‏إظهار الرسائل ذات التسميات ""قصة". إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ""قصة". إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 17 أبريل 2019

عُمرٌ في حلم (المعتاد،قصة قصيرة،قصائد)


بسم الله الرحمن الرحيم











الهشاشة، مفهوم واسع ومتشكل، إلا أننا نلقيه بلا تفكير لوصف المواقف على نحو بسيط، صابغينها ببعد واحد. يجد المرء نفسه هشاً على نحو مفاجئ، وعلى مستوى جديد، وذلك لسوء حظ واجهه، فيدرك بُعد الهشاشة وخطورتها. إنها قعر عميق، قد يحاول بعض العرب انتشالك منه في تلك اللحظات. بيد أنك لا تدري؛ بماذا يفكرون؟، في هذا المجتمع القائم على القوة والتماسك والإيمان الراسخ، ورباطة الجأش. لم أخجل يوماً من هشاشتي ودموعي، مع ذلك، وجدت نفسي قبل فترة في مواجهة المجتمع مباشرة، في عرض حي لمدى هشاشتي وضعفي. لا يخجلني هذا، لكن مع ذلك، يزيدني هشاشة؛ لأني اكتشفت بأني بعيد عهد بالمجتمع، والآن أصنع عن نفسي صورة قد لا يحب المجتمع رؤيتها في شخص مثلي.






أتجمع في زاوية من نفسي…
كمنبوذ مُلوَّع…
أتذكر جفاف عينيك…
وقلبي يتألم إذ يمسح عليها الطبيب ليتأكد من وفاتك…
كان أملي حياً قبل تلك اللحظة…
يتألم قلبي إذ لم أدرك، في أي لحظة فارقت الحياة؟…
هل آذيتك بضغطي المحموم المُروَّع على صدرك؟…
هل كسرت شيء من أضلاعك وأنا أريد لك الحياة؟...
هل كان الألم آخر لحظاتك؟…
هل سأعيش متسائلاً...
تلك اللحظات، إذ لم أفهم المكينة وهي تقول لا حاجة للمحاولة…
إذ رجوت أنها تقول بأنك حي...
صدمتي وأنا أحاول التماسك…
صياح أخي الذي لم أسمعه منه قبلاً…
ركضي سريعاً إذ فطنت لأمي...
من حضن الخادمة الباكية أخذتها…
وتحاضنّا ننتحب ونبكي…
تعزيني تارة، وتارة تسألني…
هو راح؟…
خلاص راح؟…
لازمت أمي…
قالت من لي الآن؟…
قلت أنا لك،، أنا لك…
قالت لي الله…
حتى لم أعد أرى، من حضن صبي إلى حضن آخر…
قبلة مواساة من أخ لا يُقبل…
مواساة من كنة لا تدري من تترك…
ومن تواسي...
مهدئين من روعي…
حتى جاء عمي…
إذ وقفت واحتضنته وبكينا…
لم يعد لك شقيق الآن…
ظللت اتردد باكياً، أقبل وجهك... 
فأشفق وأعود...

قبلناك بعدما غسلوك...
عجزت عن الوداع...
أعود وأقبلك...
ما أبرد الموت... 
ما أقساه...
إذ سد الطريق من خلفك...
وما أرحمه... 
كفاك المعاناة...
وأراحك...
حياة طويلة...
ما بين شقاء وجوع... 
وجفاف...
وتعب وقسوة ووحشة... 
عملت من عمر الرابعة... 
ولم تسترح حتى أجبرت...
لم أفهمك سوى متأخراً من عمري...
لماذا الشقاء؟... 
عَوَضك الجنة... 
فإن لم تكن لمثلك فلمن... 
لزمت المسجد والمصحف...
وعطاء المساكين...
وبر خالك المسن...
وعانيت منذ نعومة أظفارك... 
لم تعش حنان أمك... 
ووالدك الضرير المُعنى ليس معه بعد الله غيرك...
رحمكم الله جميعاً... 

حسبتني تماسكت…
إذ ذهبت إلى المسجد...
قلبي يعتصر ألماً وخوفاً...
اختبأت عند عمي... 
ورفضت أوامره بأخذ العزاء...
لم يُدرك غريزتي...
إذ فجأة ارتددت طفلاً...

ذهبنا إلى المقبرة...
ولا زلت أحسب نفسي مؤمناً قوياً...
حتى همس بأذني أحدهم...
أن اصبر واحتسب... 
وكأنما لتوي علمت... 
أنك توفيت...
زاغ بصري...
وراعني حملهم لك...
هل حقاً مات؟... 
عجزت عن الوقوف... 
نمّل أخمص قدماي... 
صعوداً حتى خصري... 
ظننت بأني شللت...
لم أعد أشعر بأسفل جسدي...

عَطَف من عَطَف... 
وقسى وأشار مزدرياً...
ونادى ربعه وكأنه عيد...
ولم يكن والده بخير منه...
ما كدنا نصل منزلنا...
فيسخر إذ يرشف الشاي أمامي...
مبالغاً بلا مبالاته لقهري...
إذ التقت عينينا...
هل فقيدنا واحد؟...

أخطو الهوينا…
واسحب الباب بهدوء…
أخشى إزعاجك...
وكأنما لا زلت نائماً في مكانك…
أنسى وفاتك…
فأقف عند الباب قبل الخروج مصدوماً…
وقد مر نصف عام على غيابك...

يفرغ من الدم قلبي...
إذ اتذكرك باليوم مئة مرة…
وأدرك أنك غادرت وأُقفل الباب...
أنا لك يا أمي...
ولنا الله...









سر لا أخفيه حينما يرد ما يذكرني به، ولعلي كشفته ذات مرة هنا، ويجده الناس طريفاً دائماً، لكنه بالواقع لا يستحضر في ذهني سوى ذكريات بائسة، وخيبات أمل، وإن ابتسمت وأنا أحكي عنه، إلا أني في داخلي أشعر بالإنطفاء. إن أذني تتحرك من تلقاء ذاتها حينما أفاجأ بصوت مميز، أتوق إلى سماعه، خصوصاً حينما التقطه من بين أصوات كثيرة، كما حينما أكون في زحام، ولكن حتى عند الهدوء، حينما يكون بعيد عن ذهني، وتوقعاتي. في واقع الأمر، لم يحدث هذا من فترة طويلة الآن، لأني توقفت عن التوق، وتعبت من الركض، والتحفز، كي أسبق الصوت، أسبق المفاجأة، التي لا تأتي، إلا اللهم إذ ترافقها خيبة أمل.

كم سارعتُ الخطى...
محفزاً حسّي…
أسبح بين أصوات شتى…
أسير عازماً في قلبي…
على إحياء أمل لعله تُوفى…
عن صوتك أبحث مأزوماً...
تتسارع أنفاسي...
أناديك في نفسي...
أيأس وأعود أدراجي...
في كل مرة مهزوماً...

مر العمر…
وتباطأت الخطى...
واستمرأتُ اليأس...
حتى إذا سمعت صوتك…
لم يُحرك راكد في الهوى…
لا يرف له صِوان أذني...
وأُعرض عما كان من مُنى...
قد يموت المرء…
وأجل النفس بعد ما وَفى…

إن لم يجمعنا لقاء...
قد تلتقي خطانا…
وإن صادَفتَ وريقة قتلها الشتاء…
فتذكر أن هذا قد يكون أنا...
فأحسن وارفق إن تشاء…
وإن لم ترفعها إكراماً لنا...
فذرها للذرى...
يأخذها حيث شاء...











رحلة قصيرة إلى القصيم، لم أحقق فيها أي مما خططت له. كنت أرغب بزيارة قريبين خصوصاً، أحدهما لأول مرة. لكن بما أن الرحلة جائت بلا استعداد كافٍ، لم أكن مستعداً بشكل جيد للقيام بزيارة لائقة. مع ذلك، خرجت بفوائد معقولة. زرت قريب مهم، وقضيت وقت طيب مع ابناء أختي. لكن ما قمت به لأجل نفسي كان النوم بالواقع؛ النوم الجيد هو ما ينقصني صدقاً، نوم طويل غير متقطع بالمسؤوليات، لهذا كانت الرحلة ناجحة على المستوى الشخصي رغم كل شيء، لقد نلت قسط جيد من الراحة. لم يوقظني من النوم سوى الشعور بالذنب فقط.
لم تخلو الزيارة من منغصات للأسف؛ مرضت والدتي مرة أخرى في القصيم على نحو مفاجئ، واضطررنا لزيارة الإسعاف، مرة أخرى. يصعب أن تستمتع والدتي بأي شيء، لكني أرجو من الله لها المثوبة.


كانت آثار المطر جيدة هناك، وقد استمتعت برحلة قصيرة مع زوج أختي أيما استمتاع. يوجد بحيرة تتشكل من السيول لفترة، تقع في واد في المدينة، اسم البحيرة المصيّة. وهي مكان معروف قديماً، حيث يأتي الأمراء في المنطقة بخيولهم الأصيلة لترعى على ضفافها حسبما سمعت، قبل أن تتبخر أو تشربها الأرض بالطبع. كان منظرها من علو ساحراً، وصادف نظرنا إليها تواجد أنعام ترعى في الأسفل، ماعز عارضي جميل، وهي فصيلة نجدية، مثل الخرفان النجدية، ولها شعبية لدى المربين عبر الخليج كله تقريباً، وتقام لها المنافسات. تتميز بالسواد والصوف المسترسل مثل الخروف النجدي، سوى أنها تامّة السواد، بينما الخرفان بيضاء الوجه، وهي بيضاء الوجه في نفسي كذلك، فأنا أحب الخرفان النجدية، ولها قيمة عاطفية لدي لسبب ما، وأتمنى لو كان لدي بضع منها، رغم انعدام خبرتي بتربيتها.
الصورة في بداية التدوينة التقطتها من مرتفع يطل على البحيرة، والماعز بالقرب، ترونه بقعة سوداء مستطيلة، والعامل الذي يتابعها على مسافة يساراً.

وبذكر الأنعام أعلاه، توصلت إلى درجة من التصالح مع شعوري تجاه الإبل. في واقع الأمر، لا أحب هذا الحيوان على وجه العموم، وقد كرهته لفترة طويلة، لكني وجدت بأني علي أن أقدر قيمته الثقافية والتاريخية لدينا، وأتفهم حب الآخرين له أكثر، وأحاول أن أرى الجمال فيه في بعض الصور، ربما من بعيد، وبالصور فقط. صورة أعجبتني جداً على وجه الخصوص، من جريدة الرياض:




كانت المدينة خالية بشكل عام إلا من أهلها، حيث أن الوقت لم يكن إجازة، ولم أشاهد سيارات كويتية كالعادة في الإجازات.

ربما ما افتقدته هو زيارتي إلى عنيزة. لقد نسيت كذلك أن آتي بكليجا من امرأة تصنعها، أوصاني عليها قبل فترة رجل تذوقها وأعجبته حينما أحضرتها للمكتب. كان بعض الزملاء يتذوقونها وينظرون إلي من مسافة شبه ضاحكين. لا زالت الكليجا والقصيمي نكتة، ولا يضيرني الأمر طبعاً، إنما استلطفته منهم. لكن ما لا أستلطفه هو السخرية سيئة النية والإزدراء، وهو كثير، وساهم موقفي من هذا بتشكيل شخصيتي وموقفي من الآخرين. أعرف شخص يقدرني كثيراً، أو هكذا يبدو، لكنه ممزق لكوني من القصيم.


















قصة قصيرة (تنتهي عند الخط الأحمر):





"عُمْرٌ في حلم"

