‏إظهار الرسائل ذات التسميات "قصيدة"". إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات "قصيدة"". إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 17 أبريل 2019

عُمرٌ في حلم (المعتاد،قصة قصيرة،قصائد)


بسم الله الرحمن الرحيم











الهشاشة، مفهوم واسع ومتشكل، إلا أننا نلقيه بلا تفكير لوصف المواقف على نحو بسيط، صابغينها ببعد واحد. يجد المرء نفسه هشاً على نحو مفاجئ، وعلى مستوى جديد، وذلك لسوء حظ واجهه، فيدرك بُعد الهشاشة وخطورتها. إنها قعر عميق، قد يحاول بعض العرب انتشالك منه في تلك اللحظات. بيد أنك لا تدري؛ بماذا يفكرون؟، في هذا المجتمع القائم على القوة والتماسك والإيمان الراسخ، ورباطة الجأش. لم أخجل يوماً من هشاشتي ودموعي، مع ذلك، وجدت نفسي قبل فترة في مواجهة المجتمع مباشرة، في عرض حي لمدى هشاشتي وضعفي. لا يخجلني هذا، لكن مع ذلك، يزيدني هشاشة؛ لأني اكتشفت بأني بعيد عهد بالمجتمع، والآن أصنع عن نفسي صورة قد لا يحب المجتمع رؤيتها في شخص مثلي.






أتجمع في زاوية من نفسي…
كمنبوذ مُلوَّع…
أتذكر جفاف عينيك…
وقلبي يتألم إذ يمسح عليها الطبيب ليتأكد من وفاتك…
كان أملي حياً قبل تلك اللحظة…
يتألم قلبي إذ لم أدرك، في أي لحظة فارقت الحياة؟…
هل آذيتك بضغطي المحموم المُروَّع على صدرك؟…
هل كسرت شيء من أضلاعك وأنا أريد لك الحياة؟...
هل كان الألم آخر لحظاتك؟…
هل سأعيش متسائلاً...
تلك اللحظات، إذ لم أفهم المكينة وهي تقول لا حاجة للمحاولة…
إذ رجوت أنها تقول بأنك حي...
صدمتي وأنا أحاول التماسك…
صياح أخي الذي لم أسمعه منه قبلاً…
ركضي سريعاً إذ فطنت لأمي...
من حضن الخادمة الباكية أخذتها…
وتحاضنّا ننتحب ونبكي…
تعزيني تارة، وتارة تسألني…
هو راح؟…
خلاص راح؟…
لازمت أمي…
قالت من لي الآن؟…
قلت أنا لك،، أنا لك…
قالت لي الله…
حتى لم أعد أرى، من حضن صبي إلى حضن آخر…
قبلة مواساة من أخ لا يُقبل…
مواساة من كنة لا تدري من تترك…
ومن تواسي...
مهدئين من روعي…
حتى جاء عمي…
إذ وقفت واحتضنته وبكينا…
لم يعد لك شقيق الآن…
ظللت اتردد باكياً، أقبل وجهك... 
فأشفق وأعود...

قبلناك بعدما غسلوك...
عجزت عن الوداع...
أعود وأقبلك...
ما أبرد الموت... 
ما أقساه...
إذ سد الطريق من خلفك...
وما أرحمه... 
كفاك المعاناة...
وأراحك...
حياة طويلة...
ما بين شقاء وجوع... 
وجفاف...
وتعب وقسوة ووحشة... 
عملت من عمر الرابعة... 
ولم تسترح حتى أجبرت...
لم أفهمك سوى متأخراً من عمري...
لماذا الشقاء؟... 
عَوَضك الجنة... 
فإن لم تكن لمثلك فلمن... 
لزمت المسجد والمصحف...
وعطاء المساكين...
وبر خالك المسن...
وعانيت منذ نعومة أظفارك... 
لم تعش حنان أمك... 
ووالدك الضرير المُعنى ليس معه بعد الله غيرك...
رحمكم الله جميعاً... 

حسبتني تماسكت…
إذ ذهبت إلى المسجد...
قلبي يعتصر ألماً وخوفاً...
اختبأت عند عمي... 
ورفضت أوامره بأخذ العزاء...
لم يُدرك غريزتي...
إذ فجأة ارتددت طفلاً...

ذهبنا إلى المقبرة...
ولا زلت أحسب نفسي مؤمناً قوياً...
حتى همس بأذني أحدهم...
أن اصبر واحتسب... 
وكأنما لتوي علمت... 
أنك توفيت...
زاغ بصري...
وراعني حملهم لك...
هل حقاً مات؟... 
عجزت عن الوقوف... 
نمّل أخمص قدماي... 
صعوداً حتى خصري... 
ظننت بأني شللت...
لم أعد أشعر بأسفل جسدي...

عَطَف من عَطَف... 
وقسى وأشار مزدرياً...
ونادى ربعه وكأنه عيد...
ولم يكن والده بخير منه...
ما كدنا نصل منزلنا...
فيسخر إذ يرشف الشاي أمامي...
مبالغاً بلا مبالاته لقهري...
إذ التقت عينينا...
هل فقيدنا واحد؟...

أخطو الهوينا…
واسحب الباب بهدوء…
أخشى إزعاجك...
وكأنما لا زلت نائماً في مكانك…
أنسى وفاتك…
فأقف عند الباب قبل الخروج مصدوماً…
وقد مر نصف عام على غيابك...

يفرغ من الدم قلبي...
إذ اتذكرك باليوم مئة مرة…
وأدرك أنك غادرت وأُقفل الباب...
أنا لك يا أمي...
ولنا الله...









سر لا أخفيه حينما يرد ما يذكرني به، ولعلي كشفته ذات مرة هنا، ويجده الناس طريفاً دائماً، لكنه بالواقع لا يستحضر في ذهني سوى ذكريات بائسة، وخيبات أمل، وإن ابتسمت وأنا أحكي عنه، إلا أني في داخلي أشعر بالإنطفاء. إن أذني تتحرك من تلقاء ذاتها حينما أفاجأ بصوت مميز، أتوق إلى سماعه، خصوصاً حينما التقطه من بين أصوات كثيرة، كما حينما أكون في زحام، ولكن حتى عند الهدوء، حينما يكون بعيد عن ذهني، وتوقعاتي. في واقع الأمر، لم يحدث هذا من فترة طويلة الآن، لأني توقفت عن التوق، وتعبت من الركض، والتحفز، كي أسبق الصوت، أسبق المفاجأة، التي لا تأتي، إلا اللهم إذ ترافقها خيبة أمل.

كم سارعتُ الخطى...
محفزاً حسّي…
أسبح بين أصوات شتى…
أسير عازماً في قلبي…
على إحياء أمل لعله تُوفى…
عن صوتك أبحث مأزوماً...
تتسارع أنفاسي...
أناديك في نفسي...
أيأس وأعود أدراجي...
في كل مرة مهزوماً...

مر العمر…
وتباطأت الخطى...
واستمرأتُ اليأس...
حتى إذا سمعت صوتك…
لم يُحرك راكد في الهوى…
لا يرف له صِوان أذني...
وأُعرض عما كان من مُنى...
قد يموت المرء…
وأجل النفس بعد ما وَفى…

إن لم يجمعنا لقاء...
قد تلتقي خطانا…
وإن صادَفتَ وريقة قتلها الشتاء…
فتذكر أن هذا قد يكون أنا...
فأحسن وارفق إن تشاء…
وإن لم ترفعها إكراماً لنا...
فذرها للذرى...
يأخذها حيث شاء...











رحلة قصيرة إلى القصيم، لم أحقق فيها أي مما خططت له. كنت أرغب بزيارة قريبين خصوصاً، أحدهما لأول مرة. لكن بما أن الرحلة جائت بلا استعداد كافٍ، لم أكن مستعداً بشكل جيد للقيام بزيارة لائقة. مع ذلك، خرجت بفوائد معقولة. زرت قريب مهم، وقضيت وقت طيب مع ابناء أختي. لكن ما قمت به لأجل نفسي كان النوم بالواقع؛ النوم الجيد هو ما ينقصني صدقاً، نوم طويل غير متقطع بالمسؤوليات، لهذا كانت الرحلة ناجحة على المستوى الشخصي رغم كل شيء، لقد نلت قسط جيد من الراحة. لم يوقظني من النوم سوى الشعور بالذنب فقط.
لم تخلو الزيارة من منغصات للأسف؛ مرضت والدتي مرة أخرى في القصيم على نحو مفاجئ، واضطررنا لزيارة الإسعاف، مرة أخرى. يصعب أن تستمتع والدتي بأي شيء، لكني أرجو من الله لها المثوبة.


كانت آثار المطر جيدة هناك، وقد استمتعت برحلة قصيرة مع زوج أختي أيما استمتاع. يوجد بحيرة تتشكل من السيول لفترة، تقع في واد في المدينة، اسم البحيرة المصيّة. وهي مكان معروف قديماً، حيث يأتي الأمراء في المنطقة بخيولهم الأصيلة لترعى على ضفافها حسبما سمعت، قبل أن تتبخر أو تشربها الأرض بالطبع. كان منظرها من علو ساحراً، وصادف نظرنا إليها تواجد أنعام ترعى في الأسفل، ماعز عارضي جميل، وهي فصيلة نجدية، مثل الخرفان النجدية، ولها شعبية لدى المربين عبر الخليج كله تقريباً، وتقام لها المنافسات. تتميز بالسواد والصوف المسترسل مثل الخروف النجدي، سوى أنها تامّة السواد، بينما الخرفان بيضاء الوجه، وهي بيضاء الوجه في نفسي كذلك، فأنا أحب الخرفان النجدية، ولها قيمة عاطفية لدي لسبب ما، وأتمنى لو كان لدي بضع منها، رغم انعدام خبرتي بتربيتها.
الصورة في بداية التدوينة التقطتها من مرتفع يطل على البحيرة، والماعز بالقرب، ترونه بقعة سوداء مستطيلة، والعامل الذي يتابعها على مسافة يساراً.

وبذكر الأنعام أعلاه، توصلت إلى درجة من التصالح مع شعوري تجاه الإبل. في واقع الأمر، لا أحب هذا الحيوان على وجه العموم، وقد كرهته لفترة طويلة، لكني وجدت بأني علي أن أقدر قيمته الثقافية والتاريخية لدينا، وأتفهم حب الآخرين له أكثر، وأحاول أن أرى الجمال فيه في بعض الصور، ربما من بعيد، وبالصور فقط. صورة أعجبتني جداً على وجه الخصوص، من جريدة الرياض:




كانت المدينة خالية بشكل عام إلا من أهلها، حيث أن الوقت لم يكن إجازة، ولم أشاهد سيارات كويتية كالعادة في الإجازات.

ربما ما افتقدته هو زيارتي إلى عنيزة. لقد نسيت كذلك أن آتي بكليجا من امرأة تصنعها، أوصاني عليها قبل فترة رجل تذوقها وأعجبته حينما أحضرتها للمكتب. كان بعض الزملاء يتذوقونها وينظرون إلي من مسافة شبه ضاحكين. لا زالت الكليجا والقصيمي نكتة، ولا يضيرني الأمر طبعاً، إنما استلطفته منهم. لكن ما لا أستلطفه هو السخرية سيئة النية والإزدراء، وهو كثير، وساهم موقفي من هذا بتشكيل شخصيتي وموقفي من الآخرين. أعرف شخص يقدرني كثيراً، أو هكذا يبدو، لكنه ممزق لكوني من القصيم.


















قصة قصيرة (تنتهي عند الخط الأحمر):





"عُمْرٌ في حلم"

فتحت عيناي في مكان لا أعرفه، كنت مستلقٍ على ظهري، في فراش من حجارة كبيرة صقيلة، وُضعَت بعناية لرفع منكبيَّ وخفض جذعي، فرفع ساقيّ وقدميّ عن الأرض كعلو أكتافي، في حين تركت يداي خارج هذا التشكيل الغريب بلا مبالاة. وجدتني في ظلال نخلة، في حديقة نخيل رطبة باردة. رأيت قدمي اليسرى أرفع من اليمنى قليلاً على حجر أمامي، شاخصة كإحدى صخور الرجاجيل في الشمال، وكأنما كانت العضو الوحيد المستيقظ من جسمي منذ وقت لا أعلمه. على إبهامها وقف بلبل تام البياض على نحو غريب، لم أرى مثله من قبل، لكني لم أستغرب مع ذلك، وكأنما عشت في ذلك المكان وخبرت هذا الطير طوال حياتي. كانت عيناه حمراوان شفافتان، كماء خالطه مثله من الدم، وكان يغرد كشأن تغريد البلابل الجميل. أحب البلابل، بألوانها الرمادية الترابية المنطفئة المتفاوتة، الحائرة ما بين الغمقة والانفتاح على جسم الواحد منها، لعل ألوانها هي ما كانت تلفت انتباهي. لكن هذا، وهو أجملها، لم يكن اختلافه هو مصدر جماله، إنما كان مصدر سحره، كان موحٍ بالهشاشة والضعف الجميل الرقيق، العنفوان الذي لن يلبث أن يذبل.
سحبت نفسي لأتحامل على الوقوف، دون خشية من هربه، إذ كنت أعلم، ولا أدري كيف تأتى لي ذلك، بأنه لن يفارقني، فطار وظللت أسمع تغريده في القرب. تلفتُّ حولي واقفاً، لم أرى حداً واضحاً للحديقة، لم تبدو كبيرة مع ذلك، ولا أدري هل كان هذا لقصور في نظري، أم أن ما هو أبعد مما أرى يفوق استيعابي. لعل قُصر النظر رحمة، أن لا ترى البعيد، تأجيل لخيبة أمل ما، او ظن ما.
كان الزمن شروقاً من اليوم، والشمس ما بين نوم وصحوة. رأيت على مقربة غرفة ملحقة في بيت عتيق مبني بالطين، يغطيه ملاط أبيض مما بدا لي جصاً. كان باب الغرفة جنوباً مما بدا لي، وإن صح حسِّي فأنا أقف شرقاً عنها. مشيت تجاهها بلا توازن، وكانت ساقاي على جانب من الضعف، شعرت بأني لم أمش منذ زمن بعيد، وكان البلبل الأبيض يتخطف دربي كل فينة وأخرى. شعرت بالنسيم البارد يداعب أسفل رقبتي حيث تكثفت الرطوبة، وبطني، من أسفل الرداء الكتاني الأبيض الفضفاض الذي بالكاد يغطي سرتي، بينما التصق سروالي من ذات القماش بفخذي من الأمام لرطوبة المكان واتجاه الهواء. تحاملت على ضعف ساقاي وسرت، وكلما تقدمت شعرت بأني أكثر نشاطاً، وأكثر لهفة. لكني شعرت كذلك بشكل ما أن النخيل من حولي لم يعد بذات الحجم الكبير الذي عرفته في البداية، وبدا العشب في الأرض أبعد مما هو عليه. لم يكن من فارق يذكر، لكنه كان فارق يزداد كلما تقدمت، حتى استقر على حجم بدا مألوفاً. توقفت مُفاجئاً، إذ رأيت ضوء أصفر يشع من باب الغرفة الملحقة، ثم يخفت داخلاً. أردت رؤية مصدر هذا الضوء، وودت لقاء حامله الذي جاء وراح به.
حينما وصلت الحجرة، توجهت لأقف أمام المدخل على مبعدة بسيطة. ونظرت إلى الداخل. لم أرى في الداخل سوى مصباح يشتعل، موضوع على الأرض الخالية من المتاع من حيث أنظر. بدا أن النار الصفراء غريبة، يخالط وهجها الذهبي طيف يظهر لبرهة صغيرة بلون مغاير، تارة كلون الورد الفاتح، وتارة سماوي بارد؛ أُخذت بهذه الألوان الجميلة. بدا أن الحجرة دافئة كذلك. ورغم شعوري بالأمان وراحة البال في حديقتي تلك، إلا أني تلهفت لوعد الدفئ البادي في الداخل. لم أكن قد رأيت الحديقة بأكملها، وكنت راغب بذلك، لم أكن أعرفها، ولكني ظننت أني سأتذكرها حالما أرى المزيد، وكأنها تذكار ينتظر، وسيثب بخفة وهدوء من لحظة طفولة. ترددت طويلاً، وترددت الشمس معي، فلم تبارح مكانها، مع مرور ما بدا أنه ساعات. لم يكن الوقت عموماً مفهوماً لدي تماماً في تلك اللحظات، لكني شعرت بأني لدي ما يكفي ويفيض منه، وكأن الحياة خالدة، خصبة، حبلى، ولود.
لا أدري إن كان البرد هو ما ملأ عيناي بالدمع الخفيف الدافئ. قررت الولوج إلى الحجرة تجاه المصباح. شعرت بأني أجر نفسي جراً مع ذلك، وكأني مجبر، رغم أنها بدت كفرصة لا يجب أن تَضيع، إذ شعرت بأني لو حزت المصباح فسأحوز كل شيء؛ كانت حديقتي تنتظر خلفي، بلبلي ينتظر، كل ما ينقصني هو شيء من الدفئ حينما أريده، دفئ آوي إليه حينما لا أريد أن أنظر إلى أي شيء آخر سوى وهج المصباح الساحر، فآوي إلى دخيلة قلبي، عودة من فسحة الحديقة، حيث طار قلبي وعقلي يرفرف ما بين وريقة وزهيرة، كالفراش.
فوجئت بالبلبل الأبيض يطير من أمامي، برفرفة قوية، ثم يستقر فوق لوح غير متسق يؤطر قمة المدخل. وقفت لأنظر إليه، ثم هممت بالتقدم، إلا أن الطير طار تجاهي سريعاً، ومس وجهي بجناحه. توقفت لبرهة، وقد شعرت بجفول مفاجئ، ليس من الطير، بل من الباب أمامي. لكن المصباح، الوعد، في الداخل، كان يجب أن أدخل لألمسه على الأقل. تقدمت خطوتين فشعرت بالبلبل يتمسك بردائي من الخلف مرفرفاً بعصبية ويصفر، وكأنه يحرس عشاً له. أفلتني سريعاً وابتعد. عزمت على الدخول فمضيت حتى ولجت من الباب، عبر ممر قصير فحجرة المصباح. لم أرى توهجاً في حياتي بهذا الجمال، ولكني لم أجد دفئاً. اقتربت من المصباح لأمسه فسمعت باباً لم أره يصفق من خلفي تجاه المدخل، فاستدرت بفزع تجاهه، وشعرت بتيار هواء سريع متجمد يمرق من بين ساقيّ، ثم انطفأ المصباح، وغرق المكان بالظلمة. أصابني ذعر عظيم، وتسارعت أنفاسي، واستدرت وجلست أحاول أن أتلمس المصباح أمامي على الأرض، ولم أجد غير الملاط القاسي البارد كالصقيع الذي يجمد مياه الآبار والسواقي. راعني هذا، وكأني تعرضت لخداع أفقدني كل شيء ذو قيمة في حياتي. رجعت تجاه الباب وأنا أشهق وأزفر، أتحسس بيداي الممدودتان أمامي، فعبرت الممر، ووصلت المدخل، فلم أجد مدخلاً، كان جداراً مملطاً كالأرض، بارد كالزمهرير مثلها. علا شهيقي وأنا أصيح تجاه الجدار بتقطع: هيه! هيه!. وكأن هناك من أحد خلف الجدار. لم أسمع أي صوت، ولا حتى صدىً لصياحي. عدت متحسساً الجدار وقد اغرورقت عيناي بالدموع، متوتراً أبحث عن أي درب آخر، تلمست جدران الحجرة كاملة، لم يكن من فرجة أو ملمس مختلف، سوى أني وجدت ابريقاً فخارياً وكأساً في كوة، تحسست الإبريق وأدخلت يدي فيه وقد شعرت فجأة بعطش لا يحتمل، فكان جافاً مترباً. جلست على الأرض وزحفت على يديّ وركبتيّ إلى وسط الحجرة حيث كان المصباح. هناك، شعرت بألم وإجهاد في أطرافي، خصوصاً ركبي وأكتافي، واستلقيت إلى جانبي قبل أن أنهار تعباً. تسارعت الأفكار في ذهني، وعيناي اللتان لا تريان شيئاً تزيغان وتتذبذبان بمحجرهن رغم العمى الذي أعيشه، وكأني فقدت بصيرتي من الداخل؛ لماذا دخلت الحجرة؟. انفجرت باكياً كابتاً صوتي، إلا من شهيق عجزت عن السيطرة عليه، وسرعان ما لحقته التأوهات، الندم والندب والمرارة، المرارة التي استدعت صيحات صغيرة مقهورة، القهر الذي قطع نفسي في النهاية حتى لم أستطع أن استعيده، فحسبت بأني ميت لا محالة، حتى شهقت شهقة عظيمة حادة قطّعت رئتاي، وكأني وليد لتوه عرف الهواء، لتوه بدأ الشقاء.
لا أدري كم دام بكائي حتى نمت، وصحوت لأبكي، ونمت، وصحوت لأبكي، حتى جف الدمع، وجف جسمي، ولم أعد قادر على الحركة إلا بالكاد، وكان قلبي يكاد أن يضخ فراغاً، وكأن أنهار دمي العظيمة في جسمي قد استحالت جداول ضعيفة.
لم أنم بعد ذلك؛ بقيت مستيقظاً، يائساً مستسلماً، لم أتمنى الموت ولم أتمنى الحياة، قبلت بوجودي كما هو، مهزوماً، مخدوعاً، وكأنما لم أعرف غير هذا الوجود. تنهدت، تواسيت في مكاني على الأرض الباردة من وقت إلى آخر.
سمعت صريراً، ونفذ نوراً تجاهي. كنت قد نسيت كيف تموضعت في الحجرة؛ كانت قدماي تجاه النور الساطع. لم أتحرك مباشرة، إنما أغمضت عيناي الجافتين، وشيئا فشيئا سخنت عيناي، واغرورقتا بدمع لعله آخر ما بقي في جسمي من ماء.
تحاملت على نفسي، واتكأت على ذراعي رافعاً جسدي، فوجئت بشعري يتموج استجابة، على نحو لم أعهده، وقد وصل إلى منتصف رقبتي طولاً. وقفت بالكاد، ومشيت ببطئ وترنح منحني الظهر، متألماً، كأسير أطلق سراحه بعد احتجاز. 
كانت الشمس تنعس، وقد تموضعت غرباً. غمرني دفئ من الأرض، وقفت لأمتصه بأقدامي، لكني لم أقوى على سحب نفس عميق. كانت أمامي الجادة التي وقفت فيها أتأمل المدخل حائراً، وكانت تمضي وتطول أمامي في ساحة أحاطها النخيل. مشيت متابعاً إياها، فلفت انتباهي منديل أبيض ملطخٌ بالطين، كان كثيفاً غريب التجسيد، سرعان ما أدركت ما هو؛ لم يكن منديلاً، كان بلبلي الذي تركته خلفي، وقد مات، وأحاط به بعض النمل. بذعر همست لا، ولم أكن أقوى على أكثر من الهمس، وهبطت أبعد النمل بيد منتفضة، وأحمله لأنظر إليه. كانت عينيه منفرجتين بخفة، ولم ينل منهما النمل بعد، لكن جسده بدأ يجف. حملته إلى وجهي وبكيت بكاءاً مراً وأنا أضغطه برفق على خدي. لم يكن هناك دموع، وكان هذا أكثر بكائي بؤساً مما عرفت، أعمق ندم جمع كل الندم والملامة. مضيت قابضاً جيفته بيدي، ورأسه يتدلى، حتى وصلت إلى نهاية الجادة، وكان هناك ساقٍ رقراق، فقعدت ووضعت عصفوري، وغطست يديَّ في الماء البارد، ثم شربت حتى رويت، فتوضأت وضوء الصلاة، واسترحت قليلاً أنظر إلى الماء والنخيل؛ ضاع الوقت، لم يتبقى شيء، لن أرى المزيد، لم أرى ما يكفي، لم أرى شيئاً. اغرورقت عيناي بدمعها.
قمت حاملاً الطير، قافلاً تجاه المكان الذي استيقظت فيه أول مرة، ولم يتبقى من الشمس ما يمكن رؤيته، سوى ضوء واهن يكاد أن يزول. كنت أنشق في طريقي، وأبكي بدمعٍ حار، يجري يكاد لا ينقطع على وجهي. حينما وصلت إلى منامي الحجري، استلقيت ببطئ وبرفق، وكل عظامي تئن بألم، ووضعت البلبل الميت على صدري، وأطلقت آهة ندم وخيبة، قبل أن أغمض عيناي بأسى وأعود لنومي هارباً.
ليتها كانت النومة.



