بسم الله الرحمن الرحيم
خيبة الأمل، هل هي فقط التعبير الذي تظهره وجوهنا حينما يحدث ما توقعنا خلافه، و مجرد الشعور المؤلم في القلب حينما يقوم شخص نحبه بجرحنا من حيث لم نتوقع. كل هذه أمور لحظية، حينما يحدث خلاف ما توقعنا فإنه أمر حدث في لحظة معينة، وليس حدثاً مستمراً؛ لقد تبدل القدر وعلينا أن نتأقلم، وحينما يجرحنا أحد ما، ويحطم قلوبنا، فإننا قد اتخذنا موقفاً في تلك اللحظة؛ لقد خاب ظننا، وعلينا أن نبدل من رؤيتنا للأمور وما نفعله مع ذلك الشخص. ليست هذه أمور مستمرة. لكن هل هذا كل ما هنالك؟ هل خيبة الأمل نفسها أمر لحظي؟ أم أمر قد يعيش مع المرء طوال حياته.
إني أرجح أن خيبة الأمل ليست شيء يحدث وينتهي في لحظته؛ إنه تجربة، وبعض التجارب قد لا نغادرها، أو لا تغادرنا. إن ما سبب خيبة الأمل، من خلاف للتوقعات أو جرح للقلوب، هو الأمر الوحيد الذي توقف عن التطور والاستمرار بعدما اكتشفناه، فاختلاف المتأتي عن المتوقع لا يصدمنا بعد أول مرة، وجرح القلب قد يستمر ألمه، لكنه ليس متكرراً بطبيعته على الأغلب. لكن خيبة الأمل نفسها هي أمر آخر، يحتاج إلى تعامل، أو نظر وتأمل، على حدة.
قد تنتهي الأمور التي خاب أملنا فيها، وينتهون أهلها من حياتنا، لكن خيبة الأمل تظل تطبع رؤيتنا لكل ما يشبههم، ولو مبدئياً، إنهم يظلون معنا ويعيشون في قلوبنا ليس من خلال حبنا السابق لهم، وليس من خلال جرحهم لنا وشعورنا المستمر بالأذى، ولكن من خلال خيبة الأمل التي فاقت تحملنا وأخضعتنا.
حينما تمطر بخيبة الأمل عيناي...
ويضيع قلبي في الغيم بين حناياي...
ويبدأ الصقيع بالتكون حيثما وقعت خطاي...
سيظل قلبي ينبض...
طالما بقيتم فيه...
يا أحبائي...
وأعدائي...
يا دافع حياتي...
ومصدر شقائي...
ضائع في متاهة متصدعة...
تشبه قلبي حيث تضيعون...
لعلكم لا تجدوا لها نهاية...
حتى تنهار جدران متاهتي...
فتغفون في قلبي...
إذ أنام للأبد...
كنت قد أوضحت من خلال الفيديو في التدوينة السابقة أني مقدم على أمر مهم. بالواقع، لم يتم الأمر، والحمد لله. ماذا كان؟ كانت قوازه واتفركشت، قُم الصعايدة وفركشوها بالبارود (وكسروا بريق الغضارة اللي على راس الرقاصة).
لا، أمزح عليكم بالطبع. كان الأمر هو خطة سفر للعلاج، مع نفس الثلاثي "المرح" في العام الفائت، أمي وأختي وابنتها، ولكن ليس إلى الهند، إنما إلى ألمانيا. لم أكن مرتاحاً لا للسفرة هذه المرة ولا لترتيباتها ولا الضليعين في الترتيبات، وقد كان شعوري في محله، لهذا، أحمد الله ألف مرة. كنت مأزوماً بالواقع طوال الفترة الفائتة. لكن لم يكن لي من القرار شيئاً، كما قلت لأختي؛ أنا لا أقول إذهبوا أو ابقوا، أنا فقط أذهب إن ذهبتوا وأبقى إن بقيتوا.
الآن، يمكنني أن أستأنف حياتي في الصيف كما خططت إن كتب الله. كأنما كسبت وقتاً جديداً، غير محدوداً. فنحن لم نكن نعرف متى سنعود ولو على وجه التقريب، عكس رحلة الهند في العام الفائت. مع أنه لا بد مِن مَن سيحاول أن يأكل من وقتي، ويقوض خططي.
غداً موعد قصير لأمي في مدينة الملك فهد. إن من يجد لي أقل القدر لديه، أو حتى يكن لي كراهية معقولة ومتعقلة، أسأله أن يدعو الله لأمي وصحتها، وأن يكون كل شيء على ما يرام.
التقيت بالدكتور الألماني في منزله الاسبوع الفائت، كنا ننوي مشاهدة فيلم الأميرة مونونوكي معاً. لكن الجهاز الذي أحضرته معي، وهو ليس جهازي لأن جهازي ضخم جداً، لم يشغل الاسطوانة للأسف. أمضينا الوقت بالتحدث عموماً، ومناقشة بعض الأمور. كان لديه آية من القرآن الكريم يتسائل حولها، وقد وجد لها أكثر من تفسير. جرنا هذا لأمور أخرى مشابهة، وتكلمنا حول رؤية الدين لقصة أحد الأنبياء عليهم السلام، وقال بأن التوراة تقول كذا. قال هذا بتأكيد، فقلت بأني لا أصدق هذا، فبالنسبة إلي التوراة مبدلة. قال بأنها لم تبدل، إنما تعبيرها تبدل. واستمر يتحدث عن رؤيتها ورؤية الانجيل. فأوضحت بأن هذه مصادر فاقدة للمصداقية بالنسبة إلي، على عكسه، وهذا يحصر مصادري أكثر، ويجعل فهمي للأمور أسهل. بدا أن ما قلته لم يكن متوقعاً، أو غير مرغوب، لأنه سيحصر النقاش كثيراً.
لكن في خضم نقاشنا، وقد كنا نتناقش عن سبب حمل الإنسان للأمانة بعدما رفضتها الأرض والجبال، ووصفه بالجهل، سألته عن سبب اهتمامه بهذه الآية بالذات، فقال بأنه يريد أن يفهم لماذا قبِل الإنسان، ولماذا وصف هكذا. أخبرته بأن أكثر ما شد انتباهي منذ أن كنت صغيراً في هذه الآية ليس الإنسان، فهو أحمق بطبيعته عموماً وهذا أمر مفروغ منه، هكذا خلق، لكن كون الأرض لها إرادة، وكأنما لها روح أو هي حية. هذا، جعله لاحقاً يقول بأني أنحاز للطبيعة دائماً، وأكره الإنسان. هو عموماً اتهمني كثيراً بأني أكره الإنسان من قبل. أنا أكره الإنسان، ولكني أحب الناس.
إني أعمل حالياً على تدوينة أجمع فيها فيديوها وآرائي بها وتأثيرها علي، وليست الفيديوهات هي المعنية بقدر الأفلام التي اقتبست منها وما أريده قوله حولها. أرجو أن تنتظروا التدوينة.
يضايقني طبع بعض الناس الذين يأتون من ثقافات مختلفة أحياناً. إني أجد لهم العذر، لكن أحياناً يفوق الأمر احتمالي. بعض الناس مثلاً يقترب منك حينما يريد محادثتك إلى حد لصيق. ومهما تراجعت للخلف يظل يقترب، وحتى حينما تبدأ بالتراجع بوضوح وبرد فعل سريع على اقترابه يظل يقترب أكثر. غالباً لا تكون رائحة أفواههم مقبولة، وهذا يزيد المشكلة، السيئة أصلاً، سوءاً في نظري. أبدأ بفقد التركيز، والتوتر كلما اقتربوا أكثر. أخشى أحياناً بأني سأمد يدي واوقفهم على مسافة معينة برفق، لكن هذا سيكون جارحاً. أتذكر أن أحدهم طاردني وأنا أتراجع إلى الخلف باستمرار وأصر على الاقتراب من وجهي وهو يتحدث حتى حصرني على جدار، دون أن ينتبه أني لا أريده أن يقترب إلى هذا الحد، مما جعلني أفكر ببديهته البطيئة. كنت أتراجع بقوة لأن رائحة فمه كانت فضيعة. يجب أن تتحمل الكثير حينما تكون مترجماً، لكن ليست كل التجارب هكذا بالطبع، إن الترجمة المباشرة للناس وبينهم أمر جيد غالباً.
بشكل عام، السعوديين حساسين عموماً تجاه اقتراب الناس إليهم، خصوصاً إلى وجوههم. بينما الهنود يتلاصقون على نحو عجيب حينما يريدون التواصل.
قد يقترب السعوديين من بعضهم عند السلام، لكن ليس إلى درجة لصيقة، باستثناء حينما يقبلون بعضهم بالخد.
قرأت قبل قليل مقابلة للداعية العريفي. كنت قد قلت من قبل بأني لا أجده مريحاً، هو والقرني. في المقابلة تأكد شعوري أكثر بأن هذا الرجل لا يعجبني. لا تعجبني ثقته بنفسه، وإشاراته الواثقة والمباشرة لجمال شكله، الذي صدقاً أراه عادياً أو أقل. أما على المستوى الفكري، فأيضاً لا يعجبني. أشعر بأنه سطحي محب للظهور المفرط وغير الرزين تماماً، مثل القرني، وهذا قد يلائم البعض، لكنه لا يلائمني.
ورغم أني اكتشفت بأني لا أحب الرجال من كبار السن في مجتمعنا، إلا أني أحب الشيخ المطلق.
أمس يوم الاثنين، وقد التقيت الدكتور الألماني على خلاف العادة. أخبرني برسالة الكترونية مبكراً في نفس اليوم أنه سيسافر، إذ توفي أخيه، وأنه يمكننا أن نلتقي قبل أن يذهب في المساء، طالما لن يكون موجوداً في نهاية الأسبوع. عزيته، وأخبرته بأني سآتي. فكرت بأنه لو كان يريد أن يخلو بنفسه لقال بأنه سيسافر فقط.
كانت وفاة أخيه متوقعة منذ مدة، فقد كان مريضاً جداً، وقد كنت على علم بهذا. وجدت الدكتور في حالة جيدة وإن يكن أكثر هدوءاً، سوا أن ذهنه يشرد أحياناً، ويتنهد في أحيان أخرى بصمت. تحدثنا عن أخيه، وأهله. يجب أن يذهب سريعاً ليبقى مع العائلة في وقت الدفن والعزاء.
كان يجب أن نتحدث عن أمور أخرى، وحاولت أن أسليه، فأمامه وقت مشحون بالأسى والعاطفة.
أراد أن يعرف آخر أخبار صحة أمي كالعادة، وآخر أخباري. تناقشنا حول بضعة أمور أخرى.
اتصل به شخص، كان الدكتور يقول له، وقد طالت المكالمة كثيراً، بأنه غير قادر على فهمه، وأن الضجيج عال هنا؛ كان الدكتور يلمح بتهذيب لإنهاء المكالمة. لكن الآخر استمر بالتحدث، وبالكاد انتهت المكالمة. خمنت مباشرة بأن المتصل دكتور سعودي، وكان هذا صحيحاً. عرفت لأنه لحوح، ولا يفهم بسرعة، ويريد التحدث كثيراً وبلهفة غير عابئ بما يقول الدكتور، وكأنما التحدث معه امتياز يجب أن يستفيد منه إلى آخر لحظة، فلو كان يكلم دكتور سعودي مثله، لما طالت المكالمة رغم التلميحات التي قيلت، لتفهم أو حتى فقد الاهتمام، فالدكاترة العرب والسعوديين عموماً مبهورين بنظرائهم الغربيين. قال الدكتور بأنه يواجه مشكلة مع هذا الدكتور لأن لغته الانقليزية سيئة. ينخدع الناس بالدكاترة السعوديين وكل من درس في أمريكا، بل إن الدكاترة ينخدعون بانفسهم. بشكل مجمل لغتهم الانقليزية سيئة قواعدياً، محدودة المفردات، استعراضية على نحو سمج، ويحبون التظاهر المستميت بأنهم يجيدون اللغة كأهلها أمام من لا يتحدثها، مما يجعلهم يصرون على التحدث مع الأجانب لفترات طويلة أمام الآخرين غير المدركين لمهزلة ما يقولون. ويحبون كذلك أن يحكمون على لغات الآخرين، خصوصاً حينما يريدون القول بثقة بأن لغتهم جيدة، وكأنما لغتهم هم ليست بمحل سؤال، وهذا هو المغزى. وتبلغ بهم الجرأة أحياناً حد انتقاد ما يكتبه الآخرين، ومحاولة تصحيحه باستماتة لإثبات بأن لغتهم جيدة جداً، وقد حدث هذا لزميلي المترجم الآخر في العمل. أما نطقهم لما يقولون، فهم كالغراب الذي أراد تقليد الحمامة فنسي مشيته ولم يقلد الحمامة، يحاولون أن يبلعوا الحروف دون وعي أو علم بأنهم يبدون سخفاء (يعنني امريكان)، وذلك لخداع السامع، ويحاولون الاتيان بمفردات شعبية وقد تقارب السوقية أحياناً للتفاهم مع الأجانب كدليل على اندماجهم بالثقافة. إنهم مثيرين للشفقة، مجموعة سطحية بمجملها من الناس المغلفين بغلاف رخيص وممزق، لا يخفي بالحقيقة الجوهر البسيط غير المثير للاهتمام.
إني أذهل لقدرة الدكتور على السيطرة على مشاعره، رغم أنه إنسان بالغ الطيبة والرقة.
لم أتحدث عن دفع الحساب هذه المرة، تركته يدفع بصمت.
فوجئت باتصال أختي باكراً صباح اليوم، إذ أخبرتني بأن السائق تعرض لحادث بعدما أوصلها ومضى، وقد اعتدى عليه الطرف الآخر في الحادث، وهو رجل باكستاني حسبما علمت. لأن زوجها قد ترك سيارته في الورشة، ذهبت أنا لأقوم بما يلزم. وجدت سائق أختي، وهو هندي مسالم وغير صغير، يبدو عليه الإرهاق، بينما زجاج السيارة الكبير الجانبي الخلفي قد تحطم. ثم جاء السائق الباكستاني، وهو سائق حافلة، وسلم علي. وجدته شاب غير كبير، ذو عينين شفافتين ووجه حسن، ولا تبدو عليه العدوانية. إلا أن أثار أظافره كانت على رقبة سائقنا. سألته لماذا ضرب السائق. أنكر في البداية، ثم علل بأن سائقنا حاول إبقائه في سيارته رغماً عنه وأخذ المفتاح حتى لا يهرب، رغم أنه لم ينوي الهروب. وهذا ما يقول سائقنا عكسه. وبالواقع، أرجح بأنه حاول الهروب، لأن الحادث لم يترك أثراً على سيارته، ولم يبدو عليه أنه شخص صادق. قال بأنه سيدفع لنا التكاليف. لكن لابد من استدعاء المرور أو نجم، وهي شركة متعاونة مع المرور. بالتواصل مع موظف نجم، وقد كان موظفهم صبوراً علي إلى حد بعيد، إذ لا يوجد أي أسماء شوارع في الحي الحديث أو معالم واضحة، تمكنت من مواعدته وإحضاره إلى مكان الحادث. أغلِّب بأن الشاب الذي جاء شيعي من القطيف، بحكم لهجته وسحنته. سرعان ما أبدى الشاب عدم اقتناعه بما يقول الباكستاني، ثم بدا عليه القرف منه بعدما أخبرته بأنه ضرب سائقنا وشاهد آثار الضرب، وسأله عنه. اقترح رجل نجم أن يحول الأمر بأكمله إلى المرور، للتعامل معه كحادث جنائي. لكن سائقنا رفض، وقال بأنه فقط يريد أن يدفع الباكستاني تكاليف الإصلاح. أفهمته بأن الخطأ على الباكستاني وسيدفع الثمن، وأنه لا يجب أن يخاف، إذ من حقه أن ينظر في موضوع الضرب، ولكنه رفض باصرار. سأل الشاب إذا كنا نريد أن نتفق دون حضور المرور. كان الباكستاني يريد هذا، فهو أصلاً لا يسوق الحافلة بالرخصة اللازمة، أي أنه مخالف للنظام. بعد وصف الأمور لزوج أختي، طلب مبلغاً تقديرياً، رفضه الباكستاني قائلاً بأنه كثير، وأنه سيحضر معنا ويدفع التكاليف بنفسه. طلب زوج أختي أن أستدعي المرور إذاً. لم يتأخر المرور كثيراً. وأخذ الباكستاني، وسط نظرات الكثير من الباكستانيين الذين توقفوا ونظروا بغير رضا.