فتحت عيناي في مكان لا أعرفه، كنت مستلقٍ على ظهري، في فراش من حجارة كبيرة صقيلة، وُضعَت بعناية لرفع منكبيَّ وخفض جذعي، فرفع ساقيّ وقدميّ عن الأرض كعلو أكتافي، في حين تركت يداي خارج هذا التشكيل الغريب بلا مبالاة. وجدتني في ظلال نخلة، في حديقة نخيل رطبة باردة. رأيت قدمي اليسرى أرفع من اليمنى قليلاً على حجر أمامي، شاخصة كإحدى صخور الرجاجيل في الشمال، وكأنما كانت العضو الوحيد المستيقظ من جسمي منذ وقت لا أعلمه. على إبهامها وقف بلبل تام البياض على نحو غريب، لم أرى مثله من قبل، لكني لم أستغرب مع ذلك، وكأنما عشت في ذلك المكان وخبرت هذا الطير طوال حياتي. كانت عيناه حمراوان شفافتان، كماء خالطه مثله من الدم، وكان يغرد كشأن تغريد البلابل الجميل. أحب البلابل، بألوانها الرمادية الترابية المنطفئة المتفاوتة، الحائرة ما بين الغمقة والانفتاح على جسم الواحد منها، لعل ألوانها هي ما كانت تلفت انتباهي. لكن هذا، وهو أجملها، لم يكن اختلافه هو مصدر جماله، إنما كان مصدر سحره، كان موحٍ بالهشاشة والضعف الجميل الرقيق، العنفوان الذي لن يلبث أن يذبل.
سحبت نفسي لأتحامل على الوقوف، دون خشية من هربه، إذ كنت أعلم، ولا أدري كيف تأتى لي ذلك، بأنه لن يفارقني، فطار وظللت أسمع تغريده في القرب. تلفتُّ حولي واقفاً، لم أرى حداً واضحاً للحديقة، لم تبدو كبيرة مع ذلك، ولا أدري هل كان هذا لقصور في نظري، أم أن ما هو أبعد مما أرى يفوق استيعابي. لعل قُصر النظر رحمة، أن لا ترى البعيد، تأجيل لخيبة أمل ما، او ظن ما.
كان الزمن شروقاً من اليوم، والشمس ما بين نوم وصحوة. رأيت على مقربة غرفة ملحقة في بيت عتيق مبني بالطين، يغطيه ملاط أبيض مما بدا لي جصاً. كان باب الغرفة جنوباً مما بدا لي، وإن صح حسِّي فأنا أقف شرقاً عنها. مشيت تجاهها بلا توازن، وكانت ساقاي على جانب من الضعف، شعرت بأني لم أمش منذ زمن بعيد، وكان البلبل الأبيض يتخطف دربي كل فينة وأخرى. شعرت بالنسيم البارد يداعب أسفل رقبتي حيث تكثفت الرطوبة، وبطني، من أسفل الرداء الكتاني الأبيض الفضفاض الذي بالكاد يغطي سرتي، بينما التصق سروالي من ذات القماش بفخذي من الأمام لرطوبة المكان واتجاه الهواء. تحاملت على ضعف ساقاي وسرت، وكلما تقدمت شعرت بأني أكثر نشاطاً، وأكثر لهفة. لكني شعرت كذلك بشكل ما أن النخيل من حولي لم يعد بذات الحجم الكبير الذي عرفته في البداية، وبدا العشب في الأرض أبعد مما هو عليه. لم يكن من فارق يذكر، لكنه كان فارق يزداد كلما تقدمت، حتى استقر على حجم بدا مألوفاً. توقفت مُفاجئاً، إذ رأيت ضوء أصفر يشع من باب الغرفة الملحقة، ثم يخفت داخلاً. أردت رؤية مصدر هذا الضوء، وودت لقاء حامله الذي جاء وراح به.
حينما وصلت الحجرة، توجهت لأقف أمام المدخل على مبعدة بسيطة. ونظرت إلى الداخل. لم أرى في الداخل سوى مصباح يشتعل، موضوع على الأرض الخالية من المتاع من حيث أنظر. بدا أن النار الصفراء غريبة، يخالط وهجها الذهبي طيف يظهر لبرهة صغيرة بلون مغاير، تارة كلون الورد الفاتح، وتارة سماوي بارد؛ أُخذت بهذه الألوان الجميلة. بدا أن الحجرة دافئة كذلك. ورغم شعوري بالأمان وراحة البال في حديقتي تلك، إلا أني تلهفت لوعد الدفئ البادي في الداخل. لم أكن قد رأيت الحديقة بأكملها، وكنت راغب بذلك، لم أكن أعرفها، ولكني ظننت أني سأتذكرها حالما أرى المزيد، وكأنها تذكار ينتظر، وسيثب بخفة وهدوء من لحظة طفولة. ترددت طويلاً، وترددت الشمس معي، فلم تبارح مكانها، مع مرور ما بدا أنه ساعات. لم يكن الوقت عموماً مفهوماً لدي تماماً في تلك اللحظات، لكني شعرت بأني لدي ما يكفي ويفيض منه، وكأن الحياة خالدة، خصبة، حبلى، ولود.
لا أدري إن كان البرد هو ما ملأ عيناي بالدمع الخفيف الدافئ. قررت الولوج إلى الحجرة تجاه المصباح. شعرت بأني أجر نفسي جراً مع ذلك، وكأني مجبر، رغم أنها بدت كفرصة لا يجب أن تَضيع، إذ شعرت بأني لو حزت المصباح فسأحوز كل شيء؛ كانت حديقتي تنتظر خلفي، بلبلي ينتظر، كل ما ينقصني هو شيء من الدفئ حينما أريده، دفئ آوي إليه حينما لا أريد أن أنظر إلى أي شيء آخر سوى وهج المصباح الساحر، فآوي إلى دخيلة قلبي، عودة من فسحة الحديقة، حيث طار قلبي وعقلي يرفرف ما بين وريقة وزهيرة، كالفراش.
فوجئت بالبلبل الأبيض يطير من أمامي، برفرفة قوية، ثم يستقر فوق لوح غير متسق يؤطر قمة المدخل. وقفت لأنظر إليه، ثم هممت بالتقدم، إلا أن الطير طار تجاهي سريعاً، ومس وجهي بجناحه. توقفت لبرهة، وقد شعرت بجفول مفاجئ، ليس من الطير، بل من الباب أمامي. لكن المصباح، الوعد، في الداخل، كان يجب أن أدخل لألمسه على الأقل. تقدمت خطوتين فشعرت بالبلبل يتمسك بردائي من الخلف مرفرفاً بعصبية ويصفر، وكأنه يحرس عشاً له. أفلتني سريعاً وابتعد. عزمت على الدخول فمضيت حتى ولجت من الباب، عبر ممر قصير فحجرة المصباح. لم أرى توهجاً في حياتي بهذا الجمال، ولكني لم أجد دفئاً. اقتربت من المصباح لأمسه فسمعت باباً لم أره يصفق من خلفي تجاه المدخل، فاستدرت بفزع تجاهه، وشعرت بتيار هواء سريع متجمد يمرق من بين ساقيّ، ثم انطفأ المصباح، وغرق المكان بالظلمة. أصابني ذعر عظيم، وتسارعت أنفاسي، واستدرت وجلست أحاول أن أتلمس المصباح أمامي على الأرض، ولم أجد غير الملاط القاسي البارد كالصقيع الذي يجمد مياه الآبار والسواقي. راعني هذا، وكأني تعرضت لخداع أفقدني كل شيء ذو قيمة في حياتي. رجعت تجاه الباب وأنا أشهق وأزفر، أتحسس بيداي الممدودتان أمامي، فعبرت الممر، ووصلت المدخل، فلم أجد مدخلاً، كان جداراً مملطاً كالأرض، بارد كالزمهرير مثلها. علا شهيقي وأنا أصيح تجاه الجدار بتقطع: هيه! هيه!. وكأن هناك من أحد خلف الجدار. لم أسمع أي صوت، ولا حتى صدىً لصياحي. عدت متحسساً الجدار وقد اغرورقت عيناي بالدموع، متوتراً أبحث عن أي درب آخر، تلمست جدران الحجرة كاملة، لم يكن من فرجة أو ملمس مختلف، سوى أني وجدت ابريقاً فخارياً وكأساً في كوة، تحسست الإبريق وأدخلت يدي فيه وقد شعرت فجأة بعطش لا يحتمل، فكان جافاً مترباً. جلست على الأرض وزحفت على يديّ وركبتيّ إلى وسط الحجرة حيث كان المصباح. هناك، شعرت بألم وإجهاد في أطرافي، خصوصاً ركبي وأكتافي، واستلقيت إلى جانبي قبل أن أنهار تعباً. تسارعت الأفكار في ذهني، وعيناي اللتان لا تريان شيئاً تزيغان وتتذبذبان بمحجرهن رغم العمى الذي أعيشه، وكأني فقدت بصيرتي من الداخل؛ لماذا دخلت الحجرة؟. انفجرت باكياً كابتاً صوتي، إلا من شهيق عجزت عن السيطرة عليه، وسرعان ما لحقته التأوهات، الندم والندب والمرارة، المرارة التي استدعت صيحات صغيرة مقهورة، القهر الذي قطع نفسي في النهاية حتى لم أستطع أن استعيده، فحسبت بأني ميت لا محالة، حتى شهقت شهقة عظيمة حادة قطّعت رئتاي، وكأني وليد لتوه عرف الهواء، لتوه بدأ الشقاء.
لا أدري كم دام بكائي حتى نمت، وصحوت لأبكي، ونمت، وصحوت لأبكي، حتى جف الدمع، وجف جسمي، ولم أعد قادر على الحركة إلا بالكاد، وكان قلبي يكاد أن يضخ فراغاً، وكأن أنهار دمي العظيمة في جسمي قد استحالت جداول ضعيفة.
لم أنم بعد ذلك؛ بقيت مستيقظاً، يائساً مستسلماً، لم أتمنى الموت ولم أتمنى الحياة، قبلت بوجودي كما هو، مهزوماً، مخدوعاً، وكأنما لم أعرف غير هذا الوجود. تنهدت، تواسيت في مكاني على الأرض الباردة من وقت إلى آخر.
سمعت صريراً، ونفذ نوراً تجاهي. كنت قد نسيت كيف تموضعت في الحجرة؛ كانت قدماي تجاه النور الساطع. لم أتحرك مباشرة، إنما أغمضت عيناي الجافتين، وشيئا فشيئا سخنت عيناي، واغرورقتا بدمع لعله آخر ما بقي في جسمي من ماء.
تحاملت على نفسي، واتكأت على ذراعي رافعاً جسدي، فوجئت بشعري يتموج استجابة، على نحو لم أعهده، وقد وصل إلى منتصف رقبتي طولاً. وقفت بالكاد، ومشيت ببطئ وترنح منحني الظهر، متألماً، كأسير أطلق سراحه بعد احتجاز. 
كانت الشمس تنعس، وقد تموضعت غرباً. غمرني دفئ من الأرض، وقفت لأمتصه بأقدامي، لكني لم أقوى على سحب نفس عميق. كانت أمامي الجادة التي وقفت فيها أتأمل المدخل حائراً، وكانت تمضي وتطول أمامي في ساحة أحاطها النخيل. مشيت متابعاً إياها، فلفت انتباهي منديل أبيض ملطخٌ بالطين، كان كثيفاً غريب التجسيد، سرعان ما أدركت ما هو؛ لم يكن منديلاً، كان بلبلي الذي تركته خلفي، وقد مات، وأحاط به بعض النمل. بذعر همست لا، ولم أكن أقوى على أكثر من الهمس، وهبطت أبعد النمل بيد منتفضة، وأحمله لأنظر إليه. كانت عينيه منفرجتين بخفة، ولم ينل منهما النمل بعد، لكن جسده بدأ يجف. حملته إلى وجهي وبكيت بكاءاً مراً وأنا أضغطه برفق على خدي. لم يكن هناك دموع، وكان هذا أكثر بكائي بؤساً مما عرفت، أعمق ندم جمع كل الندم والملامة. مضيت قابضاً جيفته بيدي، ورأسه يتدلى، حتى وصلت إلى نهاية الجادة، وكان هناك ساقٍ رقراق، فقعدت ووضعت عصفوري، وغطست يديَّ في الماء البارد، ثم شربت حتى رويت، فتوضأت وضوء الصلاة، واسترحت قليلاً أنظر إلى الماء والنخيل؛ ضاع الوقت، لم يتبقى شيء، لن أرى المزيد، لم أرى ما يكفي، لم أرى شيئاً. اغرورقت عيناي بدمعها.
قمت حاملاً الطير، قافلاً تجاه المكان الذي استيقظت فيه أول مرة، ولم يتبقى من الشمس ما يمكن رؤيته، سوى ضوء واهن يكاد أن يزول. كنت أنشق في طريقي، وأبكي بدمعٍ حار، يجري يكاد لا ينقطع على وجهي. حينما وصلت إلى منامي الحجري، استلقيت ببطئ وبرفق، وكل عظامي تئن بألم، ووضعت البلبل الميت على صدري، وأطلقت آهة ندم وخيبة، قبل أن أغمض عيناي بأسى وأعود لنومي هارباً.
ليتها كانت النومة.



_________________________



















يخيل إلى أحياناً بأن كل ما احتاجه للعيش، هو جوار والدتي، والماء الجيد، والكولا، والنوم. ما ينقصني هو النوم بواقع الأمر، حتى بت أتمنى لو واتت الظروف ونمت نوماً متصلاً، أتصور بأنه سيطول حتى أموت عطشاً بلا وعي، لكن بلذة النوم.

من ناحية الكولا، وجدت مؤخراً شكل منه أثار ادماني، وكفاني الذهاب إلى برقر كنق لشربه، وإن كنت قد كفيت عن الذهاب قبل ذلك من فترة طويلة، لكني لم أعد أشتاق إليه كثيراً. هو أقل جودة بالواقع مما في المطعم، لكنه يظل جيداً، من أجود ما تذوقت منه. هو كوكا كولا، لكن الفارق هو أنه مصنوع في الكويت، ولا تبيعه سوى دكاكين معدودة في الحي. أشتري بالطبع القوارير ذات اللترين. لا مقارنة بينه وبين المصنع هنا إطلاقاً. ككل شيء استهلاكي يصنع هنا تقريباً، يلحظ المرء الرخص وضعف الجودة لزيادة هامش الربح؛ من الواضح أن الكولا هنا لا يضاف إليه السائل المركز بشكل كاف، ولا السكر بالكمية المطلوبة، فيكون خفيف الطعم، ولعل جودة المياه المستخدمة ليست عالية كذلك. أما الكويتي، فهو العكس من كل هذا، إنه رائع على نحو لا يوصف. كنت أعالج مشكلة الكولا المصنع هنا بإضافته إلى مشروب كولا غير غازي من شركة محلية، القليل من هذا المشروب إلى كأس كولا، ويصبح ممتازاً جداً، سوى أن هذا المشرب انقطع عن السوق للأسف، يبدو أنه لم يكن من مشتر له غيري، كما يخيل إلي دائماً، فكثيراً ما أحب أشياء غير شعبية، أو نكهات أو فروع غير شعبية من أشياء شعبية. يختلف حتى شكل القارورة بوضوح؛ إذ أن قارورة الكولا الكويتي ذات رأس أنحل وأطول على نحو أنيق ويشبه الشكل التقليدي للقارورة التقليدية أكثر.
دخل الكولا البحريني على الخط، وبنفس الشكل، سوى أنه أقل جودة من الكويتي، وأفضل مما يصنع هنا. وصرت أجده في الأسواق على نحو أكبر؛ أحياناً جنباً إلى جنب مع السعودي، يختلف فقط بشكل العلبة، وكون البحريني معبأ للسوق السعودي على وجه الخصوص.
يقال لي كثيراً بأن أخفف من شرب الكولا، الذي عدت إلى شربه بكميات كبيرة، وإن يكن أقل من السابق. لا أستطيع؛ إنه متعة من متع الحياة السهلة والمتوفرة بالنسبة لي، وهي متع قليلة، أصبحت أقل بكثير من السابق مع الوقت. أعتقد بأن السكر السهل والكثيف فيه هو السبب في إراحة ذهني وتسليتي.
اكتشفت نكهة عجيبة أضفيتها للكولا بالصدفة، وقد يجد البعض الأمر غريباً وربما غير مستساغ، لكنها بالفعل نكهة تغير من طعم الكولا، تزيده عمقاً، وتعطيه أصالة، وكأنه مشروب مختلف سحري، من تقليد قديم. بتوصية من أحد بنات العم، أسقي والدتي كل يوم نقيع اللبان العماني، لبان من نوع خاص ومحدد. يتحول اللبان بعد النقع لفترة إلى كتل بيضاء منتفخة، لا تشبه النسغ الشجري الذي كان عليه. بينما كنت أسكب لأمي بعض الماء، من خلال المشخلة لالتقاط الشوائب، وقعت قطعة لبان فيها رغم حرصي. قررت أن أجربها بدلاً عن إعادتها للماء، لأني بالأساس أكثرت كمية اللبان هذه المرة أكثر من العادة. ظللت أعلكه، وهو فاخر ثمين ذو نكهة قوية رغم النقع، وبعد ذهاب والدتي إلى النوم أخرجت الكولا قبل تشغيل كمبيوتري والجلوس كالعادة، ووضعت قطعة كبيرة ثلجتها من كولا فقد غازه كما أفعل، وبدأت بالشرب، ولم أرغب بإلقاء العلك، ولكني لم أفكر بأن الطعم سيتغير، لم يخطر على بالي رغم أنه أمر منطقي. لكن الغريب هو أن الطعم بالواقع أصبح عجيباً، يمكن وصفه بالألفة، وكأن الكولا لم يعد مشروباً أجنبياً، إنما مشروب عربي، بنكهة مألوفة، كما نألف اللبان والبخور.
كثيراً ما أتمنى لو أمكنني تصنيع الكثير من الأشياء التي أحب وإعطاء الفرصة للناس لتجريبها. تسحرني التجارب التي تعدل بالشيء المستهلك المعروف وتحسنه. قرأت عن كولا في بريطانيا تضاف إليه الحبة السوداء، وقد تفوق بالمقارنات المعمية، أي بشرب نوعين غير معلومين للمجرب والمقارنة بين الطعم، تفوق هذا الكولا على الماركات المعروفة. ورغم ان اخي ذهب إلى بريطانيا، إلا أني لم أوفق بالطلب منه إحضار عينة، كما أفعل حينما يسافر أحد إخوتي واتخذها فرصة. الفكرة أعجبتني بجرأتها.




























جسد كسحابة حلم عميق...
وددت لو أغرق بين حناياه...
أقبله برفق لألا يفيق...
وإذا بعينين ناعستين...
كنجمتين أيقظها غلال الليل الرقيق...
أو كبئر صافٍ زلال...
أُطل سابراً مداه السحيق...
فأدوخ واسقط سقوط الشهيد...
وإذا به ينتشلني كما يُنتشل الغريق...
فأصحو من حلمي المستحيل..
ليتني لا أفيق...





















فيديو من حديقة جميلة في الجامعة. يظهر في الفيديو بلبلين متفرقين وجوز من الهدهد. هي فيديوين بالواقع جمعتهما في واحد. لم أصور وأنا أرى جيداً، وجوالي الأخير هذا أساساً سيء التصوير للأسف، أهم ميزة تهمني بالجوال، لكني استعجلت. عالجت الاهتزازات وثبت التصوير ببرنامج ممتاز من مايكروسوفت على الجوال، يمكنكم رؤية اسمه بالفيديو:






هذا الجوال ممتاز من كل النواحي الأخرى، كحجم وبطارية وشاشة وسعر، معقول جداً كل النواحي، بل رائع، باستثناء الكاميرا. لا أدري لماذا الكاميرا في جوالي السابق موديل 2016 أفضل من هذا، رغم رقي الأرقام ظاهرياً. لهذا أفكر جدياً بشراء جوال جديد، لأني محبط من هذا. ليست عادتي، وقد صرت أخاف أني أكسر الكثير من عاداتي التي أعتبرها جيدة.























أصبحت ألحظ التعبير عن الحب من بعض أطفال الأسرة كثيراً، ليس أنه ازداد أو لم يكن موجوداً، إنما لأني أدركت بأن الحب نعمة قد تزول حتى من أقرب الناس إليك، فما بالك بالبعيد.
قالت ابنة أختي بأنها كتبت عني في واجب، وابنة اخي قالت أنها فعلت مثلها كذلك.
أرى نفسي في أحد الأطفال على نحو غريب، هو ابن اختي واسمه فهد، أشعر بأنه يشبهني حينما كنت صغيراً رغم عدم موافقة الجميع، سوى ما وصلني من قول ابنة عم غالية.
فهد يجلب لي من الهدايا أكثر مما أجلب له، وهو يريد أن نكون إخوة لسبب ما، أكثر من "أصققاء". هو في الصف الثاني الإبتدائي الآن، لكنه ضئيل الحجم صغير الشكل، يحسبه الكثير من الناس في الرابعة أو الخامسة من عمره، كما أنه يجد صعوبة في نطق بعض الحروف والكلمات على نحو سليم. هذا فرق بيني وبينه حينما كنا بنفس العمر، حيث كنت متحدثاً طليقاً منذ عمر مبكر، وأعيد الفضل بهذا بعد الله إلى أمي، فهي متحدثة بليغة بلهجتنا، شاعرة كذلك، ولا تحدث الأطفال وكأنهم أطفالاً، وقد ساعد هذا بعض أبناء أخواتي الذين قضوا وقت معها أطول من سواهم. لكن الإستعداد العقلي كذلك له دوره، بعض الأطفال يطول بهم الأمر حتى يتقنوا الكلام على نحو مقبول، حتى لو عاشوا في نفس ظروف إخوتهم الأبكر تحدثاً.
نتكلم بالهاتف أنا وفهد كثيراً، مع أني لا أفهم الكثير مما يقول في المكالمات حتى الآن، خلافاً للمواجهة حيث أفهمه جيداً. حينما يعتقد بأني لم أجب سؤال أو أفز بمنافسة مع أي من الأطفال الآخرين، سرعان ما يختلق سؤال أو لغز لأفوز فيمتدحني، رغم أنه دائما يفوز حينما تكون المنافسة بيني وبينه بالطبع. على عكسي في ذلك العمر وقبله، فهد لا يجامل عموماً، سواء بوعي أو بعفوية، وهو أمر يتسبب بمواقف مضحكة لكنها لا تعجبني، حيث أحاول تعليمه الذوق.
مع ذلك، يقلقني أنه يشبهني من حيث مستوى الذكاء في نفس العمر على ما أعتقد، مما يجعلني أشفق وأعطف عليه كثيراً. أتمنى أن يصبح أفضل مني بكثير.