_________________________



















يخيل إلى أحياناً بأن كل ما احتاجه للعيش، هو جوار والدتي، والماء الجيد، والكولا، والنوم. ما ينقصني هو النوم بواقع الأمر، حتى بت أتمنى لو واتت الظروف ونمت نوماً متصلاً، أتصور بأنه سيطول حتى أموت عطشاً بلا وعي، لكن بلذة النوم.

من ناحية الكولا، وجدت مؤخراً شكل منه أثار ادماني، وكفاني الذهاب إلى برقر كنق لشربه، وإن كنت قد كفيت عن الذهاب قبل ذلك من فترة طويلة، لكني لم أعد أشتاق إليه كثيراً. هو أقل جودة بالواقع مما في المطعم، لكنه يظل جيداً، من أجود ما تذوقت منه. هو كوكا كولا، لكن الفارق هو أنه مصنوع في الكويت، ولا تبيعه سوى دكاكين معدودة في الحي. أشتري بالطبع القوارير ذات اللترين. لا مقارنة بينه وبين المصنع هنا إطلاقاً. ككل شيء استهلاكي يصنع هنا تقريباً، يلحظ المرء الرخص وضعف الجودة لزيادة هامش الربح؛ من الواضح أن الكولا هنا لا يضاف إليه السائل المركز بشكل كاف، ولا السكر بالكمية المطلوبة، فيكون خفيف الطعم، ولعل جودة المياه المستخدمة ليست عالية كذلك. أما الكويتي، فهو العكس من كل هذا، إنه رائع على نحو لا يوصف. كنت أعالج مشكلة الكولا المصنع هنا بإضافته إلى مشروب كولا غير غازي من شركة محلية، القليل من هذا المشروب إلى كأس كولا، ويصبح ممتازاً جداً، سوى أن هذا المشرب انقطع عن السوق للأسف، يبدو أنه لم يكن من مشتر له غيري، كما يخيل إلي دائماً، فكثيراً ما أحب أشياء غير شعبية، أو نكهات أو فروع غير شعبية من أشياء شعبية. يختلف حتى شكل القارورة بوضوح؛ إذ أن قارورة الكولا الكويتي ذات رأس أنحل وأطول على نحو أنيق ويشبه الشكل التقليدي للقارورة التقليدية أكثر.
دخل الكولا البحريني على الخط، وبنفس الشكل، سوى أنه أقل جودة من الكويتي، وأفضل مما يصنع هنا. وصرت أجده في الأسواق على نحو أكبر؛ أحياناً جنباً إلى جنب مع السعودي، يختلف فقط بشكل العلبة، وكون البحريني معبأ للسوق السعودي على وجه الخصوص.
يقال لي كثيراً بأن أخفف من شرب الكولا، الذي عدت إلى شربه بكميات كبيرة، وإن يكن أقل من السابق. لا أستطيع؛ إنه متعة من متع الحياة السهلة والمتوفرة بالنسبة لي، وهي متع قليلة، أصبحت أقل بكثير من السابق مع الوقت. أعتقد بأن السكر السهل والكثيف فيه هو السبب في إراحة ذهني وتسليتي.
اكتشفت نكهة عجيبة أضفيتها للكولا بالصدفة، وقد يجد البعض الأمر غريباً وربما غير مستساغ، لكنها بالفعل نكهة تغير من طعم الكولا، تزيده عمقاً، وتعطيه أصالة، وكأنه مشروب مختلف سحري، من تقليد قديم. بتوصية من أحد بنات العم، أسقي والدتي كل يوم نقيع اللبان العماني، لبان من نوع خاص ومحدد. يتحول اللبان بعد النقع لفترة إلى كتل بيضاء منتفخة، لا تشبه النسغ الشجري الذي كان عليه. بينما كنت أسكب لأمي بعض الماء، من خلال المشخلة لالتقاط الشوائب، وقعت قطعة لبان فيها رغم حرصي. قررت أن أجربها بدلاً عن إعادتها للماء، لأني بالأساس أكثرت كمية اللبان هذه المرة أكثر من العادة. ظللت أعلكه، وهو فاخر ثمين ذو نكهة قوية رغم النقع، وبعد ذهاب والدتي إلى النوم أخرجت الكولا قبل تشغيل كمبيوتري والجلوس كالعادة، ووضعت قطعة كبيرة ثلجتها من كولا فقد غازه كما أفعل، وبدأت بالشرب، ولم أرغب بإلقاء العلك، ولكني لم أفكر بأن الطعم سيتغير، لم يخطر على بالي رغم أنه أمر منطقي. لكن الغريب هو أن الطعم بالواقع أصبح عجيباً، يمكن وصفه بالألفة، وكأن الكولا لم يعد مشروباً أجنبياً، إنما مشروب عربي، بنكهة مألوفة، كما نألف اللبان والبخور.
كثيراً ما أتمنى لو أمكنني تصنيع الكثير من الأشياء التي أحب وإعطاء الفرصة للناس لتجريبها. تسحرني التجارب التي تعدل بالشيء المستهلك المعروف وتحسنه. قرأت عن كولا في بريطانيا تضاف إليه الحبة السوداء، وقد تفوق بالمقارنات المعمية، أي بشرب نوعين غير معلومين للمجرب والمقارنة بين الطعم، تفوق هذا الكولا على الماركات المعروفة. ورغم ان اخي ذهب إلى بريطانيا، إلا أني لم أوفق بالطلب منه إحضار عينة، كما أفعل حينما يسافر أحد إخوتي واتخذها فرصة. الفكرة أعجبتني بجرأتها.




























جسد كسحابة حلم عميق...
وددت لو أغرق بين حناياه...
أقبله برفق لألا يفيق...
وإذا بعينين ناعستين...
كنجمتين أيقظها غلال الليل الرقيق...
أو كبئر صافٍ زلال...
أُطل سابراً مداه السحيق...
فأدوخ واسقط سقوط الشهيد...
وإذا به ينتشلني كما يُنتشل الغريق...
فأصحو من حلمي المستحيل..
ليتني لا أفيق...





















فيديو من حديقة جميلة في الجامعة. يظهر في الفيديو بلبلين متفرقين وجوز من الهدهد. هي فيديوين بالواقع جمعتهما في واحد. لم أصور وأنا أرى جيداً، وجوالي الأخير هذا أساساً سيء التصوير للأسف، أهم ميزة تهمني بالجوال، لكني استعجلت. عالجت الاهتزازات وثبت التصوير ببرنامج ممتاز من مايكروسوفت على الجوال، يمكنكم رؤية اسمه بالفيديو:






هذا الجوال ممتاز من كل النواحي الأخرى، كحجم وبطارية وشاشة وسعر، معقول جداً كل النواحي، بل رائع، باستثناء الكاميرا. لا أدري لماذا الكاميرا في جوالي السابق موديل 2016 أفضل من هذا، رغم رقي الأرقام ظاهرياً. لهذا أفكر جدياً بشراء جوال جديد، لأني محبط من هذا. ليست عادتي، وقد صرت أخاف أني أكسر الكثير من عاداتي التي أعتبرها جيدة.























أصبحت ألحظ التعبير عن الحب من بعض أطفال الأسرة كثيراً، ليس أنه ازداد أو لم يكن موجوداً، إنما لأني أدركت بأن الحب نعمة قد تزول حتى من أقرب الناس إليك، فما بالك بالبعيد.
قالت ابنة أختي بأنها كتبت عني في واجب، وابنة اخي قالت أنها فعلت مثلها كذلك.
أرى نفسي في أحد الأطفال على نحو غريب، هو ابن اختي واسمه فهد، أشعر بأنه يشبهني حينما كنت صغيراً رغم عدم موافقة الجميع، سوى ما وصلني من قول ابنة عم غالية.
فهد يجلب لي من الهدايا أكثر مما أجلب له، وهو يريد أن نكون إخوة لسبب ما، أكثر من "أصققاء". هو في الصف الثاني الإبتدائي الآن، لكنه ضئيل الحجم صغير الشكل، يحسبه الكثير من الناس في الرابعة أو الخامسة من عمره، كما أنه يجد صعوبة في نطق بعض الحروف والكلمات على نحو سليم. هذا فرق بيني وبينه حينما كنا بنفس العمر، حيث كنت متحدثاً طليقاً منذ عمر مبكر، وأعيد الفضل بهذا بعد الله إلى أمي، فهي متحدثة بليغة بلهجتنا، شاعرة كذلك، ولا تحدث الأطفال وكأنهم أطفالاً، وقد ساعد هذا بعض أبناء أخواتي الذين قضوا وقت معها أطول من سواهم. لكن الإستعداد العقلي كذلك له دوره، بعض الأطفال يطول بهم الأمر حتى يتقنوا الكلام على نحو مقبول، حتى لو عاشوا في نفس ظروف إخوتهم الأبكر تحدثاً.
نتكلم بالهاتف أنا وفهد كثيراً، مع أني لا أفهم الكثير مما يقول في المكالمات حتى الآن، خلافاً للمواجهة حيث أفهمه جيداً. حينما يعتقد بأني لم أجب سؤال أو أفز بمنافسة مع أي من الأطفال الآخرين، سرعان ما يختلق سؤال أو لغز لأفوز فيمتدحني، رغم أنه دائما يفوز حينما تكون المنافسة بيني وبينه بالطبع. على عكسي في ذلك العمر وقبله، فهد لا يجامل عموماً، سواء بوعي أو بعفوية، وهو أمر يتسبب بمواقف مضحكة لكنها لا تعجبني، حيث أحاول تعليمه الذوق.
مع ذلك، يقلقني أنه يشبهني من حيث مستوى الذكاء في نفس العمر على ما أعتقد، مما يجعلني أشفق وأعطف عليه كثيراً. أتمنى أن يصبح أفضل مني بكثير.

لم تكن علاقتنا جيدة على الدوام، حيث أني أميل إلى تفغيص وتقبيل الأطفال وعجنهم وحملهم، وليس الكل يعجبه هذا. هذه طبيعة بي منذ أن كنت أنا نفسي طفلاً؛ لم أكن أحتمل رؤية طفل دون أن أقبله وألاعبه إلا بصعوبة. لذا كنت أنا وأمي دائماً على شقاق بسبب هذا الطبع. عانى بعض الأطفال من الأسرة أكثر من سواهم، لأسباب مختلفة. هناك من يقدر حبي لأطفاله حتى لو انزعج الأطفال، وهناك من لم يرد مني حتى حملهم، متهمين إياي بنقل الجراثيم. من النوع الأول، لن أنسى قول زوجة أخي السابقة العزيزة حينما كنت بالإبتدائية، حينما اعتذرت لتقبيلي المفرط لأطفالها حتى البكاء وبحثي عنهم باستمرار لحملهم واللعب معهم، إذ قالت بأنها تحب من يحب أطفالها. كنت أعلم بأنه ليس الكل مثل أخواتي، يتقبل الأمر بحسن نية، وغيرها قد يأخذ الطفل مني متأففاً حالما أحمله، ولصدمتي وجدت بعض إخواني من أزواجهن يأخذوهم مني كذلك، قبل حتى أن أقبل الطفل. عفت أطفال من يقوم بهذا لفترة، وصرت حذراً تجاه من لحقهم من أشقاء لهم، وللعجب تم استنكار عدم إقبالي على أطفالهم، بل وسؤالي وحثي على ذلك إسوة بأطفال الآخرين. قلت بصريح العبارة ذات مرة بأني عفت أطفالهم لسلوك آبائهم وأمهاتهم معي. لماذا يطلب مني حبهم بعدما كانوا ينتزعون من حضني إنتزاعاً؟.
في النهاية، عرفت أن جزء كبير من حب وغلاء الأطفال من غلاء أهاليهم كما تقول أمي؛ إني أُقبل على الأطفال أكثر حينما أجد الحب والتقدير من أهاليهم، لا شعورياً. ولا يتعارض هذا مع أهمية سلوك الأطفال أنفسهم، فبعض الأطفال صعبي المراس، طويلي الألسن حتى وهم بحجم قطمة الأرز، مثل هؤلاء غالباً ما أتفاداهم خلافاً للسلام الأول ومجاملة أهاليهم بقدر الممكن، إلا في حال كانوا من أبناء أخواتي، فأحاول تعديل سلوكهم.

















افتتح معرض صغير لكلية السياحة والآثار في بهو الجامعة، وهو معرض مبسط جداً لا أدري ما السر خلفه. زرته لأول مرة ووجدت عدد من الدكاترة يتمشون ومعهم مصور يصورهم وهم ينظرون للمعروضات ويتكلمون، شعرت بالقرف وعدت أدراجي، لم يكن بإمكاني عموماً التمعن بالمعروضات وهم أمامي. عدت في يوم آخر، ورأيت على بعض الطاولات كتب كبيرة مطبوعة بالجامعة، وهي تتحدث عن تنقيبات الجامعة ورحلات منسوبيها العلمية في هذا المجال. أُخذت بأحد كتابين، بعدما فتحته ورأيت صوراً من لقايا قرية الفاو. سألت أحد العارضين عند طاولة، كيف يمكنني الحصول على كتاب منها، هل هي موجودة للبيع أو الاستعارة؟. أقترح أن أتصفح الكتاب هناك، فهو غير متاح للتوزيع. لكني قلت بأني أريد أن أشتريه أو استعيره من مكان كمكتبة الجامعة، لأقرأ بالمنزل. اقترح أن أقابل رئيس القسم الدكتور فلان، فهو سيجد لي حلاً، وامتدح هذا الدكتور كثيراً. أخبرني متى سيأتي، وقررت الحضور للتجربة. كنت متوتراً حينما حان الوقت، فالدكاترة يغلب عليهم اللؤم والغرور. لكني فوجئت برجل حيوي عفوي لطيف ومبتسم، متفهم ومهذب بغير افتعال. تكلمت بارتباك إذ لم أتوقع أن يترك الدكاترة الذين اجتمع معهم بحلقة يتكلمون ويأتي إلي مباشرة حينما ناداه أحد الموظفين. أخبرته بما أريد، أن يدلني على مكان يمكنني الحصول به على الكتاب، سواء شراء أو استعارة. طلب مني أن أعرف عن نفسي، وابدى اهتماماً. ثم قال بأنهم لا يعطون الكتاب لأنه غير معد للتوزيع أو البيع، لكن لأني مهتم فأنا أستحق، وأخبر الموظف أن يحضر لي واحداً من صندوق قد لا يحوي أكثر من ثلاثة أو أربعة كتب. شكرته كثيراً، وقد فرحت بالكتاب أيما فرحة. لم يتوفر لدي الوقت لأطالع الكتاب كما أشاء وبالمزاج اللازم لوجود بعض الأحداث وضيق الوقت. لكن إن شاء الله قريباً جداً.
تذكرت كسرة فخارية زرقاء كان قد وجدها أحد الأقارب وأعطاني إياها لأسأل أحد المختصين بالجامعة عنها. كنت قلق منذ ذلك الوقت أن أي استاذ لن يأخذني بجدية. لا أدري كيف أصلاً غلبت مشاعري وكلمت هذا الدكتور الطيب رغم أني لم أتفائل خيراً، لكن رغبتي بالكتاب كانت قوية. أخذت الكسرة وذهبت إلى المعرض. لا أدري لماذا لم يكن الموظف على نفس المستوى من الترحاب السابق، لكنه أخبرني مشكوراً بأن الدكتور في مكتبه بالكلية. ذهبت لاحقاً ووجدته في مكتب عميدهم، وحالما لفتوا انتباهه إلى وجود شخص يريد رؤيته خرج وسلم علي. أريته القطعة، وهي من الفخار المزجج، وقال بأنه لا يستطيع الجزم، قد تكون من العصر الإسلامي المبكر أو قبله حتى، وقال بأني لو كنت أفكر ببيعها فلن أحصل على ثمن جيد لأن الكسر كثيرة، أخبرته بأني غير مهتم بها بقدر ما يهمني المكان الذي وجدت فيه، أريد أن أعرف عنه أكثر. قال بأنه يجب أن يرى المكان بنفسه، خصوصاً إذا تواجد فيه الكثير من الكسر فقد يكون مكان أثري. بالواقع، كانت الكسرة الوحيدة في المكان، فيبدو أنها وقعت من أحد أو من قافلة في زمن قديم.































