بسم الله الرحمن الرحيم
في جيرة الجنة...
قطعت على نفسي العهود...
أني يوماً سأعود...
إلى حيث تتعانق الرياح السماوية...
وتترقرق النوافير النقية...
ويحنو الغمام على البرية...
إلى حيث عُرف طيب العيش يوماً...
واستكانت النفوس العبقرية...
إلى حيث أقسم قلبي على السلام...
وطاب لروحي المقام...
في جيرة الجنة...
كان حماسي لا يوصف، وأنا في طريقي إلى محطة القطار القريبة مع السائق. أود لو كانت كل الأيام مليئة بالترقب الجميل، لأماني على وشك التحقق.
أتابع من حيث أقمت ليلة في الفندق المعزول بالوادي المقدس، على مقربة من مدينة كوزكو الجميلة. كنت سأذهب في صباح اليوم التالي على القطار إلى ماتشو بيتشو، الأثر الأكثر شهرة في أمريكا الجنوبية، ومكان لطالما حلمت بزيارته، خلال سنوات من القراءة ومطالعة الصور والتفكر.
كانت المفاجئة بالقطار هي أن الرجل الذي اشتبهت أنه يهودي وزوجته كانوا على نفس القطار.
لكن قبل وقت الرحلة، جلست بالاستراحة لأشرب بعض الماء وأقرأ كتاب معي. كان هناك رجل هندي لعله بالخمسين من عمره، وزوجته. وقد حيوني وتبسموا كثيراً. أعتقد أنهم حسبوني هندياً، وإلا لماذا إذاً تلك الحفاوة؟. حتى حينما التقيتهم لاحقاً، حيوني وتبسموا. كان يبدو عليهم اللطف البالغ والبساطة. أتمنى لو أني تعرفت عليهم، لكن، هل كانوا سيظلون على نفس القبول والابتهاج إذا ما علموا من أين أنا فعلاً؟.
حينما جاء وقت الرحلة، تشكل صف من الناس ليدخلوا القطار حسب الدور، وكان امامي مباشرة زوجة ذلك الرجل، بينما كان هو في مكان آخر. أوصتني على حقائبهم قبل أن تذهب بسرعة، يبدو أنها ذهبت لتنادي زوجها. مضى بعض الوقت، وقد كنت أرفع حقائبهم وأضعها أمامي كلما تقدم الدور. جاء الرجل مهرولاً، وشكرني ببهجة. بالداخل، كانت المفاجئة أن وكالة سفري، بإشراف كارلا، قد حجزت أفضل مقعد بالقطار لأجلي، وهو رقم واحد، ويقع في مقدمة القطار، أمامه نافذة وإلى جواره نافذة. بينما كان إلى جواري رجل فرنسي، وزوجته خلفنا، وإلى جانبها الرجل الذي أشتبه أنه يهودي، بينما زوجته إلى جانب امرأة أخرى. كان مكاني مثار حسد، وكان الفرنسي يريدني بوضوح أن أبدل مكاني مع زوجته، لا أن يبدل هو مكانه مع الرجل، الذي حاول إقناعه بذلك طوال الرحلة، وعلى نحو غريب، حاول التلميح لي كذلك لأعود وأجلس معه في مكان الزوجة الفرنسية. كان إصراره غير عادي، وكان يأتي ليقف أمام الفرنسي محاولاً إقناعه بالعودة، بينما لم يحاول هو الجلوس إلى جانب زوجته. لم تجدي المحاولات لا معي ولا مع الرجل الفرنسي، الذي كان سخيفاً بصدق، يحملق بي ويكاد أن يلتصق بوجهي.
لكن الرحلة على وجه العموم كانت جميلة جداً.حينما وصلت، وجدت باستقبالي فتاة اسمها فاطمة، وهو اسم دارج باللغة الاسبانية، دخل عليهم من العرب. كانت هذه الفتاة ذات موقف غريب، متصلب ورسمي إلى حد بعيد. لم أمانع. معلوماتها كانت أكثر من ممتازة، والجولة بصحبتها كانت مثرية إلى أقصى حد، من خلال المعلومات والإجابات التي كانت تعطيها.
ذهبنا إلى ماتشو بيتشو بعدما تركت حقيبتي الصغيرة لدى الفندق، حيث سأنام ليلتين، لأقضي ثلاثة أيام في ماتشو بيتشو، وهو أمر يعتبره البعض غير مألوف، فأغلب الناس يقضون يومين على الأغلب. ركبنا الحافلة، وكانت مزحومة بالكثير من الناس، حيث تمتلئ الحافلات بالقادمين والعائدين من الأثر القريب في قمة الجبل.
هكذا ترى المدينة حينما تقبل عليها من البوابة، كما الصورتين أعلى وأسفل.
بالأعلى، يوجد فندق مجاور لبوابة المدينة، ومقصف صغير ومحل ايسكريم يتبعان له، خلافاً للمطعم المزدحم. البوابه مرتفعة عن مستوى المحطة، وعلى مستوى أخفض منها دورة مياه مزحومة بشدة، يقف الناس أمامها بصف طويل، ولكنها نظيفة مع ذلك ومعتنى بها جيداً، إذ يدخلها الناس برسم رمزي.
كانت فاطمة تهتم بكل الشئون، وهي قد قدمت تذكرتي، وجوازي للتسجيل قبل الدخول، حيث لا يدخل أحد دون تسجيل اسمه، وهذا أمر رأيته في بضعة أماكن هناك.
حينما دخلنا، رأيت أجمل مكان اطلعت عليه، إنه أمر يخطف النفس، ويأخذ الفؤاد ويهزه.
تلك المدينة الأثرية المهجورة وغير المكتملة، بممراتها، نوافيرها، مدرجاتها الزراعية، غرفها، أماكنها الطقوسية، ساحتها، كل ما فيها لا مثيل له. إلى جوارها جبل له أكثر من قمة، وهو يشبه وجه رجل مستلق يتطلق إلى السماء.
إن بناء مدينة بهذا الشكل وعلى هذه التضاريس وبهذه الهندسة لهو أمر مذهل، لكن الأمر الذي أرى أنه بنفس الأهمية لكن يسهل على المرء إغفاله هو الموقع. المكان تم اختياره بعناية لا مثيل لها، فالمدينة على قمة الجبل تقع تماماً على ملتقى تيارين هوائيين، تيار دافئ قادم من الأمازون، وتيار بارد قادم من وسط الانديز، يلتقيان في المدينة مما يجعل الجو فيها جميلاً على مدار السنة، ملائم للعيش الطيب والنبات، ويعتبر الجبل الذي بنيت فوقه المدينة مصد طبيعي للسحاب، إذ أنه يحوي غابة سحابية بالأساس، فيعلق السحاب في بعض أجزاءه ويسقي زرع أهل المدينة.
إن قلبي ليخفق على نحو خاص مختلف، وعيني تدفئها حرارة الدمع، حينما أتذكر ذلك المكان وأتفكر فيه.
يدخل الناس المدينة الآن من بوابة تأخذهم عبر المدرجات لأهل المدينة السالفين، وهي مدرجات ضخمة وطويلة، حتى الوصول إلى مباني المدينة، وهي أكواخ حجرية، تختلف في تصاميمها حسب القسم الذي بنيت به من المدينة. قرب حد المباني يوجد درج، وكل بضعة درجات توجد حولها نافورة تصب من عمر المدينة، التي أكتشفت فقط قبل مئة سنة تقريباً، لحسن الحظ، ولسوءه. إذ أن مكتشفها، إن صح الوصف، هو مستكشف أمريكي آذى المدينة بأساليبه غير العلمية، إذ أنه حينما اكتشفها كانت مطمورة بأشجار الغابة، فحرقها باستعجال، وكانت بوابتها مغلقة خلف آخر مغادريها، تفتح فقط بطريقة معينة، ففجرها الأحمق.
هنا، لا أدري كيف أصف المدينة صدقاً، لا أشعر أن وصف خطي ومتسلسل ممكن، أو يفيها حقها، ووصف عشوائي لن يفي بالغرض كذلك.
المدينة لا توصف، وكذلك إحساسي تجاهها لا يوصف.
أحاول إذن؛
المدينة تمتد على نحو مستقيم باتجاه جبل هواينا بيتشو آنف الذكر، الذي يشبه الوجه المتطلع إلى السماء، وهي شبه مستطيلة إلا أنها غير متماثلة الأبعاد. تتوسطها ساحة كبيرة متعددة الطبقات، تفصل بين البيوت أهلها أعلى شأناً عن بيوت العموم بالجهة المقابلة. ولا يعني هذا أن البيوت في جهة الوجهاء أكبر أو أفضل، بقدر ما أنها أقرب لما يعتقد أنها معابد وأماكن طقوسية. لكن قبل الوصول إلى الساحة يوجد درج طويل، إلى جواره نوافير بديعة للشرب. بيد أن النوافير كانت منخفضة الضغط مما أثار استغرابي، فشرحت فاطمة أن الفندق المجاور للأثر يحصل على المياه من نفس النبع، لهذا ينخفض الضغط غالباً في النوافير. لحسن الحظ، كان ضغطها معقولاً خلال آخر يوم لي هناك.
يوجد بالأعلى منزل صغير يقال انه منزل الإنكا، حيث يأتي للإستراحة ومتابعة سير العمل على المدينة، التي يتعاقب على العمل بها مهندسين وفنيين من مختلف أنحاء الامبراطورية، من تلك الحضارات التي ضمتها توانتنسويو (دولة الإنكا) تحت جناحها، وتميز أهلها بمختلف الفنون والعلوم. قيل لي أن التمديدات المائية عمل عليها مهندسون من تشانتشان على سبيل المثال، على ما يعتقدون، والله أعلم. أعتقد أن الجزم صعب بمثل هذه المعلومات التفصيلية. يوجد في منزل الإنكا حمام صغير، وهو الوحيد مما رأيت، وهو مجهز بوضوح للاستحمام بفتحة تصريف صغيرة إلى الخارج. فكرت؛ كيف سيكون شعور الإنكا في ذلك الزمن لو علم أن قوم آخرين سيدخلون إلى غرفة نومه، وينظرون بلا مبالاة، وربما بازدراء لبساطتها بالنسبة لبعض العقول السطحية.
سقوف البيوت بطبيعة الحال مائلة، ولكنها ليست مخروطية مثلما كانت البيوت في كويلاب، القلعة الجميلة الأخرى لأهلها التشاتشابوياس.
يوجد غرف مجهزة بنوافذ مصممة لإدخال الضوء، أو المساعدة على مراقبة النجوم، بطريقة معينة، ورأيته في غرفة أحواض صغيرة وسطحية يعتقد أنها تستخدم لعكس النجوم من النوافذ الهندسية لغرض حساب الوقت والتنبؤ.
أخبرتني فاطمة أن زعماء من أمم مختلفة كانوا يأتون إلى المدينة لسماع التنبؤات المهمة عن المواسم والأمطار والجفاف، كما أثبتت الحفائر والتقدمات التي أكتشفت. للأسف، معظم الأشياء التي وجدت في ماتشو بيتشو رحّلت إلى أمريكا، وترفض أمريكا إعادتها غالبيتها العظمى حتى الآن، باستخدام لعبة الشروط غير المحققة والاتفاقات الاستغلالية الخسيسة، كشأن كل الدول الغربية التي تجمع آثار العالم وتصوغ الاتفاقيات في اليونسكو بطريقة تخدمها هي فقط. المؤسف أن اللقى تقدر بمئات الآلاف.
كنا نلتقي بعض الناس الذين رأيتهم بالقطار أو المحطة، فيحيونني وأحييهم. كانت فاطمة تنظر باستغراب، وتسأل من هم؟ لأنهم غالباً من يبادر، لا لشيء إلا لأنهم رأوني أولاً، فأقول بأنهم أصدقائي من القطار. لاحقاً خمنت من تلقاء نفسها حينما لفت نظرنا أحدهم ثم لوح ليحييني، وقالت: من أصدقائك بالقطار؟ قلت نعم، فضحكت معلقة على كثرتهم، وأنه أمر لم تعهده.
وبالواقع، كنت أنا أستغرب، لأني لم أكون علاقات على القطار فعلاً، غالباً ما كان من يحيونني أناس كانوا يحملقون على القطار.
ورغم تهذيب المرشدة، إلا أنها كانت متحفظة بوضوح، وربما حاولت أن تكون جافة قليلاً في بعض اللحظات، وهو موقف لم يغضبني صدقاً بقدر ما أثار تساؤلي، فهي تترك العنان لطيبتها ولطفها، ثم تنتبه وتتحفظ.
كان الإنكا يقدمون الأضحيات من اللاما غالباً، ويتواجد صخرة لها تكون يشبه نسر الانديز المسمى بالكوندور، وهو أكبر طائر قادر على التحليق بالعالم، كما حكيت في تدوينة سابقة.
حكت فاطمة عن عادات مستمرة منذ عصور سحيقة، مثل عشيرة في قريتين على مستويين مختلفين على سفح جبل، في يوم معلوم من السنة يلتقون للاقتتال دون أن يعرفوا السبب، بأسلحة حادة، وأحياناً ينتج عن الاقتتال وفيات. وقالت بأنها شهدت هذا الطقس ذات مرة وشعرت بالذعر من العنف الشديد فيه. أثار الأمر استغرابي، وتسائلت كيف تسمح لهم الحكومة بإيذاء بعضهم هكذا؟. قالت بأنه تقليد، وأن الحكومة تتركهم لأنه تقليدهم. قلت بأنها يجب أن تتدخل، الاقتتال دون سبب أمر سخيف، ربما عليهم جعل التقليد رمزياً. استفزتها وجهة نظري، وربما عدتها تدخل في ثقافة بلدها، قالت بأنه تقليد لا يجب المساس به، فمثلاً بعض الناس يضحون بالحيوانات في يوم من السنة، لأن هذا تقليدهم. كانت تقصدنا، وكانت متوترة نوعاً ما، لكني استشعرت ملاحتها في تلك اللحظة. ابتسمت وقلت ولكننا نضحي لسبب نعرفه، وبحيوانات وليس ببعضنا البعض، وهو أمر تقوم به الكثير من الشعوب، حتى الإنكا، لقد كانوا يضحون باللاما لأسباب دينية، والتضحية في كل الأحوال مختلفة عن الاقتتال. صمتت متفكرة، وهدأت أعصابها قليلاً.
فكرت بأنها ربما كانت تتحفظ لكوني مسلماً، وهي نصرانية ملتزمة، وربما كان التعامل معي أمر جديد عليها.
ورغم لطف الهواء، إلا أن شمس الظهيرة المسلطة كانت شديدة القوة. أعتقد أن شمس الجبال مميزة، مختلفة عن شمسنا. إني معتاد على شمسنا، وهي لم تسبب لي الحروق يوماً رغم أنها أشد حرارة من شمس الجبال، لكني أعتقد أن الشمس تسطع بطريقة مختلفة على الجبال، بطريقة أكثر تسلطاً، وكأنما تمر عبر عدسة مكبرة، وكنت لا أشعر بحرارة كاوية كما هي الحال في بيئتنا، لكن في يوم نسيت وضع الواقي من الشمس، الذي يوصيني الجميع بوضعه هناك، فلما عدت إلى الفندق شعرت بحرق مؤلم على عضدي، ولما نظرت وجدته أحمراً وكأنما سكب عليه ماء ساخن، على حدود الفانيلة. أمر غريب، إذ أن حرارة الشمس هناك لا تقارن بحرارتها لدينا، مع ذلك لم يصبني هنا أمر مماثل، رغم أني لم أكن أضع واقي الشمس.
بعض الغرف مبنية على نحو مميز، بتلك الحجارة الهندسية المصقولة والمرصوصة بلا ملاط على نحو لا يزال يشكل لغزاً، حيث أنه من غير المعلوم كيف تمكن أهل ذلك الزمن من القص والتركيب الدقيق للحجارة على هذا النحو المعجز، بحيث لا تنفذ ورقة، والبعض يقول شعرة، بين حجرين، في الأجزاء السليمة، ومعظمها كذلك. لهذه الغرف والحجارة مدلولات دينية، وغالباً ما تتوجه المداخل والنوافذ في إتجاهات مقصودة ورمزية.
يوجد الكثير من المراقبين، حيث أن بعض الأماكن من غير المسموح الدخول إليها، أو بعض الأماكن لا يسمح بالوقوف عليها لهشاشاتها، ويحسب المرء أن الكبار على الأقل سيحترمون هذا، لكن رأيت البعض من السفهاء يتغافلون الحراس ليسيئوا إلى المكان. مثلاً، رأيت رجل فرنسي بدين ومسن، لعله في الستينات من عمره، تغافل الحراس ووقف على عارضة قد لا تتحمل وزنه، ليلتقط صورة من مكان أعلى قليلاً. كان موقف مقرف وغاية بالسفه، ولكن سرعان ما صاح حارس بجنون وهو يأتي في اتجاه الرجل الغبي. لكن للأسف، لا يأخذون هذه الأشكال للمسائلة كما قد يحسب المرء، وكما يجب. رأيت كذلك مجموعة شباب تغافلوا الحراس ليستلقوا على الزرع في منطقة ممنوعة ويلتقطون الصور، مما جعل الحراس يجن جنونهم.
أكملت وفاطمة الجولة، وكانت متمرسة بالأمر، وذكية جداً، ولا يوجد ما لا تعرف له إجابة في ذلك المكان. اختبرت معلوماتي معها كذلك. علقت على اسئلتي وملاحظاتي بأنها مختلفة، لكن يسهل رؤية أن معظم الناس الزائرين لذلك المكان لا يدركون قيمته للأسف، يبدون وكأنهم يزورون ملاهي، فقط القلة هي من يتأمل ويتفكر، وترى الكثير من غريبي الأطوار مشغولين بالتقاط صور لأنفسهم في أوضاع مختلفة. ترتفع الضحكات والنكت، ويشعر المرء بعدم جدية الكثيرين في تناولهم للأثر وتميزه، وكأنه محطة ليزوروها لمجرد قولهم لاحقاً: لقد زرنا المكان، وهاهي الصورة. وبالواقع، الغالبية العظمى من الناس تقضي يوم واحد هناك، وكأنما تمر مرور الكرام، حيث أن الكثير من الخطط السياحية تقترح هذا مبدأياً، ربما لمعرفتهم سلفاً بموقف الناس وما يريدونه، بعضهم يبقى ليومين على الأكثر. أعتقد أن الآثار أماكن للتفكر والتأمل، والاحترام، لأسباب كثيرة.
أطلينا على نافورة مميزة داخل حجيرة لم تكن مسقوفة، وسألت فاطمة إذا ما كان من المسموح أن أشرب؟، فالشرب من هذه النوافير، التي لطالما تأملتها بالصور عبر السنوات، هو أحد أمنياتي. ذهلت فاطمة، وضحكت، قالت بأن المياه التي تنبع من الجبل معدنية ومختلفة عن المعتاد، وهي نظيفة وصالحة للشرب بالطبع، غير أن من لم يتعود على شرب المياه المعدنية بهذه القوة قد يشعر بالتعب في بطنه، قلت بأني لا خلاف لدي على الأمر، فأنا أشرب مياه معباءة من ينابيع. كان الحارس ضخم الجثة يراقبنا بابتسامة، دون أن يفهم شيئاً. بدا أن فاطمة كانت محرجة، وسألته شبه ضاحكة أن يسمح لي بالشرب، فضحك هو كذلك باستغراب، وسألني بنفسه بالإشارة، وأكدت ذلك، فتلفت يمنة ويسرة، وسمح لي بالدخول إلى النافورة الجميلة، حيث أنهم لا يدخلون الناس ربما لضيق المكان، وشربت حتى رويت، وكانت من أفضل المياه التي شربت في حياتي، ذكرتني كثيراً بماء زمزم، إنها أقرب ما شربت إليه. وكنت قد اشتريت قارورة بمصفاة فحمية من الرياض خصيصاً لهذه المياه، فعبأت قارورتي من ذلك الماء البارد وخرجت. وكان الحارس وفاطمة ينظرون تجاهي مبتسمين وأنا أخبر فاطمة بروعة هذه المياه وهي تترجم للحارس، حينما اكتشفنا فجأة وجود فتاة بريطانية خلفنا تنظر بذهول، وسألت: هل الشرب مسموح؟!، بدا الاضطراب على الحارس، فقد يأتي الكثير من الناس هكذا، وشرحت لها فاطمة مسألة معدنية المياه، وأنها قد تشعرها بعدم الارتياح، ترددت الفتاة قليلاً، ثم تخلت عن الفكرة لحسن الحظ ومضت، إذ خشيت أوقع الحارس بإحراج بعدما سمح لي مشكوراً بالدخول.
قالت فاطمة بأن المياه كانت مقدسة لدى الإنكا، وأن مياه هذا النبع على الأغلب كانت تحمل قدسية خاصة، فأخبرتها بأنها بالواقع ذكرتني بمياه مميزة دينياً لدينا، تنبع في مكة.
كانت جولة اليوم الأول مذهلة، شكلت طوافاً على شقي المدينة المتقابلين، بما يحويان من معالم وأمور مثيرة للاهتمام.
