما أبدى الشاب عدم اقتناعه بما يقول الباكستاني، ثم بدا عليه القرف منه بعدما أخبرته بأنه ضرب سائقنا وشاهد آثار الضرب، وسأله عنه. اقترح رجل نجم أن يحول الأمر بأكمله إلى المرور، للتعامل معه كحادث جنائي. لكن سائقنا رفض، وقال بأنه فقط يريد أن يدفع الباكستاني تكاليف الإصلاح. أفهمته بأن الخطأ على الباكستاني وسيدفع الثمن، وأنه لا يجب أن يخاف، إذ من حقه أن ينظر في موضوع الضرب، ولكنه رفض باصرار. سأل الشاب إذا كنا نريد أن نتفق دون حضور المرور. كان الباكستاني يريد هذا، فهو أصلاً لا يسوق الحافلة بالرخصة اللازمة، أي أنه مخالف للنظام. بعد وصف الأمور لزوج أختي، طلب مبلغاً تقديرياً، رفضه الباكستاني قائلاً بأنه كثير، وأنه سيحضر معنا ويدفع التكاليف بنفسه. طلب زوج أختي أن أستدعي المرور إذاً. لم يتأخر المرور كثيراً. وأخذ الباكستاني، وسط نظرات الكثير من الباكستانيين الذين توقفوا ونظروا بغير رضا.










ماذا بوسع المرء أن يقول عن فتاة تدعي أنها رجل على الانترنت، وتتمادى في الأمر، بحيث لا يصبح عذر تجنب أصحاب الأخلاق السيئة معقولاً، بعدما أصبحت أخلاقها هي سيئة بفعلتها؟.
في بدايات الانترنت، انتشر دخول الفتيات بأسماء رجال لأجل النظرة الاجتماعية ولتفادي الاحتكاكات الفكرية والعاطفية والشبهات. ولكن سرعان ما صرن النساء يدخل بأسماء مستعارة انثوية أو حتى أسماء حقيقية كاملة أو غير كاملة. صار ادعاء فلانة بأنها رجل أمر غير مقبول، إذ صار من الأولى تجنب مواطن تجمعات المشبوهين من الأساس بعدما أصبحت الأمور أكثر وضوحاً. وصار من المعروف أن الفتاة تفرض نوعية التعامل معها بعرض أخلاقها منذ البداية.
مع ذلك، ظل هناك من تدخل باسماء رجالية أو ذكورية، وتوهم الناس بأنها رجل، فتكسب صداقات الرجال بطريقة مخادعة، وتتسبط بالتحدث معهم، وربما ذهبت إلى ابعد من التبسط بقبول أن تدعو رجلاً "حبيبي"، بحكم أنه لا يدري أنها فتاة. أتسائل كيف لأي فتاة تعتقد أنها محترمة، وقد تصر على ذلك، أن تقبل مثل هذا الأمر على نفسها. أن تتشبه بالرجال بطريقة أو بأخرى، ثم تقول لهم ما قد يعطي انطباعاً آخر عنها لو علموا بأنها أنثى. فتاة متنكرة بالرجولة تقول لرجل بحكم الصداقة: حبيبي، وتبدي تقديرها الشديد وأطيب الأماني، وتبالغ بعرض الحميمية. كيف سيفكر بها المرء حينما يعلم أنها فتاة؟. إنها تعود إلى أنوثتها بعد كل شيء، وتمارس الفضيلة التي لا مراء فيها، بتناقض غريب.
إني أجد الأمر خسيس على كافة الدرجات. فهي تحط من قدرها بالكذب في البداية، وما أجبرها الله بالتداخل مع الرجال إلى هذا الحد، ثم تحط من قدرها أكثر بالتبسط معهم بذريعة أنها رجل، ثم تحط أكثر وأكثر حينما تتصرف وكأنه لا شك يلحق بأخلاقها.
إني أتفهم ما كان يجري في بدايات الانترنت، حذر الناس وبناتهم ورغبتهم بأشياء محددة، الصداقة مع الرجال ليست منها. لكني ألوم الآن من تحاول نفس الشيء بعد تغير الزمن، وألوم كذلك من كانت تدخل باسم ذكوري حتى في البداية وتتسبط أكثر من اللازم.
أتذكر قبل زمن طويل، كان لدي صديق في الثانوية والجامعة، وقد كان يدخل التشات كثيراً. وقد كون صداقات مع الكثير من الناس، وكانت له غرفة محادثة خاصة وفكرية، فقد كان يرى في نفسه مثقفاً من طراز خاص. المهم أنه حدثني عن صديق جديد له، خفيف دمه وودود جداً، من المنطقة الشرقية. وكان معجب جداً بذلك الصديق المضحك. بعد فترة طويلة، تعدت السنة بكثير على الأغلب، أخبرني صديقي بصدمة بأن من شاركه الأحاديث وربما الأسرار أخبره في النهاية بأنه فتاة، لهذا رفض مقابلته حينما زار المنطقة الشرقية. كان مذهولاً لاتقان الدور. وقد تفكرت أنا في كل ما قاله لي صديقي هذا عن حكايات هذا الشخص، قوله حينما رأى صورته بأنه جدير بناد للمعجبات.
هل كانت لتتحدث بهذا الارتياح لو أنها كتبت بأنها فتاة؟ لا أتصور. إذا، هل هي نفس الشخص أم لا؟ هل كانت تنظر للأمر من هذه الناحية؟ خصوصاً أنها لم تكن مضطرة لأي من هذا؟. إن هذا يشبه خلع بعض النساء لملابس الحشمة حينما يغادرن الأجواء السعودية، مع فارق كبير، أن النساء في الطائرة لن يقمن بالضرورة بالتبسط مع الرجال. ولم يقتحمن مجتمع الرجال هكذا، أو يخدعنهم، أو يعبثن بشعورهم.

لا أتحمل هذا النوع المنافق من الناس. قد يكتب الناس بصفة مجهولة لأي سبب من الأسباب، وقد يقوم الناس ببعض الذنوب خفية؛ كل هذا معقول. لكن هذا النوع من النفاق الخالي من الندم يثير اشمئزازي.






ذهبت قبل فترة إلى كلية الحاسب في الجامعة، لأسأل عن بعض الأمور الأكاديمية لأجل ابن أختي، الذي تخرج الآن من الثانوية. هناك، وجدت مكتباً مفتوحاً، وفيه رجل ذو وجه طويل وغريب. وكان يتصرف بنذالة غير عادية مع الطلاب حوله، الذين جائوا حسبما أتخيل للتسجيل للدراسة في الصيف أو لإجراء أكاديمي آخر. كان لا يعطيهم حتى فرصة ليتكلموا، إنما يقاطعهم، ويرفع صوته عليهم، ويتكلم بطريقة ساخرة، وحينما سأله أحدهم قلماً، قال بجلافة: ماعندي!. ظللت واقفاً، وهو يعلم بوقوفي، لعله يتكرم  وينظر فيما أريد، لكنه ظل على تجاهله عنوة، وعرفت بأنه يحسبني طالب، ينتظرني لأكلمه فيسيء التعامل معي. لذلك، سألت أحد الطلاب عما أريد، فتدخل هو وسألني ماذا أريد، وحينما بدأت السؤال لم يتركني أكمل، إنما سخر مني، وحاول إظهاري بمظهر الغبي، رغم أن المرء لا يسأل إلا عن جهل بطبيعة الحال، كما أنه لم يدعني أسأل فعلياً، فأخبرته بأني أسأل عن شيء آخر وليس ما يتحدث عنه، وسأل بجلافة وهو رافع صوته عن أي شيء أسأل؟. هززت رأسي باشمئزاز لم أخفه، وأنا أنظر في جوالي، حيث نقاط ابن اختي التي يريد مني أن أسأل عنها مسجلة، ثم وجهت سؤالي إليه، فاتضح بأنه ليس لديه فكرة، وهب الطلاب لمساعدتي، مما جعلني أشعر بشفقة كبيرة عليهم. حينما أردت الخروج، شكرت الطلاب، وودعتهم. ربما انتبه بأني لست طالباً، وأني على الأغلب موظف، لأني تجاهلته بسهولة.
عدت في وقت لاحق إلى الكلية للسؤال أيضاً، وهي تمتلئ بغرباء الأطوار، ووجدت موظف غير شاب اقترب من الدرج حينما رآني صاعداً، وظل يتأملني بطريقة غريبة وغير مهذبة، ولم يرد السلام حتى نظرت إليه فجأة. كنت أسمع ضجيج مرتفع في الأعلى، وضحك لشخص واحد، وكان هذا هو الرجل ذو الوجه الطويل، كان يتحدث بالجوال وكأنه وحده في مجلس بيته، وصدى صوته يردح في أرجاء الكلية. حينما رآني تنبه، وأنهى المكالمة. كنت سأتجاهله وأمضي إلى قسم محدد، لكنه استوقفني وسألني بود بماذا أأمر؟. أخبرته بهدوء أني ذاهب إلى القسم الفلاني، فقال بأني سأجد فلان وفلان هناك، وأنهم سيساعدونني. وسألني بلطف أكبر إن كنت أريد شيء آخر. شكرته ومضيت. 
لم يتغير موقفي منه، لأني بالواقع لم أغضب لنفسي، إنما غضبت لأجل الطلاب المساكين. سيظل الطلاب يعانون من الجميع، ويظلون الطرف الأضعف، في مفارقة لكونهم الطرف الأهم بالواقع.

لا زلت أتذكر أيامي في الكلية، وكم كانت عصيبة مع الموظفين وخلافهم. الموظفين في الكليات غالباً ما يكونون مجموعة من ضعيفوا التعليم والوعي، من لا سلطة حقيقية فوقهم. ورغم أنهم محتقرون من الدكاترة، إلا أنهم لا يملكون عليهم سلطة حقيقية، فتكون العلاقة غالباً بينهم ما بين شد وجذب على نحو خفي ودسيس، مغلف بابتسامة التملق والنفاق المغصوبة من قبل الدكاترة حتى لا تتعطل أمورهم بالكيد وإضاعة الأوراق، وابتسامة البلاهة الأبدية من معظم موظفي الكليات.
كان هناك مسجل الكلية، وهو كان رجل لا يعرف غير الصراخ ومحاولة تصعيب الأمور. الكل يتخيل بأن الطلاب لا يجب أن تتم خدمتهم وفق ما يريدون ويحتاجون وفق الأنظمة ولا أن يمنحوا الكرامة، ليبقوا تحت السيطرة. هذا الرجل رأيته بعدما توظفت، وقد انطبعت في ذهني دائماً صورته المراوغة والقاسية، وقد أصبحنا زملاء كموظفين في الجامعة. كان قد تغير مظهرياً على الأقل، وقد أطال لحيته وأصبح متديناً. صادفني ذات مرة مع زميل طيب، وهو صديق له على ما يبدو، وقال بأنه يتذكرني، أني كنت طالباً في الكلية وأنه لطالما أحس أن شكلي مألوفاً حتى تذكر، وضحك، لكني كنت بارداً معه، وتفاديت ملاطفاته بقدر ما يسمح به التهذيب، تجاهلته ففهم وتوقف. قد نكون أنداداً الآن، أن يحترمني لهذا، لكني ما عرفته عنه هو أنه لا يحترم من هو بحاجته، من هو أضعف منه، وهذا شيء لا يمكنني أن أنساه، ولا أرغب بذلك.
إن اجترار ذكريات أيام الدراسة دائماً ما يعود علي بالمرارة، والتفكر بما حدث. لقد حدث الكثير، الذي ليته لم يحدث؛ لا لي، ولا لغيري.
لكن، هذا لن يغير من الأمر شيئاً؛ لن أنسى، ولن تتوقف معاناة الآخرين.








رغم استعانتي بالجوال والانترنت في تنظيم مواعيد أمي وأبي، إلا أن فعاليتي رغم كل جهودي هي محل شك. اكتشفت ضياع موعدين مؤخراً دون أن أنتبه، لأني نسيت أساساً أن أسجلها في التقويم. أشعر بأني مهما حاولت لا يمكن أن أكون جيداً فعلاً فيما أقوم به، مما يوقع الحزن واليأس في قلبي.








ظهرت خدمة جديدة لقوقل، مثل فيسبوك. اشتركت حالما استطعت، إذا تطلب الأمر دعوة في البداية، ولم تنجح العملية بسرعة. لكني الآن أتسائل عن إمكانية استمراري. ليس لسلبية فيها، بل هي جذابة وسهلة الاستخدام، وليس لأنها مملة ولم تلائمني، إنها ممتعة؛ لكني أخاف أن تضيع وقتي. كما أخاف من الكمية الكبيرة من الناس الذين يصعب التأكد من أنهم ملائمين حينما يطلبون التواصل، خصوصاً أني فوجئت بالكثير من الناس يطلبون المتابعة دون سابق معرفة أو مجال مشترك في الاهتمامات أو العمل.
ولا أدري إن كنت أحتاج الخدمة أم لا. سأقرر في الأيام القادمة إن شاء الله، على الأغلب أني سأتخذ إجراءات لتجعله ملائم إن لم أوقف حسابي فيه، أو أحصره لاستخدامات معينة، أو أغلقه وأتركه حتى أجد له فائدة أو نفع واضح.

لكن، رأيت مشاركة من شخص طيب علق في مدونتي بضع مرات. هو معاذ الدوسري، وهو مدون له مدونة عن طب الأسنان وأخرى عن الفن السينمائي. مشاركته كانت رابط لمقال عن رجل سفيه اشتهر مؤخراً هو وطفله المسكين؛ مشعل ويدللونه ميشو. الوالد يعرض فيديوهات لابنه ذو التربية الغربية، ينتقد فيها مجتمعنا وطريقة حياتنا بشكل عام، ويتحدث بفوقية تربى عليها بوضوح، وهذا أمر مؤسف فعلاً. وقد ولد هذا ردات فعل مختلفة، أغلبها غير متعقل، ففريق يؤيد الطفل ووالده وينبهر بهم، رغم أنه لا يوجد ما يبهر، وفريق صب جام كراهيته تجاه طفل في السادسة أو السابعة لا حول له ولا قوة، وليس تجاه من يلقنه هذه المبادئ الخسيسة.
لاحقاً، أنزل الأب فيديو صوتي فقط، يتحدث فيه عن أرائه حول مشاكل المجتمع، بأسلوب لا يقل سفاهة وسطحية عن ابنه ذو السنوات القليلة، مع فارق الكبر والاستعلاء الواضح بنبرة الصوت. وهو كبر ناتج عن الثراء وربما الخلفية الاجتماعية على ما يبدو، ففكرياً؛ لا أدري بماذا قد يفتخر مثل هذا الرجل. وكان المقال عن هذا الفيديو على وجه الخصوص.
رددت على مشاركة معاذ في القوقل بلس، وقد كان في قلبي الكثير لأقوله رغم اني اختصرت؛ فهذا موضوع كنت أنوي الكتابة عنه منذ زمن في المدونة، وقد جاء هذا المقال والفيديو كمثال جيد على ما أريد قوله.
هذا رابط المقال، ويحتوي رابط الفيديو:
إضغط
بداية؛ سأضع ردي على معاذ، وهو باللهجة العامية إلى حد ما:

قرأت المقال. هذا التبلد والغرور يلقى تشجيع غريب من الناس. الحقيقة ان هذا الرجل السطحي مجرد مثال متطرف على موجة تسود المجتمع بدون ما يدري. يكفي فقط الاطلاع على أوصاف الناس لأنفسهم في ملفاتهم الشخصية ومدوناتهم، أوصاف خالية من أي تواضع. ابو الطفل المسكين مجرد مرآة مقعرة، تكبر اللي يحصل في جزء كبير من المجتمع.
لأكون صادقاً، لم أكن في السابق سأمثل على رأيي بهذه الطريقة، المقال والفيديو، وربما رأى البعض أن العلاقة بعيدة عن ما أريد قوله، لكن كما قلت، الدليل أعلاه مجرد مرآة مقعرة (أو محدبة؟)، وما كنت سأتحدث عنه هو الحالة العامة والسائدة دون أن تُلاحظ، عكس ما عكسته المرآة سالفة الذكر، فالأمر بالنهاية واحد إلى حد بعيد، لكن شيء متطرف بشدة، وشيء مستمرأ مع الأسف، وكليهما سيئان. لكني كنت سأتحدث عن الملفات الشخصية، وأوصاف الناس لأنفسهم في تعريفهم لها كتابة، كشكل من أشكال انعدام التواضع عموماً لدينا دون أن ندري. صار مديح الذات الزائد عن الحد وغير المبرر بشكل عام وعلى نحو لا يبدو أن هناك من يراه غير طبيعي هو الأمر السائد؛ وينظر إليه كتعزيز للثقة بالنفس أو كوصف محايد للذات رغم مراوغته وإيجابيته المريبة.
لا شك لدي بأنه ليس كل الناس الذين يكتبون هكذا عن أنفسهم هم بطبيعتهم مغرورون، إنهم فقط رأوا الآخرين يكتبون هكذا فظنوه أمر لائق ويعطي انطباع جيد كتسويق للذات. لكن من يقول أن الطبيعة البشرية لا تتغير، وأن النفس لن تصدق كل حرف تقوله عن نفسها بمبالغة؛ حتى يحسب المرء نفسه أفضل الناس؟، كما أن الناس لم يعودوا يستحون أبداً في التسويق لأنفسهم وشخصياتهم، كل شيء صار مقبولاً، وكل شيء يقال صار مع الأسف محسوباً، بطريقة غبية في الأغلب الأعم، ليصطاد أقوال رجيعة من المديح والإعجاب والاقتناع بما يقال، إنه فقط تصيد للمديح. تخيل أنه أُتي إليك بكأس فارغ، ولوِّن من الخارج بلون العصير حتى قرب فوهته، ثم عرض عليك؛ هل سيمكنك القول بأن العصير لذيذ؟ العصير غير موجود أصلاً. هذا ما يحدث، الناس يعرضون أشياء قد تكون غير موجودة، في حين أن من يقدم العصير الحقيقي سيسألك عن رأيك بعدما تتذوقه، وليس قبل ذلك.
 لقد سادت ثقافة تتجاهل فضيلة التواضع في رأيي؛ وبات التواضع مفهوم لا يخطر على البال كممارسة حياتية ضرورية؛ إنه فضيلة تذكر في القصص فقط، وليست ميزة حسنة في المرء تحسب لصالحه.
وصار النجاح وجاذبية الشخصية مجرد كلام يقال؛ وشهادات يقدمها المرء لنفسه بكرم، والملفت أنه لا أحد يفكر بأن الأمر بالواقع مثير للسخرية والعجب؛ كيف تقبل شهادة المرء بنفسه، خصوصاً حينما يبالغ كما يحدث الآن؟.
إني لا أرى مع الأسف أي جانب في الحياة الاجتماعية يطرح التواضع ومسائلة الذات كأمر له الأولوية، بل إني لا أرى أمثلة جيدة فيمن يعدون أنفسهم أمثلة جيدة. بعض الدعاة يمتدحون أنفسهم كثيراً بإعجاب حينما أقرأ لهم مقابلات بالصدفة أو مقالات عنهم أو لهم. والكثير من المسئولين، كمدير جامعتنا، كثيراً ما روجوا لفكرة أن كثرة الحكي عن النفس والخطط والإيجابيات هي إنجازات كافية بحد ذاتها.
إنه حب البروز، أمر يشبه من خطر في باله أن يقف بينما الجميع جالسين حتى يميز نفسه، فإذا بالجميع يقفون معه، ولما أدرك كل فرد أنه كالجميع رغم هذا المجهود الصغير للتميز، بدأ الجميع بالقافز للفت الإنتباه، في مجهود لا جدوى منه أساساً.