ماذا بوسع المرء أن يقول عن فتاة تدعي أنها رجل على الانترنت، وتتمادى في الأمر، بحيث لا يصبح عذر تجنب أصحاب الأخلاق السيئة معقولاً، بعدما أصبحت أخلاقها هي سيئة بفعلتها؟.
في بدايات الانترنت، انتشر دخول الفتيات بأسماء رجال لأجل النظرة الاجتماعية ولتفادي الاحتكاكات الفكرية والعاطفية والشبهات. ولكن سرعان ما صرن النساء يدخل بأسماء مستعارة انثوية أو حتى أسماء حقيقية كاملة أو غير كاملة. صار ادعاء فلانة بأنها رجل أمر غير مقبول، إذ صار من الأولى تجنب مواطن تجمعات المشبوهين من الأساس بعدما أصبحت الأمور أكثر وضوحاً. وصار من المعروف أن الفتاة تفرض نوعية التعامل معها بعرض أخلاقها منذ البداية.
مع ذلك، ظل هناك من تدخل باسماء رجالية أو ذكورية، وتوهم الناس بأنها رجل، فتكسب صداقات الرجال بطريقة مخادعة، وتتسبط بالتحدث معهم، وربما ذهبت إلى ابعد من التبسط بقبول أن تدعو رجلاً "حبيبي"، بحكم أنه لا يدري أنها فتاة. أتسائل كيف لأي فتاة تعتقد أنها محترمة، وقد تصر على ذلك، أن تقبل مثل هذا الأمر على نفسها. أن تتشبه بالرجال بطريقة أو بأخرى، ثم تقول لهم ما قد يعطي انطباعاً آخر عنها لو علموا بأنها أنثى. فتاة متنكرة بالرجولة تقول لرجل بحكم الصداقة: حبيبي، وتبدي تقديرها الشديد وأطيب الأماني، وتبالغ بعرض الحميمية. كيف سيفكر بها المرء حينما يعلم أنها فتاة؟. إنها تعود إلى أنوثتها بعد كل شيء، وتمارس الفضيلة التي لا مراء فيها، بتناقض غريب.
إني أجد الأمر خسيس على كافة الدرجات. فهي تحط من قدرها بالكذب في البداية، وما أجبرها الله بالتداخل مع الرجال إلى هذا الحد، ثم تحط من قدرها أكثر بالتبسط معهم بذريعة أنها رجل، ثم تحط أكثر وأكثر حينما تتصرف وكأنه لا شك يلحق بأخلاقها.
إني أتفهم ما كان يجري في بدايات الانترنت، حذر الناس وبناتهم ورغبتهم بأشياء محددة، الصداقة مع الرجال ليست منها. لكني ألوم الآن من تحاول نفس الشيء بعد تغير الزمن، وألوم كذلك من كانت تدخل باسم ذكوري حتى في البداية وتتسبط أكثر من اللازم.
أتذكر قبل زمن طويل، كان لدي صديق في الثانوية والجامعة، وقد كان يدخل التشات كثيراً. وقد كون صداقات مع الكثير من الناس، وكانت له غرفة محادثة خاصة وفكرية، فقد كان يرى في نفسه مثقفاً من طراز خاص. المهم أنه حدثني عن صديق جديد له، خفيف دمه وودود جداً، من المنطقة الشرقية. وكان معجب جداً بذلك الصديق المضحك. بعد فترة طويلة، تعدت السنة بكثير على الأغلب، أخبرني صديقي بصدمة بأن من شاركه الأحاديث وربما الأسرار أخبره في النهاية بأنه فتاة، لهذا رفض مقابلته حينما زار المنطقة الشرقية. كان مذهولاً لاتقان الدور. وقد تفكرت أنا في كل ما قاله لي صديقي هذا عن حكايات هذا الشخص، قوله حينما رأى صورته بأنه جدير بناد للمعجبات.
هل كانت لتتحدث بهذا الارتياح لو أنها كتبت بأنها فتاة؟ لا أتصور. إذا، هل هي نفس الشخص أم لا؟ هل كانت تنظر للأمر من هذه الناحية؟ خصوصاً أنها لم تكن مضطرة لأي من هذا؟. إن هذا يشبه خلع بعض النساء لملابس الحشمة حينما يغادرن الأجواء السعودية، مع فارق كبير، أن النساء في الطائرة لن يقمن بالضرورة بالتبسط مع الرجال. ولم يقتحمن مجتمع الرجال هكذا، أو يخدعنهم، أو يعبثن بشعورهم.
لا أتحمل هذا النوع المنافق من الناس. قد يكتب الناس بصفة مجهولة لأي سبب من الأسباب، وقد يقوم الناس ببعض الذنوب خفية؛ كل هذا معقول. لكن هذا النوع من النفاق الخالي من الندم يثير اشمئزازي.
ذهبت قبل فترة إلى كلية الحاسب في الجامعة، لأسأل عن بعض الأمور الأكاديمية لأجل ابن أختي، الذي تخرج الآن من الثانوية. هناك، وجدت مكتباً مفتوحاً، وفيه رجل ذو وجه طويل وغريب. وكان يتصرف بنذالة غير عادية مع الطلاب حوله، الذين جائوا حسبما أتخيل للتسجيل للدراسة في الصيف أو لإجراء أكاديمي آخر. كان لا يعطيهم حتى فرصة ليتكلموا، إنما يقاطعهم، ويرفع صوته عليهم، ويتكلم بطريقة ساخرة، وحينما سأله أحدهم قلماً، قال بجلافة: ماعندي!. ظللت واقفاً، وهو يعلم بوقوفي، لعله يتكرم وينظر فيما أريد، لكنه ظل على تجاهله عنوة، وعرفت بأنه يحسبني طالب، ينتظرني لأكلمه فيسيء التعامل معي. لذلك، سألت أحد الطلاب عما أريد، فتدخل هو وسألني ماذا أريد، وحينما بدأت السؤال لم يتركني أكمل، إنما سخر مني، وحاول إظهاري بمظهر الغبي، رغم أن المرء لا يسأل إلا عن جهل بطبيعة الحال، كما أنه لم يدعني أسأل فعلياً، فأخبرته بأني أسأل عن شيء آخر وليس ما يتحدث عنه، وسأل بجلافة وهو رافع صوته عن أي شيء أسأل؟. هززت رأسي باشمئزاز لم أخفه، وأنا أنظر في جوالي، حيث نقاط ابن اختي التي يريد مني أن أسأل عنها مسجلة، ثم وجهت سؤالي إليه، فاتضح بأنه ليس لديه فكرة، وهب الطلاب لمساعدتي، مما جعلني أشعر بشفقة كبيرة عليهم. حينما أردت الخروج، شكرت الطلاب، وودعتهم. ربما انتبه بأني لست طالباً، وأني على الأغلب موظف، لأني تجاهلته بسهولة.
عدت في وقت لاحق إلى الكلية للسؤال أيضاً، وهي تمتلئ بغرباء الأطوار، ووجدت موظف غير شاب اقترب من الدرج حينما رآني صاعداً، وظل يتأملني بطريقة غريبة وغير مهذبة، ولم يرد السلام حتى نظرت إليه فجأة. كنت أسمع ضجيج مرتفع في الأعلى، وضحك لشخص واحد، وكان هذا هو الرجل ذو الوجه الطويل، كان يتحدث بالجوال وكأنه وحده في مجلس بيته، وصدى صوته يردح في أرجاء الكلية. حينما رآني تنبه، وأنهى المكالمة. كنت سأتجاهله وأمضي إلى قسم محدد، لكنه استوقفني وسألني بود بماذا أأمر؟. أخبرته بهدوء أني ذاهب إلى القسم الفلاني، فقال بأني سأجد فلان وفلان هناك، وأنهم سيساعدونني. وسألني بلطف أكبر إن كنت أريد شيء آخر. شكرته ومضيت.
لم يتغير موقفي منه، لأني بالواقع لم أغضب لنفسي، إنما غضبت لأجل الطلاب المساكين. سيظل الطلاب يعانون من الجميع، ويظلون الطرف الأضعف، في مفارقة لكونهم الطرف الأهم بالواقع.
لا زلت أتذكر أيامي في الكلية، وكم كانت عصيبة مع الموظفين وخلافهم. الموظفين في الكليات غالباً ما يكونون مجموعة من ضعيفوا التعليم والوعي، من لا سلطة حقيقية فوقهم. ورغم أنهم محتقرون من الدكاترة، إلا أنهم لا يملكون عليهم سلطة حقيقية، فتكون العلاقة غالباً بينهم ما بين شد وجذب على نحو خفي ودسيس، مغلف بابتسامة التملق والنفاق المغصوبة من قبل الدكاترة حتى لا تتعطل أمورهم بالكيد وإضاعة الأوراق، وابتسامة البلاهة الأبدية من معظم موظفي الكليات.
كان هناك مسجل الكلية، وهو كان رجل لا يعرف غير الصراخ ومحاولة تصعيب الأمور. الكل يتخيل بأن الطلاب لا يجب أن تتم خدمتهم وفق ما يريدون ويحتاجون وفق الأنظمة ولا أن يمنحوا الكرامة، ليبقوا تحت السيطرة. هذا الرجل رأيته بعدما توظفت، وقد انطبعت في ذهني دائماً صورته المراوغة والقاسية، وقد أصبحنا زملاء كموظفين في الجامعة. كان قد تغير مظهرياً على الأقل، وقد أطال لحيته وأصبح متديناً. صادفني ذات مرة مع زميل طيب، وهو صديق له على ما يبدو، وقال بأنه يتذكرني، أني كنت طالباً في الكلية وأنه لطالما أحس أن شكلي مألوفاً حتى تذكر، وضحك، لكني كنت بارداً معه، وتفاديت ملاطفاته بقدر ما يسمح به التهذيب، تجاهلته ففهم وتوقف. قد نكون أنداداً الآن، أن يحترمني لهذا، لكني ما عرفته عنه هو أنه لا يحترم من هو بحاجته، من هو أضعف منه، وهذا شيء لا يمكنني أن أنساه، ولا أرغب بذلك.
إن اجترار ذكريات أيام الدراسة دائماً ما يعود علي بالمرارة، والتفكر بما حدث. لقد حدث الكثير، الذي ليته لم يحدث؛ لا لي، ولا لغيري.
لكن، هذا لن يغير من الأمر شيئاً؛ لن أنسى، ولن تتوقف معاناة الآخرين.
رغم استعانتي بالجوال والانترنت في تنظيم مواعيد أمي وأبي، إلا أن فعاليتي رغم كل جهودي هي محل شك. اكتشفت ضياع موعدين مؤخراً دون أن أنتبه، لأني نسيت أساساً أن أسجلها في التقويم. أشعر بأني مهما حاولت لا يمكن أن أكون جيداً فعلاً فيما أقوم به، مما يوقع الحزن واليأس في قلبي.
ظهرت خدمة جديدة لقوقل، مثل فيسبوك. اشتركت حالما استطعت، إذا تطلب الأمر دعوة في البداية، ولم تنجح العملية بسرعة. لكني الآن أتسائل عن إمكانية استمراري. ليس لسلبية فيها، بل هي جذابة وسهلة الاستخدام، وليس لأنها مملة ولم تلائمني، إنها ممتعة؛ لكني أخاف أن تضيع وقتي. كما أخاف من الكمية الكبيرة من الناس الذين يصعب التأكد من أنهم ملائمين حينما يطلبون التواصل، خصوصاً أني فوجئت بالكثير من الناس يطلبون المتابعة دون سابق معرفة أو مجال مشترك في الاهتمامات أو العمل.
ولا أدري إن كنت أحتاج الخدمة أم لا. سأقرر في الأيام القادمة إن شاء الله، على الأغلب أني سأتخذ إجراءات لتجعله ملائم إن لم أوقف حسابي فيه، أو أحصره لاستخدامات معينة، أو أغلقه وأتركه حتى أجد له فائدة أو نفع واضح.
لكن، رأيت مشاركة من شخص طيب علق في مدونتي بضع مرات. هو معاذ الدوسري، وهو مدون له مدونة عن طب الأسنان وأخرى عن الفن السينمائي. مشاركته كانت رابط لمقال عن رجل سفيه اشتهر مؤخراً هو وطفله المسكين؛ مشعل ويدللونه ميشو. الوالد يعرض فيديوهات لابنه ذو التربية الغربية، ينتقد فيها مجتمعنا وطريقة حياتنا بشكل عام، ويتحدث بفوقية تربى عليها بوضوح، وهذا أمر مؤسف فعلاً. وقد ولد هذا ردات فعل مختلفة، أغلبها غير متعقل، ففريق يؤيد الطفل ووالده وينبهر بهم، رغم أنه لا يوجد ما يبهر، وفريق صب جام كراهيته تجاه طفل في السادسة أو السابعة لا حول له ولا قوة، وليس تجاه من يلقنه هذه المبادئ الخسيسة.
لاحقاً، أنزل الأب فيديو صوتي فقط، يتحدث فيه عن أرائه حول مشاكل المجتمع، بأسلوب لا يقل سفاهة وسطحية عن ابنه ذو السنوات القليلة، مع فارق الكبر والاستعلاء الواضح بنبرة الصوت. وهو كبر ناتج عن الثراء وربما الخلفية الاجتماعية على ما يبدو، ففكرياً؛ لا أدري بماذا قد يفتخر مثل هذا الرجل. وكان المقال عن هذا الفيديو على وجه الخصوص.
رددت على مشاركة معاذ في القوقل بلس، وقد كان في قلبي الكثير لأقوله رغم اني اختصرت؛ فهذا موضوع كنت أنوي الكتابة عنه منذ زمن في المدونة، وقد جاء هذا المقال والفيديو كمثال جيد على ما أريد قوله.