لم تكن علاقتنا جيدة على الدوام، حيث أني أميل إلى تفغيص وتقبيل الأطفال وعجنهم وحملهم، وليس الكل يعجبه هذا. هذه طبيعة بي منذ أن كنت أنا نفسي طفلاً؛ لم أكن أحتمل رؤية طفل دون أن أقبله وألاعبه إلا بصعوبة. لذا كنت أنا وأمي دائماً على شقاق بسبب هذا الطبع. عانى بعض الأطفال من الأسرة أكثر من سواهم، لأسباب مختلفة. هناك من يقدر حبي لأطفاله حتى لو انزعج الأطفال، وهناك من لم يرد مني حتى حملهم، متهمين إياي بنقل الجراثيم. من النوع الأول، لن أنسى قول زوجة أخي السابقة العزيزة حينما كنت بالإبتدائية، حينما اعتذرت لتقبيلي المفرط لأطفالها حتى البكاء وبحثي عنهم باستمرار لحملهم واللعب معهم، إذ قالت بأنها تحب من يحب أطفالها. كنت أعلم بأنه ليس الكل مثل أخواتي، يتقبل الأمر بحسن نية، وغيرها قد يأخذ الطفل مني متأففاً حالما أحمله، ولصدمتي وجدت بعض إخواني من أزواجهن يأخذوهم مني كذلك، قبل حتى أن أقبل الطفل. عفت أطفال من يقوم بهذا لفترة، وصرت حذراً تجاه من لحقهم من أشقاء لهم، وللعجب تم استنكار عدم إقبالي على أطفالهم، بل وسؤالي وحثي على ذلك إسوة بأطفال الآخرين. قلت بصريح العبارة ذات مرة بأني عفت أطفالهم لسلوك آبائهم وأمهاتهم معي. لماذا يطلب مني حبهم بعدما كانوا ينتزعون من حضني إنتزاعاً؟.
في النهاية، عرفت أن جزء كبير من حب وغلاء الأطفال من غلاء أهاليهم كما تقول أمي؛ إني أُقبل على الأطفال أكثر حينما أجد الحب والتقدير من أهاليهم، لا شعورياً. ولا يتعارض هذا مع أهمية سلوك الأطفال أنفسهم، فبعض الأطفال صعبي المراس، طويلي الألسن حتى وهم بحجم قطمة الأرز، مثل هؤلاء غالباً ما أتفاداهم خلافاً للسلام الأول ومجاملة أهاليهم بقدر الممكن، إلا في حال كانوا من أبناء أخواتي، فأحاول تعديل سلوكهم.

















افتتح معرض صغير لكلية السياحة والآثار في بهو الجامعة، وهو معرض مبسط جداً لا أدري ما السر خلفه. زرته لأول مرة ووجدت عدد من الدكاترة يتمشون ومعهم مصور يصورهم وهم ينظرون للمعروضات ويتكلمون، شعرت بالقرف وعدت أدراجي، لم يكن بإمكاني عموماً التمعن بالمعروضات وهم أمامي. عدت في يوم آخر، ورأيت على بعض الطاولات كتب كبيرة مطبوعة بالجامعة، وهي تتحدث عن تنقيبات الجامعة ورحلات منسوبيها العلمية في هذا المجال. أُخذت بأحد كتابين، بعدما فتحته ورأيت صوراً من لقايا قرية الفاو. سألت أحد العارضين عند طاولة، كيف يمكنني الحصول على كتاب منها، هل هي موجودة للبيع أو الاستعارة؟. أقترح أن أتصفح الكتاب هناك، فهو غير متاح للتوزيع. لكني قلت بأني أريد أن أشتريه أو استعيره من مكان كمكتبة الجامعة، لأقرأ بالمنزل. اقترح أن أقابل رئيس القسم الدكتور فلان، فهو سيجد لي حلاً، وامتدح هذا الدكتور كثيراً. أخبرني متى سيأتي، وقررت الحضور للتجربة. كنت متوتراً حينما حان الوقت، فالدكاترة يغلب عليهم اللؤم والغرور. لكني فوجئت برجل حيوي عفوي لطيف ومبتسم، متفهم ومهذب بغير افتعال. تكلمت بارتباك إذ لم أتوقع أن يترك الدكاترة الذين اجتمع معهم بحلقة يتكلمون ويأتي إلي مباشرة حينما ناداه أحد الموظفين. أخبرته بما أريد، أن يدلني على مكان يمكنني الحصول به على الكتاب، سواء شراء أو استعارة. طلب مني أن أعرف عن نفسي، وابدى اهتماماً. ثم قال بأنهم لا يعطون الكتاب لأنه غير معد للتوزيع أو البيع، لكن لأني مهتم فأنا أستحق، وأخبر الموظف أن يحضر لي واحداً من صندوق قد لا يحوي أكثر من ثلاثة أو أربعة كتب. شكرته كثيراً، وقد فرحت بالكتاب أيما فرحة. لم يتوفر لدي الوقت لأطالع الكتاب كما أشاء وبالمزاج اللازم لوجود بعض الأحداث وضيق الوقت. لكن إن شاء الله قريباً جداً.
تذكرت كسرة فخارية زرقاء كان قد وجدها أحد الأقارب وأعطاني إياها لأسأل أحد المختصين بالجامعة عنها. كنت قلق منذ ذلك الوقت أن أي استاذ لن يأخذني بجدية. لا أدري كيف أصلاً غلبت مشاعري وكلمت هذا الدكتور الطيب رغم أني لم أتفائل خيراً، لكن رغبتي بالكتاب كانت قوية. أخذت الكسرة وذهبت إلى المعرض. لا أدري لماذا لم يكن الموظف على نفس المستوى من الترحاب السابق، لكنه أخبرني مشكوراً بأن الدكتور في مكتبه بالكلية. ذهبت لاحقاً ووجدته في مكتب عميدهم، وحالما لفتوا انتباهه إلى وجود شخص يريد رؤيته خرج وسلم علي. أريته القطعة، وهي من الفخار المزجج، وقال بأنه لا يستطيع الجزم، قد تكون من العصر الإسلامي المبكر أو قبله حتى، وقال بأني لو كنت أفكر ببيعها فلن أحصل على ثمن جيد لأن الكسر كثيرة، أخبرته بأني غير مهتم بها بقدر ما يهمني المكان الذي وجدت فيه، أريد أن أعرف عنه أكثر. قال بأنه يجب أن يرى المكان بنفسه، خصوصاً إذا تواجد فيه الكثير من الكسر فقد يكون مكان أثري. بالواقع، كانت الكسرة الوحيدة في المكان، فيبدو أنها وقعت من أحد أو من قافلة في زمن قديم.































يوجد أمور ضرورية على المرء القيام بها، أمور بديهية وأمور بقدر الحاجة، وحاجاتنا تختلف. أجد صعوبة بالقيام بأي شيء مع ذلك، بديهي أم خلافه، حاجة ملحة أم حاجة استثنائية. من بين الحاجات الضرورية، التي أجد العذر دائما لعدم القيام بها، هي الخروج من المنزل، وما يتبعه. لقد صرت أحاول بقدر الإمكان القيام بالتسوق قبل العودة إلى المنزل من العمل، حتى لا أضطر للخروج بعد أن تاوي أمي إلى الفراش، إذ أني لا أخرج أساساً طالما هي مستيقظة حتى لا أتركها وحدها. يتوجب علي الخروج مع ذلك في بعض المرات بعدما تنام؛ لا مناص من شراء حاجات المنزل التي لم أحصل عليها قبل العودة من المنزل إن كانت لا تستطيع الإنتظار، ولا الأدوية من الصيدلية في حالات أخرى. هذه أسباب وجيهة، لأنها لا تعنيني أنا بالذات، لكن ما يعنيني وحدي هو ما أحاول إيجاد أي عذر حتى لا أقوم به؛ كالخروج للمشي والتحرك، أو شراء أمور شخصية ضرورية على الأقل.

















سهوم...
هروب ساكن...
بحثاً عن غفلة...

خوف ووجوم...
رغم محيط ظاهره آمن...
كبت وحشة...

غيث وغيوم...
أمل داكن...
رحمة باطنها القسوة...

خنجر مسموم... 
غدر بائن...
بسمة تستر الحسرة...















كنت ذاهباً إلى مكتب البريد لأرسل طرداً كبيراً، وحينما أوقفت السيارة في المواقف توقف خلفي صالون يسوقه رجل ذو لحية وهيئة ملتزم. سألني عن مكتب البريد إن كان مفتوحاً فقلت مبتسماً نعم، وسأل إن كنت سأخرج السيارة فقلت بأني لتوي توقفت، مبتسماً أيضاً، ثم مضى وأنا بالكاد أكملت جملتي، وقد كان تعبير وجهه جافاً، ولم يقل شكراً. فكرت في نفسي بأن هذا لأنه مطوع، وقد شعرت بالقرف من تصرفه الصفيق.
كان مستعجلاً، وكنت أخرج صندوق متوسط الحجم من سيارتي، فوجدته في داخل المكتب مع رجل آخر ينتظر قبلنا على ما يبدو. حينما دخلت ألقيت بالسلام فردّا علي، ونظر تجاهي مبتسماً فابتسمت. لم أقف معهما، إنما جلست منتظراً، وكان يلتفت كل فينة وأخرى لينظر إلي مبتسماً لسبب ما، وقال في مرة: ما شاء الله. فكرت بأنه ربما أعجبه شيء. قال معلقاً بعد فترة بأني أخذت موقف السيارة في الخارج، والآن أخذت كل المقاعد هنا، وكانت المقاعد كثيرة ولم يجلس غيري، فضحكت. سألني إن كنت طالب في الجامعة؟، وهذا سؤال يسأله شخص بعيد العهد بها، وعلى غير صلة بطلابها وأشكالهم الفتية. قلت بأني موظف منذ زمن بعيد. علق على شكل القبعة ولونها، وكانت ملونة بتمويه عسكري بألوان زاهية، وقال بأنها جميلة، شكرته. كان الرجل الآخر لديه شأن طويل مع البريد، فطال الانتظار. أخرجت من جيبي علبة علك، وحالما أخرجتها التفت المطوع تجاهي، فمددت له واحداً، أخذه بابتسامة واسعة وقال "ما شاء الله، أحمر بعد"، ربما لأنه كان في قبعتي لون قريب للحمرة، إلى جانب الأخضر والبني وألوان أخرى، ولما تناوله قال بثقة بأني غير متزوج. فوجئت وسألته كيف عرف؟، قال لأن هذا اللون، لون قرطاس العلك، لون شخص يُحب، فضحكت بصدق.
حدث أنه واجه إشكالاً، ورغم أني كذلك تأخرت إلا أني أنجزت مهمتي قبله، وودعني وأنا خارج بابتسامة وسلام، رغم احباطه من الصعوبات التي تواجهه.

فكرت لاحقاً بنظرتي الأولى إليه؛ لقد قررت مباشرة بأنه كان متجهماً غير مهذب لأنه مطوع، مع أني كثيراً ما أمر بهذا الموقف من الجميع بكل أشكالهم وأجناسهم وأعمارهم، هذه الصفاقة والجفاف، لكني لا أعيده لأي خلفية من خلفياتهم غالباً. إنه خلل لدى الكثير من الناس، وهنا أعني مشاعري المبدأية وحكمي على الشخص لأنه مطوع بالذات. لقد طابت أنفسنا، خصوصاً أبناء جيلي، وصرنا نربط بينهم وبين سوء الحضور واللؤم مباشرة، بعد نماذج سيئة سيطرت على المدارس خصوصاً وغذت حب السيطرة والشعور بالأفضلية لدى الصغار من نفس توجههم، وسيطروا على المجتمع عموماً. كان هذا خانقاً، وكانت هناك غلطات كبيرة تسببت بردة فعل توجب التفكر من الجانبين. لم يخل الأمر أبداً من رفقاء منهم، لكن القسوة وسوء ظنهم بالآخرين كانت السمات الغالبة، وكانت لهم نظرة فوقية لا تحتمل. صار كل خطأ يحسب عليهم ويعاد إلى أسلوب حياتهم وخياراتهم، وهذا خنق لهم وحرمان من فرصة العدل في الحكم والتقدير، سواء قصد المرء أم لم يقصد، وأنا بكل صدق فكرت تلقائياً بتلك الفكرة عنه، ولم يكن أمر انتظرته أو توقعته، وإلا لما ابتسمت له في البداية كما أبتسم للجميع، دون تفكير بخلفيته.
من جهته، تبين أنه لطيف ومجامل، وربما كان في ظرف خاص وضيق حينما جاء بالسيارة، وكانت معه امرأة لعلها كانت تستعجله أو لا يريد تركها طويلاً لوحدها بالسيارة. لا أتصور بأنه تجهم تجاهي في البداية لأني غير مطوع، لكن ربما لم يكن ليتجهم لو كنت مطوعاً، ولكني كذلك لا أعتقد أنه أظهر الود واللطف لاحقاً لأني غير مطوع كذلك.


كنت أقف عند البنشري قبل فترة، لإصلاح إطارات السيارة، وكان الوقت متأخراً، حيث يصعب علي الخروج قبل ذلك. جاء رجل، لعله في منتصف أربعيناته، يقود جيب كبير ومعه أطفال، وسأل عن الإطارات وبضعة أسئلة أخرى، واعتذر مني قبل أن ينتهي لأنه أشغل البنشري عن عمله على إطاراتي، ابتسمت متقبلاً اعتذاره. لما انتهى، سألني فجأة: أنت سعودي؟. ربما حسبني يمنياً، لأني كنت أتكلم بودية مع اليمني الذي اعرفه نوعاً ما منذ فترة. قلت نعم. سألني من أين؟، أخبرته. وظل يسأل بفضول، وكان له طبع وحضور قروي، رغم أنه للأمانة شديد التهذيب وحسن اختيار الكلمات. لكنه تكلم عن فئة من المجتمع، بذكر الحي الذي أسكن به، فقلت بأنهم جيران طيبون، لم نرى منهم سوى كل خير. لكن عبر عن كراهيته لهذه الفئة، وعدم ارتياحه لهم، فأوضحت بأنهم بالواقع مثل غيرهم، يوجد بهم اللطيف وغيره، المسالم والعدواني. لم يقتنع، وربما لم يعجبه رأيي. سألته من أين هو، فجفل، ولم يُرد أن يقول، وهذا طبع قروي يكثر في بعض النواحي الصغيرة والهامشية من منطقة الرياض والقصيم، لكنه اعترف أخيراً إذ لم أغير الموضوع ولم أتظاهر بأني فهمت أنه لا يريد أن يقول. أخبرني، وكان بالفعل من منطقة صغيرة قرب الرياض. سألني أن آتي معهم، وهو وأطفاله، إلى المنزل لنشرب القهوة ونتابع أحاديثنا، قال بأنهم متوجهين إليه الآن، وهو هناك، مشيراً إلى الناحية المقابلة للبنشري. اعتذرت بتأخر الوقت، وقلت سيكون هذا في فرصة أخرى إن شاء الله.
ليست لدي الجرأة على التداخل مع الناس هكذا، وغالب تجاربي القديمة جداً كانت فاشلة.






