قبل قليل وأنا أكتب في المطعم على الجهاز، سمعت شاب يقف قريباً من طاولتي، وهو يتحدث بسخرية عن فتحي لجهاز الحاسب على طاولة المطعم، وهو لا يدري أن المطعم أصلاً يوفر الانترنت اللاسلكي، كما وصلت به قلة الذوق إلى الإشارة باصبعه والتندر على جهاز الانترنت الذي شغلته أمام النافذة، قائلا بأن هذا تطور. كان يتحدث وكأني لا أسمع، رغم أني لو وقفت ومددت يدي للمسته لقربه إلي، ولما التفت لأنظر إليه تظاهر بأنه لا يراني. فعدت للكتابة. لكنه قاطعني بتحية، سألاً إن كان هذا جهاز انترنت لاسلكي، فقلت نعم دون أن أنظر إليه، فاستأذن بأنه يريد استخدامه إذا سمحت بعد قليل، وتسائل إذا كان عليه كلمة سر؟ فأخبرته بأني سأطلعه على الكلمة حينما يريد استخدامه. شكرني ومضى مع رفيقه إلى طاولتهم. في اعتقادي أن هذا الشاب اعتاد على السخرية من كل ما يرى دون أن يسمعه الناس، ولكن لكثرة ما جرى الأمر على لسانه، وصار من طبعه، نسي أني أسمع، وأني قد يكون لي رد فعل. ولما لم أرد بأكثر من النظر ولم يتمكن هو من مبادلتي النظر، أتصور بأنه شعر بالخجل، وأراد أن يغطي على ما قام به بالتظاهر باللطف وحسن الذوق. لكن، هل يغير هذا أي شيء من وقاحته المتأصلة؟ قد تجد أحياناً بعض الشباب يعلقون على مشتريات الناس في السوق وهم يسمعون. قال أحدهم ذات مرة معلقاً على عربتي: شف شاري كل هالمويه! فرد صاحبه بصوت عال: وش عليك منه ياخي، خله ينبسط (!!).
استمر شاب المطعم بالنظر إلي من طاولته، وقد كانت تفصل بيننا زوايا المطعم بزجاجها، ولم يطلب رقم الانترنت.
كانت مثل هذه المواقف تتكرر كثيراً معي في الجامعة، من طلاب آخرين لا أعرفهم. وربما لأني لا أعرفهم ولا يعرفونني لا يجدون ضيراً من التندر بي حينما أمر، لإضحاك من معهم. وحين النظر إليهم؛ يتظاهرون بأنهم يتكلمون عن أحد آخر، وبعضهم ينظر باسماًى بسخرية.

يوجد انخفاض غير عادي بوعي الكثير من فئات المجتمع بضرورة التأدب مع الآخرين، أنها ليست مجرد فضل، إنها واجب صارم.








اليوم يعود صديقي الحقيقي الوحيد.








كم أشعر بالحنق على المسئولين عن التعاقد مع الأجانب في الجامعة من الدكاترة السعوديين الحمقى، عمداء ووكلاء ورؤساء أقسام. كثيراً ما يعطون وعوداً خيالية بدون إستشارة الجهات التي تصنع العقود وفقاً للتنظيمات المحددة، فيأتون الأجانب متوقعين شيء لا ينطبق مع التنظيمات المحددة لمميزات العقود. أحياناً يكتشفون منذ البداية، إذ يكون الراتب أقل بكثير مما وعدوا، فيقال لهم هذا ما لدينا؛ والدكتور الذي تواصل معك لم يكن يعرف الأنظمة أو الحدود. ويكون الأجنبي قد ترك وظيفته في بلده أو البلد الذي يعيش فيه، وجاء لمختلف الأسباب، إما للعيش في مجتمع مسلم يصدمه مسئوليه هكذا، أو لمجرد تحسين حياته فيجد أن الأمور ليست كما وعدوا. وآخرين يكتشفون لاحقاً، مثل الذي قيل له اليوم بأنه لن يحصل على تكاليف تعليم ابنه، رغم أن العميد وعده بها، لأن ابنه أصغر من العمر القانوني، ولا ألومهم، لكني ألوم العميد الأحمق، ولو كنت مديراً للجامعة؛ لأرغمته على الدفع من حسابه الخاص للرجل، حتى يتعلمون بأن حقوق الناس وآمالهم ومشاعرهم ليست للتلاعب والاستهتار.
كما أقرف أشد القرف ممن يسرقون مجهودات الآخرين، سواء أجانب أو طلاب في مشاريع تخرجهم، حيث يشاركونهم على الورق دون أن يبذلوا أي مجهود، وحينما يمانعون أصحاب الفكرة والعمل، يكون جزاء الأجنبي الطرد المهين كما شهدت، أما الطالب، فعلى الأغلب أنه سيموت قهراً في قلبه فقط.
أتخيل بأن قولي بأن الدكاترة والدكتورات السعوديين هم من أهم أسباب تخلفنا لأسباب كثيرة لن يكون قابل للتصديق في أول وهلة، لكنه الواقع الذي لا يقبل الشك لدي.








قررت أن لا أضيف من لا أعرف أو لا أجد معلومات كافية أو مثيرة للاهتمام في ملفه على قوقل+، الخدمة الجديدة الشبيهة بالفيسبوك، حينما يضيفني. أعتقد أن هذا أمثل عن الازدحام. قد أعطي أحدهم فرصة وأضيفه، لكن حينما أكون لا أعرفه، ولا يعجبني ما يكتب أو أنه يكتب ويشارك أكثر من اللازم، سأحذفه من دوائري.
هذا حل ملائم للوقت الحالي، حتى أجرب وأرى إن اقتنعت.
عموماً، هذا هو عنوان ملفي هناك، أعتقد أنهم سيطورونه لاحقاً ليصبح بالحروف او اسم المستخدم بدلاً عن الأرقام:
بعد يومين سأفقد الأمل من الرفقة الوحيدة التي أتطلع إليها خارج المنزل إلى ما بعد العيد بفترة. سيسافر الدكتور الألماني إلى بلاده، بعدما عاد لوقت وجيز من جنازة شقيقه. التقينا، وشاهدنا معاً أفضل فيلم أحبه على الإطلاق، الأميرة مونونوكي، وقد كان متحمساً لرؤية أهم فيلم لدي، لأنه يتخيل بأنه لا بد سيكون لدي سبب وجيه ومميز. أحياناً أجد نفسي عاجزاً عن وصف كل أسباب حبي لهذا الفيلم وإلهامه لي على نحو يشعرني بالرضا، أشعر بأنه يوجد دائماً نقاط أغفلها. استمتعنا بالفيلم المميز والذي لا أعتقد أن الدكتور رغم استمتاعه به سيرى ما أرى فيه. مع ذلك، ناقشني فيه مطولاً، يريد أن يرى ملاحظاتي، ورؤيتي للوارد في الفيلم. لا يمكنني أن ألخص هذه الأمور؛ لكن يمكنني أن أقول بأني قلت للدكتور ضمن ما قلت بأني أحببت الإصرار اليائس على تصحيح الأمور ومساعدة الآخرين، التضحية من خلال هذا الإصرار المؤلم، وبراءة الطبيعة حتى في مقاومتها. حينما انتهينا تقريباً من النقاش، وقفت لأجمع الأشياء، الجهاز الضخم والاسطوانة والأسلاك وحقيبتي بجهازي وخلافه، لكنه استوقفني متسائلاً باستغراب أين سأذهب؟ قلت بأن الوقت تأخر، وأنه  ينام باكراً، لكنه أخبرني بوضوح بأن أبقى، لأحكي له قصصي المسلية. وليحزم أمري، قام ليحضر لي علبة سفن آب، وقد اشترى كمية جيدة رغم أنه لا يشرب هذه الأشياء، حتى حينما آتي إليه أشرب.

من ضمن ما سألني عنه كان الرئيس البشير، في السودان، الذي سماه مجرماً، وأخبرني بأن دكتور سعودي قد قال له بأن هذا ما يريدنا الغرب أن نراه. أنا أجد هذه الإجابة، صحت أم لم تصح، هي إجابة خليقة بدكتور سعودي لابتذالها، فهي معلبة بحيث تبدو  ذات مدلول وحجة، في حين أنها لا تساوي شيئاً بذاتها، وقد صارت تقال في كل مناسبة، حيث تجدها العقول المقفلة والكسولة ملجأ يسهل الوصول إليه بلا تفكير. قلت بأني لا أعتقد بأنه مجرم بالضرورة بقدر ما أعتقد أنه غبي. ذهل، إذ يبدو أنه لم يتوقع هذه الإجابة، أن لا أعتقد بأنه مجرم. ذكرني بأمور كثيرة؛ الحروب التي خاضها البشير والمذابح التي يتهم بها، فأخبرته بأني لا أعلم عن هذه الأمور، فهو يدعي خلافها، ويدعي أن الجنجويد هم من أسائوا لأهل الجنوب، ولو كان مجرماً بالفعل، فهو ليس المجرم الوحيد في العالم، أما المآسي فقد ارتكبت بسبب غباءه في النهاية، أكان المجرم أم لم يكن. فهؤلاء في الجنوب كانوا أصلاً منقسمون كما يدعي، وأنه لانقسامهم كان لا يستطيع الاتفاق معهم، وهذا غباء من طرفه أيضاً، عذر غبي للإهمال المادي والمعنوي الذي لحق  بأهل الجنوب. لقد رحل الجنوب الآن، وهو ليس خسارة للسودان فقط، لكن لكل المسلمين في رأيي، بسبب الإهمال والاحتقار الذي سمح به البشير. بدا أن هذا منطقي إلى حد ما بالنسبة للدكتور، وقال بأنه ربما كنت على حق، فهو لا يعلم الكثير بدقة حول ما جرى هناك.
تكلمنا حول الجنازة هناك، ولم يبدو الأمر بائساً للحد الذي تخيلته، ربما لأن الميت كان متوقع له المصير منذ فترة نظراً لمرضه، ورضا العائلة عن مستوى التصالح والتواصل الحميم معه قبل وفاته المتوقعة.
ثم نظرنا إلى صور عائلية جديدة، ومزرعته في أحد بلدان البحر المتوسط. كانت صور جميلة؛ خصوصاً صورة لحفيدته الصغيرة المليحة، بعينيها الجميلتين ووجهها المستدير كالقمر ما شاء الله. اسمها كلارا. وحجمها أكبر مما يراه المرء هنا لأطفال من سنها. بالواقع، إن أطفالنا أصغر حجماً عموماً من أطفال الآخرين. في عملي القديم في مركز طبي، حملت ابن زميلة مصرية، وقد كان ما شاء الله ثقيل إلى حد صدمني، ورغم عمره الصغير إلا أني واجهت مشكلة في حمله على ذراعي بسبب حجمه الكبير وطول أطرافه. هذا رغم خبرتي بحمل الأطفال التي تمتد إلى سنوات طفولتي أنا. لم أتعجب كثيراً بعدما رأيت والده عموماً، الذي يعمل مندوب مبيعات، فقد كان خليقاً به أن يعمل في المصارعة الحرة وفقاً لشكله وحجمه، وموقفه كذلك.
تكلمنا كذلك عن أمور أخرى كثيرة.
قال بأننا سنتواصل عبر البريد الالكتروني حينما يسافر، فقلت بأن لا يحمل هم الأمر، يمكننا الالتقاء حينما يعود. ولكنه أصر، فأخبرته بأنه بالواقع غير جيد بالتواصل عبر البريد، فضحك، وقال بأنه سيحاول التحسن، لم أتحمس مع ذلك، فأصر على الأمر. 







لقد جائت ابنة أخي أمس، التي أنتظرها طوال الاسبوع، وقد أوقعتُ بالخطأ فنجان القهوة، وهو خالي، على وجهها، لكن بمساعدتها. أود لو أنزلت لها صورة لتروا جمالها، لكني حينما لا يكون الطفل ابن لأخواتي، أخاف أن أغضب أهله، ربما إخواني قبل زوجاتهم في بعض الحالات.
أتمنى لو كنا نربيها لدينا. كانت قبل فترة تأتي كل صباح لتظل في رعاية أمي حتى العصر تقريباً، وكنت أحياناً أتأخر عن العمل عمداً حتى أصادفها مع أمي حينما أنزل. وكانت أيام سعيدة، مليئة بالقبل الانفجارية.
هذا قبل أن يحصلوا على خادمة، لسوء حظي.
هي حجمها صغير على نحو استثنائي، وخديها رقيقين وغريبين. هي عموماً كاللقمة، أخاف أن أبتلعها كلها حينما أقبلها. لكنها بدأت تتمرد، وهذا ما أكرهه في البنات، فهن لا ولاء لهن، عكس الصبية.






السفير البريطاني يقول، وكأنه يخاطب أطفالاً، بأنه شعر بالاسف على مخيم مزيف دمرته في تدريب قوات مشتركة بريطانية وسعودية. وهو بهذا يتحبب ويتلطف بزعمه. إنه يستخف بالناس بوضوح بلهجته القاصرة هذه.








قبل فترة، طلبنا غرض من أمازون بمساعدة أخي، كان لمساعدتنا على الرحلة إلى ألمانيا قبل أن يغير أهلي رأيهم. انتهزت الفرصة وطلبت كتابين؛ أحدهما عن حضارة الإنكا وشعبها، ورغم أني لا زلت أريد إنهاء كتاب آخر إلا أني قرأت القليل منه، ووجدته جميلاً، مكتوب بلغة ممتعة ومؤثرة.




 اما الآخر فاسمه يترجم إلى: اغتصاب نانكينق. وهي المدينة الصينية التي تحدثت عنها سابقاً، التي غزاها اليابانيون وعاثوا فيها فساداً لا يتصوره عقل. ولم أقرأه حتى الآن، ولكني رأيت صور توثيقية أحدثت أعمق الأسى في قلبي. 





وبذكر الإنكا، شاهدت الكثير من المقاطع لذلك الأثر المهيب؛ ماتشو بيكتشو، الذي بنوه فوق قمة جبل بين السحاب، ونسي من ذاكرة البشر لحوالي ثلاثة قرون، حتى اكتشف لاحقاً من جديد، وقد هجره أهله لسبب مجهول، قد يكون انتشار الأوبئة التي أتى بها الاسبان ولم يكن لأهل البلاد مناعة ضدها، ولعل بعضها وصل إلى ذلك المكان المعزول.


إنه أثر يسحرني على نحو مختلف، إذ يجلب الشجن العميق إلى قلبي، فلا أنفك أتأمله وأتفكر فيه ومن بناه وسكنه، حينما أرى صوره أو أقرأ عنه. مكان لا يُدرى على وجه التحديد لماذا بني هناك بالذات، ولماذا هجره أهله فجأة كما توضح الدلائل، رغم أنه أشبه بالجنة الأرضية؛ وكأنما المرء إذ يعيش هناك فإنه يعيش في حديقة غناء، في جيرة الشمس والسحب، محفوف بقمم مهيبة، ولكن تجلب السكينة إلى القلب.


ما يعجبني في الأثر هو اندماجه بالطبيعة، وبساطة مبانيه الجميلة الخالية من الزخرف رغم حسن تصميمها وبنائها. المدرجات البديعة، والخضرة غير العادية المحيطة بكل شيء، والموجودة على كل شيء. الساحات الخضراء الجميلة والممرات المحاطة بالجدران الحجرية، وجوهرة التاج، وأكثر ما أثر في نفسي؛ مصب الماء المنحوت في الحجر، كنافورة طبيعية.





قد لا يبدو للكل تميز هذا الأثر عن سواه، ولربما بدا أقل إثارة للذهول مما يتخيل البعض من ذوي النظرة الجزئية، النظرة التي قد لا ترى الصورة كاملة. لكن، إن هذا جزء من تميزه، إنه مكان للعيش الطيب فقط، في مكان فريد قلما يوفق الناس إلى اختيار مثله وبظروفه. الاطلاع عليه يشعرني بالحنين والحزن اليائس، والسكينة؛ يشعرني بالاستسلام.
(يشمل موسيقى)



http://youtu.be/Z2MN5glPgUs

هذا مقطع جيد للأثر. يمكنكم رؤية المصب المائي الجميل فيه، ورؤية ساقي يتفرع عنه على الأرض في لقطة أخرى.






يوجد كذلك منظر طبيعي مثير للذهول؛ إنه أعلى شلال في العالم. يسقط في فينزويلا، من أحد جبال التبوي التي تشكل ظاهرة طبيعية فريدة بحد ذاتها. يسمونه شلال آنجل، وهو لفرط طوله يتبخر بعضه قبل أن يمس الأرض. إنه منظر طبيعي مذهل، سبحان الله.



http://youtu.be/iLmvCLPjUM4





أشعر بالوحدة والملل في نهاية الأسبوع. الصديق الوحيد، الدكتور الألماني، سافر، ولن يعود قريباً. على الأقل، جائت ابنة أخي ذات الأشهر الثمانية، ولكن كما توقعت، أصبحت إنسانة أنانية، لا تريدني أن اقبلها، بينما تسمح لأمي بذلك (قهر)، بل وتقبلها هي فاتحة فمها على اتساعه، وكأنها ستأكل أمي بسنيها الاثنين. ولم تجدي الهدايا، إذ أنها لا تفهم.


وبذكر أمي، اشتريت لها كوباً ظننت أنها ستفرح به، إلا أنها سرعان ما تخلصت منه بإعطائه أخي في ذات الليلة، لأن عليه رسوم لأغنام تضحك في المراعي (حرام). لا أدري ماذا سأفعل مع هذه المطوعة. الغرض الأساسي من الكوب كان هذه الأغنام، وإلا فالأكواب في المنزل كثيرة. ماذا أفعل وهي ترفض إحضاري لنعجة حقيقية إلى المنزل، رغم حبها لهذه الحيوانات(وحبي للغنم النجدي). هل أعاقبها وأحضر بقرة؟ (هي تكره الأبقار، كأنها بدوية).