هذا رابط المقال، ويحتوي رابط الفيديو:
إضغط
بداية؛ سأضع ردي على معاذ، وهو باللهجة العامية إلى حد ما:
لا شك لدي بأنه ليس كل الناس الذين يكتبون هكذا عن أنفسهم هم بطبيعتهم مغرورون، إنهم فقط رأوا الآخرين يكتبون هكذا فظنوه أمر لائق ويعطي انطباع جيد كتسويق للذات. لكن من يقول أن الطبيعة البشرية لا تتغير، وأن النفس لن تصدق كل حرف تقوله عن نفسها بمبالغة؛ حتى يحسب المرء نفسه أفضل الناس؟، كما أن الناس لم يعودوا يستحون أبداً في التسويق لأنفسهم وشخصياتهم، كل شيء صار مقبولاً، وكل شيء يقال صار مع الأسف محسوباً، بطريقة غبية في الأغلب الأعم، ليصطاد أقوال رجيعة من المديح والإعجاب والاقتناع بما يقال، إنه فقط تصيد للمديح. تخيل أنه أُتي إليك بكأس فارغ، ولوِّن من الخارج بلون العصير حتى قرب فوهته، ثم عرض عليك؛ هل سيمكنك القول بأن العصير لذيذ؟ العصير غير موجود أصلاً. هذا ما يحدث، الناس يعرضون أشياء قد تكون غير موجودة، في حين أن من يقدم العصير الحقيقي سيسألك عن رأيك بعدما تتذوقه، وليس قبل ذلك.
لقد سادت ثقافة تتجاهل فضيلة التواضع في رأيي؛ وبات التواضع مفهوم لا يخطر على البال كممارسة حياتية ضرورية؛ إنه فضيلة تذكر في القصص فقط، وليست ميزة حسنة في المرء تحسب لصالحه.
وصار النجاح وجاذبية الشخصية مجرد كلام يقال؛ وشهادات يقدمها المرء لنفسه بكرم، والملفت أنه لا أحد يفكر بأن الأمر بالواقع مثير للسخرية والعجب؛ كيف تقبل شهادة المرء بنفسه، خصوصاً حينما يبالغ كما يحدث الآن؟.
إني لا أرى مع الأسف أي جانب في الحياة الاجتماعية يطرح التواضع ومسائلة الذات كأمر له الأولوية، بل إني لا أرى أمثلة جيدة فيمن يعدون أنفسهم أمثلة جيدة. بعض الدعاة يمتدحون أنفسهم كثيراً بإعجاب حينما أقرأ لهم مقابلات بالصدفة أو مقالات عنهم أو لهم. والكثير من المسئولين، كمدير جامعتنا، كثيراً ما روجوا لفكرة أن كثرة الحكي عن النفس والخطط والإيجابيات هي إنجازات كافية بحد ذاتها.
إنه حب البروز، أمر يشبه من خطر في باله أن يقف بينما الجميع جالسين حتى يميز نفسه، فإذا بالجميع يقفون معه، ولما أدرك كل فرد أنه كالجميع رغم هذا المجهود الصغير للتميز، بدأ الجميع بالقافز للفت الإنتباه، في مجهود لا جدوى منه أساساً.
قبل قليل وأنا أكتب في المطعم على الجهاز، سمعت شاب يقف قريباً من طاولتي، وهو يتحدث بسخرية عن فتحي لجهاز الحاسب على طاولة المطعم، وهو لا يدري أن المطعم أصلاً يوفر الانترنت اللاسلكي، كما وصلت به قلة الذوق إلى الإشارة باصبعه والتندر على جهاز الانترنت الذي شغلته أمام النافذة، قائلا بأن هذا تطور. كان يتحدث وكأني لا أسمع، رغم أني لو وقفت ومددت يدي للمسته لقربه إلي، ولما التفت لأنظر إليه تظاهر بأنه لا يراني. فعدت للكتابة. لكنه قاطعني بتحية، سألاً إن كان هذا جهاز انترنت لاسلكي، فقلت نعم دون أن أنظر إليه، فاستأذن بأنه يريد استخدامه إذا سمحت بعد قليل، وتسائل إذا كان عليه كلمة سر؟ فأخبرته بأني سأطلعه على الكلمة حينما يريد استخدامه. شكرني ومضى مع رفيقه إلى طاولتهم. في اعتقادي أن هذا الشاب اعتاد على السخرية من كل ما يرى دون أن يسمعه الناس، ولكن لكثرة ما جرى الأمر على لسانه، وصار من طبعه، نسي أني أسمع، وأني قد يكون لي رد فعل. ولما لم أرد بأكثر من النظر ولم يتمكن هو من مبادلتي النظر، أتصور بأنه شعر بالخجل، وأراد أن يغطي على ما قام به بالتظاهر باللطف وحسن الذوق. لكن، هل يغير هذا أي شيء من وقاحته المتأصلة؟ قد تجد أحياناً بعض الشباب يعلقون على مشتريات الناس في السوق وهم يسمعون. قال أحدهم ذات مرة معلقاً على عربتي: شف شاري كل هالمويه! فرد صاحبه بصوت عال: وش عليك منه ياخي، خله ينبسط (!!).
استمر شاب المطعم بالنظر إلي من طاولته، وقد كانت تفصل بيننا زوايا المطعم بزجاجها، ولم يطلب رقم الانترنت.
كانت مثل هذه المواقف تتكرر كثيراً معي في الجامعة، من طلاب آخرين لا أعرفهم. وربما لأني لا أعرفهم ولا يعرفونني لا يجدون ضيراً من التندر بي حينما أمر، لإضحاك من معهم. وحين النظر إليهم؛ يتظاهرون بأنهم يتكلمون عن أحد آخر، وبعضهم ينظر باسماًى بسخرية.
يوجد انخفاض غير عادي بوعي الكثير من فئات المجتمع بضرورة التأدب مع الآخرين، أنها ليست مجرد فضل، إنها واجب صارم.
اليوم يعود صديقي الحقيقي الوحيد.
كم أشعر بالحنق على المسئولين عن التعاقد مع الأجانب في الجامعة من الدكاترة السعوديين الحمقى، عمداء ووكلاء ورؤساء أقسام. كثيراً ما يعطون وعوداً خيالية بدون إستشارة الجهات التي تصنع العقود وفقاً للتنظيمات المحددة، فيأتون الأجانب متوقعين شيء لا ينطبق مع التنظيمات المحددة لمميزات العقود. أحياناً يكتشفون منذ البداية، إذ يكون الراتب أقل بكثير مما وعدوا، فيقال لهم هذا ما لدينا؛ والدكتور الذي تواصل معك لم يكن يعرف الأنظمة أو الحدود. ويكون الأجنبي قد ترك وظيفته في بلده أو البلد الذي يعيش فيه، وجاء لمختلف الأسباب، إما للعيش في مجتمع مسلم يصدمه مسئوليه هكذا، أو لمجرد تحسين حياته فيجد أن الأمور ليست كما وعدوا. وآخرين يكتشفون لاحقاً، مثل الذي قيل له اليوم بأنه لن يحصل على تكاليف تعليم ابنه، رغم أن العميد وعده بها، لأن ابنه أصغر من العمر القانوني، ولا ألومهم، لكني ألوم العميد الأحمق، ولو كنت مديراً للجامعة؛ لأرغمته على الدفع من حسابه الخاص للرجل، حتى يتعلمون بأن حقوق الناس وآمالهم ومشاعرهم ليست للتلاعب والاستهتار.
كما أقرف أشد القرف ممن يسرقون مجهودات الآخرين، سواء أجانب أو طلاب في مشاريع تخرجهم، حيث يشاركونهم على الورق دون أن يبذلوا أي مجهود، وحينما يمانعون أصحاب الفكرة والعمل، يكون جزاء الأجنبي الطرد المهين كما شهدت، أما الطالب، فعلى الأغلب أنه سيموت قهراً في قلبه فقط.
أتخيل بأن قولي بأن الدكاترة والدكتورات السعوديين هم من أهم أسباب تخلفنا لأسباب كثيرة لن يكون قابل للتصديق في أول وهلة، لكنه الواقع الذي لا يقبل الشك لدي.
قررت أن لا أضيف من لا أعرف أو لا أجد معلومات كافية أو مثيرة للاهتمام في ملفه على قوقل+، الخدمة الجديدة الشبيهة بالفيسبوك، حينما يضيفني. أعتقد أن هذا أمثل عن الازدحام. قد أعطي أحدهم فرصة وأضيفه، لكن حينما أكون لا أعرفه، ولا يعجبني ما يكتب أو أنه يكتب ويشارك أكثر من اللازم، سأحذفه من دوائري.
هذا حل ملائم للوقت الحالي، حتى أجرب وأرى إن اقتنعت.
عموماً، هذا هو عنوان ملفي هناك، أعتقد أنهم سيطورونه لاحقاً ليصبح بالحروف او اسم المستخدم بدلاً عن الأرقام:
قبل فترة، طلبنا غرض من أمازون بمساعدة أخي، كان لمساعدتنا على الرحلة إلى ألمانيا قبل أن يغير أهلي رأيهم. انتهزت الفرصة وطلبت كتابين؛ أحدهما عن حضارة الإنكا وشعبها، ورغم أني لا زلت أريد إنهاء كتاب آخر إلا أني قرأت القليل منه، ووجدته جميلاً، مكتوب بلغة ممتعة ومؤثرة.
اما الآخر فاسمه يترجم إلى: اغتصاب نانكينق. وهي المدينة الصينية التي تحدثت عنها سابقاً، التي غزاها اليابانيون وعاثوا فيها فساداً لا يتصوره عقل. ولم أقرأه حتى الآن، ولكني رأيت صور توثيقية أحدثت أعمق الأسى في قلبي.
وبذكر الإنكا، شاهدت الكثير من المقاطع لذلك الأثر المهيب؛ ماتشو بيكتشو، الذي بنوه فوق قمة جبل بين السحاب، ونسي من ذاكرة البشر لحوالي ثلاثة قرون، حتى اكتشف لاحقاً من جديد، وقد هجره أهله لسبب مجهول، قد يكون انتشار الأوبئة التي أتى بها الاسبان ولم يكن لأهل البلاد مناعة ضدها، ولعل بعضها وصل إلى ذلك المكان المعزول.
إنه أثر يسحرني على نحو مختلف، إذ يجلب الشجن العميق إلى قلبي، فلا أنفك أتأمله وأتفكر فيه ومن بناه وسكنه، حينما أرى صوره أو أقرأ عنه. مكان لا يُدرى على وجه التحديد لماذا بني هناك بالذات، ولماذا هجره أهله فجأة كما توضح الدلائل، رغم أنه أشبه بالجنة الأرضية؛ وكأنما المرء إذ يعيش هناك فإنه يعيش في حديقة غناء، في جيرة الشمس والسحب، محفوف بقمم مهيبة، ولكن تجلب السكينة إلى القلب.
ما يعجبني في الأثر هو اندماجه بالطبيعة، وبساطة مبانيه الجميلة الخالية من الزخرف رغم حسن تصميمها وبنائها. المدرجات البديعة، والخضرة غير العادية المحيطة بكل شيء، والموجودة على كل شيء. الساحات الخضراء الجميلة والممرات المحاطة بالجدران الحجرية، وجوهرة التاج، وأكثر ما أثر في نفسي؛ مصب الماء المنحوت في الحجر، كنافورة طبيعية.
قد لا يبدو للكل تميز هذا الأثر عن سواه، ولربما بدا أقل إثارة للذهول مما يتخيل البعض من ذوي النظرة الجزئية، النظرة التي قد لا ترى الصورة كاملة. لكن، إن هذا جزء من تميزه، إنه مكان للعيش الطيب فقط، في مكان فريد قلما يوفق الناس إلى اختيار مثله وبظروفه. الاطلاع عليه يشعرني بالحنين والحزن اليائس، والسكينة؛ يشعرني بالاستسلام.
(يشمل موسيقى)
http://youtu.be/Z2MN5glPgUs
هذا مقطع جيد للأثر. يمكنكم رؤية المصب المائي الجميل فيه، ورؤية ساقي يتفرع عنه على الأرض في لقطة أخرى.
يوجد كذلك منظر طبيعي مثير للذهول؛ إنه أعلى شلال في العالم. يسقط في فينزويلا، من أحد جبال التبوي التي تشكل ظاهرة طبيعية فريدة بحد ذاتها. يسمونه شلال آنجل، وهو لفرط طوله يتبخر بعضه قبل أن يمس الأرض. إنه منظر طبيعي مذهل، سبحان الله.
http://youtu.be/iLmvCLPjUM4
أشعر بالوحدة والملل في نهاية الأسبوع. الصديق الوحيد، الدكتور الألماني، سافر، ولن يعود قريباً. على الأقل، جائت ابنة أخي ذات الأشهر الثمانية، ولكن كما توقعت، أصبحت إنسانة أنانية، لا تريدني أن اقبلها، بينما تسمح لأمي بذلك (قهر)، بل وتقبلها هي فاتحة فمها على اتساعه، وكأنها ستأكل أمي بسنيها الاثنين. ولم تجدي الهدايا، إذ أنها لا تفهم.
وبذكر أمي، اشتريت لها كوباً ظننت أنها ستفرح به، إلا أنها سرعان ما تخلصت منه بإعطائه أخي في ذات الليلة، لأن عليه رسوم لأغنام تضحك في المراعي (حرام). لا أدري ماذا سأفعل مع هذه المطوعة. الغرض الأساسي من الكوب كان هذه الأغنام، وإلا فالأكواب في المنزل كثيرة. ماذا أفعل وهي ترفض إحضاري لنعجة حقيقية إلى المنزل، رغم حبها لهذه الحيوانات(وحبي للغنم النجدي). هل أعاقبها وأحضر بقرة؟ (هي تكره الأبقار، كأنها بدوية).
المشترك الأخير في مدونتي كتب تعليقاً لطيفاً، لكن التعليق لسبب ما لا يظهر في مكانه في جانب المدونة، حيث يعلق متابعو مدونتي حينما يرغبون. لذلك لم أتمكن من الرد على التعليق كما يجب. يقول التعليق:
أعرف بأن عائلتك كبيرة، أكبر عدداً من عائلتي بكثير، إن كانت هي بالذات من أعرف، أقصد عائلة الحوشان من بريدة. كنت قد حضرت مع أخي زواج صديق له من هذه العائلة قبل سنوات، وهو رجل من الحوشان درس معه في أمريكا لا أتذكر اسمه الأول، وقد كان لطيفاً جداً (ألطف من أخي). كان الزواج في الفهد كراون، أعتقد أن اسم الفندق تغير الآن.
كثيراً ما اعتقد الناس أني من عائلة مختلفة. البعض يظن بأني من المزاحمية، وهم من آل ثنيان على حد علمي، وآخرين من حائل، والأغلبية من بريدة (ربما بحكم اللهجة وشهرة عائلتكم)، وأماكن أخرى أقل جرياً على الألسن، لكن أصلنا، الحوشان من المذنب، أصلنا دواسر من فخذ البدارين.