بعد الجولة، كان مقرراً لي تناول وجبة الغداء في الفندق عن مدخل المدينة، وكانت التذكرة مع فاطمة، تذكرة البوفيه المفتوح. قدمت تذكرتي ثم أخبرتني بأنها ستنتظرني هنا حتى أفرغ. فوجئت، إذ ظننت أنها ستأكل أيضاً. أعتقد أن على تلك الشركات أن توفر للمرشدين وجبة كذلك إلى جانب السياح، فهم كذلك يتعبون. سألتها لماذا لا تتناول الغداء معي؟ قالت بأنها ستنتظرني حتى أفرغ، وأنه لا بأس بهذا، أصريت، وأخبرتها بأني أدعوها لتناول الغداء، ودفعت للفندق سلفاً لأجلها. شكرتني ودخلنا معاً. يمكن تخيل كيف يجوع المرء بعد جولة في مكان كذلك المكان الساحر والكبير. بدأ تحفظها يزول، وكشفت لي السر، وإن يكن على نحو غير مباشر. قالت بأن رجل عربي جاء من قبل إلى وكالتها، وطلب مرشداً ليرافقه إلى ماتشو بيتشو، فاستدعاها مديرها وقدمها إليه، لكن السائح بدا عليه الغضب، وقال بأنه لا يريد من امرأة أن ترشده، سألته هي ما الفرق؟ فقال بأسلوب قاس بأن مكانها ليس هنا (!!)، إنما مكانها بالبيت (!!!). تقول بأن مديرها ثناها عن النقاش مع السائح، وكان ما قاله بالواقع، ووصفها لنظره تجاهها وازدراءه، أكثر مما وصفتُ هنا. تقول بأنها بكت، وجرحت بسبب أسلوبه ونظراته. وأنه حينما قيل لها أن سائح أصر أن ترافقه مرشدة أنثى، سألت عن جنسيته، فقيل بأنه عربي (أنا)، فاستغربت، وتوجست. كان ذلك الرجل كما فهمت هو أول عربي تراه، وقد خلف لديها بوضوح فكرة سيئة. أستغرب من طريقته بالتحدث إليها وموقفه منها، هل يتخيل بأنها أبنته ليخبرها أين يجب أن تكون؟، وخلافاً لهذا، هل خانه استيعابه للمكان والثقافة والدين المختلف؟. ولماذا الرعونة في التوجه إلى الناس؟، كان يمكنه فقط أن يقول أنه يفضل رجلاً ليرافقه، لأسباب دينيه أو ثقافية أو شخصية أو أي سبب يحبه، فلن يلومه أحد، أما هذه العدوانية والقسوة، فلا نفع منها، إنما ضرر وجرح للناس، وتشويه للصورة العامة.
فاطمة فتاة متدينة بالمقياس، وهي تتمنى الذهاب إلى فلسطين، كانت خجلة بالبداية لتقول السبب، ربما لعلمها بحساسية المسلمين تجاه ذلك البلد، سألتها إذا ما كانت يهودية؟ قالت لا، قلت: إذا لعلك تريدين زيارة موطن النبي عيسى عليه السلام؟، كان تخميني صائباً. أخبرتها بأنها ربما صادقت سياحاً اسرائيليين يوماً ما، وهذا قد يساعدها في زيارة ذلك البلد بضيافتهم.
تكلمنا حول أمور كثيرة، عن السياح الآخرين، والجنسيات التي تفضل، واللغات التي تتحدث، فهي موهوبة جداً، جداً ما شاء الله. أخبرتني عن عائلتها في ليما، وعملها هنا، في هذه القرية السياحية المستحدثة، والتي يبدو أن وجودها لن يدوم طويلاً لخطر الانهيارات الجلبية.
وإلى جانب ظُرف حضور فاطمة كان الطعام رائع جداً، بحيث لم أتخيل بأني سأشبع، ولا أعتقد أني شبعت تماماً لكني خفت من الإفراط بالأكل. السلطات كانت غير عادية، الشوربات، الكينوا، أنواع اللحوم، والحلويات. وكان المكان ممتلئ بالسياح عن آخره كذلك، لكن لم تكن صواني الطعام تترك لتفرغ طويلاً، إذ تستبدل بسرعة.
بعدما فرغنا من الغداء المتأخر، عدنا بالحافلة إلى آقواس كاليينتيس، وأخبرتني أن أتصل بها إذا ما احتجت إلى مساعدة أو أردت التحدث. لم يكن لديها فكرة غير جيدة بالطبع، فهي مرتبطة برجل.
سأضع الآن بعض الصور التي التقطت هناك، وما أجد في نفسي من تعليقات تستحق الكتابة. ويجب أن تغفروا لي تكرار بعض الصور، فهي كثيرة إلى حد ما، ومأخوذة في أيام وأوقات مختلفة. ومن لا يهتم بالصور، فيمكنه الانتقال إلى النص الطويل في نهايتها.
الصورة أعلى لغرفة ذات نهاية نصف دائرية، ويعتقد أنها كانت معبداً. بناؤها على هذا النحو، وبالأسلوب الدقيق في قص الحجارة، أمر عجيب ودال على عبقرية أهل ذلك الزمن.
يُعتقد أن الحجيرة في الصورة أعلاه كانت مكان استحمام الإنكا، وهي ملحقة بالحجرة التي يقال بأنها له.
الجبل ذو القمتين بالخلفية، وخلفية الكثير من صوري، يسمى واينابيتشو، وهو ما قلت سلفاً بأنه يشبه وجه إنسان يتطلع إلى السماء. وفي القمة الأعلى يوجد آثار كذلك، لكني فضلت قضاء كل أيامي بالمدينة نفسها.
الشجرة البادية بالساحة أعلاه ترونها بالكثير من صوري، إذ أنها تسحرني منذ أن رأيت صور ذلك الأثر.
التقطت هذه الصورة من خلف ما قالوا بأنه نموذج للحدائق المصغرة لأهل المدينة، حيث يزرعون فيها النباتات الطبية وما يحتاج إلى عناية لصيقة خلافاً للحقول على المدرجات.
من الأعلى، يقال بأن كاهن كان يقف في مناسبات معينة من السنة ليطل على وفود من امم مختلفة، تأتي بتقدمات للمكان، ولتستمع إلى تنبؤات تخص الطقس والحياة في الفترة القادمة، وكان هذا يعد أمر ضروري للزراعة والحصاد، وبالتالي حياة الناس والاقتصاد. وكان أهل الحضارات القديمة في الامريكيتين على براعة غير عادية في علوم الفلك والحساب، أكثر براعة بكثير في بعض الجوانب من سائر العالم.
هذا الشق من المدينة كان للسكان العاديين، وليس لعلية القوم من نبلاء وكهنة ومهندسين وعلماء، الذين يقيمون بالجهة المقابلة من الساحة.
يقال بأن الغرف ذات المداخل معقدة التصميم كالمدخ أعلاه، هي غرف ذات أهمية خاصة، فربما كان طقوسية أو تعبدية.
لم تكتمل المدينة أبداً... كالكثير من الشاريع العظيمة، قاطع الإنكا غزوا الاسبان الهمج لديارهم. لا يُعرف على وجه الدقة سبب هجر المدينة المفاجئ طوال هذه القرون، لكن لحسن الحظ أنها بقيت في عزلة عن معرفة الاسبان، الذين كانوا يخربون أي مدينة يحلون بها، بعد نهب ثرواتها من ذهب وكنوز، والتنكيل بأهلها، رغم ما وصفوا عن جمال المدن وتخطيطها العجيب.
يقال بأن هيرام بينقهام، الأمريكي الذي "أعاد" اكتشاف المدينة (رغم معرفة السكان الأصليين بها لكن تكتمهم المفهوم عنها)، ونهبها بحجة الدراسة، حينما رأى المنصتين أعلاه، فكر بسطحية بأن الغرض منهما هو طحن الحبوب، وصور فتى صغير يطحن بحجر عليهما. الآن، يعتقد أن الغرض هو الدراسة الفلكية، بوضعهما في مكان استراتيجي، أمام نافذتين مضبوطتين بوضع ومكان معين، حيث تنفذ منهما صورة جزء من السماء لتنعكس على المنصتين ذوات العمق الصغير المملوء بالماء.
عند الاستمرار عبر هذا المنحدر، يصل المرء إلى واجهة المدينة تجاه الشرق، وهي منطقة مليئة بالمدرجات والأطلال، وجزء كبير منها ممنوع عن السياح، ذلك أنه بالعام الفائت توفيت فتاة مراهقة بريطانية وقفت قرب حافة هناك، وقد دفعها تيار هوائي مفاجئ للأسف.
هذا المكان المكان في الصورة أعلاه الذي وصفته بأنه ممنوع على السياح، أقصد نزولاً عبر المدرجات، لوفاة حدثت.
زائر جميل للمدينة، وقف يتابع الناس من مكان بعيد. هذا قواناكو، قريب البعير البري والأكبر. هو مهدد بالانقراض. وكذلك ابنة عمه الأجمل الفيكونيا، ويقال بأنها تزور المكان أحياناً كذلك.
هذا نهر أوروبامبا، حيث الوادي المقدس الطويل، يمر أسفل المدينة.
لا يبخل أحد بالتقاط صورة لغريب، بل يتحمس الناس للمهمة، رغم أني التقطت هذه الصورة لنفسي (شوفوا العضلات...).
مزاج الناس على وجه العموم في هذا المكان يروق ويصفو، ويصل لطف المرء إلى مدى لم يعهده ولو كان لطيفاً بالأصل، إنه سحر المكان، لا بد أن هناك ما يجعل المرء يتغير للأفضل حالماً يخطوا في ذلك المكان المهيب؛ حدث هذا لي على الأقل.
بالصورة أعلاه قمة حجر غريب الشكل، يغطي كهف صغير، وهو يسمى حجر الكوندور، الطائر الضخم، فهو يشبهه، إذ أن الحجر هو بالواقع حجرين الأجنحة. يقال بأن أضاحي اللاما كانت تقدم تحته، فتأتي النسور لتأكلها.
لفهم المستوى الحقيقي لتعقيد عمل الإنكا في العمارة، يمكن مقارنة الشخصين بالأعلى بحجم الحجارة التي تعامل بها القدماء للبناء في بعض الحالات.
فتحات التصريف الصغيرة وغير الملحوظة موجودة في بعض الأماكن، وهي محفورة بالحجر بدقة.
في يسار الصورة أعلاه ترون الجادة التي يأتي عبرها السياح من البوابة إلى المدينة، من بين المدرجات.
بالصورة أعلاه، ترون الغرفة ذات النهاية نصف الدائرية على قمة حجرية، على يمين الصورة.
هذا النهر قرب المدينة في بطن الموادي، في نهار تمشيت فيه قبل الذهاب إلى ماتشو بيتشو بالحافلة.
يسحرني الوجود في مكان كهذه المدينة، بموقعها، بطبقاتها، وإنسانيتها المتماهية مع الطبيعة.
المدخل إلى الغرفة ذات النهاية المستديرة أعلاه.
هذا الحيوان هو الفيسكاشا الذي أخبرت عنه، ببنيته الغريبة. أذنيه أقصر من آذان الأرنب رغم استطالتها، وذيله طويل جداً، وجلده على جانب من الترهل كالثوب الواسع. سبحان الله.
تتلوى النوافير الجميلة، ولا تصب في كل طبقة في نفس الاتجاه، كما ترون بالصورة أعلاه، حيث تصب باتجاه معاكس للنافورة التي قبلها. حينما تصب نافورة فإن المياه تنزل لتصب من النافورة التي تليها، ويمكن متابعة الماء من بعض الشقوق وهو يأخذ طريقه بين النوافير. الهندسة المائية كانت من أهم مميزات الإنكا التي كسبوا بها قلوب الشعوب التي ضموا إلى دولتهم، حيث غالباً ما عملوا مباشرة بعد التغلب على شعب أو دولة على تمديد الماء بطريقة مذهلة وباستعراض لتطويع الطبيعة، وتطييب لخاطر المحكومين الجدد وكسب لإعجابهم.
كانت خطتي هي البقاء لثلاثة أيام في هذه القرية، وزيارة ماتشو بيتشو كل يوم، وقد ساعدتني كارلا بهذا الأمر بتأخير رحلة عودتي إلى القطار العائد إلى كوزكو بالمساء في اليوم الثالث، لأقضي نهاري الأخير في ماتشو بيتشو.
تلك القرية الحديثة تقع في امتداد بطن الوادي المقدس وهي محاطة بجبال الانديز الشاهقة، على نحو يحبس الانفاس، وتنقسم إلى قسمين؛ القسم السياحي المليء بفنادق معظمها بسيط والكثير الكثير من مطاعم، والقسم الثاني هو الذي يقطنه البيروفيين من أهل القرية، وأكثرهم يعمل في القسم الأول، ويفصل بين القسمين نهر اوروبامبا، ويعبره جسرين أو ثلاثة. تمشيت في منطقة السياح، وهي منطقة معقولة، حتى أنها فيها ساحة، وعلى الساحة متحف غير جاهز على ما يبدو، وكنيسة، ودائرة حكومية. بالمساء، يتجمع الناس بالساحة، وهي ذات نافورة يعتليها تمثال جميل لأحد ملوك الإنكا، لكن سيأتي الشرطي ليطلب منك الابتعاد حينما تجلس على عارضة النافورة، ولا أدري ما السبب. يجلس الناس غالباً على الدرج المقابل، وأتت فرقة غنائية وعزفت للناس لبعض الوقت.
في زقاق ضيق يرتفع إلى قمة تل، توجد الكثير من المطاعم متفاوتة المستوى، ويوجد الكثير من محلات البيتزا خضوعاً لذائقة السياح الغربيين ربما، وربما المقتصدين. المرور بهذا الزقاق غير مريح لأن الكثير من أهل المطاعم سيحاولون باستماتة إقناعك بالدخول إلى مطعمهم، واكثر المطاعم لا تثير الحماس ظاهرياً على الأقل. في نهاية الزقاق أعلى التل يوجد مدخل للينابيع الساخنة الطبيعية، وهي مكان للاسترخاء والاستشفاء، لكني لم أرى الكثير من الداخلين والخارجين، كما لم أدخل أنا.
اللافت للانتباه هو وجود الكثير من أطفال أهل الدكاكين والمطاعم يلعبون بممرات الشق السياحي من القرية، وهو أمر في اعتقادي خطير وسيء، فالكثير من السياح يأتون إلى البلدان المماثلة للبيرو للتغرير بالأطفال، وكثيراً ما يقبض عليهم، لكن بعد ماذا؟، وأهلهم إجمالاً ليسوا فقراء، فهم أهل أعمال وتجارة، لكنهم مشغولين بالعمل عنهم.
خرجت من باب الفندق وأنا أحادث شقيقاتي عبر الانترنت، لم أبتعد، إذ أردت أن أريهن المنظر مباشرة خارج الفندق (المكالمة كانت صوت وصورة). كانت تشبه هذه الصور أدناه، وإن أكن التقطت هذه عند محطة الحافلات القريبة:
في نهار اليوم التالي، قضيت وقتي في ماتشو بيتشو، أستكشف المكان، غير مصدق لوجودي فيه. رأيت فاطمة مع مجموعة سياح، وحيتني ببهجة.
وحينما عدت من هناك بعد يوم طويل، اتصلت بفاطمة وسألتها إن كان لديها الوقت لتريني الشق الآخر من القرية، قالت بأنها ستلتقيني في الساعة الفلانية في ساحة القرية، وهي قريبة جداً من فندقي، بينما تعمل فاطمة في مكان ما قرب محطة القطار.
حينما جائت، مضينا إلى الجهة الأخرى من القرية عبر الجسر. المنطقة الاخرى أقل بهرجة، وهي مزدحمة بالرائحين والقادمين من أهل القرية، لكني لم أرى سائحاً هناك؛ قالت فاطمة بأنهم لا يأتون إلى هنا بالعادة لأنهم لا يعلمون عن المكان، أو يهتمون.
كانت هناك أكشاك لبيع الأطعمة الشعبية على جانب طريق طويل بعد الجسر، وبعد بضعة مباني كان هناك ملعب كبير مسيج لأطفال القرية، وقد كان ممتلئً بالأطفال وبعض الأهالي يراقبونهم ويتكلمون. اللافت للانتباه أننا كل بضعة خطوات كنا نتوقف، لأن أحد الأطفال يريد أن يسلم على فاطمة ويقبلها. كانت قد أخبرتني بأنها تتطوع للعمل مع الأطفال، وتوعية أهاليهم، لكني لم أدرك بأنها بهذه الشعبية بينهم. هي تتطوع في أوقات فراغها لتوعية الأطفال خصوصاً حول النظافة والعلوم والحياة، وتحاول مع مجموعة أخرى أن تتواصل مع الأهالي وتوعيهم بأهمية التعليم والتربية اللصيقة لأطفالهم، لأنهم كما تقول في تلك القرية مشغولون بالكسب أكثر من اللزوم. بدأ الأمر حينما كانت تعمل موظفة استقبال في فندق بيئي بعيد عن القرية قليلاً، وكان هذا ضمن سلسلة شهيرة بالبيرو، وأهل هذا الفندق يهتمون بدعم المجتمعات المحلية المحيطة بفنادقهم بطرق مختلفة، ويبذلون جزء من الأرباح في سبيل التنمية. هي لا تعمل مع تلك المؤسسة، لكنها لا زالت تتعاون معهم في برامجهم الخيرية تطوعياً.
المطاعم في تلك الناحية أقل بهرجة بالطبع من المطاعم في ناحية السياح، وهي تهتم بالذوق المحلي كثيراً. سلمنا على أهل مطعم افتتح منذ فترة هناك، تملكه وتديره عائلة انتقلت مؤخراً من منطقة الأدغال بالأمازون، وهم يقدمون أكلات تلك المنطقة، حتى أنهم يوفرون لحم حيوان يعيش هناك، حيوان غريب رأيته كثيراً لاحقاً في رحلتي بالأمازون. فاطمة صديقة لتلك العائلة اللطيفة كذلك.
أرتني مبنى بعيد، ورغم أنه يبدو جيداً وحديثاً إلا أنه غير مأهول، لأن الإشاعات تقول بأنه مسكون، وقد استأجرت فاطمة فيه غرفة حينما جائت للقرية قبل بضع سنوات للعمل، حيث أنه رخيص وجيد، لكنها لم تستمر بسبب الأشياء الغريبة التي تحدث هناك، والأصوات المرعبة، لذا؛ تصدق فاطمة الشائعات، وقد صدقتها كذلك. هي تسكن الآن في جهة أخرى من القرية.
سألتها لماذا لا تقول الكنيسة شيئاً حول إهمال الكثير من الناس هنا لأطفالهم؟ قالت بأن الكنيسة تحدثت بالأمر، لكن الناس غضبوا منها، واعتبروا هذا تدخل وعدم فهم لظروف حياتهم، لذا باتت الكنيسة المحلية تنأى بنفسها حتى لا تفقد تابعيها.
دعوتها للعشاء، فاقترحت مكان يملكه صديق لها، عمل معها في الفندق. كان الرجل ودوداً جداً، وهي يشبه تماماً ابن جيران لنا في بيتنا القديم، حتى بلحيته الغريبة. كان المطعم في ناحية البيروفيين، ولم يكن سياحياً، إذ كنت الأجنبي الوحيد هناك، فكان بالتالي رخيصاً جداً. اقترحت فاطمة نوع من الدجاج والبطاطا يبرع المطعم بإعدادها، لكنها رفضت أن تطلب لنفسها شيئاً إذ لم تكن جائعة، وقالت بأن صحن واحد سيكفينا كلينا. كان الطبق لذيذ جداً، وبشكل عام، أعتقد أن الدجاج على الأقل ألذ هناك منه هنا، هناك طراوة ونكهة جيدة في دجاجهم، ولا يوجد ما نسميه الزفر، أو الرائحة والنكهة غير المريحة كما نجد بالدجاج الذي نشتريه من الشركات المعروفة هنا. وبشكل عام، الطعام هناك بكل أشكاله أفضل مما لدينا، أعني كمواد أولية؛ اللحوم الحمراء، الأرز، الأسماك، ومالا يوجد لدينا كذلك من نكهات وفواكه.
تحدثت عن حياتها هنا، وعائلتها في ليما. كانت تريد الانتقال إلى كوزكو، وربما بعد سنوات إلى ليما، بعدما تتدرج وظيفياً. حكت عن قصص عائلتها، وصديقها الذي تحب ويعيش في كوزكو، الذي أخبرتني بالانترنت بعد أشهر بأنها قطعت علاقتها به. و حكت عن حيواناتها الأليفة، إنهم يشترون الببغاء هناك بما يساوي 80 إلى 100 ريال، بينما يباع لدينا بالآلاف.
كان اليوم التالي هو آخر أيامي، لذا ودعتها وشكرتها على لطفها.
اليوم الأخير في ماتشو بيتشو كان غريباً، كنت أفكر باستمرار أنه آخر يوم أرى به هذا المكان، لكن هل سيكون الأخير حقاً؟، كنت أقول لنفسي بأني سأعود حتماً، يجب أن أعود.