المشترك الأخير في مدونتي كتب تعليقاً لطيفاً، لكن التعليق لسبب ما لا يظهر في مكانه في جانب المدونة، حيث يعلق متابعو مدونتي حينما يرغبون. لذلك لم أتمكن من الرد على التعليق كما يجب. يقول التعليق: 
"السلام عليكم ورحمة الله ... انا متابع من فترة لفترة لهذي المدونة ... وكنت اتوقعك تقرب لي :) ... عالعموم مجرد تسجيل إعجاب بأسلوبك ... أخوك : عبدالرحمن الحوشان .... مغترب في امريكا .."
أشكرك أخي عبدالرحمن على لطفك، وأقدر كثيراً متابعتك لما أكتب، خصوصاً بعدما عرفت بأني لست قريبك، ومع ذلك شجعتني بكرم.
أعرف بأن عائلتك كبيرة، أكبر عدداً من عائلتي بكثير، إن كانت هي بالذات من أعرف، أقصد عائلة الحوشان من بريدة. كنت قد حضرت مع أخي زواج صديق له من هذه العائلة قبل سنوات، وهو رجل من الحوشان درس معه في أمريكا لا أتذكر اسمه الأول، وقد كان لطيفاً جداً (ألطف من أخي). كان الزواج في الفهد كراون، أعتقد أن اسم الفندق تغير الآن.
كثيراً ما اعتقد الناس أني من عائلة مختلفة. البعض يظن بأني من المزاحمية، وهم من آل ثنيان على حد علمي، وآخرين من حائل، والأغلبية من بريدة (ربما بحكم اللهجة وشهرة عائلتكم)، وأماكن أخرى أقل جرياً على الألسن، لكن أصلنا، الحوشان من المذنب، أصلنا دواسر من فخذ البدارين.
أشكرك مرة أخرى أخي عبدالرحمن، وأتمنى أن تجد دوماً ما يمتعك هنا. كما أتمنى أن أطلع على مدونتك إن كانت لديك واحدة. عسى الله أن يردك سالماً غانماً إلى من يحبك.
شكراً جزيلاً.







ذهبنا اليوم أنا وأمي إلى مدينة الملك فهد الطبية، وقد ذهبنا بضعة مرات خلال الأشهر الماضية، ولم نقابل الدكتور الذي طلبنا تحويلنا للمستشفى لأجله بعد المرة الثانية، كنا نرى الطبيب الهندي من فريقه، وهو الآخر طبيب طيب جداً مثله، ودود ومتفهم، لكن هذا ليس غريباً، فالأطباء الآسيويون عموماً أكثر تواضعاً وطيبة من العرب، أما الغريب فهو أن الدكتور الأساسي، الذي جئنا لأجله، طيب جداً، رغم أنه سعودي.
طال انتظارنا إلى حد ما، ثم ظهرت أمي فجئة من استراحة النساء، وقد ملأها التوتر، قائلة بأن من جائوا قبلنا قد مضوا جميعاً، وبدأ من جاء بعدنا يمضي، بينما لم يتم استدعاؤنا. لتهدئتها، ذهبت إلى الاستقبال أسأل، حيث قيل لي أن أسأل في غرفة الطبيب الهندي، وهناك قالت المساعدة السعودية بأن ملفنا لدى الدكتور مشبب العسيري، في المكتب المجاور. لم أتوقع هذا بصراحة، فقد بدأت أظن بأنه لا يرى مرضاه بعد أول مرة شأن بعض الأطباء الرؤساء لأقسامهم، وربما كانت الثانية بالصدفة. لكني فرحت صدقاً. سألت الممرضة في مكتبه، وقالت بأن ملفنا هو الأول، وستدعونا قريباً بعدما يراجعه الطبيب. وفعلاً، دعتنا مباشرة تقريباً، ودخلنا. كان الطبيب مشغول الذهن عموماً، إذ بدا أن وقته ضيق، ولكنه مع ذلك لم يستعجل. كان لطيفاً جداً مع أمي، وأجاب أسئلتنا بوضوح. كانت الأمور ولله الحمد مطمئنة. أزعجتُه قليلاً بالإسئلة والنقاش، وأعدت بعض الأسئلة بصيغ مختلفة لأتأكد بأني فهمت جيداً وضع أمي بكل حيثياته، وقد صبر علي جيداً، ولا أقول بأني كنت أختبر صبره صدقاً، لكني بطبيعتي أحب التأكد من صحة فهمي في الأمور المهمة. بعد تقرير ما سنفعل للفترة القادمة من فحوص ومواعيد وأدوية، أحضرت الممرضة الأوراق لتشرح لي ماذا أفعل بكل ورقة، بينما تكلم الطبيب مع أمي، سائلاً إياها عني، إن كنت ابنها (!!) ومن هذا القبيل، ومطمئناً إياها بأني أفهم جيداً كما يعتقد. حينما ابتعدت الممرضة، سأل أمي عن ما أفعل أنا بحياتي. قالت بأني في الجامعة، تقصد أني أعمل بالجامعة، لكنه حسب بأني طالب، فسألها بأي سنة أدرس. قالت بأني أعمل، وتدخلت لأخبره بأني متخرج منذ زمن بعيد، وأعمل هناك. سألني عن مكاني هناك بالضبط. ثم عاد يسأل أمي عن تخصصي، قالت: انقليزي. فقال لأمي مازحاً بأن هذا السبب ربما لطول شعره (يقصدني. وبالواقع، شعري ليس طويلاً، لكن كثافته تعطي انطباعاً مغايراً) ضحكت أمي وقالت: يا حبي له (!!). ثم سأل عن كليتي، وأوضحت له بأني درست في اللغات والترجمة، بعدما ظن أني تخرجت من الآداب. تكلمنا قليلاً حول الأمر. بعدما انتهى النقاش الودي، أخبرته بأني كتبت عنه في مدونتي. فتح عينيه على اتساعهما بطريقة كوميدية وقال: يا ساتر!. وكأنه خاف، مما أضحكني. تسائل ماذا كتبت، قلت بأني كتبت خيراً، فمن النادر رؤية دكتور سعودي لديه دم وإحساس بمرضاه. صمت قليلاً متأملاً، ثم قال ما لم أفهم وهو مبتسم: كنت أحسب أن ما عندي دم. بدا سعيداً بالأمر، وشكرني جيداً وهو مبتسم. وحينما أردنا الخروج وضع يده على كتفي وسأل أمي إن كانت قد زوجتني. قالت بأنها لم تزوجني بعد، وأن من تزوجوا لم يعودوا يبالون بها، وهي وجهة نظر تقليدية على ما أعتقد. خرجنا وهو يودعنا.
لكن، عندما أردت الحصول على ورقة للمرافقة، علمت بأن الإجراء تغير عن السابق، ولهذا يجب أن أعود إلى مكتب الطبيب، ليمنح الموافقة الالكترونية. جاء رجل وحاول الدخول قبلي، ودخل، أخبرت الطبيب واقفاً بالباب بأن يعطي موافقته على المرافقة. وأعطاني، وهو يقرأ اسمي وبياناتي على الحاسب، واسم الجامعة حيث أعمل. ثم سأل عن مدونتي، وإن كنت قد كتبت في مدونة أو الفيسبوك، فأخبرته بأنها مدونة، سأل عن عنوانها، فقلت بأن يبحث فقط عن اسمي في قوقل. إن اسمي يظهر في أول النتائج، حتى لو نسي اسمي الأول (من الصعب أن ينسى المرء اسم مضحك كالحوشان).


تركت القسم وأمي فيه، لأحصل على الأدوية وأطبع عذر المرافقة من التقارير، ثم مضيت إلى مبنى آخر من المستشفى، للسؤال عن التوظيف هناك، ومعرفة من سيتمكن من العلاج في المستشفى من أهلي في حال عملت لديهم. قيل لي بأن التأمين يشمل أمي وأبي، وهذا رائع، وزوجتي وأبنائي(هؤلاء غير مهمين إذ أنهم غير موجودين). فرحت كثيراً. لكن قيل لي بأن الانتقال من عملي غير وارد، حيث يتم توظيفي لديهم بوظيفة جديدة. أعتقد بأنهم ربما يعملون على نظام مختلف عن الحكومة. إني أفكر بالأمر. ولدي الوقت، إذ لا أستطيع الانتقال حالياً من عملي وأنا ملتزم في غياب زميلي. لكن مع ذلك، يجب أن أستشير وأفكر جيداً وكثيراً، فهناك بخلاف أمي وأبي ابنة أختي.
حينما خرجت من المبنى، خرجت من طريق آخر، ووجدت نفسي في مكان لا أعرفه من المدينة الطبية. لكنه كان مكان جميل. رأيت نافورة جميلة، فأخرجت جهاز الننتندو ثري دي اس لألتقط صوراً ثلاثية الأبعاد لها. إني أعشق تصوير النوافير كما لا أعشق تصوير أي شيء آخر، والمساقط المائية طبعاً إن وجدتها، خصوصاً بشكل ثلاثي الأبعاد.


كان يوماً جيداً، فالطبيب طمئننا أخيراً على صحة أمي، بعد أشهر من الانتظار والإجراءات المختلفة، وقد رأيناه وتمكنت من إظهار تقديري له، وتشجيعه على اللطف والتواضع.








البارحة، حينما دخلت التميمي لشراء غرض أوصاني عليه أحدهم، وكان الوقت متأخراً في جوف الليل، وقفت لأنظر إلى مكان مجلة ناشيونال جيوقرافيك، رغم أن وقت العدد الجديد لم يحن بعد، لكني كنت أرجو أن شعوري بمرور الوقت قد أخطأ. كنت أواجه المحل وأميل برقبتي فقط لآخذ نظرة، وربما سهمت قليلاً، وظللت أفكر دون حركة، بعدما رأيت أن العدد الجديد لم يأتي بعد. لا أدري كم ثانية أو لحظة مضت وأنا ساهم، لكن حينما نظرت إلى الأمام لأمشي، وجدت رجل شديد الضخامة والعرض، بدين إلى حد كبير، رأسه كبير جداً، ووجهه الضخم المحاط بلحية كثيفة يكاد أن يلتصق بوجهي، وهو باسم. لا أدري ما أصابني، قد أكون ذعرت قليلاً، لكن ما شعرت به أكثر كان الإحراج والخجل، إذ حسبت لأول وهلة بأني أسد الطريق أمام هذا الرجل غير المعتاد. ضحكت محرجاً، ربما مجفلاً، أو ما يسمونه ضحك "الروعة"، وقفزت للخلف جانبياً، وأنا أعتذر. كانت ابتسامته واسعة في البداية، لكنها بدأت تصغر قبل أن يمضي في طريقه، يبدو أن ردة فعلي سببت له صدمة (وأنا ماذا أقول عن رؤيته أمامي فجأة؟!). شعرت بإحراج، وكان البعض ينظر إلي باسماً بعدما رأى الموقف. لكني حلّلت الأمر بسرعة، واكتشفت بأن الأمر غريب، إذ أني بالواقع لم أسد الطريق حتى يتوقف تماماً، ولم يكن أمامي أو قربي أي أحد حينما توقفت لأرى المجلة في الرف البعيد. إذاً هو جاء لاحقاً، وقرر الوقوف مقابلي والسكوت، والاقتراب كذلك على نحو غير مألوف.
غرابة أطوار فقط على ما يبدو.





أيا راحل إلى أمانيا...
وآخذ معه الأنس والسلوى...
تاركني لوحدتي...
أسأل أحلامي النجوى...
ولا من مجيب...
أيا راحل إلى أمانيا...
نادني إذاً بأحلامك...
وابسط تجاهي يدك الحمراء الأبوية...
وعلى ريح المطر أطلعني...
في غابتك البافارية...
وخذني لأشرب من ماء الألب...
تلك الجبال الموحشة الجميلة...
لأروى من عطش الصحراء...
لعلي حين أفيق...
أغلب يأس الوحدة والشقاء...

أنتهت.
أمانيا هي ألمانيا، كما كان ينطق اسمها الناس في القصيم قديماً، في القصص التي سمعت.


سعد الحوشان

الأربعاء، 15 يونيو 2011

حينما ينزل الله المطر...(ألماني،قصائد،أحداث)

 بسم الله الرحمن الرحيم





يبدو لي أحياناً بأن لحياتي إرادة مستقلة، تتصرف بمزاجية. تفرغ من الأحداث إلى درجة العقم لفترة طويلة، لتتولدها توائم بفترات حمل لا تكاد تذكر.
هذه الأيام هذا ما يجري معي، الكثير مما يجب أن أقلق لأجله أشد القلق، أو أتفائل به، ولي الاختيار، ولا حاجة لذكر ما اختار بطبيعتي.





حينما ينزل الله المطر...
تتلاشى أحزاني على وقع القطر...
وقد كان مقصوداً أن خلقت في مكان إليه يفتقر...
أعلم بأن الله جعل هذه أرضي...
لأن الحزن والأسف يرفعني...
واليأس يبصرني...
فقلبي المشطور...
المحزوم كهدية بشريط...
صار يأبى المخيط...
فما الفرق إذا ظل في كل حال مفطور...
إذ القدر حولي كالكفن التف...
فلم أعد سوى وقف...
سخرة...
مسلوب الإرادة...
كمكينة أنى لها أن تعرف معنى السعادة...
كضرير أضاع دربه...
وتاه في حشد أبكم وأصم...
وللوحشة استسلم...
ولما يلقى إليه من صدقات القلوب...
والتعاطف المسلوب...
من غرور مغلوب...
ليعطى إلى كبريائه المسكوب...





هذا الشهر مزدحم بمواعيد أمي على نحو لا يصدق. لا يخلو اسبوع من موعدين على الأقل. لكن ليست كلها في المستشفى الجامعي لحسن الحظ. اثنين في مدينة الملك فهد الطبية، بقي واحد منها. إما أنه سيكون نفحة من الأمل والشعور بالكرامة هذا الموعد، أو فقط تذكير مؤلم بما علينا أن نتعامل معه دائما من سوء حظ في المستشفى الجامعي.


كنت قد اتفقت مع الدكتور الألماني على اللقاء قبل أكثر من اسبوع في موعدنا المعتاد. لكنه اتصل وقال بأنه زميله، دكتور سعودي، طلب منه وألح أن يحضر اجتماع لمجموعتهم البحثية في البر، وقد أخبره الدكتور الألماني بأنه على موعد في الثامنة، فوعده بأنه سيكون في منزله في السابعة والنصف. علمت أن الدكتور تعرض لخدعة، فلن يعيده من البر في المساء في وقت العشاء، لقد خدعه ببساطة ليأتي، دون أن يهتم بخططه وما يريد هو. وكان ما توقعت؛ اتصل بي الدكتور معتذراً في وقت لاحق، قائلاً بأنه لن يتمكن من العودة، إذ أنهم سيبقون للعشاء. بدا مرهقاً، وغير سعيد بالأمر.
في الأسبوع التالي، بدا أن الحظ لم يكن حليفي أيضاً، في البداية. كان الدكتور سيسافر يوم الأحد، ولكنه قدم سفره إلى الجمعة، ولقاؤنا تم خلافاً للعادة يوم الخميس، أي أنه لن يمكننا أن نطيل البقاء كما حدث في المرات الأخيرة. علمت بهذا حينما التقيته، وقد ضاع بعض وقت اللقاء بإحضار سيارته من المغسلة.
جلسنا في المقهى وتحدثنا، كان سيذهب إلى أمريكا، وكان لدي ما أريده أن يحضره لي من توافه. حينما جاء الحساب، رفض كالعادة تركي لأدفع، متجاهلاً إلحاحي. كنت أساساً متوتر وغاضب لأنه سيعود إلى منزله باكراً وقد كان جلوسنا الذي انتظرته قصيراً، ذلك أنه ترك عاملاً ليصلح بعض الأمور هناك. احتجيت وألحيت بالاحتجاج، فحاول أن يفهمني بأنه كوالدي، وأني يجب أن لا أقلق لأمر الدفع، سوا أن قلقي ونزقي واستمرار احتجاجي جعلاه يقول إرضاء لي أخيراً بأنه سيتركني أدفع في المرة القادمة. ثم اتصل العامل، وقال بأنه فرغ من عمله؛ فقال الدكتور بأنه يجب أن يعود، مما أعاد احتجاجي مجدداً. قلت بأني لم أره منذ اسبوعين وهاهو يغادر باكراً، قلت هذا وأنا أفكر بنقمة بذلك الدكتور السعودي النصاب الذي أفسد خطتنا الاسبوع الفائت بأنانيته. ضحك وطلب مني أن لا أحتج، ولكني كنت متضايقاً فعلاً، فلم أسمع، وألحيت بالتذمر. حتى قال مراعياً بأننا إذاً سنذهب معاً إلى بيته، ونكمل أحاديثنا هناك. سعدت بالأمر، لأول مرة سأرى بيته. كنت أتخيل بأنه مكان فوضوي نوعاً ما وشديد البساطة. كان بسيطاً بالفعل، لكنه كان أنيقاً وجميلاً ومرتباً من الداخل، بإضائة صفراء وأثاث قليل ولكن أنيق، وأرضية خشبية فاتحة، مثل غرفتي، مع فارق أنها خشبية حقاً، وليست فقط بشكل الخشب. جلسنا نتحدث، كنت سعيداً وقد تحسن مزاجي. طلب أن أقرأ له آخر قصائدي، فوجدها معقدة وطلب إعادتها، ثم طلب إرسالها إليه ليتمعن بها أكثر. وتحدثنا عن أبنائه، ونحن ننظر إلى صورهم الفنية الجميلة. كلهم مثله؛ جميلو الخلقة. جرنا الحديث إلى مسرحية ابنته، التي تحدثت عنها في المدونة في وقت سابق، وعلمت بأنها موجودة على اسطوانة فطلبت أن يحضرها لي حينما يذهب إلى هناك. ثم فطنت، قلت بأنها ستكون بالألمانية، فلن أفهم شيئاً. قال بأنها بأربع نسخ، بأربع لغات. الانقليزية، والفرنسية، والألمانية، ولغة أخرى اسمها الرومانش. قلت: آه، هذه اللغة التي تتحدثها أقلية قرب إيطاليا في سويسرا، ويخاف الناس عليها الآن من الضياع؟. اقطب وقال نعم. واعتدل من جلسته المسترخية، وتسائل كيف أعرف هذه المعلومات؟ وامتدحني على نحو لا أستحقه، إذ كانت معرفتي لها صدفة. قال بأني أذهله باطلاعي، وتساءل كيف يعرف أحد في السعودية عن هذه اللغة المجهولة. أخبرته بأنها مصادفة، هذا شيء يقرأه المرء ويعبر به. مثل هذه اللحظات تحرجني، وتشعرني بأني متظاهر دون قصد، فحينما تقول معلومة صغيرة يحسبك الناس تعرف الكثير، وهذا أمر محرج.
تحدثنا حول أمور كثيرة، ورأى المدونة. يقرأ بعض الكلمات العربية، لكنه لا يفهمها، ويقرأها بلكنة مصرية، يجعلني الأمر أريد أن أضحك أحياناً.