أشكرك مرة أخرى أخي عبدالرحمن، وأتمنى أن تجد دوماً ما يمتعك هنا. كما أتمنى أن أطلع على مدونتك إن كانت لديك واحدة. عسى الله أن يردك سالماً غانماً إلى من يحبك.
شكراً جزيلاً.
ذهبنا اليوم أنا وأمي إلى مدينة الملك فهد الطبية، وقد ذهبنا بضعة مرات خلال الأشهر الماضية، ولم نقابل الدكتور الذي طلبنا تحويلنا للمستشفى لأجله بعد المرة الثانية، كنا نرى الطبيب الهندي من فريقه، وهو الآخر طبيب طيب جداً مثله، ودود ومتفهم، لكن هذا ليس غريباً، فالأطباء الآسيويون عموماً أكثر تواضعاً وطيبة من العرب، أما الغريب فهو أن الدكتور الأساسي، الذي جئنا لأجله، طيب جداً، رغم أنه سعودي.
طال انتظارنا إلى حد ما، ثم ظهرت أمي فجئة من استراحة النساء، وقد ملأها التوتر، قائلة بأن من جائوا قبلنا قد مضوا جميعاً، وبدأ من جاء بعدنا يمضي، بينما لم يتم استدعاؤنا. لتهدئتها، ذهبت إلى الاستقبال أسأل، حيث قيل لي أن أسأل في غرفة الطبيب الهندي، وهناك قالت المساعدة السعودية بأن ملفنا لدى الدكتور مشبب العسيري، في المكتب المجاور. لم أتوقع هذا بصراحة، فقد بدأت أظن بأنه لا يرى مرضاه بعد أول مرة شأن بعض الأطباء الرؤساء لأقسامهم، وربما كانت الثانية بالصدفة. لكني فرحت صدقاً. سألت الممرضة في مكتبه، وقالت بأن ملفنا هو الأول، وستدعونا قريباً بعدما يراجعه الطبيب. وفعلاً، دعتنا مباشرة تقريباً، ودخلنا. كان الطبيب مشغول الذهن عموماً، إذ بدا أن وقته ضيق، ولكنه مع ذلك لم يستعجل. كان لطيفاً جداً مع أمي، وأجاب أسئلتنا بوضوح. كانت الأمور ولله الحمد مطمئنة. أزعجتُه قليلاً بالإسئلة والنقاش، وأعدت بعض الأسئلة بصيغ مختلفة لأتأكد بأني فهمت جيداً وضع أمي بكل حيثياته، وقد صبر علي جيداً، ولا أقول بأني كنت أختبر صبره صدقاً، لكني بطبيعتي أحب التأكد من صحة فهمي في الأمور المهمة. بعد تقرير ما سنفعل للفترة القادمة من فحوص ومواعيد وأدوية، أحضرت الممرضة الأوراق لتشرح لي ماذا أفعل بكل ورقة، بينما تكلم الطبيب مع أمي، سائلاً إياها عني، إن كنت ابنها (!!) ومن هذا القبيل، ومطمئناً إياها بأني أفهم جيداً كما يعتقد. حينما ابتعدت الممرضة، سأل أمي عن ما أفعل أنا بحياتي. قالت بأني في الجامعة، تقصد أني أعمل بالجامعة، لكنه حسب بأني طالب، فسألها بأي سنة أدرس. قالت بأني أعمل، وتدخلت لأخبره بأني متخرج منذ زمن بعيد، وأعمل هناك. سألني عن مكاني هناك بالضبط. ثم عاد يسأل أمي عن تخصصي، قالت: انقليزي. فقال لأمي مازحاً بأن هذا السبب ربما لطول شعره (يقصدني. وبالواقع، شعري ليس طويلاً، لكن كثافته تعطي انطباعاً مغايراً) ضحكت أمي وقالت: يا حبي له (!!). ثم سأل عن كليتي، وأوضحت له بأني درست في اللغات والترجمة، بعدما ظن أني تخرجت من الآداب. تكلمنا قليلاً حول الأمر. بعدما انتهى النقاش الودي، أخبرته بأني كتبت عنه في مدونتي. فتح عينيه على اتساعهما بطريقة كوميدية وقال: يا ساتر!. وكأنه خاف، مما أضحكني. تسائل ماذا كتبت، قلت بأني كتبت خيراً، فمن النادر رؤية دكتور سعودي لديه دم وإحساس بمرضاه. صمت قليلاً متأملاً، ثم قال ما لم أفهم وهو مبتسم: كنت أحسب أن ما عندي دم. بدا سعيداً بالأمر، وشكرني جيداً وهو مبتسم. وحينما أردنا الخروج وضع يده على كتفي وسأل أمي إن كانت قد زوجتني. قالت بأنها لم تزوجني بعد، وأن من تزوجوا لم يعودوا يبالون بها، وهي وجهة نظر تقليدية على ما أعتقد. خرجنا وهو يودعنا.
لكن، عندما أردت الحصول على ورقة للمرافقة، علمت بأن الإجراء تغير عن السابق، ولهذا يجب أن أعود إلى مكتب الطبيب، ليمنح الموافقة الالكترونية. جاء رجل وحاول الدخول قبلي، ودخل، أخبرت الطبيب واقفاً بالباب بأن يعطي موافقته على المرافقة. وأعطاني، وهو يقرأ اسمي وبياناتي على الحاسب، واسم الجامعة حيث أعمل. ثم سأل عن مدونتي، وإن كنت قد كتبت في مدونة أو الفيسبوك، فأخبرته بأنها مدونة، سأل عن عنوانها، فقلت بأن يبحث فقط عن اسمي في قوقل. إن اسمي يظهر في أول النتائج، حتى لو نسي اسمي الأول (من الصعب أن ينسى المرء اسم مضحك كالحوشان).
تركت القسم وأمي فيه، لأحصل على الأدوية وأطبع عذر المرافقة من التقارير، ثم مضيت إلى مبنى آخر من المستشفى، للسؤال عن التوظيف هناك، ومعرفة من سيتمكن من العلاج في المستشفى من أهلي في حال عملت لديهم. قيل لي بأن التأمين يشمل أمي وأبي، وهذا رائع، وزوجتي وأبنائي(هؤلاء غير مهمين إذ أنهم غير موجودين). فرحت كثيراً. لكن قيل لي بأن الانتقال من عملي غير وارد، حيث يتم توظيفي لديهم بوظيفة جديدة. أعتقد بأنهم ربما يعملون على نظام مختلف عن الحكومة. إني أفكر بالأمر. ولدي الوقت، إذ لا أستطيع الانتقال حالياً من عملي وأنا ملتزم في غياب زميلي. لكن مع ذلك، يجب أن أستشير وأفكر جيداً وكثيراً، فهناك بخلاف أمي وأبي ابنة أختي.
حينما خرجت من المبنى، خرجت من طريق آخر، ووجدت نفسي في مكان لا أعرفه من المدينة الطبية. لكنه كان مكان جميل. رأيت نافورة جميلة، فأخرجت جهاز الننتندو ثري دي اس لألتقط صوراً ثلاثية الأبعاد لها. إني أعشق تصوير النوافير كما لا أعشق تصوير أي شيء آخر، والمساقط المائية طبعاً إن وجدتها، خصوصاً بشكل ثلاثي الأبعاد.
كان يوماً جيداً، فالطبيب طمئننا أخيراً على صحة أمي، بعد أشهر من الانتظار والإجراءات المختلفة، وقد رأيناه وتمكنت من إظهار تقديري له، وتشجيعه على اللطف والتواضع.
البارحة، حينما دخلت التميمي لشراء غرض أوصاني عليه أحدهم، وكان الوقت متأخراً في جوف الليل، وقفت لأنظر إلى مكان مجلة ناشيونال جيوقرافيك، رغم أن وقت العدد الجديد لم يحن بعد، لكني كنت أرجو أن شعوري بمرور الوقت قد أخطأ. كنت أواجه المحل وأميل برقبتي فقط لآخذ نظرة، وربما سهمت قليلاً، وظللت أفكر دون حركة، بعدما رأيت أن العدد الجديد لم يأتي بعد. لا أدري كم ثانية أو لحظة مضت وأنا ساهم، لكن حينما نظرت إلى الأمام لأمشي، وجدت رجل شديد الضخامة والعرض، بدين إلى حد كبير، رأسه كبير جداً، ووجهه الضخم المحاط بلحية كثيفة يكاد أن يلتصق بوجهي، وهو باسم. لا أدري ما أصابني، قد أكون ذعرت قليلاً، لكن ما شعرت به أكثر كان الإحراج والخجل، إذ حسبت لأول وهلة بأني أسد الطريق أمام هذا الرجل غير المعتاد. ضحكت محرجاً، ربما مجفلاً، أو ما يسمونه ضحك "الروعة"، وقفزت للخلف جانبياً، وأنا أعتذر. كانت ابتسامته واسعة في البداية، لكنها بدأت تصغر قبل أن يمضي في طريقه، يبدو أن ردة فعلي سببت له صدمة (وأنا ماذا أقول عن رؤيته أمامي فجأة؟!). شعرت بإحراج، وكان البعض ينظر إلي باسماً بعدما رأى الموقف. لكني حلّلت الأمر بسرعة، واكتشفت بأن الأمر غريب، إذ أني بالواقع لم أسد الطريق حتى يتوقف تماماً، ولم يكن أمامي أو قربي أي أحد حينما توقفت لأرى المجلة في الرف البعيد. إذاً هو جاء لاحقاً، وقرر الوقوف مقابلي والسكوت، والاقتراب كذلك على نحو غير مألوف.
غرابة أطوار فقط على ما يبدو.
أيا راحل إلى أمانيا...
وآخذ معه الأنس والسلوى...
تاركني لوحدتي...
أسأل أحلامي النجوى...
ولا من مجيب...
أيا راحل إلى أمانيا...
نادني إذاً بأحلامك...
وابسط تجاهي يدك الحمراء الأبوية...
وعلى ريح المطر أطلعني...
في غابتك البافارية...
وخذني لأشرب من ماء الألب...
تلك الجبال الموحشة الجميلة...
لأروى من عطش الصحراء...
لعلي حين أفيق...
أغلب يأس الوحدة والشقاء...
أنتهت.
أمانيا هي ألمانيا، كما كان ينطق اسمها الناس في القصيم قديماً، في القصص التي سمعت.
سعد الحوشان
خيبة الأمل، هل هي فقط التعبير الذي تظهره وجوهنا حينما يحدث ما توقعنا خلافه، و مجرد الشعور المؤلم في القلب حينما يقوم شخص نحبه بجرحنا من حيث لم نتوقع. كل هذه أمور لحظية، حينما يحدث خلاف ما توقعنا فإنه أمر حدث في لحظة معينة، وليس حدثاً مستمراً؛ لقد تبدل القدر وعلينا أن نتأقلم، وحينما يجرحنا أحد ما، ويحطم قلوبنا، فإننا قد اتخذنا موقفاً في تلك اللحظة؛ لقد خاب ظننا، وعلينا أن نبدل من رؤيتنا للأمور وما نفعله مع ذلك الشخص. ليست هذه أمور مستمرة. لكن هل هذا كل ما هنالك؟ هل خيبة الأمل نفسها أمر لحظي؟ أم أمر قد يعيش مع المرء طوال حياته.
إني أرجح أن خيبة الأمل ليست شيء يحدث وينتهي في لحظته؛ إنه تجربة، وبعض التجارب قد لا نغادرها، أو لا تغادرنا. إن ما سبب خيبة الأمل، من خلاف للتوقعات أو جرح للقلوب، هو الأمر الوحيد الذي توقف عن التطور والاستمرار بعدما اكتشفناه، فاختلاف المتأتي عن المتوقع لا يصدمنا بعد أول مرة، وجرح القلب قد يستمر ألمه، لكنه ليس متكرراً بطبيعته على الأغلب. لكن خيبة الأمل نفسها هي أمر آخر، يحتاج إلى تعامل، أو نظر وتأمل، على حدة.
قد تنتهي الأمور التي خاب أملنا فيها، وينتهون أهلها من حياتنا، لكن خيبة الأمل تظل تطبع رؤيتنا لكل ما يشبههم، ولو مبدئياً، إنهم يظلون معنا ويعيشون في قلوبنا ليس من خلال حبنا السابق لهم، وليس من خلال جرحهم لنا وشعورنا المستمر بالأذى، ولكن من خلال خيبة الأمل التي فاقت تحملنا وأخضعتنا.
حينما تمطر بخيبة الأمل عيناي...
ويضيع قلبي في الغيم بين حناياي...
ويبدأ الصقيع بالتكون حيثما وقعت خطاي...
سيظل قلبي ينبض...
طالما بقيتم فيه...
يا أحبائي...
وأعدائي...
يا دافع حياتي...
ومصدر شقائي...
ضائع في متاهة متصدعة...
تشبه قلبي حيث تضيعون...
لعلكم لا تجدوا لها نهاية...
حتى تنهار جدران متاهتي...
فتغفون في قلبي...
إذ أنام للأبد...
كنت قد أوضحت من خلال الفيديو في التدوينة السابقة أني مقدم على أمر مهم. بالواقع، لم يتم الأمر، والحمد لله. ماذا كان؟ كانت قوازه واتفركشت، قُم الصعايدة وفركشوها بالبارود (وكسروا بريق الغضارة اللي على راس الرقاصة).
لا، أمزح عليكم بالطبع. كان الأمر هو خطة سفر للعلاج، مع نفس الثلاثي "المرح" في العام الفائت، أمي وأختي وابنتها، ولكن ليس إلى الهند، إنما إلى ألمانيا. لم أكن مرتاحاً لا للسفرة هذه المرة ولا لترتيباتها ولا الضليعين في الترتيبات، وقد كان شعوري في محله، لهذا، أحمد الله ألف مرة. كنت مأزوماً بالواقع طوال الفترة الفائتة. لكن لم يكن لي من القرار شيئاً، كما قلت لأختي؛ أنا لا أقول إذهبوا أو ابقوا، أنا فقط أذهب إن ذهبتوا وأبقى إن بقيتوا.
الآن، يمكنني أن أستأنف حياتي في الصيف كما خططت إن كتب الله. كأنما كسبت وقتاً جديداً، غير محدوداً. فنحن لم نكن نعرف متى سنعود ولو على وجه التقريب، عكس رحلة الهند في العام الفائت. مع أنه لا بد مِن مَن سيحاول أن يأكل من وقتي، ويقوض خططي.
غداً موعد قصير لأمي في مدينة الملك فهد. إن من يجد لي أقل القدر لديه، أو حتى يكن لي كراهية معقولة ومتعقلة، أسأله أن يدعو الله لأمي وصحتها، وأن يكون كل شيء على ما يرام.