كنت محظوظاً في ذلك اليوم حينما وجدت حيوان بري يعيش تحت صخرة كبيرة بالقمة، اسمه الفسكاتشا، وهو من الحيوانات الأصلية للمنطقة، ولا يوجد في مكان آخر بالعالم، أعني خارج جبال الانديز. شكله غريب جداً، لكن يمكن تشبيهه بأرنب يملك ذيل سنجاب، أذنيه قريبتان من شكل أذني الأرنب لكنهما أقصر، ورأسه يبدو أكبر، وجلده على جانب من التهدل. هو سريع إلى حد ما، وحضوره غريب، شعرت وكأن هذه البهية تعرف أكثر من البهائم الأخرى، حيث تنظر بتأمل وكأنها تفكر، ولعينيها عمق.
للأسف، أفسد علي فرنسي ورفيقته، حينما رأوني منحنياً تجاه الفجوة بين الصخور وألتقط الصور، بينما الحيوان لم يمانع وجودي ولم يهرب، لكن حينما جاء هؤلاء ورأوه ورآهم، هرب. قال الفرنسي لرفيقته بلا مبالاة بأنه تشنتشيلا، وهو حيوان مشابه له، لكنه أصغر، ومضيا بعدما أفسدا علي جلسة التصوير والتأمل تلك.
يصطاد بعض المحليين الحيوانين ويأكلانهما، ولا أرى فرق بين أكلهما وأكل الأرنب، لكنهما لا ينتميان إلى نفس العائلة، أو أي عائلة من حيوانات الجزء الآخر من العالم.
وبذكر الأرنب، إن رؤيته مذبوحاً أو مطبوخاً تجلب لي الغثيان، الله يديم النعمة. أشعر بأنه يشبه القط هكذا. شعرت بإحراج شديد في بيت خال لي بالقصيم حينما قدموه لي، وبدا علي الاشمئزاز دون قصد، كانت غفلة وحماقة.
عدت في ذلك اليوم أبكر قليلاً، أردت أن أجهز نفسي لرحلة العودة، وأن أتناول بعض الطعام إذ أني لم أفطر، وكان العصر قد حل. كانت مفارقة تلك المدينة صعبة، لقد تركت في نفسي أثر بالغ، لن يمحوه شيء.
بالقرية، ذهبت إلى زقاق المطاعم، واخترت فندقاً جميلاً لتناول الغداء، وكان بوفيه معقول السعر، وبمأكولات لذيذة ومتنوعة. سألني أحد العاملين بمطعم الفندق من أين أنا؟. قلت له بأني عربي، بالطريقة التي توحي من أين بالضبط (اريبيا، أو اربيا بالنسبة للناطقين بالاسبانية). تحمس الرجل كثيراً، وصار يسألني ويتلطف، ويسأل عن اسم الخضار والأطعمة الموجودة بالبوفية باللغة العربية.
كانت الخدمة رائعة، ورغم معقولية السعر إلا أن المكان لم يكن مزحوماً، ربما لأن المطعم ليس له واجهة على الممر، إنما تدخل عبر الاستقبال، وأمام حديقة داخلية صغيرة يوجد المطعم الجميل.
وصلني اتصال من موظفة بالشركة السياحية، وكنت قد رأيتها سابقاً عن القطار. سألت عن حالي، ومكاني، وقالت بأنها ستحضر بعد قليل لتعطيني تذكرة العودة، أو تتركها لي بالفندق، وشددت على ذهابي باكراً إلى المحطة، حتى لا تفوتني الرحلة. كانت العودة من ماتشو بيتشو باكراً خيار صائب. عدت للفندق، وجائت الموظفة الطيبة، وتأكدت من معرفتي للطريق إلى المحطة، حيث يمر بسوق شعبي من خلف النهر.
تمثال يصور أحد ملوك الإنكا في ساحة اقواس كاليينتيس.
حينما مضيت للمحطة، واجهت مشكلة بالسوق، لم أعرف من أين أذهب، ولكني لم أحتج للسؤال، لاحظتني امرأة تبيع في محل صغير، وتلاعب طفلتها، فنادتني لتريني الطريق، يا لهم من قوم لطفاء، خصوصاً السكان الأصليون، وأكثر الموجودين في تلك القرية منهم.
اتصلت موظفة الشركة لتطمئن لمعرفتي للطريق، فطمئنتها. لكني شعرت بأني مبكر جداً، رغم ازدحام المحطة المنتظرين لنفس قطاري، وكانت المشكلة هي أنه لا يباع بالمحطة غير ماء سان لويس، وهو من كوكاكولا مثل أروى لدينا، إلا أنه نوع سيء في رأيي ولم يعجبني، كنت قد أدمنت على مياه سان ماتيو، لذا كان علي الخروج، وعبور جسر فوق النهر إلى الشق السياحي، والبحث عمن يبيع سان ماتيو أو حتى أي مياه غير سان لويس من الأنواع الجيدة، فكلها تقريباً جيدة هناك، والعودة بسرعة إلى المحطة، بعدما بدأت أشعر بالذعر من فوات الرحلة.
كانت رحلة العودة غير مثيرة للاهتمام كثيراً، حيث كان الظلام قد بدأ يرخي سدوله، ولم يكن هناك ما يمكن رؤيته بوضوح. لكن الطعام كان لذيذاً جداً، وعرضت الشركة المسيرة للقطار ملابس تقليدية للبيع، وقدمن المضيفات ببهجة عرض أزياء للقطع الصوفية المعروضة، مع موسيقى، وسط تصفيق الناس.
لكن غداً، كوزكو، لا عزاء أفضل على فراق ماتشو بيتشو من كوزكو.
وعموماً، لا أتخيل بأن ماتشو بيتشو، من خلال الصور التي وضعت على الأقل، سيعجب الجميع، أو سيرى فيه الكل ما أرى بعيناي وقلبي. لكن، كنت قد رأيت بأنه أجمل مكان قبل أن أزوره، كنت قد قررت من الصور، وعليه، لا أتخيل بأن الأمر قد يختلف كثيراً لمن يزوره دون أن يعجبه من الصور مسبقاً. لو لم يعجبني ويمس روحي، لاعتبرت قلبي قاسياً على نحو لا يحتمل، لكني أفهم بأن مقاييس الناس للجمال والإبداع تختلف، ولعل البعض يفضل أشكال أخرى من الإبداع، أو قد زار أماكن يراها أفضل.
كان صباح اليوم التالي جميلاً، في عاصمة امبراطورية الإنكا، التي امتدت من كولومبيا والاكوادور شمالاً حتى شمال الارجنتين جنوباً، عبر بيرو وتشيلي وبوليفيا.
استيقظت مبكراً، تناولت القليل من الطعام، ثم انتظرت الحافلة التي ستأخذني وتجمع السياح لبدء جولتي على المدينة.
لكن، ليكن هذا الحديث في تدوينتي القادمة إن شاء الله.
إذًا، رحل الدكتور الألماني، و، وماذا بعد؟. يا لخلو أيامي، المليئة بغثاء البحر...
أتذكر تحدثه ذات مرة عن مشاريعه المهمة، بحماس، حينما تذكرت فجئة أني حلمت حلماً. أخبرته؛ وجدته في مكان ما، وقد بدا عليه القلق، كانت ساعة جميلة وعتيقة يحملها في يده قد تفككت، وتوزعت قطعها الذهبية على الأرض، وهو لا يستطيع أن يراها. ورغم أن المكان بالحلم كان يشبه مكان عملي على نحو ما، إلا أني كنت هناك كما أرى نفسي دائماً، بدون تظاهر، لا شيء على رأسي، أسير بثوبي وأحمل حقيبتي على ظهري. جلست إلى الأرض، وجمعت القطع الذهبيةالصغيرة له، وسط فرحته بكل قطعة، حتى اكتملت. قال بأنه سيأخذ الساعة إلى ألمانيا، ليصلحها هناك. ابتسمت برضا عن مجهودي، وافترقنا، لينتهي الحلم.
قال بحماس حينما فرغت من قص الحلم، بأنه حلم جميل، وربما كان يحكي عن أوقات ذهبية تنتظره. علقت: أنا من سيجمعها لك، فضحك.
لكن الآن، أعتقد بأن القطع الذهبية للساعة إنما كانت وقتي الذهبي معه، تلك اللحظات التي جمعت بها التروس الصغيرة كانت هي كل وقتي الذهبي معه، قبل أن يأخذه ويرحل.
إنها أجمل صداقة، وأصدق صداقة. التغير بعد شيء كهذا أمر صعب؛ عودتي إلى ما كنت عليه قبل صداقته.
هاقد جمعت أسعد أوقاتي...
ووضعتها بيديك كعيدية...
فرحلتَ بها...
وزعها كالورد على الأطفال...
والعجائز الطيبات...
والصبيان المأزومين...
ورود كالتروس الذهبية...
تدور وتسحر عيون الناظرين...
لكل شخص يستحق دقيقة...
هدية الرجل العربي القديم...
ولعلك يوماً ما تستيقظ من نوم طويل...
فتبحث عن ترسي الأخير...
فلا تجد شيئاً...
فتتسائل وقت من الذي ضاع؟...
فتتفحص ساعتك...
فتتسائل تروس من كانت؟...
فتترقب محتاراً من النافذة...
فلا تسعفك الذاكرة...
كان حلم غامض...
ساعة تتداعى...
وتروس ذهبية تنتشر...
ثم تجتمع على نحو غامض في يديك...
تلك كانت أسعد أوقاتي...
قبل فترة، وصلتني رسالة دعوة إلى زواج زميل قديم من الجامعة. تواصلنا لفترة جيدة بعد الجامعة، لكن سوء الحظ كان دائماً ملازم لعلاقتنا ببعضنا.
لفترة من الفترات، كان هو الأكثر وصلاً، وكان أمر أقدره كثيراً. ثم، صرت أنا الأكثر وصلاً، لكن لم يبدو هذا محل تقدير، إذ يبدو أنه أراد الابتعاد لسبب أجهله، ولا يمكنني القول بأنه تغير، ربما فقط لم يعد يريد التواصل معي. كانت أول مرة تجاوب معي على نحو غريب حينما اتصلت به ذات مرة، وكان يتكلم بأسلوب غير معتاد أبداً منه، وبدا وكأنه يودعني بأسف، هكذا شعرت، وبالواقع، كان هناك بعض القسوة في أسلوبه، مقابل اسلوبي الفرح بالتكلم معه بعد فترة انقطاع. تسببت لي تلك المكالمة وأسلوبه الصادم بحيرة عميقة لفترة طويلة، لم أفهم سبب طريقته بالكلام. اتصلت به مرة أخرى فقط لأرى إن كان سيتكلم بنفس الأسلوب، وإن كان هناك أمر بالنفس يحتاج إلى إصلاح أو تصحيح. لكن لا شيء، يبدو أنها كانت مسألة مزاج فقط. مع ذلك، كان ذلك الموقف الأول سبب بإعادة النظر بالأمر، إني أتواصل وقد لا يجيب على كل اتصالاتي، وحينما يجيب يبدو أني ثقيل على قلبه، حتى بالاتصال الأخير حيث تحسن مزاجه، فما حاجتي إذاً؟. كفيّت عن الاتصال منذ لك الحين، ولم يسأل هو.
لكني فوجئت بالدعوة إلى زواجه، وبالواقع، تفاجئني كثيراً هذه المواقف، حينما ينقطع الاتصال لفترة طويلة مثلاً، وتصبح بلا معنى، أو حينما يرفضك أحد ما ويتفاداك، ثم تفاجأ بدعوة أو شيء من هذا القبيل.
تسائلت، هل تخيل بأني قد أظهر فجأة بعدما استلمت رسالة قصيرة بالدعوة؟. أم أنها مجاملة فقط؟، لكن، لماذا قد يجامل المرء أحد لا يراه أو يتواصل معه، فلن أشعر بالأسى لو علمت صدفة في وقت لاحق بأنه تزوج ولم يدعني.
إني لا أتمنى له إلا التوفيق في كل الأحوال.
بالمقابل، أستغرب ممن تغضبهم عدم دعوتهم إلى مناسبة إلى درجة كبيرة. فلست صدقاً أكترث لمن لا يكترث لي. قد أحزن إذا لم تدعني أختي مثلاً إلى مناسبة في منزلها، لكن أن لا تدعوني أمر أستبعده، لهذا قد أحزن. لكن خلافاً لأخواتي، لا أظن أني قد أغضب إذا لم أدع إلى مناسبة أحد الأقارب، ولن أشعر بالإهانة، لأني صدقاً لا أهتم بعدم تذكرهم لي أو عدم رغبتهم بحضوري، إني أقدر الدعوة حينما تأتي، وأقدر تفكير صاحبها بي، لكن إذا لم تأتي، لماذا أهتم؟. يتصور البعض بأنهم بعدم توجيههم الدعوة أنهم يوجهون إهانة بدلاً عنها، لكن، هذا ما تزينه لهم عقولهم الصغيرة فقط.
مر وقت طويل على حادثة وحيدة اتخذت حيال عدم دعوتي موقفاً فيها، وذلك حينما فتحت الباب لأحد الأقارب، وطلب مني أن أنقل دعوته إلى زواج أخته إلى اخويّ القيمين بالمنزل بالإسم، دون أن يدعوني رغم أني من فتح الباب. ليس بوسعي الآن أن أقول إلا أن ذلك كان سوء تدبير منه، لكني لم أتخيل سوء نية حتى في ذلك الحين، مع ذلك لم أتقبل أن يتم إغفالي مع ذكر شقيقين بنفس حالتي الاجتماعية فقط، فلو كانت الدعوة موجهة لنا جميعًا بدون تسمية، أو وجهت إلى والدي، لكان الأمر مقبولاً بالنسبة لي.
نويت عدم الحضور، مما دعى والدتي إلى إيصال الأمر إلى والد ذلك الرجل، فدعاني. مع ذلك، لم أشأ الذهاب، بتلك الطريقة التي مر بها الأمر لم أشعر بالرغبة بالحضور، ولم أكن راغب بتلقي دعوة مستجداة.
مع ذلك، لم أسلم من لسان أحد أبنائهم، فقد شعر بالإهانة لعدم استجابتي لدعوة والده، ورغم أننا كنا أصدقاء طفولة، إلا أن هذا لم يردعه عن توجيه أسوأ الكلمات الجارحة والمسيئة في مناسبة التقينا بها بمنزل قريب آخر، رغم أني حاولت أن أفهمه بأن عدم حضوري لا يعني عدم التوفيق. لكن، كانت رغبة بالتجريح وجدت متنفساً بالتأكيد، حيث لم يوقفه شيء، ولم يخفف من تصعيده عدم الرد بالمثل. لم أجبه بمثل ما قال، فقط غيرت مكاني، وعزمت على عدم دخول منزلهم منذ ذلك الحين، ربما منذ عشر سنوات. إلا أني تركت استثناء واحد، حينما حل زواجه هو، إذ لم أشأ أن لا أقدر صداقة قديمة، بعد تفكير ورؤية منام بالأمر على ما بدا ذلك الحين ونصيحة شقيقتي، فذهبت إلى منزلهم لحضور زواجه، وقال، وأنا لا أصدقه حتى الآن، بأن حضوري يعني له الكثير.
في واقع الأمر، لم يكن الأمر صعباً، كنت قد كبرت، بينما لا أجد تقديراً في قلبي سوا لوالدة هؤلاء الأقارب، فلا يكون من الحضور إليهم فائدة على أي حال دون وصل من يحب المرء. لم يخلف قربي منهم ذكريات جيدة، لطالما كرهت نظرتهم الفوقية تجاه الآخرين، وحسن ظنهم الزائد بأنفسهم. لا زلت أتذكر حينما رن جرس الباب وقد كنت صغيراً، ففتحته لأجد أحد أبنائهم، وقد كان رجلاً في ذلك الحين، ينظر باشمئزاز عجيب، وبلا حتى قول السلام عليكم رفع صوته بقرف: قل لاخوانك يصلون!!، كان الوقت لتوه حل.
ولا أقول بأن أحداً منهم لم يحاول التلطف تجاهي، إنه نفس ذلك الرجل الذي دعا أخويّ ونسيني. لكن، بعد مرور هذه السنوات التي مرت وكأنما شيء لم يكن، لا يدري المرء ما الجدوى.
إني أعرف حق المعرفة أن ما يتخذه المرء من مواقف أمر قد لا يغير أي شيء، فحياة الناس لا تتمحور حوله. لكن، ما يهمني هو تقديري لنفسي قبل تقدير الآخرين لي. لا نملك تجاه الآخرين سوا حسن اللقاء والوداع وصفاء النية، ولا حيلة لنا تجاه نواياهم ورؤيتهم لنا، أو تفاهة ما نقوم به أو نتخذ من مواقف في نظرهم مهما كان وكانت، إلا أن هذا غير مهم، فما يهم هو أن يقدر المرء نفسه، ويعطيها ما تستحق من احترام وكرامة بغض النظر عن ما يعتقده الناس، حتى لو كان لا يمثل شيئاً لدى الآخرين، فليس رأي الكل مهم.
أعتقد أن هذه الرؤية أفادتني كثيراً على مستوى راحة البال. وربما بدأ البعض يفهمني على هذا النحو، فلا يعطي نفسه قيمة ليست له، ولا يتوقع مني أكثر من الممكن والمعقول.
حدث أمر أفرحني قبل فترة. كان وقت العمل قد انتهى، فخرجت مشياً باتجاه المستشفى الجامعي، القريب من عملي، لأرتب بعض المواعيد وأجلب بعض الأدوية. بعض الطريق يمر إلى جوار الشارع الذي تسير به السيارات الخارجة من مواقف العمل. ورغم رؤية الكثيرين لي عبر الزمن أسير، أقصد الكثيرين ممن أعرف، إلا أن أحداً لم يجاملني لمرة ويعرض توصيلي إلى حيث أقصد ماشياً، سوا قبل فترة، حينما هدأ زميل شاب من سرعته، وسلم باسماً، عارضاً إيصالي في طريقه أو تقريبي. تواصلنا محدود جداً، وبالواقع، صار تواصلي بالكل محدود بالعمل، باستثناء شخص او اثنين حينما يسمح لي الوقت. شكرته ورفضت، لكني كنت في داخلي سعيد جداً بالموقف الطيب. إنه موقف صغير، لكن ليس بنظر شخص يمر دائماً بنفس الطريق، ويُرى من قبل الكثير ممن يعرفونه. الحياة قاسية، ومليئة بالأنانية عادةً.
كنت قد وقعت في ورطة بعد تدوينتي الأخيرة، حينما ألغت قوقل برنامج تعديل الصور الذي أستخدم (منذ قبل شرائها له بكثير)، واستبدلته بآخر خاص بالجوالات اشترته مؤخراً، وهو لا يصلح لصور مدونتي، ولا يعطيني الميزات التي أحتاج.
البرنامج الذي كنت استخدم قديماً اسمه بكنك، وقد دمجته قوقل في بيكاسا، وقللت من مميزاته مع الوقت، إلا أنه ظل وافياً بالغرض رغم امتعاضي.
لكن كما قلت، استبدلته قوقل، ووقعت في معضلة. الصور التي أنشر عن البيرو كبيرة أصلاً، وأفضل تصغير حجمها حتى لا تعيق تحميل الصفحة، والقيام ببعض التصحيحات الطفيفة، وإضافة العلامة المألوفة لي.
اكتشفت بأن بكنك لا زال حياً على نحو غريب، بنفس الشكل وطريقة الاستخدام وحتى الألوان، لكن باسم آخر، وقد تطور مع مرور الزمن كثيراً كذلك. كدت أن أقفز فرحاً حينما اكتشفته، بمساعدة موقع يعمل كدليل للمواقع العاملة بتقنية web2، استخدمه منذ سنوات لإيجاد احتياجاتي.
وبنفس الوقت كان الموقع يقدم عرضاً محدوداً لتلك الفترة، اشتراك مجاني للمسجلين لاستخدام كافة مميزات الموقع، التي تحتاج بالعادة إلى دفع مبلغ. لا أدري إن كان لا يزال العرض سارياً.
لقد صرت أحبط كثيراً من قوقل مؤخراً، ولحسن الحظ تواجد من يملك الحكمة والذكاء لعدم تركها تتحكم بكامل مصير ذلك الموقع الرائع.
ribbet
أنصح به بشدة، فهو بديهي الاستخدام ولا يحتاج إلى خبرة، مع إتاحة مميزات يتخيل المرء بأنها صعابة وتحتاج إلى معرفة بالفوتوشوب، كتمويه أجزاء من الصور، أو تصغير حجمها، وإضافة مؤثرات أخرى كثيرة جداً.
ذهبت إلى آراميكس قبل أيام لاستلام طرد، وبعدما اخذت رقم الانتظار رنت شاشة بدوري فوق أحد المكاتب. هناك، قال لي الموظف بأن أذهب إلى المكتب الآخر، وأخبره بأن رقمي وصل هناك. لدى الموظف الآخر، وهو سعودي شاب أراه هناك دائماً، تواجد شخص ينهي اجراء استلامه لطرد. طال الأمر، حتى حينما ذهبت وقفت أمامه وشرحت له الأمر. قال ببساطة: خذ رقم ثاني. عدت إلى الموظف الأول، وتدخل الموظف الجالس إلى جانبه، وطلب طردي من المستودع، وأخبرني أن أنتظر نداء اسمي. ناداني نفس الشاب السعودي، وأخبرته بأني كان معي رقم منذ البداية، وكنت قد انتظرت بالفعل، فما كان عليه أن يعيدني لآخذ رقم آخر. قال: وش يدريني أنا؟ هذا طردك مع السلامة!. ماذا بوسع المرء أن يقول أمام هذه الأشكال؟ إنها سبب سمعتنا السيئة للأسف في القطاع الخاص. سألت موظف آخر عن مدير، فلم أرد افتعال مشكلة وجذب الانتباه على نحو مسرحي أراه كثيراً، وقيل لي أن أدخل إلى خدمة العملاء، وكنت بالفعل في فرعهم الرئيسي في طريق الملك عبدالعزيز شمالاً. في خدمة العملاء، قال الموظف أنه يفضل أن أتقدم بشكوى عبر موقعهم، لتكون موثقة، لأنه لو سجل لي شكوى ورقية فقد تضيع أو تتعرض للإهمال. بالواقع، لم آتي للسير بالموضوع إلى هذا الحد، كل ما أردته هو لفت الانتباه إلى ذلك الموظف السفيه. حاولت إيضاح الأمر، أن هذا ما يتوقعه المرء من خدمة عملاء. لا فائدة.