بعد بعض الوقت، قررت الذهاب لأتركه يرتاح. خرج معي، وفي الطريق سألته إن كان الدكتور السعودي قد اعتذر منه في الأسبوع الفائت عن كذبه عليه. قال بأنه لم يعتذر فعلاً، قال فقط بأنه آسف ولكن أليس الجو والمكان جميلاً؟. مما أثار حنقي بشدة، إذ تأكد لي أنه كان ينوي منذ البداية إحضار الدكتور معه وعدم إعادته في الوقت المناسب، وهو يظن بأن التجربة التي يقدمها أهم وأفضل بالتأكيد من خطط الدكتور الأخرى (أنا بالواقع). قلت وقد عصبت بأن هذا شخص مخادع، فقد كانت نيته منذ البداية أن يأخذه ولا يعيده بالموعد، فهو لن يتعب ويكلف نفسه، وبنفس الوقت يظن بأنه صنع به معروفاً، بينما هو صنع معروفاً بنفسه بالواقع، هو ككثير من الناس هنا لا يهتمون بما يريده الآخرين، يهتمون بتنفيذ ما يريدون فقط حتى لو كذبوا وأسائوا لخطط الناس ورغباتهم. لقد كان ينوي أن لا يعيده منذ البداية، ويحسب بأنه يصنع خيراً هكذا مع ذلك. قال الدكتور بأنه يعتقد هذا، وأنه تضايق كثيراً بالفعل، وأنه على الأغلب لن يصدق مرة أخرى أو يلبي مثل هذه الدعوات. قال بأنه لا يحب هذا الجانب من الثقافة هنا؛ عدم المبالاة بظروف الآخرين طالما يريد المرء شيئا محدداً منهم. 

كنت قد سألته عن شخص رأيته معه بالجامعة، عربي، وقال بأنه زميل في القسم. سألني إن كنت لم أرتح إليه؟. قلت بأني لا أرتاح عموماً للدكاترة العرب، منهم السعوديون، لكن يوجد فارق. حيث أني حينما جئت إلى الجامعة كنت أحسب بأن التصرف على الطبيعة واللطف مع جميع الناس هو شيء جيد، لكن، وجدت أن الدكاترة العرب بعمومهم حينما تكون لطيفاً معهم فهم إما سيسيئون بك الظن ويحسبونك تريد منهم شيئاً، أو يسيئون النية تجاهك ويفهمونك على نحو خاطئ فيحاولون استغلالك، بسوء أحياناً. أما الدكاترة السعوديون فهم لن يلاحظوا وجودك أصلاً. وأخبرته بأني لهذا صرت أتجنبهم بشدة. قال بأنه يقدر ما أشعر به، لكن يجب أن أتغلب على مشاعري السيئة هذه.





في المقابل، قابلت همام، الصديق الصيني الصغير، ليريني الصور التي التقطها في لبنان، حيث ذهب إلى هناك في الإجازة الأخيرة للسياحة. لست ممن يشاهدون التلفاز تقريباً أبداً، ومع أني أرى الصور على الانترنت والمجلات والجرائد، إلا أني لم أهتم من قبل برؤية بلد عربي بتمعن على وجه الإجمال. صحيح أن لبنان وأهلها أكثر قبولاً لدي من سواهم، خصوصاً من جيرانهم، إلا أن اهتمامي بعيد عن بلدهم كل البعد، ككل البلدان العربية، مع استثنائين؛ اليمن وعمان. مع ذلك، وجدت أن همام، وهو مصور موهوب، قد التقط صور لأماكن لم أتخيل وجودها في لبنان. إنه ليس شيء غير معقول من حيث كمية الخضرة مثلاً، لكن من حيث التكوين الطبيعي والإرث الإنساني. رأيت شلالات جميلة جداً هناك، تهبط من أنهار إلى هاوية الوادي السحيقة، وحول النهر في الأعلى وحتى الحافة الصخرية المحيطة بالشلال، توجد بيوت قرية جميلة.




يوجد أثار جميلة كذلك، لكني كنت أعلم بوجودها ونوعيتها. الأسواق البسيطة والأرصفة الأنيقة على نحو غير متكلف أعجبتني جداً أيضاً. لا يوجد شيء استثنائي جداً باستثناء المساقط المائية والأودية الحجرية الجميلة التي تعتليها القرى حتى الحواف، حيث يبدو المكان جميل ومريح للعيش فيه، ولكن ليس أعجوبياً تماماً.
لست أقول بأنها لا تستحق الزيارة، لا، الآثار جميلة جداً، والمدنية راقية، والقرى بديعة، والناس حسب معرفتي ووصف همام طيبون.
بعض الممرات المحاطة بالمقاهي هناك ذكرتني بصور الأحياء التاريخية في الصين، وقد قلت هذا لهمام، ووصفتها بأنها الشوارع التي يجلس الناس في أطرافها على طاولات، ويلعب المسنون على الطاولة لعبة بأقراص صغيرة، قلت: تسمى: الماجونق. صمت متفكراً؛ ثم هتف: آآآه الماجيونق، ثم نظر إلي نظرة جانبية بعينيه الصغيرتين المليحتين وهو يبدي إعجابه بمعرفتي!!. 
بالطبع، لا أعرف كيف أكتب اسم اللعبة كما نطقها همام، حيث أن نطقي، وهو المكتوب على لساني أعلاه، ثقيل ظله بالمقارنة إلى أقصى حد، بينما يقولها هو بطريقة الصينيون التي لا أعرف كيف أترجمها إلى أحرف عربية، مع شعوري بأن خبير باللغة قد يستطيع كتابتها. تخرج الأصوات من مقدمة الوجه في الكلمة كلها، وفي معظم اللغة المندرية حسب فهمي، باستثناء حروف حلقية كالهاء، وحرف الخاء. ولكن ككل، يبدو وكأنهم يتكلمون من منطقة وسيطة بين الأنف والفم، أو وكأن الأنف والفم يتناوبان نطق الحروف المختلفة في الكلمة الواحدة.

أراني كذلك صور وفيديوهات التقطها في الجنادرية، خصوصاً للأوبريت، الذي لا يمثل الفلكلور بدقة بقدر ما أنه رقصات وأزياء مصممة للإستعراض والإذهال البصري. كان مهتماً بمعرفة انتماء الازياء إلى المناطق، والرقصات كذلك. وكما أعتقد منذ زمن بعيد، الرقص الجيزاني هو الأجمل، وقد وافقني همام
تكلمنا عن مناطق السعودية، وما يستحق الزيارة. سألني عن أكثر ما أحب من مدن السعودية أو مناطقها، هل هي الرياض؟ قلت بأني أحب الرياض حيث عشت طوال حياتي. لكني أحب القصيم أكثر. سألني لماذا؟ الهواء هناك طيب، والنخيل كثير، وأنا من هناك أصلاً. قال بأنه زار القصيم وأعجبه، كان قد ذهب لمساعدة وكالة الأنباء الصينية على تغطية مهرجان التمور السنوي في بريدة. وقال بأنه زار المزارع، ورأوا نبتة تزرع، يسمونها باللغة الصينية تساتسو أو  شيء من هذا القبيل. حسب وصفه، شعرت بأنها الكراث، ثم تأكدنا باستخدام الأجهزة للترجمة بأن ما رآه هو الكراث. أخبرته عن النكات المتعلقة بالكراث، واتهام أهل القصيم، خصوصاً النساء، بأنهم مدمنون عليه.



تفرجنا على الصور ثلاثية الأبعاد التي التقطتها بالثري دي اس، جهازي الجديد. وقد أعجبته جداً. إن الصور الثلاثية الأبعاد تعطي بعداً آخر للإبداع بالصور، وأعتقد بأنها ستصبح مقياسية قريباً جداً في الأجهزة




سأدعو الأصدقاء إلى العشاء في المنزل، كما فعلت في العام الفائت، وهم نفسهم باستثناء واحد. ذهبت الدكتور الصيني الكبير إلى بلاده، وسيحل محله خالد؛ صديق همام والمسلم الجديد. وبالطبع الدكتور الألماني الكبير وكذلك الألماني الأصغر. والتركي.





اليوم رأيت الدكتور التركي، الذي عاد مؤخراً من تركيا لينهي إجراءات خروجه النهائي من السعودية للأسف. إنه أمر حزين أن نخسره. يقول بأنه تعب من تعقيدات الخروج والعودة من وإلى البلد، الكثير من البيروقراطية، وإن خرج يخاف أن لا يتمكن من العودة، وإن عاد يخاف أن لا يتمكن من الخروج. وإجراءات الجامعة المتخشبة، وأعتقد أن عائلته كذلك لم ترتح في المكان تماماً. خسارة... كنت أرجو أن أصادقهم جميعاً، وقد حضيت بقبولهم، وثقتهم.
أوصلته إلى منزله، وكان مصراً على تقديم شيء لي، أراد أن يدعوني لأكل حلوى، لكن الوقت كان ظهراً والمحلات مغلقة. أراد أن يكافئني بأي شكل رغم أني لم أقم بشيء. أخبرته بأني أرجو أن تتأخر إجراءاته أكثر قليلاً، ليتمكن من حضور دعوتي لأصدقائي إلى العشاء. المرة الفائتة لم يتمكن لأنه كان مدعواً لدى السفير التركي.
يسألني دائماً؛ متى ستزور اسطنبول؟. مثله في ذلك مثل الأساتذة الماليزيون، الذين يسألونني متى سأزور ماليزيا دائماً، ويحاولون إقناعي بترتيبهم لزيارتي. أحدهم اقترح ذات مرة أن أتزوج ماليزية. ولما ظن أني أخذته على أنه يمزح أوضح جديته. أخبرته بأن الماليزية قد لا ترغبني، فلست أملك الكثير من المال ولا أعمل في وظيفة كبيرة. قال بأن الماليزيات لا يهمهن المال، إنهن يردن حسن الأخلاق، والشكل(الله لا يعمينا). كانت مجاملة كبيرة. شكرته عليها. هو شخص في قمة اللطف، وكذلك بقية الأساتذة الماليزيون. إن فيهم لطف ورقة في التعامل تستعصي على التصديق.





ذهبت إلى دايسو بصحبة أختي. لكننا استمتعنا بوقتنا، ولسبب ما لم تقترح أختي الخروج بسرعة من المحل رغم أني أعلم بأنها ملت. اشتريت الكثير من الأشياء، أشياء أعتقد أنها مهمة، علب للماء، وحافظات برودة، ورداء نايلون عن المطر، وأشياء من هذا القبيل.


يومين ويعود الدكتور الألماني إن شاء الله من أمريكا.


غداً سنذهب إلى مدينة الملك فهد الطبية، ورغم الزحام والطريق المتعب، ووقاحة الأمة في طريق خريص، إلا أني أشعر بالانتعاش للفكرة، وما العيب؟ أحب أن أشعر بالكرامة هناك، بعد الإذلال الدائم في المستشفيات الجامعية. إن الذهاب إلى المستشفى يشكل حدثاً في حياتي وأمي دائماً، مهما كثرت المواعيد وتقاربت.

وبذكر المستشفى، رأيت رجل من أنصاف المطاوعة على ما يبدو، وهؤلاء نوع أسوأ مما يبدون عليه، لأنهم حائرون بالمنتصف، ويصعب التفاهم معهم لأنهم يريدون إيصال صورة غير واضحة عن أنفسهم، وربما غير واضحة بالنسبة لهم أيضاً، بخلاف المطاوعة. هذا الرجل أوقف شاب من النوع الذي يعقص شعره على نحو غير مستحب هنا، وإن كان منتشراً كثيراً هذه الأيام. ولا خلاف لدي لو كان أوقفه بعيداً عن الناس، وحاوره بأدب، ونصحه بما بدا له دون جرح، ناهيك عن فضيحة. الرجل أوقفه أمام مسجد المستشفى، وجعل يناقشه على نحو لافت ومحرج، ويقول له: أنت مسئول، أنت منت بدادا! (لست طفلاً صغيراً). بينما الولد يحاول أن يفلت من الموقف المحرج وقد تجمع وجهه بيأس وخزي مؤلم لمن ينظر، كان الناس كثرة في المكان. كان الإمام قد أقام، والرجل لا زال يحاول أن يفضح بالولد أكثر. شعرت باشمئزاز شديد. أنا أيضاً لا أحب هذا الأسلوب، عقص الشعر المائع برأيي، لكن هل هو جريمة؟! والمشكلة أن الولد كان قادم للمسجد بوضوح، فيرجى فيه الخير والله حسيبه. لم أكن لأنصحه حول شيء لا أدري هل هو حرام أم حلال، ولو كنت أعرفه جيداً، لو كان أحد أصدقائي، لربما تكلمت معه على مستوى الثقافة التي تتبدل على نحو غير محكوم ومقلق، فالأمر شخصي. لكن، حتى هذا أمر قد لا أقوم به إلا في مستوى معين من المعرفة بيننا، وبظرف ضيق أيضاً. بدا الرجل الذي استوقف الشاب الذي يرد بضعف ويحاول إنهاء الأمر غبياً إلى أقصى حد، ولكن واثق أيضاً بنفسه كنموذج يحتذى. بعدما صلينا، رأيت الولد، ورأيت الرجل يصلي، إذ فاتتهم ركعات مما يعني أن النصيحة الفضائحية، التي قد لا يكون لها داع حتى، قد طالت وكانت حول أمر أهم من الصلاة نفسها بالنسبة للرجل على ما يبدو. ماذا كان يضر لو انتظره حتى بعد الصلاة ومشى معه بودية ولطف خارج المسجد، إلى حيث يريد أن يذهب، ليعطيه وجهة نظره إن كان مخلصاً لمبادئه إلى هذه الدرجة؟. نظرت إلى الرجل ذو اللحية المشذبة وأنا أخرج، وشعرت بأنه يبدو وهو ساكن أكثر بلاهة حتى مما بدا عليه وهو يشير إلى شعر الولد.
أنصاف المطاوعة هؤلاء عانيت منهم في حياتي كثيراً. هل تريد أن تعرفهم؟ إنهم غالباً من ينصحون حول شيء وهم يقومون بنفس ما يعتبرونه خطأ، وحينما تقول لهم ولكن أنتم تفعلون هذا يقولون: طيب إذا كنت أنا كذا تصير مثلي؟!. أو؛ ينهون عن شيء، ثم بعد فترة يقومون به نفسه.



 عرفت أن سوق العثيم مول على الدائري يسمح بدخول الشباب على ما يبدو. كنت أريد شراء بعض النواقص التي فكرت بها بعد المرة الأولى في دايسو. سعدت بالأمر بصراحة، لم أتجول في السوق، ذهبت رأساً إلى المحل، ولكني كنت سعيد بأنه لم يعترضني أحد. اشريت عدسة صغيرة، تثبت فوق الورق لتجعل الأحرف أكبر وأوضح. اشتريت اثنتين، واحدة لأمي، والأخرى للمدير الذي يواجه مشاكل مع الأحرف والأرقام الصغيرة طوال الوقت، ويستعين بمكبر وكأنه محقق، دون فائدة أحياناً. أمي كالعادة قالت بأنها لا تريدها، لكني تجاهلت الأمر وتركتها قرب سريرها، فقد تغير رأيها لاحقاً. أما المدير، وهو شخص حساس جداً تجاه ما يأتي به الناس، ومحب للأشياء التي آتي بها إليه وأريه إياها بالعادة، فقد قلت له بأني أحضرت له شيء سأبيعه عليه. ابتسم ودخل مكتبه مباشرة لأريه إياه. أريته، وفككت الغلاف وأعطيتها له وأريته كيف يستخدمها. لم أره سعيد إلى هذا الحد منذ زمن بعيد. كان فرح وجذل، لعل معاناته كانت أكبر من تصوري. سألني عن السعر، فقلت بأني سأبيعها عليه بريالين. حاول معرفة السعر الأصلي، فقلت بأنه لا يدخل محل ويسأل البائع بكم اشترى بضاعته، حاول معرفة السعر ولكني تمسكت بسعري الذي حددته فاستسلم، لكنه لم يدفعها بعد، وأرجو أن ينسى أمرها فهو كثير النسيان أصلاً. كانت بسبعة ريالات، ولكني أحب أن أهديه إياها، ولكن هذا مستحيل، ولو قلت ريالاً سيكون الأمر مفضوحاً وأكثر ابتذالاً. ريالين أقرب إلى الهدية والبيع المقنع.








سيارتي أصبحت جيدة أخيراً، صارت تعود إلى الوراء. لكن يظل هناك إشكال المكيف والكوابح. حينما ذهبت إلى الوكالة، عبداللطيف جميل، للحصول على قطع الغيار، قيل لي أن الموظف المسئول عن ديهاتسو قد غادر. ليست أول مرة يحدث الأمر معي، فهذه الشركة لا تشكل أولوية على نحو غريب للوكالة عكس تويوتا، وكأن زبائنها أقل أهمية، يأخذون السيارات صدقة بلا مقابل على ما يبدو. قيل لي أن دوامه أقصر، لهذا يرحل باكراً ويبقون هم. أما أنا، فيجب أن أعود بما يوافق دوام الموظف الخاص.

كم أكره هذه الوكالة المريضة.



عاد الدكتور اليوم، أبلغني برسالة. هذا الخميس إن شاء الله سيتعشى مع الأصدقاء الآخرين لدينا.



شعرت بالمرض في بداية هذا الأسبوع، وقد أغاضني الأمر لأن دعوتي للأصدقاء الأجانب في نهاية الأسبوع، رجوت الله أن لا يطول مرضي، وكافحته بشدة والحمد لله أجد أني بخير معظم الوقت. كحة وألم بالصدر والحلق وشبه زكام. العسل الجيد ممتاز في هذه الأحوال، لدي عسل فرنسي آكل منه ملعقة، وهو مدعم بالهلام الملكي، بينما العسل الآخر، سويسري الصنع، وهو بلا إضافات، أحلي به مشروب القنسنق، كما أشرب عند الضرورة البابونج بالعسل والفانيلا. هذه الأشياء تشعرني بالارتياح وألاحظ تحسني بعدها. لكني اشتريت حبوب كلارينيز زيادة في الاحتياط.
إني قلق جداً فيما يخص الدعوة. أرجو أن يستمتعوا بها وبالطعام.





هذا مقال عن أهل القصيم عموماً وأهل بريدة خصوصاً. وهو مقال جيد، في ظل سوء الفهم والتدليس الذي يسعد بعض الناس بترديده دون تبيّن أو تفكير (تفكير؟ هه).
http://www.al-jazirah.com/20110615/ms5d.htm





المزاج والرأي، عجيب تقلبه. أحياناً أجد نفسي فجأة معجب بشيء لم يكن يعجبني، والعكس صحيح. موسيقى مثلاً كنت لا أحبها، لكن الآن حينما أسمعها أشعر بأنها معبرة عن مرارة الغربة والاستوحاد، فأصغي إليها بشعور عميق. الكاتب زياد الدريس، بدأت بفقد اهتمامي بمقالاته، بعدما كانت تعجبني. حدث الأمر تدريجياً. أعجبني في البداية مقال له، ولا زال يعجبني، لكن مقالاته الأخرى بدأت تفقد بريقها، وبدأت أدرك أنه لا يكتب عموماً عن ما يهمني، وربما لا يكتب دائماً بالجدية المطلوبة. لا زلت معجب ببعض ما قرأت، ولم يتغير رأيي بالمقال الذي أعجبني في البداية، لكني وجدت أن انتظار مقال آخر بنفس الجودة منه مضيعة للوقت في قراءة مقالات لدي عليها مآخذ من حيث السخرية الزائدة والتبسيط الممجوج مع الإيحاء بعمق التفكير والتفرد على نحو لا يعجبني. أعتقد أني اكتشفت بالنهاية أني أُخذت مخدوعاً بأسلوب شخص هو مجرد دكتور سعودي بالنهاية، حاز على تدليل المجتمع كجميع أقرانه أو أكثر قليلاً، وخالط الأشخاص الملائمين لصعوده المهني، واكتسب الموهبة من راحة البال، وربما اكتسب طريقة تفكير مميزة بشكل ما، إلا أنها لا تعجبني. أي؛ دكتور سعودي في النهاية وجوهرياً، لا أكثر، أو ليس أكثر بكثير، فرح بنفسه، سعيد بمنصبه المميز، وعيشه في باريس. كنت أعتقد أنه محظوظ.