التقيت بالدكتور الألماني في منزله الاسبوع الفائت، كنا ننوي مشاهدة فيلم الأميرة مونونوكي معاً. لكن الجهاز الذي أحضرته معي، وهو ليس جهازي لأن جهازي ضخم جداً، لم يشغل الاسطوانة للأسف. أمضينا الوقت بالتحدث عموماً، ومناقشة بعض الأمور. كان لديه آية من القرآن الكريم يتسائل حولها، وقد وجد لها أكثر من تفسير. جرنا هذا لأمور أخرى مشابهة، وتكلمنا حول رؤية الدين لقصة أحد الأنبياء عليهم السلام، وقال بأن التوراة تقول كذا. قال هذا بتأكيد، فقلت بأني لا أصدق هذا، فبالنسبة إلي التوراة مبدلة. قال بأنها لم تبدل، إنما تعبيرها تبدل. واستمر يتحدث عن رؤيتها ورؤية الانجيل. فأوضحت بأن هذه مصادر فاقدة للمصداقية بالنسبة إلي، على عكسه، وهذا يحصر مصادري أكثر، ويجعل فهمي للأمور أسهل. بدا أن ما قلته لم يكن متوقعاً، أو غير مرغوب، لأنه سيحصر النقاش كثيراً.
لكن في خضم نقاشنا، وقد كنا نتناقش عن سبب حمل الإنسان للأمانة بعدما رفضتها الأرض والجبال، ووصفه بالجهل، سألته عن سبب اهتمامه بهذه الآية بالذات، فقال بأنه يريد أن يفهم لماذا قبِل الإنسان، ولماذا وصف هكذا. أخبرته بأن أكثر ما شد انتباهي منذ أن كنت صغيراً في هذه الآية ليس الإنسان، فهو أحمق بطبيعته عموماً وهذا أمر مفروغ منه، هكذا خلق، لكن كون الأرض لها إرادة، وكأنما لها روح أو هي حية. هذا، جعله لاحقاً يقول بأني أنحاز للطبيعة دائماً، وأكره الإنسان. هو عموماً اتهمني كثيراً بأني أكره الإنسان من قبل. أنا أكره الإنسان، ولكني أحب الناس.
إني أعمل حالياً على تدوينة أجمع فيها فيديوها وآرائي بها وتأثيرها علي، وليست الفيديوهات هي المعنية بقدر الأفلام التي اقتبست منها وما أريده قوله حولها. أرجو أن تنتظروا التدوينة.
يضايقني طبع بعض الناس الذين يأتون من ثقافات مختلفة أحياناً. إني أجد لهم العذر، لكن أحياناً يفوق الأمر احتمالي. بعض الناس مثلاً يقترب منك حينما يريد محادثتك إلى حد لصيق. ومهما تراجعت للخلف يظل يقترب، وحتى حينما تبدأ بالتراجع بوضوح وبرد فعل سريع على اقترابه يظل يقترب أكثر. غالباً لا تكون رائحة أفواههم مقبولة، وهذا يزيد المشكلة، السيئة أصلاً، سوءاً في نظري. أبدأ بفقد التركيز، والتوتر كلما اقتربوا أكثر. أخشى أحياناً بأني سأمد يدي واوقفهم على مسافة معينة برفق، لكن هذا سيكون جارحاً. أتذكر أن أحدهم طاردني وأنا أتراجع إلى الخلف باستمرار وأصر على الاقتراب من وجهي وهو يتحدث حتى حصرني على جدار، دون أن ينتبه أني لا أريده أن يقترب إلى هذا الحد، مما جعلني أفكر ببديهته البطيئة. كنت أتراجع بقوة لأن رائحة فمه كانت فضيعة. يجب أن تتحمل الكثير حينما تكون مترجماً، لكن ليست كل التجارب هكذا بالطبع، إن الترجمة المباشرة للناس وبينهم أمر جيد غالباً.
بشكل عام، السعوديين حساسين عموماً تجاه اقتراب الناس إليهم، خصوصاً إلى وجوههم. بينما الهنود يتلاصقون على نحو عجيب حينما يريدون التواصل.
قد يقترب السعوديين من بعضهم عند السلام، لكن ليس إلى درجة لصيقة، باستثناء حينما يقبلون بعضهم بالخد.
قرأت قبل قليل مقابلة للداعية العريفي. كنت قد قلت من قبل بأني لا أجده مريحاً، هو والقرني. في المقابلة تأكد شعوري أكثر بأن هذا الرجل لا يعجبني. لا تعجبني ثقته بنفسه، وإشاراته الواثقة والمباشرة لجمال شكله، الذي صدقاً أراه عادياً أو أقل. أما على المستوى الفكري، فأيضاً لا يعجبني. أشعر بأنه سطحي محب للظهور المفرط وغير الرزين تماماً، مثل القرني، وهذا قد يلائم البعض، لكنه لا يلائمني.
ورغم أني اكتشفت بأني لا أحب الرجال من كبار السن في مجتمعنا، إلا أني أحب الشيخ المطلق.
أمس يوم الاثنين، وقد التقيت الدكتور الألماني على خلاف العادة. أخبرني برسالة الكترونية مبكراً في نفس اليوم أنه سيسافر، إذ توفي أخيه، وأنه يمكننا أن نلتقي قبل أن يذهب في المساء، طالما لن يكون موجوداً في نهاية الأسبوع. عزيته، وأخبرته بأني سآتي. فكرت بأنه لو كان يريد أن يخلو بنفسه لقال بأنه سيسافر فقط.
كانت وفاة أخيه متوقعة منذ مدة، فقد كان مريضاً جداً، وقد كنت على علم بهذا. وجدت الدكتور في حالة جيدة وإن يكن أكثر هدوءاً، سوا أن ذهنه يشرد أحياناً، ويتنهد في أحيان أخرى بصمت. تحدثنا عن أخيه، وأهله. يجب أن يذهب سريعاً ليبقى مع العائلة في وقت الدفن والعزاء.
كان يجب أن نتحدث عن أمور أخرى، وحاولت أن أسليه، فأمامه وقت مشحون بالأسى والعاطفة.
أراد أن يعرف آخر أخبار صحة أمي كالعادة، وآخر أخباري. تناقشنا حول بضعة أمور أخرى.
اتصل به شخص، كان الدكتور يقول له، وقد طالت المكالمة كثيراً، بأنه غير قادر على فهمه، وأن الضجيج عال هنا؛ كان الدكتور يلمح بتهذيب لإنهاء المكالمة. لكن الآخر استمر بالتحدث، وبالكاد انتهت المكالمة. خمنت مباشرة بأن المتصل دكتور سعودي، وكان هذا صحيحاً. عرفت لأنه لحوح، ولا يفهم بسرعة، ويريد التحدث كثيراً وبلهفة غير عابئ بما يقول الدكتور، وكأنما التحدث معه امتياز يجب أن يستفيد منه إلى آخر لحظة، فلو كان يكلم دكتور سعودي مثله، لما طالت المكالمة رغم التلميحات التي قيلت، لتفهم أو حتى فقد الاهتمام، فالدكاترة العرب والسعوديين عموماً مبهورين بنظرائهم الغربيين. قال الدكتور بأنه يواجه مشكلة مع هذا الدكتور لأن لغته الانقليزية سيئة. ينخدع الناس بالدكاترة السعوديين وكل من درس في أمريكا، بل إن الدكاترة ينخدعون بانفسهم. بشكل مجمل لغتهم الانقليزية سيئة قواعدياً، محدودة المفردات، استعراضية على نحو سمج، ويحبون التظاهر المستميت بأنهم يجيدون اللغة كأهلها أمام من لا يتحدثها، مما يجعلهم يصرون على التحدث مع الأجانب لفترات طويلة أمام الآخرين غير المدركين لمهزلة ما يقولون. ويحبون كذلك أن يحكمون على لغات الآخرين، خصوصاً حينما يريدون القول بثقة بأن لغتهم جيدة، وكأنما لغتهم هم ليست بمحل سؤال، وهذا هو المغزى. وتبلغ بهم الجرأة أحياناً حد انتقاد ما يكتبه الآخرين، ومحاولة تصحيحه باستماتة لإثبات بأن لغتهم جيدة جداً، وقد حدث هذا لزميلي المترجم الآخر في العمل. أما نطقهم لما يقولون، فهم كالغراب الذي أراد تقليد الحمامة فنسي مشيته ولم يقلد الحمامة، يحاولون أن يبلعوا الحروف دون وعي أو علم بأنهم يبدون سخفاء (يعنني امريكان)، وذلك لخداع السامع، ويحاولون الاتيان بمفردات شعبية وقد تقارب السوقية أحياناً للتفاهم مع الأجانب كدليل على اندماجهم بالثقافة. إنهم مثيرين للشفقة، مجموعة سطحية بمجملها من الناس المغلفين بغلاف رخيص وممزق، لا يخفي بالحقيقة الجوهر البسيط غير المثير للاهتمام.
إني أذهل لقدرة الدكتور على السيطرة على مشاعره، رغم أنه إنسان بالغ الطيبة والرقة.
لم أتحدث عن دفع الحساب هذه المرة، تركته يدفع بصمت.
فوجئت باتصال أختي باكراً صباح اليوم، إذ أخبرتني بأن السائق تعرض لحادث بعدما أوصلها ومضى، وقد اعتدى عليه الطرف الآخر في الحادث، وهو رجل باكستاني حسبما علمت. لأن زوجها قد ترك سيارته في الورشة، ذهبت أنا لأقوم بما يلزم. وجدت سائق أختي، وهو هندي مسالم وغير صغير، يبدو عليه الإرهاق، بينما زجاج السيارة الكبير الجانبي الخلفي قد تحطم. ثم جاء السائق الباكستاني، وهو سائق حافلة، وسلم علي. وجدته شاب غير كبير، ذو عينين شفافتين ووجه حسن، ولا تبدو عليه العدوانية. إلا أن أثار أظافره كانت على رقبة سائقنا. سألته لماذا ضرب السائق. أنكر في البداية، ثم علل بأن سائقنا حاول إبقائه في سيارته رغماً عنه وأخذ المفتاح حتى لا يهرب، رغم أنه لم ينوي الهروب. وهذا ما يقول سائقنا عكسه. وبالواقع، أرجح بأنه حاول الهروب، لأن الحادث لم يترك أثراً على سيارته، ولم يبدو عليه أنه شخص صادق. قال بأنه سيدفع لنا التكاليف. لكن لابد من استدعاء المرور أو نجم، وهي شركة متعاونة مع المرور. بالتواصل مع موظف نجم، وقد كان موظفهم صبوراً علي إلى حد بعيد، إذ لا يوجد أي أسماء شوارع في الحي الحديث أو معالم واضحة، تمكنت من مواعدته وإحضاره إلى مكان الحادث. أغلِّب بأن الشاب الذي جاء شيعي من القطيف، بحكم لهجته وسحنته. سرعان ما أبدى الشاب عدم اقتناعه بما يقول الباكستاني، ثم بدا عليه القرف منه بعدما أخبرته بأنه ضرب سائقنا وشاهد آثار الضرب، وسأله عنه. اقترح رجل نجم أن يحول الأمر بأكمله إلى المرور، للتعامل معه كحادث جنائي. لكن سائقنا رفض، وقال بأنه فقط يريد أن يدفع الباكستاني تكاليف الإصلاح. أفهمته بأن الخطأ على الباكستاني وسيدفع الثمن، وأنه لا يجب أن يخاف، إذ من حقه أن ينظر في موضوع الضرب، ولكنه رفض باصرار. سأل الشاب إذا كنا نريد أن نتفق دون حضور المرور. كان الباكستاني يريد هذا، فهو أصلاً لا يسوق الحافلة بالرخصة اللازمة، أي أنه مخالف للنظام. بعد وصف الأمور لزوج أختي، طلب مبلغاً تقديرياً، رفضه الباكستاني قائلاً بأنه كثير، وأنه سيحضر معنا ويدفع التكاليف بنفسه. طلب زوج أختي أن أستدعي المرور إذاً. لم يتأخر المرور كثيراً. وأخذ الباكستاني، وسط نظرات الكثير من الباكستانيين الذين توقفوا ونظروا بغير رضا.
ماذا بوسع المرء أن يقول عن فتاة تدعي أنها رجل على الانترنت، وتتمادى في الأمر، بحيث لا يصبح عذر تجنب أصحاب الأخلاق السيئة معقولاً، بعدما أصبحت أخلاقها هي سيئة بفعلتها؟.
في بدايات الانترنت، انتشر دخول الفتيات بأسماء رجال لأجل النظرة الاجتماعية ولتفادي الاحتكاكات الفكرية والعاطفية والشبهات. ولكن سرعان ما صرن النساء يدخل بأسماء مستعارة انثوية أو حتى أسماء حقيقية كاملة أو غير كاملة. صار ادعاء فلانة بأنها رجل أمر غير مقبول، إذ صار من الأولى تجنب مواطن تجمعات المشبوهين من الأساس بعدما أصبحت الأمور أكثر وضوحاً. وصار من المعروف أن الفتاة تفرض نوعية التعامل معها بعرض أخلاقها منذ البداية.
مع ذلك، ظل هناك من تدخل باسماء رجالية أو ذكورية، وتوهم الناس بأنها رجل، فتكسب صداقات الرجال بطريقة مخادعة، وتتسبط بالتحدث معهم، وربما ذهبت إلى ابعد من التبسط بقبول أن تدعو رجلاً "حبيبي"، بحكم أنه لا يدري أنها فتاة. أتسائل كيف لأي فتاة تعتقد أنها محترمة، وقد تصر على ذلك، أن تقبل مثل هذا الأمر على نفسها. أن تتشبه بالرجال بطريقة أو بأخرى، ثم تقول لهم ما قد يعطي انطباعاً آخر عنها لو علموا بأنها أنثى. فتاة متنكرة بالرجولة تقول لرجل بحكم الصداقة: حبيبي، وتبدي تقديرها الشديد وأطيب الأماني، وتبالغ بعرض الحميمية. كيف سيفكر بها المرء حينما يعلم أنها فتاة؟. إنها تعود إلى أنوثتها بعد كل شيء، وتمارس الفضيلة التي لا مراء فيها، بتناقض غريب.
إني أجد الأمر خسيس على كافة الدرجات. فهي تحط من قدرها بالكذب في البداية، وما أجبرها الله بالتداخل مع الرجال إلى هذا الحد، ثم تحط من قدرها أكثر بالتبسط معهم بذريعة أنها رجل، ثم تحط أكثر وأكثر حينما تتصرف وكأنه لا شك يلحق بأخلاقها.
إني أتفهم ما كان يجري في بدايات الانترنت، حذر الناس وبناتهم ورغبتهم بأشياء محددة، الصداقة مع الرجال ليست منها. لكني ألوم الآن من تحاول نفس الشيء بعد تغير الزمن، وألوم كذلك من كانت تدخل باسم ذكوري حتى في البداية وتتسبط أكثر من اللازم.