يوجد أمور ضرورية على المرء القيام بها، أمور بديهية وأمور بقدر الحاجة، وحاجاتنا تختلف. أجد صعوبة بالقيام بأي شيء مع ذلك، بديهي أم خلافه، حاجة ملحة أم حاجة استثنائية. من بين الحاجات الضرورية، التي أجد العذر دائما لعدم القيام بها، هي الخروج من المنزل، وما يتبعه. لقد صرت أحاول بقدر الإمكان القيام بالتسوق قبل العودة إلى المنزل من العمل، حتى لا أضطر للخروج بعد أن تاوي أمي إلى الفراش، إذ أني لا أخرج أساساً طالما هي مستيقظة حتى لا أتركها وحدها. يتوجب علي الخروج مع ذلك في بعض المرات بعدما تنام؛ لا مناص من شراء حاجات المنزل التي لم أحصل عليها قبل العودة من المنزل إن كانت لا تستطيع الإنتظار، ولا الأدوية من الصيدلية في حالات أخرى. هذه أسباب وجيهة، لأنها لا تعنيني أنا بالذات، لكن ما يعنيني وحدي هو ما أحاول إيجاد أي عذر حتى لا أقوم به؛ كالخروج للمشي والتحرك، أو شراء أمور شخصية ضرورية على الأقل.

















سهوم...
هروب ساكن...
بحثاً عن غفلة...

خوف ووجوم...
رغم محيط ظاهره آمن...
كبت وحشة...

غيث وغيوم...
أمل داكن...
رحمة باطنها القسوة...

خنجر مسموم... 
غدر بائن...
بسمة تستر الحسرة...















كنت ذاهباً إلى مكتب البريد لأرسل طرداً كبيراً، وحينما أوقفت السيارة في المواقف توقف خلفي صالون يسوقه رجل ذو لحية وهيئة ملتزم. سألني عن مكتب البريد إن كان مفتوحاً فقلت مبتسماً نعم، وسأل إن كنت سأخرج السيارة فقلت بأني لتوي توقفت، مبتسماً أيضاً، ثم مضى وأنا بالكاد أكملت جملتي، وقد كان تعبير وجهه جافاً، ولم يقل شكراً. فكرت في نفسي بأن هذا لأنه مطوع، وقد شعرت بالقرف من تصرفه الصفيق.
كان مستعجلاً، وكنت أخرج صندوق متوسط الحجم من سيارتي، فوجدته في داخل المكتب مع رجل آخر ينتظر قبلنا على ما يبدو. حينما دخلت ألقيت بالسلام فردّا علي، ونظر تجاهي مبتسماً فابتسمت. لم أقف معهما، إنما جلست منتظراً، وكان يلتفت كل فينة وأخرى لينظر إلي مبتسماً لسبب ما، وقال في مرة: ما شاء الله. فكرت بأنه ربما أعجبه شيء. قال معلقاً بعد فترة بأني أخذت موقف السيارة في الخارج، والآن أخذت كل المقاعد هنا، وكانت المقاعد كثيرة ولم يجلس غيري، فضحكت. سألني إن كنت طالب في الجامعة؟، وهذا سؤال يسأله شخص بعيد العهد بها، وعلى غير صلة بطلابها وأشكالهم الفتية. قلت بأني موظف منذ زمن بعيد. علق على شكل القبعة ولونها، وكانت ملونة بتمويه عسكري بألوان زاهية، وقال بأنها جميلة، شكرته. كان الرجل الآخر لديه شأن طويل مع البريد، فطال الانتظار. أخرجت من جيبي علبة علك، وحالما أخرجتها التفت المطوع تجاهي، فمددت له واحداً، أخذه بابتسامة واسعة وقال "ما شاء الله، أحمر بعد"، ربما لأنه كان في قبعتي لون قريب للحمرة، إلى جانب الأخضر والبني وألوان أخرى، ولما تناوله قال بثقة بأني غير متزوج. فوجئت وسألته كيف عرف؟، قال لأن هذا اللون، لون قرطاس العلك، لون شخص يُحب، فضحكت بصدق.
حدث أنه واجه إشكالاً، ورغم أني كذلك تأخرت إلا أني أنجزت مهمتي قبله، وودعني وأنا خارج بابتسامة وسلام، رغم احباطه من الصعوبات التي تواجهه.

فكرت لاحقاً بنظرتي الأولى إليه؛ لقد قررت مباشرة بأنه كان متجهماً غير مهذب لأنه مطوع، مع أني كثيراً ما أمر بهذا الموقف من الجميع بكل أشكالهم وأجناسهم وأعمارهم، هذه الصفاقة والجفاف، لكني لا أعيده لأي خلفية من خلفياتهم غالباً. إنه خلل لدى الكثير من الناس، وهنا أعني مشاعري المبدأية وحكمي على الشخص لأنه مطوع بالذات. لقد طابت أنفسنا، خصوصاً أبناء جيلي، وصرنا نربط بينهم وبين سوء الحضور واللؤم مباشرة، بعد نماذج سيئة سيطرت على المدارس خصوصاً وغذت حب السيطرة والشعور بالأفضلية لدى الصغار من نفس توجههم، وسيطروا على المجتمع عموماً. كان هذا خانقاً، وكانت هناك غلطات كبيرة تسببت بردة فعل توجب التفكر من الجانبين. لم يخل الأمر أبداً من رفقاء منهم، لكن القسوة وسوء ظنهم بالآخرين كانت السمات الغالبة، وكانت لهم نظرة فوقية لا تحتمل. صار كل خطأ يحسب عليهم ويعاد إلى أسلوب حياتهم وخياراتهم، وهذا خنق لهم وحرمان من فرصة العدل في الحكم والتقدير، سواء قصد المرء أم لم يقصد، وأنا بكل صدق فكرت تلقائياً بتلك الفكرة عنه، ولم يكن أمر انتظرته أو توقعته، وإلا لما ابتسمت له في البداية كما أبتسم للجميع، دون تفكير بخلفيته.
من جهته، تبين أنه لطيف ومجامل، وربما كان في ظرف خاص وضيق حينما جاء بالسيارة، وكانت معه امرأة لعلها كانت تستعجله أو لا يريد تركها طويلاً لوحدها بالسيارة. لا أتصور بأنه تجهم تجاهي في البداية لأني غير مطوع، لكن ربما لم يكن ليتجهم لو كنت مطوعاً، ولكني كذلك لا أعتقد أنه أظهر الود واللطف لاحقاً لأني غير مطوع كذلك.


كنت أقف عند البنشري قبل فترة، لإصلاح إطارات السيارة، وكان الوقت متأخراً، حيث يصعب علي الخروج قبل ذلك. جاء رجل، لعله في منتصف أربعيناته، يقود جيب كبير ومعه أطفال، وسأل عن الإطارات وبضعة أسئلة أخرى، واعتذر مني قبل أن ينتهي لأنه أشغل البنشري عن عمله على إطاراتي، ابتسمت متقبلاً اعتذاره. لما انتهى، سألني فجأة: أنت سعودي؟. ربما حسبني يمنياً، لأني كنت أتكلم بودية مع اليمني الذي اعرفه نوعاً ما منذ فترة. قلت نعم. سألني من أين؟، أخبرته. وظل يسأل بفضول، وكان له طبع وحضور قروي، رغم أنه للأمانة شديد التهذيب وحسن اختيار الكلمات. لكنه تكلم عن فئة من المجتمع، بذكر الحي الذي أسكن به، فقلت بأنهم جيران طيبون، لم نرى منهم سوى كل خير. لكن عبر عن كراهيته لهذه الفئة، وعدم ارتياحه لهم، فأوضحت بأنهم بالواقع مثل غيرهم، يوجد بهم اللطيف وغيره، المسالم والعدواني. لم يقتنع، وربما لم يعجبه رأيي. سألته من أين هو، فجفل، ولم يُرد أن يقول، وهذا طبع قروي يكثر في بعض النواحي الصغيرة والهامشية من منطقة الرياض والقصيم، لكنه اعترف أخيراً إذ لم أغير الموضوع ولم أتظاهر بأني فهمت أنه لا يريد أن يقول. أخبرني، وكان بالفعل من منطقة صغيرة قرب الرياض. سألني أن آتي معهم، وهو وأطفاله، إلى المنزل لنشرب القهوة ونتابع أحاديثنا، قال بأنهم متوجهين إليه الآن، وهو هناك، مشيراً إلى الناحية المقابلة للبنشري. اعتذرت بتأخر الوقت، وقلت سيكون هذا في فرصة أخرى إن شاء الله.
ليست لدي الجرأة على التداخل مع الناس هكذا، وغالب تجاربي القديمة جداً كانت فاشلة.






















لست من النوع الذي يعطي أهمية كبرى للأحلام كنبؤة ومصدر لفهم أو كشف الخفي خارج إطار النفس. أعلم بوجود رؤى صادقة، لكنها نادرة جداً، وأميل إلى ترجيح أن ما أسمعه من أحلام هي مجرد حديث نفس، ما لم يثبت العكس. وعليه، لا أرى جدوى كبيرة من مفسري الأحلام، ولا أعتقد أن التفسير التنبؤي هو علم راسخ، قد يكون موهبة وخبرة بالحياة واطلاع على الدين وموروثه، لكنه يظل تخميناً على الأغلب ما لم يثبت العكس. لا أثق بمحترفي التفسير وهواته من مستقبلي أحلام الناس. مع ذلك، رأيت حلماً قبل فترة كنت فيه وأمي وأخي وزوجته نجلس في محيط حديقة صغيرة غير موجودة في الواقع، في زاوية من فناء منزلنا، الحديقة هي من الشكل الذي أحب وأتمنى بالعادة، وإن كانت بالمكان الخطأ. كانوا يشربون الشاي، بينما انشغلت أنا أحاول أن أقبض على عصفور صغير يهرب من بين يدي، وكان صغيراً لم يقوى على الطيران بعد، يقفز مرفرفاً بسرعة من مكان إلى آخر، وما إن أمسكته حتى تحول إلى طفل رضيع بين يدي، وقد سعدت به كثيراً، وقررت انه ابن اخي وزوجته الجالسين أمامي. حينما أخبرتهما لاحقاً بهذا الحلم، تبسم أخي بجذل وهو يخبر زوجته بأنهما سيرزقان بولد إن شاء الله. بعد أشهر قليلة رزقا بولد. لم أكن أعلم بأي شيء حينما حلمت بذلك الحلم، لم أعلم عن الحمل. مع ذلك، أرجح بأن الأمر يتعلق باشتياقي لولادة طفل جديد في العائلة، وكان أخي هذا وزوجته الأكثر ترجيحاً في ذهني.

لكن تغير الأمر منذ وفاة والدي رحمه الله؛ لقد باتت أحلامي غير سعيدة، مؤلمة، سوداوية، مليئة باليأس والشعور بالوحدة والعجز. إنها حديث قلبي المجرد. إني لا أرى والدي في معظم أحلامي، لكني أتذكره مباشرة ما إن أستيقظ، وأشعر بقلبي يفرغ من الدم حرفياً، ويمتلئ بخواء مؤلم، حرفياً، ويتكرر هذا الأمر كثيراً طيلة اليوم، إذ تداهمني ذكرى وفاته. لكن الأحلام التي أرى تتعلق غالباً بالمستقبل. لا يخلو بعضها من عزاء وشفقة تجاهي من الآخرين الذين أراهم في أحلامي، لكنها حديث قلبي بلا شك، مخاوفي وهواجسي وآلامي. غالباً ما أرى أني وحيد في مواجهة ظرف قاهر، يعتصر القلب، أحاول مساعدة أحد عزيز على قلبي لكني لا أستطيع مهما حاولت أن أقوم بعمل يرضيني، وأشعر بأن الدنيا ضاقت وسُدت الأبواب في وجهي، وإن توفرت خيارات تكون بحدود ضيقة بعيدة عن منالي، تُبكيني يأساً وحزناً في الحلم، بينما أجد من بعض الناس من يصرخ في وجهي بكلمات مُحطمة، مثبطاً لعزمي، وقد سئموا من إصراري ومحاولاتي، فأبكي بعجز.
حلوم أهل نجد حديث قلوبهم، كما قالت لي أمي ذات مرة.

أحلام أخرى، كانت تداهمني من وقت إلى آخر، أرى فيها صلح بعد شقاق، قرب بعد بُعد. رأيت أحدها اليوم، لكن لأول مرة أرى هذا الصنف من الأحلام على هذا النحو البارد، وأستيقظ بلا شعور بالحنين، إنما بشعور بالإزدراء، تماماً كما كنت بالحلم، ربما بسبب مضي السنوات حتى بات الأمر سيان، وبدأت الأمور تفقد معانيها مع التجربة وبعدما استنفدت كل السبل في يدي، أو تكتسب معانٍ أخرى على الأصح. حتى أني تسائلت؛ لمَ رأيت هذا الحلم، طالما أن موضوعه لا يشغل قلبي. رأيت شخص كان قد أخطأ بحقي خطأً جسيماً، قد سلم علي باسماً ومشى معي يتكلم ويسأل عن حالي، ثم بتردد حاول تبرير ذلك الخطأ، وقد ساعدته بابتسامة متعبة لا مبالية بالتعبير عن تفهمي، وربما تحملي لجزء من الخطأ. بدا أنه أزاح هم عن صدره، فيما كنت أفكر بالحلم بأن الأمر بات بلا معنى الآن، لقد تأخر كثيراً. استيقظت، وأنا أعلم بأنه لم يعتذر بالطبع، لكني أعلم كذلك بأنه لن يبادر بأي شيء بالواقع، تبرير أو حتى سلام، ولم أشعر بالمرارة مع ذلك، لأني لم أعد أنتظر أو أرجو منه شيء، إنما شعرت بتفاهة حضوره بالحلم، وكأنما جاء بلا دعوة، خلافاً لأحلامي السابقة، التي أراه وسواه بها، ممن اختلفت معهم وكانت لهم قيمتهم.

تمطر عيني...
في جوفي مدرارا...
أشق ثوبي...
في خيالي تكرارا...
طَعن قلبي ألف طعنة...
جيشٌ عرمرم جرارا...
جيش قهر وخداع...
من مسوخ لئام فجارا...
خدعوني بالآمال الزائفة...
حطموني مراراً ومرارا...
أختفي بهدوئي...
ابني بالصمت أسوارا...
لا يراني ولا يلحظني...
أحدُّ الناس بصيرة وإبصارا...
لم أعرف السلام يوما...
فعلام أخاطر بلقاء الأشرارا...
الوحدة الموحشة خيرٌ...
من مزيد خيبة وانكسارا...


















بعض خرفان نجدية وماعز عارضية (نجدية) وأنواع أخرى، وجدتها في مزرعة في العمارية قرب المنزل. منطقة جميلة حقاً.














ما أشق ذكرى بعض الناس على النفس، تستحوذ على عليك، سواء داهمتك غافلاً، ام استحضرتها برسائل قديمة، جميلها وسيئها، أو هدايا، أو ما صنعته بيديك وارتبط بهم بشكل ما، كقصيدة أو نص ركيكَين، أو نقش ينقصه التناسق والمعنى، أو رسمة متواضعة.
والمشقة ليست واحدة، ليست نابعة من ذات المصدر، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة؛ الشعور بالأسى والشقاء، وأحياناً الغضب، من الآخرين أو من نفسك. أحياناً تتألم لذكرى من أساء إليك وجرحك لغير سبب وجيه، أو رغم محبتك له، وأحياناً لأنك فقط خسرت من تحب بلا سبب وجيه، أو حتى بسبب، وتريد أن تستعيده ولا تستطيع. صداقات وعلاقات مختلفة؛ كلها لها قيمة، وإن كانت في أصلها متفاوتة المستوى.
وفي واقع الأمر، لم أعرف من له هذه القيمة وهذ التأثير علي سوى القليل، القليل من الناس، بعضهم قضيت سنوات بمعرفتهم، وبعضهم ما يشبه اللحظات، أيام أو شهور، أو بضعة لقاءات، أو أقل، لكن الإنطباع كان كبيراً. لا يمكن حتى وصف حالي مع بعضهم بالعلاقة، لم يتمخض الأمر عن شيء كهذا، لكن الإنطباع كان قوياً، صادماً، هادّاً، دامغاً، ندبة تشبه الوسم الذي لا خلاص منه، جعلك تنتمي إلى قبيلة من البؤساء، لكنك لا تراهم ولا تعرفهم لتشاركهم الهم ويشاركوك.
لست أتحدث عن تلك الذكريات قصيرة المدى، التي تشبه الجروح التي تشفى فيختفي أثرها، فهذه تافهة لا قيمة لها، ولعل تلك الخسائر هي في مضمونها ربح للوقت والمجهود الذي كان سيهدر ويستثمر بلا طائل. إني أتحدث عن مدى أبعد، بوقع أعمق.
هناك من اختفى من حياتك، ولو معنوياً، بعنف وقسوة، بمواقف فضيعة جارحة، وهناك من اختفى بنعومة، كضباب تلاشى، كليهما قد يملك نفس التأثير بالنهاية من حيث الأسى، أو الغضب، أو الفقد، أو الندم.
أفكر مثلاً بطبيب والدتي الألماني، الذي خسرته بنقاش واحد اتفقنا فيه على العناد والتجريح، في حين كان ما يجمعنا حتى لحظة مضت قدر كبير من الأمل بصداقة جميلة وعلاقة قد تكون أقرب للأبوية وإن لم تكن تامة من هذا الجانب. تواصلت مع المستشفى حيث يعمل، كنت أتمنى لقياه، وإن كنت أعتقد بأن الأمر في أغلب الظن لن يعود كما كان، لكننا كنا سنذهب للمستشفى في كل الأحوال، فتبين بأنه غادر البلد إلى غير رجعة.
أريد أن أقول؛ هكذا هي الحياة، لكن هل يحق لنا قول هذا عند كل سوء حظ، ولو افتعلناه لأنفسنا، وكان باختيارنا وحماقتنا.







سعد الحوشان

الاثنين، 13 أغسطس 2018

رثاء (نعي)





بسم الله الرحمن الرحيم








دع غبار قبرك يغشاني…
لعله روضة من رياض الجنة…
دعه يثير أشجاني…
ويخالط حسرة الدمعة…
تنشقته خلال شهقاتي…
إذ يهيلون عليك طاهر التربة...
ألا ليت جوارك كان مكاني...
فأنام وتنكفي اللوعة...




