لست من النوع الذي يعطي أهمية كبرى للأحلام كنبؤة ومصدر لفهم أو كشف الخفي خارج إطار النفس. أعلم بوجود رؤى صادقة، لكنها نادرة جداً، وأميل إلى ترجيح أن ما أسمعه من أحلام هي مجرد حديث نفس، ما لم يثبت العكس. وعليه، لا أرى جدوى كبيرة من مفسري الأحلام، ولا أعتقد أن التفسير التنبؤي هو علم راسخ، قد يكون موهبة وخبرة بالحياة واطلاع على الدين وموروثه، لكنه يظل تخميناً على الأغلب ما لم يثبت العكس. لا أثق بمحترفي التفسير وهواته من مستقبلي أحلام الناس. مع ذلك، رأيت حلماً قبل فترة كنت فيه وأمي وأخي وزوجته نجلس في محيط حديقة صغيرة غير موجودة في الواقع، في زاوية من فناء منزلنا، الحديقة هي من الشكل الذي أحب وأتمنى بالعادة، وإن كانت بالمكان الخطأ. كانوا يشربون الشاي، بينما انشغلت أنا أحاول أن أقبض على عصفور صغير يهرب من بين يدي، وكان صغيراً لم يقوى على الطيران بعد، يقفز مرفرفاً بسرعة من مكان إلى آخر، وما إن أمسكته حتى تحول إلى طفل رضيع بين يدي، وقد سعدت به كثيراً، وقررت انه ابن اخي وزوجته الجالسين أمامي. حينما أخبرتهما لاحقاً بهذا الحلم، تبسم أخي بجذل وهو يخبر زوجته بأنهما سيرزقان بولد إن شاء الله. بعد أشهر قليلة رزقا بولد. لم أكن أعلم بأي شيء حينما حلمت بذلك الحلم، لم أعلم عن الحمل. مع ذلك، أرجح بأن الأمر يتعلق باشتياقي لولادة طفل جديد في العائلة، وكان أخي هذا وزوجته الأكثر ترجيحاً في ذهني.

لكن تغير الأمر منذ وفاة والدي رحمه الله؛ لقد باتت أحلامي غير سعيدة، مؤلمة، سوداوية، مليئة باليأس والشعور بالوحدة والعجز. إنها حديث قلبي المجرد. إني لا أرى والدي في معظم أحلامي، لكني أتذكره مباشرة ما إن أستيقظ، وأشعر بقلبي يفرغ من الدم حرفياً، ويمتلئ بخواء مؤلم، حرفياً، ويتكرر هذا الأمر كثيراً طيلة اليوم، إذ تداهمني ذكرى وفاته. لكن الأحلام التي أرى تتعلق غالباً بالمستقبل. لا يخلو بعضها من عزاء وشفقة تجاهي من الآخرين الذين أراهم في أحلامي، لكنها حديث قلبي بلا شك، مخاوفي وهواجسي وآلامي. غالباً ما أرى أني وحيد في مواجهة ظرف قاهر، يعتصر القلب، أحاول مساعدة أحد عزيز على قلبي لكني لا أستطيع مهما حاولت أن أقوم بعمل يرضيني، وأشعر بأن الدنيا ضاقت وسُدت الأبواب في وجهي، وإن توفرت خيارات تكون بحدود ضيقة بعيدة عن منالي، تُبكيني يأساً وحزناً في الحلم، بينما أجد من بعض الناس من يصرخ في وجهي بكلمات مُحطمة، مثبطاً لعزمي، وقد سئموا من إصراري ومحاولاتي، فأبكي بعجز.
حلوم أهل نجد حديث قلوبهم، كما قالت لي أمي ذات مرة.

أحلام أخرى، كانت تداهمني من وقت إلى آخر، أرى فيها صلح بعد شقاق، قرب بعد بُعد. رأيت أحدها اليوم، لكن لأول مرة أرى هذا الصنف من الأحلام على هذا النحو البارد، وأستيقظ بلا شعور بالحنين، إنما بشعور بالإزدراء، تماماً كما كنت بالحلم، ربما بسبب مضي السنوات حتى بات الأمر سيان، وبدأت الأمور تفقد معانيها مع التجربة وبعدما استنفدت كل السبل في يدي، أو تكتسب معانٍ أخرى على الأصح. حتى أني تسائلت؛ لمَ رأيت هذا الحلم، طالما أن موضوعه لا يشغل قلبي. رأيت شخص كان قد أخطأ بحقي خطأً جسيماً، قد سلم علي باسماً ومشى معي يتكلم ويسأل عن حالي، ثم بتردد حاول تبرير ذلك الخطأ، وقد ساعدته بابتسامة متعبة لا مبالية بالتعبير عن تفهمي، وربما تحملي لجزء من الخطأ. بدا أنه أزاح هم عن صدره، فيما كنت أفكر بالحلم بأن الأمر بات بلا معنى الآن، لقد تأخر كثيراً. استيقظت، وأنا أعلم بأنه لم يعتذر بالطبع، لكني أعلم كذلك بأنه لن يبادر بأي شيء بالواقع، تبرير أو حتى سلام، ولم أشعر بالمرارة مع ذلك، لأني لم أعد أنتظر أو أرجو منه شيء، إنما شعرت بتفاهة حضوره بالحلم، وكأنما جاء بلا دعوة، خلافاً لأحلامي السابقة، التي أراه وسواه بها، ممن اختلفت معهم وكانت لهم قيمتهم.

تمطر عيني...
في جوفي مدرارا...
أشق ثوبي...
في خيالي تكرارا...
طَعن قلبي ألف طعنة...
جيشٌ عرمرم جرارا...
جيش قهر وخداع...
من مسوخ لئام فجارا...
خدعوني بالآمال الزائفة...
حطموني مراراً ومرارا...
أختفي بهدوئي...
ابني بالصمت أسوارا...
لا يراني ولا يلحظني...
أحدُّ الناس بصيرة وإبصارا...
لم أعرف السلام يوما...
فعلام أخاطر بلقاء الأشرارا...
الوحدة الموحشة خيرٌ...
من مزيد خيبة وانكسارا...


















بعض خرفان نجدية وماعز عارضية (نجدية) وأنواع أخرى، وجدتها في مزرعة في العمارية قرب المنزل. منطقة جميلة حقاً.














ما أشق ذكرى بعض الناس على النفس، تستحوذ على عليك، سواء داهمتك غافلاً، ام استحضرتها برسائل قديمة، جميلها وسيئها، أو هدايا، أو ما صنعته بيديك وارتبط بهم بشكل ما، كقصيدة أو نص ركيكَين، أو نقش ينقصه التناسق والمعنى، أو رسمة متواضعة.
والمشقة ليست واحدة، ليست نابعة من ذات المصدر، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة؛ الشعور بالأسى والشقاء، وأحياناً الغضب، من الآخرين أو من نفسك. أحياناً تتألم لذكرى من أساء إليك وجرحك لغير سبب وجيه، أو رغم محبتك له، وأحياناً لأنك فقط خسرت من تحب بلا سبب وجيه، أو حتى بسبب، وتريد أن تستعيده ولا تستطيع. صداقات وعلاقات مختلفة؛ كلها لها قيمة، وإن كانت في أصلها متفاوتة المستوى.
وفي واقع الأمر، لم أعرف من له هذه القيمة وهذ التأثير علي سوى القليل، القليل من الناس، بعضهم قضيت سنوات بمعرفتهم، وبعضهم ما يشبه اللحظات، أيام أو شهور، أو بضعة لقاءات، أو أقل، لكن الإنطباع كان كبيراً. لا يمكن حتى وصف حالي مع بعضهم بالعلاقة، لم يتمخض الأمر عن شيء كهذا، لكن الإنطباع كان قوياً، صادماً، هادّاً، دامغاً، ندبة تشبه الوسم الذي لا خلاص منه، جعلك تنتمي إلى قبيلة من البؤساء، لكنك لا تراهم ولا تعرفهم لتشاركهم الهم ويشاركوك.
لست أتحدث عن تلك الذكريات قصيرة المدى، التي تشبه الجروح التي تشفى فيختفي أثرها، فهذه تافهة لا قيمة لها، ولعل تلك الخسائر هي في مضمونها ربح للوقت والمجهود الذي كان سيهدر ويستثمر بلا طائل. إني أتحدث عن مدى أبعد، بوقع أعمق.
هناك من اختفى من حياتك، ولو معنوياً، بعنف وقسوة، بمواقف فضيعة جارحة، وهناك من اختفى بنعومة، كضباب تلاشى، كليهما قد يملك نفس التأثير بالنهاية من حيث الأسى، أو الغضب، أو الفقد، أو الندم.
أفكر مثلاً بطبيب والدتي الألماني، الذي خسرته بنقاش واحد اتفقنا فيه على العناد والتجريح، في حين كان ما يجمعنا حتى لحظة مضت قدر كبير من الأمل بصداقة جميلة وعلاقة قد تكون أقرب للأبوية وإن لم تكن تامة من هذا الجانب. تواصلت مع المستشفى حيث يعمل، كنت أتمنى لقياه، وإن كنت أعتقد بأن الأمر في أغلب الظن لن يعود كما كان، لكننا كنا سنذهب للمستشفى في كل الأحوال، فتبين بأنه غادر البلد إلى غير رجعة.
أريد أن أقول؛ هكذا هي الحياة، لكن هل يحق لنا قول هذا عند كل سوء حظ، ولو افتعلناه لأنفسنا، وكان باختيارنا وحماقتنا.







سعد الحوشان

الخميس، 20 أكتوبر 2011

نفاذ القدر إلى الأمل المبتذل (أحداث،قصة قصيرة،ألماني،جهاز)



بسم الله الرحمن الرحيم






كثير ما كتبته منذ رمضان الفائت في تدوينة فقدتها قبل قليل بغباء مطلق. كنت أستعد للنشر الآن. أليس هذا مضحك؟ أن تفقد ما عملت عليه فقط حينما تنهيه. أفكر الآن، ضمن كل ما كتبت، ما هو أهم ما كتبت؟ أشعر بأن كل ما كتبت كان يهمني أن يقرأه أحد آخر، كله على الإطلاق.
قررت الآن أن لا أكتب سوا في مستندات قوقل، فهي أكثر اعتمادية. لكن، لا يمكنني سوا بالتفكير بكل الوقت الذي ضاع بالكتابة. ربما كان هذا للأفضل، الله أعلم.



في أيام العيد، أرادت أرامكو، شركة النفط الشهير لدينا، أن تنظم حفلاً موسيقياَ من نوع خاص، امتداداً لأنشطتها الثقافية الغريبة منذ الصيف، والتي لم تشعر الكثير من الناس بالراحة.
كان المشروع بالواقع قفزة غير متوقعة، وجريئة بالنظر إلى طبيعة الناس هنا. كانت النية هي إقامة محاورة موسيقية بين الشرق والغرب، وذلك بإحضار العازف العراقي الشهير نصير شمه،  وعازف اسباني شهير اسمه بينانا. لكن لم تتم الأمور كما خطط لها، حيث أن نصير لم يمنح التأشيرة ليأتي. بدا الأمر غامضاً، وعلق نصير في البداية بأن حصوله على التأشيرة قد تأخر لهذا لم يتمكن من المحضور. ويبدو أن هذا أثار الكثير من اللغط لدى العرب الأجانب، لأن نصير طلب لاحقاً عدم الإساءة إلى السعودية والسعوديين أو حتى المتشددين، الذين قال أخيراً بأنهم هم من تسبب بمنعه. ورغم أنه طلب عدم الإساءة لأحد، إلا أنه خالف نفسه وتوجه بالتجريح إلى من يسميهم المتشددين، مما خيب ظني، حيث أن الإنحدار في التعاطي الذي نهى عنه إنما وقع به بسهولة، فذم من يسمون بالمتشددين من أي أحد صار أمر عادي وحق للجميع، وصار يسهل ضم الناس تحت لواء التشدد حينما يختلفون في وجهات النظر عن الآخرين أو حينما يكون لديهم تحفظات. يوصف نصير شمة دائما بأنه مثقف راقٍ وذو شخصية جذابة وفكر عميق، وأسلوب محافظ، لكن أسلوبه في التعاطي مع الأمر لم يشهد في صالحه، لقد هبط بمستواه عن سمعته، وعن ما نصح الناس به مع الأسف.
بغض النظر عن ما يراه الجميع في الخارج، ما يجب أن يفهموه هو أن رؤيتهم غير مهمه فيما يخص أسلوب حياتنا وما يجري بيننا. فالأمر خاص بنا، ويمكننا النقاش حوله في الداخل، لكن وجهة نظرهم غير مطلوبة طالما الأمر لا يمسهم. حتى نصير شمه، لا يجب أن يتخيل بأن وعده من قبل شركة بأن يأتي ويؤدي هو وعد قاطع، فهذه السعودية وليست أرامكو، الشركة التي تحتاج إلى إعادة نظر في رأيي. وبكل الأحوال، الحصول على تأشيرة والقدوم إلى هنا ليس حق للجميع لأي سبب كما يتخيلون، إنه أمر خاص وامتياز انتقائي. ولا أدري لماذا الهوس بكل ما يتعلق بالسعودية، وما تفعل أو لا تفعل، والهوس بالإساءة إلى أهلها، أو خنقهم بعناق من يزعم التعاطف وهو لا يقصده.
إني أحب الموسيقى، وأتصور بأن ما يعزفه نصير شمه، وبينانا، هو مما قد يعجبني سماعه، فأنا أحب الموسيقى التقليدية. لكني لا أريد أن يقحم في الأمر رسالة تسطيحية حول ما نعيشه ونشعر به. هل يريد الناس هنا فعلاً الحوار على أي مستوى تطاله أيديهم مع الغرب؟ وهل قضيتنا معهم ناعمة ورقيقة إلى هذه الدرجة، حتى تعامل بهذا التبسيط والرومانسية؟. لا خلاف لدي بأن أسمع لكل منهما يعزف، لكن بدون هذه المسحة الدرامية التي لا تلائم حقيقة الأمور، لا أريد أن أراهما يعزفان معاَ هنا، لأني لا أريد أن تعرض قضيتنا وفكرتنا عن الأمور على هذا النحو السطحي والنفاقي البعيد عن الواقع والشعور، بهذا الاصطناع والاستغفال.

أما أرامكو، فهي تبدو كالواثق بحماقة بقبوله الشعبي. إني لم أكن أبداً من المرتاحين إلى استثناء أرامكو من القيود التي تحكم الحياة هنا. ولكن يبدو أن أرامكو قد دفعت على نحو غبي للتأثير على الناس، الذين يتطلعون إجمالاً إلى كفائتها بعين الإعجاب على مستوى العمل. لكن دخولها المفاجئ للمستويات الشعبية في المهرجانات التي قامت بها مؤخراً جعل الناس يستغربون، فقد رمت بثقلها فجأة، ونظمت الأمور بنفسها، رغم أنها ليست جهة ثقافية، ولم تنظم الأنشطة لموظفيها فقط كذلك. هل هي نموذج يراد له أن يعمم على البلد؟ أو أن يقود البلد إلى نقطة معينة؟. هذا يشعرني بأن هناك من يستعجل الأمور، ويريد القفز بالناس إلى مناطق غير مألوفة، بغض النظر عن رأيهم، ولما كان لا يستطيع القيام بهذا بنفسه، أوعز لأرامكو أن تطلع الناس على نموذجها وتقودهم. كثيرون هم البعيدون عن الواقع، وأرامكو ليست أقرب هؤلاء إليه، بل هي الأبعد. إن وضعها غريب وشاذ، ففي حين كان يجب أن تخضع هي لرؤى وأولويات الناس، أو المطبقة على الناس، نجد بأنها مستقلة فيما تقوم به، وتحاول الآن إتاحة أولوياتها المختلفة والمتغربة للجميع. لا يكفي أن هناك سينما والنساء يقدن السيارات دوناً عن أي مكان في البلد بلا مبرر، لكن الآن تريد أرامكو أن تري الناس كيف يجب أن يعيشوا وينظروا للأمور، بأساليبها المتأمركة الناتجة عن إرث عملي أقدر فاعليته كأسلوب عمل، لكن يجب أن يدعو ثقافتنا وشأنها، ويجب أن نناقش نحن ثقافتها الآن، فكما قلت؛ هذه السعودية وليست أرامكو. ولست أقول بأن السينما وقيادة النساء للسيارة أخطاء، لكني أرى بأن العدالة خير من إتاحة بعض المتع أو حتى الضروريات للبعض وحرمان الآخرين منها، سواء كانت تلك الأمور جيدة أم سيئة، فالجميع يجب أن يتساوون.
إني مستغرب من هذا الغباء المطبق الذي دفع أرامكو على وجهها بهذه الثقة العمياء، ولا أدري على أي ضمانات كانت تستند، لكني أثق بغباء من دبر لهذه الأمور فيها مهما كانت نواياه، لأنه يحسب أن أولويات جميع الناس هي أولوياته.
لكان الأمر أهون لو كان من قام بهذه الخطوة هي جهة ثقافية أو حكومية، لكان الأمر  قابل للنقاش والأخذ والرد. لكن إقحام شركة ذات إرث غير منسجم، وأولويات وأساليب مختلفة عن بقية الشعب كان خيار غبي.