سجلت شكوى على موقعهم، قصصت الأمر، وصفت الموظف النحيف ذو النظارة إذ أني لا أعرف اسمه فبطاقته مخفية في جيبه، ولم يبدو أن موظف خدمة العملاء راغب بنطق اسمه.
وصلني الاتصال الذي لا أنتظره صدقاً. لأني أعرف أنه لمجرد أداء العمل، لكنه لن يغير شيء من أسلوب ذلك الموظف، لن يلفت انتباهه، وسيستمر على وقاحته. خدمة العملاء لدينا عادة تقتصر على خداعهم.
أراد الموظف أن يسمع القصة، لكن لم يكن لدي استعداد للإعادة، قلت فقط بأني أوضحت كل شيء بالرسالة، وأن موقف موظفهم خاطئ. إنهم يتخيلون أن العميل يريد تنفيساً بالضرورة، ويصدق توقعهم على ما أعتقد في معظم الأحوال، لأن الكثير من الناس يريدون أحد ليزاعقوا في أذنه، ويتخيلون أنهم لقنوا الشركة أو الجهة كلها درساً.
ربما الجهة الوحيدة التي أعتقد أنها تناولت شكواي بجدية كانت مكتبة جرير، حينما اشتريت هدية جوال لأحدهم، وإذا بالشاشة لا تعمل كما يجب. ولما أردت إستبدال الجهاز حاول موظف هندي خداعي، وتواقح علي كثيراً وعلى نحو مذهل، فلم أره بالمكان بعدها. كنت قد أخبرت مدير المعرض، الذي جعلني أسجل ما أقول على ورقة، وتلقيت اتصال بعد فترة، وكنت أظنه اتصال بلا فائدة صدقاً، لكنهم خيبوا ظني، لحسن الحظ.
وضع الصيدلية في مستشفى الملك خالد (الجامعي) أصبح غير معقول. إني آتي قبل الساعة الثامنة صباحاً، ولا أغادر قبل الثانية، وقد تغيبت عن العمل لبضعة أيام مؤخراً لهذا السبب. لم تكن الزيارة للصيدلية سهلة وسريعة من قبل، لكنها لم تكن بهذا السوء أبداً. لا أدري ما العلة بالضبط، ولا لماذا قاموا بتغييرات غريبة. حينما كنت طالباً بالجامعة، كنت آتي لآخذ مكاناً بالصف، وانتظر لأسلم الصيدلي وصفة، ثم أنتظر نداء اسم والدتي حتى استلم الدواء، وكثيراً ما كنت أعطيهم الوصفة وأذهب إلى محاضراتي، وحينما أفرغ أعود إليهم لأستلم الدواء المجهز، رغم غيضهم من هذه الطريقة التي لم يكن بيدي سواها. بعد ذلك، صار الناس بالمقر الجديد غير مضطرين للوقوف، إنما يأخذون رقماً من مكينة، باختيار ما يلائم وصفاتهم، أو وضعهم، إذا كان لديهم أقل من ثلاث وصفات أو أكثر، أو كانوا من منسوبي الجامعة، وكان الخيار الأخير غالباً ما يوفر علي الكثير من الوقت، ويشعرني بفائدة واحدة على الأقل من عملي بالجامعة.لكن منذ فترة، صار على المرء أن يقف في صف، فإذا جاء دوره أظهر وصفاته للصيدلي، ليعطيه الصيدلي رقماً لينتظر مرة أخرى. ربما كان هذا لأخذ الناس لأكثر من رقم أو لأرقام خاطئة. ثم بعد فترة ألغو الأرقام الخاصة بمنسوبي الجامعة. ورغم هذه التغييرات، إلا أن الأمر يزداد سوء في كل مرة. حينما آتي في الصباح، لن أحصل على رقم، إنما علي أن أسجل اسمي على قائمة، وعلى الموجودين أن ينبهوك لوجود هذه القائمة، فالناس الذين وجدت هناك لؤماء، مجموعة من كبار السن، لم يخبروني عنها في أول مرة. يأتي لاحقاً حارس لينادي على الأسماء بالدور، ليأخذ الناس مكاناً بالصف، وحينما يحين دور المرء يعطيه الصيدلي رقماً!. لست أدري بماذا تفيد هذه المسرحية الطويلة. في مدينة الملك فهد، تعطيهم رقم الملف فيعطونك الدواء حسبما أتذكر.
والعاملين بالصيدلية قلة، ولا تفتح كل النوافذ لاستقبال الناس. وفي مرات، يخرج صف الانتظار للحصول على رقم انتظار فقط إلى خارج الصيدلية من فرط الازدحام. هل ازداد عدد المراجعين؟ ربما. هذا جنون، وقد صرت أعرف بأني سأتغيب عن العمل حينما تتواجد وصفة للصرف (لا أصرف فقط لوالدتي، إنما لآخرين كذلك).
لا أعتقد أن هناك من سيتصدى لحل. الصيادلة أساساً يبدو وكأنهم يعملون بدافع انتقامي، ولا أدري كيف يكون هذا، لكن هذا ما يخيل لي من موقفهم من الناس دائماً، وصاروا كذلك مؤخراً لا يمنحون أرقاماً بعد الساعة الواحدة والنصف، رغم انتهاء عملهم في الساعة الرابعة والنصف. إنه أمر محير فعلاً، لكن حال المستشفى كله محير، فهو فاشل ومليء بالأغبياء.
لكن ما أشعرني بالاسف هو نظرة بعض الناس إلى من يخدمهم، حينما لا يكونون راضون عما يقوم به. جاء رجل وافتعل فضيحة بصياحه بالصيدلية وهو يوبخ صيدلي سعودي، بسبب طول صف الانتظار، وكيف أن مرض الناس يزداد هنا. وظل يوبخ ويوبخ ويصيح ويقل أدبه، بينما كان الصيدلي يحاول أن يقول شيئا، ويسأله أن يعطيه فرصة للتحدث ليشرح الحال، لكن كلما حاول الصيدلي كلما انتهز الرجل الفرصة ليهينه أكثر، حتى كف الصيدلي عن المحاولة، دون أن ندري ما العلة. ذلك الرجل كان نموذج لحال شائع بين الناس، الاتجاه لإهانة من يعمل مباشرة، يتخيلون بأن هذا من حقهم كمراجعين، وهي صورة مشوهة مما يسمعونه عن حقوق الناس بالغرب وكيف يتعاملون مع المنشئات. الغريب أن الكثيرين شجعوه، وهم يقولون: كثر الله من أمثالك، ولم يتسائل أحد ماذا أراد الصيدلي أن يقول. وتصرف الرجل وكأنه انتصر، رغم أن صف الانتظار لم يقصر، بل تعطل بسبب متابعة صيدلي الأرقام للمسرحية.
لو كان أحد من الصيادلة قد وجه إهانة إليه لتفهمت الأمر، فهذا قابل للحدوث فعلاً ورأيته كثيراً، لكن لم يقل له أحد أي شيء، ولم يرد الصيدلي بالمثل.
انا أكره هذه الصيدلية لكن لا بد عنها، وبت أكره المستشفى لكن لا بد عنه طالما والدتي تريده، لكن حتى مع ذلك ورغم اضطراري للغياب عن العمل لا أتخيل بأني سأفتعل مثل هذا الموقف.
لا أدري كيف يجمع هذا المستشفى أسوأ الكفاءات، إنه حقاً لأمر لافت للنظر ويحمل سراً، إذ لا بد أن يكون هذا متعمداً ليكون بهذا التنظيم والإخلاص للرداءة. فحينما يأتي طبيب جيد سرعان ما يختفي، وقد كان هناك صيدلي واحد رؤيته تشفي العلة، لحسن أخلاقه ورقة طبعه، كان شاب سوري غاية بالتهذيب واللطف والعملية، رغم أنه بالحقيقة لا يستحق كل المراجعين هذا. أتذكر رجل مسن أساء الفهم حول كمية الدواء، وغضب، وحاول الصيدلي السوري شرح الامر له وتطييب خاطره وهو يناديه : يا عمو. لكن بلا جدوى.
لم يطل المقام بذلك الرجل بالطبع، اختفى فجأة؛ فمن يطيق العمل هناك ومع اؤلائك الناس. فلا زال يوجد صيدلي أردني لم أرى أجلف من طبعه ولا أوقح منه وأنذل، لا بارك الله فيه. حينما يحين يفرغ من خدمة الشخص الذي قبلك في نافذته، ويرى أنك تنتظر، سيغلق النافذة بنظرة حاقدة ويسألك لماذا تنتظر!!. قاتله الله. وهو سوقي كذلك، ولم يكن يهمه ذات مرة لو سمع المراجعين نكته المبتذلة.
أما آخر، سعودي، مسن لا أستبعد بأنه بدأ تعلم المهنة على يدي ابن سينا، ولم ينل شهادته إلا مؤخراً، فهو سقيم الحضور، بطيء البديهة، إذا ما حسب أنه أحسن صنعاً ذلك بمعروفه، وإذا عجز عن أداء عمله ألقى باللوم عليك وأنت الجالس الصامت، من خلف حاجز زجاجي، هذا من الأشخاص الذين يتغلبون على أشد الأعصاب تماسكاً، وقد تسبب على نفسه أكثر من مرة بالتوبيخ والإهانة لرداءة أسلوبه وذوقه. وله زميل سعودي آخر، لضخامته تحمد الله أن ورقة الرقم تدس إليه دساً، حتى لا يحسب يدك شيء يؤكل، فهو من أشرس من رأيت طبعاً، وأحدهم مزاجاً. وقد أساء وأهان رجل ذات مرة بأقسى وأسوأ ما سمعت من إهانات، إلى درجة أني كتبت إلى مدير الجامعة السابق سيء الذكر (ومن منهم يطيب ذكره..) لكن بالطبع، لم يحدث شيء.
كنت قد بدأت دورة باللغة الاسبانية، وقد دفعت قيمة نصفها، حيث توقعت أن حدث معين سيمنعني من إكمالها، لكن ما حدث هو أني لم أكملها لأني لم أشعر بأني سأستفيد. المعلمة ليست جيدة فقط، إنما ممتازة وبارعة جداً في إيصال المعلومة والحس اللغوي. لكن إلى جانب اكتشافي أن حصتين في الاسبوع لا تكفيان، وجدت أني خلالهما لا أتمكن من الاستفادة بسبب زميل كبير بالسن له طبع مؤسف. هو طبيب مصري، ويبدو أنه متواضع الاطلاع كثيراً. يتصرف وكأنه الطالب الوحيد بالدورة، لا يترك المعلمة تقرأ دون أن يقرأ معها بصوت أعلى، ولا يتركها تمضي بالدرس دون مقاطعات سخيفة على أدق التفاصيل، ورغم عدم معرفته باللغة الاسبانية بتاتاً إلا أنه بسوء فهمه يحاول أن يحرجها على نحو غير مفهوم وبإصرار. لا يمكنك أن تمضي بمتابعة الدرس دون الخروج يمينا ويساراً عنه. ومحاولاته لإيجاد التشابهات مع اللغة العربية، وربما تعليم المعلمة، تتلف أعصابي على نحو يجعلني أعتقد بأنها آخر محاضرة لي معهم.
ورغم تجربتي السابقة بدخول دورة عن ريادة الأعمال لمدة شهر، إلا أني أشعر بأني لتوي أكتشف بوضوح أن نوعية الطلاب جزء جوهري جداً من المحصلة النهائية للتعليم. إذ أنه كان هناك مجموعة سخيفة وصبيانية من الطلاب في تلك الدورة القديمة، وقد كتبت في استبيان الآراء انتقد بلا مواربة كيفية اختيار المتدربين، إلا أنه تواجد عينات في تلك الدورة أكثر جدية حتى من زملائي في دورة اللغة الاسبانية، ممن كانوا أفضل سلوكا من الطبيب المسكين والمتعب.
وجدت أني أصل بإحباط إلى دورة اللغة هذه، إلى حد يدفع المعلمة إلى القلق وتكرار السؤال، فسلوك هذا الطبيب أتلف أعصابي فعلاً (يقول مثلاً، بأنه أخيراً اكتشف سبب قولهم في مصر : يا أستاز، فقد أخذوها عن اسبانيا لقول الناس هناك: اوستيد كإسم اشارة يعني أنت، ولا يدري المرء ما دخل اسبانيا بمصر، ولماذا تغيرت لغة المصريين دوناً عن باقي العرب على هذا النحو). ورغم إشكالي مع الصبيان المشاكسين في دورة ريادة الأعمال في ذلك الشهر، إلا أني لم أحبط عن الحضور والرغبة بالاستفادة، ربما لكوني مع فريق رائع من المتدربين الآخرين، ولرقي المتدربين الآخرين خلافاً لتلك المجموعة الغبية.
عموماً، لا أعتقد أني الوحيد المنسحب، يبدو أن الأغلبية بدأوا بالانسحاب، وأتخيل أن الأسباب مشابهة.
ولا أخفيكم أن لقدراتي دور بالأمر، فلم أعد كما كنت، وصارت المنغصات الصغيرة تسبب اشد الاضطراب في تعلمي للأشياء. ربما للعمر دور، خصوصاً بمرور العمر وعقلي راكد عن التعلم الجاد، حتى أسن جوه وسقم. لقد بت بطيء التعلم ما لم يكن أمر غير مجرد مما أهوى القراءة عنه.
في نهاية رحلتي إلى البيرو، ركبت السيارة في الظهيرة وقد استقبلتني اليزابيث من المطار عائد من الامازون. وبدأت بعفوية أقرأ اللوحات على الطريق، وأتحدث عن تجاربي اللغوية. ذهلت اليزابيث وقالت بأني تعلمت الكثير. ربما لن أتعلم أي لغة أو علم بعد الآن ما لم أنغمس في جوه، وأضطر إليه، والشكوى لله.
يقول زميلي بالعمل، بعدما شكوت من علتي، بأن انشغال البال له دور، وجود الكثير من الاشياء التي يفكر فيها المرء، وحمله للهموم، والهموم هي ما لا ينقصني منه شيء.
رغم كل شيء، تواصلت مع معهم آخر يقدم دورة لغة اسبانية. أرسل إلي شخصين دعايته، لعلمهم باهتمامي باللغة. لكن بعد التواصل، تبين أن الأمر لا يختلف كثيراً من حيث ما أشكل علي، مرتين بالاسبوع وساعتين في المرة. ربما لا يجدي في أمري سوا السفر لتعلم اللغة. كم أتمنى لو تركت في كوزكو لتعلم اللغة هناك لفترة، كما يفعل الكثير من الأجانب كما فهمت من كارلا.
قبل فترة، دخلت في مقهى تحدثت عنه هنا، اسمه وقت القهوة. في مقدمة المقهى، يوجد صور لمالكي ومؤسسي المقهى، أحدهم شاب يفتعل تعبير مجنون على وجهه بالصورة. رأيت الرجل نفسه في المقهى يمازح بعض أصدقاءه على ما يبدو، وهو رجل جسيم وضخم. حينما لمحني بدت عليه صدمة، ثم انزعاج، ولم يحاول أن يخفيه. إنها أول مرة أراه فيها في حياتي. لم أشغل نفسي بالبداية، جلست، ثم لاحظت بأنه يحملق بي، وحينما ألتفت إليه يكشر ويصد، بعد أن يتأكد بأني لاحظت، وكرر هذا حتى غادرت. كان سلوك غريب. لاحقاً، عرفت بأنه معروف جداً على برنامج الكيك. أفكر الآن، هل شبه علي؟ ظنني أحد آخر؟. أتخيل الآن بأني أنا المشهور حينما أتذكر ذلك اليوم، وكأنه لديه موقف من شهرتي، رغم أن العكس هو الصحيح، وأنا لا أعرف شيء عما يقدم صدقاً، فلست أستخدم الكيك، ولم أرى للرجل إلا لقطتين لثواني على اليوتيوب.
مررت اليوم بموقف سيء. كنت في كلية الآداب لصلاة الظهر، وكانت جماعة كبيرة في المصلى قد فرغت للتو من الصلاة، وقد تجمع عدد جيد ممن فاتتهم تلك الجماعة. اقترح دكتور أجنبي، لعله اردني، أن نذهب للصلاة في مقدمة المصلى، وهذا اقتراح جيد، حتى يجد الناس أماكن حينما يأتون متأخرين، وحتى لا نسد المخارج والمداخل. كان بيننا شاب ضرير ملتحٍ، ومعه رجل أجنبي يساعده، لم أكن أعلم ما جنسيته. مضيت مع المجموعة وصلينا في مقدمة المصلى، وحينما فرغنا وأردت الخروج صُدمت بأن الرجل الضرير يصلي بجماعة أخرى في منتصف المصلى، بالتزامن مع جماعتنا. وهذا أمر لا يجوز، ولا داعي له بالأساس، لأننا ذهبنا كمجموعة كان هو ومرافقه ضمنها للصلاة بالمقدمة. لاحظ رجل سعودي مسن، دكتور على ما يبدو، دهشتي، إذ شخصت في مكاني، وجاء إلي يقول بأنهم أقاموا جماعة ثانية بسبب الرجل الأجنبي الذي يساعد الضرير، وأنه يجب نصحهم وإيضاح خطأهم، ومضى. كان هذا الأجنبي ينظر تجاهنا ونحن نتكلم، بينما هو يصلي. وحينما وقفت للانتظار بدأ يسدد تجاهي نظرات بدت عدوانية. سلم إمامهم الضرير وأدار جلسته إلى الجماعة، فذهبت إليه وجلست إلى جانبه وسلمت. أخبرته بهدوء بأنهم بدأوا بجماعة بينما نحن نصلي، ففوجئت به يرفع صوته ويقول بأنهم بدأوا أولاً وماذا يفعلون؟!، فوجئت وشعرت بإحراج بالغ بسبب رفعه صوته فكان ما قلته هو مجرد ملاحظة. قال الأجنبي المرافق له بأنهم بدأوا أولاً. قلت بأن هذا غير صحيح، وبالواقع كانوا معنا حينما اقترح الدكتور بأن نذهب للصلاة في مقدمة المصلى. فقال شاب صغير من الجماعة بأنه يعتقد بأنهم بدأوا الصلاة قبلنا. إني واثق بأن هذا غير صحيح، وإن صح فهو غير سليم لأن الجماعة كلها عزمت ومضت كمجموعة إلى مقدمة المصلى. فوجئت برجل سعودي مسن لاحظت مراقبته للموقف منذ البداية، دكتور كذلك، يأتي ليقف إلى جانب الإمام الضرير ويقول بأن كلامهم غير سليم، وأنه راقب الأمر منذ البداية، لعله كان يتسنن، وأن هذا الرجل، يقصد معاون الضرير، أصر على الشاب الضرير أن يبقى ويؤمه لوحده بالبداية وخدعه، وقد صف إلى جانبه هو وهو يصلي دون أن يوفر ساتراً للإمام. كان الدكتور هذا محتقناً وغاضباً وهو يحكي. وأضاف بأنه لا عتب على الإمام لأنه ضرير لا يرى ولم يدري عن توجه الجماعة بالفعل إلى مكان آخر، ثم وجه كلامه إلى الإمام وقال: لكن معاونك خدعك وغشك، وهو غير أمين أو شيء من هذا القبيل، وقد تسبب بمخالفة خطيرة على هذا النحو حينما تسبب بوجود جماعتين في نفس الوقت، واستمر بالتحدث بالأمر، فمضيت قبل أن يفرغ من كلامه، إذ لم يكن لوجودي فائدة. لكنه مضى بعدي سريعاً، ثم رأيت وأنا ألبس حذائي الرجل الضرير يبتسم بطريقة غريبة جداً أشعرتني بالقلق عليه فتوقفت لأرى إذا ما كان علي أن أعود إليه وأساعده بشيء، لكن جاء دكتور سعودي آخر إلى الشاب، ووجه سؤالاً إليه، وإلى معاونه، ربما عن حال الشاب، إذ أنه شعر بالقلق كذلك كما بدا من وجهه.