يصل الناس إلى المدونة كثيراً بطرق غريبة. توضح لوحة التحكم في الإحصائيات طريقة وصول الناس بقدر الإمكان. تعرض أحيانا ما كتبوه للبحث عن شيء ما فوقعوا على المدونة ودخلوا من النتائج. أحيانا تكون أشياء لا علاقة لها إطلاقاً، وأحياناً أشياء يتذكر الناس على نحو غامض على ما أعتقد أني كتبتها ويريدون العثور مرة أخرى على النص. وأحياناً أشياء مخجلة يبحثون عنها فتخرج مدونتي في النتائج لتوافق كلمة فيأتون. وأحيان أخرى يبحث عن اسمي فقط، وهذا شيء يتكرر كثيراً، أو عنوان مدونتي، ويوجد من يبحث باستمرار عن: آخر ما دون سعد الحوشان. رغم أن آخر ما دونت لا يظهر بالضرورة في النتائج، لكن ربما يتمكن من يبحث من الوصول إلى آخر ما قلت بالرجوع إلى الارشيف.
أما أغرب ما بحث عنه أحدهم، وكان لبحثه علاقة فعلية بي بحكم ورود اسمي؛ فهو ما لفت انتباهي اليوم، لأني لم أفهمه، أو أفهم المقصد.
كتب من بحث عني يقول: سعد الحوشان لا اعرف كيف اقول لك انك كالماء.
هذه جملة مفيدة غير معتادة، وغير مفهومة. والبحث تم في نطاق قوقل السعودي. هل كان يبحث عن قولي لهذه العبارة؟ لكني لم أذكر شيء مشابه. أو هل كان يبحث هكذا لأنه عرف سابقاً بأني أحب الماء والتحدث عنه؟، لكن لماذا تكون العبارة بهذا الشكل الموحي بغير ذلك. أو هل يريد أن يكتب هكذا، لأنه خبير ويعرف فكرة رؤيتي لنتائج البحث، ليوصل إلي رسالة بشكل ذكي جداً؟ لكن؛ على أن هذا الأمر غير وارد، ولأني لا أعتقد أن هناك من يهتم بإيصال رسائل غير مباشرة، كما أن الوسيلة غير مضمونة إنما على جانب من اللا معقولية، وكأنها محاولة يائسة، مع أنها نجحت بالوصول، رغم كل هذا إن كان الأمر مقصوداً كرسالة فهو غير مفهوم تماماً.







كان أمس يوم منتظر، إذ استقبلت ضيوفي أمس في منزل أختي، للمرة الثانية. كان هناك ما لذ وطاب، ولا شك لدي بأن الجميع استمتع، لكني لا أدري لماذا أشعر بأن التجربة ناقصة، وليست بكمال الأولى العام الفائت.
استمتعنا عموماً بوقتنا جيداً، تحدثنا كثيراً وأكلنا وشربنا كثيراً. محمد ابن اختي ارتدى الثوب كما طلبت، وجاء ليسلم. كان خجلاً هذه المرة. أحضر الدكتور الألماني الدمية المضحكة التي طلبت منه أن يشتريها لي من أمريكا. ولكنه أخطأ بإخراجها بوجود محمد، قلت ضاحكاً (كانت صيحة بالواقع انتهت ضحكة) حينما أخرجها وضغطها لتتحدث: اوه يا دكتور ما كان عليك إخراجها بوجود محمد، الآن سيأخذها مني. فوجئ الدكتور، وقد تناولت منه الدمية، فجاء محمد مباشرة وأخذها مني سعيداً بها. ضحك الجميع، وطمأنت الدكتور أن محمد سيشاركني بها فقط (!!)، إذ لدي دمية في المنزل على شكل ضفدع منذ سنوات (أقرب إلى وسادة صغيرة بالواقع)، وهو يلعب بها لدي. ذهب محمد مباشرة ليري أمه الدمية، التي تغني وتتكلم بالخرابيط وهي تفتح فمها المستدير المضحك فتبين أسنان صغيرة مليحة.
كان هناك الألمانيين الاثنين، وهمام وخالد الصينيون، والدكتور التركي الذي دعاني قبل فترة طويلة للإفطار مع عائلته في رمضان مضى. كان قد أحضر معه حلوى عربية لذيذة، كان يريد أن يذيقني إياها وهو يقول بأنها أفضل ما ذاق ولا حتى في تركيا يصنعون مثلها. كنا قد ذهبنا من قبل تحت إصراره لكن وجدنا محلها مغلقاً. وكانت فائقة الروعة.

لم أرى الدكتور الألماني الذي عاد قبل فترة قصيرة من مهمة عمل في أمريكا، فطلب أن يطلع على ردود الطبيب الألماني في القصيم. كان الطبيب الألماني قد تأخر جداً بالرد علينا، بإخبارنا بما فعله بوعده أن يسأل عن علاج لابنة أختي في ألمانيا، وأن يخبرنا عن رأيه بأشعة أمي التي قمنا بها بالرياض وبعثتها إليه عبر البريد قبل وقت طويل. كان الدكتور الألماني (صديقي) قد راسل رئيس الطبيب، طبيب آخر، وسأله عن سبب التأخير وحثه على الإرسال. لكن الرسالة بدلاً من أن تصل إلي وصلت إلى أخي الذي راجع مع الطبيب لأجل ابنه، وليس لديه خبرة حول حالة ابنة أختي أو أمي. أرسل أخي إلي الرسالة التي وصلته، مع استغرابي من عدم ارسالها إلي رغم إعطائي بريدي مرتين لهم وبعثي لرسالة مع الاشعة تحوي معلومات الاتصال وما نريد معرفته. مع ذلك، بدت الرسالة غامضة، وما اتضح منها غير مفيد، كما أنه لم يذكر أي شيء عن أمي، فقط القليل عن ابنة أختي. رددت طالبا الإيضاح، ومذكراً بأمر أمي. رد بإيضاح لا يقل غموضاً، وهو أمر أرعبني، إني أترجم الكثير من التقارير الطبية من شتى الجهات ولم أمر بمثل هذه الصعوبة بالفهم قبل الآن، شككت بقدراتي كثيراً، وانتابني الخوف من المستقبل القريب. أما أمي، فقال بأنه سيراجع المستشفى لاحقاً ليرى ملفها، ولم أتلقى رداً بعد ذلك لفترة طويلة.
في الوليمة أمس، أقول طلب الدكتور الألماني ان يرى رسائل البريد، فتحتها وأريته إياها، في البداية انتابه غضب قوي، وقال بحدة بأن الطبيب أحمق. وتسائل كيف يكتب بهذه الطريقة؟ كان يقرأ الرسالة الأولى، قبل أن يقرأ ردي وطلبي للإيضاح، فقلت بأني سألته الإيضاح، وربما كان يعتقد بأني أفهم بشكل أفضل. لكن الدكتور أصر بأن الطبيب أحمق ولا يكتب جيداً ولا يعرف كيف يوضح، وأنه يقوم بهذا عمداً ليغطي جهله بالحالة. أخبرته بأني طلبت الشرح، وأريته الرسالة الأخرى ورد الطبيب عليها، فأصيب بغضب كبير، وتوعد باتخاذ موقف وتوبيخهم، وأنه قد يقطع علاقته معهم لتعاملهم معنا هكذا، فهو لا يريد أن يكون له ارتباط مع أناس لا يعبأون بالآخرين هكذا، وعليهم أن يعدلوا من أسلوبهم واهتمامهم. أخبرته بأنه ربما سوء فهم، ربما حسبوا بأني أفهم أكثر مما أفهم بالواقع، لكنه أصر، وقال بأنه سيحدث رئيسهم غداً ويوبخه، ويسأل لماذا لم يقولوا شيئاً عن أمي، ولماذا كل هذا التأخير واللامبالاة والغموض.
هل تعرض سوانا معهم لنفس الموقف من التأخير وسوء الإيضاح؟ أتمنى أن لا يكون ذلك، فليس الكل يعرف الدكتور الألماني ليساعده.

بعد الحلوى، ثم الحبق والشاي، خرجنا. كان الوقت بعد منتصف الليل. كان أكثر ما تحدثوا عنه هو جودة الطعام، ويبدو أن أكلة جيب التاجر قد أصبحت ذكرى عزيزة لدى الجميع الآن.
أوصلت الجميع، وبقي همام وخالد، الأصدقاء الصينيون، كانوا آخر من سينزل في الجامعة قرب الإسكان. لكن عند مدخل البهو الجنوبي، شمال دوار الكتاب، وجدت شباب صغار، طلاب، يحاولون إسعاف حارس أمن تابع للجامعة، وهو يرقد على الأرض بلا حراك. نزلت مباشرة من السيارة وجريت إليهم، أخبروني بأنه وقع على وجهه فجأة بعنف. كان فاقد للوعي تماماً. اتصلت برقم ٩٩٨ وسألت من رد إن كان هذا رقم الإسعاف، لكن الذي رد تركني انشغل بالتحدث على من بجانبه، ثم عاد إلي وقال نعم؟ ولما كررت السؤال عاد لينشغل بمن بجانبه يتكلم معه ويقول: لا لا مصري. فقدت أعصابي وصحت بأعلا صوتي مكرراً السؤال. فقال: ٩٩٧. أغلقت الخط، وقررت أن آخذ الرجل بنفسي. لست أدري ما أصابه أو إذا كان تحريكه بنفسي قرار سليم، لكن أفضل من انتظار حمقى آخرين ليستجيبوا. طلبت منهم حمله إلى السيارة، وقال همام بأنهم سيكملون الطريق مشياً، إذ كان السكن قريباً. أخذت الرجل، وكنت أسمعه يتنفس، مما طمئنني. في إسعاف المستشفى الجامعي، كان قد بدأ يستعيد وعيه. وبعد سؤاله بضعة مرات تمكن من أن يشكو من صدره بصعوبة. كان شاب صغير، ربما في الخامسة والعشرين على الأكثر، وسيم الملامح، ومرتب جيداً.
شكروني، بعدما أخذوا رقمي واسمي، فمضيت. أتمنى أنه صار على ما يرام.



كان اليوم متعباً على نحو استثنائي في العمل. مثل أيام الاسبوع الفائت بشكل عام. غالباً ما ينحصر الأمر بمراجع او اثنين يعانون من مشكلة معقدة ويترددون لحلها. الكثير من المظلومين.
المشكلة هي أنه يوجد من لا يتفهم معنى الدور، واختصاص العمل. حينما أكون أعمل لمساعدة أحدهم كمترجم، أجد شخص يعتقد بأنه علي أنا بالذات أن أقوم بعمل معين لأجله، في حين يوجد أشخاص مختصين في جوارنا لا يرفضون القيام بعملهم، ويؤدونه بكفائه، لكن يتصور بأنه سيختصر الوقت من خلالي، أو لمجرد... لا أدري، والله لا أدري. فوجئت بأحدهم قبل فترة يقف فجأة، وهو رجل أجنبي كبير، ويناديني من خلف زجاج الاستقبال، ليطلب مني نزع ملصق يحمله من غلافه الواقي، قائلاً بأنه لم يعرف كيف ينزعه، في حين تبرع دكتور عربي ضاحكاً من اعتباطية الموقف بنزع الملصق لأجله وتركي أمضي لعملي، إلا أن الرجل رفض بجفاء (!!)، وأصر على إعطائي الملصق. نزعته له، فابتسم فرحاً بانتشاء. لماذا لم ينزعه بنفسه؟ الله أعلم، لماذا أنا بالذات؟ الله أعلم. يوجد مواقف تعبر هكذا أحياناً. ولكن الأغلب، أن البعض يريد أن يختصر الوقت من خلالي، ظاناً بأني يمكنني أن أقوم بالمستحيل. وأحياناً لمجرد الاعتقاد بأنه صديقي وسأجعله يسبق الآخرين.





اتصلت اليوم على الدكتور الألماني، إذ أوصاني أن أسأل له عن بعض الإجراءات، وأخبرني مباشرة بأنه تواصل مع الأطباء الألمان بالقصيم، وصب جام غضبه عليهم. وعدوه بأن يصحح الوضع بأسرع ما يمكن. كنت شاكراً، لكن خيبة ظن أهلي أفقدتهم الثقة على ما يبدو بالتشخيص حتى، رغم تقديرهم لجهود الصديق الدكتور. أخبرته بالإجراء، للحصول على مستحقاته من رحلته الأخيرة التي قام بها لأجل الجامعة، ولم يبلغه أحد أنه يستحق دعماً مالياً عليها!!، أي تركه قسمه يصرف من ماله الخاص دون إيضاح لمستحقاته، ولو لم أعلم عن الأمر لكان قد عمل مجاناً. هو عمل للجامعة، ولا أدري لماذا لم يخبروه بما يستحق معرفته.
قال بأنه هذا الخميس مدعو لمكان ما، ثم فطن بأننا نلتقي الاربعاء، فلا مشكلة إذاً. لكني رددت بطريقة مستبدة بأنه حتى لو كنا سنلتقي الخميس، كنت سأحدد موعد آخر لأراه، فلن أدعه يفلت من رؤيتي. ضحك كثيراً وقال بأنه يحب رؤيتي. طبعاً كان ما قلته للعلم فقط، وكنت أمزح بالطبع.





أقرأ هذه الأيام رواية للأديب الهندي المعروف طاغور، اسمها قلوب ضاله. ما قرأته حتى الآن رائع جداً. لكن لا يمكنني حتى الآن الحكم على الرواية بأنها جيدة حتى أنهيها. بدايتها تطرح صراع أخلاقي ونفسي لدى البطل.
الرواية تزخر بالتشبيهات الأدبية الراقية والمذهلة، وهي مكتوبة بلغة شخص رفيع الأخلاق راقي الشعور. لكن، من أنا لأشهد لأديب كطاغور.





كتبت قبل وقت طويل عن مقال كتبه سفير بريطانيا السابق لدينا في جريدة الرياض، وقد كان مقالاً غبياً ووقحاً في رأيي. كان يناقش إسقاط تهمة إزدراء الأديان على بريطانيا، ويقارن الأمر بتهمة الإرهاب المسحوبة على المسلمين، رغم أن الحيثيات لا تدعم المقارنة الوقحة.
أما الآن، فسفيرهم الجديد يريد أن يتحاذق هو الآخر. يتحدث في مقال نشر في نفس الجريدة مؤخراً عن عادات الشعوب في الأكل، والإختلافات المثرية، ويحاول في النهاية تصوير الأمر كمثال على كامل أساليب الحياة، وهو يعلمنا كيف ننظر إلى اسلوب حياتنا باحترام، لكن مع تقبل أنه سيتطور مع الزمن (!!). إنه غبي، ورسالته التي يتخيل بأنها ذكية ومهذبة هي توجيهية على نحو وقح، وغير منتظرة منه في رأيي.
هذا الاقتباس من مقاله البائخ:
وأخيرا، أجد أن التحدي الحقيقي الذي نواجهه هو الحفاظ بشكل متوازن على تقاليدنا (وتقبل أنها سوف تتطور مع الزمن) و احترام و تقدير تقاليد الشعوب الأخرى، وبالأخص في عصر العولمة الحالي الذي يفرض علينا التواصل مع العالم من حولنا وعدم التقيد بحدود دولنا.

ليته يسكت ويهتم فقط بشئون رعاياه. فهو لا علاقة له ليخبرنا بما يجب أن نتوقع أو كيف ننظر للأمور، كما أن توجيهه للنصيحة على هذا النحو العام ينم عن ثقة زائدة بالنفس. إن أكثر ما استفزني هو حثه على تقبل شيء لا يخصه، وفهمي بأنه يرمي لأمور أبعد.

هذا الرابط للمقال:








لقد غرقنا ببرامج الستاند أب كوميدي على اليوتيوب وما ماثلها من عروض فارغة على الأغلب. كنت أحسب أن مشكلة استخفاف الدم، ورغبة الجميع في أن ينكت وينافس عادل إمام محصورة، فقط في عائلتي الممتدة، فإذا بها متفشية في البلد كله. لقد كثر السعوديون العاملون على مثل هذه البرامج. لكن ما لاحظته هو أن الأسوأ يأتي عموماً من المنطقة الوسطى والشرقية من حيث قلة احترام الناس والمشاهد، بينما الأرقى يأتي من الحجاز بلا شك. إن أصحاب العروض من المنطقتين الأوليين يعتمدون على جرح الآخرين بشكل عام حتى لو كانوا أطفالاً صغاراً، والتهريج والتفوه بأفكار لا معنى لها. وهم يأخذون حريتهم بالتلميح عموماً من منطلق (عادي شباب). أما الحجازيين فهم في هذه العروض على الأقل لا يتجهون إلى الإسفاف، وغالباً ما يبحثون عن انتقادات ذكية وإن كانت ساخرة (حتى وإن لم ينجحوا دائماً)، وغالباً لا يتجهون لجرح الناس إلا حينما يبلغ السيل الزبى، وعلى نحو أكثر معقولية من سواهم، وفي حدود ضيقة لا تكاد تذكر وسياق ملائم. إنهم أفضل وأذكى، وأجدر باطلاع العالم من الكثير من الأغبياء في المناطق الأخرى. ما الأمر؟ هل يشب الحجازيون هذه الأيام على تربية أفضل ومنطق أكثر تهذيباً من شبابنا؟ حقاً لا أدري، لكن ربما لم يتغيروا هم، إنما شباب المنطقة الوسطى والشرقية هو الذي تزداد طباعه سوءاً.
إني لست ضد الترفيه القائم على الكوميديا، لكنها أصبحت في الأمور الشعبية هذه هي كل ما لدينا تقريباً. وهذا أمر تسطيحي في رأيي.