ربما كنت سأهتم لو قامت جهة أخرى بعرض موسيقى راقية هنا، وربما كنت سأحضر لأستمع أيضاً، بدون حكاية الحوار مع الغرب هذه، لكن هل يريد الناس بمجملهم مثل هذا النشاط بنطاقه الواسع أن يحدث لديهم، حتى لو لم يحضروه؟. على نطاق ضيق غير مؤذي؛ يمكن تقبل الأمر ربما، وربما لن يخالفوا كثيراً لو تم الأمر بطريقة أكثر تحفظ وتماهي مع رؤى الناس للأمور هنا. لكن حينما يتسع النطاق، ويصل إلى حد تبجح أرامكو، يصبح الأمر يتعلق بأناس خائفون على ثقافتهم، ولا يمكن لومهم في رأيي على قلقهم. لأن الثقافة موروث يملكه الجميع، وهو يتم العبث به الآن بالفعل على نحو عشوائي ومقلق، بينما يجب الانتباه للتأثير والتركيز على الانتقاء الذي يتراوح بين المرونة والصرامة بحسب الموقف.
على سبيل المثال، كان هناك معرض قبل سنوات عن الثقافة اليابانية، وقرع عازفون تقليديون الطبول وأسمعوا الناس موسيقى يابانية تقليدية، وصفق الجميع، ولم يعترض أحد، أو يسبب مشكلة.

كان يمكن لأرامكو أن تعطي المال لجهة تفهم الناس ونفسياتهم هنا، كمركز ثقافي مثلاً، دون أن تتدخل، لكن، ليس هذا ما تريد بالطبع. كان يجب إقحام مسألة الحوار هذه، واستقدام شخص مشهور والدعاية بمبالغة والإقدام على الإعداد للأمر بجرأة.

تناقشت أنا والدكتور الألماني حول الأمر، وقد كان مهماً بالنسبة لي أن يعرف لأن نصير شمه أحد معارفه حينما كان في مصر، وهو يقول بأنهم كانوا أصدقاء حتى. أعتقد بأني صدمت الدكتور برأيي. نعم أحب الموسيقى، لكن لا أريدها أن تكون ذريعة لشيء أو تمييع لقضية، أو تزييف لشعور، ولن تتوقف الدنيا لأنها لا تعزف هنا.
قال بأني لم أسمع مثل هذه الأنشطة، ولو سمعتها لأعجبتني، وحكى عن مثال حضره، دمج موسيقي مماثل بين فنانين مصريين وهنود. قلت بأني لا خلاف لدي على الحوار الموسيقي مع الهنود والصينيون أو أي أحد، لكن ليس مع الغرب، ليس وقضيتنا معهم هكذا. قال بأني ضد الغرب إذا، قال هذا وهو مبتسم. قلت بأني لست ضد أحد، لكني ضد ما يقومون به هنا وبالعالم. وضد أنشطة أرامكو الأخيرة، بثقافتها المتأمركة وأولوياتها المختلفة، وعدم عدالة وضعها، وضد تدخل الأجانب وتعيير الناس وإلقاء اللوم على المتشددين، حيث أصبح كل من له رأي مختلف وواضح متشدداً في نظرهم. وقلت بأنها صارت مشكلة، وصم الناس بالمتشددين دائما هكذا، وتشويه سمعتهم وتصويرهم على نحو سيء، لاختلافهم بالرأي وأسلوب الحياة. قال بأنها مشكلة بالفعل.
أضفت بأني لا أعتقد بأن من كانوا خلف إيقاف الحفل قد أوقفوه للأسباب التي أراها صائبة، لقد أوقفوها لأسباب أخرى بالتأكيد، فالأمر كثير عليهم أن تعزف الموسيقى بهذا الشكل، ويستقدمون الأجانب كذلك لعزفها بدعاية ضخمة للأمر كحدث مستقل. لكن لحسن الحظ وافق الأمر رؤيتي ولم يتم الأمر. لكن في المرات القادمة، لا أتوقع أن توافق الأمور رؤيتي، ولن يكون الحظ حسناً دائما.







مررت بتجربة فريدة هذا العيد؛ لقد حضرت المناسبة!. لم يكن أمر مخطط له، وكنت في الليلة السابقة، ككل ليلة تسبق العيد، قد ذهبت إلى السوق واشتريت ما أحب من الشكولاتات والمشروبات، وتأكدت من وجود شيء لأقرأه أو أراه، لأني لا أنزل لمقابلة الزوار بالعادة في هذه المناسبة. لكن في الصباح الباكر سألتني أمي أن أذهب بها إلى صلاة العيد، فذهبنا. لما عدنا، كان بعض الناس قد بدأوا بالتوافد، فشعرت بأن الوقت تأخر على الصعود، وشعرت بأني أود أن أقبل الأطفال وأتفرج على ملابسهم حينما يأتون.
كان الأمر مفاجئاً لبعض الأقارب. وقد علق أكبر أبناء عمومتي بأنهم لم يروني منذ خمس سنوات، وهذه مبالغة،لكنه أبدى اهتماماً برؤيتي واحتفاء، وهو بالواقع الأطيب بين الجميع، سواء إخوتي أو أبناء عمومتي، فهو رجل يحاول أن يكون أخ كبير للجميع، ويهتم بتبيان اهتمامه دائماً. أصر علي لأدخل لأتناول العيد، وهي الوجبة الأساسية في اليوم، ولكني رفضت؛ لم يكن هناك من سيقدم القهوة لمن عادوا من تناوله، لأن جميع إخواني ذهبوا في الفرصة الثانية لتناول الوجبة، وكنت قد أرسلت ابن اختي ليرتاح في غرفتي لأنه كان مريضاً. لكن ابن عمي أصر، فاضطررت لترك شقيقه بينما كان يسألني عن حياتي، بطريقة أشعرتني بأني قريب جديد ظهر فجأة.

العيد لدينا عبارة عن أطباق متنوعة، من كل بيت طبق، وهي أكلات شعبية. ما يأتي من بيت آل فلان فهو عيد آل فلان، وما يأتي من بيتنا فهو عيدنا، والفكرة هي تذوق أعياد الكل. وجدت إلى جواري ابن لأحد أبناء العمومة، فجاملته سائلاً عن عيد والدته ( أي الذي أعدته)، وكان هذا لحسن الحظ، فقد كان لذيذاً جداً. لكن الأفضل كالعادة كان ما قدمته خالتي المصرية، وهي زوجة ثانية لأحد أعمامي، مشهورة بالطبخ، خصوصاً ما يجدنه المصريات بشكل عام من محاشي وخلافه. لكنها في العيد تماشياً مع العادة جائت بجريش، ورغم أني لا أحب الأكلة بالأصل كثيراً، لكنها من يديها تصبح شيء آخر. كان أنعم وأطعم و جريش تذوقته وأكثرها تعقيداً من حيث النكهة، وهكذا الجريش الذي تأتي به دائما. لا زلت أتذكرها، كانت من ألطف النساء، كانت تقول حينما تراني، وحتى لو رأتني أكثر من مرة في المناسبة: إزيك يا سعد؟. بابتسامة من ألطف وأكثر الابتسامات عطفاً في العالم.

خرجت قليلاً مع ابن ابن عمي، ليريني سيارته الجديدة، وهي هيونداي شكلت صدمة بالنسبة لي، فهي ما شاء الله جميلة وأنيقة ومتطورة جداً، مليئة بالمزايا التي تجعل المرء لا يصدق سعرها. لكن كان يعيبها شيء واحد؛ إن الراكب يشعر بكل ما في الطريق من تحته، وربما لو داس حجر صغير لعلم بتفاصيله. بخلاف هذا؛ ما شاء الله، شيء غير معقول.

كان الشيطان لا يزال مكبلاً حتى ذلك الوقت على ما يبدو، أو أنه كان لا يزال قادماً من مكان بعيد؛ حيث أن أحد ابناء العم، وهو ذو نوايا سيئة حقاً، لم ينظر تجاهي حتى.

فكرت أن أنام حينما خرج الناس، وأن أغير برنامجي في الليل حتى؛ أن أرى الأقارب من طرف أمي الذين يخصص المساء لهم. لم أكن انزل في السنوات السابقة حتى في المساء، وحتى حينما كنت أنزل في الصباح. لكني غطيت بنوم عميق ولم أصحو. كان هذا للأفضل، فلا تسلم الجرة مرتين.

إني لست مقرب عموماً من الأقارب. نأيت بنفسي قبل فترة طويلة، وربما ببعض التدريج. لدي أسباب، فضلاً عن طبيعتي الانتقائية فيما أحسب.
كنت في السابق أضطر لحضور بعض المناسبات مجاملة لقريب معين، لكن بعد انتفاء الأسباب لم أعد مضطراً لمثل هذه المجاملات.







حدث إشكال كبير قبل فترة بين اثنين من الزملاء. احدهما يهمل العمل كثيراً، مما يوقع الكثير من الضغط على الآخر ذو الطبيعة الانفجارية. الآخر الانفجاري هو شخص تكلمت عنه بضع مرات في المدونة منذ زمن طويل، فهو رجل ملتزم، وكان يعاملني بحذر وفضول يجعلني أشعر بأنه كان يخاف مني. تغيرت الأمور كثيراً، وبات يتحدث معي على نحو طبيعي، يمزح، ويأتي ليتكلم ويناقش في الأمور دائماً، أو أنا آتيه.
بعد الاصطدام الذي وقع بينه وبين الشخص المهمل، كان ثائراً إلى حد بعيد، وقد أكثر من التوبيخ والوعيد، مما ضايقني بصراحة، ففقدانه لأعصابه يذهب إلى أبعد مدى في بعض الأحيان.
كان بعد ذلك مباشرة ينظر إلي بطريقة غريبة؛ كان من الواضح أنه ينتظر رأيي، لكني لم أكن لأعطيه إياه وهو في ذلك الحال. جاء لاحقاً، وتحدث في الأمر. أخبرته برأيي؛ إنه بالغ، لقد غضب أكثر من اللازم، وقال ما لا حاجة لقوله. قال معترفاً بأن لديه مشكلة مع الغضب، ولكن للناس مشاكل يحلونها، وتذهب، وأنه يعمل على مشكلته هذه ليتحسن. فوجئت وأعجبت كثيراً بشفافيته النادرة. فلم أتوقع أن يعترف بالأمر؛ بهذه الصفة، وأنه يأخذ أمرها على محمل الجد، ويريد التخلص منها. لكن لم يكن يسعني أن أكذب، فلدي شق شخصي أقلبه في ذهني في مثل هذه المواقف التي تحدث بينه وبين الآخرين حينما يفقد أعصابه، أخبرته بصدق بما أشعر به، قلت له بأني أخاف منه، إني أخاف دائماً أن يحدث سوء فهم بينه وبيني ويفقد أعصابه ويسيء إلى معرفتنا. قال بأنه لا يمكن أن يقوم بمثل هذا الأمر معي. قلت بأنه قد يفقد أعصابه، لكنه أكد بأنه لن يقوم بمثل هذا معي أبداً. ثقته هذه جعلتني أفكر بأنه قلب الأمر في ذهنه مسبقاً، وعلى ارتياحي لطمئنته، إلا أني شعرت بغرابة فكرتي عن الأمر؛ أنه فكر بسيناريو لما قد يفعل لو حدث بيني وبينه سوء فهم.

في يوم لاحق، حدث موقف ما كان يجب أن يحدث. تجادلنا قليلاً، وأنبت زميلي. جاء إلي لاحقاً يعرض مساعدته بعدما سمعني أناقش أختي على الهاتف في أمر مدرسة ابنتها الجديدة. سألته إن كان غاضب مني؟ قال مبتسماً بأنه لو كان غاضب لما جاء ليكلمني. فهمت بأنه لا يريد لعلاقتنا أن تتأثر، وقد قدرت هذا كثيراً.

هو كريم، وهذه صفة أقدرها كثيراً، وهي أندر مما يتصور البعض. هو من القلة الذين يتكبدون عناء إحضار شيء لإبهاج الناس في القسم.
وكان قد دعانا قبل فترة إلى منزله لتناول العشاء. كانت الدعوة بلا مناسبة. جلسنا في البداية في خيمة حديثة أمام المسجد، حيث يعمل مؤذناً هناك، وكنت قد أحضرت معي لابنته دمية، أو دميتين متصلتين على الأصح، على شكل قنفذ صغير وإلى جانبه أمه الكبيرة (وقد أفزعت أمي حينما أطلت بالكيس الذي تركته قبل ذهابي، ووصفتها بأنها دمية قبيحة، للأسف هذا ذوقي).
هناك، كان قد دعا أيضاً بعض أصدقائه، وهم ملتزمين كذلك. إلا أن واحد منهم بدا غير مرتاح إلي إطلاقاً، ولم يستطع التفريق بين ما أقوله قاصداً، وما أقوله مازحاً فيضحك عليه البقية بينما يأخذه هو بحساسية.
كان يوماً ممتعاً.






قبل أيام، حدث موقف آلمني كثيراً، وأفسد نفسيتي لأيام. شعرت بضعف الحيلة، مهما فعلت وأجهدت. كتبت قصة قصيرة مباشرة بعد هذا الموقف. نقحتها لاحقاً بالطبع. قد لا تكون جيدة، لكنها صادقة، يمكنني قول هذا. أسميتها: نفاذ القدر إلى الأمل المبتذل. لغير المهتمين بقراءة القصة، يمكنهم النزول والبحث عن الخط الأحمر، فهي تنتهي قبله، ومن هناك يواصلون.