فوجئت حينما مشيت قليلاً بعودة ذلك الدكتور المسن واستيقافه لي، وقوله لي بأنه يعرف الإمام، وأنه أحد طلابه وهو رجل مستقيم ومميز ومجتهد، لكن المصري الذي معه "حمار"، وهو يجرجره في كل مكان بطريقة غير لائقة ويتحكم به بأسلوب خطير. لعله أراد مني أن أحسن الظن بالإمام لأنه رفع صوته علي بلا سبب كما رأى، ولكني كنت مضطرب الفكر صدقاً بسبب قلقي على الشاب وتغير وجهه. قلت بأني قلق على الرجل، وأنه يبدو أن الموقف كان كثيراً عليه. في تلك اللحظة حضر الدكتور الآخر، الذي اطمئن منذ لحظة على الشاب، وسمع قلقي، وقال بأنه ليس علي أن أقلق، وأنه تأكد أن الشاب لا يعاني من شيء (يبدو أن هذا تخصصه من أسلوبه بالكلام)، وأنه يعبر بوجهه هكذا لأنه ضرير فقط. ثم تناقشوا حول أمر الجماعتين، ولكونها أمر سيء وخطير. ولكن الدكتور الأول عاد بمرارة ليتحدث عن مرافق الضرير، ويبدي غضبه منه، مع تعبيره عن تقديره للشاب لمعرفته به كطالب عاقل وذكي. تكلمت مرة أخرى عن قلقي على الشاب، وعلى قدرة المرافق على مساعدته إذا ما كان الآن في وضع سيء، لكن عاد الدكتور الآخر وطمئنني بأنه واثق أنه بخير وأنه يعرف هذا، ويعرف الشاب وهو رجل عاقل وعلى ما يرام، وأن تغير وجهه كان تعبير يبدر عن شخص ضرير على نحو متوقع. شكرني الرجلين، ومضوا معاً يتناقشون بالأمر. لا أستبعد أنهم، إن كانوا حقاً يهتمون، سيتحركون بشكل ما للفت ذوي الشاب إلى مشكلة المرافق، فيبدو أن ملاحظات ذلك الدكتور عليه كثيرة. وبالواقع، كان له طبع على جانب من الاندفاع، رغم اعتقادي بأن مسألة بداية جماعة ثانية كانت جهلاً وحمقاً أكثر من كونه سوء نية.
أفكر منذ فترة طويلة باستعدادنا الغريب للعنف وفرض الذات، فهذا من الأشياء التي تشغل بالي وتصيبني بالإحباط من الحياة في مجتمعي هذا. لا غرابة في رؤية شخصين يتضاربان بالشارع بسبب أخذ أحدهم لمسار الآخر بالسيارة، وهم لأول مرة يلتقون، ولا غرابة لتطور نقاش لشخصين في مطعم حول رفع الصوت مثلاً إلى تدافع ومضاربة. الكل يريد أن يؤذي الآخرين بأسوأ طريقة. كنت أسير في شارع خريص على الرصيف قبل فترة، ذاهباً إلى صراف آلي من محل على نفس الشارع، وكنت أراقب الإزدحام الخانق للسيارات. أراد شاب أن يخرج بسيارته إلى مسار مجاور، بينما من كان أمامه لم يتقدم ليعطيه الفرصة، وبدا أنه لم يعلم عن نوايا الشاب، الذي أخرج رأسه من النافذة يصيح، فلما فهم من أمامه ماذا يريد تقدم قليلاً ليعطيه الفرصة. ولما مر الشاب إلى جواره توقف وفتح النافذة، وتلاسن معه، وبصق عليه، وربما رد الآخر كذلك. مضى الشاب حتى وصل إلى محطة، بعد ربما خمس دقائق، وأوقف السيارة، ونزل ليقف على جانب الشارع منتظراً السائق الآخر. أوقفه، وأدخل يديه عليه بالسيارة، وأخذ بتلابيبه، بينما بدا الخوف الشديد على ذلك الرجل الذي يكبره بالسن بكثير، وضربه ونفضه، وحاول إخراجه من السيارة، ثم مضى إلى سيارته يشتم ويلعن، حدث هذا بسرعة كبيرة. ولم يكن هناك فائدة من إبلاغ سائق تلك السيارة لرجل المرور الذي يقف في مكان غير بعيد، فلم أره يبحث عن الشاب أو يهتم.
وفي فيديو انتشر قبل فترة، في بداية الإطاحة بحاكم مصر السابق مرسي، وقفت مجموعة مصريين في خطبة صلاة الجمعة، في الرياض على ما يبدو، معترضين على دعوات الإمام التي صبها على من ناصر الإطاحة، وكانوا يقولون ماذا فعلوا لك؟ يقصدون لتدعوا عليهم هكذا. كانوا فقط يسألون باعتراض، لكن بدأ بعض الناس، سعوديين، بدفعهم بعنف، بدون مقدمات، أو أي إحساس، وبعضهم حتى استل عقاله ليضرب به. لا يمكنني وصف الحزن الذي شعرت به، والإحباط. لماذا؟ لماذا اللجوء لأسوأ طريقة بالتعاطي مع الناس؟، لماذا اللجوء للقوة مباشرة، وبدون مبرر؟.
إني أتفهم تطور الموقف إلى الاشتباك بين اثنين على معرفة، فربما كان هناك تراكمات، وما أخطر التراكمات، وكانت كلمة قيلت أو إشارة اُفتعلت هي ما قصم ظهر البعير. هذا أمر جائز ويحدث في كل مكان. لكن ما يجري هنا هو أن الحل دائما يتجه إلى التهديد بالضرب أو الضرب مباشرة، إلى درجة أن الأجانب باتوا يتوقعون هذا في أي مشكلة، وحينما لا يكون، فإنهم يبدون استعداداً مباشراً للحوار وتصحيح الإشكال، وكأنما هم شاكرين على معروف.
إنه لأمر أكثر من مؤسف، إنه ليس مجرد خلل في صورة كاملة؛ إنها صورة مختلة بالكامل.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لن تتأخر بإذن الله التدوينة القادمة كهذه، ما لم يعترضني عارض. حيث أني بدأت بكتابتها بالفعل منذ فترة. والأمور أصبحت أسهل، أو هكذا أتمنى، بعد فترة من الانشغال واضطراب البال.
لذا، أرجو أن كانت هذه التدوينة ممتعة، وأن تترقبوا التدوينة القادمة، إن كان لديكم اهتمام برحلتي التي أقص.
سعد الحوشان
وبالواقع، كنت أنا أستغرب، لأني لم أكون علاقات على القطار فعلاً، غالباً ما كان من يحيونني أناس كانوا يحملقون على القطار.
ورغم تهذيب المرشدة، إلا أنها كانت متحفظة بوضوح، وربما حاولت أن تكون جافة قليلاً في بعض اللحظات، وهو موقف لم يغضبني صدقاً بقدر ما أثار تساؤلي، فهي تترك العنان لطيبتها ولطفها، ثم تنتبه وتتحفظ.
كان الإنكا يقدمون الأضحيات من اللاما غالباً، ويتواجد صخرة لها تكون يشبه نسر الانديز المسمى بالكوندور، وهو أكبر طائر قادر على التحليق بالعالم، كما حكيت في تدوينة سابقة.
حكت فاطمة عن عادات مستمرة منذ عصور سحيقة، مثل عشيرة في قريتين على مستويين مختلفين على سفح جبل، في يوم معلوم من السنة يلتقون للاقتتال دون أن يعرفوا السبب، بأسلحة حادة، وأحياناً ينتج عن الاقتتال وفيات. وقالت بأنها شهدت هذا الطقس ذات مرة وشعرت بالذعر من العنف الشديد فيه. أثار الأمر استغرابي، وتسائلت كيف تسمح لهم الحكومة بإيذاء بعضهم هكذا؟. قالت بأنه تقليد، وأن الحكومة تتركهم لأنه تقليدهم. قلت بأنها يجب أن تتدخل، الاقتتال دون سبب أمر سخيف، ربما عليهم جعل التقليد رمزياً. استفزتها وجهة نظري، وربما عدتها تدخل في ثقافة بلدها، قالت بأنه تقليد لا يجب المساس به، فمثلاً بعض الناس يضحون بالحيوانات في يوم من السنة، لأن هذا تقليدهم. كانت تقصدنا، وكانت متوترة نوعاً ما، لكني استشعرت ملاحتها في تلك اللحظة. ابتسمت وقلت ولكننا نضحي لسبب نعرفه، وبحيوانات وليس ببعضنا البعض، وهو أمر تقوم به الكثير من الشعوب، حتى الإنكا، لقد كانوا يضحون باللاما لأسباب دينية، والتضحية في كل الأحوال مختلفة عن الاقتتال. صمتت متفكرة، وهدأت أعصابها قليلاً.
فكرت بأنها ربما كانت تتحفظ لكوني مسلماً، وهي نصرانية ملتزمة، وربما كان التعامل معي أمر جديد عليها.
ورغم لطف الهواء، إلا أن شمس الظهيرة المسلطة كانت شديدة القوة. أعتقد أن شمس الجبال مميزة، مختلفة عن شمسنا. إني معتاد على شمسنا، وهي لم تسبب لي الحروق يوماً رغم أنها أشد حرارة من شمس الجبال، لكني أعتقد أن الشمس تسطع بطريقة مختلفة على الجبال، بطريقة أكثر تسلطاً، وكأنما تمر عبر عدسة مكبرة، وكنت لا أشعر بحرارة كاوية كما هي الحال في بيئتنا، لكن في يوم نسيت وضع الواقي من الشمس، الذي يوصيني الجميع بوضعه هناك، فلما عدت إلى الفندق شعرت بحرق مؤلم على عضدي، ولما نظرت وجدته أحمراً وكأنما سكب عليه ماء ساخن، على حدود الفانيلة. أمر غريب، إذ أن حرارة الشمس هناك لا تقارن بحرارتها لدينا، مع ذلك لم يصبني هنا أمر مماثل، رغم أني لم أكن أضع واقي الشمس.
بعض الغرف مبنية على نحو مميز، بتلك الحجارة الهندسية المصقولة والمرصوصة بلا ملاط على نحو لا يزال يشكل لغزاً، حيث أنه من غير المعلوم كيف تمكن أهل ذلك الزمن من القص والتركيب الدقيق للحجارة على هذا النحو المعجز، بحيث لا تنفذ ورقة، والبعض يقول شعرة، بين حجرين، في الأجزاء السليمة، ومعظمها كذلك. لهذه الغرف والحجارة مدلولات دينية، وغالباً ما تتوجه المداخل والنوافذ في إتجاهات مقصودة ورمزية.
يوجد الكثير من المراقبين، حيث أن بعض الأماكن من غير المسموح الدخول إليها، أو بعض الأماكن لا يسمح بالوقوف عليها لهشاشاتها، ويحسب المرء أن الكبار على الأقل سيحترمون هذا، لكن رأيت البعض من السفهاء يتغافلون الحراس ليسيئوا إلى المكان. مثلاً، رأيت رجل فرنسي بدين ومسن، لعله في الستينات من عمره، تغافل الحراس ووقف على عارضة قد لا تتحمل وزنه، ليلتقط صورة من مكان أعلى قليلاً. كان موقف مقرف وغاية بالسفه، ولكن سرعان ما صاح حارس بجنون وهو يأتي في اتجاه الرجل الغبي. لكن للأسف، لا يأخذون هذه الأشكال للمسائلة كما قد يحسب المرء، وكما يجب. رأيت كذلك مجموعة شباب تغافلوا الحراس ليستلقوا على الزرع في منطقة ممنوعة ويلتقطون الصور، مما جعل الحراس يجن جنونهم.
أكملت وفاطمة الجولة، وكانت متمرسة بالأمر، وذكية جداً، ولا يوجد ما لا تعرف له إجابة في ذلك المكان. اختبرت معلوماتي معها كذلك. علقت على اسئلتي وملاحظاتي بأنها مختلفة، لكن يسهل رؤية أن معظم الناس الزائرين لذلك المكان لا يدركون قيمته للأسف، يبدون وكأنهم يزورون ملاهي، فقط القلة هي من يتأمل ويتفكر، وترى الكثير من غريبي الأطوار مشغولين بالتقاط صور لأنفسهم في أوضاع مختلفة. ترتفع الضحكات والنكت، ويشعر المرء بعدم جدية الكثيرين في تناولهم للأثر وتميزه، وكأنه محطة ليزوروها لمجرد قولهم لاحقاً: لقد زرنا المكان، وهاهي الصورة. وبالواقع، الغالبية العظمى من الناس تقضي يوم واحد هناك، وكأنما تمر مرور الكرام، حيث أن الكثير من الخطط السياحية تقترح هذا مبدأياً، ربما لمعرفتهم سلفاً بموقف الناس وما يريدونه، بعضهم يبقى ليومين على الأكثر. أعتقد أن الآثار أماكن للتفكر والتأمل، والاحترام، لأسباب كثيرة.
أطلينا على نافورة مميزة داخل حجيرة لم تكن مسقوفة، وسألت فاطمة إذا ما كان من المسموح أن أشرب؟، فالشرب من هذه النوافير، التي لطالما تأملتها بالصور عبر السنوات، هو أحد أمنياتي. ذهلت فاطمة، وضحكت، قالت بأن المياه التي تنبع من الجبل معدنية ومختلفة عن المعتاد، وهي نظيفة وصالحة للشرب بالطبع، غير أن من لم يتعود على شرب المياه المعدنية بهذه القوة قد يشعر بالتعب في بطنه، قلت بأني لا خلاف لدي على الأمر، فأنا أشرب مياه معباءة من ينابيع. كان الحارس ضخم الجثة يراقبنا بابتسامة، دون أن يفهم شيئاً. بدا أن فاطمة كانت محرجة، وسألته شبه ضاحكة أن يسمح لي بالشرب، فضحك هو كذلك باستغراب، وسألني بنفسه بالإشارة، وأكدت ذلك، فتلفت يمنة ويسرة، وسمح لي بالدخول إلى النافورة الجميلة، حيث أنهم لا يدخلون الناس ربما لضيق المكان، وشربت حتى رويت، وكانت من أفضل المياه التي شربت في حياتي، ذكرتني كثيراً بماء زمزم، إنها أقرب ما شربت إليه. وكنت قد اشتريت قارورة بمصفاة فحمية من الرياض خصيصاً لهذه المياه، فعبأت قارورتي من ذلك الماء البارد وخرجت. وكان الحارس وفاطمة ينظرون تجاهي مبتسمين وأنا أخبر فاطمة بروعة هذه المياه وهي تترجم للحارس، حينما اكتشفنا فجأة وجود فتاة بريطانية خلفنا تنظر بذهول، وسألت: هل الشرب مسموح؟!، بدا الاضطراب على الحارس، فقد يأتي الكثير من الناس هكذا، وشرحت لها فاطمة مسألة معدنية المياه، وأنها قد تشعرها بعدم الارتياح، ترددت الفتاة قليلاً، ثم تخلت عن الفكرة لحسن الحظ ومضت، إذ خشيت أوقع الحارس بإحراج بعدما سمح لي مشكوراً بالدخول.
قالت فاطمة بأن المياه كانت مقدسة لدى الإنكا، وأن مياه هذا النبع على الأغلب كانت تحمل قدسية خاصة، فأخبرتها بأنها بالواقع ذكرتني بمياه مميزة دينياً لدينا، تنبع في مكة.
كانت جولة اليوم الأول مذهلة، شكلت طوافاً على شقي المدينة المتقابلين، بما يحويان من معالم وأمور مثيرة للاهتمام.
بعد الجولة، كان مقرراً لي تناول وجبة الغداء في الفندق عن مدخل المدينة، وكانت التذكرة مع فاطمة، تذكرة البوفيه المفتوح. قدمت تذكرتي ثم أخبرتني بأنها ستنتظرني هنا حتى أفرغ. فوجئت، إذ ظننت أنها ستأكل أيضاً. أعتقد أن على تلك الشركات أن توفر للمرشدين وجبة كذلك إلى جانب السياح، فهم كذلك يتعبون. سألتها لماذا لا تتناول الغداء معي؟ قالت بأنها ستنتظرني حتى أفرغ، وأنه لا بأس بهذا، أصريت، وأخبرتها بأني أدعوها لتناول الغداء، ودفعت للفندق سلفاً لأجلها. شكرتني ودخلنا معاً. يمكن تخيل كيف يجوع المرء بعد جولة في مكان كذلك المكان الساحر والكبير. بدأ تحفظها يزول، وكشفت لي السر، وإن يكن على نحو غير مباشر. قالت بأن رجل عربي جاء من قبل إلى وكالتها، وطلب مرشداً ليرافقه إلى ماتشو بيتشو، فاستدعاها مديرها وقدمها إليه، لكن السائح بدا عليه الغضب، وقال بأنه لا يريد من امرأة أن ترشده، سألته هي ما الفرق؟ فقال بأسلوب قاس بأن مكانها ليس هنا (!!)، إنما مكانها بالبيت (!!!). تقول بأن مديرها ثناها عن النقاش مع السائح، وكان ما قاله بالواقع، ووصفها لنظره تجاهها وازدراءه، أكثر مما وصفتُ هنا. تقول بأنها بكت، وجرحت بسبب أسلوبه ونظراته. وأنه حينما قيل لها أن سائح أصر أن ترافقه مرشدة أنثى، سألت عن جنسيته، فقيل بأنه عربي (أنا)، فاستغربت، وتوجست. كان ذلك الرجل كما فهمت هو أول عربي تراه، وقد خلف لديها بوضوح فكرة سيئة. أستغرب من طريقته بالتحدث إليها وموقفه منها، هل يتخيل بأنها أبنته ليخبرها أين يجب أن تكون؟، وخلافاً لهذا، هل خانه استيعابه للمكان والثقافة والدين المختلف؟. ولماذا الرعونة في التوجه إلى الناس؟، كان يمكنه فقط أن يقول أنه يفضل رجلاً ليرافقه، لأسباب دينيه أو ثقافية أو شخصية أو أي سبب يحبه، فلن يلومه أحد، أما هذه العدوانية والقسوة، فلا نفع منها، إنما ضرر وجرح للناس، وتشويه للصورة العامة.
فاطمة فتاة متدينة بالمقياس، وهي تتمنى الذهاب إلى فلسطين، كانت خجلة بالبداية لتقول السبب، ربما لعلمها بحساسية المسلمين تجاه ذلك البلد، سألتها إذا ما كانت يهودية؟ قالت لا، قلت: إذا لعلك تريدين زيارة موطن النبي عيسى عليه السلام؟، كان تخميني صائباً. أخبرتها بأنها ربما صادقت سياحاً اسرائيليين يوماً ما، وهذا قد يساعدها في زيارة ذلك البلد بضيافتهم.
تكلمنا حول أمور كثيرة، عن السياح الآخرين، والجنسيات التي تفضل، واللغات التي تتحدث، فهي موهوبة جداً، جداً ما شاء الله. أخبرتني عن عائلتها في ليما، وعملها هنا، في هذه القرية السياحية المستحدثة، والتي يبدو أن وجودها لن يدوم طويلاً لخطر الانهيارات الجلبية.
وإلى جانب ظُرف حضور فاطمة كان الطعام رائع جداً، بحيث لم أتخيل بأني سأشبع، ولا أعتقد أني شبعت تماماً لكني خفت من الإفراط بالأكل. السلطات كانت غير عادية، الشوربات، الكينوا، أنواع اللحوم، والحلويات. وكان المكان ممتلئ بالسياح عن آخره كذلك، لكن لم تكن صواني الطعام تترك لتفرغ طويلاً، إذ تستبدل بسرعة.
بعدما فرغنا من الغداء المتأخر، عدنا بالحافلة إلى آقواس كاليينتيس، وأخبرتني أن أتصل بها إذا ما احتجت إلى مساعدة أو أردت التحدث. لم يكن لديها فكرة غير جيدة بالطبع، فهي مرتبطة برجل.
سأضع الآن بعض الصور التي التقطت هناك، وما أجد في نفسي من تعليقات تستحق الكتابة. ويجب أن تغفروا لي تكرار بعض الصور، فهي كثيرة إلى حد ما، ومأخوذة في أيام وأوقات مختلفة. ومن لا يهتم بالصور، فيمكنه الانتقال إلى النص الطويل في نهايتها.
الصورة أعلى لغرفة ذات نهاية نصف دائرية، ويعتقد أنها كانت معبداً. بناؤها على هذا النحو، وبالأسلوب الدقيق في قص الحجارة، أمر عجيب ودال على عبقرية أهل ذلك الزمن.
يُعتقد أن الحجيرة في الصورة أعلاه كانت مكان استحمام الإنكا، وهي ملحقة بالحجرة التي يقال بأنها له.
الجبل ذو القمتين بالخلفية، وخلفية الكثير من صوري، يسمى واينابيتشو، وهو ما قلت سلفاً بأنه يشبه وجه إنسان يتطلع إلى السماء. وفي القمة الأعلى يوجد آثار كذلك، لكني فضلت قضاء كل أيامي بالمدينة نفسها.
الشجرة البادية بالساحة أعلاه ترونها بالكثير من صوري، إذ أنها تسحرني منذ أن رأيت صور ذلك الأثر.
التقطت هذه الصورة من خلف ما قالوا بأنه نموذج للحدائق المصغرة لأهل المدينة، حيث يزرعون فيها النباتات الطبية وما يحتاج إلى عناية لصيقة خلافاً للحقول على المدرجات.