سعد الحوشان

الخميس، 19 يوليو 2018

خيباتٌ تترى (نعي،المعتاد،قصائد،رحلة)

بسم الله الرحمن الرحيم
















يحب الإنسان أن يتخيل بأن قيمة وتأثير الرسالة أمر لحظي، إنه يقول ما يشعر به في اللحظة والموقف. الرسائل المكتوبة على وجه الخصوص تحتفظ بتأثير بالغ ودائم، عصي على إعادة النظر، خصوصاً إن لم تلحقها رسائل تصحيحية أو اعتذارية. شعرت بهذا خصوصاً حينما عدت لقراءة رسالة قديمة في بريدي الإلكتروني، ختمت صداقة سيئة.
لا أعتقد بأني تمحورت حول ذاتي مثل كاتب تلك الرسالة النرجسية، حينما خاطبت او مسست أحد ما بشكل مباشر أو غير مباشر، لكني لا شك لدي بأني ارتكبت الخطأ المبدئي بترك أثر سيء لدى من لا يستحق. حاولت قبل فترة أن أصحح ما صدر مني عن سوء فهم تجاه أحدهم، لكني لم أنجح، إذ لم يتقبل على ما يبدو. حاولت أن أحذف كذلك ما ظننته قد أشكل، لكن حتى هذا لم يفلح. إذاً بعض الرسائل تحفظ في القلب، خصوصاً حينما يكون المرء لا يستحق ما جاء فيها. نكون محظوظون بقدرتنا على حذف شيء منها، لكنها تكون قد حفرت في مكان آخر، وأحياناً لا تجدي الاعتذارات، والاعتراف بالخطأ، وإبداء الندم الصادق للبعض. ولكن كيف لنا أن نلومهم على سوء فهمنا نحن، وتسرعنا؟.
الحذر واجب، خصوصاً تجاه من لا يستحق، حتى ولو بالحد الأدنى لا يستحق. أعلم يقيناً بأن تلك الخسارة لا تقدر بثمن، أعني خسارة من أخطأت بحقه.















أبتسم لذكريات قديمة…
لم تتمخض عن شيء…
بائسة عقيمة…
لكنها كل ما لدي…
أغمض عيني الدامعة…
ورويداً تخبو ابتسامتي…
وتبقى الذكريات صامدة...

وكأني لتوي اكتشفت ذكرياتي...
افتح عيناي ونظرتي زائغة...
مصدوماً بتحطم آمالي...
بزيف البقية الباقية...
من أسباب رضاي الفاني...

وُعدت بالإنقاذ...
حاولت أن أنقذ نفسي...
لكن للقدر أسباب النفاذ...
سُجنت في عالم برزخي...
حولي الغيث، ولا يمسني رذاذ...
جائع للحب...
جائع للرحمة...
لا حياة...
ولا موت...












رحلة أخرى إلى الهند، بعد حوالي سبع سنوات من الأولى. الأولى في أقصى جنوب البلاد، والأخرى في الشمال المتوسط.
هذه المرة، كانت راجستان هي الوجهة، وهي ولاية يغلب عليها الطابع الصحراوي، وقد كانت تحوي مدن غنية، ولكل مدينة تقريباً ملك، أو مهراجا. لا زال هناك مهراجات، ولكنهم لا يحكمون، وإن يكن بعضهم ذو تأثير ومسؤولية معنوية.
ذهبت مع ابن اختي، وهو مهتم بالهند وتاريخها، هي تخصصه في العائلة، إذ يعرف الكثير عنها، وغالباً ما يختص أحد منا، أنا وأبناء أخواتي، بجهة أو جهات من العالم من حيث الإهتمام والمطالعة. بالطبع، كان هو من اختار ورتب الرحلة كما يحب، وقد اختار الولاية لحصونها وقصورها التاريخية الشهيرة.

يلاحظ المرء الطابع المغولي والفارسي الإسلامي على القصور والقلاع رغم أن أهلها هندوس، وذلك لتأثير الغزاة المغول الذين حكموا امبراطورية في الهند، في دلهي على وجه الخصوص. المغول، كشأن الأعراق التركية من آسيا الوسطى، شعوب همجية مفسدة، وقد كان غزوهم عنيفاً وحشياً، مقابل تحضر الهنود المغرق في التاريخ. كما لم يسلم القوم من الغزوات الهمجية من الأفغان كذلك، لهذا تعظم الحصون المبنية خلال الفترة ما بين القرون التالية للألفية الأولى حتى منتصفها.
التأثير العربي الصميم، أي تأثير الجزيرة العربية، يكمن في جنوب الهند، لذلك لم تكن صورة الإسلام مشوهة لدى الطوائف الأخرى. إن المشكلة عرقية؛ يمكن للمرء أن يرى كراهية الأوروبيين الشرقيين بسبب غزوات الأتراك وعنفهم وهمجيتهم. للأسف، لا يفهم الكثير من الهنود هذا.
القلاع والقصور تبدو بقمة الذوق والجمال، ويبدو البذخ والرفاهية على نحو لا يُصدق فيها. للأسف، معظم القلاع رغم رسوم الدخول وكثرة الزوار غير معتنى بها على النحو المطلوب، ويبدو أن ورثتها من الأسر الملكية في معظمها يتخذونها وسيلة دخل دون شعور عميق بالتقدير لها ولمن بنوها.
يعيش بعضهم في شق من القصور حتى الآن، ويتيحون الشق الآخر للزوار. وعلى الأغلب يعيشون في الجانب الأفضل والأجمل منها. يمكن رؤية جانب من حياتهم خلسة من خلال بعض البوابات، فيرى المرء السيارات الأوروبية الفخمة التي يتنقلون بها.


أما عن أهل تلك الولاية، فيأسف المرء لطباعهم الرديئة بالمجمل. هم طيبون ومتعاونون حينما يسأل المرء عن شيء في الشارع مثلاً ويمكنهم تقديم المساعدة، لكن يبدو أن الوعي فقير هناك، والطباع الموروثة من حيث التهذيب ومقاييسه غير جيدة. لا أتصور بأنهم كانوا دائماً هكذا، إذ حينما يرى المرء ما بقي من بيوتهم القديمة التي لا تخلو من ذوق وجمال لا يمكنه سوى أن يتخيل بأن من سكنوها كانوا بالتأكيد أهل ذوق وأناقة. لا بد أن الأمور انحدرت مع الوقت. كان الجنوب أفضل بكثير عموماً، لكن كيرلا بالجنوب هي أفضل الولايات تعليماً، وهي متأثرة بالإسلام النقي من العرب وثقافتهم، وربما هذا له دور، لا أدري. في راجستان، الناس أقل نظافة شخصية، ولهم طباع مقرفة يتقبلونها بوضوح بلا أي مشاكل، كادت أن تجلب لنا الإنهيار لشدة القرف. يتجشأ القوم بجانب بعضهم البعض، بأعلى صوت ممكن، يبصقون ويبولون في الشوارع في أي مكان، وهذه عادة مشتركة إلى حد ما مع كيرلا، وإن كانت أقل هناك، والكثير من أهلها تفوح منهم رائحة العرق على نحو لا يصدق المرء أن جسم الإنسان له هذه الإمكانية الفتاكة، وبخرة أفواه الكثير منهم تشبه كثيراً رائحة الأفواه التي يشكون منها من يعملون منهم في ديارنا، إنما على نحو أشنع غالباً. لكن بلا شك يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة بأن هذه الخصال البشعة خاصة بالرجال، بينما النساء أكثر تهذيب وأفضل حضوراً وهنداماً ونظافة، وهذا مما يأسف له المرء بشدة؛ لا يمكن تصور معاناة النساء هناك مع كل هذا في بيوتهن وإلى جوارهن، إلا إن أخذنا في اعتبارنا بحكم الاعتياد. ويقبلون في راجستان بالمطاعم والأماكن غير النظيفة ولا الجيدة ويمتدحونها في مراجعاتهم لها، حتى لم نعد نثق بالمراجعات التي نقرأ سوى حينما نجد مراجعاً أجنبياً. وهم إلى جانب هذا شديدو المادية في أعمالهم، لا يعني لهم المرء سوى كومة من المال. لا يمكنك أن تنظر إلى شيء في محل دون إلحاح وإزعاج من البائع، أو أن تحصل على خدمة دون توقع الكثير من الإكرامية ولو لم يكن الأمر يستحق سوى شيء رمزي، والمال ليس مشكلة بالنسبة إلينا، فعملتهم مقارنة بعملتنا رخيصة جداً في هذا الوقت، لكن الموقف بحد ذاته مقرف، ومذهل في أحيان، فنفح أحدهم ما يساوي خمسة ريالات في فندق يصنع العجائب. ذكرني هذا بالمكسيك كثيراً، لكن الناس في المكسيك كانوا أقل قناعة بالمعقول، على جانب أكبر من الطمع، ومن جهة أخرى أنظف بمراحل، لا مجال للمقارنة. ومثل المكسيك إلى حد بعيد، المرشدين السياحيين عنصريين في الهند بوضوح. أعتقد الآن بأن الرجال لا يصلحون للعمل كمرشدين في أي مكان، من خلال تجاربي، حتى في البيرو، وإن كان سوءهم أخف وطأة هناك.

بالطبع، البقر يجول في كل مكان، وهم يعتبرون البقرة أمهم، ويقدرونها أيما تقدير، لكن لا أدري كيف يتقبلون أكل البقر للقمائم مع ذلك، وهذا تناقض مؤسف، يرونه بعيونهم كل يوم ولا أدري لماذا لا يتساءلون. والبقرة طبعاً تلوث الطرق بروثها، وهي معتادة على أولوية المرور، بحيث تمشي فرادى ومجموعات ولا تبتعد ولا تهاب السيارات. والجواميس لا تحظى بنفس التقدير وإن كانت إبنة عم للبقر. ولإحقاق الحق، البقر أجمل بكثير من الجواميس، التي تذكرني بالخنفساء الكريهة لدينا. لكن هذا لا دور له بقدسية البقرة التاريخية طبعاً. بقرهم عموماً ليس كالبقر الذي يُرى في أوروبا في التلفاز والصور، وليس كالبقر الذي رأيت في القصيم، إذ له حدبة طويلة في رقبته، وهو غير جميل رغم كل المقارنة مع الجواميس. أعتقد أني رأيت في التلفاز بقر يشبهه في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية. إلا أننا رأينا صنف غريب في مدينة واحدة، يبدو أنها تختص به، له لون رمادي فاتح في عموم جسمه لكن وجهه غامق، وهو الأجمل من بين أبقارهم، وبنيته أنعم وأكثر اتساقاً، لكن المرء لا يراه في رسوماتهم الدينية.

واثق الخطوة يمشي ملكاً:





ثور من الصنف البقري الذي سارت بخبر جماله الركبان (أنا وابن اختي):



في قلعة تاريخية قذرة تحوي بيوتاً للناس، حيث لا زالوا يعيشون فيها، تسير البقر بالأزقة ككل مكان، لكن المختلف هو وجود خنازير تسير أيضاً بالأزقة، الغرض منها هو تنظيف المكان بأكل روث البقر، وقد مررنا بجوار أحدها وهو يحلل راتبه. خنزير للنظافة، وفي الشارع.

المرشدين حتى لو بينوا ضيقهم منك سيحاولون استغلالك على نحو منهجي، وأحياناً لا مبالي على نحو وقح، وكأنه جزء من البرنامج، سيحاولون أخذك إلى دكاكين يتفقون معها على نسبة من البيع، وقد عانينا أكثر ما عانينا من سائقنا الطماع. سمحنا له لمرة أن يأخذنا إلى محل، حيث حاولوا أن يستغلوننا بطريقة مقرفة. أحدهم مسلم وهو من ملاك المحل، وقد حاول أن يتلاعب بشعورنا كمسلمين ويتصرف بلطف سرعان ما تبخر حينما قلنا بأننا لا نستطيع أن نشتري منه. لا يختلف لدي إن كان مسلماً أم لا، خصوصاً حينما يحاول استغلالي. كان أمر مقرف بحق. أسلوب البيع والشراء بشكل عام مقرف، رغم أن ثقافة المساومة موجودة لدينا، إلا أنها لديهم تفوق أي حد وتمتحن الصبر. يكثر النصب هناك بلا حياء، فلا تعود ترغب بشراء شيء، بالإضافة إلى كون العملية طويلة ومملة ومضيعة للوقت لكثرة المراوغات الواضحة.


لكننا تعرفنا على شخص جيد، وكان غير سعيد بالوضع وبسلوك الهنود رغم أنه هندي، ولم يخفي هذا. كنا في مدينة سياحية جبلية، وهي منطقة ذات طبيعة جميلة جداً ومختلفة تماماً عن باقي الولاية، لكنها غير مريحة، هناك ما هو غير مريح بخصوصها، رغم أنها أشبه بحديقة طبيعية بديعة، وكأنها منسقة، باستثناء معظم المباني. تسير في الشارع فترى رأس نخله إلى جوارك، حيث تنبت في أرض أخفض، ويا لها من مناظر بديعة وأنيقة، مع أشجار المنقا البرية الضخمة والجميلة. لكن لن يستمتع المرء كثيراً في ذلك المكان التجاري غير الأنيق خلافا لطبيعته. وهذه المنطقة يكثر فيها أهل الولاية المجاورة في نهاية الأسبوع، إذ أن ولايتهم تمنع المشروبات المسكرة، فيأتون إلى هنا حيث يمكنهم الشرب، فصارت تجارة رائجة بوضوح، رغم أن الأسر المحترمة الزائرة موجودة كذلك ومشهودة لقول الحق.


هذا الرجل الذي تعرفنا عليه هناك رأى جوازاتنا لدى طاولة الاستقبال بالفندق، فجاء ليسلم علينا قائلاً بأنه لم يرى سعوديين من قبل فجاء ليحيينا. أخبرنا بأنه يعمل كمرشد للسياح، يأخذهم برحلات مشياً في الغابات والجبال المحيطة، وأنه غداً سيأخذ زوجين بريطانيين للسير لمدة أربع ساعات، وسألنا إن كنا نريد المجيء؟. رفضنا بأدب. كان متحمساً، وأراد تناول العشاء معنا تلك الليلة خارج الفندق، لكني لم أشعر بالإطمئنان، فأخبرته بأننا سنتعشى بالفندق، مع اننا نمنا دون عشاء في ذلك الفندق الرديء، في ليلة أقلقتني كثيراً على ابن اختي، إذ ظللت أتوهم بأن هناك من قد يدخل عليه في حجرته، إذ تطل حجرنا على الحديقة القبيحة، وأتخيل بأنه سيمرض من البرد الشديد الذي لم نعهده في باقي الولاية، إذ رفض أن يستأجر مدفأة من الفندق السيء، فكنت أخرج وأطل عليه من النافذة كلما أوفيت بعض الوقت، حيث نسي أن يغلق الستائر لحسن الحظ.

فوجئت في اليوم التالي بينما أجلس قرب الاستقبال في الشرفة، حتى استخدم الانترنت، بالرجل يأتيني بحماس مُسلماً، وكأنما وقع على لقيّة، وقد أحضر سائحين غربيين بدا الذهول عليهما، وعلي، لأنه أجلسهما معي دون أي سياق. عرفهم بي، وبأني سعودي قبل كل شيء، وكانا شديدا التهذيب. كانت الزوجة كندية، والزوج جنوب أفريقي أبيض يعيش معها في كندا. كانا قد عادا للتو من رحلة طويلة في الغابات بحثاً عن طائر صغير نادر لتصويره، وقد أروني الصورة في كاميرتهم ذات العدسة العملاقة، وقد كان الطير ضئيلاً وجميلاً أخضر فاقع اللون، علقت بأنه يشبه طائر الحسون الأسترالي، فوافقوني بحماس وهم يخبروني بأنه حسون كذلك. كان اهتمامهم يتمركز حول الحيوانات النادرة، والطيور على وجه الخصوص، بالإضافة إلى الطبيعة عموماً.
أخبرهما الرجل بقصته معنا، بأني سعودي وأنه لم يرى سعودي من قبل، فعلقت قائلاً عينة نادرة، فضحكا. تحدثنا كثيراً، وسرعان ما أصبحت الأحاديث سلسة، رغم أني بت أكثر حذراً منذ فترة مع الأجانب، أوجز حديثي وأحسبه جيداً حتى لا أخطئ، رغم أن الخطأ وارد دائماً، إلا أني أحاول أن أقلل منه.
بعد حوالي الساعة والنصف، استأذنا للإنصراف، وقد عبرا عن أمنيتهما بمصادفتي يوماً ما مرة أخرى.

حينما حل المساء، جلست وابن اختي في بهو الفندق، حينما جاء المرشد، وعرض أن نخرج للعشاء. تبين أن مكتبه موجود في الفندق. كان الرجل شديد اللطف، وأخبرنا بأن له صديق كشميري مسلم يمكننا المرور به للسلام عليه لو أحببنا. مررنا بالرجل في محله، وهو يبيع المنسوجات الكشميرية على نحو موسمي، كشأن الكثير من الكشميريين الذين يأتون بالمواسم إلى راجستان لبيع ما لديهم. فرح الرجل بنا أيما فرحة، وأخذنا بالأحضان، وحاول دعوتنا للقهوة أو الشاي، وتحسر لأنه لم يعلم بقدومنا باكراً ليجهز لنا عشاء، وطلب منا أن نتعشى لديه غداً، فأخبرناه بأننا سنغادر في الصباح. حدثنا عن أسرته، ولفرط فرحته بنا اتصل بإبنه البكر لأتحدث إليه عبر الهاتف، بعذر أن يخبرني عن عرض تلقاه من شركة سعودية ورفضه. أما رفيقنا فذهب ليدعو كشميري آخر لرؤيتنا والسلام علينا.
دخل الرجلان بنقاش حام يبدو أنهما اعتادا عليه، حول احتلال كشمير، ورؤية رفيقنا الهندوسي بأنها جزء لا يتجزأ من الهند. كان الكشميري الكبير متحمساً جداً.
أخبرنا الكشميري بأنه يذهب إلى عمان باستمرار، ويبيع هناك على الأثرياء والشيوخ. وهو لديه بالفعل بضائع فاخرة. المفاجأة الجميلة كانت أنه لديه ثياب نسائية جميلة، وكنت في حيرة من أمري، إذ أن والدتي أخبرتني أن أحضر لها قميصاً (الفساتين المنزلية)، في حين أن الهنديات لا يلبسن القمصان والفساتين بشكل عام، بالإضافة إلى أن جودة كل شيء صادفته تقريباً منخفضة هناك. أنقذتني هذه الزيارة وحمدت ربي كثيراً. كانت هناك شالات ممتازة وجميلة كذلك. اشتريت لنفسي شال كبير وخفيف جداً، قيل لي بأنه دافئ لكني غير متأكد، إلا أنه فائق النعومة والخفة، يسمى القماش بالباشمينا، وهو أغلا أنواع المنسوجات الكشميرية كما فهمت، وقد حلف لي بأنه يبيعه للشيوخ بسعر كذا، ولكنه سيمنحه لي بالسعر الفلاني.
كان الرجل مذهولاً من نحول ابن اختي، وقد كان مصراً على حث ابن اختي على التغذي على نحو أفضل كل لحظة وأخرى، وهو يمسك ببطنه وظهره ليقيس صحته.
دعانا للحضور إلى كشمير، والبقاء في منزله هناك، دون أن نحمل هماً لأي شيء. رغم أنه حدثنا كثيراً عن معاناة الكشميريين، والتدقيقات الأمنية الظالمة عليهم، وهذا أمر قد نحمل همه كسعوديين بكل تأكيد.
خرجنا بعد وقت طويل من عنده، وقد أخذنا بالأحضان بعاطفة فياضة، طالباً منا الدعاء لكشمير، فهي كفلسطين.





في فندق يقع على سد بحيرة، رأينا حينما أتينا للإفطار جرذين يخرجان من المطبخ وهما يتشاجران. لم نفطر طبعاً… كم كانت بعض الفنادق بشعة. بعض الفنادق حتى موظفيها لا يتمتعون بأي ذوق على نحو غريب، حتى حينما تكون معقولة النظافة وجودة التصميم، أي أنها كلفت الكثير.