أشعر بكآبة خانقة مما أرى من الظلم الواقع على بعض الناس مؤخراً. مهما حاولت، لا أتمكن من المساعدة. إني أشعر بالقهر واليأس. حاولت قبل قليل أن أساعد الدكتور التركي لوحدي، بخطوة مرتجلة. سدت كل الأبواب في وجهه، وهو قريب من الانهيار. قررت الدخول على عميد إدارتنا، وهذا آخر ما أحب القيام به، وآخر مكان أريد الاقتراب منه، مع ذلك... إن ظني لم يخب، رغم صدق محاولتي، لقد علمت بعدما بدأت الحديث بقليل أنه لن يساعد الدكتور. لقد اتخذ موقف متشكك منذ البداية، بتعبير وجهه، واسئلته المقتضبة والصفيقة، مثل: والمطلوب؟، وتغير وضع جسمه إلى الاستعداد غير الودي. لهذا، قلت ما يجب أن يقال فقط، ولم أطل النقاش، فهو بحكم من قال: لا يعنيني الأمر. اقترح اقتراح غير جيد، بدلاً عن التدخل المباشر أو الاستقصاء، أو محاولة المساعدة على المستوى الإنساني على الأقل، منح بعض الثقة. لكن...
خرجت من عنده بسرعة كما دخلت، وسمعته وهو يشكرني برسمية على اهتمامي، ولكن كان من الواضح وضوح الشمس أنه لا يريد لهذا الاهتمام أن يتكرر.
يوجد أيضاً دكتور هندي، معاناته كبيرة، وظلمه قد بلغ الحدود القصوى من سوء النوايا والقهر، حتى أني أتصور بأنه فقد اتزانه بشكل ما. شعرت بالألم وهو يشكرني، ويشكرني، على ما لم أتمكن من القيام به؛ مساعدته. إنه يعتقد بأن الله أرسلني إليه لأعينه ولأخفف عنه، مما يؤلمني كثيراً، ويجعلني أتمنى أن يرسل من هو أكفأ مني.
وكأنما مشاكل الناس لا تكفي، وجدت المشاكل طريقها إلي، وتغمرني الحيرة تجاه مديري العزيز، الذي بت لا أعرف كيف سأتعامل معه بعدما خيب ظني بشدة.

كل هذا جعل يومي سيئاً، ولم يكن تأثير اليوم وحده، لكن الأسبوعين الأخيرين بشكل غريب ضما أسوأ حالات الظلم التي اطلعت عليها بنفس الوقت، ففي العادة تكون متفرقة، وليست ضاغطة هكذا، ومُشعرة بالعجز الشديد. فكرت بأني أود أن لا أذهب في اليوم التالي إلى العمل، لأرتاح، ولكني تركت القرار للصباح. سوا أني لم أستطع النوم في الليل، ربما بسبب تجمع الهموم والشعور بالأسف والعجز. لم أذهب الصباح. مع ذلك، حتى بعيداً عن العمل لم يتحسن حظي كثيراً.
لكن الخبر السعيد أن أمور الدكتور التركي سارت أخيراً بدلاً عن جمودها، وصحيح أنه ظل مظلوماً، ولكنه على الأقل تمكن من تسوية أموره ليرحل لأجل أمر مهم. رأيته اليوم قبل رحيله. كان وداعاً مقتضباً لانشغاله، شعرت بالحزن وأنا أنظر إليه في المرة التي قد تكون الأخيرة التي أراه بها. كان قد أحضر بعض الحلويات كهدية قبل مغادرته. شكرني، هو أيضاً، على ما لم أتمكن من القيام به؛ مساعدته.

ما الأفكار التي خطرت في بالي بعد كل هذا؟ إني لا أتحمل هذا العجز عن رفع الظلم، ولا أستطيع تجاهله وهو أمامي. فكرت بأن أعطي للأمور فرصة شهر، أرى إن كان يمكنني تحمل الأمور، أو أن أقلب الأمور في ذهني وأزنها أكثر. فإن رأيت أن الأصلح لي أن أغادر المكان، فسأسأل مديري أن يعفيني من وعدي؛ أن لا أغادر إدارته إن ساعدني بالعودة إليها قبل سنتين. فإن أعفاني من هذا الوعد، رجعت للناس الذين أرادوا استقبالي في الجامعة قبل سنوات، وأرى إن كانوا لا يزالون يريدونني لديهم. أما مغادرة الجامعة ككل، فهي غير واردة طالما هي والمستشفى في مكان واحد.
لكن بأي حال، يجب أن أفكر كثيراً. فرغم خيبة الظن التي أصابتني من مديري؛ هل أنا على استعداد للابتعاد عن شخص أحبه وأقدره إلى هذه الدرجة؟. لا أدري، لا شك أنه يحتل مكان كبير في قلبي رغم كل شيء.



الساعات الحلم لا تنتهي. إن حبي للساعات ذات الطابع المختلف ينبع على ما اعتقد لحبي لتأمل الميكانيكا الأنيقة، ودقة الصناعة، وحمل شيء بالغ التعقيد، لكن متناهي الصغر، على رسغ اليد.
أنظر فقط إلى هذه الساعة المجنزرة، المركبة يدوياً:


لا شك أنها تكلف ثروة.

هذه لا بأس بها، رأيت أفضل، لكنها جميلة ومميزة:



أما هذه، فهي مبتكرة جداً. تأتي بعدة أشكال بنفس الفكرة الجوهرية، لكن الأشكال الأخرى، الجميلة جداً، مغرقة في الكلاسيكية، وهذا شيء جيد، لكن هذه تلفت انتباهي أكثر، كما أنها لا تخلو في نظري من مسحة الفخامة الكلاسيكية:







اتهمتني أمي بالإنجراف خلف رفقة سيئة مجهولة، لخروجي كل مساء حاملاً "مزودتي"، تعني الحقيبة التي أحمل بها الحاسب والدي اس والقلم وخلافه. حلفت لها أني أجلس وحيداً كل ليلة، كما أفعل الآن، لأكتب وأقرأ فقط، وأني لا أرى أحد تعرفه أو لا تعرفه. على الأغلب أنها تعرف ذلك، لكنها مريضة مؤخراً أكثر من العادة، لهذا أعصابها تالفة. لا أدري ماذا أصنع، أتمنى لو بيدي حيلة للتخفيف عنها.
قبل فترة، علقت على حملي للـ"مزودة" خلفي بأني أذكرها دائماً بغجري كان يأتي إلى مزرعتهم في القصيم حينما كانت طفلة صغيرة، حاملاً "مزودة" مماثلة على ظهره، ليرب الدلال (ينظف ويلمع أواني القهوة)، وقد وجدت بأني أشبهه حينما أمضي هكذا، بنفس الطول والحقيبة، قالت هذا ضاحكة. هذا الغجري تعيس الحظ عشق بدوية تنزل في الجوار، وقال بها قصيدة جميلة، إذ كانت الصبية رائعة الجمال، مميزة بشكل لا يوصف، حيث كانت تراها أمي. القصيدة التي أخبرتني بها أمي نسيتها، لكنها جميلة وعفيفة، وتصف ملابس البدويات قديماً، البنطال الواسع والكرتة. لكن أهل الفتاة جاؤوا إليه وضربوه بقسوة لفعلته هذه، حيث أن هذا إجمالاً غير مقبول لدى العرب. لا أدري لماذا قال القصيدة وخصصها بالإسم، الغجري المسكين.





رأيت الدكتور الألماني قبل قليل، واستمتعنا كثيراً بوقتنا. سألته إن كان يود الذهاب إلى محل العطور الذي حدثته عنه، أم نذهب إلى المقهى، فقال بأن نذهب إلى محل العطور. لاحظت لاحقاً بأنه لا يهتم بالعطور كثيراً، إنما أراد الذهاب لأجلي فقط. محل العطور هو محل باسم القاسم على طريق الملك فهد، وكان الغرض هو أن أخلط العطر الذي أريد. استقبلنا موظف أجنبي، أردني على ما يبدو، وسألني عما أريد، وكنت واضحاً. لكنه عاملنا ببرود، وعرض علي أشياء لم أقل بأني مهتم بها. ثم تركنا سريعاً، مستأذناً ليعود بعد قليل، لكنه مضى إلى آخرين ولم يعد إلينا. طلب الدكتور أن نخرج. لم يعجبه الأسلوب، بالإضافة إلى أنه لا يفهم كثيراً بالعطور. أنا خاب ظني كثيراً بالمحل الذي أردت أن أذهب إليه دائماً. وبالأساس، روائح الفانيلا لديه لم تكن جيدة أو نقية كما توقعت. قلت هناك بأني في النهاية سأضطر للسفر إلى المكسيك لأحصل على عطر الفانيلا التي أريد. ضحك الدكتور، لكني يائس حقاً إلى هذا الحد. على الأقل، جرنا إحباطي إلى التحدث عن النبتة.
لم أتوقع أن هذا المحل الذي يروج له كثيراً بأنه راق ومميز، سيكون التعامل به بهذا السوء.



تحدثنا حول مواضيع كثيرة. لديه دائماً الكثير من المشاريع المبتكرة والرائعة، والغريب أنه يحب سماع رأيي واقتراحاتي وأفكاري حولها، رغم فقر تجربتي ورؤيتي. أحياناً أكون محبطاً له في بعض الجوانب على ما أعتقد، لكن هذا ما تقتضيه الأمانة، لأني أدرى ببعض الجوانب الاجتماعية والسمات النفسية للمجتمع هنا.
حدثني عن رحلته الأخيرة إلى أمريكا. يوجد في أمريكا مدينة مميزة في نظري، وكنت دائماً أشعر بأنها استثناء غريب في أمريكا، بسبب تاريخها وطبيعتها وثقافتها المميزة. المدينة هي نيو اورليَنز، وقد كان الدكتور قد ذهب إليها لحضور مؤتمر. أتسائل دائما لماذا لم يذهب إليها أي من إخواني، منذ أن اطلعت على تاريخها وتميزها على مستوى الثقافة الخاصة والطرز المعمارية. ربما ذهبوا، ولكن لماذا لم يحدثونا عنها؟ لعله لاختلاف مجالات الاهتمام.

حكيت له عن مشاكل العمل الأخيرة، التي باتت تتعمق لوجود شخص غير سوي نفسياً طرف فيها، وسلبية مديري تجاه الأمر. حكيت عن إحباطي، وتفكيري بالهروب إلى قسم بعيد لو سنحت الفرصة، وتشككي باستعدادي للقيام بهذا لأني لا زلت أقدر مديري. عموماً، على الأغلب أني سأترك الكثير من الأمور خلفي مع بدء الإجازة إن شاء الله، ولو لبعض الوقت.

خضنا جدلاً حول دفعي ثمن الدمية التي أتى بها. رفض رفضاً قاطعاً، ورفض أن يتركني أن أدفع حساب المقهى إلا بصعوبة، مما أزم الموقف، لأنه وعد في المرة الأخيرة أن يتركني لأدفع في المرة المقبلة، والآن يخلف وعده. شرحت له بأنه إن لم يأخذ ثمن الدمية الآن فسيكون موقفي صعباً لاحقاً فيما لو طلبت منه شراء شيء من الخارج، وأنه لا يمكنه أن يخدعني لأننا اتفقنا على أن تشترى لصالحي، فرد مشاكساً أن لا أطلب منه شيء لاحقاً، فقلت حسناً. ولكنه عاد ليقنعني بأني لا يجب أن أدفع مقابل الأشياء التي أطلبها منه، وأني يجب أن لا أتوقف عن الطلب لأنه لا يجعلني أدفع، فهذين أمرين لا علاقة لهما ببعض (!!)، وأشياء من هذا القبيل. فأخبرته بأنه يصعب الأمور هكذا، وأني لن يمكنني أن أطلب منه شيء لاحقاً إن رفض أخذ المال الآن، وهو الشخص الوحيد الذي يمكنني أن أطلب منه أن يحضر لي الأشياء، قلت هذا كالتماس وقد غلبت على أمري. فقال إذاً خذ هذه، ومد حافظة قارورة الماء التي اشتريتها له من دايسو، فشرحت له الفارق، أنه لم يطلب مني هذه فهي هدية. كان يخفي ابتسامته طوال الوقت، لاحظت هذا متأخراً، أو استوعبته، فعرفت بأنه يتلاعب بي ليضيع الموضوع الأساسي. أخبرته بأن لا يتلاعب بي أو يعاملني كشخص بسيط، فقال مجفلاً بأنه لا يفعل هذا، ولكني قلت بأنه يفعل، حينما يخل بالاتفاق ويضيع الموضوع في متاهات لا علاقة لها مثل حصوله على هدية من المحل الذي اشترى منه الدمية وهذا يجعله مدين لي وليس العكس، قلت بأن هذا عبث واضح. كنت أضحك من الطريقة التي يحاول خداعي بها. لاحقاً، قلت بأنه إن لم يأخذ المال، وقال لي بنفس الوقت بأن أطلب منه وقتما أشاء، فهو يجعل من نفسه كالسفير البريطاني الذي حدثته عنه، يرسل رسائل مبطنة بهذا التناقض، وسأفهم رغماً عني أن لا أطلب شيء مرة أخرى، وهذا ما سيكون. كانت حجة مؤثرة، وقد قلتها بمنطقية، وقد توقفت عن الضحك. وجد التشبيه فضيعاً، فأخذ المال على مضض. على أنه كان غاضب، وطلب مني أن أطلب منه ما أشاء دائماً طالما وافق على أخذ المال هذه المرة، بعد طلعة الروح طبعاً. علمت بأنه اشترى دمية أخرى أيضاً، لأنه ظن بأنه طالما أنا مهتم بها فبالتأكيد سيكون هناك أحد آخر يريدها، وسألني أن آخذ الأخرى لأعطيها أحداً أو أحتفظ بها لو أردتها، لكن قلت أعطها لفلان، الألماني الأصغر، فهو قد قال على العشاء في منزل أختي بأنه يريد واحدة. فقال: لا. قلت ولكنه يريد واحدة، فقال: ولكنه لن يحصل على واحدة. ضحكت، كنت أريد أن أكسب للألماني الآخر شيء، ولكن للدكتور وجهة نظر، إنه يريد أن آخذها، أو أن أجد شخص آخر ليأخذها. تكلمنا عن الألماني الأصغر، وخفة دمه، وكونه طيب.
في الطريق، تحدثنا عن نيو اورلينز وتجربته فيها. هي متأثرة كثيراً بالثقافة الفرنسية، والثقافة السوداء، لأسباب تاريخية، وهو مزيج مميز.  سألت عن تأثير الألمان بثقافتهم في أمريكا، ولماذا لا يكون بمثل هذا الوضوح والرقة في أماكن تركزهم، مينيسوتا وبنسلفينيا، ولماذا وجودهم دائماً مرتبط بوجود الاسكندنافيين؟. قال بأن الألماني تأثيرهم حينما يكون حاضراً فهو يكون أكثر تشدداً، مثل الجماعات الدينية الرجعية في أمريكا، الكويكر وخلافهم، فقلت والمينوتيت، فصحح لي الاسم، وتسائل كيف عرفت عنهم؟ قلت بأنه أمر يعبر بالمرء، ولكنه قال بأنه شيء مميز، وهو يظن بأن السعوديين لا يسمعون عن هذه الأمور غالباً، ولكنه مخطئ، فبالواقع ليس شيئاً مميزاً أن أعرف عنهم بعض الشيء، لقد قرأت عنهم حينما كنت صغيراً، ورأيت صوراً لهم فأحببت طريقة عيشهم المتقشفة والنقية والمسالمة، والتدين المريح الذي هم عليه، وتمنيت رؤيتهم بمبلابسهم القديمة، وهيئة النساء الحشيمة والفاضلة.




قرأت مقال مثير للاهتمام أرسله إلي أحد الزملاء. هو عن الجامعة حيث أعمل، بوجهة نظر أوافقها إلى حد بعيد.:




دوام الحال من المحال، لكن هل دوام الود من المحال؟. هذا ما بدا للحظة، حينما أمعن مديري بالمباعدة بيننا، بدون أي تقدير لما كان عليه الحال بيننا من تقدير وتعاون. هذا الصباح ضحك في وجهي وحاول تلطيف الأجواء، ثم بالمقابل يوصل إلي ملاحظة من خلال شخص آخر كان الأجدر به أن يوصلها بنفسه. هذا ما خيب ظني في الأسبوع الفائت، القيام بأمور متناقضة، دون اعتبار لما يشعر به الآخرين. تم الضغط علي بخصوص ظروف أمي الصحية ومرافقتي لها بمواعيدها، ولو كانت هذه الملاحظة قد جائت من المدير نفسه، لما فهمتها على هذا الأساس. إنهم لا يعجبهم تأخري بضع دقائق في عموم الحالات، رغم أني لا أوقع، وتخصم هذه الدقائق بأضعاف حقيقتها من راتبي، دون أن أعترض. يقال بأن لا أتأخر هذه الدقائق حتى يتساعدون معي في شأن ظروف أمي. قلت بأن يخبر المدير بأني سأحاول أن لا أتأخر هذه الدقائق، ولكن إن لم يكن الأمر كما يريد، فليخصم خروجي لأجل ظروف أمي كخروج بلا استئذان ويحسمه من راتبي. قيل بأنهم لا يريدون للأمور أن تصل إلى هذا الحد؛ لكن، ماذا يتوقعون؟ قلت بأن هذا ما لدي، فلن أتوقف عن الذهاب مع أمي إلى مواعيدها مهما كان السبب.
ثم تم التمنن علي بإجازة اضطرارية، رغم أنها من رصيد إجازاتي.

أمر مضحك (مضحك؟)، أعتقد أن مديري لن يمانع أبداً الآن أن يعفيني من ذلك الوعد.
عموماً لا بأس، سأرى ما يمكنني القيام به، بعد الصيف إن شاء الله.


شعرت بضيق كبير، وحاولت الذهاب طالما ليس لدي شيء إلى القسم المجاور، إلى صديقي خالد المؤذن، وهو شقيق المدير، لأروح عن نفسي قليلاً ببرائته وطيبة قلبه. لكني وجدته مشغولاً، لم أعلم أين أذهب. فكرت بالنزول لشراء قهوة أو شوكولاته ساخنة، لكن
في وقت الصلاة سأشرب، فلا داعي للخروج الآن وقد بقي على الصلاة حوالي ساعة.


حسبك...
قد أنهكني ظلمك...
إن الصدود منك عقاب...
فكيفك بي إذ أواجه غدرك...
كنت أحسب بأنك لن تتغير...
وكنت أحسب أن تقدير الشعور طبعك...
كم حسبت وأخطأت...
فيك وفي غيرك...
ولم أتعلم...