من الأعلى، يقال بأن كاهن كان يقف في مناسبات معينة من السنة ليطل على وفود من امم مختلفة، تأتي بتقدمات للمكان، ولتستمع إلى تنبؤات تخص الطقس والحياة في الفترة القادمة، وكان هذا يعد أمر ضروري للزراعة والحصاد، وبالتالي حياة الناس والاقتصاد. وكان أهل الحضارات القديمة في الامريكيتين على براعة غير عادية في علوم الفلك والحساب، أكثر براعة بكثير في بعض الجوانب من سائر العالم.
هذا الشق من المدينة كان للسكان العاديين، وليس لعلية القوم من نبلاء وكهنة ومهندسين وعلماء، الذين يقيمون بالجهة المقابلة من الساحة.
يقال بأن الغرف ذات المداخل معقدة التصميم كالمدخ أعلاه، هي غرف ذات أهمية خاصة، فربما كان طقوسية أو تعبدية.
لم تكتمل المدينة أبداً... كالكثير من الشاريع العظيمة، قاطع الإنكا غزوا الاسبان الهمج لديارهم. لا يُعرف على وجه الدقة سبب هجر المدينة المفاجئ طوال هذه القرون، لكن لحسن الحظ أنها بقيت في عزلة عن معرفة الاسبان، الذين كانوا يخربون أي مدينة يحلون بها، بعد نهب ثرواتها من ذهب وكنوز، والتنكيل بأهلها، رغم ما وصفوا عن جمال المدن وتخطيطها العجيب.
يقال بأن هيرام بينقهام، الأمريكي الذي "أعاد" اكتشاف المدينة (رغم معرفة السكان الأصليين بها لكن تكتمهم المفهوم عنها)، ونهبها بحجة الدراسة، حينما رأى المنصتين أعلاه، فكر بسطحية بأن الغرض منهما هو طحن الحبوب، وصور فتى صغير يطحن بحجر عليهما. الآن، يعتقد أن الغرض هو الدراسة الفلكية، بوضعهما في مكان استراتيجي، أمام نافذتين مضبوطتين بوضع ومكان معين، حيث تنفذ منهما صورة جزء من السماء لتنعكس على المنصتين ذوات العمق الصغير المملوء بالماء.
عند الاستمرار عبر هذا المنحدر، يصل المرء إلى واجهة المدينة تجاه الشرق، وهي منطقة مليئة بالمدرجات والأطلال، وجزء كبير منها ممنوع عن السياح، ذلك أنه بالعام الفائت توفيت فتاة مراهقة بريطانية وقفت قرب حافة هناك، وقد دفعها تيار هوائي مفاجئ للأسف.
هذا المكان المكان في الصورة أعلاه الذي وصفته بأنه ممنوع على السياح، أقصد نزولاً عبر المدرجات، لوفاة حدثت.
زائر جميل للمدينة، وقف يتابع الناس من مكان بعيد. هذا قواناكو، قريب البعير البري والأكبر. هو مهدد بالانقراض. وكذلك ابنة عمه الأجمل الفيكونيا، ويقال بأنها تزور المكان أحياناً كذلك.
هذا نهر أوروبامبا، حيث الوادي المقدس الطويل، يمر أسفل المدينة.
لا يبخل أحد بالتقاط صورة لغريب، بل يتحمس الناس للمهمة، رغم أني التقطت هذه الصورة لنفسي (شوفوا العضلات...).
مزاج الناس على وجه العموم في هذا المكان يروق ويصفو، ويصل لطف المرء إلى مدى لم يعهده ولو كان لطيفاً بالأصل، إنه سحر المكان، لا بد أن هناك ما يجعل المرء يتغير للأفضل حالماً يخطوا في ذلك المكان المهيب؛ حدث هذا لي على الأقل.
بالصورة أعلاه قمة حجر غريب الشكل، يغطي كهف صغير، وهو يسمى حجر الكوندور، الطائر الضخم، فهو يشبهه، إذ أن الحجر هو بالواقع حجرين الأجنحة. يقال بأن أضاحي اللاما كانت تقدم تحته، فتأتي النسور لتأكلها.
لفهم المستوى الحقيقي لتعقيد عمل الإنكا في العمارة، يمكن مقارنة الشخصين بالأعلى بحجم الحجارة التي تعامل بها القدماء للبناء في بعض الحالات.
فتحات التصريف الصغيرة وغير الملحوظة موجودة في بعض الأماكن، وهي محفورة بالحجر بدقة.
في يسار الصورة أعلاه ترون الجادة التي يأتي عبرها السياح من البوابة إلى المدينة، من بين المدرجات.
بالصورة أعلاه، ترون الغرفة ذات النهاية نصف الدائرية على قمة حجرية، على يمين الصورة.
هذا النهر قرب المدينة في بطن الموادي، في نهار تمشيت فيه قبل الذهاب إلى ماتشو بيتشو بالحافلة.
يسحرني الوجود في مكان كهذه المدينة، بموقعها، بطبقاتها، وإنسانيتها المتماهية مع الطبيعة.
المدخل إلى الغرفة ذات النهاية المستديرة أعلاه.
هذا الحيوان هو الفيسكاشا الذي أخبرت عنه، ببنيته الغريبة. أذنيه أقصر من آذان الأرنب رغم استطالتها، وذيله طويل جداً، وجلده على جانب من الترهل كالثوب الواسع. سبحان الله.
تتلوى النوافير الجميلة، ولا تصب في كل طبقة في نفس الاتجاه، كما ترون بالصورة أعلاه، حيث تصب باتجاه معاكس للنافورة التي قبلها. حينما تصب نافورة فإن المياه تنزل لتصب من النافورة التي تليها، ويمكن متابعة الماء من بعض الشقوق وهو يأخذ طريقه بين النوافير. الهندسة المائية كانت من أهم مميزات الإنكا التي كسبوا بها قلوب الشعوب التي ضموا إلى دولتهم، حيث غالباً ما عملوا مباشرة بعد التغلب على شعب أو دولة على تمديد الماء بطريقة مذهلة وباستعراض لتطويع الطبيعة، وتطييب لخاطر المحكومين الجدد وكسب لإعجابهم.
كانت خطتي هي البقاء لثلاثة أيام في هذه القرية، وزيارة ماتشو بيتشو كل يوم، وقد ساعدتني كارلا بهذا الأمر بتأخير رحلة عودتي إلى القطار العائد إلى كوزكو بالمساء في اليوم الثالث، لأقضي نهاري الأخير في ماتشو بيتشو.
تلك القرية الحديثة تقع في امتداد بطن الوادي المقدس وهي محاطة بجبال الانديز الشاهقة، على نحو يحبس الانفاس، وتنقسم إلى قسمين؛ القسم السياحي المليء بفنادق معظمها بسيط والكثير الكثير من مطاعم، والقسم الثاني هو الذي يقطنه البيروفيين من أهل القرية، وأكثرهم يعمل في القسم الأول، ويفصل بين القسمين نهر اوروبامبا، ويعبره جسرين أو ثلاثة. تمشيت في منطقة السياح، وهي منطقة معقولة، حتى أنها فيها ساحة، وعلى الساحة متحف غير جاهز على ما يبدو، وكنيسة، ودائرة حكومية. بالمساء، يتجمع الناس بالساحة، وهي ذات نافورة يعتليها تمثال جميل لأحد ملوك الإنكا، لكن سيأتي الشرطي ليطلب منك الابتعاد حينما تجلس على عارضة النافورة، ولا أدري ما السبب. يجلس الناس غالباً على الدرج المقابل، وأتت فرقة غنائية وعزفت للناس لبعض الوقت.
في زقاق ضيق يرتفع إلى قمة تل، توجد الكثير من المطاعم متفاوتة المستوى، ويوجد الكثير من محلات البيتزا خضوعاً لذائقة السياح الغربيين ربما، وربما المقتصدين. المرور بهذا الزقاق غير مريح لأن الكثير من أهل المطاعم سيحاولون باستماتة إقناعك بالدخول إلى مطعمهم، واكثر المطاعم لا تثير الحماس ظاهرياً على الأقل. في نهاية الزقاق أعلى التل يوجد مدخل للينابيع الساخنة الطبيعية، وهي مكان للاسترخاء والاستشفاء، لكني لم أرى الكثير من الداخلين والخارجين، كما لم أدخل أنا.
اللافت للانتباه هو وجود الكثير من أطفال أهل الدكاكين والمطاعم يلعبون بممرات الشق السياحي من القرية، وهو أمر في اعتقادي خطير وسيء، فالكثير من السياح يأتون إلى البلدان المماثلة للبيرو للتغرير بالأطفال، وكثيراً ما يقبض عليهم، لكن بعد ماذا؟، وأهلهم إجمالاً ليسوا فقراء، فهم أهل أعمال وتجارة، لكنهم مشغولين بالعمل عنهم.
خرجت من باب الفندق وأنا أحادث شقيقاتي عبر الانترنت، لم أبتعد، إذ أردت أن أريهن المنظر مباشرة خارج الفندق (المكالمة كانت صوت وصورة). كانت تشبه هذه الصور أدناه، وإن أكن التقطت هذه عند محطة الحافلات القريبة:
في نهار اليوم التالي، قضيت وقتي في ماتشو بيتشو، أستكشف المكان، غير مصدق لوجودي فيه. رأيت فاطمة مع مجموعة سياح، وحيتني ببهجة.
وحينما عدت من هناك بعد يوم طويل، اتصلت بفاطمة وسألتها إن كان لديها الوقت لتريني الشق الآخر من القرية، قالت بأنها ستلتقيني في الساعة الفلانية في ساحة القرية، وهي قريبة جداً من فندقي، بينما تعمل فاطمة في مكان ما قرب محطة القطار.
حينما جائت، مضينا إلى الجهة الأخرى من القرية عبر الجسر. المنطقة الاخرى أقل بهرجة، وهي مزدحمة بالرائحين والقادمين من أهل القرية، لكني لم أرى سائحاً هناك؛ قالت فاطمة بأنهم لا يأتون إلى هنا بالعادة لأنهم لا يعلمون عن المكان، أو يهتمون.
كانت هناك أكشاك لبيع الأطعمة الشعبية على جانب طريق طويل بعد الجسر، وبعد بضعة مباني كان هناك ملعب كبير مسيج لأطفال القرية، وقد كان ممتلئً بالأطفال وبعض الأهالي يراقبونهم ويتكلمون. اللافت للانتباه أننا كل بضعة خطوات كنا نتوقف، لأن أحد الأطفال يريد أن يسلم على فاطمة ويقبلها. كانت قد أخبرتني بأنها تتطوع للعمل مع الأطفال، وتوعية أهاليهم، لكني لم أدرك بأنها بهذه الشعبية بينهم. هي تتطوع في أوقات فراغها لتوعية الأطفال خصوصاً حول النظافة والعلوم والحياة، وتحاول مع مجموعة أخرى أن تتواصل مع الأهالي وتوعيهم بأهمية التعليم والتربية اللصيقة لأطفالهم، لأنهم كما تقول في تلك القرية مشغولون بالكسب أكثر من اللزوم. بدأ الأمر حينما كانت تعمل موظفة استقبال في فندق بيئي بعيد عن القرية قليلاً، وكان هذا ضمن سلسلة شهيرة بالبيرو، وأهل هذا الفندق يهتمون بدعم المجتمعات المحلية المحيطة بفنادقهم بطرق مختلفة، ويبذلون جزء من الأرباح في سبيل التنمية. هي لا تعمل مع تلك المؤسسة، لكنها لا زالت تتعاون معهم في برامجهم الخيرية تطوعياً.
المطاعم في تلك الناحية أقل بهرجة بالطبع من المطاعم في ناحية السياح، وهي تهتم بالذوق المحلي كثيراً. سلمنا على أهل مطعم افتتح منذ فترة هناك، تملكه وتديره عائلة انتقلت مؤخراً من منطقة الأدغال بالأمازون، وهم يقدمون أكلات تلك المنطقة، حتى أنهم يوفرون لحم حيوان يعيش هناك، حيوان غريب رأيته كثيراً لاحقاً في رحلتي بالأمازون. فاطمة صديقة لتلك العائلة اللطيفة كذلك.
أرتني مبنى بعيد، ورغم أنه يبدو جيداً وحديثاً إلا أنه غير مأهول، لأن الإشاعات تقول بأنه مسكون، وقد استأجرت فاطمة فيه غرفة حينما جائت للقرية قبل بضع سنوات للعمل، حيث أنه رخيص وجيد، لكنها لم تستمر بسبب الأشياء الغريبة التي تحدث هناك، والأصوات المرعبة، لذا؛ تصدق فاطمة الشائعات، وقد صدقتها كذلك. هي تسكن الآن في جهة أخرى من القرية.
سألتها لماذا لا تقول الكنيسة شيئاً حول إهمال الكثير من الناس هنا لأطفالهم؟ قالت بأن الكنيسة تحدثت بالأمر، لكن الناس غضبوا منها، واعتبروا هذا تدخل وعدم فهم لظروف حياتهم، لذا باتت الكنيسة المحلية تنأى بنفسها حتى لا تفقد تابعيها.
دعوتها للعشاء، فاقترحت مكان يملكه صديق لها، عمل معها في الفندق. كان الرجل ودوداً جداً، وهي يشبه تماماً ابن جيران لنا في بيتنا القديم، حتى بلحيته الغريبة. كان المطعم في ناحية البيروفيين، ولم يكن سياحياً، إذ كنت الأجنبي الوحيد هناك، فكان بالتالي رخيصاً جداً. اقترحت فاطمة نوع من الدجاج والبطاطا يبرع المطعم بإعدادها، لكنها رفضت أن تطلب لنفسها شيئاً إذ لم تكن جائعة، وقالت بأن صحن واحد سيكفينا كلينا. كان الطبق لذيذ جداً، وبشكل عام، أعتقد أن الدجاج على الأقل ألذ هناك منه هنا، هناك طراوة ونكهة جيدة في دجاجهم، ولا يوجد ما نسميه الزفر، أو الرائحة والنكهة غير المريحة كما نجد بالدجاج الذي نشتريه من الشركات المعروفة هنا. وبشكل عام، الطعام هناك بكل أشكاله أفضل مما لدينا، أعني كمواد أولية؛ اللحوم الحمراء، الأرز، الأسماك، ومالا يوجد لدينا كذلك من نكهات وفواكه.
تحدثت عن حياتها هنا، وعائلتها في ليما. كانت تريد الانتقال إلى كوزكو، وربما بعد سنوات إلى ليما، بعدما تتدرج وظيفياً. حكت عن قصص عائلتها، وصديقها الذي تحب ويعيش في كوزكو، الذي أخبرتني بالانترنت بعد أشهر بأنها قطعت علاقتها به. و حكت عن حيواناتها الأليفة، إنهم يشترون الببغاء هناك بما يساوي 80 إلى 100 ريال، بينما يباع لدينا بالآلاف.
كان اليوم التالي هو آخر أيامي، لذا ودعتها وشكرتها على لطفها.
اليوم الأخير في ماتشو بيتشو كان غريباً، كنت أفكر باستمرار أنه آخر يوم أرى به هذا المكان، لكن هل سيكون الأخير حقاً؟، كنت أقول لنفسي بأني سأعود حتماً، يجب أن أعود.
كنت محظوظاً في ذلك اليوم حينما وجدت حيوان بري يعيش تحت صخرة كبيرة بالقمة، اسمه الفسكاتشا، وهو من الحيوانات الأصلية للمنطقة، ولا يوجد في مكان آخر بالعالم، أعني خارج جبال الانديز. شكله غريب جداً، لكن يمكن تشبيهه بأرنب يملك ذيل سنجاب، أذنيه قريبتان من شكل أذني الأرنب لكنهما أقصر، ورأسه يبدو أكبر، وجلده على جانب من التهدل. هو سريع إلى حد ما، وحضوره غريب، شعرت وكأن هذه البهية تعرف أكثر من البهائم الأخرى، حيث تنظر بتأمل وكأنها تفكر، ولعينيها عمق.
للأسف، أفسد علي فرنسي ورفيقته، حينما رأوني منحنياً تجاه الفجوة بين الصخور وألتقط الصور، بينما الحيوان لم يمانع وجودي ولم يهرب، لكن حينما جاء هؤلاء ورأوه ورآهم، هرب. قال الفرنسي لرفيقته بلا مبالاة بأنه تشنتشيلا، وهو حيوان مشابه له، لكنه أصغر، ومضيا بعدما أفسدا علي جلسة التصوير والتأمل تلك.
يصطاد بعض المحليين الحيوانين ويأكلانهما، ولا أرى فرق بين أكلهما وأكل الأرنب، لكنهما لا ينتميان إلى نفس العائلة، أو أي عائلة من حيوانات الجزء الآخر من العالم.
وبذكر الأرنب، إن رؤيته مذبوحاً أو مطبوخاً تجلب لي الغثيان، الله يديم النعمة. أشعر بأنه يشبه القط هكذا. شعرت بإحراج شديد في بيت خال لي بالقصيم حينما قدموه لي، وبدا علي الاشمئزاز دون قصد، كانت غفلة وحماقة.
عدت في ذلك اليوم أبكر قليلاً، أردت أن أجهز نفسي لرحلة العودة، وأن أتناول بعض الطعام إذ أني لم أفطر، وكان العصر قد حل. كانت مفارقة تلك المدينة صعبة، لقد تركت في نفسي أثر بالغ، لن يمحوه شيء.
بالقرية، ذهبت إلى زقاق المطاعم، واخترت فندقاً جميلاً لتناول الغداء، وكان بوفيه معقول السعر، وبمأكولات لذيذة ومتنوعة. سألني أحد العاملين بمطعم الفندق من أين أنا؟. قلت له بأني عربي، بالطريقة التي توحي من أين بالضبط (اريبيا، أو اربيا بالنسبة للناطقين بالاسبانية). تحمس الرجل كثيراً، وصار يسألني ويتلطف، ويسأل عن اسم الخضار والأطعمة الموجودة بالبوفية باللغة العربية.
كانت الخدمة رائعة، ورغم معقولية السعر إلا أن المكان لم يكن مزحوماً، ربما لأن المطعم ليس له واجهة على الممر، إنما تدخل عبر الاستقبال، وأمام حديقة داخلية صغيرة يوجد المطعم الجميل.
وصلني اتصال من موظفة بالشركة السياحية، وكنت قد رأيتها سابقاً عن القطار. سألت عن حالي، ومكاني، وقالت بأنها ستحضر بعد قليل لتعطيني تذكرة العودة، أو تتركها لي بالفندق، وشددت على ذهابي باكراً إلى المحطة، حتى لا تفوتني الرحلة. كانت العودة من ماتشو بيتشو باكراً خيار صائب. عدت للفندق، وجائت الموظفة الطيبة، وتأكدت من معرفتي للطريق إلى المحطة، حيث يمر بسوق شعبي من خلف النهر.
تمثال يصور أحد ملوك الإنكا في ساحة اقواس كاليينتيس.
حينما مضيت للمحطة، واجهت مشكلة بالسوق، لم أعرف من أين أذهب، ولكني لم أحتج للسؤال، لاحظتني امرأة تبيع في محل صغير، وتلاعب طفلتها، فنادتني لتريني الطريق، يا لهم من قوم لطفاء، خصوصاً السكان الأصليون، وأكثر الموجودين في تلك القرية منهم.
اتصلت موظفة الشركة لتطمئن لمعرفتي للطريق، فطمئنتها. لكني شعرت بأني مبكر جداً، رغم ازدحام المحطة المنتظرين لنفس قطاري، وكانت المشكلة هي أنه لا يباع بالمحطة غير ماء سان لويس، وهو من كوكاكولا مثل أروى لدينا، إلا أنه نوع سيء في رأيي ولم يعجبني، كنت قد أدمنت على مياه سان ماتيو، لذا كان علي الخروج، وعبور جسر فوق النهر إلى الشق السياحي، والبحث عمن يبيع سان ماتيو أو حتى أي مياه غير سان لويس من الأنواع الجيدة، فكلها تقريباً جيدة هناك، والعودة بسرعة إلى المحطة، بعدما بدأت أشعر بالذعر من فوات الرحلة.
كانت رحلة العودة غير مثيرة للاهتمام كثيراً، حيث كان الظلام قد بدأ يرخي سدوله، ولم يكن هناك ما يمكن رؤيته بوضوح. لكن الطعام كان لذيذاً جداً، وعرضت الشركة المسيرة للقطار ملابس تقليدية للبيع، وقدمن المضيفات ببهجة عرض أزياء للقطع الصوفية المعروضة، مع موسيقى، وسط تصفيق الناس.
لكن غداً، كوزكو، لا عزاء أفضل على فراق ماتشو بيتشو من كوزكو.
وعموماً، لا أتخيل بأن ماتشو بيتشو، من خلال الصور التي وضعت على الأقل، سيعجب الجميع، أو سيرى فيه الكل ما أرى بعيناي وقلبي. لكن، كنت قد رأيت بأنه أجمل مكان قبل أن أزوره، كنت قد قررت من الصور، وعليه، لا أتخيل بأن الأمر قد يختلف كثيراً لمن يزوره دون أن يعجبه من الصور مسبقاً. لو لم يعجبني ويمس روحي، لاعتبرت قلبي قاسياً على نحو لا يحتمل، لكني أفهم بأن مقاييس الناس للجمال والإبداع تختلف، ولعل البعض يفضل أشكال أخرى من الإبداع، أو قد زار أماكن يراها أفضل.