لا يوجد الكثير من المسلمين في تلك الولاية، لكن رأيت فيمن رأيت منهم ما أثار تعجبي؛ الغالبية العظمى من النساء المسلمات هناك يلبسن العباءات وغطاء الوجه كنسائنا تماماً، بنفس اللون الأسود الرزين، وهو منظر أسعدني صدقاً، بغض النظر عن مدى التزامي الرخو.
مررنا ببلدة صغيرة، اسمها فاتح-بر، و’بر’ هي لاحقة في بعض أسماء المدن في شبه القارة تعني بلدة أو مدينة، ويبدو لي أن اللاحقة من اللغة الفارسية. هذه البلدة مزدهرة إلى حد ما، وأهلها مسلمون، ومن الملفت للإنتباه ملاحظة هذا بسرعة، من خلال كثرة النساء المتلفعات بالعباءات السوداء، المغطيات لوجوههن بالنقاب الأسود، سواء يسرن أو يركبن السيارات أو رديفات على الدبابات والدراجات.
قال سائقنا الهندوسي بأن المدينة أسسها مسلم قدم من السعودية، يقصد الجزيرة العربية. على أني أشك في هذا، وأعتقد بأن تأثرهم على هذا النحو قريب العهد. كان التأثير في كيرلا أقل وضوحاً رغم التأثير العربي المغرق بِالِقدم، ربما لاطمئنان الناس فيها على دينهم، فكن بعض النساء هناك في كيرلا لتوهن قد بدأن ارتداء العباءات وتغطية الوجه بدلاً عن تغطية الشعر فقط كما بدا لي، وليس كلهن كذلك، إنما القليل، وكان الكثير منهن يكشفن عن وجوههن وهن سائرات في بعض الطرق، بدا لي حينها بأنهن لم يعتدن بعد. كما كان هناك محل متخصص بالعباءات والخُمر في كيرلا، إلى جانب محلات العطورات العربية. أهل كيرلا كذلك أكثر قدوماً للعمل لدينا، ويبدو أنهم مع الوقت ينقلون رؤيتنا للدين إلى هناك. أما راجستان، فيبدو لي أن الأمر أقرب إلى ردة فعل تجاه المحيط، وتمسك شديد بهوية يخشى عليها من الضياع، فهم لا يعرفوننا عموماً ولا يبدو أنهم يزوروننا للعمل كأهل الساحل الغربي، هذا مجرد تصور.

للأسف، قرأت قبل أيام عن هندوسي متشدد قتل وأحرق خمسيني مسلم في راجستان، بعد تعذيبه بالضرب، إذ جره قسراً إلى الخلاء، ومراهق هو ابن أخ المجرم يصور العملية. أعتقد بأننا محظوظين لعدم تعرضنا لمشكلة، رغم كثرة تمشينا بمعابدهم هناك.
بعض النساء الهندوسيات يغطين وجوههن كذلك، بجزء من الساري، لاحظنا هذا كثيراً. سألنا أول مرشد طيب نقابله في رحلتنا، فقال بأن بعض النساء يغطين وجوههن عند الحديث مع الرجال كبار السن من باب الإحترام، وغطاء الوجه وهذا النوع من الحشمة أمر مستجد مع قدوم المغول على علّاتهم، وعلق قائلاً بأنهم كانوا أكثر انفتاحاً قبل قدومهم فقد ألفوا كاماسوترا، وهو كتاب جنسي قديم جداً وشهير، لكنه يعتقد بأن الحشمة أمر جيد. لكني رأيت في مرورنا بالقرى أن الكثير من الهندوسيات يغطين وجوههن وهن يسرن بالشارع، لسن الأغلبية، لكن ملحوظات. طريقتهن بتغطية وجوههن بطرف الخرقة التي تغطي أعلا الجذع طريقة بسيطة غير متكلفة، جميلة وبالغة الرقة والحشمة، مثلما يغطين النساء هنا وجوههن بجلال الصلاة في البيوت عند حضور غير محرم، أو في المزارع كما لمحت.




في جايبور، وهي عاصمة الولاية، يلحظ المرء الإهتمام المعقول بنظافة المدينة وجمالها، وهي مشجرة خضراء معتنى بها على نحو جيد. أما الأمر الملفت الآخر فهو أهلها ذوو الملامح الجميلة والأجسام الصحيحة، وهم كذلك أنظف نوعاً من البقية من حيث الطباع والتهذيب والهندام. لاحظنا هذا حالما حططنا بالمطار. أبدينا هذه الملاحظة لمستقبلنا خارج المطار، وقال بأن مدينة أخرى سنأتيها لاحقاً يملك أهلها جمال أكبر وأوضح؛ وهذا أمر غريب، ففضلاً عن قذارة تلك المدينة التي امتدح لنا وعدم نظافة طباع أهلها، لم يكونوا على أي قدر من الجمال، كانوا عاديين جداً، واسم المدينة المؤسفة تلك هو جيسالمير، إسم فاتن ذو لحن على مدينة قذرة مقززة، وهي ذاتها مدينة القلعة التي تجول بها البقر والخنازير. أما في جايبور، فبدت لنا بعض الشرطيات أقرب إلى عارضات الأزياء. جايبور عموماً مدينة جميلة بوضوح.
مع ذلك، تتواجد الأبقار بالشوارع في جايبور كذلك، ولا يبدو أن لهم حيلة تجاهها، لمنع دينهم المساس بها، بل إنهم يتركون لها الخبز في الصباح، وقد شاهد ابن أختي مجموعة اقتربت من بقرة لتصلي لها، لكن البقرة طردتهم. كما تتواجد الكثير من الكلاب، وكلابهم ضخمة على نحو مفزع، ويبدو أنها تجد الكثير مما يؤكل، كالجرذان الكبيرة، التي رأينا أحدها ميت بالطريق المترب إلى جانب الفندق، والقمائم على الأغلب. والكثير من الكلبات إما لُقح أو مضرعات، ترتج أضرعها الوارمة، الثمان على ما أعتقد، في جانبيها بمنظر يذهل من لم يره من قبل، وربما أثار الإشمئزاز والتعاطف بذات الوقت، إذ تثير الأمومة التعاطف في أي كائن في نظري. ولكبر أثدائها المتدلية علاقة بحسن التغذية بكل تأكيد، وبالتالي كثرة القمامة في مكان ما أو قرب مكبّاتها، إلى جانب الجراذي، على أننا لم نرى قمامة مجتمعة في جايبور، لكن لا بد منها بوجود هذه الحيوانات.




معظم المطاعم نباتية، بحكم الأغلبية الهندوسية، وهذا أمر جيد، عن الشك بالحلال وعدمه، كما أن أكثرها لا يقدم الخمر. ما لاحظناه هو أن الهنود أكولين، إذ يعجب أهل المطاعم من قلة أكلنا. في أحد المطاعم، الذي اكتشفته بالخريطة وقد مدحته معلقة غربية، طلبنا عدة أطباق، وكان المطبخ كريماً جداً في كمية الطعام، إذ جيء بالعدس الذي طلبه ابن أختي في دلو صغير، ولم نتوقع هذا نظراً لتجاربنا السابقة. كان هناك الكثير من الناس بالمطعم، ولا غرابة إذ كان الطعام جيد جداً على نحو نادر هناك. كان صاحب المطعم كما بدى لنا يجلس إلى طاولة المحاسبة، يراقب المكان بوجوم كالصقر، ويبدو أنه لاحظ بأننا شبعنا ولم ننه صحوننا، وقد امتلأنا بالمنتصف، فكان أن أتانا نادلَين بتعاقب يسألان بقلق إن كان الطعام جيداً، ولماذا لم ننهه؟. 



قرب نهاية الرحلة وفي إتجاهنا إلى جايبور، مررنا في مدينة سنبيت في أطرافها، وهي مدينة يغلب عليها المسلمين، وهي شديدة الإزدهار، مزدحمة ومتأنقة إلى حد ما، مثل جايبور يوجد بها محلات للماركات الأجنبية، وممشى حديث لم يكتمل على ضفاف بحيرة، يشبه ما كان البعض يسميه لدينا على نحو سخيف بشوارع الحوامل. وكان ضمن الخطة المكتوبة زيارتنا إلى ضريح قديم في مسجد بناه ملك مغولي، لرجل يعتقدونه ولياً، وذلك لأنه تسبب بميلاد طفل لهذا الملك وزوجته الهندوسية حسب الرواية. لم نرد زيارته، ولم نتحمس طبعاً، فهو مجرد مسجد وضريح لا شيء مميز فيه، كما أنه كان إضافة غير مطلوبة من منسقة الرحلة. فوجئ سائقنا، لأننا مسلمين، ولكننا رفضنا قطعاً. فهو من ناحية ليس تاج محل مثلاً، ومن ناحية أخرى، وما أتصور أنه فاجأ سائقنا، أنهم لا يعلمون بأنه ليس كل المسلمين يعتقدون بالأضرحة، وهذا الشرك والجهل، فلا يهم الجميع أن يزورها لذاتها لأسباب دينية، فلا قيمة لها في الدين في الأصل.

كان سائقنا متعاوناً، ويحاول بقدر الإمكان أن يكون مفيداً، لكنه كان شديد الجشع، محاولاً استغلالنا بكل مدينة بمقترحات لزيارة محلات يعرفها، ليأخذ بعض العمولة، وقد أوصانا بعدم الذهاب مع المرشدين عند اقتراحهم لمحل، لأن محلاته أفضل وأرخص. تمخض الأمر عن تجربة قبيحة معه، إذ أخذنا إلى محل، وتدخل على نحو واضح لرفع السعر، ليحصل على عمولة، رغم أن صاحبة المحل أرادت التخفيض لنا. كنا قد فقدنا ثقتنا به قبل ذلك أصلاً، لكن كنا نحتاج إلى زيارة ذلك المحل بالذات. بالطبع لم نسكت، وأوضحت له أننا لا نرضى بهذا، وقد تكهرب الجو، وظل يعتذر حتى غادرنا الهند. قبل ذلك أخذنا إلى محل أقمشة، إذ كان ابن اختي موصى بشراء قماش كشميري لخياطة ثوب. اشترينا القماش فقط، بعدما كدنا أن نشتري أكثر بكثير، شعرنا بالجشع الغريب. اقتادنا أحد الشركاء في ذلك المحل، وهو مسلم أظهر حفاوة كبيرة، لكن كان هذا لبيع الفضيات والأحجار الكريمة فقط، ووجدنا ابنه وابن اخيه في المحل، وكان الثراء جلي. كان يمزح ويحاول إقناعنا، ولكني كنت لا أشعر بالإرتياح أكثر فأكثر. في النهاية، ومثل الكثيرين غيره، سأل كم يمكننا أن ندفع، وسوف يسأل مديره إن وافق على السعر، رغم أنه أخبرنا مسبقاً بأنه مالك المحل، وكان هذا واضحاً جداً. اعتذرت، قائلاً بأننا في أول الرحلة ولا نستطيع تبديد المال، مانعاً ابن اختي من الشراء كذلك. تغير موقفه تماماً، حتى أنه لم يودعنا. الباعة هناك، أغلبهم، مقرفون إلى هذه الدرجة. لم ينفع معنا الإبتزاز العاطفي لكونه مسلم، هذا لا ينفع معي أبداً في أي مكان، لا أقبل بالخداع أو الاستغلال أو سوء المعاملة لأن الآخر مسلم، لكني أزدري هذه الأشكال من البشر واحتقرهم.
كان في السيارة تمثالين صغيرين من البلاستيك، يصلي لها السائق كل صباح. أحدها لآلهتهم كريشنا، والآخر لاكشمي، ذو رأس الفيل، وهو المختص بالسعادة وحسن الطالع. كان السائق يقول بأنه طالما لاكشمي سعيد، فهو سعيد، وهو يقدم الزهور المربوطة بخيط على شكل سلسال أو حلقة، وهي زهور ياسمين، وأحيانا زهور قحويان صفراء. يصلي الناس هناك بتأثر للتماثيل أو ما يماثلها. يصلي بعضهم بتأثر شديد، بعضهم أكثر من بعض. وصلواتهم عالية مسموعة، غير متناسقة، مرتجلة، حركات باليد وأدعية متباينة، وأحياناً تختلف حركات أيديهم عن بعضهم، ويبدو أن هذا يتعلق بسياق الصلاة. وتتواجد التماثيل في كل مكان، حسب وظيفة الآلهة، وهو أمر لم ألحظه في كيرلا في دكاكين الهندوس في بلدة كوتاكال حيث أقمنا قبل سنوات. في الدكاكين يتواجد لاكشمي لجلب الرزق على ما يبدو، وقد رأينا صاحب دكان شاب يصلي لأحدها وهو داخل في الصباح.


مطار الولاية الدولي حديث، وليس بالصغير، لكنه غير مزدحم بتاتاً، عكس المطار في كيرَلا قبل عشر سنوات. كان التعامل جيد حين وصولنا، ولكننا تأخرنا لنملأ نماذج للأجانب، فحينما وصلنا لأخذ حقائبنا كان الناس أقل، لا يبدو أنه وصل غير طائرتنا، ولم يكن هناك أجانب سوانا لحظتها.

الناس ينتظرون وصول المسافرين خارج المطار، مثلما كان الحال في كيرلا، ولا يسمح بالدخول سوى للمسافرين، إذ يحرس الشرطة البوابة الوحيدة على نحو غريب ومتشدد.
حين مغادرتنا، وجدت عائلة مسلمة، تلبس نسائها العباءات السوداء وغطاء الوجه، فيما عدى إحداهن، قد رفعت خمارها وكانت تعتني بطفل معها.
صالات المغادرة تقع في طوابق مختلفة، ويوجد مقاه فيها، وبعض المحلات. طلبت كولا متبل من محل حديث ومرتب على نحو عالمي يبيع الفطائر، وكان أفظع كولا تذوقته، تبين أنه متبل بالكمون. عدت إليهم لأجرب تبديله، وفوجئت بأن البائع الشاب وافق على استبدال الكأس بعلبة كولا، دون أي تردد، وكان مبتسماً وهو يسأل إن كان الكولا الأول سيء. لم تكن العاملة معه راضية مع ذلك، إذ فوجئَت وهي تنظر إليه باستنكار، ووضعت العلبة على الطاولة بجلافة. أنا فوجئت، فهم ليسوا هينين في البيع والشراء.


كان الغالبية العظمى يحسبوننا هنوداً، وهو أمر غريب، لأننا هنا نميز الهنود بوضوح. ربما لعدم اعتيادهم على رؤية العرب، عكس أهل كيرلا، الذين كانوا يدركون بسرعة أني عربي، ولكن ربما كذلك لأن أهل كيرلا أغمق بشرة من هؤلاء القوم على وجه العموم. لكن هذا حدث حتى في السعودية كثيراً بالنسبة لي، حينما يقترح بعض الهنود وخلافهم بأني لا أبدو سعودياً، رغم بشرتي الفاتحة، أو في الخارج. شبهت أكثر من مرة بنجوم بوليوود، سواء من الهنود في السعودية أو بالخارج، وهؤلاء في بوليوود بالأساس أصولهم أفغانية، لهذا هم أقرب شبهاً بنا. لذا، أنا أقول إن حدث تشابه، فهي جيناتنا التي أحدثت الشبه بكل تأكيد، كما هو الحال في الأماكن الأخرى بالعالم التي ظنني الناس منها.





للهندوس إشكال كبير مع غزو المغول الترك، وهو أمر مفهوم لأن المغول دمروا الكثير هناك، وأفسدوا في الحرث والنسل. كان هناك فيلم مثير للإعتراض الشديد في راجستان خصوصاً كما في عموم الهند، مما تسبب بتأجيل عرضه. هو يتعلق بملكة هندوسية في راجستان، يقول الفيلم بأنها أحبت ملك مغولي غازٍ وأصبحت عشيقته. وهي قصة يُكذبونها، خصوصاً أنها تمس شرف امرأة ماتت منذ قرون، وكانت بالنسبة إليهم رمز للشرف والعفة. أنا أصدق الرواية الهندوسية بدلاً عن الأسطورة المغولية التي كتبت بعد قرون من الحدث، وهناك ما يسند قول الهندوس. فالمرأة كانت متزوجة، وقد قتل زوجها الملك على يد القائد المغولي، الذي حاصر المدينة طمعاً بالملكة التي سار الناس بخبر جمالها في عامة الأرجاء، وكانت دائماً مطمع للنبلاء قبل أن تتزوج. انتحرت المرأة ومعها آلاف من نساء المدينة حينما تأكد دخول المغول بعد وقت قصير، بالقفز في نار عظيمة أشعلت لهذا الغرض، خوفاً على شرفهن. كان المغول لا يرحمون بطبيعتهم، وقد تسببوا بموت الكثير من نساء وأطفال السبي بنقلهم بظروف رهيبة وقاسية. وحينما دخل المغولي الوضيع إلى القلعة المدينة، وعلم بانتحار الملكة، تملكه غضب عظيم فهدم المعابد البديعة وخرب المدينة.
أخبرنا المرشد بوصف جمال الملكة، بقوله بأنه قيل بأن بشرتها كانت صافية ورقيقة، إلى درجة رؤية اللقمة تمر في حلقها. أعتقد بأن هذا الوصف متأثر بوصف المسلمين لنساء الجنة، وأُغلِّب بأنه وصف مستجد.

راجستان صحراوية بمجملها، صحراؤها جميلة في بعض المواضع، لكن جمالها بتاريخها. كيرلا ذات طبيعة جميلة وخضرة، لكنها رطبة لا تُحتمل لمن لم يعتد الرطوبة الشديدة. مع ذلك، أهل كيرلا من تجربتي أفضل من أهل راجستان، رغم أن أهل راجستان كذلك لا يخلون من اللين والنعومة بالطباع، إلا أن أهل كيرلا أكثر إقبالاً وأبعد عن المادة، بالمقارنة طبعاً، ونسبياً.



إن من يريد زيارة الهند، فهذا هو الوقت المناسب، لأن عملتهم رخيصة جداً الآن مقابل الريال والعملات الخليجية فيما أحسب. قبل عشر سنوات كانت أعلى مما هي عليه بكثير. يوجد الكثير من الأماكن الجميلة والآثار المذهلة في كل الهند، لكن بسبب الزحام والطباع والمقاييس المختلفة من حيث النظافة العامة، أقترح الذهاب إلى أماكن واسعة يحبها الجميع ولا يشكو منها أحد، مثل كشمير وسيكيم، كلاهما في الهيمالايا، مع عدم إلمامي بصراحة بقيمتهما الثقافية، وأرجح أن سيكيم أكثر إثارة للإهتمام.