أتذكر قبل زمن طويل، كان لدي صديق في الثانوية والجامعة، وقد كان يدخل التشات كثيراً. وقد كون صداقات مع الكثير من الناس، وكانت له غرفة محادثة خاصة وفكرية، فقد كان يرى في نفسه مثقفاً من طراز خاص. المهم أنه حدثني عن صديق جديد له، خفيف دمه وودود جداً، من المنطقة الشرقية. وكان معجب جداً بذلك الصديق المضحك. بعد فترة طويلة، تعدت السنة بكثير على الأغلب، أخبرني صديقي بصدمة بأن من شاركه الأحاديث وربما الأسرار أخبره في النهاية بأنه فتاة، لهذا رفض مقابلته حينما زار المنطقة الشرقية. كان مذهولاً لاتقان الدور. وقد تفكرت أنا في كل ما قاله لي صديقي هذا عن حكايات هذا الشخص، قوله حينما رأى صورته بأنه جدير بناد للمعجبات.
هل كانت لتتحدث بهذا الارتياح لو أنها كتبت بأنها فتاة؟ لا أتصور. إذا، هل هي نفس الشخص أم لا؟ هل كانت تنظر للأمر من هذه الناحية؟ خصوصاً أنها لم تكن مضطرة لأي من هذا؟. إن هذا يشبه خلع بعض النساء لملابس الحشمة حينما يغادرن الأجواء السعودية، مع فارق كبير، أن النساء في الطائرة لن يقمن بالضرورة بالتبسط مع الرجال. ولم يقتحمن مجتمع الرجال هكذا، أو يخدعنهم، أو يعبثن بشعورهم.
لا أتحمل هذا النوع المنافق من الناس. قد يكتب الناس بصفة مجهولة لأي سبب من الأسباب، وقد يقوم الناس ببعض الذنوب خفية؛ كل هذا معقول. لكن هذا النوع من النفاق الخالي من الندم يثير اشمئزازي.
ذهبت قبل فترة إلى كلية الحاسب في الجامعة، لأسأل عن بعض الأمور الأكاديمية لأجل ابن أختي، الذي تخرج الآن من الثانوية. هناك، وجدت مكتباً مفتوحاً، وفيه رجل ذو وجه طويل وغريب. وكان يتصرف بنذالة غير عادية مع الطلاب حوله، الذين جائوا حسبما أتخيل للتسجيل للدراسة في الصيف أو لإجراء أكاديمي آخر. كان لا يعطيهم حتى فرصة ليتكلموا، إنما يقاطعهم، ويرفع صوته عليهم، ويتكلم بطريقة ساخرة، وحينما سأله أحدهم قلماً، قال بجلافة: ماعندي!. ظللت واقفاً، وهو يعلم بوقوفي، لعله يتكرم وينظر فيما أريد، لكنه ظل على تجاهله عنوة، وعرفت بأنه يحسبني طالب، ينتظرني لأكلمه فيسيء التعامل معي. لذلك، سألت أحد الطلاب عما أريد، فتدخل هو وسألني ماذا أريد، وحينما بدأت السؤال لم يتركني أكمل، إنما سخر مني، وحاول إظهاري بمظهر الغبي، رغم أن المرء لا يسأل إلا عن جهل بطبيعة الحال، كما أنه لم يدعني أسأل فعلياً، فأخبرته بأني أسأل عن شيء آخر وليس ما يتحدث عنه، وسأل بجلافة وهو رافع صوته عن أي شيء أسأل؟. هززت رأسي باشمئزاز لم أخفه، وأنا أنظر في جوالي، حيث نقاط ابن اختي التي يريد مني أن أسأل عنها مسجلة، ثم وجهت سؤالي إليه، فاتضح بأنه ليس لديه فكرة، وهب الطلاب لمساعدتي، مما جعلني أشعر بشفقة كبيرة عليهم. حينما أردت الخروج، شكرت الطلاب، وودعتهم. ربما انتبه بأني لست طالباً، وأني على الأغلب موظف، لأني تجاهلته بسهولة.
عدت في وقت لاحق إلى الكلية للسؤال أيضاً، وهي تمتلئ بغرباء الأطوار، ووجدت موظف غير شاب اقترب من الدرج حينما رآني صاعداً، وظل يتأملني بطريقة غريبة وغير مهذبة، ولم يرد السلام حتى نظرت إليه فجأة. كنت أسمع ضجيج مرتفع في الأعلى، وضحك لشخص واحد، وكان هذا هو الرجل ذو الوجه الطويل، كان يتحدث بالجوال وكأنه وحده في مجلس بيته، وصدى صوته يردح في أرجاء الكلية. حينما رآني تنبه، وأنهى المكالمة. كنت سأتجاهله وأمضي إلى قسم محدد، لكنه استوقفني وسألني بود بماذا أأمر؟. أخبرته بهدوء أني ذاهب إلى القسم الفلاني، فقال بأني سأجد فلان وفلان هناك، وأنهم سيساعدونني. وسألني بلطف أكبر إن كنت أريد شيء آخر. شكرته ومضيت.
لم يتغير موقفي منه، لأني بالواقع لم أغضب لنفسي، إنما غضبت لأجل الطلاب المساكين. سيظل الطلاب يعانون من الجميع، ويظلون الطرف الأضعف، في مفارقة لكونهم الطرف الأهم بالواقع.
لا زلت أتذكر أيامي في الكلية، وكم كانت عصيبة مع الموظفين وخلافهم. الموظفين في الكليات غالباً ما يكونون مجموعة من ضعيفوا التعليم والوعي، من لا سلطة حقيقية فوقهم. ورغم أنهم محتقرون من الدكاترة، إلا أنهم لا يملكون عليهم سلطة حقيقية، فتكون العلاقة غالباً بينهم ما بين شد وجذب على نحو خفي ودسيس، مغلف بابتسامة التملق والنفاق المغصوبة من قبل الدكاترة حتى لا تتعطل أمورهم بالكيد وإضاعة الأوراق، وابتسامة البلاهة الأبدية من معظم موظفي الكليات.
كان هناك مسجل الكلية، وهو كان رجل لا يعرف غير الصراخ ومحاولة تصعيب الأمور. الكل يتخيل بأن الطلاب لا يجب أن تتم خدمتهم وفق ما يريدون ويحتاجون وفق الأنظمة ولا أن يمنحوا الكرامة، ليبقوا تحت السيطرة. هذا الرجل رأيته بعدما توظفت، وقد انطبعت في ذهني دائماً صورته المراوغة والقاسية، وقد أصبحنا زملاء كموظفين في الجامعة. كان قد تغير مظهرياً على الأقل، وقد أطال لحيته وأصبح متديناً. صادفني ذات مرة مع زميل طيب، وهو صديق له على ما يبدو، وقال بأنه يتذكرني، أني كنت طالباً في الكلية وأنه لطالما أحس أن شكلي مألوفاً حتى تذكر، وضحك، لكني كنت بارداً معه، وتفاديت ملاطفاته بقدر ما يسمح به التهذيب، تجاهلته ففهم وتوقف. قد نكون أنداداً الآن، أن يحترمني لهذا، لكني ما عرفته عنه هو أنه لا يحترم من هو بحاجته، من هو أضعف منه، وهذا شيء لا يمكنني أن أنساه، ولا أرغب بذلك.
إن اجترار ذكريات أيام الدراسة دائماً ما يعود علي بالمرارة، والتفكر بما حدث. لقد حدث الكثير، الذي ليته لم يحدث؛ لا لي، ولا لغيري.
لكن، هذا لن يغير من الأمر شيئاً؛ لن أنسى، ولن تتوقف معاناة الآخرين.
رغم استعانتي بالجوال والانترنت في تنظيم مواعيد أمي وأبي، إلا أن فعاليتي رغم كل جهودي هي محل شك. اكتشفت ضياع موعدين مؤخراً دون أن أنتبه، لأني نسيت أساساً أن أسجلها في التقويم. أشعر بأني مهما حاولت لا يمكن أن أكون جيداً فعلاً فيما أقوم به، مما يوقع الحزن واليأس في قلبي.
ظهرت خدمة جديدة لقوقل، مثل فيسبوك. اشتركت حالما استطعت، إذا تطلب الأمر دعوة في البداية، ولم تنجح العملية بسرعة. لكني الآن أتسائل عن إمكانية استمراري. ليس لسلبية فيها، بل هي جذابة وسهلة الاستخدام، وليس لأنها مملة ولم تلائمني، إنها ممتعة؛ لكني أخاف أن تضيع وقتي. كما أخاف من الكمية الكبيرة من الناس الذين يصعب التأكد من أنهم ملائمين حينما يطلبون التواصل، خصوصاً أني فوجئت بالكثير من الناس يطلبون المتابعة دون سابق معرفة أو مجال مشترك في الاهتمامات أو العمل.
ولا أدري إن كنت أحتاج الخدمة أم لا. سأقرر في الأيام القادمة إن شاء الله، على الأغلب أني سأتخذ إجراءات لتجعله ملائم إن لم أوقف حسابي فيه، أو أحصره لاستخدامات معينة، أو أغلقه وأتركه حتى أجد له فائدة أو نفع واضح.
لكن، رأيت مشاركة من شخص طيب علق في مدونتي بضع مرات. هو معاذ الدوسري، وهو مدون له مدونة عن طب الأسنان وأخرى عن الفن السينمائي. مشاركته كانت رابط لمقال عن رجل سفيه اشتهر مؤخراً هو وطفله المسكين؛ مشعل ويدللونه ميشو. الوالد يعرض فيديوهات لابنه ذو التربية الغربية، ينتقد فيها مجتمعنا وطريقة حياتنا بشكل عام، ويتحدث بفوقية تربى عليها بوضوح، وهذا أمر مؤسف فعلاً. وقد ولد هذا ردات فعل مختلفة، أغلبها غير متعقل، ففريق يؤيد الطفل ووالده وينبهر بهم، رغم أنه لا يوجد ما يبهر، وفريق صب جام كراهيته تجاه طفل في السادسة أو السابعة لا حول له ولا قوة، وليس تجاه من يلقنه هذه المبادئ الخسيسة.
لاحقاً، أنزل الأب فيديو صوتي فقط، يتحدث فيه عن أرائه حول مشاكل المجتمع، بأسلوب لا يقل سفاهة وسطحية عن ابنه ذو السنوات القليلة، مع فارق الكبر والاستعلاء الواضح بنبرة الصوت. وهو كبر ناتج عن الثراء وربما الخلفية الاجتماعية على ما يبدو، ففكرياً؛ لا أدري بماذا قد يفتخر مثل هذا الرجل. وكان المقال عن هذا الفيديو على وجه الخصوص.
رددت على مشاركة معاذ في القوقل بلس، وقد كان في قلبي الكثير لأقوله رغم اني اختصرت؛ فهذا موضوع كنت أنوي الكتابة عنه منذ زمن في المدونة، وقد جاء هذا المقال والفيديو كمثال جيد على ما أريد قوله.
هذا رابط المقال، ويحتوي رابط الفيديو:
إضغط
بداية؛ سأضع ردي على معاذ، وهو باللهجة العامية إلى حد ما:
لأكون صادقاً، لم أكن في السابق سأمثل على رأيي بهذه الطريقة، المقال والفيديو، وربما رأى البعض أن العلاقة بعيدة عن ما أريد قوله، لكن كما قلت، الدليل أعلاه مجرد مرآة مقعرة (أو محدبة؟)، وما كنت سأتحدث عنه هو الحالة العامة والسائدة دون أن تُلاحظ، عكس ما عكسته المرآة سالفة الذكر، فالأمر بالنهاية واحد إلى حد بعيد، لكن شيء متطرف بشدة، وشيء مستمرأ مع الأسف، وكليهما سيئان. لكني كنت سأتحدث عن الملفات الشخصية، وأوصاف الناس لأنفسهم في تعريفهم لها كتابة، كشكل من أشكال انعدام التواضع عموماً لدينا دون أن ندري. صار مديح الذات الزائد عن الحد وغير المبرر بشكل عام وعلى نحو لا يبدو أن هناك من يراه غير طبيعي هو الأمر السائد؛ وينظر إليه كتعزيز للثقة بالنفس أو كوصف محايد للذات رغم مراوغته وإيجابيته المريبة.
قرأت المقال. هذا التبلد والغرور يلقى تشجيع غريب من الناس. الحقيقة ان هذا الرجل السطحي مجرد مثال متطرف على موجة تسود المجتمع بدون ما يدري. يكفي فقط الاطلاع على أوصاف الناس لأنفسهم في ملفاتهم الشخصية ومدوناتهم، أوصاف خالية من أي تواضع. ابو الطفل المسكين مجرد مرآة مقعرة، تكبر اللي يحصل في جزء كبير من المجتمع.
لا شك لدي بأنه ليس كل الناس الذين يكتبون هكذا عن أنفسهم هم بطبيعتهم مغرورون، إنهم فقط رأوا الآخرين يكتبون هكذا فظنوه أمر لائق ويعطي انطباع جيد كتسويق للذات. لكن من يقول أن الطبيعة البشرية لا تتغير، وأن النفس لن تصدق كل حرف تقوله عن نفسها بمبالغة؛ حتى يحسب المرء نفسه أفضل الناس؟، كما أن الناس لم يعودوا يستحون أبداً في التسويق لأنفسهم وشخصياتهم، كل شيء صار مقبولاً، وكل شيء يقال صار مع الأسف محسوباً، بطريقة غبية في الأغلب الأعم، ليصطاد أقوال رجيعة من المديح والإعجاب والاقتناع بما يقال، إنه فقط تصيد للمديح. تخيل أنه أُتي إليك بكأس فارغ، ولوِّن من الخارج بلون العصير حتى قرب فوهته، ثم عرض عليك؛ هل سيمكنك القول بأن العصير لذيذ؟ العصير غير موجود أصلاً. هذا ما يحدث، الناس يعرضون أشياء قد تكون غير موجودة، في حين أن من يقدم العصير الحقيقي سيسألك عن رأيك بعدما تتذوقه، وليس قبل ذلك.
لقد سادت ثقافة تتجاهل فضيلة التواضع في رأيي؛ وبات التواضع مفهوم لا يخطر على البال كممارسة حياتية ضرورية؛ إنه فضيلة تذكر في القصص فقط، وليست ميزة حسنة في المرء تحسب لصالحه.
وصار النجاح وجاذبية الشخصية مجرد كلام يقال؛ وشهادات يقدمها المرء لنفسه بكرم، والملفت أنه لا أحد يفكر بأن الأمر بالواقع مثير للسخرية والعجب؛ كيف تقبل شهادة المرء بنفسه، خصوصاً حينما يبالغ كما يحدث الآن؟.
إني لا أرى مع الأسف أي جانب في الحياة الاجتماعية يطرح التواضع ومسائلة الذات كأمر له الأولوية، بل إني لا أرى أمثلة جيدة فيمن يعدون أنفسهم أمثلة جيدة. بعض الدعاة يمتدحون أنفسهم كثيراً بإعجاب حينما أقرأ لهم مقابلات بالصدفة أو مقالات عنهم أو لهم. والكثير من المسئولين، كمدير جامعتنا، كثيراً ما روجوا لفكرة أن كثرة الحكي عن النفس والخطط والإيجابيات هي إنجازات كافية بحد ذاتها.
إنه حب البروز، أمر يشبه من خطر في باله أن يقف بينما الجميع جالسين حتى يميز نفسه، فإذا بالجميع يقفون معه، ولما أدرك كل فرد أنه كالجميع رغم هذا المجهود الصغير للتميز، بدأ الجميع بالقافز للفت الإنتباه، في مجهود لا جدوى منه أساساً.