كان صباح اليوم التالي جميلاً، في عاصمة امبراطورية الإنكا، التي امتدت من كولومبيا والاكوادور شمالاً حتى شمال الارجنتين جنوباً، عبر بيرو وتشيلي وبوليفيا.
استيقظت مبكراً، تناولت القليل من الطعام، ثم انتظرت الحافلة التي ستأخذني وتجمع السياح لبدء جولتي على المدينة.
لكن، ليكن هذا الحديث في تدوينتي القادمة إن شاء الله.
إذًا، رحل الدكتور الألماني، و، وماذا بعد؟. يا لخلو أيامي، المليئة بغثاء البحر...
أتذكر تحدثه ذات مرة عن مشاريعه المهمة، بحماس، حينما تذكرت فجئة أني حلمت حلماً. أخبرته؛ وجدته في مكان ما، وقد بدا عليه القلق، كانت ساعة جميلة وعتيقة يحملها في يده قد تفككت، وتوزعت قطعها الذهبية على الأرض، وهو لا يستطيع أن يراها. ورغم أن المكان بالحلم كان يشبه مكان عملي على نحو ما، إلا أني كنت هناك كما أرى نفسي دائماً، بدون تظاهر، لا شيء على رأسي، أسير بثوبي وأحمل حقيبتي على ظهري. جلست إلى الأرض، وجمعت القطع الذهبيةالصغيرة له، وسط فرحته بكل قطعة، حتى اكتملت. قال بأنه سيأخذ الساعة إلى ألمانيا، ليصلحها هناك. ابتسمت برضا عن مجهودي، وافترقنا، لينتهي الحلم.
قال بحماس حينما فرغت من قص الحلم، بأنه حلم جميل، وربما كان يحكي عن أوقات ذهبية تنتظره. علقت: أنا من سيجمعها لك، فضحك.
لكن الآن، أعتقد بأن القطع الذهبية للساعة إنما كانت وقتي الذهبي معه، تلك اللحظات التي جمعت بها التروس الصغيرة كانت هي كل وقتي الذهبي معه، قبل أن يأخذه ويرحل.
إنها أجمل صداقة، وأصدق صداقة. التغير بعد شيء كهذا أمر صعب؛ عودتي إلى ما كنت عليه قبل صداقته.
هاقد جمعت أسعد أوقاتي...
ووضعتها بيديك كعيدية...
فرحلتَ بها...
وزعها كالورد على الأطفال...
والعجائز الطيبات...
والصبيان المأزومين...
ورود كالتروس الذهبية...
تدور وتسحر عيون الناظرين...
لكل شخص يستحق دقيقة...
هدية الرجل العربي القديم...
ولعلك يوماً ما تستيقظ من نوم طويل...
فتبحث عن ترسي الأخير...
فلا تجد شيئاً...
فتتسائل وقت من الذي ضاع؟...
فتتفحص ساعتك...
فتتسائل تروس من كانت؟...
فتترقب محتاراً من النافذة...
فلا تسعفك الذاكرة...
كان حلم غامض...
ساعة تتداعى...
وتروس ذهبية تنتشر...
ثم تجتمع على نحو غامض في يديك...
تلك كانت أسعد أوقاتي...
قبل فترة، وصلتني رسالة دعوة إلى زواج زميل قديم من الجامعة. تواصلنا لفترة جيدة بعد الجامعة، لكن سوء الحظ كان دائماً ملازم لعلاقتنا ببعضنا.
لفترة من الفترات، كان هو الأكثر وصلاً، وكان أمر أقدره كثيراً. ثم، صرت أنا الأكثر وصلاً، لكن لم يبدو هذا محل تقدير، إذ يبدو أنه أراد الابتعاد لسبب أجهله، ولا يمكنني القول بأنه تغير، ربما فقط لم يعد يريد التواصل معي. كانت أول مرة تجاوب معي على نحو غريب حينما اتصلت به ذات مرة، وكان يتكلم بأسلوب غير معتاد أبداً منه، وبدا وكأنه يودعني بأسف، هكذا شعرت، وبالواقع، كان هناك بعض القسوة في أسلوبه، مقابل اسلوبي الفرح بالتكلم معه بعد فترة انقطاع. تسببت لي تلك المكالمة وأسلوبه الصادم بحيرة عميقة لفترة طويلة، لم أفهم سبب طريقته بالكلام. اتصلت به مرة أخرى فقط لأرى إن كان سيتكلم بنفس الأسلوب، وإن كان هناك أمر بالنفس يحتاج إلى إصلاح أو تصحيح. لكن لا شيء، يبدو أنها كانت مسألة مزاج فقط. مع ذلك، كان ذلك الموقف الأول سبب بإعادة النظر بالأمر، إني أتواصل وقد لا يجيب على كل اتصالاتي، وحينما يجيب يبدو أني ثقيل على قلبه، حتى بالاتصال الأخير حيث تحسن مزاجه، فما حاجتي إذاً؟. كفيّت عن الاتصال منذ لك الحين، ولم يسأل هو.
لكني فوجئت بالدعوة إلى زواجه، وبالواقع، تفاجئني كثيراً هذه المواقف، حينما ينقطع الاتصال لفترة طويلة مثلاً، وتصبح بلا معنى، أو حينما يرفضك أحد ما ويتفاداك، ثم تفاجأ بدعوة أو شيء من هذا القبيل.
تسائلت، هل تخيل بأني قد أظهر فجأة بعدما استلمت رسالة قصيرة بالدعوة؟. أم أنها مجاملة فقط؟، لكن، لماذا قد يجامل المرء أحد لا يراه أو يتواصل معه، فلن أشعر بالأسى لو علمت صدفة في وقت لاحق بأنه تزوج ولم يدعني.
إني لا أتمنى له إلا التوفيق في كل الأحوال.
بالمقابل، أستغرب ممن تغضبهم عدم دعوتهم إلى مناسبة إلى درجة كبيرة. فلست صدقاً أكترث لمن لا يكترث لي. قد أحزن إذا لم تدعني أختي مثلاً إلى مناسبة في منزلها، لكن أن لا تدعوني أمر أستبعده، لهذا قد أحزن. لكن خلافاً لأخواتي، لا أظن أني قد أغضب إذا لم أدع إلى مناسبة أحد الأقارب، ولن أشعر بالإهانة، لأني صدقاً لا أهتم بعدم تذكرهم لي أو عدم رغبتهم بحضوري، إني أقدر الدعوة حينما تأتي، وأقدر تفكير صاحبها بي، لكن إذا لم تأتي، لماذا أهتم؟. يتصور البعض بأنهم بعدم توجيههم الدعوة أنهم يوجهون إهانة بدلاً عنها، لكن، هذا ما تزينه لهم عقولهم الصغيرة فقط.
مر وقت طويل على حادثة وحيدة اتخذت حيال عدم دعوتي موقفاً فيها، وذلك حينما فتحت الباب لأحد الأقارب، وطلب مني أن أنقل دعوته إلى زواج أخته إلى اخويّ القيمين بالمنزل بالإسم، دون أن يدعوني رغم أني من فتح الباب. ليس بوسعي الآن أن أقول إلا أن ذلك كان سوء تدبير منه، لكني لم أتخيل سوء نية حتى في ذلك الحين، مع ذلك لم أتقبل أن يتم إغفالي مع ذكر شقيقين بنفس حالتي الاجتماعية فقط، فلو كانت الدعوة موجهة لنا جميعًا بدون تسمية، أو وجهت إلى والدي، لكان الأمر مقبولاً بالنسبة لي.
نويت عدم الحضور، مما دعى والدتي إلى إيصال الأمر إلى والد ذلك الرجل، فدعاني. مع ذلك، لم أشأ الذهاب، بتلك الطريقة التي مر بها الأمر لم أشعر بالرغبة بالحضور، ولم أكن راغب بتلقي دعوة مستجداة.
مع ذلك، لم أسلم من لسان أحد أبنائهم، فقد شعر بالإهانة لعدم استجابتي لدعوة والده، ورغم أننا كنا أصدقاء طفولة، إلا أن هذا لم يردعه عن توجيه أسوأ الكلمات الجارحة والمسيئة في مناسبة التقينا بها بمنزل قريب آخر، رغم أني حاولت أن أفهمه بأن عدم حضوري لا يعني عدم التوفيق. لكن، كانت رغبة بالتجريح وجدت متنفساً بالتأكيد، حيث لم يوقفه شيء، ولم يخفف من تصعيده عدم الرد بالمثل. لم أجبه بمثل ما قال، فقط غيرت مكاني، وعزمت على عدم دخول منزلهم منذ ذلك الحين، ربما منذ عشر سنوات. إلا أني تركت استثناء واحد، حينما حل زواجه هو، إذ لم أشأ أن لا أقدر صداقة قديمة، بعد تفكير ورؤية منام بالأمر على ما بدا ذلك الحين ونصيحة شقيقتي، فذهبت إلى منزلهم لحضور زواجه، وقال، وأنا لا أصدقه حتى الآن، بأن حضوري يعني له الكثير.
في واقع الأمر، لم يكن الأمر صعباً، كنت قد كبرت، بينما لا أجد تقديراً في قلبي سوا لوالدة هؤلاء الأقارب، فلا يكون من الحضور إليهم فائدة على أي حال دون وصل من يحب المرء. لم يخلف قربي منهم ذكريات جيدة، لطالما كرهت نظرتهم الفوقية تجاه الآخرين، وحسن ظنهم الزائد بأنفسهم. لا زلت أتذكر حينما رن جرس الباب وقد كنت صغيراً، ففتحته لأجد أحد أبنائهم، وقد كان رجلاً في ذلك الحين، ينظر باشمئزاز عجيب، وبلا حتى قول السلام عليكم رفع صوته بقرف: قل لاخوانك يصلون!!، كان الوقت لتوه حل.
ولا أقول بأن أحداً منهم لم يحاول التلطف تجاهي، إنه نفس ذلك الرجل الذي دعا أخويّ ونسيني. لكن، بعد مرور هذه السنوات التي مرت وكأنما شيء لم يكن، لا يدري المرء ما الجدوى.
إني أعرف حق المعرفة أن ما يتخذه المرء من مواقف أمر قد لا يغير أي شيء، فحياة الناس لا تتمحور حوله. لكن، ما يهمني هو تقديري لنفسي قبل تقدير الآخرين لي. لا نملك تجاه الآخرين سوا حسن اللقاء والوداع وصفاء النية، ولا حيلة لنا تجاه نواياهم ورؤيتهم لنا، أو تفاهة ما نقوم به أو نتخذ من مواقف في نظرهم مهما كان وكانت، إلا أن هذا غير مهم، فما يهم هو أن يقدر المرء نفسه، ويعطيها ما تستحق من احترام وكرامة بغض النظر عن ما يعتقده الناس، حتى لو كان لا يمثل شيئاً لدى الآخرين، فليس رأي الكل مهم.
أعتقد أن هذه الرؤية أفادتني كثيراً على مستوى راحة البال. وربما بدأ البعض يفهمني على هذا النحو، فلا يعطي نفسه قيمة ليست له، ولا يتوقع مني أكثر من الممكن والمعقول.
حدث أمر أفرحني قبل فترة. كان وقت العمل قد انتهى، فخرجت مشياً باتجاه المستشفى الجامعي، القريب من عملي، لأرتب بعض المواعيد وأجلب بعض الأدوية. بعض الطريق يمر إلى جوار الشارع الذي تسير به السيارات الخارجة من مواقف العمل. ورغم رؤية الكثيرين لي عبر الزمن أسير، أقصد الكثيرين ممن أعرف، إلا أن أحداً لم يجاملني لمرة ويعرض توصيلي إلى حيث أقصد ماشياً، سوا قبل فترة، حينما هدأ زميل شاب من سرعته، وسلم باسماً، عارضاً إيصالي في طريقه أو تقريبي. تواصلنا محدود جداً، وبالواقع، صار تواصلي بالكل محدود بالعمل، باستثناء شخص او اثنين حينما يسمح لي الوقت. شكرته ورفضت، لكني كنت في داخلي سعيد جداً بالموقف الطيب. إنه موقف صغير، لكن ليس بنظر شخص يمر دائماً بنفس الطريق، ويُرى من قبل الكثير ممن يعرفونه. الحياة قاسية، ومليئة بالأنانية عادةً.
كنت قد وقعت في ورطة بعد تدوينتي الأخيرة، حينما ألغت قوقل برنامج تعديل الصور الذي أستخدم (منذ قبل شرائها له بكثير)، واستبدلته بآخر خاص بالجوالات اشترته مؤخراً، وهو لا يصلح لصور مدونتي، ولا يعطيني الميزات التي أحتاج.
البرنامج الذي كنت استخدم قديماً اسمه بكنك، وقد دمجته قوقل في بيكاسا، وقللت من مميزاته مع الوقت، إلا أنه ظل وافياً بالغرض رغم امتعاضي.
لكن كما قلت، استبدلته قوقل، ووقعت في معضلة. الصور التي أنشر عن البيرو كبيرة أصلاً، وأفضل تصغير حجمها حتى لا تعيق تحميل الصفحة، والقيام ببعض التصحيحات الطفيفة، وإضافة العلامة المألوفة لي.
اكتشفت بأن بكنك لا زال حياً على نحو غريب، بنفس الشكل وطريقة الاستخدام وحتى الألوان، لكن باسم آخر، وقد تطور مع مرور الزمن كثيراً كذلك. كدت أن أقفز فرحاً حينما اكتشفته، بمساعدة موقع يعمل كدليل للمواقع العاملة بتقنية web2، استخدمه منذ سنوات لإيجاد احتياجاتي.
وبنفس الوقت كان الموقع يقدم عرضاً محدوداً لتلك الفترة، اشتراك مجاني للمسجلين لاستخدام كافة مميزات الموقع، التي تحتاج بالعادة إلى دفع مبلغ. لا أدري إن كان لا يزال العرض سارياً.
لقد صرت أحبط كثيراً من قوقل مؤخراً، ولحسن الحظ تواجد من يملك الحكمة والذكاء لعدم تركها تتحكم بكامل مصير ذلك الموقع الرائع.
ribbet
أنصح به بشدة، فهو بديهي الاستخدام ولا يحتاج إلى خبرة، مع إتاحة مميزات يتخيل المرء بأنها صعابة وتحتاج إلى معرفة بالفوتوشوب، كتمويه أجزاء من الصور، أو تصغير حجمها، وإضافة مؤثرات أخرى كثيرة جداً.
ذهبت إلى آراميكس قبل أيام لاستلام طرد، وبعدما اخذت رقم الانتظار رنت شاشة بدوري فوق أحد المكاتب. هناك، قال لي الموظف بأن أذهب إلى المكتب الآخر، وأخبره بأن رقمي وصل هناك. لدى الموظف الآخر، وهو سعودي شاب أراه هناك دائماً، تواجد شخص ينهي اجراء استلامه لطرد. طال الأمر، حتى حينما ذهبت وقفت أمامه وشرحت له الأمر. قال ببساطة: خذ رقم ثاني. عدت إلى الموظف الأول، وتدخل الموظف الجالس إلى جانبه، وطلب طردي من المستودع، وأخبرني أن أنتظر نداء اسمي. ناداني نفس الشاب السعودي، وأخبرته بأني كان معي رقم منذ البداية، وكنت قد انتظرت بالفعل، فما كان عليه أن يعيدني لآخذ رقم آخر. قال: وش يدريني أنا؟ هذا طردك مع السلامة!. ماذا بوسع المرء أن يقول أمام هذه الأشكال؟ إنها سبب سمعتنا السيئة للأسف في القطاع الخاص. سألت موظف آخر عن مدير، فلم أرد افتعال مشكلة وجذب الانتباه على نحو مسرحي أراه كثيراً، وقيل لي أن أدخل إلى خدمة العملاء، وكنت بالفعل في فرعهم الرئيسي في طريق الملك عبدالعزيز شمالاً. في خدمة العملاء، قال الموظف أنه يفضل أن أتقدم بشكوى عبر موقعهم، لتكون موثقة، لأنه لو سجل لي شكوى ورقية فقد تضيع أو تتعرض للإهمال. بالواقع، لم آتي للسير بالموضوع إلى هذا الحد، كل ما أردته هو لفت الانتباه إلى ذلك الموظف السفيه. حاولت إيضاح الأمر، أن هذا ما يتوقعه المرء من خدمة عملاء. لا فائدة.
سجلت شكوى على موقعهم، قصصت الأمر، وصفت الموظف النحيف ذو النظارة إذ أني لا أعرف اسمه فبطاقته مخفية في جيبه، ولم يبدو أن موظف خدمة العملاء راغب بنطق اسمه.
وصلني الاتصال الذي لا أنتظره صدقاً. لأني أعرف أنه لمجرد أداء العمل، لكنه لن يغير شيء من أسلوب ذلك الموظف، لن يلفت انتباهه، وسيستمر على وقاحته. خدمة العملاء لدينا عادة تقتصر على خداعهم.
أراد الموظف أن يسمع القصة، لكن لم يكن لدي استعداد للإعادة، قلت فقط بأني أوضحت كل شيء بالرسالة، وأن موقف موظفهم خاطئ. إنهم يتخيلون أن العميل يريد تنفيساً بالضرورة، ويصدق توقعهم على ما أعتقد في معظم الأحوال، لأن الكثير من الناس يريدون أحد ليزاعقوا في أذنه، ويتخيلون أنهم لقنوا الشركة أو الجهة كلها درساً.
ربما الجهة الوحيدة التي أعتقد أنها تناولت شكواي بجدية كانت مكتبة جرير، حينما اشتريت هدية جوال لأحدهم، وإذا بالشاشة لا تعمل كما يجب. ولما أردت إستبدال الجهاز حاول موظف هندي خداعي، وتواقح علي كثيراً وعلى نحو مذهل، فلم أره بالمكان بعدها. كنت قد أخبرت مدير المعرض، الذي جعلني أسجل ما أقول على ورقة، وتلقيت اتصال بعد فترة، وكنت أظنه اتصال بلا فائدة صدقاً، لكنهم خيبوا ظني، لحسن الحظ.
وضع الصيدلية في مستشفى الملك خالد (الجامعي) أصبح غير معقول. إني آتي قبل الساعة الثامنة صباحاً، ولا أغادر قبل الثانية، وقد تغيبت عن العمل لبضعة أيام مؤخراً لهذا السبب. لم تكن الزيارة للصيدلية سهلة وسريعة من قبل، لكنها لم تكن بهذا السوء أبداً. لا أدري ما العلة بالضبط، ولا لماذا قاموا بتغييرات غريبة. حينما كنت طالباً بالجامعة، كنت آتي لآخذ مكاناً بالصف، وانتظر لأسلم الصيدلي وصفة، ثم أنتظر نداء اسم والدتي حتى استلم الدواء، وكثيراً ما كنت أعطيهم الوصفة وأذهب إلى محاضراتي، وحينما أفرغ أعود إليهم لأستلم الدواء المجهز، رغم غيضهم من هذه الطريقة التي لم يكن بيدي سواها. بعد ذلك، صار الناس بالمقر الجديد غير مضطرين للوقوف، إنما يأخذون رقماً من مكينة، باختيار ما يلائم وصفاتهم، أو وضعهم، إذا كان لديهم أقل من ثلاث وصفات أو أكثر، أو كانوا من منسوبي الجامعة، وكان الخيار الأخير غالباً ما يوفر علي الكثير من الوقت، ويشعرني بفائدة واحدة على الأقل من عملي بالجامعة.لكن منذ فترة، صار على المرء أن يقف في صف، فإذا جاء دوره أظهر وصفاته للصيدلي، ليعطيه الصيدلي رقماً لينتظر مرة أخرى. ربما كان هذا لأخذ الناس لأكثر من رقم أو لأرقام خاطئة. ثم بعد فترة ألغو الأرقام الخاصة بمنسوبي الجامعة. ورغم هذه التغييرات، إلا أن الأمر يزداد سوء في كل مرة. حينما آتي في الصباح، لن أحصل على رقم، إنما علي أن أسجل اسمي على قائمة، وعلى الموجودين أن ينبهوك لوجود هذه القائمة، فالناس الذين وجدت هناك لؤماء، مجموعة من كبار السن، لم يخبروني عنها في أول مرة. يأتي لاحقاً حارس لينادي على الأسماء بالدور، ليأخذ الناس مكاناً بالصف، وحينما يحين دور المرء يعطيه الصيدلي رقماً!. لست أدري بماذا تفيد هذه المسرحية الطويلة. في مدينة الملك فهد، تعطيهم رقم الملف فيعطونك الدواء حسبما أتذكر.
والعاملين بالصيدلية قلة، ولا تفتح كل النوافذ لاستقبال الناس. وفي مرات، يخرج صف الانتظار للحصول على رقم انتظار فقط إلى خارج الصيدلية من فرط الازدحام. هل ازداد عدد المراجعين؟ ربما. هذا جنون، وقد صرت أعرف بأني سأتغيب عن العمل حينما تتواجد وصفة للصرف (لا أصرف فقط لوالدتي، إنما لآخرين كذلك).
لا أعتقد أن هناك من سيتصدى لحل. الصيادلة أساساً يبدو وكأنهم يعملون بدافع انتقامي، ولا أدري كيف يكون هذا، لكن هذا ما يخيل لي من موقفهم من الناس دائماً، وصاروا كذلك مؤخراً لا يمنحون أرقاماً بعد الساعة الواحدة والنصف، رغم انتهاء عملهم في الساعة الرابعة والنصف. إنه أمر محير فعلاً، لكن حال المستشفى كله محير، فهو فاشل ومليء بالأغبياء.