نفاذ القدر إلى الأمل المبتذل




كنت مستلقياً في مكان غير مألوف، مسترخياً أمام بحر، وتحت الشمس التي أهرب منها في العادة. بيد أن الشمس كانت ألطف هناك، والهواء عليل. كنت في أقصى حالات الراحة، وقد أمنت على ظهري نظافة الرمال تحتي، بينما ستر جزئي الأسفل سروال فضفاض ولا يغطي ركبتي. تصلني موسيقى محلية من خلفي، من وسط ما يبدو أنه جزيرة خضراء صغيرة. أحياناً، يتحرك شيء في الأجمة خلفي، سرعان ما أكتشف أنه حيوان صغير. وتتساقط ثمار جوز الهند كل لحظة وأخرى، وفي ذلك الحين ألتفت باحثاً عنها وأنا في مكاني، حتى أستمتع بشكل السرطان الجميل والضخم، الذي قصها من أمها، وهو ينزل.
بين كل لحظة وأخرى، أملأ رئتاي بنفس عميق، حينما أفطن إلى جودة الهواء التي لم آلفها، وأشعر بأني أعيش تلك اللحظات لأجل نفسي فقط.
لم ألبث كثيراً حتى سمعت وقع خطوات هادئة، وبدا أنها قادمة في اتجاهي. لكني لم أجفل، ولم أحفل بالجلوس أو التهيؤ لاستقبال أحد؛ بدا فقط أن الترحاب يكفي على خلاف العادة، ببساطة رائقة. حينما أقبل صاحب الخطى، التفت إليه، وأجفلت في اللحظة الأولى. كان رجل ضخم الجثة، ذو لون توقف في درجة بنية غير جميلة، له وجه هو الأكثر دمامة مما رأيت في حياتي. كانت لحيته موزعة كقطيعات حول وجهه، شعره كان يشبه صوفاً رديئاً بلون يراوح بين السواد والرماديه، وهو  قد رد إلى الخلف بكفاح واضح رغم طوله الذي قد يمس الكتفين لو كان شعراً منسدلاً. بينما حاجباه الكبيرين كانا عريضين وطويلي الشعر، يعلوان عينين تكادان أن تلتصقاً لشدة تقارب موضعيهما. أنفه كذلك غريب، صغير وبارز وغير متناسب الأبعاد، ويكاد أن ينتمي إلى جبهته. وله أسنان شديدة الصفرة، ورغم تفرقها غير الطبيعي جمعها شكل من التكلس على نحو غريب. رغم كل صفاته، كان تحديد عرقه أمر مستحيل، كان شكله ينتمي إلى الدمامة فقط. ستر أسفل جسمه بقماش نظيف ومزخرف. وبخلاف دمامة وجهه المخيفة، إلا أنه بدا عليه السكون والمسالمة. ابتسمت مرحباً، في تحامل على نفوري، قاصراً عن نطق شيء، لأن الحدث جاء على خلاف ما تخيلت. لكنه نطق مرحباً، بلغة كلغتي. هالني الأمر، فالتفت مبتسماً إليه. قلت: أهلاً وسهلاً، هل أنت أجنبي أيضاً؟
هو: لا، ليس وأنت معي هنا.
ضحكت، فكرت بأنه يقصد بأننا نستأنس ببعضنا.
أنا: من أي مكان أنت؟.
قال: كل ما تطأه رجلاي.
لم تكن إجابة ملائمة. مع ذلك، ظللت على ابتسامتي وكأن الأمر مقنع.
سألني لماذا أنا هنا؟.
قلت بأني هارب.
ممن؟.
أجبت: من حياتي، لكن لبعض الوقت فقط.
نظر إلي بتأمل، ولما ساد الصمت ولم يعلق، التفتُ تجاه البحر، وكنت لا أزال مستلقياً.
هبت نسمة عليلة، فسحبت نفساً جاء كتنهيدة.
قاطع سكينتي قائلاً: قابلتها قبل قليل.
أنا: من؟
هو: حياتك.
ضحكت، فكرت بأنه مجنون. لكني سرعان ما قلقت؛ إذ خطر في بالي أنه قد يكون مجنوناً تقطعت به السبل هنا. وإلى قلقي أضفت قلقاً؛ لماذا قلقت؟. شعرت بضيق شديد، وبدا أن وجودي هناك صار بلا معنى. أعقب الضيق سريعاً شعور بالبؤس والاكتئاب.
سألت لأتأكد أكثر: وكيف كانت؟.
قال: كما تعرفها، لم تتغير.
ضحكت لسخرية الأمر، رغم انقباضي لسوء الفأل. لكنه لم يضحك. وحينما نظرت إليه، كان تأمله لي قد ازداد غموضاً، لكن هذا لم يقلقني، شعرت بأني معتاد على هذا.
قال متلفتاً حوله: هل أنت سعيد هنا يا سعد؟.
كدت أن أجيب، لكني أجفلت. قلت باستغراب: كيف عرفت اسمي؟.
لم يجب. فكرت بأن المحليين ربما أخبروه عني، لهذا أتى إلي، لكني لا أتذكر أني قابلت محليين أصلاً؟!. ظللت مستلقياً، فقط لأقاوم قلقي، وأتظاهر بأني لا زلت مسترخياً.
قلت: وما اسمك؟.
أجاب: لا اسم لي. ماذا تحب أن تدعوني؟.
استفزني هذا، ومنذ متى أعرفه حتى يقترح أن أسميه؟ ناهيك عن شعوري بأنه ليس مجنوناً، ولكنه شخص يهزأ بي.
سألت بأسلوب عدائي: من أنت؟.
صَمَت.
أنا: تكلم!.
هو: أنا قدرك.
التفت إليه في تلك اللحظة، وقد اكتشفت بأني كنت قد وضعت يديَّ بلا شعور على عيناي منذ فترة؛ أجفلتني هذه الحقيقة. أما كونه يدعي بأنه قدري، فهو أمر صدقته حالما التفت إليه. صدقته، لم يحتج إلى أن يحلف، ولم أصدقه لأنه بالغ الدمامة والبؤس، لكن لأن الموقف بدا أقرب إلى واقع آمالي البائسة بابتذاله، بكل ما في الموقف من ابتذال وسخرية؛ وجودي في تلك الظروف غير المنطقية، استرخائي المبتذل بلا سترة لجزئي العلوي، الموسيقى المبتذلة، الهواء المبتذل، كل هذا الكمال المبتذل والنفاقي المتآمر. ثم بعد ذلك، جاء واقع لا يقل ابتذالاً ليذكرني بنفسه؛ حضور قدري الدرامي المبتذل، الحوار المبتذل معه، وبعد التأمل؛ لماذا يرتدي هذا القبح ذلك القماش اللؤلؤي الجميل؟ هل لينفذ بسهولة إلى آمالي؟ كيف لم ألاحظ منذ البداية؟، أمر لا يصدق، فعدم ملاحظتي هذه، هو أمر مبتذل أيضاً.
بعدما وعيت حضوره أكثر وانتهيت من أفكاري الداخلية، تأملته أكثر، لم أتمكن من التوقف، كان يزداد بشاعة وأنا أنظر وأستكشف وجهه. وكان ينظر إلي بنفس الطريقة منذ البداية، لكني فهمت الآن؛ كان قدري، لفرط دمامته  هو، مشفقاً علي أنا.
عند هذا الفتح، اكتشافي لتعاطفه المذهل والمثير للشفقة من حيث المبدأ، اتكأت على ذراعاي ودفعت بجذعي ببطئ إلى الأعلى. متكئاً على مرفقاي؛ نظرت إلى قدري بذهول، وفزع.
كانت السماء قد اكفهرت، وريح غير محسوسة صارت تمحو كل شيء خلفي، والبحر بدأ ينسحب ويزول، بينما صار قدري يقترب بهدوء، وبطريقة مدروسة؛ فهو قدر في النهاية. رغم أن الأسف لم يغب عن وجهه.
لم أذهب بعيداً بما يكفي، عرفت هذا، لا يوجد مكان بعيد بما يكفي.
لا فوق قمم الخيال، ولا في وديان الأحلام.
ولا على شواطئ الأمل.





تمت

___________________________________





ذهبنا أنا وأمي إلى طبيب طيب في أحد مراجعاتنا الأخيرة. لكنه كثير الحكي، ويحاول أن يبدو متواضعاً على نحو مصطنع، ليس أنه في الحقيقة غير متواضع، لا أدري ربما كان كذلك، لكنه يفتعل التواضع ليثبته بالتأكيد. هو سعودي، وكبير بالسن. وفي كل مرة نزوره، يجب أن أحكي له قصة حياتي، فهو في كل مرة يسألني عن كل شيء لسبب ما. أحياناً أكون قد نسيت بطاقة الجامعة معلقة على جيبي، فيسحبها ويقرأها ويسأل عن كل التفاصيل، وهي نفس التفاصيل في كل مرة. في المرة الأخيرة تذكر لأول مرة أنه رآني من قبل، لكن هذا لم يعفني من التعارف من جديد. سألني إن كنت عضو هيئة تدريس. فقلت: لا لا، أنا موظف. فقال بطريقة مسرحية: طيب وش فيه الموظف؟ الموظف أحسن من الدكتور!!. توجه بكلامه هذا إلي وإلى طلابه. رددت بأنه لا يحتاج إلى أني خبرني، فأنا موقن بهذا. شد هذا انتباهه، وقلت بأن السعودي لا يصلح أن يكون دكتوراً، وربما كان هو استثناء، لكني أتحدث بشكل عام. كان لا بد من التأدب. كتم طلابه ضحكاتهم. وسألني عن رأيي وسببه، فقلت بأن المجتمع يفسدهم، ويغدون متكبرين وبلا فائدة. وتكلمنا كثيراً في الأمر، وهو يحاول أن يستوضح أكثر، بينما أمي تقبع على كرسي الفحص تنظر من خلال البرقع، وكأنها حمامة. لم أكن أريد للنقاش أن يطول، لكنه كان يشعبه، ويخرج عنه، فجأة يسأل من أين نحن، وفجأة يسأل أين درست. قال بأني مثير للاهتمام (!!). طلب مني أن يتحدث باسم جميع الدكاترة السعوديين، فرجوته أن لا يفعل، وأن يتحدث عن نفسه فقط، فأنا أعرفهم جيداً، بينما هو لا يمثلهم إذ أنه متواضع. قلت بأني أعرفهم لأني أراهم بالعمل، وقد درست على أيديهم، ولي أقارب منهم. تسائل وهو يتلفت إلى طلابه، وهو يفعل هذا حينما يشعر بأن ما يقوله هو أمر بالغ الدهاء؛ ماذا لو أصبحت أنت دكتوراً؟ هل ستقول نفس الكلام عن نفسك؟ فقلت: إن شاء الله أني لن أكون. فتح عينيه مندهشاً، وبهذا هدم كل تواضع حاول أن يوحي به، رغم أني بالواقع لم أكن مصدقاً تمام التصديق أنه متواضع إلى ذلك الحد، لكن كلهم يتخيلون بأنهم بلغوا نهاية طموح كل إنسان حينما حازوا شهادة دكتوراه. تسائل لماذا؟ يقصد لماذا لا أريد أن أصبح واحد منهم، ولكنه لم يتركني لأجيب، فقد علق بتمعن بأن هيئتي تبدو مثل هيئة عضو هيئة تدريس!. وسأل طلابه، فوافقوه. كان خبراً سيئاً. أسوأ من حينما أبلغني صديقي الهندي سيد بأني أذكره بالممثل شاه رو خان. سأل طلابه ماذا أصلح أن أكون؟ هل أصلح أن أكون طبيباً؟ فقال أحدهم بأني أصلح أن أكون طبيباً نفسياً. ربما كانت سخرية، وأنا أغلب هذا.
قال بأن التحادث معي مثير للاهتمام، لهذا يريد أن يراني مرة أخرى، ولكن ليس في موعد، إنما في لقاء تعارف، ليغير وجهة نظري عن الدكاترة السعوديين (طَموح). كان يجامل.

أذهلتهم أمي بمعرفتها باستخدامات الدواء وما يتعلق به من أمور. وهي كثيراً ما تذهلهم. حينما كنت صغيراً، نومت في المستشفى وكانت أمي معي. إلى جوارنا كانت امرأة معها رضيع، في يده انبوب متصل بزجاجة المغذي. حاولت المرأة حمل ابنها إلى الحمام على ما يبدو، وجر زجاجة المغذي من الماسورة التي علقت بها، وكانت ذات إطارات. لكن حينما حملت الطفل ومضت بضع خطوات، بدأ دم الصبي يصعد عبر الانبوب إلى الزجاجة، فصرخت بحدة وعادت مسرعة ووضعت ابنها على السرير، ولكن لم يصلح هذا الأمر، إذ استمر الدم بالصعود في الأنبوب.  ولكن أمي كانت قد وقفت واتجهت إليهم بالفعل منذ أن صرخت المرأة، طمأنتها أمي وقامت بشيء تجاه الصمامات تحت الزجاجة، فبدأ الدم بالعودة مع السائل. كن الممرضات يستعن بأمي في الأمر معي. كنت فخوراً جداً في ذلك اليوم، ولا زلت.





قبل أيام، رأيت أساتذة غربيون يخرجون من المصعد، بينما كنت أنتظر أنا أن أدخل. كان معهم سعودي، خرج قبلهم، ثم خرجن بعده ثلاث نساء، ثم بقي رجلين كبيرين بالسن. أحدهما توقف ينظر لمن خارج المصعد، وبدا أنه يفكر بقول شيء، حتى خرج وقال لمن ينتظرون الدخول: تفللوا!. كان يريد أن يقول تفضلوا. كنت العربي الوحيد، وأشك بأن الآخرين، وهم هنود، قد فهموا ما يريد أن يقول. شعرت برغبة بالضحك، خصوصاً أنه توجه إليهم بهذه المجاملة. حينما أخبرت الدكتور الألماني ضحك هو الآخر. ثم سألني عن مسألة تفضل، لماذا لم يقل تفضل، وقال تفضلوا؟ شرحت له مسألة الجمع. ثم سأل ليتأكد: إذا لو كان أمامي شخص واحد، أقول له: "إتفضل"؟ ضحكت. عاش الدكتور لفترة طويلة في مصر، وما يعرفه من اللغة العربية دائماً ما يكون بلهجة مصرية. شرحت له أن هذه اللهجة المصرية، وأنه من الأفصح أن يقول مثلنا: تفضل.

في الأسبوع التالي، رأيت مجموعة كبيرة من الأساتذة الغربيون والغربيات، وهم يمشون خلف سعودي. عرفت من جريدة الجامعة أنهم وفد للاعتماد الأكاديمي. رأيت الرجل صاحب: تفللوا. نظر إلي وابتسم، وأشار بحاجبيه، لسبب ما. هو بالواقع لم ينظر إلي أمام المصعد في ذلك اليوم، ولم يرني، كان ينظر حصراً إلى مجموعة الهنود العاملين في الجامعة. وظل يبتسم، ويلتفت، حتى بعدما ابتعدوا. شعرت برغبة عارمة بالضحك، وتمنيت لو أمكنني السلام عليه مجاملة وتقديراً.
كان يبدو على المجموعة عموماً الشعور بالإثارة.





لست من عشاق البيتزا من خارج المنزل، إذ لطالما وجدت أن بيتزا أهلي أطعم وأصح. حتى أني لا أشارك في العادة حينما يكون العشاء بيتزا من خارج المنزل. وإن شاركت، فقطعة واحدة كثيرة علي، وتجعلني أعاف اليوم.
لكن، اكتشفت مطعم بيتزا جديد، جذبني صغر حجمه، ولوحته واسمه. اسمه بيتزا 
ستوكهولم.

ذهبت إليه في يوم اجتمع فيه الكثير من الأهل، ودخلت لأطلب. كنت أتسائل إن كان المطعم من السويد فعلاً، أم أن أحد القرويين أعجبه الاسم ووجد به الغموض والجاذبية المطلوبة. لكنه بالفعل من هناك، عرفت هذا حينما قرأت قصة المطعم، هو مطعم سويدي افتتح في السبعينات، افتتحه إيطالي حاول أن يراعي الذوق السويدي في الأكل، وأضاف المكونات السويدية المألوفة إلى البيتزا. طمأنني هذا؛ لدى المطعم فرصة ليكون مختلفاً عن الأسلوب الأمريكي المصطنع والمكرر حتى مللته.
كانت المفاجئة الثانية في الأحجام والأسعار. إنها نفس أسعار المطاعم الأخرى، لكن لديهم في هذا المطعم مفهوم مختلف عن الأحجام، فهم يطعمون عمالقة في السويد على ما يبدو، أو أن الناس هناك يأكلون الكثير. فالحجم المتوسط لديهم يكلف مثل المتوسط في المطاعم الأخرى تقريباً، في حدود 45 ريال إلى خمسين ونيف. لكن حجمه يماثل الحجم الكبير في المطاعم الأخرى تماماً، أي أنه أرخص بالواقع بكثير. أما الحجم الكبير، فهو كبير إلى درجة أنه يمكنك أن تأكل منه ثم تمهد طفل بعمر سنة ونصف بالباقي، أو يمكنك أن تقدمه على تبسي مفاطيح (الصحون الكبيرة التي تحوي ذبائح كاملة أو نصفها)، وربما لن ينتقدك كبار السن. وهو بسعر البيتزا الكبيرة لدى المطاعم الأمريكية، لكني لا أتخيل بأني قد أشتري شيء مماثل، لأن هذا جنون، إلا إذا نويت تقديمه في حفل كبير، في مناسبة مقامة في استراحة مثلاً.
يد موظف المطعم ممسكة بالحجم الوسط، بينما تمثل الدائرة الكبيرة حجم البيتزا الكبيرة حسب مقاييس المطعم


كل هذه معلومات حسنة ومشجعة، لكن الأهم هو أن ما اشتريته منهم كان أطعم وألذ بيتزا تذوقتها في حياتي من خارج المنزل. وهي خفيفة ولذيذة إلى درجة أني أكلت أكثر من قطعتين. لها طعم خاص ومميز، بهارات غير معتادة، وصلصة صفراء لذيذة تأتي مع نوع المارقريتا الثالث.
إني من عشاقها الآن.
تجدونها على طريق الملك عبد الله، بعد تقاطعه مع طريق التخصصي وأنتهم متجهون غرباً إلى جامعة الملك سعود، في الزاوية إلى اليمين على القاطع يوجد مطعم كودو، بعده بقليل وقبل برقر كنق يوجد المطعم.






قرأت قبل فترة مقولة غريبة منسوبة للشيخ بكر ابو زيد. والله أعلم إن كان قد قال هذا بالفعل أم قيل على لسانه، لكن لا يبدو على أي حال أن الناس يلاحظون العلة. هذه هي المقولة.
( هذه اللفظة باللغة الإنجليزية بمعنى { الأخت } وقد انتشر النداء بها في المستشفيات للممرضات ، وبخاصة الكافرات .وما أقبح لمسلم ذي لحية يقول لممرضة كافرة أو سافرة { يا سستر } أي : يا أختي ! وأما الأعراب فلفرط جهلهم ، يقولها الواحد منهم مدللاً على تحضره ! نعم ، على بَغَضِهِ وكثافة جهله .) انتهت.