الصورتين أدناه التقطتها ونحن ركوب على ظهر الفيل، نصعد التل إلى القلعة:





هذه حديقة قديمة للمهراجا صاحب القلعة في جايبور:





















يستخدمون المرايا، أو المنمنمات المعدنية الصقيلة، في الزخرفة في بعض الغرف الخاصة، لتصنع تأثيرات ضوئية عند إضاءة المصابيح، كما سترون لاحقاً:












































هذا التأثير في غرف المرايا، مع تفتيح الصورة لغرض التوضيح:























الصورة المضحكة هذه للصقر على الشاحنة منتشرة على الشاحنات هناك، لا بد أن لها معنى:






هذه قلعة مهراجا بشكانير، وهي غاية بالجمال والذوق، رغم إهمال المهراجا الحالي، وهو لا يختلف عن غالبية المهراجات في هذا الشأن. يغلب عليها اللون الأحمر:


















































أما هذه فهي جيسالمير، حيث القلعة التي يسكن بها الناس في الصورة أدناه، وتجولها البقر والخنازير:







































































هذه بقرة برية في الصورة أدناه أدخلوها في حديقة الفندق ليراها الناس، ومعها عجل صغير. يبدو أنها معتادة على البشر. كما ترون، هي ليست جميلة، رغم شبهها بحيوانات تعتبر جميلة كالمها والغزال. كنا في اودايبور حينها، وفي هذه البلدة أجمل وأعجب القلاع التي شاهدنا، كانت أعجوبة بكل ما تعني الكلمة، ومعتنى بها على نحو مثير جداً للإعجاب، وكان المهراجا الذي يملكها، وهو فاحش الثراء، محبوب على ما يبدو من الناس، لمشاريعه الخيرية حسبما فهمنا، وهو لا يجني ربحاً من القلعة، إنما أسس صندوق لصرف مدخولات القلعة العظيمة على صيانتها والعناية بها. للمهراجا قصر عظيم حديث، بناه وألحق به فندق فائق الفخامة، وعالي التكاليف للإقامة. صنع لقصره الجديد قبة هي الثانية في الهند من حيث الحجم بعد قبة تاج محل، ولا القبة في نظري أجمل من قبة الأول. تمنيت صادقاً لقاء هذا المهراجا والجلوس معه، بدت لي هذه أخلاق الملوك الحقيقيون، الذين يحترمون دمائهم وأصولهم.

الأمر الغريب أني بعد زيارتها بيوم أو يومين، رأيتها في فيلم أمريكي على التلفاز، باتمان، حيث أسموها: رأس الغول!، هكذا، باللغة العربية!.






























هذه رافعة لجلب الماء إلى أحد سقوف القلعة:






























لم أطلع على الكثير من الحيوانات هناك، إذ لم تكن رؤية الطبيعة بحد ذاتها ضمن خططنا، وإلا لكنا اخترنا مكان آخر. عموماً، رأيت لديهم نوع من الببغاوات الخضراء الصغيرة، يراها المرء في الأشجار في أماكن كثيرة، وهي مبهجة للناظر صدقاً، بأشكالها ولونها الزاهي، وأحجامها المليحة. كما رأينا سناجب، وبعضها لم يكن يخاف كثيراً من الناس. وبعض الطواويس كذلك، إناث خصوصاً. الطاووس لا يحتاج جماله إلى وصف، حتى الأنثى الأقل جمالاً من الذكر، شأن معظم الطيور ذات الاختلاف بين الجنسين. الفيل رأيناه طبعاً، وركبنا واحداً، رغم أنه لا ينتمي لتلك البيئة، إلا أنه حيوان منتشر في عموم الهند على ما يبدو، ليس بالبر، لكن مع الناس. أما إبلهم فحجمها أصغر بكثير من إبلنا، وهي بشعة بنفس القدر. يستخدمون عظامها في نحت التحف، لكنهم لا يأكلونها، أعني الطبقات الهندوسية التي تأكل اللحم.




هذه صور متفرقة من كافة الأنحاء:






هذا غزال رأيناه في محمية. إنه من أجمل الحيوانات التي رأيت. في نظري؛ لطالما كان جمال الغزال ثقافتنا مبالغ بأمره، إذ كنت أفهم جاذبيته من حيث الرقة، لكن لم أرى جماله. مؤخراً، بدأت أدرك أن كثير من فصائله جميلة بالواقع، كالريم لدينا. هذا أيضاً جميل وعجيب في نظري، بسبب قرنيه الشاخصين باستقامة متسقة مع صدغيه، وألوانه غير المألوفة والأنيقة:




















































هذه صور من حديقة الأميرات، وهي حديقة أثرية غاية بالجمال:






















هذه المدينة تقع فوق هضبة شاهقة، تحوي القلعة والقصور وبيوت الناس التي لا زالت مسكونة. هنا أقامت الملكة الهندوسية بادمافاتي محل الجدل بسبب الفيلم، وقفزت لحتفها في النار حماية لشرفها.










أثرت بي أطلال القصر أدناه كثيراً، لا أدري لماذا على وجه الدقة. ربما بساطته النسبية، والإهمال المؤلم الذي طاله، جعلني أتخيله حينما كان حياً بسكانه، ربما بادمافاتي، وهي تصول وتجول آمنة مصونة في هذا القصر.
إن تداعي المساكن والحدائق يقبض نفسي، ويدخلها في ذات الوقت في حالة مستمرة إلى وقت طويل من التأمل والأسف، حالة تخبو وتعود، وقد تبدأ بخفة في المكان، بحكم الذهول ومحاولة الاستيعاب.
رغم الأبهة في القصور الأخرى، والجمال والهيبة، إلا أني فضلت هذا المكان، حتى القلعة في اودايبور وهي معجزة، تقل جمالاً في عيني عن هذه الأطلال. للبساطة دور بكل تأكيد، لكنها مسألة معنوية وعاطفية على ما يبدو بالمقام الأول.




















بادمافاتي...
عفة ملكة هندوكية...
ذادت عن عرضها بالحريق...
وملك مغولي مسلم...
لا تعرف الرحمة إلى قلبه طريق...
أجرم الخسيس بإسمنا...
فنُسب إلى ديننا ما ليس به خليق...
إنما هو عرق شهدناه في الترك...
عرق نجس همجي صفيق...
ابتلينا بالعلوج إذ أسلموا...
فأجرموا في كل فج عميق...
الله شاهدك وشاهدنا جميعاً...
أيا عفيفة أبت غير الشرف رفيق...
















قراءة المشاعر الحقيقية في مواقف الناس أمر محيرأحياناً، حيث لا مباشرة في التعبير لدى الكثير منهم. وأحياناً، ينعدم الصدق، فيقودك إلى الإعتقاد خلاف ما يضمر، لسبب أو لآخر، وهذا أمر معتاد، حتى فيمن يحسنون الظن بأنفسهم، ولا يهمهم أنه أمر ينم عن سوء الطوية والخبث، طالما يخلو من الإلتزام. البعض عذره الحرية، فهم أحرار بالرسائل الغامضة التي يرسلون وبتلاعبون بها، والبعض عذره الخشية من الالتزام بشيء، وذلك لسهولة التراجع عن المواقف المبهمة، إنها مسألة إثارة ودراما حينما يريدون، لا أكثر، ولا يرون فيها أي خلل أخلاقي. يُولّد هذا السلوك ردة الفعل أو الاستجابة المباشرة والواضحة من طرفي عندما أسيء الفهم؛ وهكذا يتبين أني استجبت إلى فراغ، لا شيء، بطاقة تم سحبها ببساطة. وأحياناً، ردة فعلي، أو مبادراتي، يُبالغ في قراءتها، وتُحمّل ما لا تحتمل، إن كثير من الأفراد لم يعتد على الود والترحاب والفرح برؤيتهم أو وصلهم، ولم يعتادوا العطاء بهذا القدر، فيخشون دورهم، ويروعهم هذا فيتراجعون بلا تفكير متعمق أو تأكد من التوقعات الحقيقية. أحب المباشرة والوضوح، وهو أمر في غاية الندرة، وهي أمور وجدت الكثير من الناس يستنكرها، فهم لا يعطونها أو يجيدونها بالمقام الأول، فلا يألفوها حينما تصلهم من شخص آخر، ولا يدرون ما هي وما مدى الإلتزام، وكل ما في الأمر غالباً هو السلام والتقدير العميق، لا أكثر. أما من يفهمونها لكنهم ينسحبون بعدما استدرجوا هذا الشعور والشكل من التعبير، فهم يفهمون سوء طويتهم، التي يرون أنه لا شيء يعيبها لأنهم لم يكذبوا كذباً صريحاً.

أتصور بأن هذا الخلل الأخلاقي العميق مرده العادة في التحايل على الظروف، حتى على المستوى الديني، وهو أهم مستوى في حياة الإنسان في مجتمعنا الجزيري بالذات، فبعض الناس يحتالون مثلاً في زواج المسيار والمسفار وهذه القذارات، ويقال لهم بأن هذا صحيح، وقد عزز الإرث المحلي بأمثلته هذه اللا مسؤولية والإستجابة بقدر الإمكان للشهوات والحِيَل ولو كانت تنم عن الرخص، كقولهم حط بينك وبين النار مطوع، ويقف المعترضون ملجمين بلا حيلة، لاستخدام الناس حجج دينية للتبرير. بالإضافة إلى تعميم بعض الحالات والقياس عليها وإن لم تحتمل الأمانة التامة، فالغاية تبرر الوسيلة، ويمكن طحن من أمامك في سبيل خلاص نفسك من الذنب؛ كالحصول على العفو والمغفرة من الآخرين بالإحراج او حتى بالخداع، وذلك بقول سمعته بأن الشخص لو نطق بالعفو عنك فقد حصل، لا ذنب عليك، ولو لم يفهم الأمر، ويمكنك تجاهله بعد ذلك. هذه أمور تجد من يبررها، ومن يقيس عليها مختلف المواقف، ولا يفكر بتداعياتها، فلا أحد آخر مهم، طالما من منطق شبه رياضي، لا إنساني، هذه أمور مقبولة.
أصبح لدي شك بأني لا أحسن قراءة الرسائل الصامتة، أو الموحية حتى عند الكلام، كما بين السطور، وكأني أقرأ الأمور بالمقلوب، وأحتاج إلى تصحيح، وهو ما لا ينتهي دائما على خير، إن حدث أصلاً. إني دائماً على استعداد لتغيير رأيي سواء كان جيداً أم خلاف ذلك، لأني قد أسيء الفهم بالأساس.
وهنا، أتحدث عن مجتمعنا بالذات، فأنا لم أصادف هذه المشكلة مع أحد خلافاً لنا وباقي العرب الأجانب. لا أتذكر بأني أسأت فهم أجنبي إطلاقاً.


















كبرتِ!...
وقد كنتِ البارحة...
في ذهني...
مجرد طفلة...
سهِمتُ في عرسك...
بين أقارب غرباء...
كيف مر العمر في برهة...
كبرتِ وكهلتُ... 
ستبدئين حياة موفقة... 
بتوفيق الله...
فهذا ما اتمناه لك...
يا طفلة...




















لطالما تمنيت منذ طفولتي أن أتناول الكريمة المخفوقة من انبوب الرش. رأيت هذا في مسلسل بنكي Punky  حينما كنت صغيراً، وكان يصعب علي تخيل بأني سأرى مثل تلك الأنابيب. الآن نراها في المقاهي، ونشتري أنابيب أصغر وأبسط للبيوت. هذه الأنابيب الأصغر شكلت لي عقدة اتصالاً بتلك الأمنية القديمة. كان من المعيب الشرب مباشرة من إناء سيستخدمه الجميع، كالإبريق أو جيك الماء، يجب السكب منه في كأس؛ ينطبق هذا على الأنبوبة، كان الأمر مثير للحسرة. خرجت مع شابين قبل سنوات، عرفت أحدهما في منتدى ألعاب على الانترنت. ونحن نتحدث، حكيت عن هذه الأمنية، فقال أحدهما، لماذا لا تفعل؟!، أسقط في يدي، لماذا لم أفعل هذا؟، إنها أنبوبه ترمى بعدما تفرغ، مثل علب الكولا، ويمكنني الإحتفاظ بواحدة لنفسي فقط، لكني حاولت التبرير مع ذلك. ظل الاقتراح يتردد في ذهني، وتطلب الأمر سنوات حتى خلصت في النهاية إلى أنه يمكنني تناول ما يتبقى بالعلبة، قبل رميها، إذ لا زلت أشعر بأني سأفسد النعمة لو تناولته وهي مليئة، لا أدري لماذا، لكنها مسألة تربوية، النعمة لها قداسة، وقد نقوم بأمور مروعة لحمايتها، كما أني تعودت على عدم التأثير فيما قد يتناوله الآخرين باللمس حتى، فكثيراً ما أحاول إعادة ملعقة إلى المطبخ مثلاً لأني أمسكتها بشكل خاطئ، أو أرفض إعادة طعام إلى الماعون أو العلبة لأني تذوقته، مما يثير اعتراض البعض. أقول أمنية طفولة بسيطة واعتباطية، تطلبت عقود لتحقيقها، إن الأمر يشبه قصة الفيل المربوطة قدمه بكرسي. ما الأمنيات الأخرى التافهة التي ستدخل السعادة إلى قلوبنا، ولكننا نتردد لأسباب أتفه؟ ناهيك عن الأمنيات المهمة.
التجربة جميلة، أن ترش الكريمة مباشرة في فمك، إنه شعور لا يوصف، لم أكن مخطئاً في طفولتي. حدث قبل فترة أن الكريمة فرغت قبل تقديري، فنفختُ خداي خطأ بغاز الضغط؛ كان شعور مُجفل، لكنها تجربة جميلة كذلك.


















باتت الكليجا مطلوبة في اليونان، على الأقل في نطاق أسرة واحد من صديقيّ اليونانيَين، أهله وأهل زوجته. يفاجئني دائماً بهدايا كثيرة من هناك، لي ولوالدتي وأخواتي، كزيت الزيتون من مزرعة والديه، والعسل، وأشياء تعدها والدته وزوجته، وأشياء من السوق. فأرسل معه ما استطيع من أشياء. أرسلت كليجا ذات جودة عادية، أفضل ما أمكنني إيجاده في الرياض، معه في المرة الأخيرة. أخبرني هذه المرة أن الأهالي هناك يريدون كليجا هذه المرة، ومن أين يمكنه أن يشتريها؟. اشترتها أختي له من القصيم حيث تعيش، صنيع نساء هناك، وخلطت له قهوة عربية، خلطة تختص بها شقيقتي هذه وتشتهر بها في أوساطنا، إذ أنها أعجبتهم في المرة السابقة. عرفت أنه حصل على تمور من الرياض بكمية كبيرة، لأنهم طلبوها منه كذلك، لكنه طلب القليل من تمور بستان أختي في القصيم للتجربة.
أخبرني بعد أيام من وصوله بأنهم جربوا الكليجا، وقد داوموا على شم القهوة من الأكياس كلما استطاعوا، إذ لم يتمكن من إيجاد الوقت المناسب لصنعها في زيارتهم إلى أهل زوجته، لكثرة الأنشطة والخروج من المنزل نهاراً. ثم ذهب إلى اسبانيا، ولا أدري إن كان قد أعدها لهم. لاحقاً، أرسل إلي صورة من قرية والديه، وهم مجتمعون حول القهوة، في إبريق زجاجي.





















أعتقد أن جمود قلبي وعدم ثأثري سببه استشرافي لما سيكون وموضوعيتي المستجدة؛ لقد فهمت على نحو لا يخالطه شك أخيراً بأن الغالبية العظمى من الناس يسأمون إبداء الطيبة والمحبة، يسأمون أن يكونوا طيبين لوقت أطول من لقاءين أو ثلاثة، في حين أحسب بأن هذا موقفهم النهائي مني، ولن يتغيروا بلا سبب، كما هو موقفي منهم. لعل الاستشراف والتوقع يجمد القلب، ومع الوقت يصبح لا إرادياً، طبيعة. ربما كان هذا تطور طبيعي، وسيلة وقائية للقلب المرهق، فلا تشكل خيبات الظن أكثر من موقف مقروء ومجرد، ينتهي في لحظته، في معظم الأحيان.














***



قصائد وخواطر انتهت صلاحيتها:




إلتقينا صدفة...
إذ أخذتني على حين غرة...
يوم جمعنا دفئ الشمس...


انتظرتني بإبتسامة...
إذ خرجتُ من خلف شجرة...
في ثانية داهمتني سنوات الأمس...


هل كان حقاً أنت؟...
فقد ذهبت بيقيني لما ابتسمت...
أتمنى لو تيقنت...


هل حقاً بابتسامتك تصدقت...
أم أنه غريب يشبهك وأنا تعجلت...
لكني لو سألتك لما أجبت...


أحاول أن أنسى...
فهذه الحيرة غير ذات مغزى...
فماذا لو كان أنت؟...


لن يسعفني الحظ برؤيتك مرة أخرى...
وإن حالفني، فسيخونني إدراكي...
وتعذبني الذكرى...


كانت ابتسامتك الجميلة الغريبة...
حيث تبتسم وكأنك أمام ظاهرة عجيبة...
وكأني تمثال أُذن له أن يمشي...
هكذا كنتَ تتأملني في أوقات قديمة...


لم تبتسم لي، إنما لأني حضرت...
فهذا ما عنه أدري...
لذا لا يهم...
إن كان غريبٌ، أو إن يكن أنت...
ولكن، ماذا لو كان أنت؟...
ماذا لو كان أنت…


***


بحزن ودعتك...
بينما أراك تغيب في صفحة القدر...
في صفحتين أو ثلاث من ثم صادفتك...
هكذا في كتاب القدر الذى مضى...
أتصفح وأتذكر رضاك وغضبك...


تينك العينين...
عسلية مشوبة بخضرة...
نجلاوين...
وإن تجلت فيهما القسوة...


حتى في أحلامي اخاف...
من حال مزاجك...
إذ لم أميز يوماً...
كذبك عن صدقك...


لم يعد أي من هذا مهماً...
فليس لي نصيب من قلبك...
ليس لي سوى تذكر عيناك...
إذ آمل أنها لمرة ما كذبت...


***


مآسينا...
ليست نهاية العالم...
لكن...؛
عساها نهاية المطاف...
عساها...
آخر الأحزان...
عساها نصيبنا ونصيب أحبابنا من الأتعاس...
كلما طال الأمد...
يحار المرء ويتساءل...


ابتسامتك...
تعني لي الكثير...
إذ أقاسي منذ عرفتك...
وأنا آمل أني افتديتك...
من الأنكاد...
وسوء الحظ والنصيب...



***


أيا حبيب الشباب والصبا...
في حيرة من أمري...
هل أدركت كم تغيرتُ في عقد مضى...
عرفتَ شكلي فابتسمت...
ما علمت أن هذا لم يعد أنا...


هل تعود السفن بها البحر عصف...
بلا بلى ولا عطب...
مسني الضر منك وسواك وطالني التلف...
لكن ما صار قد صار، وإن أطفأني التعب...
لعل الله مع ذلك قد عفا عما سلف...


لست أكرهك...
لكن لم يعد بي جهد لأعطي الوعود...
وما أظن ما صرت إليه قد يعجبك...
لم أعد متوهجاً...
لم أعد واسع الحيلة الذي أشغلك...
مستوحش أنا...
ولكن إن أقبلت رحبت بك...
وإن صددت أتجاهلك...