لكن ما أشعرني بالاسف هو نظرة بعض الناس إلى من يخدمهم، حينما لا يكونون راضون عما يقوم به. جاء رجل وافتعل فضيحة بصياحه بالصيدلية وهو يوبخ صيدلي سعودي، بسبب طول صف الانتظار، وكيف أن مرض الناس يزداد هنا. وظل يوبخ ويوبخ ويصيح ويقل أدبه، بينما كان الصيدلي يحاول أن يقول شيئا، ويسأله أن يعطيه فرصة للتحدث ليشرح الحال، لكن كلما حاول الصيدلي كلما انتهز الرجل الفرصة ليهينه أكثر، حتى كف الصيدلي عن المحاولة، دون أن ندري ما العلة. ذلك الرجل كان نموذج لحال شائع بين الناس، الاتجاه لإهانة من يعمل مباشرة، يتخيلون بأن هذا من حقهم كمراجعين، وهي صورة مشوهة مما يسمعونه عن حقوق الناس بالغرب وكيف يتعاملون مع المنشئات. الغريب أن الكثيرين شجعوه، وهم يقولون: كثر الله من أمثالك، ولم يتسائل أحد ماذا أراد الصيدلي أن يقول. وتصرف الرجل وكأنه انتصر، رغم أن صف الانتظار لم يقصر، بل تعطل بسبب متابعة صيدلي الأرقام للمسرحية.
لو كان أحد من الصيادلة قد وجه إهانة إليه لتفهمت الأمر، فهذا قابل للحدوث فعلاً ورأيته كثيراً، لكن لم يقل له أحد أي شيء، ولم يرد الصيدلي بالمثل.
انا أكره هذه الصيدلية لكن لا بد عنها، وبت أكره المستشفى لكن لا بد عنه طالما والدتي تريده، لكن حتى مع ذلك ورغم اضطراري للغياب عن العمل لا أتخيل بأني سأفتعل مثل هذا الموقف.
لا أدري كيف يجمع هذا المستشفى أسوأ الكفاءات، إنه حقاً لأمر لافت للنظر ويحمل سراً، إذ لا بد أن يكون هذا متعمداً ليكون بهذا التنظيم والإخلاص للرداءة. فحينما يأتي طبيب جيد سرعان ما يختفي، وقد كان هناك صيدلي واحد رؤيته تشفي العلة، لحسن أخلاقه ورقة طبعه، كان شاب سوري غاية بالتهذيب واللطف والعملية، رغم أنه بالحقيقة لا يستحق كل المراجعين هذا. أتذكر رجل مسن أساء الفهم حول كمية الدواء، وغضب، وحاول الصيدلي السوري شرح الامر له وتطييب خاطره وهو يناديه : يا عمو. لكن بلا جدوى.
لم يطل المقام بذلك الرجل بالطبع، اختفى فجأة؛ فمن يطيق العمل هناك ومع اؤلائك الناس. فلا زال يوجد صيدلي أردني لم أرى أجلف من طبعه ولا أوقح منه وأنذل، لا بارك الله فيه. حينما يحين يفرغ من خدمة الشخص الذي قبلك في نافذته، ويرى أنك تنتظر، سيغلق النافذة بنظرة حاقدة ويسألك لماذا تنتظر!!. قاتله الله. وهو سوقي كذلك، ولم يكن يهمه ذات مرة لو سمع المراجعين نكته المبتذلة.
أما آخر، سعودي، مسن لا أستبعد بأنه بدأ تعلم المهنة على يدي ابن سينا، ولم ينل شهادته إلا مؤخراً، فهو سقيم الحضور، بطيء البديهة، إذا ما حسب أنه أحسن صنعاً ذلك بمعروفه، وإذا عجز عن أداء عمله ألقى باللوم عليك وأنت الجالس الصامت، من خلف حاجز زجاجي، هذا من الأشخاص الذين يتغلبون على أشد الأعصاب تماسكاً، وقد تسبب على نفسه أكثر من مرة بالتوبيخ والإهانة لرداءة أسلوبه وذوقه. وله زميل سعودي آخر، لضخامته تحمد الله أن ورقة الرقم تدس إليه دساً، حتى لا يحسب يدك شيء يؤكل، فهو من أشرس من رأيت طبعاً، وأحدهم مزاجاً. وقد أساء وأهان رجل ذات مرة بأقسى وأسوأ ما سمعت من إهانات، إلى درجة أني كتبت إلى مدير الجامعة السابق سيء الذكر (ومن منهم يطيب ذكره..) لكن بالطبع، لم يحدث شيء.
كنت قد بدأت دورة باللغة الاسبانية، وقد دفعت قيمة نصفها، حيث توقعت أن حدث معين سيمنعني من إكمالها، لكن ما حدث هو أني لم أكملها لأني لم أشعر بأني سأستفيد. المعلمة ليست جيدة فقط، إنما ممتازة وبارعة جداً في إيصال المعلومة والحس اللغوي. لكن إلى جانب اكتشافي أن حصتين في الاسبوع لا تكفيان، وجدت أني خلالهما لا أتمكن من الاستفادة بسبب زميل كبير بالسن له طبع مؤسف. هو طبيب مصري، ويبدو أنه متواضع الاطلاع كثيراً. يتصرف وكأنه الطالب الوحيد بالدورة، لا يترك المعلمة تقرأ دون أن يقرأ معها بصوت أعلى، ولا يتركها تمضي بالدرس دون مقاطعات سخيفة على أدق التفاصيل، ورغم عدم معرفته باللغة الاسبانية بتاتاً إلا أنه بسوء فهمه يحاول أن يحرجها على نحو غير مفهوم وبإصرار. لا يمكنك أن تمضي بمتابعة الدرس دون الخروج يمينا ويساراً عنه. ومحاولاته لإيجاد التشابهات مع اللغة العربية، وربما تعليم المعلمة، تتلف أعصابي على نحو يجعلني أعتقد بأنها آخر محاضرة لي معهم.
ورغم تجربتي السابقة بدخول دورة عن ريادة الأعمال لمدة شهر، إلا أني أشعر بأني لتوي أكتشف بوضوح أن نوعية الطلاب جزء جوهري جداً من المحصلة النهائية للتعليم. إذ أنه كان هناك مجموعة سخيفة وصبيانية من الطلاب في تلك الدورة القديمة، وقد كتبت في استبيان الآراء انتقد بلا مواربة كيفية اختيار المتدربين، إلا أنه تواجد عينات في تلك الدورة أكثر جدية حتى من زملائي في دورة اللغة الاسبانية، ممن كانوا أفضل سلوكا من الطبيب المسكين والمتعب.
وجدت أني أصل بإحباط إلى دورة اللغة هذه، إلى حد يدفع المعلمة إلى القلق وتكرار السؤال، فسلوك هذا الطبيب أتلف أعصابي فعلاً (يقول مثلاً، بأنه أخيراً اكتشف سبب قولهم في مصر : يا أستاز، فقد أخذوها عن اسبانيا لقول الناس هناك: اوستيد كإسم اشارة يعني أنت، ولا يدري المرء ما دخل اسبانيا بمصر، ولماذا تغيرت لغة المصريين دوناً عن باقي العرب على هذا النحو). ورغم إشكالي مع الصبيان المشاكسين في دورة ريادة الأعمال في ذلك الشهر، إلا أني لم أحبط عن الحضور والرغبة بالاستفادة، ربما لكوني مع فريق رائع من المتدربين الآخرين، ولرقي المتدربين الآخرين خلافاً لتلك المجموعة الغبية.
عموماً، لا أعتقد أني الوحيد المنسحب، يبدو أن الأغلبية بدأوا بالانسحاب، وأتخيل أن الأسباب مشابهة.
ولا أخفيكم أن لقدراتي دور بالأمر، فلم أعد كما كنت، وصارت المنغصات الصغيرة تسبب اشد الاضطراب في تعلمي للأشياء. ربما للعمر دور، خصوصاً بمرور العمر وعقلي راكد عن التعلم الجاد، حتى أسن جوه وسقم. لقد بت بطيء التعلم ما لم يكن أمر غير مجرد مما أهوى القراءة عنه.
في نهاية رحلتي إلى البيرو، ركبت السيارة في الظهيرة وقد استقبلتني اليزابيث من المطار عائد من الامازون. وبدأت بعفوية أقرأ اللوحات على الطريق، وأتحدث عن تجاربي اللغوية. ذهلت اليزابيث وقالت بأني تعلمت الكثير. ربما لن أتعلم أي لغة أو علم بعد الآن ما لم أنغمس في جوه، وأضطر إليه، والشكوى لله.
يقول زميلي بالعمل، بعدما شكوت من علتي، بأن انشغال البال له دور، وجود الكثير من الاشياء التي يفكر فيها المرء، وحمله للهموم، والهموم هي ما لا ينقصني منه شيء.
رغم كل شيء، تواصلت مع معهم آخر يقدم دورة لغة اسبانية. أرسل إلي شخصين دعايته، لعلمهم باهتمامي باللغة. لكن بعد التواصل، تبين أن الأمر لا يختلف كثيراً من حيث ما أشكل علي، مرتين بالاسبوع وساعتين في المرة. ربما لا يجدي في أمري سوا السفر لتعلم اللغة. كم أتمنى لو تركت في كوزكو لتعلم اللغة هناك لفترة، كما يفعل الكثير من الأجانب كما فهمت من كارلا.
قبل فترة، دخلت في مقهى تحدثت عنه هنا، اسمه وقت القهوة. في مقدمة المقهى، يوجد صور لمالكي ومؤسسي المقهى، أحدهم شاب يفتعل تعبير مجنون على وجهه بالصورة. رأيت الرجل نفسه في المقهى يمازح بعض أصدقاءه على ما يبدو، وهو رجل جسيم وضخم. حينما لمحني بدت عليه صدمة، ثم انزعاج، ولم يحاول أن يخفيه. إنها أول مرة أراه فيها في حياتي. لم أشغل نفسي بالبداية، جلست، ثم لاحظت بأنه يحملق بي، وحينما ألتفت إليه يكشر ويصد، بعد أن يتأكد بأني لاحظت، وكرر هذا حتى غادرت. كان سلوك غريب. لاحقاً، عرفت بأنه معروف جداً على برنامج الكيك. أفكر الآن، هل شبه علي؟ ظنني أحد آخر؟. أتخيل الآن بأني أنا المشهور حينما أتذكر ذلك اليوم، وكأنه لديه موقف من شهرتي، رغم أن العكس هو الصحيح، وأنا لا أعرف شيء عما يقدم صدقاً، فلست أستخدم الكيك، ولم أرى للرجل إلا لقطتين لثواني على اليوتيوب.
مررت اليوم بموقف سيء. كنت في كلية الآداب لصلاة الظهر، وكانت جماعة كبيرة في المصلى قد فرغت للتو من الصلاة، وقد تجمع عدد جيد ممن فاتتهم تلك الجماعة. اقترح دكتور أجنبي، لعله اردني، أن نذهب للصلاة في مقدمة المصلى، وهذا اقتراح جيد، حتى يجد الناس أماكن حينما يأتون متأخرين، وحتى لا نسد المخارج والمداخل. كان بيننا شاب ضرير ملتحٍ، ومعه رجل أجنبي يساعده، لم أكن أعلم ما جنسيته. مضيت مع المجموعة وصلينا في مقدمة المصلى، وحينما فرغنا وأردت الخروج صُدمت بأن الرجل الضرير يصلي بجماعة أخرى في منتصف المصلى، بالتزامن مع جماعتنا. وهذا أمر لا يجوز، ولا داعي له بالأساس، لأننا ذهبنا كمجموعة كان هو ومرافقه ضمنها للصلاة بالمقدمة. لاحظ رجل سعودي مسن، دكتور على ما يبدو، دهشتي، إذ شخصت في مكاني، وجاء إلي يقول بأنهم أقاموا جماعة ثانية بسبب الرجل الأجنبي الذي يساعد الضرير، وأنه يجب نصحهم وإيضاح خطأهم، ومضى. كان هذا الأجنبي ينظر تجاهنا ونحن نتكلم، بينما هو يصلي. وحينما وقفت للانتظار بدأ يسدد تجاهي نظرات بدت عدوانية. سلم إمامهم الضرير وأدار جلسته إلى الجماعة، فذهبت إليه وجلست إلى جانبه وسلمت. أخبرته بهدوء بأنهم بدأوا بجماعة بينما نحن نصلي، ففوجئت به يرفع صوته ويقول بأنهم بدأوا أولاً وماذا يفعلون؟!، فوجئت وشعرت بإحراج بالغ بسبب رفعه صوته فكان ما قلته هو مجرد ملاحظة. قال الأجنبي المرافق له بأنهم بدأوا أولاً. قلت بأن هذا غير صحيح، وبالواقع كانوا معنا حينما اقترح الدكتور بأن نذهب للصلاة في مقدمة المصلى. فقال شاب صغير من الجماعة بأنه يعتقد بأنهم بدأوا الصلاة قبلنا. إني واثق بأن هذا غير صحيح، وإن صح فهو غير سليم لأن الجماعة كلها عزمت ومضت كمجموعة إلى مقدمة المصلى. فوجئت برجل سعودي مسن لاحظت مراقبته للموقف منذ البداية، دكتور كذلك، يأتي ليقف إلى جانب الإمام الضرير ويقول بأن كلامهم غير سليم، وأنه راقب الأمر منذ البداية، لعله كان يتسنن، وأن هذا الرجل، يقصد معاون الضرير، أصر على الشاب الضرير أن يبقى ويؤمه لوحده بالبداية وخدعه، وقد صف إلى جانبه هو وهو يصلي دون أن يوفر ساتراً للإمام. كان الدكتور هذا محتقناً وغاضباً وهو يحكي. وأضاف بأنه لا عتب على الإمام لأنه ضرير لا يرى ولم يدري عن توجه الجماعة بالفعل إلى مكان آخر، ثم وجه كلامه إلى الإمام وقال: لكن معاونك خدعك وغشك، وهو غير أمين أو شيء من هذا القبيل، وقد تسبب بمخالفة خطيرة على هذا النحو حينما تسبب بوجود جماعتين في نفس الوقت، واستمر بالتحدث بالأمر، فمضيت قبل أن يفرغ من كلامه، إذ لم يكن لوجودي فائدة. لكنه مضى بعدي سريعاً، ثم رأيت وأنا ألبس حذائي الرجل الضرير يبتسم بطريقة غريبة جداً أشعرتني بالقلق عليه فتوقفت لأرى إذا ما كان علي أن أعود إليه وأساعده بشيء، لكن جاء دكتور سعودي آخر إلى الشاب، ووجه سؤالاً إليه، وإلى معاونه، ربما عن حال الشاب، إذ أنه شعر بالقلق كذلك كما بدا من وجهه.
فوجئت حينما مشيت قليلاً بعودة ذلك الدكتور المسن واستيقافه لي، وقوله لي بأنه يعرف الإمام، وأنه أحد طلابه وهو رجل مستقيم ومميز ومجتهد، لكن المصري الذي معه "حمار"، وهو يجرجره في كل مكان بطريقة غير لائقة ويتحكم به بأسلوب خطير. لعله أراد مني أن أحسن الظن بالإمام لأنه رفع صوته علي بلا سبب كما رأى، ولكني كنت مضطرب الفكر صدقاً بسبب قلقي على الشاب وتغير وجهه. قلت بأني قلق على الرجل، وأنه يبدو أن الموقف كان كثيراً عليه. في تلك اللحظة حضر الدكتور الآخر، الذي اطمئن منذ لحظة على الشاب، وسمع قلقي، وقال بأنه ليس علي أن أقلق، وأنه تأكد أن الشاب لا يعاني من شيء (يبدو أن هذا تخصصه من أسلوبه بالكلام)، وأنه يعبر بوجهه هكذا لأنه ضرير فقط. ثم تناقشوا حول أمر الجماعتين، ولكونها أمر سيء وخطير. ولكن الدكتور الأول عاد بمرارة ليتحدث عن مرافق الضرير، ويبدي غضبه منه، مع تعبيره عن تقديره للشاب لمعرفته به كطالب عاقل وذكي. تكلمت مرة أخرى عن قلقي على الشاب، وعلى قدرة المرافق على مساعدته إذا ما كان الآن في وضع سيء، لكن عاد الدكتور الآخر وطمئنني بأنه واثق أنه بخير وأنه يعرف هذا، ويعرف الشاب وهو رجل عاقل وعلى ما يرام، وأن تغير وجهه كان تعبير يبدر عن شخص ضرير على نحو متوقع. شكرني الرجلين، ومضوا معاً يتناقشون بالأمر. لا أستبعد أنهم، إن كانوا حقاً يهتمون، سيتحركون بشكل ما للفت ذوي الشاب إلى مشكلة المرافق، فيبدو أن ملاحظات ذلك الدكتور عليه كثيرة. وبالواقع، كان له طبع على جانب من الاندفاع، رغم اعتقادي بأن مسألة بداية جماعة ثانية كانت جهلاً وحمقاً أكثر من كونه سوء نية.
أفكر منذ فترة طويلة باستعدادنا الغريب للعنف وفرض الذات، فهذا من الأشياء التي تشغل بالي وتصيبني بالإحباط من الحياة في مجتمعي هذا. لا غرابة في رؤية شخصين يتضاربان بالشارع بسبب أخذ أحدهم لمسار الآخر بالسيارة، وهم لأول مرة يلتقون، ولا غرابة لتطور نقاش لشخصين في مطعم حول رفع الصوت مثلاً إلى تدافع ومضاربة. الكل يريد أن يؤذي الآخرين بأسوأ طريقة. كنت أسير في شارع خريص على الرصيف قبل فترة، ذاهباً إلى صراف آلي من محل على نفس الشارع، وكنت أراقب الإزدحام الخانق للسيارات. أراد شاب أن يخرج بسيارته إلى مسار مجاور، بينما من كان أمامه لم يتقدم ليعطيه الفرصة، وبدا أنه لم يعلم عن نوايا الشاب، الذي أخرج رأسه من النافذة يصيح، فلما فهم من أمامه ماذا يريد تقدم قليلاً ليعطيه الفرصة. ولما مر الشاب إلى جواره توقف وفتح النافذة، وتلاسن معه، وبصق عليه، وربما رد الآخر كذلك. مضى الشاب حتى وصل إلى محطة، بعد ربما خمس دقائق، وأوقف السيارة، ونزل ليقف على جانب الشارع منتظراً السائق الآخر. أوقفه، وأدخل يديه عليه بالسيارة، وأخذ بتلابيبه، بينما بدا الخوف الشديد على ذلك الرجل الذي يكبره بالسن بكثير، وضربه ونفضه، وحاول إخراجه من السيارة، ثم مضى إلى سيارته يشتم ويلعن، حدث هذا بسرعة كبيرة. ولم يكن هناك فائدة من إبلاغ سائق تلك السيارة لرجل المرور الذي يقف في مكان غير بعيد، فلم أره يبحث عن الشاب أو يهتم.
وفي فيديو انتشر قبل فترة، في بداية الإطاحة بحاكم مصر السابق مرسي، وقفت مجموعة مصريين في خطبة صلاة الجمعة، في الرياض على ما يبدو، معترضين على دعوات الإمام التي صبها على من ناصر الإطاحة، وكانوا يقولون ماذا فعلوا لك؟ يقصدون لتدعوا عليهم هكذا. كانوا فقط يسألون باعتراض، لكن بدأ بعض الناس، سعوديين، بدفعهم بعنف، بدون مقدمات، أو أي إحساس، وبعضهم حتى استل عقاله ليضرب به. لا يمكنني وصف الحزن الذي شعرت به، والإحباط. لماذا؟ لماذا اللجوء لأسوأ طريقة بالتعاطي مع الناس؟، لماذا اللجوء للقوة مباشرة، وبدون مبرر؟.
إني أتفهم تطور الموقف إلى الاشتباك بين اثنين على معرفة، فربما كان هناك تراكمات، وما أخطر التراكمات، وكانت كلمة قيلت أو إشارة اُفتعلت هي ما قصم ظهر البعير. هذا أمر جائز ويحدث في كل مكان. لكن ما يجري هنا هو أن الحل دائما يتجه إلى التهديد بالضرب أو الضرب مباشرة، إلى درجة أن الأجانب باتوا يتوقعون هذا في أي مشكلة، وحينما لا يكون، فإنهم يبدون استعداداً مباشراً للحوار وتصحيح الإشكال، وكأنما هم شاكرين على معروف.
إنه لأمر أكثر من مؤسف، إنه ليس مجرد خلل في صورة كاملة؛ إنها صورة مختلة بالكامل.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لن تتأخر بإذن الله التدوينة القادمة كهذه، ما لم يعترضني عارض. حيث أني بدأت بكتابتها بالفعل منذ فترة. والأمور أصبحت أسهل، أو هكذا أتمنى، بعد فترة من الانشغال واضطراب البال.
لذا، أرجو أن كانت هذه التدوينة ممتعة، وأن تترقبوا التدوينة القادمة، إن كان لديكم اهتمام برحلتي التي أقص.
سعد الحوشان