وجد بعض الناس في الأمر الذي جرى في ذلك اليوم وبدأ المشاكل أمر غير معتاد، رغم أن المشاكل تحدث في القسم من وقت إلى آخر. كان غير المعتاد كما فهمت أنهم لأول مرة يروني فاقد للتحكم بأعصابي. هتف أحدهم بعد يوم: تصدق أول مرة أشوف سعد معصب؟ من 4 سنين ما شفته مرة وحدة معصب!. كان يقول هذا وعلى وجهه تعابير سعادة لا توصف، ولا تُفهم. بينما جاء آخر من إجازة طويلة، وقال لي بعد أكثر من أسبوع من حدوث المشكلة التي لم يحضرها، بأنه سمع بأمر جديد، أني "عصبت" أخيراً. كان يجد الأمر مضحكاً. أخبرني بأن فلاناً أخبره قائلاً هل أخبرك بأمر مستحيل؟ لما سأله، قال بأن سعد فقد أعصابه! هاهاها. كنت تعيساً جداً حينما جاء ليخبرني باكتشافه المثير هذا. ثم أخبرني بأن من أخبره، وهو ممن حضروا الإشكال، قال بأن الخطأ كان على الطرف الآخر، وهو شاب يطرد من قسم إلى آخر بسبب مشاكله، وأن رايتي "بيضاء". طيب، لا أدري هل أصدق بأن ذلك الرجل قد قال هذا فعلاً، مع ذلك، لا شك لدي بأني لم أخطئ، ولم أفقد أعصابي مباشرة، إذ أني تفاديت الاصطدام بقدر المستطاع، ولكن ذلك الرجل اصر على ابتلائي بنفسه. لدي يقين بأنه غير سوي نفسياً الآن، لذلك تمنيت بأننا لم نصطدم، رغم أن الأمر لم يعدو كونه نقاش حاد. وكان لينتهي الأمر في وقته، لكن المدير لم يتصرف بحكمة كما تخيل.
بل إن المدير، بقدر ما أفهم؛ باعني بتراب. مهما برر واختلق من أعذار.
ما باليد حيلة...




كان يوم جميل وحافل، يوم الاربعاء. أسبوع سيء بالعمل، ولكن يستحق هذا اليوم العناء.

حينما عدت إلى المنزل، واستعديت للقيلولة، كان لابن أختي، محمد ذو الشعر اللفائف، وجهة نظر، كان يريد أن أشغل له الوي ليلعب ماريو(الفطر). مع بعض الإقناع خارج الحجرة، جلوساً على الأرض، اقتنع بأني سأنام، ولكنه أراد أن ينام معي. دخلنا، وكنت أحسب بأنه سيخرج بعد قليل، ولكنه نام بالفعل. كان أمر رائع، لم أنم كثيراً كما أردت، لكن كنت سعيد وأنا أغطيه كل لحظة وأخرى، ورأسه الصغير مستدير إلى الجهة الأخرى. كانت أحلى قيلولة حضيت بها منذ الأزل.

بعد ذلك اتصل الدكتور الألماني، وكان موعد لقائنا المعتاد بعد ساعتين تقريباً، وسألني إن كنت أود أن نذهب لنستقبل صديقه القادم من ألمانيا معاً في المطار. صديقه هذا هو المسئول الأول في المشروع الطبي المشترك بين جهته ومستشفى في القصيم، وهو طبيب مخضرم وذو تاريخ غير متوقع. سعدت بالاقتراح، لأنها تجربة مختلفة، ولأن الدكتور كان يمكنه أن يعتذر لأنه سيستقبل صديقه، ولن يكون بإمكاني أن أقترح الذهاب معه بنفسي. ذهبنا، وفي الطريق الطويل إلى المطار تكلمنا حول الكثير من الأمور. أخبرته بما جرى في العمل بيني وبين مديري، وقد احتار في الأمر المؤسف. إني أتألم لأني خسرت صداقتي والمدير على ما يبدو، وإن لم أقل هذا لأحد، وأتألم أكثر لأني أعتقد بأن الأمر لا يعني المدير كثيراً. لكن، لا بأس.

تحدثنا عن الطعام، وعرفت بأنه تذوق لحم الحوت في النرويج، ويقول بأنه لحم رائع جداً. ومما تكلمنا عنه كان جبال الألب، لأننا تكلمنا عن هايدي. أخبرته بأني أجدها منذ كنت صغيراً جبالاً موحشة ومخيفة، حتى حينما كنت أراها مرسومة في هايدي. قال بأني على الأغلب على عكس الجميع أرى حقيقتها. لا زلت أتصور بأنها موحشة جداً، رغم شعوري بوجود مناظر جميلة فيها هنا وهناك. تكلمنا عن هايدي، وكان يستغرب بأني أعرف عنها، لكني أخبرته بأن قصتها معروفة جداً هنا وشعبية، الكل تقريباً يحبها. تناقشنا بالقصة قليلاً.

وصلنا إلى المطار، وأوقفنا سيارتي المستأجرة، ودخلنا. في طريقنا إلى صالة استقبال الطيران الدولي مر إلى جانبنا رجل أوروبي كبير السن، ضخم الجثة على نحو غير عادي، وله لحية قصيرة كستنائية، وكان ذاهب إلى عكس اتجاهنا، ونظر إلى الدكتور نظرتة لم تفتني، إذ كانت قوية وغريبة. حينما وصلنا أمام البوابة حيث يخرج القادمون، وقفنا إذ كان الآسيوين يستحلون كل المقاعد. وبعد لحظة، عاد الأوروبي الذي كان ذاهباً، ووقف إلى جانب الدكتور تماماً. كان المكان مزحوماً، وكان الكل يقف قرب الآخر، ولكن هذا الرجل كان يعتقد بأنه يعرف الدكتور، أو يريد أن يتعرف إليه. كان ينظر إلى الدكتور كل لحظة وأخرى، وصار ينظر إلي كذلك بطريقة غريبة كل لحظة وأخرى، دون أن يهتم حينما أنظر إليه، إنما يتأمل لبعض الوقت ثم يصد. التفت الدكتور ورآه، وقال لي هامساً، بأن هذه هي البنية الألمانية التقليدية، فهمست بأنه يذكرني بجد هايدي كثيراً، فضحك الدكتور، وهمس بأنه سيكون فخوراً لو علم بما قلت، فالجد شخصية محبوبة لديهم، فقلت بأنه ربما لهذا يعجبني هذا الرجل، لأن الجد شخصيتي المفضلة أيضاً في القصة. كان الرجل الجسيم أقل شقرة وحمرة من الدكتور، لكنه كان أوروبيا صميماً مع ذلك من حيث الشكل والبنية، أكثر من المعتاد. بعد وقت طويل ذهب الرجل. يقول الدكتور ربما جاء ووقف إلى جانبنا لأنه يريد أن يعرف جنسيته.
وجود جد هايدي إلى جانبنا قبل قليل جعلني أتحمس للتحدث عن المسلسل، ومن صنعه أو ساهم به. هياو ميازاكي، فناني المفضل على الإطلاق. حكيت عن الفنان الياباني هذا الذي أخرج أجمل الأفلام في نظري، والأكثر تأثيراً من بين الأفلام على رؤيتي لبعض الأمور، وقد حاك قصصها المؤثرة أيضاً. قلت بأني أتخيل دائماً بأن الدكتور لو قام بشيء، فسيشبه ما يقوم به هذا الفنان الرائع، وكنت خجلاً من قول هذا التخرص، لكن، هذا ما اشعر به، وقلت بأنه يذكرني به كثيراً. ابتسم الدكتور، وقال بأني يجب إذاً أن أرى كتاباته وأحكم. الدكتور مؤلف لبضعة أمور. ولكنه قال بأن المشكلة بأنها بالألمانية، فقلت محتجاً بأني أترجم له ما أكتب، إذا ليترجم هو لي أيضاً، فضحك، وقال بأنه سيفعل، ثم تذكر بأنه كتب شيء بالانجليزية بالأصل.

فوجئت بعد ذلك برجل شاب خلفي يناديني، وهو شامي مريح القسمات، نحيل وعلى جانب من الصهابة، وسألني بعد السلام أين أعمل. كنت قد لاحظته منذ فترة يقف خلفنا. أخبرته، ثم سألني كم يعطونني كراتب؟ وكان سؤال غريب. قلت بأني سعودي، وفي الحكومة للسعوديون في مراتب معينة نفس الراتب. ولكنه أصر على المعرفة. فأخبرته على وجه التقريب. بدا عليه بأنه سمع ما يريد. ثم طلب رقم هاتفي. استغربت وسألته لماذا يريده؟ فأخبرني بأنه يعمل في مجموعة شركات فلان الفلاني، وهم بحاجة ماسة لشباب يجيد تحدث اللغة الانجليزية، وأنه يعطون رواتب مجزية جداً، لهذا يريد التواصل معي في الأمر. ابتسمت، وأخبرته بأني بالواقع مرتاح في وظيفتي. بدا عليه نوع من الإحباط، ثم سألني إن كنت أعرف شاباً آخر؟ اقترحت عليه التواصل مع كلية اللغات والترجمة، فعلى ما أتذكر كانوا يحاولون التوفيق بين خريجيهم وموفري الأعمال. سألني إن كنت أريد أن أفكر بالأمر، أو شيء من هذا القبيل، لكني كنت متأكداً، فشكرته. جاملني ببعض المديح، وافترقنا. حينما عدت إلى الدكتور، الذي كان أمامنا، أخبرته. اتسعت عينيه، ولكني أخبرته بأني قلت بأني راض بوظيفتي. مما حير الدكتور، لقد كنت أفكر بالانتقال من القسم حينما كنا في السيارة قبل قليل، فأوضحت بأني من المستحيل أن أترك الجامعة، لحاجتي للمستشفى، وأني حينما خرجت إلى الوزارة قبل سنتين صار الأمر صعب جداً على أمي وأهلي، وكان قراراً خاطئاً لا يجب أن أعيده. قال لأنهم يتساهلون في الجامعة مع خروجي للمواعيد؟ فقلت بل لأن المستشفى قريب، ففي الوزارة كانوا لا يخالفون (على الأقل في القسم الأخير الذي عملت فيه)، ولكن بعد المستشفى والمنزل جعل عودتي للعمل بعد المواعيد غير مجدية.
مع ذلك، بدا أن الدكتور سعيد بالعرض الذي تلقيته قبل قليل، وظل مبتسماً.

حاولت أن أعلمه كيف ينطق بعض الحروف، حينما علمت بأن بعض الأصوات البديهية ليست موجودة في اللغة الألمانية، كصوت الراء. نطق اسمي على نحو جيد بعد بعض التدريب، ولكن حرف الحاء أشكل عليه كثيراً. كان بعض الآسويون قد التفتوا يتابعون التدريبات بفضول، حتى توقفنا. بالواقع، كان بعض الآسيويون فضوليين من قبل ذلك.
بعد قليل، أشار إلينا أحدهم بأن ننظر إلى الأمام، كان صديق الدكتور يشير إليه باسماً من خلف الحاجز. وكان رجل ذو شكل ملفت. مقارنة بالألمان يعتبر رجل قصير القامة، ولكنه بالأصل في طولي على ما أعتقد، وأنا هنا متوسط الطول، لست بالقصير، ولست بالطويل. وجهه ليس أحمر كالدكتور، وليس على جانب من الصفرة مثل جد هايدي الذي وقف معنا قبل قليل، ولكنه ترابي أو أسمر كجلد مدبوغ فاتح اللون، وشعره بني غامق وقد شاب صدغيه نوعاً ما، وقد صفف الشعر القصير بعناية كبيرة، وبأناقة جريئة وشابة، ولكن غير مبالغ فيها وإن تكن لافتة، وجديرة بفنان. عينيه ملونتين بلون رمادي غامق، وملامح وجهه وسيمة عموماً، ولكن توحي بأنه على جانب من الحدة واللذاعة. قلت للدكتور ونحن نمشي لنقابله في المخرج: (يبدو ذكياً و..) قاطعني الدكتور مؤكداً بأنه ذكي جداً بالفعل.
وصلنا، صافحه الدكتور، ثم صافحني الطبيب وعرفه الدكتور بي باللغة الألمانية، وفهمت بأنه يقول بأني صديق جيد. نظر إلى الطبيب نظرة حادة وفاحصة، أفزعتني صدقاً. ولم يبدو على وجهه الترحاب، إنما ردد اسمي وكأنه يريد أن يحفظه، وهو يتفحص وجهي. كان معه شاب سعودي، جاء لاستقباله، وهو يتحدث اللغة الانقليزية جيداً، وكان ابن شريكهم في المستشفى حسبما فهمت. سلمهم بطاقات دعوة إلى زواج أخيه. وجاء موظف هندي وسلم على الجميع. أخبرهم الدكتور الألماني بأني سأوصله والطبيب، وأنهم يمكنهم الذهاب فلا مشكلة. كان الولد لبقاً جداً، ولكنه شاب صغير غير متحفظ بما يكفي في رأيي. لكن لم نذهب لبعض الوقت لأن امرأة ألمانية طلبت المساعدة من الدكتور، كان معها جهاز آيفون ولم تستطع استبدال الشريحة لأنها ليس معها دبوس. هذا الجوال الغريب. ساعدناها، إذ ذهب الشاب ووجد دبوساً وساعدها، وقد عاد في الوقت الذي ولفت فيه دبوساً من البلاستيك (يقالك مقايفر) لم يعد له حاجة حينما جاء الدبوس الحقيقي. دعاني الشاب إلى الزواج قبل ذهابه، وهو زواج أخيه، فقلت رداً على المجاملة بأني قد أحضر مع الدكتور إن أمكن. بالطبع لم أكن أنوي الحضور، لكني قدرت المجاملة.
في طريق العودة حمل كل منا حقيبة. وظل الرجلين يتحدثان في اللغة الألمانية خلفي. وفي السيارة كذلك. فهمت بعض الشيء، بحكم أن بعض اللغات على بعض التقارب. سألت بعد قليل أين يريدون الذهاب؟ كنت لا أعلم إن كان الطبيب سيذهب إلى فندق، أو مع الدكتور. فقال الدكتور بأن آخذهم إلى المنزل، لأن الطبيب متعب وسيرتاح بعد الرحلة، خصوصاً أن الوقت متأخر (بعد الحادية عشرة). في الطريق شكرني الطبيب بطريقة غريبة، وبلكنة تشبه الاختبار الواضح، على خدماتي، وقد كان يرمقني من الخلف باستمرار، ويبدو أن صمتي لم يعجبه. وبدأ بالتحدث باللغة الانقليزية عن موظفة جديدة لديهم ستأتي، وهي ممرضة شابة من الجزء الشرقي من ألمانيا. تريد القدوم هنا لأنها تريد ضمان مستقبل والديها في الشيخوخة. هذا سبب نبيل ومؤثر.

لكن هذا الطبيب مباشر، ويفاجئ المرء بتحدثه عن أمور اتفق الناس عموماً على عدم التحدث عنها في بعض الظروف، إن يكن لعدم جدواها، أو ابتذالها لكثرة ما نوقشت، أو لأنها فقط حساسة. ليس أني أتحسس مما قال، أو أن كل تلك الأسباب تهمني، فهي لا تهمني، لكني استغربت أنها لم تهمه هو كذلك. لعله ذكي وعرف أنها المواضيع الصميمة، مهما ابتذلت، وأن الناس حينما تركوها لفترة طويلة فقد أمنوا جانبها، ففكر بأنه موضوع صادم.
بدا من الواضح أنه يريد أن يعرف أرائي في بعض الأمور على نحو استغربته، اهتمامه الشديد بمعرفة رأيي بالتحديد جعلتني أتسائل إن كان يريد أن يعرفه بالفعل، أم أنه من الغرب الاستفزازيين فقط، ولكني لم أشعر بالاستفزاز، ولكن بالحيرة فقط. من النادر أن أحتار في مثل هذه الأمور، ومن المفاجئ أن أحتار من هذا الرجل الأقل هدوءاً، وعمقاً، على ما يبدو.
في البداية كان الأمر حول الكنائس، ولماذا لا تفتح هنا طالما المساجد تفتح لديهم. قلت بأن الكنائس مسموح بها في أماكن كثيرة حول العالم الاسلامي، مصر وسوريا كمثال، ولكن هذه الأرض حالة استثنائية، بتعليمات خاصة حولها، كما أن الأجانب ليسو هنا ليبقوا، ولكنهم يأتون لفترة محدودة لعمل محدد ويذهبون، لن يبقوا طوال عمرهم، بينما في الغرب المسلمون موجودون هناك ليبقوا، فتلك هي بلادهم. أكد أنها بلادهم بسرعة، وباستغراب من إجابتي أو صدمة لصراحتها ومباشرتها، ومعه الدكتور كذلك.
ثم تكلمنا عن الكنائس السرية، وسألني إن كانت ضد القانون، قلت بالطبع. وأنها ما كان يجب أن تفتح بالأساس بدون تصريح، فلو فتح مسجد بلا تصريح في الغرب لأغلق. فقال: ولكنها تمنح التراخيص، فقلت لكن الكنائس لا تمنح هنا، فهي إذاً مسألة قانونية أيضاً.

وكأنما هذا الموضوع الغريب، ولكن الممتع، لا يكفي بغرابته، أتى على ذكر الثورات العربية، على نحو بدا أنه أضمره من قبل، وكأنما رتب المواضيع. تسائل عن أسبابها. كان يريد رأيي مرة أخرى. فقلت بأنها الكرامة، السبب الأساسي هو الكرامة. فهتف: الكرامة!. قلت نعم، لقد سئم الناس في بعض البلدان التسلط عليهم والحط من كرامتهم، لا يتعلق الأمر بالطعام أو الرواتب أو أساليب العيش، لكن بالكرامة في المقام الأول. لكن لماذا الآن؟ ولماذا فجأة، وبدون مقدمات؟ قلت بأن الأمر في رأيي عبارة عن عملية عمل للضمير الجماعي، لقد تراكمت التجارب وازداد الوعي والاطلاع على الآخرين، والتفكر بالأسباب ونقاشها. بعض الشعوب هنا أكثر وعياً من الأخرى، لكن بالمجمل وعي الجميع ازداد. هكذا شرحت، وأضفت بأنهم في تونس قالوا: الكرامة قبل الخبز. وقلت بأن الكرامة بالواقع كانت سبب لثورات كثيرة، وليس الثورات العربية فقط، فالثورة الفرنسية قامت بالأساس انتصاراً للكرامة على حد علمي.
فضل يردد: الكرامة... الكرامة. وحتى بعد صمت، أو حينما نتكلم حول شيء آخر ونتوقف، يعود يردد: الكرامة.. مما أضحك الدكتور الألماني، فقد بدا بأنه يقلب الفكرة في رأسه كثيراً.
تكلم كذلك بصراحة عن تعامل بعض السعوديين مع بعض الأجانب باستعلاء، وكأنهم عبيد. للأسف أن هذا قائم وموجود، ولكني أعتقد أنه في تراجع، أو أتمنى ذلك.
تكلم أكثر من مرة عن كونه كان لاعباً في نادي بايرن ميونيخ، أشهر أندية ألمانيا، وكان من الواضح أنه يلفت انتباه الناس المفتونين بالكرة هنا، لا سيما الشباب، بهذه الحقيقة والتجربة. أما أنا، الذي ليس لي ناقة ولا جمل في كرة القدم، فقد وجدت أن هذا جيد لأذهل أبناء إخواني، بأني تعرفت على لاعب بايرن ميونيخ سابق! وكأنما أعيد تصنيع التجربة لاستهلاك غيري.
رغم إفزاعه لي في البداية، إلا أن حيويته وقفزه بين المواضيع على نحو يتخيل معه على ما يبدو أنه يعزف على أوتار حساسة بلا رحمة جعلاني بالواقع أميل إليه وأرتاح إلى رفقته، فقد شعرت بأنه سليم النية بالأساس، وليس خبيثاً، وإلا لما اتجه إلى المباشرة على نحو ساذج إلى حد ما. إنه يشبه تمرد على نوع من البراءة المستحكمة.
بعد الكثير من النقاشات والحديث، وحينما كدنا نصل إلى المنزل في منطقة العليا، قال الطبيب للدكتور شيئاً، وتناقشوا قليلاً حوله، تحدثوا باللغة الألمانية، وهي مضحكة إلى حد ما، لا تكاد تخلو كلمة منها من صوت الشين وبالدرجة الثانية السين. ثم قال الدكتور فجأة، وكأنما اتفقوا: سعد لنتوقف في مقهى ونشرب بعض الشوكولاته. يعلم الدكتور بأني أحب أن أشربها، لهذا كان المقهى ليس للقهوة. لم أفهم، فقد كان يقول بأن الطبيب متعب، فقلت بأن الطبيب متعب بعد الرحلة، ألا يجب أن يرتاح؟. فتكلم الطبيب بأني شخص مثير للاهتمام، وأنه يريد أن يتكلم معي وأن يعرفني أكثر. ثم أعقب بأنه من المفيد الجلوس مع الشباب، فهذا يعيد للمرء بعض شبابه، فقلت إذا فقد علقت مع الشخص الخاطئ، فقد كنا قد اتفقنا بأن روحي معمرة، أنا والدكتور، ضحك الدكتور، وشرح للطبيب بأن لست بشخص حداثي.