لا خلاف لدي على رؤيته بخصوص تسمية الممرضة الكافرة سستر، لكني أستغرب من تخصيصه للمسلم ذي اللحية بالانتقاد، كأنما يُتوقع من كل ذي لحية الكمال، أو وكأنما كل حليق لا يرجى به الخير. عموماً هذا إشكال تعودنا عليه، ولا يبدو أن الناس يدركون أن اللحية هي شأن المرء مع ربه، فما أكثر المنحرفين ذوو اللحى، وما أكثر العكس، اللحية ليست دليل قاطع، وهي سنة يتقرب بها المسلم من ربه، لكنها ليست أمارة على شيء بالضرورة.
أما الإشكال الآخر في رأيي، فهو قوله الكافرة ثم قوله تخييراً: "أو سافرة". هل تتساوى المؤمنة السافرة بالكافرة؟ لا أقول أبداً بأن السفور هو أمر طيب، كما لا أقول بأن حلق اللحى هو أفضل خيار، لكن من المستحيل أن أساوي بين من تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه، وبين كافرة من حيث المبدأ. إنها مؤمنة، لماذا يُحط من منزلتها وقدرها إلى هذه الدرجة، وذكرها على نحو مشبوه بدلاً من الدعاء لها بالهداية؟. لا أجزم بأن كل الأخوات البوسنيات كن محجبات حينما كانوا يشهدون حرباً هناك، لكن لم يساويهن أحد بالكافرات، وذهب العديد من الناس للجهاد والدفاع عن الأعراض هناك.

أما الثالثة، والأكثر غرابة، فهو ما يقوله عن الأعراب. إنه يتهم البدو أنفسهم بالجهل المفرط والبغض بينما يرى بأن قيام سواهم بنفس الخطأ هو ما يوصف بالقبح، وليسوا هم أنفسهم بالضرورة قبيحون وبغضاء.
إنه شيخ معاصر وحيّ، ويعلم الجميع أن البداوة المقترنة بالجهل لم تعد موجودة، فالكل متعلم الآن، وحينما يجهل المرء شيء لا يكون مرده إلى أصله. كما أن الجهل ليس عيباً، إن الجاهل يُعلم، ولا يحتقر أو يهان، ومِن مَن؟ ممن يفترض به توعية الناس بالحسنى. إن من يخطئ يبحث له عن عذر، ولم يكن الجهل عيباً من قبل، ولكن لطالما كان التفريق هو العيب. الجاهل يستحق التعاطف والأخذ باليد، والشيخ، إن كان بالفعل هو القائل، يعرف كيف يمثل الأسلوب هذا بالقول للرجل الملتحي على نحو مقبول. لا أدري سبب مراكمة الكراهية والحقد في التوكيد على الأوصاف، والأسلوب المليء بالازدراء.
هذا أسلوب ملئ بالكراهية والعنصرية في رأيي. فبغض النظر عن الشيخ نفسه، إني أتحدث عما قيل، سواء هو من قاله أو سواه.

حينما حاولت لفت انتباه زميلي الملتزم العصبي تجاه الأمر، لم يرى في الأمر إشكالاً. وبعد تداول قصير، وضع ثقته بالشيخ، بأنه يعرف ما يقول. احتد اسلوبه قليلاً، لأن وصفي لما قاله الشيخ بالصفاقة استفزه. لكنه عاد لاحقاً، ووضع أمامي قطعة حلوى، وطلب مني أن لا أغضب منه.







يصعب صنع مشروب كوكاو جيد في المنزل، وحتى في المقاهي غالباً ما يصنعونه على نحو سيء، فهو لا أهمية كبيرة له في ثقافتنا، بالتالي؛ لا يهم كثيراً أن يكون جيداً بالفعل، فمن يشربه لا يلاحظ الفرق عموماً. في المنزل، العملية معقدة إلى حد ما، ويصعب إتقان صنعه من بودرة الكوكاو الخام، رغم أنه حينما ينجح يكون رائعاً بالفعل. أما المنتجات سهلة الإعداد فهي ملائمة للاطفال أكثر، بامتلائها بالسكر والمكونات الأخرى.
لكن يوجد حل مقبول جداً. اشتريه منذ فترة طويلة الآن. إنه منتج يستورد من أمريكا، اسمه سويسميس Swissmiss. يأتي على شكل مظاريف مليئة بالبودرة الموزونة على نحو مقنع مع السكر، فلا يحتاج إلى زيادة. إنه أفضل المتوفر، رغم أنه ليس أفضل ما تذوقت أو ما أطمح إليه، لكن كونه من الأفضل هو أمر كاف جداً. يوجد نوعين، نوع بالحليب ونوع غني بالكوكاو، الثاني هو الأفضل، وبفارق كبير.

وهو رخيص كذلك، إذ يباع بحوال ١٤ أو ١٥ للعلبة المليئة بالمظاريف. على أن التميمي زاد السعر قبل فترة إلى الضعف أو أكثر، بدافع الطمع أو بالخطأ، الله أعلم، وامتنعت في ذلك الحين عن شراء المنتج حتى رخص.

ولكن، الكوكاو يكمله غالباً الكوب الجيد. أي كوب يصلح بالطبع، لكن الأكواب الجميلة والمميزة تساهم في جو المشروب. أحب شراء الأكواب بصراحة والكؤوس، وقد خُصص لي دولاب في المطبخ، يفقد هيبته للأسف أمام بعض العناصر غير المتحضرة والتي يصعب التفاهم معها أو إخافتها، كما أن سيتي، خادمتنا المسنة الطيبة، تفقد الإرادة للدفاع عن أشيائي في حضور هذه العناصر، ولا ألومها. إن أحد أكوابي، الذي كان مثار حسد لزجاجه الشفاف المضبب، قد أصبح غير قابل للاستعمال بعدما انطبع على حافته "برطم" ضخم بصبغة لا تزول من الشاي.
عموماً، اشتريت كوب جديد، وهو جميل جداً بشكله البدائي وزجاجه شديد الشفافية، وغير متوازن الأبعاد من الداخل، تزخرفه على نحو متقشف شمس بدائية من الخارج. اشتريته من إبو Epo، وهو محل ياباني جديد على نمط دايسو، لكنه ليس جيداً بنفس القدر، ربما يعجب النساء أكثر لأنه مليء بالأشياء النسائية وسخافات أخرى.
الغريب أنه رغم أن المحل ياباني مثل دايسو، إلا أن الكوب صناعة اسبانية. إن أكثر ما يوجد في المحلين هو صناعة صينية لصالح المحلين، وليست أشياء صينية عادية، لكن وجود صناعة اسبانية عادية جعلني أفكر بأن إبو ليس وجهة ثقافية بقدر دايسو.







عاد الصديق الألماني الأصغر من ألمانيا بعد العيد بخبر سعيد؛ لقد اعتنق الإسلام. وأنا هنا لا أتحدث عن صديقي العزيز الدكتور الألماني الأكبر، الذي أسأل الله أن يهديه إلى الإسلام. لم يكن الأمر مفاجئة كبيرة، كان قد أطلعني على أنه يفكر بالأمر، ومنذ أن جاء إلى السعودية كان يبدي حماساً، وقد أخبرني بأنه يشعر بأنه مسلم بالأساس. لكن هذا لم يمنع بعض "الارتطامات" من أن تحدث بيننا، إذ كنت قد كتبت في وقت قديم عن احتكاك خلف بعض المشاعر السيئة لبعض الوقت، جرى بيننا عبر البريد الالكتروني، وكاد أن ينهي علاقتنا كأصدقاء.
زار مكتبنا، ولم يطلبني للسلام، إنما سأل عن إجراءات تصحيح وضعه كمسلم جديد. أخبرني زميلي لاحقاً، وهو على ما يبدو لا يدري بأننا أصدقاء. فرحت بالخبر، لكني خمنت بسرعة أنه لم يخبرني في البداية حتى يبين بأن الأمر ليس مهماً جداً. لكني زرته بمكتبه، واتفقت معه على تناول العشاء معاً في تلك الليلة، بعدما سلمني بعض الهدايا اللذيذة؛ خبز ألماني، وحلوى شعبية من هناك لم أتذوق مثلها من قبل.

في تلك الليلة، التقينا في مطعم برقرايزر، الذي كان يسمى برقر هاوس. تحدثنا حول إسلامه، وحاول أن يوضح بأنه ليس بأمر ذا بال، فهو لا يشعر بتغير كبير لكونه كان دائماً يشعر بأنه مسلم بالأساس. لم تتغير وجهات نظره كذلك، وهو له طبيعة غير عادية من حيث حب صدم الناس بآرائه واستمتاعه بالأمر، لكن أراهن على أنه لم يستمتع كثيراً معي، لأنه يصعب صدمي بالآراء، ويصعب شعوري بالإهانة تجاه بعض آراءه الغريبة، حيث أني كنت منفتحاً على النقاش. قال، وهو يريد أن يتأكد، بأنه يعرف بأني أشعر بصدمة من رأي معين قاله، لكني ضحكت وقلت بأني غير مصدوم، فأنا أعتقد بأنه لا أحد يمكنه إهانة الإسلام. أعتقد بأن كل هذا مقدمة لآخذ أمر إسلامه ببساطة، لكني لا آخذ إسلام أحد كأمر كبير جداً أصلاً، لأني أعتقد أن إسلام الإنسان هو معروف تجاه نفسه قبل أن يكون تجاه الآخرين.
بعد فترة في المطعم، وبينما أنا أحمل صينية الطعام، صادفت شخص كان صديق لي في وقت غابر. سلم علي، وقال بأنه سيأتي إلى طاولتي، تاركاً إياي أذهب، وقد ذهب هو ليغسل بعد وجبته على ما يبدو.
انتظرت بشيء من الوجوم حضوره، جاء إلينا ووقف الصديق الألماني وتصافحا، قال له بالانجليزية، بنفس الأسلوب الذي استمر منذ أيام الطفولة، بأن اسمه كذا وكذا، بتأتأة مشوبة بثقة ولا مبالاة على نحو غريب. ولما رد الألماني معرفاً عن نفسه طلب منه أن يستمتع بوجبته والتفت إلي. حينما طلب ذلك، كان يقول كلمات مهذبة، لكن بأسلوبه، كانت طريقة واضحة ومباشرة لأمر الرجل بالجلوس حتى يلتفت إلي بكل انتباهه، وبهذا كان الأمر سلطوياً ولا مبالياً بالواقع، رغم حسن النوايا. لم يكن هذا صادماً، كانت هذه طبيعته الصميمة منذ أن كنا أطفالاً، وحتى بداية سنوات الجامعة.
تحدثنا قليلاً جداً، وجاملنا بعضنا بالأسئلة، ثم طلب رقم هاتفي لنتحدث ونرى بعضنا لاحقاً، ومضى.
لم أكن في حيرة من أمري، ولم يكن شعوري متناقضاً؛ لقد كنت أتمنى لو أني لم أرى هذا الشخص.
وهذا ليس أني أتمنى له السوء، إني أتمنى له التوفيق كما كنت دائماً، لكني أتمنى أن يتوفق بعيداً، حتى عن التفكير. إن صداقته كانت من أغبى الأمور التي تشعرني بالمرارة حينما أتذكرها، لم يكن لها أي قيمة إيجابية، كانت مضيعة للوقت وللفرص الجيدة، وللثقة بالنفس.
لن أنكر أبداً بأنه ظل هو الأكثر تواصلاً في نهاية صداقتنا، ولكنها لم تنتهي لقلة التواصل؛ لقد انتهت لأني أردتها أن تنتهي، وقد طال التواصل أكثر مما أردت. بالواقع، لطالما كان اتصاله وزياراته أمور استنزافية بمعنى الكلمة، للشكوى من معاناة، لإسقاط أراء عن الآخرين، وأمور مشابهة. وهذا يذكرني بآخر صداقة حميمة كانت لي مع شخص من سني، كانت صداقة استنزافية هي الأخرى.
لقد كنت دائماً أرجو أن لا يحصل على رقم هاتفي، أو يصادفني، فلن يكون لدي له غير الترحاب، ولكني لم أرد بالمقام الأول رؤيته. شخصيته لم تلائمني حالما ازداد وعيي بالقدر الذي يمكنني من الإلتفات إلى الوراء وتقييم نفسي وصداقاتي، وهذا كان في الثانوية. وحالما دخلت الجامعة أردت للأمور أن تموت من تلقاء ذاتها، وهذا ما كان. لم أحب أبداً شخصيته التي تفرض إرادتها، وتعطي لنفسها الامتيازات، المحسنة الظن بالنفس إلى أقصى حد رغم كل العيوب، المتمحورة حول الذات، التي تذهب إلى أبعد مدى حال الحقد. لم أحب رغبته بقيادة أي مجموعة، انتقاداته التي لا تنتهي، استغبائه للكل، رؤيته المفرطة بالإشفاق على ذاته وظروفه وبالتالي استنزاف الآخرين.

الأمر الذي قد يثير السخرية، هو أني لطالما حاولت تجاهل ذكراه أو التفكير بحاله، ولطالما بنفس الوقت تسائلت عن حال والدته، وما يجري معها؛ إذ كانت امرأة طيبة بقدر ما كلمتها، وكان هذا كثيراً حينما كنا نتواصل عبر الهاتف، وكانت مريضة دائماً، وذات حظ تعيس. لطالما ذكرتني بوالدتي رغم اختلاف الطباع.

قد يقول البعض بأني جبان، أو ضعيف لا يتحمل، أو حتى قاسي القلب.
لكن لا أعتقد أن الهدف من الصداقة السوية هو اختبار الشجاعة.
ولا تجريب القدرة على التحمل.
ولا أعتقد أننا يجب أن نترك أنفسنا نهباً للآخرين مهما سلمت نواياهم.
فأنا أعلم بأنه على الأقل في آخر سنوات صداقتنا كان يخلو من النوايا السيئة تجاهي، لكن طبيعته كانت سيئة بالنسبة لي، وكان هذا كافياً.

كان الصديق الألماني الأصغر قد أحضر معه هدية من ألمانيا، خبز ألماني مغلف، وحلوى تقليدية. لم تعجب الحلوى أي من أهلي، لكني وجدتها رائعة جداً بمذاقها الغريب اللاذع، حيث أنها مصنوعة ببهارات لا يتوقعها المرء من تلك الجهات من العالم. قال لي بأن تلك الحلوى تؤكل في المواسم الباردة لتشعر الناس بالدفئ.









كنا نتكلم أنا والدكتور الألماني مؤخراً عن شخصية عامة. قلت بأنها شخصية صارمة، وهذه ميزة على الأقل، أفضل ممن ليس له أي ميزة. ابتسم وقال شخصية صارمة مثلك. ربما يعتقد بأني صارم لأني ضد المحاولات السخيفة لإحراجنا أمام العالم التي يقمن بها نساء من وقت إلى آخر حينما يقدن السيارة. إني مع الكلام والنقاش حول الأمر، ولست أرى بأن قيادة المرأة للسيارة هي أمر محرم بحد ذاته، ولا أعارضه حتى، لكني أعتقد بأننا يجب أن نصلح البيئة التي سيقدن النساء السيارة بها، والقوانين. كما أني انتقد الشباب المتغرب أمام الدكتور، وكذلك الشباب التافه، وقد قلت في لحظة عصبية في اليوم الوطني بأني أكره الشباب، مما أضحكه. لكن ربما كل هذا جعله يعتقد بأني صارم.

أخبرته بأني لست إنسان صارم كما يتخيل، إني أعتقد بأني مرن، وقابل للنقاش. وافقني سريعاً، لكني أضفت بأني أغير رأيي حتى بلا مشكلة حينما لا يكون جيداً، لكن ما يراه بي ليس صرامة، إنما التزام. طلب مني التحدث أكثر حول الأمر، فأوضحت بأنه التزام بما يعتقد المرء بأنه صحيح، وأسهبت في الأمر وفصلت قليلاً. اقنعه هذا في النهاية.

قضينا وقت طويل جداً في السيارة في اليوم الوطني، بسبب المرضى الذين يوقفون سياراتهم فجأة فيسدون الشارع، ثم ينزلون ليرقصون وهو يتمايلون ويهزون أردافهم. كان أمر مقرف، لكن لحسن الحظ أنه كان معي، فقد تكلمنا كثيراً وقطعنا الوقت.
سألته إن كان يعتقد بأن الطبيب الألماني، الذي قضينا معه بعض الوقت قبل فترة وكتبت عن الأمر، يصلح أن يكون سياسياً؟. ذهل وقال لا، إنه أبعد ما يكون عن السياسة، إنه ساذج، لكني أجبت بأن هذا بالضبط ما يجعله مؤهلاً للأمر. ضحك الدكتور بقوة، ويبدو أنه حسبني أمزح، لكني كنت جاداً، فعلق قائلاً وهو يضحك: ما هذا؟ فلسفة جديدة من فلسفات سعد الغريبة؟. شرحت له بأن الأكثر سذاجة وبعداً عن عمق التفكير هم من ينجحون بالعمل السياسي، وعلى الأقل الطبيب الذي نعرف رجل طيب وذو نوايا سليمة، ولديه الكاريزما كما يعتقد الدكتور أيضاً، وأضفت: أما أنت، فلعمق تفكيرك وبعد نظرك، لن تصبح سياسياً. وافقني على أن من يتميزون بالحكمة والعمق لا يصبحون سياسيين.