قبل قليل وأنا أكتب في المطعم على الجهاز، سمعت شاب يقف قريباً من طاولتي، وهو يتحدث بسخرية عن فتحي لجهاز الحاسب على طاولة المطعم، وهو لا يدري أن المطعم أصلاً يوفر الانترنت اللاسلكي، كما وصلت به قلة الذوق إلى الإشارة باصبعه والتندر على جهاز الانترنت الذي شغلته أمام النافذة، قائلا بأن هذا تطور. كان يتحدث وكأني لا أسمع، رغم أني لو وقفت ومددت يدي للمسته لقربه إلي، ولما التفت لأنظر إليه تظاهر بأنه لا يراني. فعدت للكتابة. لكنه قاطعني بتحية، سألاً إن كان هذا جهاز انترنت لاسلكي، فقلت نعم دون أن أنظر إليه، فاستأذن بأنه يريد استخدامه إذا سمحت بعد قليل، وتسائل إذا كان عليه كلمة سر؟ فأخبرته بأني سأطلعه على الكلمة حينما يريد استخدامه. شكرني ومضى مع رفيقه إلى طاولتهم. في اعتقادي أن هذا الشاب اعتاد على السخرية من كل ما يرى دون أن يسمعه الناس، ولكن لكثرة ما جرى الأمر على لسانه، وصار من طبعه، نسي أني أسمع، وأني قد يكون لي رد فعل. ولما لم أرد بأكثر من النظر ولم يتمكن هو من مبادلتي النظر، أتصور بأنه شعر بالخجل، وأراد أن يغطي على ما قام به بالتظاهر باللطف وحسن الذوق. لكن، هل يغير هذا أي شيء من وقاحته المتأصلة؟ قد تجد أحياناً بعض الشباب يعلقون على مشتريات الناس في السوق وهم يسمعون. قال أحدهم ذات مرة معلقاً على عربتي: شف شاري كل هالمويه! فرد صاحبه بصوت عال: وش عليك منه ياخي، خله ينبسط (!!).
استمر شاب المطعم بالنظر إلي من طاولته، وقد كانت تفصل بيننا زوايا المطعم بزجاجها، ولم يطلب رقم الانترنت.
كانت مثل هذه المواقف تتكرر كثيراً معي في الجامعة، من طلاب آخرين لا أعرفهم. وربما لأني لا أعرفهم ولا يعرفونني لا يجدون ضيراً من التندر بي حينما أمر، لإضحاك من معهم. وحين النظر إليهم؛ يتظاهرون بأنهم يتكلمون عن أحد آخر، وبعضهم ينظر باسماًى بسخرية.
يوجد انخفاض غير عادي بوعي الكثير من فئات المجتمع بضرورة التأدب مع الآخرين، أنها ليست مجرد فضل، إنها واجب صارم.
اليوم يعود صديقي الحقيقي الوحيد.
كم أشعر بالحنق على المسئولين عن التعاقد مع الأجانب في الجامعة من الدكاترة السعوديين الحمقى، عمداء ووكلاء ورؤساء أقسام. كثيراً ما يعطون وعوداً خيالية بدون إستشارة الجهات التي تصنع العقود وفقاً للتنظيمات المحددة، فيأتون الأجانب متوقعين شيء لا ينطبق مع التنظيمات المحددة لمميزات العقود. أحياناً يكتشفون منذ البداية، إذ يكون الراتب أقل بكثير مما وعدوا، فيقال لهم هذا ما لدينا؛ والدكتور الذي تواصل معك لم يكن يعرف الأنظمة أو الحدود. ويكون الأجنبي قد ترك وظيفته في بلده أو البلد الذي يعيش فيه، وجاء لمختلف الأسباب، إما للعيش في مجتمع مسلم يصدمه مسئوليه هكذا، أو لمجرد تحسين حياته فيجد أن الأمور ليست كما وعدوا. وآخرين يكتشفون لاحقاً، مثل الذي قيل له اليوم بأنه لن يحصل على تكاليف تعليم ابنه، رغم أن العميد وعده بها، لأن ابنه أصغر من العمر القانوني، ولا ألومهم، لكني ألوم العميد الأحمق، ولو كنت مديراً للجامعة؛ لأرغمته على الدفع من حسابه الخاص للرجل، حتى يتعلمون بأن حقوق الناس وآمالهم ومشاعرهم ليست للتلاعب والاستهتار.
كما أقرف أشد القرف ممن يسرقون مجهودات الآخرين، سواء أجانب أو طلاب في مشاريع تخرجهم، حيث يشاركونهم على الورق دون أن يبذلوا أي مجهود، وحينما يمانعون أصحاب الفكرة والعمل، يكون جزاء الأجنبي الطرد المهين كما شهدت، أما الطالب، فعلى الأغلب أنه سيموت قهراً في قلبه فقط.
أتخيل بأن قولي بأن الدكاترة والدكتورات السعوديين هم من أهم أسباب تخلفنا لأسباب كثيرة لن يكون قابل للتصديق في أول وهلة، لكنه الواقع الذي لا يقبل الشك لدي.
قررت أن لا أضيف من لا أعرف أو لا أجد معلومات كافية أو مثيرة للاهتمام في ملفه على قوقل+، الخدمة الجديدة الشبيهة بالفيسبوك، حينما يضيفني. أعتقد أن هذا أمثل عن الازدحام. قد أعطي أحدهم فرصة وأضيفه، لكن حينما أكون لا أعرفه، ولا يعجبني ما يكتب أو أنه يكتب ويشارك أكثر من اللازم، سأحذفه من دوائري.
هذا حل ملائم للوقت الحالي، حتى أجرب وأرى إن اقتنعت.
عموماً، هذا هو عنوان ملفي هناك، أعتقد أنهم سيطورونه لاحقاً ليصبح بالحروف او اسم المستخدم بدلاً عن الأرقام:
بعد يومين سأفقد الأمل من الرفقة الوحيدة التي أتطلع إليها خارج المنزل إلى ما بعد العيد بفترة. سيسافر الدكتور الألماني إلى بلاده، بعدما عاد لوقت وجيز من جنازة شقيقه. التقينا، وشاهدنا معاً أفضل فيلم أحبه على الإطلاق، الأميرة مونونوكي، وقد كان متحمساً لرؤية أهم فيلم لدي، لأنه يتخيل بأنه لا بد سيكون لدي سبب وجيه ومميز. أحياناً أجد نفسي عاجزاً عن وصف كل أسباب حبي لهذا الفيلم وإلهامه لي على نحو يشعرني بالرضا، أشعر بأنه يوجد دائماً نقاط أغفلها. استمتعنا بالفيلم المميز والذي لا أعتقد أن الدكتور رغم استمتاعه به سيرى ما أرى فيه. مع ذلك، ناقشني فيه مطولاً، يريد أن يرى ملاحظاتي، ورؤيتي للوارد في الفيلم. لا يمكنني أن ألخص هذه الأمور؛ لكن يمكنني أن أقول بأني قلت للدكتور ضمن ما قلت بأني أحببت الإصرار اليائس على تصحيح الأمور ومساعدة الآخرين، التضحية من خلال هذا الإصرار المؤلم، وبراءة الطبيعة حتى في مقاومتها. حينما انتهينا تقريباً من النقاش، وقفت لأجمع الأشياء، الجهاز الضخم والاسطوانة والأسلاك وحقيبتي بجهازي وخلافه، لكنه استوقفني متسائلاً باستغراب أين سأذهب؟ قلت بأن الوقت تأخر، وأنه ينام باكراً، لكنه أخبرني بوضوح بأن أبقى، لأحكي له قصصي المسلية. وليحزم أمري، قام ليحضر لي علبة سفن آب، وقد اشترى كمية جيدة رغم أنه لا يشرب هذه الأشياء، حتى حينما آتي إليه أشرب.
من ضمن ما سألني عنه كان الرئيس البشير، في السودان، الذي سماه مجرماً، وأخبرني بأن دكتور سعودي قد قال له بأن هذا ما يريدنا الغرب أن نراه. أنا أجد هذه الإجابة، صحت أم لم تصح، هي إجابة خليقة بدكتور سعودي لابتذالها، فهي معلبة بحيث تبدو ذات مدلول وحجة، في حين أنها لا تساوي شيئاً بذاتها، وقد صارت تقال في كل مناسبة، حيث تجدها العقول المقفلة والكسولة ملجأ يسهل الوصول إليه بلا تفكير. قلت بأني لا أعتقد بأنه مجرم بالضرورة بقدر ما أعتقد أنه غبي. ذهل، إذ يبدو أنه لم يتوقع هذه الإجابة، أن لا أعتقد بأنه مجرم. ذكرني بأمور كثيرة؛ الحروب التي خاضها البشير والمذابح التي يتهم بها، فأخبرته بأني لا أعلم عن هذه الأمور، فهو يدعي خلافها، ويدعي أن الجنجويد هم من أسائوا لأهل الجنوب، ولو كان مجرماً بالفعل، فهو ليس المجرم الوحيد في العالم، أما المآسي فقد ارتكبت بسبب غباءه في النهاية، أكان المجرم أم لم يكن. فهؤلاء في الجنوب كانوا أصلاً منقسمون كما يدعي، وأنه لانقسامهم كان لا يستطيع الاتفاق معهم، وهذا غباء من طرفه أيضاً، عذر غبي للإهمال المادي والمعنوي الذي لحق بأهل الجنوب. لقد رحل الجنوب الآن، وهو ليس خسارة للسودان فقط، لكن لكل المسلمين في رأيي، بسبب الإهمال والاحتقار الذي سمح به البشير. بدا أن هذا منطقي إلى حد ما بالنسبة للدكتور، وقال بأنه ربما كنت على حق، فهو لا يعلم الكثير بدقة حول ما جرى هناك.
تكلمنا حول الجنازة هناك، ولم يبدو الأمر بائساً للحد الذي تخيلته، ربما لأن الميت كان متوقع له المصير منذ فترة نظراً لمرضه، ورضا العائلة عن مستوى التصالح والتواصل الحميم معه قبل وفاته المتوقعة.
ثم نظرنا إلى صور عائلية جديدة، ومزرعته في أحد بلدان البحر المتوسط. كانت صور جميلة؛ خصوصاً صورة لحفيدته الصغيرة المليحة، بعينيها الجميلتين ووجهها المستدير كالقمر ما شاء الله. اسمها كلارا. وحجمها أكبر مما يراه المرء هنا لأطفال من سنها. بالواقع، إن أطفالنا أصغر حجماً عموماً من أطفال الآخرين. في عملي القديم في مركز طبي، حملت ابن زميلة مصرية، وقد كان ما شاء الله ثقيل إلى حد صدمني، ورغم عمره الصغير إلا أني واجهت مشكلة في حمله على ذراعي بسبب حجمه الكبير وطول أطرافه. هذا رغم خبرتي بحمل الأطفال التي تمتد إلى سنوات طفولتي أنا. لم أتعجب كثيراً بعدما رأيت والده عموماً، الذي يعمل مندوب مبيعات، فقد كان خليقاً به أن يعمل في المصارعة الحرة وفقاً لشكله وحجمه، وموقفه كذلك.
تكلمنا كذلك عن أمور أخرى كثيرة.
قال بأننا سنتواصل عبر البريد الالكتروني حينما يسافر، فقلت بأن لا يحمل هم الأمر، يمكننا الالتقاء حينما يعود. ولكنه أصر، فأخبرته بأنه بالواقع غير جيد بالتواصل عبر البريد، فضحك، وقال بأنه سيحاول التحسن، لم أتحمس مع ذلك، فأصر على الأمر.
لقد جائت ابنة أخي أمس، التي أنتظرها طوال الاسبوع، وقد أوقعتُ بالخطأ فنجان القهوة، وهو خالي، على وجهها، لكن بمساعدتها. أود لو أنزلت لها صورة لتروا جمالها، لكني حينما لا يكون الطفل ابن لأخواتي، أخاف أن أغضب أهله، ربما إخواني قبل زوجاتهم في بعض الحالات.
أتمنى لو كنا نربيها لدينا. كانت قبل فترة تأتي كل صباح لتظل في رعاية أمي حتى العصر تقريباً، وكنت أحياناً أتأخر عن العمل عمداً حتى أصادفها مع أمي حينما أنزل. وكانت أيام سعيدة، مليئة بالقبل الانفجارية.
هذا قبل أن يحصلوا على خادمة، لسوء حظي.
هذا قبل أن يحصلوا على خادمة، لسوء حظي.
هي حجمها صغير على نحو استثنائي، وخديها رقيقين وغريبين. هي عموماً كاللقمة، أخاف أن أبتلعها كلها حينما أقبلها. لكنها بدأت تتمرد، وهذا ما أكرهه في البنات، فهن لا ولاء لهن، عكس الصبية.
السفير البريطاني يقول، وكأنه يخاطب أطفالاً، بأنه شعر بالاسف على مخيم مزيف دمرته في تدريب قوات مشتركة بريطانية وسعودية. وهو بهذا يتحبب ويتلطف بزعمه. إنه يستخف بالناس بوضوح بلهجته القاصرة هذه.
قبل فترة، طلبنا غرض من أمازون بمساعدة أخي، كان لمساعدتنا على الرحلة إلى ألمانيا قبل أن يغير أهلي رأيهم. انتهزت الفرصة وطلبت كتابين؛ أحدهما عن حضارة الإنكا وشعبها، ورغم أني لا زلت أريد إنهاء كتاب آخر إلا أني قرأت القليل منه، ووجدته جميلاً، مكتوب بلغة ممتعة ومؤثرة.
اما الآخر فاسمه يترجم إلى: اغتصاب نانكينق. وهي المدينة الصينية التي تحدثت عنها سابقاً، التي غزاها اليابانيون وعاثوا فيها فساداً لا يتصوره عقل. ولم أقرأه حتى الآن، ولكني رأيت صور توثيقية أحدثت أعمق الأسى في قلبي.
وبذكر الإنكا، شاهدت الكثير من المقاطع لذلك الأثر المهيب؛ ماتشو بيكتشو، الذي بنوه فوق قمة جبل بين السحاب، ونسي من ذاكرة البشر لحوالي ثلاثة قرون، حتى اكتشف لاحقاً من جديد، وقد هجره أهله لسبب مجهول، قد يكون انتشار الأوبئة التي أتى بها الاسبان ولم يكن لأهل البلاد مناعة ضدها، ولعل بعضها وصل إلى ذلك المكان المعزول.
إنه أثر يسحرني على نحو مختلف، إذ يجلب الشجن العميق إلى قلبي، فلا أنفك أتأمله وأتفكر فيه ومن بناه وسكنه، حينما أرى صوره أو أقرأ عنه. مكان لا يُدرى على وجه التحديد لماذا بني هناك بالذات، ولماذا هجره أهله فجأة كما توضح الدلائل، رغم أنه أشبه بالجنة الأرضية؛ وكأنما المرء إذ يعيش هناك فإنه يعيش في حديقة غناء، في جيرة الشمس والسحب، محفوف بقمم مهيبة، ولكن تجلب السكينة إلى القلب.