وصلنا، وأخرجت حقيبتي معي، ولكن الطبيب طلب أن تفتح شنطة السيارة، ولما سألت لماذا قال بأنه سيخرج ماله من الحقيبة. رفضت وقلت بأني أنا أدعوه هذه المرة. لكن الدكتور الألماني تدخل بحزم، مستبقاً اعتراضي، قائلاً بأن الأمور لن تتم هكذا هذه المرة، فأنا آخر من دفع (وبدا بأنه يحمل الأمر في قلبه كجرح!!) وإذا لم أفتح الشنطة فسيبقون في الخارج. جادلت بأنه دفع في كل مرة قبل ذلك، كما أنه يهتم للأمر كثيراً، فتدخل الطبيب قائلاً بأنه رجل غني (متحدثاً عن نفسه) لهذا يجب أن يدفع، وأن كليهما أكبر مني فلا يجب أن أدفع(!!). لكني رفضت وقد عصبت، وقلت للدكتور بأني لأول مرة أرى الطبيب وأني أريد أن أدعوه، وهو في مدينتا فمن العيب أن يدفع. أمام هذا مضوا، بعد انتظار يسير لأغير رأيي، وكان الدكتور غير راض، وقد أقطب حاجبيه.
جلسنا لنتكلم، وتحدث عن الصحة المتدهورة هنا للنساء خصوصاً. وكيف أنه يرفض القيام بعمليات استبدل مفاصل الورك للناس هنا قبل تخفيف أوزانهم، لأنه يعتقد بأن أوزانهم ستزيد أكثر حتى، حينما لا يشعرون بالألم من مفاصلهم، مما سيسيء لصحتهم، ويجعلهم بحاجة إلى عملية أخرى أقل فرصة بالنجاح من الأولى، بعدما يقصرون عمر المفصل الاصطناعي من عقود إلى بضع سنوات بسبب الوزن غير الصحي، الذي تسبب بفساد المفصل في المقام الأول. وأن النساء هنا مظلومات وغير واعيات، فقد جائت امرأة في الأربعة والأربعين من عمرها، تعاني من مشاكل كثيرة، ليس أقلها السمنة المفرطة، ولديها ثمانية أبناء، وتشكو من مفاصلها، وهي مرضعة كذلك. يقول بأنه أخبرها بأنها يجب أن تتوقف عن إنجاب الأطفال، فالأمر خطير عليها وجسمها لم يعد يحتمل. لكن زوجها غضب من تدخله، وقال بأنه يريد طفل آخر. أخبرت الطبيب بأنه أخطأ بالتعامل مع الموقف. كان يجب أن يعطي الزوج إعتباره هنا في التوعية والنصح وتقييم قراره إن كان يريد الصالح لمريضته، فالأمر هنا مختلف والرجال يريدون الانتباه إليهم. قال لكن المرأة هي مريضتي وليس الرجل، لماذا أخاطبه هو؟! قلت بأن الأمر يتعلق بالثقافة هنا، إن تجاهلك للرجل جعله يتحداك، ثم عدت أنت وتحديته، والضحية هي الزوجة المسكينة. سألني وقد استغرب وطفح فيه الكيل، إذا ماذا يجب أن يفعل؟ قلت بأن يحدثهما معاً، وأن لا يتجاهل الزوج إطلاقاً، وإن كان لزاماً عليه أن يتجاهل أحداً، فليتجاهل الزوجة لأن بعض الرجال أغبياء وعلى جانب من ضعف الوعي، هذا إذا أراد الأفضل للمريضة. لم يعجبه ما قلته، وقال بحماس بأنه علي أنا إذا أن أغير من طريقة تفكيري، فتدخل الدكتور يخبره بأني أشرح له حقيقة فقط، أسدي له النصح. ثم شرحت له أنا كذلك، قلت بأني أعلم بأن المريضة هي من يجب أن يخاطب بالأساس، وهي الأهم، لكني أحاول فقط أن أوضح لك أن تحدي الناس وأفكارهم لن يأتي بنتيجة جيدة، إن تجاهل الرجال وإن كانوا ليسوا المرضى الأساسيون قد يكون عكسياً على مريضاتك، وأنت تريد الأفضل لهن، فلا تتحدى الرجال وتحاول أن تثبت وجهة نظرك مهما اعتقدت بأنها صحيحة، لأن المرأة ستكون هي آخر من يستفيد، وتسائلت عن الفائدة التي ستجنيها المريضة من محاولته إثبات صحة رأيه حتى لو كان صحيحاً، طالما زوجها لن يتفهم. فهم، وقد اقتنع على ما يبدو. لكن الأمر سّلاه، من الواضح أنه يحب الخلاف والمشاكسة.
تحدث عن توعيته لمرضاه، ولكني تسائلت عن فائدة التوعية وقول الحقيقة الصريحة للمرضى، حينما يكون حافزهم ضعيفاً لمساعدة أنفسهم. كمثال، الناس الذين يحتاجون إلى تخفيف أوزانهم غالباً ما لا يقومون بهذا بمجهود ذاتي مهما كان هذا أفضل لهم، إنما يريدون من طبيب أن يستأصل الشحوم أو يربط معدتهم (وهو أمر خطير جداً كما وصف لي). بدا في البداية أنه مكتف يقول الحقيقة بلا تبسيط وفخور بالأمر، وهو أمر جيد، لكني لم أرى له قيمة كبيرة في مجتمعنا الاتكالي إلى حد بعيد. شرحت له بأن الناس عموما هنا يائسون، ويصعب تحفيزهم، وأن قول الحقيقة لا فائدة منه بلا تحفيز. ولكن كيف يكون التحفيز؟ هذا ما لا أعرفه، لكني أعرف بأن قول الحقيقة لا يعنيهم كثيراً، طالما لن يكمل الطبيب العمل على المشكلة بنفسه دون مساهمة من المريض. تناقشنا حول التحفيز، وفي البداية بدا أن الفكرة تثير اهتمامه، لكنه لا يفهمها تماماً، ويعتقد بأن قول الحقيقة يكفي، وأن من لا يساعد نفسه، فقانون داروين (الإنتقاء الطبيعي) كفيل به، لكني جادلت بأنه هكذا لم يساعد مرضاه فعلاً.
وقد تحدث عن المطاوعة هنا، لديه وجهة نظر واضحة ضدهم، وهو يعتقد بأنهم لا يطبقون الإسلام على الوجه الصحيح، الذي يحث على الاعتناء بالبدن والتفهم. وهو يتوقع حدوث تغير كبير على المستوى النسائي. وأنهن لن يصمتن طويلاً. تناقشنا حول هذا الأمر كثيراً. أي نوع من التغيير يتوقعه؟ يوجد إشكالات كثيرة حول تغير المجتمع بدافع خارجي. قال بأنه يتفهم بأن وجود أمهات بلا أزواج مشكلة لا يريد السعوديون التوجه في الطريق إليها كما في ألمانيا. طال النقاش إلى حد ما. لم أكن أناقش على أساس إشكالات النساء هنا فقط، إنما المجتمع بشكل عام. قال بأن هناك من هو واع لما يجري ومشكلة النساء هنا ويسعى لتغيير الوضع، فقلت بالتأكيد هناك من يعي ويمكنه التغيير، لكن السؤال هو: هل سيقوم بما هو صحيح أم لا؟ فالأمر مثل مرضاك، يحتاج إلى التحفيز الصحيح، وليس الإجراء الخاطئ. كان الدكتور الألماني، صديقي، يستمع طوال الوقت، ومن النادر أن يتدخل، وقد يضحك بخفة أحياناً على شيء أقوله، رغم أني لم ألقي أي نكتة، وهو يلعب بلبادات الكؤوس. ولكنه هنا أطلق ضحكة واضحة وقوية، وقد ترك ما يلعب به على الطاولة. فالتفت إليه، وقد تعودت على هذا النوع المفاجئ من الضحك على ما أقول، واستمر يضحك، ابتسمت وسألته لماذا يضحك؟ فقال بأن الطريقة التي أقول بها هذا جميلة.

حينما انتقلنا إلى موضوع آخر، المجتمع هنا، وجدت بأن الطبيب لديه الكثير ليقوله، خصوصاً عن المرأة هنا. إني أعتقد بأن المرأة هنا تعاني من الكثير من المشاكل، ولا تتلقى الرعاية الخاصة التي تستحقها، ولكني لا أنتظر الحل من الخارج، ولا أريد أن أنظر للأمر بأن مشكلة المجتمع الوحيدة تتمحور حول المرأة، فالكثيرون سواها يعانون. قال بعض الأمور التي أتفق معها، مثل الاهتمام بصحة المرأة، وممارستها للرياضة، وهذه الأمور، ولكنه قال أمور أخرى، عادية إلى حد ما، لكن اندفاعه حول الأمر أشعرني بأنه مغتر كثيراً بحضارته الغربية، وربما على جانب من الصفاقة أحياناً، كما قال في لحظة بأنه لا يستطيع أن ينقل ١٤٣٢ إلى ٢٠١١ في لحظة واحدة، مما جعلني أتسائل عن مقاييسه للحضارة، ومدى عمق تفكيره فيما يقول ويعتقد. لكني قدرت حسن نواياه ورغبته في تحسن أمور بعض الناس هنا، وإن لم يكن يعرف على وجه التحديد العلة، أو ولو لم يكن لوجهات نظره اعتبار كبير كونه لم يطل البقاء هنا وليس بذلك الشخص اللماح على المستوى الفكري حسب اعتقادي.

خلاصة الأمر، لا أحد يخلو من عيوب، لكني أحب حسن النية، أحب البراءة الصميمة وإن غطيت بالتذاكي والتحذلق. لقد أعجبني إلى حد بعيد بحضوره اللطيف ووضوحه ومباشرته، أياً كانت أفكاره، فأنا أقدر الصدق، ولا أقدر الالتواء، أما الأفكار والمعتقدات، فليس لي غير نقاشها والتحدث حولها، والحكم الله سبحانه أولى به. كما أقدر بعده عن السخرية وجديته. فالسخرية سيئة النية هي ما يستفزني في النقاشات هذه.
تحدثنا كذلك عن الكثير من الأمور الأخرى. تجاربه في الماضي والآن هنا، عائلته كذلك. قال بأن أبنائه سيحضرون إلى هنا لزيارته، وقال بتأكيد يشبه الفرض اللطيف بأني سأقابلهم. أبهجني الأمر، وبدأت أسأل عنهم. لديه الكثير من الأبناء ما شاء الله، خصوصاً بمقاييسهم، وهو يقول عن هذا أنه أدى خدمة كبيرة لألمانيا بهذا الإنجاب الوفير!. بالطبع، هو صادق، فهم ليسو مثلنا. كان الدكتور صديقي قد أخبره بأني وإخواني عشرة، من أم واحدة، حينما كنا نتحدث عن الأمور الطبية واستنزاف النساء.

حينما أردنا الخروج، وجيء بالحساب، قال الدكتور صديقي مبتسماً بطريقة مخادعة بأنه سيدفع عن نفسه، بينما أدفع أنا عن نفسي وضيفي، ولكني رمقته بنظرة خاصة، وجأرت بالشكوى، مما جعله يستسلم مباشرة، وهو يكظم غيضه ناظراً في اتجاه آخر. بدأت أتعب أعصابه مؤخراً في هذا الموضوع. لا أدري لماذا لا يريدني أن أدفع أبداً.

خرجنا، وأوصلتهم إلى منزل الدكتور. وفي الطريق أخبره الدكتور عن ظروفي، وظروف أهلي الطبية، وكانت هذه مقدمة لإحراجه بخصوص فحوص أمي، لكنه استبق الأمر وقال بأنه سيرغم الطبيب الذي فحصها على الإدلاء بما عنده.
أرجو أن أرى هذا الطبيب مرة أخرى، إنه طيب جداً.





في العمل، لا زلت أتفادى التعامل الطبيعي مع مديري، وأركز كل تعاملي معه على المستوى العملي، خصوصاً بعد إرساله لشخص آخر لينقل عنه ملاحظات، بينما كان يراني، ومكتبه على مقربة.

مديري هذا الأسبوع يحاول أن يكون لطيفاً، ويصطنع لأي حدث صغير امتدادات طويلة، ويدعو لي طوال الوقت، ويحاول أن يجعلني أجلس في مكتبه كالسابق، ويترك لي الخيارات على نحو غير معتاد ويحاول أن يبرز بأنه يريد أن يخدمني في كل شيء.
لكن...
حينما أرسل ذلك الشخص ليخبرني بملاحظاته في الأسبوع الفائت، كان يتلطف قبل ذلك أيضاً، وإن على نحو أقل من هذا الأسبوع، تجاهي منذ صباح ذلك اليوم. هذا جرح لم يبرأ، وما يدريني أنه يتطلف لي الآن، ثم يرسل إلي نفس الشخص مرة أخرى، بملاحظة أخرى...
أختي الكبرى، صديقتي الصدوقة، تشفق على المدير، وتقول بأنه رجل كبير نادم على ما حدث، وأني يجب أن أخبره بما يجول في خاطري لأصحح الوضع.
لكني لا أدري. إني أشعر بالخجل من تلطفه، ولا أريد أن أجرحه بتجاهله، وهذا ما أحاول أن أقوم به، أن أرد بالحد الأدنى، أن أصطنع ابتسامة ولو كانت غير صادقة.





في التميمي قبل يومين، وجدت رجل مسن يبحث في قسم الخبز عن ساندويشات معجونة بالحليب، وتكون ١٢ حبة في الكيس. كان الرجل ضئيل بلحية طويلة، ولهجة جنوبية قوية، وحركة سريعة ما شاء الله. كان يمسك حينما ناداني لأساعده من بعيد، ولا أدري لماذا اختارني، كان يمسك كيس فيه ٩ ساندويشات صغيرة الحجم. أخبرني بما يريد، ولم أجد له ما يريد بعد بحق في رفوف الشركات المختلفة، فلم يكن الخبز يعبأ بالشكل الذي يريده، فقال بأنه إذا سيأخذ ما وجد ويمضي، لكني نبهته متسائلاً: أليس حجمها صغيراً؟ وأخرجت له كيس فيه حبات أكبر، من النوع الذي يؤخذ إلى المدرسة، إذ خمنت بأن هذا ما جاء به، تلاميذ في المنزل. شكرني بذهول، وقد بدا بأنه لم ينتبه إلى مسألة الحجم. أخذ كيسين، وقبل الذهاب جرني وقبلني وهو يدعو لي، على نحو فاجئني، ثم مضى مستمراً بالدعاء. بالواقع، شعرت بامتنان أكثر مما قد يتوقع المرء، لأني لا أدري إن كنت اشتهي أن أقبل نفسي.







أمس، كلمني مديري بلطف، محتجاً على طول تغيري عليه، وعلى حساسيتي مما جرى. قلت بأني حسبت بأنه يريد أن يضع حداً جديداً، فأحببت أن ألتزم به. لم يفهم، فسألته لماذا أرسل شخص آخر لينقل عنه رسالة، وهو يراني طوال اليوم؟ قال بأنه لم يفعل. ظهر بأن الأمر كان خطأ ذلك الشخص، الذي أقحم اسم المدير لسبب ما، ربما ليتفادى إحراج نفسه. كان أمر في قمة السخافة. شعرت بغضب شديد، وقلت بأني لا أريد أن أتعامل مع ذلك الشخص مرة أخرى، لا أريد أن أتعامل مع هذا المستوى من الغباء. أخبرت المدير بأنه حتى ساومني على السماح لي بمرافقة أمي إلى مواعيدها، وتعنت في موضوع إجازة اضطرارية من حقي. قال المدير بأن في الأمر سوء فهم، وأن ذلك الشخص لم يعرف كيف يعبر على الأغلب. أصريت على أن لا أتعامل معه مرة أخرى. فاقترح المدير أن يكون تعاملي معه مباشراً. لكني قلت بأنه يعلم بأنه يجب أن يكون لي مدير فرعي، وهذا سيسبب له الإحراج، كما سيسبب لي الإحراج حينما يقول الآخرين بأني أحضى بمعاملة خاصة، فقال بأن هذا غير صحيح، ولا يهم الإحراج. كان قد تفادى التعامل المباشر على المستوى الرسمي منذ زمن بعيد، لأن القوانين الجديدة تقتضي تعيين مدراء فرعيين. مع ذلك، أصر أن يكون تعاملي معه مباشر من الآن فصاعداً، وأن أنسى أمر ذلك الرجل ولا أغضب، وطلب مني أن لا أكون حساساً، فهو يقدرني كثيراً، ويريد أن يعود سعد الذي كان يعرفه قبل اسبوعين. تكلم كثيراً، عن رأيه بي، ورأي الآخرين فوقه وبمستواه بي. أعرف أنه يريد أن يشجعني. طال النقاش حول بعض الأمور. وخلص إلى أنه يريد أن يرضيني، وأنه يهمه صالحي كثيراً. 
إني ممتن لمشاعره كثيراً. لكن التفاصيل أشكلت علي. إني أشعر بأني فقدت الثقة بما يقول إلى حد بعيد. وهذا رغماً عني.
فرح حينما سألني إذا ما كانت الأمور على ما يرام الآن. فقلت نعم. يحاول الآن أن يكون ألطف من السابق.
مع ذلك، لا أدري لماذا أشعر بأن نفسي عافت القسم إلى حد ما. وصرت أطمع بالمغادرة تجنباً لازدحام المكان بالكثير من غير الأسوياء، وابتعاداً عن الذكريات السيئة.





سعد الحوشان