***






























حدث أمر استغربته كثيراً، إذ هاتفني طبيب والدتي بنفسه، ليخبرني بترتيبه لعملية اتفقنا عليها، وليسأل ماذا صنعت بتحويل أعطاني إياه، وكنت قد عدت إليه لأن الجهة في نفس المستشفى رفضت أن تقتنع بأن الأمر مستعجل، فأعطاني تحويل بصيغة أخرى، وهي صيغة أخرست موظف الأشعة الخاصة الصفيق المتململ. كان قد أخذ رقم هاتفي، لكني توقعت الإتصال بعد أيام طويلة، ومن ممرضة أو مساعدة أو موظف استقبال، وليس من هاتفه الشخصي. إن الأطباء السعوديين، وحملة شهادة الدكتوراه منهم وإن بسطت تخصصاً، بمجملهم حساسون تجاه التواصل بكل أنواعه مع من يروهم أقل شأن ومنزلة، بعبارة أخرى، مغرورون متكبرون. هذا يحاول أن يتبسط ويتعاون منذ سنوات طويلة، وكنت أقدر له هذا، بعد أول زيارة لنا لعيادته، وكان فيها فظاً جداً، واستمريت بعدها لا ابتسم في وجهه، اعامله بجمود وبرود، وأنظر إليه شاعر بالاشمئزاز، بلا اكتراث، أو حتى ملل من حسن مزاجه في بعض المرات ومحاولته التلطف، نازعاً الجانب الإنساني من المعادلة، لا أكثر من هذا، فلست أخاطر بموقف والدتي، مراهناً على نسيانه لي، لعلمي بعدم أهميتي كمرافق، وعدم أهمية والدتي كمريضة بالمقام الأول فيما لو بالغت وأغضبته، فليس لديهم فكرة عموماً عن أخلاقيات الطب، ناهيك عن الإنسان، ولا رادع لهم في الدين عموماً، هكذا هي رؤيتي لهم.
مع ذلك، تحسن أسلوبه على نحو متصاعد وواعٍ، وتحسن موقفي كذلك وإن يكن ببطئ شديد بعد فترة، وقد بدأ يعرفني ويعرف والدتي حالما يرانا ويحتفي بنا، ويهتم بوجودنا، والكثير من الأطباء يعرفنا لكن لا أحد يحتفي، وأعتقد أن الكل يعرف أني سعد، لأني مذكور في الملف على ما يبدو. هو طبيب متمكن جداً ما شاء الله، وتم تحويلنا من عند طبيبنا الأول، الذي كنت أحقد عليه، ليس لسوء تعامله، لكن لأنه أخافني ذات مرة، قبل أكثر من عقد، على والدتي، ولم أتمكن من الكف عن البكاء معظم ذلك اليوم، وبالكاد تمالكت نفسي في الجامعة، بعدما عدت إلى محاضراتي في ذلك اليوم، إذ أخبرني بأنها لن تعيش طويلاً.
أما هذا الطبيب فقد أخبرني في الزيارة السابقة للأخيرة، أو ما قبلها، بأنه في حال وجود خطر، فلن يتعب والدتي بجراحة وعلاج، فقد عاشت لسنوات ولا داعي لإتعابها. منطق جاف، قاسٍ، لا إنساني، لكني لم أقل شيئاً، لأني أعرف بأنه الأفضل في حرفته، ولو اكتشف شيئاً وكان هذا موقفه لاحقاً فسأجد غيره بكل تأكيد، أما وهو الأفضل في المتابعة خلال سنوات طويلة، والأكثر اهتماماً إلى درجة تحويلنا لفحوص في مستشفيات أخرى، فلن أفسد على والدتي، بعدما عرف حالتها جيداً. إنها مسألة براغماتية؛ إني على استعداد لتحمل الإهانة والجرح لأجلها، كنت قد تواصلت مع شخص قد قررت ألا أتواصل معه، لأجل أمر طارئ كان يمكنه مساعدة والدتي خلاله، وكنت قد حاولت أن أحصل على تمويل من أحد ما لإجراء عملية لها بعدما شحت مواردي، بعد محاولة أولى فشلت، وهو أمر ما كنت لأفعله لنفسي، رغم أني لم أحصل على شيء بالنهاية. لم تكن آراء هذا الطبيب الأخلاقية تهمني كذلك، لأنه ليس بصديق أو مهم على المستوى الشخصي لأطيل الأمر معه.
لذا، فوجئت هذه المرة حينما قرر إجراء العملية مباشرة من تلقاء نفسه، وقد بدأ ونحن عنده بالتواصل مع الجراح بالوتساب، وأرسل إليه صور الأشعة. لم أكن أحب الجراح كذلك، فهذا مغرور جداً بقدر ما رأيت منه إذ أجرى العملية الأولى عند بداية نفس المشكلة، وكانت عملية ناجحة ولله الحمد، رغم أنه لسبب ما يبتسم حينما يراني على مر السنوات، ليس لي، ولكن وكأنه رأى نكتة، في الأوقات التي أصادفه فيها قرب مسجد في طريقي للمستشفى لترتيب موعد أو الحصول على أدوية، وقد صادفته أكثر من المعتاد على نحو غريب.
هو من أجرى العملية الأولى لوالدتي قبل عقد ونصف. له أسنان أرنبية، ليس أنها كبيرة، لكنها تشبه أسنان الأرنب.
أشعر بالامتنان الشديد لطبيبنا. أحرص مع ذلك على ترك مستوى التواصل على أضيق الحدود.
























أشفق وارحم... 
الشقي اليائس... 
إذ انحنى يلملم كِسَرَ إناء محطم... 
وقع بآماله في يوم بائس...
كيف لجوع القلب أن يشاوف... 
ويقرأ في ابتسامة أمل زائف...
رغم يقين متردد... 
ونظر زائغ... 
وقلب تالف...























كنت في غرفة إنتظار ضيقة في المستشفى، حيث حضرت ووالدتي لإجراء أشعة. كنت أقرأ مقال في جوالي عن كشف أثري في الصين، ويظهر في الصورة تمثال يحيط به العلماء. فوجئت برجل بجانبي، لعله في آخر الخمسينات، يسخر مني، وهو يشاهد ما أقرأ، ويعلق للجميع بأن الجوالات استولت على عقول الناس وأصبحت مضيعة للوقت، وأننا لا نستفيد منها كما يستفيد الغرب، ساخراً من صورة التمثال!. حاول البعض مناقشته وتخفيف حدة خطابه بالإبتسامات، لكنه ظل يسخر، ويشير تجاهي باحتقار. لم أجب بشيء، واستمريت أقرأ وإن فقدت تركيزي، حتى صمت. كانت لهجته حائلية، لكني لم أعهد قلة الذوق هذه من حائلي قط، بلا مجاملة. لم يصبر، وعاد مرة أخرى لمنقاشة تعلق الناس بالجوالات وتضييعهم للوقت بعصبية أكبر، وبصوت أعلى، ويبدو ان استمراري في القراءة في مقال لم تعجبه الصور المتكررة فيه لا زال أمر يستفزه. لم أستجب لوقاحته. لما نهضت لاحقاً لأتكلم مع والدتي، التفت صدفة فوجدته ينظر تجاهي بإزدراء، كان لا يزال يراقبني، ورفع حاجبيه وابتسم هازاً رأسه بطريقة تنم عن الإحتقار والسخرية. لم أتصور بأني أشغلت ذهنه طوال الوقت، فهو ظل يتابع ما يجري بجوالي، وحينما قمت ظل يتابعني.
أعتقد بأن الأمر يتعلق برغبته بإظهار موقف من طريقة استخدام الناس للجوال هنا، فهي لا تعجبه، بالإضافة إلى أن شكل المقال الذي أقرأ قد استفزه على ما يبدو، وأفترض أنه لا يدري ما هو لأنه بلغة انقليزية، وبدا أنه لا يفهمها لأنه طلب مني في مرحلة من سخريته أن أسجد للتمثال مثل المجتمعين حوله، وهو لا يدري بأنهم خبراء آثار، وليسو مصلين، وكانوا وقوف كذلك. كان العنوان كبيراً وواضحاً. وربما استفزه عدم استجابتي، إذ لم أحاول مناقشته بشيء.
منذ زمن بعيد لم أواجه مثل هذا، أو أشهد على وجوده، لكني رأيت مثل هذا الموقف قديماً، ولعلي أفضل حظاً ممن رأيتهم ضحاياً للجهلة ومنكوسي المبدأ.




























لدي اعتقاد راسخ بأن الدوّارات في شوارع الرياض يجب أن تحوي جميعها على إشارات ضوئية، إن لم يكن هناك استعداد لجرفها وجعلها تقاطعات بإشارات ضوئية. لا يعرف الناس هنا كيفية استخدام الدوارات، وأكثرهم تهوراً سائقي التكاسي الباكستانيين، فكم من مرة كاد أن يسكت قلبي معهم عند الدخول في دوار، وهي شديدة الخطورة على من دخلها، وعلى من يفكر بالوقوف من الداخلين حتى يمر من في الدوار كما يجب، إذ يخاطر بأن يصدمه أحد ما من الخلف، إذ لن ينتظر أحد.
أحدهم احتك بسيارتي مؤخراً، لأنه لن ينتظر مروري في الدوار، وقد استفزه على ما يبدو أني لم أتوقف في وسط الدوار لأوقف كل من خلفي ليدخل العم، وكان هذا في الصباح، لكني تركته يذهب لما رأيت أنه شاب ليس بالكبير وربما يدرس في أواخر سنوات الجامعة، وبدا أنه نزل مستسلماً ومصدوماً، ولم يهرب. لحسن الحظ، تمكن ابن أختي من إزالة الأثر من سيارتي في محل متخصص، وهذه شؤون لا أفقه بها. هذا دوار خطير على وجه الخصوص، في طريق كبير يزداد ازدحاماً مع الوقت. لا أظن بأنه مر يوم بلا حادث فيه، بل إن بعض أبناء إخوتي تعرضوا فيه للصدم مرتين على الأقل. أخي الكبير تعرض فيه للصدم مرتين، ورغم أن الخطأ يقع بوضوح على هندي يبدو أنه في أواخر أربعيناته أو بداية خمسيناته، يقود سيارة شركة، إلا أنه لم يقتنع بحكم المحكم الرسمي، من شركة نجم، رغم أنه هو من دخل الدوار خطأ باستعجال وصدم أخي، وقد كان أخي لا زال فيه، وصب جام الدعاوى على أخي وافتعل مسرحية، وهؤلاء الأجانب عربهم وعجمهم اعتادوا على مخافتنا لله ووسواسنا المؤسف، إذ ما إن يلجأوا للدعاء والتظلم والبكاء حتى نبدأ بالخوف، مهما كان الحق معنا ومهما كنا نعرف ذلك، نخاف أن نَظلم، ونتنازل ونتعرض بالنهاية نحن للظلم والاستغفال. لحسن الحظ، لا يجدي هذا الإبتزاز العاطفي الرخيص مع أخي، ولا معي، وكان الهندي قد ذهب إلى أبعد حد منه، تخويفاً ووعيداً وتظلماً، ولم نجبه بشيء.
أجد الناس في القصيم، مهما كانوا يسرعون، إلا أنه لا أحد يدهم الدوار بينما السيارات لا زالت فيه، الكل ينتظر مرور السيارات، ويبدو لي أنهم يعرفون من جاء من الرياض بهذه المخالفات، بل يبدو أني لم أقدر المسافة قبل قدوم سيارة أخرى على نحو جيد ذات مرة، ودخلت الدوار هناك حينما لم يكن يجدر بي، لكنه كان خطأ المرتبك؛ إذ يبدو أن الناس اعتادوا هناك على صبر أطول عند الدوارات، بالإضافة إلى اقتراب سيارة خلفي، مما أدخلني بحالة ذعر لأنه بالرياض قد لا يتوقف من خلفك خارج الدوار وقد يصدمك وأنت تنتظر. لا أدري عن المدن الأخرى وحالها مع الدوار، أعرف مثلاً بأنه لا تمنح الرخصة في الدمام والخبر إلا لمن لا يعرف كيف يقود السيارة، أو هذا ما بدا لي، لكن لا أدري عن تعاملهم مع الدوار.

وجدت سائق لأوبر، أوصلني ووالدتي من المستشفى، رجل سعودي، أخبرني بأنه لم يرى من يحترم الدوارات مثل أهل تبوك، وعزا هذا لكثرة الدوارات عندهم وقِدمها. لم أخبره عن القصيم، لأني لم أشأ التحدث كثيراً. لا أدري لماذا، شعرت بأن الرجل يعرفني، أو يشتبه بأنه يعرفني، ولم يرد أن يخبرني بهذا، فلم أشعر بالإرتياح، كان أسلوبه غريب إلى حد ما، وأنا أذهب دائماً وأعود مع أوبر إلى المستشفى، وكان هذا يذكر اسمي وكأنما يلوكه. أخبرني كذلك بأن تعامل أهل جدة مع الدوارات بسوء تعامل أهل الرياض معها أو أسوأ. لم أتذكر أن أسأل شاب من جدة أوصلنا في مرة أخرى، وقد كان جديداً على الرياض، مذهولاً من الزحام والمساحات، وقد علق بأننا نسيء تقدير الرياض ونسميها مدينة، بينما هي أكثر من مدينة واحدة.





بالواقع، أصبحت أتوجس من الناس الذين يتعاملون بغموض، وبقدر ما يبدو عليهم الحذر أحذر، حتى لو كنت أعرفهم.
بينما يتظاهر القليل ممن ألتقي ولنا سابق معرفة بأنهم لا يعرفون عني شيئاً أكثر مما يظهر، إلا أنهم بنفس الوقت يريدون مناقشة آرائي التي أكتب كما تُناقش رسائل التخرج، بنية ترسيبي بامتحاناتهم هذه وإحراجي، سواء ما أكتب هنا أو ما أنشر في قوقل بلس من أخبار وأعلق عليه، أو وكأنهم قرأوا نصف ما كتبت، وعلي الآن إعادة النصف الباقي على أسماعهم ثم محاولة إقناعهم. بل إن أحدهم احتج بفجاجة حول ما أنشره عن موضوع معين، وتعبيري عن رؤيتي له، بينما كان في البداية يتظاهر بأنه يستطلع رأيي ببراءة، بعدما استدرجني للنقاش وكأنه لا يدري برأيي، إلا أنه لم يصبر حتى يبدو مقنعاً على الأقل بكونه لا يعرف رأيي كاملاً، وليس لديه رد جاهز، لم يصبر حتى على إتياني بردود توضح وجهة نظري خلال النقاش، وحاول بقدر الإمكان مقاطعتي والضحك علي وأنا أتكلم!، ولا أدري إن كان رأيي مضحكاً، فلماذا كان مهماً إلى حد أنه تطلب هذا الإستدراج والمخادعة؟. لا يعرف الكثير من الناس سوى هذه الطريقة على ما يبدو. لكني أحب وأحترم المباشرة والوضوح، بينما تأتي الأساليب الأخرى في سياقات بعيدة عن الذوق أو التقدير حتى لو توقفت عند حدود الأدب ولم تتجاوزه؛ إذ أن تقدير الطرف المقابل، أنا في هذه الحالة، وغيري في كل الأحوال، وتقدير الشعور، أمر مهم جداً لدي، حينما لا أكون، أو يكون الطرف المقابل معتدياً. ذلك أني لا أحب الجدل البيزنطي، ولا يهمني أن أغير رأي شخص محدد بالذات. لقد كرهت الجدل منذ زمن بعيد، وأكره بشدة أن أُستدرج إليه استدراجاً، وينطوي هذا دائماً على تداعيات وإن لم تكن بادية لعيان الطرف المقابل لي؛ حذر، أو برود تجاهه، أو خسارة احترام وتقدير، خصوصاً حينما يتحول ما كان ظاهره نقاش إلى محاضرة، وازدراء، كأن يتكلم ويتكلم وحينما تريد أن تتكلم يحاول منعك بكل ما يستطيع ومقاطعتك، وحينما يفشل يبدأ بالضحك وأنت تتكلم (أشخاص في الثلاثينات من عمرهم وأكبر يفعلون هذا)، هذا أمر يحبطني مباشرة، ليس لأني مخلص للموضوع محل النقاش إلى درجة أني أود أن أقنعه، ليس هذا هو الأمر، إنما ما يحبطني هو موقف الشخص المقابل، وهو يبيع احترامه بهذا الأسلوب بسعر بخس فقط ليحرجني ويجرحني لأجل أمر غير شخصي، يجعل هذا تقييمي للشخص أمامي واضح وسهل، ومحزن. الثقة الزائدة بالنفس والتفكير المتمحور عليها أمور منفرة جداً، كما عدم الوعي بما قد يفكر به الآخر على نحو دقيق، وما يحس به تجاه هذا التحايل والفوقية.
أستخلص الفوائد، وأتعلم عن الناس بتقليبي للفكرة والموقف، وهذا ما يجعلني أتفادى بعض النوعيات وأبتعد عنها، إذ نلت ما يكفيني من الأذى واللا فائدة. بعض الناس بالمقابل أكثر مباشرة وبساطة، قد يقول لي أحدهم بانه لا يوافق على ما كتبت، ونتكلم بالأمر، لكن هؤلاء ندرة. أتذكر أحدهم أخبرني بأنه لا يوافق على رأيي في عنصرية مارسها تافه اشتهر باليوتيوب لفترة تجاه ممثلة سعودية مستجدة، وهي سوداء، إذ سخر من لونها في فيديو على نحو مثير للاشمئزاز، وتأييدي لرفعها شكوى عليه برسالة عامة على قوقل بلس، كان رأيه بأنها ممثلة بالنهاية. هذا رأي الكثير من الناس بالطبع، لكنه أعطاني الفرصة للرد والمناقشة باحترام متبادل، بلا إملاء أو خداع أو تذاك، وقد احترمته لذلك. وما زاد من احترامي هو أنه لم يتظاهر بأنه لا يرى ما أكتب ولا يعرفه، رغم جهلي بذلك صدقاً قبل أن يتكلم.
اكتسبت الحذر والإنتقائية حال مواجهة احتمالية الجدال خلال صداقة ذريعة الفشل وسيئة الأثر امتدت لسنوات. ولهذا أقول بالانتقائية، فليس الكل أريد مناقشته، وحينما أُسلب الخيار إما بالاستدراج المتحاذق أو بالخديعة بسبب ثقتي السابقة، أخسر هذه الثقة بسرعة، وإن لم أخسر التقدير والمحبة للشخص في كل الأحوال، فهذا خاضع للشخص، فالبعض يخطئ، نحذر منه لكن لا نكرهه.
إني كالطير الذي وثق بك وحط على كفك، لكنك خنت ثقته وقبضت عليه فجأة بقسوة؛ وحتى لو أفلته بعد ذلك، فلن يعود إليك، إلا إن أحدث الله أمراً.





















إحساسي الآفل...
يودعني وأنا أتصدد...
أتركه خلفي غير حافل...
ولكني أتردد...
فأعود مسرعاً بقلق الآمل...

هل لا زال حياً؟...
أجري عائداً أتسائل...
فارقته محتضراً... 
بعد الخذلان غير مبال...

يا لقسوتي إذ قتلت إحساسي!...
لأجل حب زائل... 
خيباتي... 
في حبيب مخاتل...

احتضن إحساسي... 
وأرفع يده تجاه قلبي الذابل... 
وأنظر للبعيد بينما ينتعش... 
إذ يخيل إلي حبيبي وهو راحل... 

قدر إحساسي المعاناة... 
فلا هو بحي والحب يُتبادل... 
ولا هو بميت... 
لا يعنيه التفاؤل...




