ما يعجبني في الأثر هو اندماجه بالطبيعة، وبساطة مبانيه الجميلة الخالية من الزخرف رغم حسن تصميمها وبنائها. المدرجات البديعة، والخضرة غير العادية المحيطة بكل شيء، والموجودة على كل شيء. الساحات الخضراء الجميلة والممرات المحاطة بالجدران الحجرية، وجوهرة التاج، وأكثر ما أثر في نفسي؛ مصب الماء المنحوت في الحجر، كنافورة طبيعية.
قد لا يبدو للكل تميز هذا الأثر عن سواه، ولربما بدا أقل إثارة للذهول مما يتخيل البعض من ذوي النظرة الجزئية، النظرة التي قد لا ترى الصورة كاملة. لكن، إن هذا جزء من تميزه، إنه مكان للعيش الطيب فقط، في مكان فريد قلما يوفق الناس إلى اختيار مثله وبظروفه. الاطلاع عليه يشعرني بالحنين والحزن اليائس، والسكينة؛ يشعرني بالاستسلام.
(يشمل موسيقى)
http://youtu.be/Z2MN5glPgUs
هذا مقطع جيد للأثر. يمكنكم رؤية المصب المائي الجميل فيه، ورؤية ساقي يتفرع عنه على الأرض في لقطة أخرى.
يوجد كذلك منظر طبيعي مثير للذهول؛ إنه أعلى شلال في العالم. يسقط في فينزويلا، من أحد جبال التبوي التي تشكل ظاهرة طبيعية فريدة بحد ذاتها. يسمونه شلال آنجل، وهو لفرط طوله يتبخر بعضه قبل أن يمس الأرض. إنه منظر طبيعي مذهل، سبحان الله.
http://youtu.be/iLmvCLPjUM4
أشعر بالوحدة والملل في نهاية الأسبوع. الصديق الوحيد، الدكتور الألماني، سافر، ولن يعود قريباً. على الأقل، جائت ابنة أخي ذات الأشهر الثمانية، ولكن كما توقعت، أصبحت إنسانة أنانية، لا تريدني أن اقبلها، بينما تسمح لأمي بذلك (قهر)، بل وتقبلها هي فاتحة فمها على اتساعه، وكأنها ستأكل أمي بسنيها الاثنين. ولم تجدي الهدايا، إذ أنها لا تفهم.
وبذكر أمي، اشتريت لها كوباً ظننت أنها ستفرح به، إلا أنها سرعان ما تخلصت منه بإعطائه أخي في ذات الليلة، لأن عليه رسوم لأغنام تضحك في المراعي (حرام). لا أدري ماذا سأفعل مع هذه المطوعة. الغرض الأساسي من الكوب كان هذه الأغنام، وإلا فالأكواب في المنزل كثيرة. ماذا أفعل وهي ترفض إحضاري لنعجة حقيقية إلى المنزل، رغم حبها لهذه الحيوانات(وحبي للغنم النجدي). هل أعاقبها وأحضر بقرة؟ (هي تكره الأبقار، كأنها بدوية).
المشترك الأخير في مدونتي كتب تعليقاً لطيفاً، لكن التعليق لسبب ما لا يظهر في مكانه في جانب المدونة، حيث يعلق متابعو مدونتي حينما يرغبون. لذلك لم أتمكن من الرد على التعليق كما يجب. يقول التعليق:
"السلام عليكم ورحمة الله ... انا متابع من فترة لفترة لهذي المدونة ... وكنت اتوقعك تقرب لي :) ... عالعموم مجرد تسجيل إعجاب بأسلوبك ... أخوك : عبدالرحمن الحوشان .... مغترب في امريكا .."أشكرك أخي عبدالرحمن على لطفك، وأقدر كثيراً متابعتك لما أكتب، خصوصاً بعدما عرفت بأني لست قريبك، ومع ذلك شجعتني بكرم.
أعرف بأن عائلتك كبيرة، أكبر عدداً من عائلتي بكثير، إن كانت هي بالذات من أعرف، أقصد عائلة الحوشان من بريدة. كنت قد حضرت مع أخي زواج صديق له من هذه العائلة قبل سنوات، وهو رجل من الحوشان درس معه في أمريكا لا أتذكر اسمه الأول، وقد كان لطيفاً جداً (ألطف من أخي). كان الزواج في الفهد كراون، أعتقد أن اسم الفندق تغير الآن.
كثيراً ما اعتقد الناس أني من عائلة مختلفة. البعض يظن بأني من المزاحمية، وهم من آل ثنيان على حد علمي، وآخرين من حائل، والأغلبية من بريدة (ربما بحكم اللهجة وشهرة عائلتكم)، وأماكن أخرى أقل جرياً على الألسن، لكن أصلنا، الحوشان من المذنب، أصلنا دواسر من فخذ البدارين.
أشكرك مرة أخرى أخي عبدالرحمن، وأتمنى أن تجد دوماً ما يمتعك هنا. كما أتمنى أن أطلع على مدونتك إن كانت لديك واحدة. عسى الله أن يردك سالماً غانماً إلى من يحبك.
شكراً جزيلاً.
ذهبنا اليوم أنا وأمي إلى مدينة الملك فهد الطبية، وقد ذهبنا بضعة مرات خلال الأشهر الماضية، ولم نقابل الدكتور الذي طلبنا تحويلنا للمستشفى لأجله بعد المرة الثانية، كنا نرى الطبيب الهندي من فريقه، وهو الآخر طبيب طيب جداً مثله، ودود ومتفهم، لكن هذا ليس غريباً، فالأطباء الآسيويون عموماً أكثر تواضعاً وطيبة من العرب، أما الغريب فهو أن الدكتور الأساسي، الذي جئنا لأجله، طيب جداً، رغم أنه سعودي.
طال انتظارنا إلى حد ما، ثم ظهرت أمي فجئة من استراحة النساء، وقد ملأها التوتر، قائلة بأن من جائوا قبلنا قد مضوا جميعاً، وبدأ من جاء بعدنا يمضي، بينما لم يتم استدعاؤنا. لتهدئتها، ذهبت إلى الاستقبال أسأل، حيث قيل لي أن أسأل في غرفة الطبيب الهندي، وهناك قالت المساعدة السعودية بأن ملفنا لدى الدكتور مشبب العسيري، في المكتب المجاور. لم أتوقع هذا بصراحة، فقد بدأت أظن بأنه لا يرى مرضاه بعد أول مرة شأن بعض الأطباء الرؤساء لأقسامهم، وربما كانت الثانية بالصدفة. لكني فرحت صدقاً. سألت الممرضة في مكتبه، وقالت بأن ملفنا هو الأول، وستدعونا قريباً بعدما يراجعه الطبيب. وفعلاً، دعتنا مباشرة تقريباً، ودخلنا. كان الطبيب مشغول الذهن عموماً، إذ بدا أن وقته ضيق، ولكنه مع ذلك لم يستعجل. كان لطيفاً جداً مع أمي، وأجاب أسئلتنا بوضوح. كانت الأمور ولله الحمد مطمئنة. أزعجتُه قليلاً بالإسئلة والنقاش، وأعدت بعض الأسئلة بصيغ مختلفة لأتأكد بأني فهمت جيداً وضع أمي بكل حيثياته، وقد صبر علي جيداً، ولا أقول بأني كنت أختبر صبره صدقاً، لكني بطبيعتي أحب التأكد من صحة فهمي في الأمور المهمة. بعد تقرير ما سنفعل للفترة القادمة من فحوص ومواعيد وأدوية، أحضرت الممرضة الأوراق لتشرح لي ماذا أفعل بكل ورقة، بينما تكلم الطبيب مع أمي، سائلاً إياها عني، إن كنت ابنها (!!) ومن هذا القبيل، ومطمئناً إياها بأني أفهم جيداً كما يعتقد. حينما ابتعدت الممرضة، سأل أمي عن ما أفعل أنا بحياتي. قالت بأني في الجامعة، تقصد أني أعمل بالجامعة، لكنه حسب بأني طالب، فسألها بأي سنة أدرس. قالت بأني أعمل، وتدخلت لأخبره بأني متخرج منذ زمن بعيد، وأعمل هناك. سألني عن مكاني هناك بالضبط. ثم عاد يسأل أمي عن تخصصي، قالت: انقليزي. فقال لأمي مازحاً بأن هذا السبب ربما لطول شعره (يقصدني. وبالواقع، شعري ليس طويلاً، لكن كثافته تعطي انطباعاً مغايراً) ضحكت أمي وقالت: يا حبي له (!!). ثم سأل عن كليتي، وأوضحت له بأني درست في اللغات والترجمة، بعدما ظن أني تخرجت من الآداب. تكلمنا قليلاً حول الأمر. بعدما انتهى النقاش الودي، أخبرته بأني كتبت عنه في مدونتي. فتح عينيه على اتساعهما بطريقة كوميدية وقال: يا ساتر!. وكأنه خاف، مما أضحكني. تسائل ماذا كتبت، قلت بأني كتبت خيراً، فمن النادر رؤية دكتور سعودي لديه دم وإحساس بمرضاه. صمت قليلاً متأملاً، ثم قال ما لم أفهم وهو مبتسم: كنت أحسب أن ما عندي دم. بدا سعيداً بالأمر، وشكرني جيداً وهو مبتسم. وحينما أردنا الخروج وضع يده على كتفي وسأل أمي إن كانت قد زوجتني. قالت بأنها لم تزوجني بعد، وأن من تزوجوا لم يعودوا يبالون بها، وهي وجهة نظر تقليدية على ما أعتقد. خرجنا وهو يودعنا.
لكن، عندما أردت الحصول على ورقة للمرافقة، علمت بأن الإجراء تغير عن السابق، ولهذا يجب أن أعود إلى مكتب الطبيب، ليمنح الموافقة الالكترونية. جاء رجل وحاول الدخول قبلي، ودخل، أخبرت الطبيب واقفاً بالباب بأن يعطي موافقته على المرافقة. وأعطاني، وهو يقرأ اسمي وبياناتي على الحاسب، واسم الجامعة حيث أعمل. ثم سأل عن مدونتي، وإن كنت قد كتبت في مدونة أو الفيسبوك، فأخبرته بأنها مدونة، سأل عن عنوانها، فقلت بأن يبحث فقط عن اسمي في قوقل. إن اسمي يظهر في أول النتائج، حتى لو نسي اسمي الأول (من الصعب أن ينسى المرء اسم مضحك كالحوشان).
تركت القسم وأمي فيه، لأحصل على الأدوية وأطبع عذر المرافقة من التقارير، ثم مضيت إلى مبنى آخر من المستشفى، للسؤال عن التوظيف هناك، ومعرفة من سيتمكن من العلاج في المستشفى من أهلي في حال عملت لديهم. قيل لي بأن التأمين يشمل أمي وأبي، وهذا رائع، وزوجتي وأبنائي(هؤلاء غير مهمين إذ أنهم غير موجودين). فرحت كثيراً. لكن قيل لي بأن الانتقال من عملي غير وارد، حيث يتم توظيفي لديهم بوظيفة جديدة. أعتقد بأنهم ربما يعملون على نظام مختلف عن الحكومة. إني أفكر بالأمر. ولدي الوقت، إذ لا أستطيع الانتقال حالياً من عملي وأنا ملتزم في غياب زميلي. لكن مع ذلك، يجب أن أستشير وأفكر جيداً وكثيراً، فهناك بخلاف أمي وأبي ابنة أختي.
حينما خرجت من المبنى، خرجت من طريق آخر، ووجدت نفسي في مكان لا أعرفه من المدينة الطبية. لكنه كان مكان جميل. رأيت نافورة جميلة، فأخرجت جهاز الننتندو ثري دي اس لألتقط صوراً ثلاثية الأبعاد لها. إني أعشق تصوير النوافير كما لا أعشق تصوير أي شيء آخر، والمساقط المائية طبعاً إن وجدتها، خصوصاً بشكل ثلاثي الأبعاد.
كان يوماً جيداً، فالطبيب طمئننا أخيراً على صحة أمي، بعد أشهر من الانتظار والإجراءات المختلفة، وقد رأيناه وتمكنت من إظهار تقديري له، وتشجيعه على اللطف والتواضع.
البارحة، حينما دخلت التميمي لشراء غرض أوصاني عليه أحدهم، وكان الوقت متأخراً في جوف الليل، وقفت لأنظر إلى مكان مجلة ناشيونال جيوقرافيك، رغم أن وقت العدد الجديد لم يحن بعد، لكني كنت أرجو أن شعوري بمرور الوقت قد أخطأ. كنت أواجه المحل وأميل برقبتي فقط لآخذ نظرة، وربما سهمت قليلاً، وظللت أفكر دون حركة، بعدما رأيت أن العدد الجديد لم يأتي بعد. لا أدري كم ثانية أو لحظة مضت وأنا ساهم، لكن حينما نظرت إلى الأمام لأمشي، وجدت رجل شديد الضخامة والعرض، بدين إلى حد كبير، رأسه كبير جداً، ووجهه الضخم المحاط بلحية كثيفة يكاد أن يلتصق بوجهي، وهو باسم. لا أدري ما أصابني، قد أكون ذعرت قليلاً، لكن ما شعرت به أكثر كان الإحراج والخجل، إذ حسبت لأول وهلة بأني أسد الطريق أمام هذا الرجل غير المعتاد. ضحكت محرجاً، ربما مجفلاً، أو ما يسمونه ضحك "الروعة"، وقفزت للخلف جانبياً، وأنا أعتذر. كانت ابتسامته واسعة في البداية، لكنها بدأت تصغر قبل أن يمضي في طريقه، يبدو أن ردة فعلي سببت له صدمة (وأنا ماذا أقول عن رؤيته أمامي فجأة؟!). شعرت بإحراج، وكان البعض ينظر إلي باسماً بعدما رأى الموقف. لكني حلّلت الأمر بسرعة، واكتشفت بأن الأمر غريب، إذ أني بالواقع لم أسد الطريق حتى يتوقف تماماً، ولم يكن أمامي أو قربي أي أحد حينما توقفت لأرى المجلة في الرف البعيد. إذاً هو جاء لاحقاً، وقرر الوقوف مقابلي والسكوت، والاقتراب كذلك على نحو غير مألوف.
غرابة أطوار فقط على ما يبدو.
أيا راحل إلى أمانيا...
وآخذ معه الأنس والسلوى...
تاركني لوحدتي...
أسأل أحلامي النجوى...
ولا من مجيب...
أيا راحل إلى أمانيا...
نادني إذاً بأحلامك...
وابسط تجاهي يدك الحمراء الأبوية...
وعلى ريح المطر أطلعني...
في غابتك البافارية...
وخذني لأشرب من ماء الألب...
تلك الجبال الموحشة الجميلة...
لأروى من عطش الصحراء...
لعلي حين أفيق...
أغلب يأس الوحدة والشقاء...
أنتهت.
أمانيا هي ألمانيا، كما كان ينطق اسمها الناس في القصيم قديماً، في القصص التي سمعت.
سعد الحوشان