جاء معرض روائع آثار المملكة، الذي طاف العالم لسنوات، وحط رحاله في الرياض أخيراً لفترة محددة. لا يمكن وصف مدى سعادتي صدقاً، إني لا أبالغ إن قلت بأن مثل هذا الحدث يمثل عيداً بالنسبة لي. لكن كانت المعضلة بالوقت؛ لم يكن وقتي أضيق مما هو عليه الآن في حياتي، وطاقتي في ذات الوقت متداعية ضئيلة على الدوام. لا يمكنني الخروج من المنزل إلا في أوقات محدودة جداً، في وقت متأخر من الليل، وحينما يحين ذلك الوقت أكون في الرمق الأخير من أي نشاط ضئيل احتفظت به طوال اليوم، فأفضل البقاء أو شراء حاجيات المنزل والعودة بسرعة، إن لم أكن قد اشتريتها خلال عودتي من العمل لأتجنب الخروج من المنزل. تمكنت من زيارة المعرض قبل نهايته بقليل، لكني للأسف لم أطلع إلا على بدايته لوقت قصير جداً، حينما اضطررت للعودة لأجل مرافقي الذي احتاج إلى المغادرة. لست نادماً على المغادرة مع ذلك. المتحف الوطني بعيد جداً عنا، فكان وقت الذهاب والعودة أكثر بكثير من مدة بقائنا هناك.
الآن، سيكمل المعرض جولته العالمية، وقد حط في طوكيو الآن. هذه اللحظات التي أتمنى بها لو كنت شديد الثراء، حتى ألحق بالمعرض حيثما كان.























































أفكر منذ سنوات طويلة بأن التخصص بالآثار هو ما يناسبني، هو ما يلائم قدراتي واهتماماتي. لكن حينما دخلت الجامعة، وفي الثانوية، كان السؤال الأكثر  إلحاحاً هو كيف سيحصل المرء على وظيفة لاحقاً؟، فكان مجرد دخولي للتخصص الأدبي أو الشرعي في الثانوية مخاطرة تجاه مستقبلي الوظيفي، خلافاً للوصمة بالغباء والنقص من الأقران في المسار الطبيعي والأساتذة، فما بالك بالتخصص بالسياحة والآثار في الوقت الذي كان محكوم على خريجيه بالفشل في إيجاد وظيفة حسبما كان يقال.
بالواقع؛ كثيراً ما فكرت بأنه كان الأجدى لي أن أتخصص بشيء آخر، وأدرس اللغة الإنقليزية بذات الوقت، بدلاً عن التخصص بها كمترجم. كنت أفكر بإدارة الأعمال، والآن أعتقد بأنها لا تلائم قدراتي، مثل التخصص العلمي في الثانوية، إني لا أجيد التعامل مع الأرقام. أما كوني مترجم، فالإضافة الوحيدة التي أستشعرها هي التحدث باللغة الانقليزية، ربما أفضل مما لو كان حالي التعلم في معهد، لكن كان الأمر ليؤدي الغرض كذلك. مساعدة الناس من خلال الترجمة أمر جيد، لكنه محدود ولحظي. أما اللغة الانقليزيىة فهي ضرورية للتوسع بالإطلاع أساساً، لكني أجد نفسي مترجماً كذلك. إني منفصل ذهنياً عن مهنتي خارج المكتب، فهي أداء واجب بلا شغف، ولعلي قد أجفل لو ناداني أحد بالمترجم أو أشار إلى مهنتي خارج العمل، ربما.
الآن، وقد مر العمر، لا أمل لي بالتخصص بشيء آخر من خلال الماجستير، سوى اللهم إدارة الأعمال، وهو تخصص لا يناسبني، ولا يمكنني الآن التخصص بالسياحة والآثار، إلا ربما العمل في مجال السياحة والإرشاد بشكل أو بآخر. لكن ما يجري في مخيلتي حول ما أتمناه، ما يشغل ذهني لتسليته كأمنية بعيدة المنال إن لم تكن مستحيلة، ما هو المستقبل العملي والفكري الملائم تماماً، هو أمر شديد الإختلاف. حتى أنا لدي أماني حقيقية، لكن الأماني تختلف عن الطموح. 
















كثيراً ما مررت بقرب سوق وأنا في طريقي إلى فرع للدانوب في شمال الرياض، وكان يبدو خالي الوفاض لخلو مواقفه من السيارات تقريباً. قررت ذات مرة زيارته بعد خروجي من الدانوب، وفوجئت بما وجدت. السوق اسمه سبار، وهو مماثل للدانوب وبنده والتميمي، إذ يبيع إلى جانب المنتجات المعروفة منتجات خاصة به. فوجئت بالأسعار وبالنوعية، الأسعار أرخص بلا مقارنة، والجودة عالية. المخبز كذلك لا يعلى عليه، من حيث التنوع والجودة. توجد كذلك خيارات لا يراها المرء في الأسواق الأخرى إلا ما ندر، وغالباً كارفور هو المشابه إلى حد ما من هذه الناحية. كبسولات مكائن القهوة تأتي من شركات مختلفة وبأسعار معقولة، وأتمنى أن يزداد التنوع من حيث الماركات والأنواع كما كان الحال في سويسرا، إذ ينعكس هذا على السعر. لا أملك هنا مثل هذه الآلات، لكن بعض أهلي يملكها. الخضار والفواكه متنوعة ومعقولة الأسعار، كما أن بعض منتجات الألبان المستوردة أرخص لديهم.
مقهاهم الذي أعيد افتتاحه مؤخراً مقبول بقدر ما جربت، اشتريت منهم نيرفانا، شاي بالحليب والقرفة وبهارات أخرى، لكن يجدر بمن يريده أن يخبرهم بأن لا يضيفوا السكر، إذ أنه لسبب ما حلو المذاق أصلاً، ولا أدري لماذا.





















تصيبني فورات في أوقات متباعدة للتسوق عبر الانترنت. كنت أتابع خبر موقع جديد باستثمار ضخم، اسمه نون، والفكرة منه في منافسة موقع سوق، وبالتالي أمازون، بالمنطقة. هو باستثمار مشترك بين صندوق الاستثمارات السعودي وشركة اماراتية. انطلق أخيراً لدينا، وتعاملت معه. لديهم عروض مغرية جداً، أحياناً خصومات لا تصدق، لكن يعانون من تخبط لا يصدق بنفس القدر. كنت قد قرأت أنهم استعانوا بمدير هندي، كان يدير موقع صغير لبيع الملابس وخلافها، وكان موقع ناجح إلى حد جيد، لكنه صغير، ولا مقارنة بينه وبين موقع يطمح لمنافسة أمازون. المشكلة إدارية بوضوح. يتخبطون في خدمة العملاء، في الموقع شيء، والمكالمات شيء آخر، وبالبريد وعود تسكينيه. إن أكثر ما يفقدون السيطرة عليه هو التجار الذين يبيعون من خلالهم؛ وهؤلاء التجار مشكلة تواجه موقع سوق كذلك، ولكن الفرق هو أن سوق يتعامل معها باحترافية أعلى بكثير وبمنطقية، ويمكنك المتابعة معهم بسهولة بسياق واضح ومستمر. كنت قد اشتريت نظارتين من نون، وصلتا متأخرتين، إحداهما تأخرت أكثر، وكلاهما من نفس التاجر في الإمارات، نظارات الخليج. فهمت أن التي تأخرت أكثر كانت قد تأخرت لأنه لم يجد اللون المطلوب، فأرسل لون آخر ببساطة. والتجار يخشون علم المواقع بأنهم يعرضون سلع ليست في مخزونهم، ولا بد أن رد الفعل سيء جداً من المواقع تجاه التجار في هذه الحالة، حسب ملاحظتي عبر السنوات وخلال مختلف المواقع. النظارة الأخرى كانت سيئة كادت أن تعمي عيناي من الألم، رغم أنها أصلية على ما يبدو، ولا يصح لبس نظارات شمسية غير أصلية لأنها ضارة جداً. أعدت النظارتين بعد جهد جهيد. ولكن، البائع استلم واحدة وترك الأخرى. استمر الحال لحوالي الشهر، مع وعود بالمتابعة دون أن يحدث أي شيء. في النهاية أرسلت إليهم أبلغهم بأني لا أريد إحراجهم صدقاً، لكني سألجأ إلى وزارة التجارة في حال لم يعد إلي حقي. ردوا علي باعتذار مطول ووعود أخرى. بعد اسبوع، رفعت الشكوى. بعد أيام، وردني اتصال يخبرني بأن عملية إعادة المبلغ كانت قد بدأت قبل شكواي بيوم!. سألت لماذا لم يتم إبلاغي؟، كيف لي أن أدري؟، وألم يكن من الواضح أني سأتوجه بشكوى، إذ كنت قد حذرتهم برغبتي بعدم إحراجي لهم، لكن الكيل قد طفح؟. اعتذرت الموظفة، وقالت بأنها ترى الرسالة. أخبرتني بأن عودة المبلغ ستسغرق ١٤ يوماً، إلى شهر!. تواصلت معي وزارة التجارة، ولم يرضهم الحل وقالوا لي بأنهم سيتواصلون مع الموقع، فهذه المدة غير مقبولة. بعد أسبوع، عاد المبلغ.
لا زلت مع ذلك مهتم بالموقع، وأعزوا هذه المشاكل لقلة الخبرة وسوء اختيار الموظفين والإداريين. العروض مذهلة ومجنونة، وللأمانة، وصلت معظم السلع بسرعة، وفي آخر طلب لم أواجه مشكلة مع أي شيء، خصوصاً أن أول سلعة وصلت في اليوم التالي للطلب، سوى أن أحد السلع الرخيصة جاءت دون كتيب مرفق مذكور على العلبة. وعند التواصل قيل لي بأنه سيتم النظر في الأمر، وبعد يوم وصلني بريد لإغلاق الشكوى ويسأل تقييمي للخدمة!، قلت بأن المشكلة لم يتم حلها أساساً، فوصلني اتصال يعتذر، ويخبرني بأن المبلغ، وهو ٩ ريالات، سيعاد إلى محفظتي في الموقع. قلت بأن الأمر غير ضروري، لأني لن أعيد السلعة، فهي مجرد ٩ ريالات وأنا فقط أردت أن ألفت الانتباه للبائع، حيث العلبة ممزقة حتى. قيل لي بأنه ليس علي أن أعيدها، وأنهم يقدرون تعاملي معهم منذ افتتاحهم في السعودية، كما يلاحظون من حسابي لديهم، وعند تعمقهم بالسؤال عن وضع العلبة اقترحت ارسال صورة لهم، أسعدهم الأمر. لم أبحث عن التسعة ريالات، لكني لا أعتقد بأنها ستصل بالفعل إلى المحفظة، إلا في عام ٢٠٣٠، الذي أصبحت أتشائم منه ومن استغلاله المقرف من الكل، حتى الشركات والحكومات الأجنبية، في سياقات لا علاقة لها بالأمر.

القصد؟، لا أنصح بالتعامل مع الموقع حالياً، خصوصاً مع التجار في الامارات، إذ يمكن إجراء بعض البحث عن التاجر. المشكلة تكمن في نقصان السلع أو وصولها مختلفة عما طلبت، وصعوبة التعامل مع هذا الموقف.

أمر غريب، وردني اتصال آخر، يطلب مني تقييم تجربتي بالبريد، ويخبرني الموظف خلاله بكود خصم خاص بـ 15% تقديراً لي، حتى نهاية الشهر. شيء جيد.
أعتقد أن السر خلف الخصومات غير العادية هذه هو محاولة سحب الزبائن من سوق، فلا شك لدي بأن الموقع يتحمل خسارة كبيرة جراء هذا، لكن رأسماله ضخم.




























عدوين بالفطرة...
هكذا فكرت...

إذ رأيتك تعبر جسر المحبة...
أجلفتني واحترت...
حينما توقفتَ منتظراً إياي لفترة...
لم أشأ عبور الجسر وعليه أحد...
إذ علمتني الخيبات أن للحب مغبة...
فكيف بعدو...
لم أعد له العدة...
أبيتَ أن تعبر...
وطالت بي الحيرة...
ثم مضيتُ لأعبر...
فاعترضتني مبتسماً بمودة...
واحتضنتني وكأنما تعرفني...
وأنا مأخوذ على حين غرة...
طال بنا الحديث...
وكادت أن تزول شكوكي المُلحّة...
وكدت أن أستسلم...
إذ أظهرتَ حسن النية...
لكني فجأة جفلت...
إذ فطنت...
أني ما عرفت من أظهر الحب يوماً...
وطال به صون الذمة...















لماذا قطع غيار الجوالات مكلفة دائماً؟، أو يصعب الحصول عليها؟، ويصعب تركيبها إلا لدى الوكيل؟. مهما كان سعرالجوال معقولاً، تجد أن قطعه مكلفة، ولا استثناء في هذا، مثل تفاوت هذه الحقيقة بين السيارات، التي بعضها قطع غياره معقولة السعر. عموماً، الأمر خاضع للتقدير، هل تغيير قطعة محددة خير من شراء جوال جديد أم لا من حيث الجدوى. بالنسبة إلي، يعتمد على سعر القطعة والجوال الذي أملك.
رغم نقصان ابتكارية الجوالات حالياً في نظري، إلا أني أحب بعضها، الجوالات الصينية خصوصاً. تواصلت بصعوبة مع مقر صيانة جوالي، حيث يبدو أن هواوي توقفت عن صيانة الجوالات بنفسها، ولا أدري لماذا دربت المئات من السعوديين والسعوديات على الصيانة ولم توظف أي منهم؛ هل كان التدريب المقدم سيء إلى درجة عدم ثقتها بهم؟ هل كان مجرد مجاملة واستعراض؟، لم نسمع آراء محايدة للمتدربين والمتدربات. الآن، الصيانة تتم في مشاعل الخليج. أرغب بتغيير خلفية جوالي الزجاجية، إذ أصابها خدوش صغيرة، أحدها فوق إحدى الكاميراتين الخلفيتين. هو لا يؤثر على الصورة سوى حينما تكون الشمس في الخلفية، فيظهر أحياناً خط غير مقبول بالنسبة لي. خلفية جوالي من أجمل ما فيه، بسبب لمعتها الزرقاء البديعة. قيل لي أن طلب الخلفية الزرقاء غير المتوفرة سيستغرق شهراً إلى شهرين!، سألت عن خلفية بيضاء، فلا خلاف لدي أن يظهر جوالي كالثوب المرقع طالما أصيب بالفعل بتشوهات مؤسفة، لم يتواجد سوى الخلفية السوداء. أنا مرغم على الاقتناع بها. سألت إن كان يمكن تركيبها بنفس اليوم، فرد علي الموظف السوداني بصوت تحذيري لا يخلو من لؤم معلمي الابتدائية بأن الصيانة ستستغرق حتى 14 يوماً!، ولا أدري لماذا كان سودانياً والمجال قد تمت سعودته، إلا إن كانت مهمته الرد على الهاتف فقط. ماذا بوسعي أن أفعل. ستكلفني الخلفية 200 ريال، لكن التصوير مهم جداً بالنسبة لي. حينما أحصل عليها سأطلو الجوال كله بطبقة نانو إن شاء الله، لعلها تقاوم هذه الخدوش كما يدّعون.















لست أحب السياسة، لكن يبدو أن السياسة باتت تمس أدق تفاصيل الحياة والثقافة أكثر فأكثر على نحو سلبي غالباً. مجلس الشورى لم يكن يوماً مفيداً، لكنه الآن بات ضاراً على ما يبدو.















أخذني ابن اختي العزيز برحلة جميلة، مع بعض أبناء اخواتي واخواني، إلى منطقة في مدينة حريملاء قرب الرياض، تشتهر بين الأجانب خارج المنطقة أكثر من سواهم. يسميها أهلها مهاوي، لأنها عبارة عن سفح شديد الإنحدار يمتد على حدود هضبة، ويشكل هاوية. أما الأجانب، فيشتهر بينهم بمسمى حافة العالم، ويمكن تخيل السبب. يزوره الكثير من الغربيين، خصوصاً ناحية منه، وقد جائت قناة ناشونال جيوقرافيك لتوثيقه حسبما قيل لي. نحن ذهبنا إلى ناحية أبعد، وأقل شهرة، لكنها أكثر تميزاً، إذ تمتد كاللسان تجاه الأفق. كان الهواء طيباً، والمناظر بديعة ومذهلة. هي منطقة صخرية، ويوجد في الطريق أشجار عبر وادٍ جميل، وقد تم إعادة زرع الكثير منها ببرنامج بيئي بمبادرة من أهالي المدينة، وقد اشترك فيها ابن أختي الأصغر. يدخل المرء من بوابة مخصصة، والطريق وعر وطويل ويحتاج إلى مهارة نسبية بالقيادة من تلك الناحية، ولسيارة مرتفعة.
قرب حريملاء، توجد مروحة لتوليد الطاقة من الرياح، وهي تزود قرية قريبة بالكهرباء. أعتقد أنها تجريبية، وكانت تدور، مما أثار تعجبي، إذ لم أحسب بأن توليد الطاقة الهوائية ممكن في المنطقة راكدة الهواء نسبياً، لكني لا أفهم بالأمر طبعاً، وربما على ارتفاعات معينة يكون تيار الهواء كافياً. كانت المروحة عملاقة حقاً:





في طريقنا عبر حريملاء، توقفنا لنرى مسجد الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وإلى جواره بستان نخيل، وبيوت طينية متداعية مع الأسف:














هذه هي المنطقة المقصودة:




أحد رفاق الرحلة:


















اللسان، حيث جلسنا:









أجد نفسي مشتاق بشدة إلى زيارة القصيم. إن ظروفي عموماً لا تسمح، وهي خاضعة لظروف والدتي ورغباتها. إن صحتها تتحسن هناك بوضوح، لأسباب كثيرة؛ طيب الهواء والحياة. ولعل هذا ينطبق علي كذلك. أتمنى لو أخذت إجازة طويلة، أستكشف خلالها مختلف المناطق التي تهمني هناك. منذ سنوات أتمنى الذهاب إلى بضعة أماكن أثرية.














مرحلة استسلام...
أسيرُ متأملاً...
حياة تعيسة لم تعرف السلام...
تعب المحارب...
يود فقط أن ينام...
إلى الأبد...

فجأة، عتاب رقيق ثائر...
تجاه ضمير جمعي قاس...
لماذا اتخذت حكمك الجائر...
لماذا حكمت علي بالتلاشي...
أطوف أمامك ولا تراني...
شبحاً وحيداً حائر...
طواني النسيان...
أصيخ للكآبة مستسلماً لا أكابر...
أشهق كمن فُك خناقه إذ تَجزُر...
لا يهدأ قلبي مع ذلك، إذ بخشية أترقب...
ثم بذراعاي أتواقاها، إذ تمد لتغشاني، كالموج إذ يهدر...

أهيل التراب وأدفن... 
ميت في صدري... 
لمرة أخيرة أكشف الكفن... 
أتأمل وجهه، وكأنه مرآة... 
فأقف مُجهداً، وأنظر تجاه ما مضى من زمن... 
فأرى قبوري على مد البصر...
وكأنما القدر على تعاستي قد ائتُمن...
أدفن بصمت مكتتم... 
وكأني أنا من ارتكب الجريمة... 
لا يبدو علي الألم...
من قتلني هذه المرة... 
من يتحمل الإثم...























وصلتني رسالة من صديق طفولة منقطع ينعى بها والدته، ويبلغ بميعاد الجنازة. شعرت بانقباض مميت. لطالما كنت أحرص على السلام على هذه المرأة الفاضلة حينما أتصل بإبنها، منذ أن كنا أطفالاً في المرحلة الابتدائية، ولطالما رأيت فيها انعكاس لوالدتي، من بين الكثير من النساء، حتى الأقرب منها. لذا، حتى بعدما تباعدنا، أنا وذاك الصديق، كانت والدته في واقع الأمر لا تغيب عن بالي طويلاً، وأنا أتساءل عنها، ويخيل إلي دائماً أن عدم معرفتي لحالها هو الأمر المؤسف في البعد عن ابنها. وكنت أحاول أن أتقصى أخبارها من خلال أخي، إذ أنه كان صديق لأخ ذلك الشاب، لكن بلا جدوى، إذا تباعدا على مدى السنوات وانقطع الاتصال. كنت أسأل مع ذلك بين فترة وأخرى، إن كان قد جرى أي اتصال بينهما.
إن قلبي ليتوجع، وإن عيني لتدمع. رحمك الله أيتها المرأة الفاضلة، ذات صوت الصبر الهادّ ذاته، وأسكنك فسيح جناته، وعوضك خيراً، لطالما كنتِ في قلبي، الذي ظل يصغر، يتلف، وينكمش، إلا عنك وثلة من البشر الطاهرين.

سألَت أمي...
لما تبكي؟...
آه يا أمي...
يا لعجزي...
تذكرت...
والذكرى هي ضُعفي...
عزّت والدتي...
لا تجزع يا ابني...
كلنا له...
كلنا إليه...
لكن ماتت قرينتك يا أمي...
أطلّت من الباب مرة...
وكادت أن تكون أنتِ...
لم تذخر الدعوات عني...
ولما أتصل بعد غياب...
تسأل عنك وعني...
كما أبشرك أبشرها بنجاحي...
فتبارك وتدعي...
كانت مثلك يا أمي...
أمسح دمعي...
للحظة أسهم وأسهي...
ما باليد حيلة...
إذ أفطن فأجود بدمعي...













سعد الحوشان