رأينا في وقت لاحق سيارة أعشقها، ويعشقها الدكتور أيضاً. لنا نفس الذوق في السيارات إلى حد بعيد، فهو يتفهم حبي للسيارات الفرنسية والإيطالية، ويشاركني إياه. السيارة التي رأينا لا تباع هنا، فلا وكالة لها، وهي إيطالية صغيرة من نوع فيات، وكانت ذات سقف مكشوف، وأتصور بأنها مصنوعة في أمريكا، حيث بدأت الشركة الإيطالية بالتصنيع هناك لأجل سوقهم، وبدأت التسويق على نحو مبتكر (يوجد من السيارة تصميم بالتشارك مع ماركة أزياء).
أحيي هذا الشاب على ذوقه. لكن من أين أتى بالسيارة؟ ما شاء الله.

في وقت لاحق، رأيت العجب من المحتفلين باليوم الوطني. لطالما ظننت بأننا شعب جميل بعمومه، واعتدت أن أرى الوجوه الوسيمة في كل مكان، لكني في ذلك اليوم شككت بأننا أقبح شعوب الأرض، إذ رأيت ما جعلني أحتار إن كنت قد اكتسبت فجأة القدرة على رؤية الثقل الثاني.
رأيت شاب يشبه السنجاب القديم في فيلم آيس ايج، يلتفت إلي من وقت إلى آخر وهو جالس على نافذة سيارة، ورأيت شيء آخر شككت بأنه اسطوانة غاز مسروقة أو هاربة، حتى التفت فخيل إلي بأني أرى دابة آخر الزمان. وكان يسير بين السيارات مع حفنة من الشباب، وقد ضرب شخص في سيارته مفتوحة النافذة بعصا معه ثم تظاهر بأنه يمزح.
كان الناس يوقفون سياراتهم في منتصف الشارع، فيتوقف الجميع، لينزلون ويرقصون رقص سامج متخنث، ويتقابلون بالرقصات البطيئة والقبيحة وهم يتخيلون بأنهم يؤدون إنجازاً، ويشدون نظرات الإعجاب. لا أقول بأن هوياتهم الجنسية غير واضحة بالنسبة إليهم، لأني لا أعتقد بأنهم كانوا يحاولون إغراء أحد، فحتى ذبابة لن تشعر بالإغراء لتحط عليهم.
كان من الواضح أيضاً بأنهم جائوا من أماكن بعيدة عن المنطقة ليحتفلون، فمنطقة العليا ملازمة للإحتفالات السخيفة والأشكال المشبوهة مع الأسف، فأقصى طموح البعض هو أن يستعرض تفاهته في العليا ويلفت الأنظار.

أتمنى لو كان اليوم الوطني يوم للتذكير بالمكتسبات، لا لتشويه المناظر والتعدي على الأنظمة. لقد رأيت شباب يسدون معظم طريق الملك عبدالله بسيارتين في المسارين، ثم ينزلون ليرقصون دون أن يقول لهم أحد شيئاً.

ولماذا لا يكون هناك أيام أخرى تذكر بأمور مهمة؛ كالأحداث الجسيمة من قبيل الحروب والمآسي مثل مذبحة تنومة، حتى لا ينسى الناس هذه الأمور، ويقرأوا التاريخ جيداً ويعرفوا أعدائهم، ويشكروا الله على النعمة.



أخبرت الدكتور قبل فترة بإسلام الألماني الآخر، وقد فوجئ بالأمر. ثم قال بأن همام (صديقي الصيني، عسى الله أن يشفيه من مرضه) أسلم والآن فلان (يقصد الألماني الآخر)، وكان مبتسماً وهو يقول هذا. قال لي هذا لأنك دعوتهم. كان يريد أن يريني بأني مؤثر، لكن لم يكن هذا واقعاً؛ فقلت: لا، أنا لم أدعو أحداً. وأوضحت له بأننا تناقشنا حول الدين حينما أرادوا هم ذلك، وتكلمنا حول الأمور وفق سياق النقاش، لكني لم أحاول إقناعهم باعتناق الدين.
إني لا أحاول إقناع بالكلام أحد لأني أعتقد بأن هذا قد ينفر الناس، خصوصاً حينما لا يشكون عدم اقتناعهم بدينهم. إن ما أحاول القيام به، لأجل نفسي بالمقام الأول بكل صراحة، هو أن أريهم مثالاً عن جودة الإسلام كأسلوب حياة بقدر ما أستطيع.
قد يعتقد البعض بأني يجب أن أبذل مجهوداً أكبر طالما أحظى بصداقات وقبول عدد من غير المسلمين، لكني لا أعتقد بأن هذا مجهود صائب لأبذله، في حالتي وطبيعة شخصيتي. إني أرى بأن تكون الدعوة عملية، بالمثال الحسن والواقعي، بالعفوية وبدون قصد؛ إنك يجب أن تمثل المسلم الجيد بقدر ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ودون نفاق، إنك يجب أن تتصرف فقط على طبيعتك، وإن كانت طبيعتك سيئة، فحسنها. إني أفرح لأصدقائي حينما يعتنقون الإسلام، لأني أرى فيه أملهم بالجنة، لكني لا أرهق نفسي بالألم حينما أفكر بأنهم قد لا يسلمون أبداً، يكفي أنهم من خيرة الأصدقاء عموماً، خصوصاً همام وذلك الدكتور الصيني الذي رحل، وبطبيعة الحال، وفيما لا يحتاج إلى قول وتحديد؛ الدكتور الألماني. كما قلت سالفاً، إن إسلام المرء معروف تجاه نفسه بالمقام الأول، وزاد من قناعتي هذه رؤيتي لابتزاز بعض الأجانب لمشاعر المسلمين بدخولهم الإسلام ثم توقع الكثير.
وبالواقع، أنا لم أؤثر في قرار الاثنين للدخول في الإسلام. الألماني كان يفكر بالأمر منذ الأزل، أما همام فقال بأن نموذجي كان له تأثير جزئي. كان الدكتور الصيني معجب بطريقتي مع الأمور؛ لكنه لم يسلم رغم مشاعره الروحانية، وأسأل الله أن يهديه للإسلام... هل سأراه مرة أخرى؟ أسأل الله أن يكون لقاءاً ساراً في يوم ما.





سألني الدكتور عن ما أقرأ حالياً؟ إني أقرأ أكثر من العادة مؤخراً، لكن للأسف الشديد قرائتي غير مركزة، إنها مشتتة بين الكثير من المصادر، الموسوعة الحرة وكتابين ومجلة وأشياء متباينة.
لكننا تكلمنا حول الإنكا، حيث أني أحاول أن أقرأ الكتاب الممتع الذي لدي عن هذه الحضارة بأقصى تركيز، لكن ربما يجب أن أحاول بطريقة أخرى.
سألني إن كنت أعتقد بأن الإنكا هي أرقى حضارة مرت على البشرية؟ من شأن إجابة ساذجة على هذا السؤال أن تكشف عن مرض عقلي، أو ، وهو الأسوأ، سذاجة لا عذر لوجودها. قلت بأن المقارنة بين الحضارات أمر ليس سهل، إنه قياسي، يجب النظر فيه باعتبار الظروف. طلب مني أن أوضح. شرحت بأن الإنكا أنجزوا الكثير من التقدم رغم احتكاكهم المحدود إلى حد بعيد بحضارات أخرى راقية، على عكس الحضارة الأوروبية التي وصلت إليهم بتقدم تقني أعلى (البنادق على وجه الخصوص)، وذلك لأن الحضارة الأوروبية استفادت كثيراً من كل حضارات العالم التي حولها في ذلك الوقت، وراكمت علومهم وإنجازاتهم، وليس انجازاتها وحدها فقط. هب الدكتور، وبدا عليه الاستغراب، قائلاً: ولكني أعتقد بأن الاستفادة من إنجازات الآخرين وعلومهم هو أمر طيب. قلت بأني لا خلاف لدي على هذا؛ لكني لست أتكلم عن المسلك الأفضل للتحضر والرقي، إنما أحكي عن الظروف والفرص. وأضفت بإعجاب: وعلى هذا، انظر إلى الإنكا، ما حققوه وما وصلوا إليه من تلقاء ذاتهم، أمور حتى لم يصل إليها الآخرين رغم تراكم علومهم (كانوا متفوقين بالفلك والرياضيات، والبناء، حيث أن قلعة لديهم وصفت بأنه لم يرى مثل بهائها وهيبتها من حيث الضخامة في أوروبا، قبل أن يتسلط عليها الهمجيون الأسبان، الذين وصفوها بذلك الوصف). وسألته أن يتخيل لو تركوا ليتقدمون بطريقة طبيعية، إما بمعزل عن بقية العالم أو بالاستفادة منه، كيف كان سيصبح حالهم. وحكيت له عن نظامهم الاجتماعي الفريد، وسياساتهم السابقة لوقتها من حيث التعامل مع الانشقاقات والاحتجاجات.
هز الدكتور رأسه موافقاً، وهو يتأمل نظاراً إلى اتجاه آخر، كعادته حينما يستغرق بالتفكر بما يقال. وافقني، وسألني إذا ما كنت أتمنى لو وصلت إلى الإنكا قبل الأسبان. قلت بأني أتمنى ذلك، حتى أحذرهم. لقد أخذت تلك الأمم عموماً على حين غرة، وكانت لديها فرصة للدفاع عن نفسها لولا سوء فهم للأمور بالنسبة لبعضها، وتكالب ظروف وسوء حكمة لآخرين. منذ أن كنت مراهقاً، كنت أتسائل، ماذا لو وصل المسلمين إلى اؤلائك الناس قبل غيرهم.
ثم سألني باسماً؛ هل لدي اهتمام بالفراعنة؟. قلت لا. ضحك، وقال بأنه توقع هذا، وسألني لماذا؟ قلت بأني سمعت عنهم أكثر من اللازم، فحينما يحيط بك مصريون منذ طفولتك يتحدثون عن الفراعنة يصبح الأمر مملاً جداً. وقلت بأني أعتقد بأن الاهتمام الذي يطالهم يجعل الناس يتجاهلون بضارات أخرى جديرة بالاهتمام لا يعرف الناس عنها الكثير، وهذا أمر مؤسف أحاول أن أتفاداه. وافقني على ذلك. يسهل تجاهل أمور كثيرة جيدة حينما يركز جميع الناس بقيادة مجموعة صغيرة على مجال ضيق.
إني أقرأ أحياناً عن الفراعنة، لكن صدقاً لا أشعر باهتمام كبير تجاههم.







كان يوم أمس يوم مضن في نصفه الأول، وجيد في نصفه الثاني. في نصفه الأول، فسد جوالي للمرة التي لا أدري كم، إذ اضطررت إلى إعادة تهيئته، أو تمهيده كما يقول الدليل، ويبدو أن هذه أقوى عمليات التهيئة، حوالي 3 أو 4 مرات. صار مؤخراً يقرر في بعض الأيام "اعتزال الفن" , ويتحجب، صابغاً شاشته بالسواد (حنبلي)، فيتوقف عن العمل حتى بأبسط الصور، أو ينكد علي أي شيء أحاول القيام به من خلاله. الغريب أنه في اليومين الذين سبقا كان قد تحسن قليلاً، مما أغراني بتأجيل شراء جوال جديد، مع أني أخرج كل يوم لأشعر بالحيرة تجاه جوال محدد. ثم ضرب ضربته في أسوأ ظرف، حينما كنت أنتظر اتصالاً مهماً من المنزل، حيث أصبحت ولادة أختي متوقعة. كان يقهرني بإطفاء نفسه حينما أحاول القيام بشيء، أو يعرض علي اتصالاً ويتركني أحاول أن أرد دون جدوى، ثم يغفو. اتخذت التدابير الضرورية، رقم زميلي الملتزم الطيب والعصبي أعطيته لأمي (والحمد لله أني كنت أستخدم أندرويد، حيث يخزن هذا النظام كافة أرقام ووسائل الاتصال في البريد الالكتروني على نحو متزامن). وأجريت اتصالاً بمن اتصل بي، وهو الدكتور الذي عملت تحت إدارته في الوزارة حيث عملت قبل زمن، وكان طيباً معي. كان يريدني أن أتابع له أمر ما، إني أشعر بالسعادة حينما أجد بأنه لا زال يحب أن يعتمد علي ويثق بي.

جاء الاتصال الموعود، وعدت إلى المنزل، وأخذت أختي، وفي المستشفى الجامعي الفاشل حيث تتابع حملها ويفترض أن تضع، قيل لنا بأنهم لن يستقبلونا لامتلاء الحضانة. كان هناك الكثير من النساء، وكانت إحداهن تبكي على كرسي متحرك، مما فطر قلبي. أجريت اتصالاً بأخي الذي يعمل بالجامعة أيضاً، وحاول المساعدة، لكني قمت بجهودي التي أثمرت، لأن الممرضة في الحضانة قالت بأن لي معاملة خاصة طالما كنت أعمل في الجامعة، ورغم أنها أختي وليست زوجتي، إلا أنها تعاطفت واتصلت بالطبيب المسئول، الذي أمر بإدخال أختي. كن الطبيبات مشدودات الأعصاب في الأسفل، وقيل لي لماذا لم أقل بأني موظف في الجامعة؟ كانت بطاقتي معلقة على جيبي، وكانت الممرضة المسئولة تراها.


قررت شراء جوال اندرويد بلا تأجيل، فلم يعد هناك جدوى من الانتظار وجوالي فسد، وأمالي في الأساس قد تحطمت في نظم التشغيل الأخرى بالوقت الحالي.
كنت أذهب كل يوم لأشاهد جوال معين، وأعود إلى المنزل لأقرأ عنه أكثر، وأمر محلات مختلفة لأتعلم أكثر عنه. إنه يعجبني جداً، لكني كنت خائفاً من الندم لاحقاً رغم أني لم أجد به عيباً، وقد كان يلائم ذوقي من كل الجهات فلا أرى به نقيصة. ربما لأني لأول مرة أشتري جهاز من سوني اريكسون، وربما لأن الأندرويد هو نظام جهازي الذي فسد، رغم اختلاف الإصدار. قرأت أربعة تقارير تشيد بالجهاز من مواقع ومجلات عالمية. وربما لفساد جوالي زال التردد، لأني علمت بأني مضطر ولذلك لن أندم كثيراً في حال ندمت، لأنه لا يوجد خيارات أكثر ملائمة. لكني الآن سعيد جداً لأني اشتريته، وأرى بأنه ما كنت أحلم به كجهاز إلى حد بعيد. أتمنى أن يستمر جيداً، وأن لا يخيب ظني نظام أندرويد مرة أخرى. اسم الجوال اكسبيريا ميني برو.




حجمه الصغير جداً وذو التفاصيل الغريبة يلائم ذوقي كثيراً. مميزاته رائعة بالنسبة إلى سعره، والأهم هو وجود لوحة أزرار منزلقة بالعرض، جيدة للكتابة، وبحروف عربية، وتبدو رائعة المظهر تحت الشاشة الصغيرة. وهذه تسهل علي الكتابة، إذ أنه لحسن الحظ بإصدار يدعم تحرير مستندات قوقل، وهكذا سأجد ما أقوم به في أوقات الانتظار في المستشفى بخلاف القراءة. كما أنه جيد كمصدر للانترنت اللاسلكي للأجهزة الأخرى، وقد جربته اليوم، حيث اتصلت بالانترنت على جوال أختي من خلال جوالي كنقطة واي فاي، وكان الأمر سلساً جداً، وحملت لها برنامج بلا مشكلة.

والإنجاز الآخر لنفس اليوم، والذي كان إنجازاً حلواً ومراً، كان إيجادي أخيراً لطريقة لتشغيل شريحة الجوال على جهازي بنظام تشغيل كروم الذي حصلت عليه قبل فترة الآن في إطار برنامج التجريب المجاني من قوقل، وكتبت عنه هنا.
كانت الطريقة بسيطة، ورغم بحثي حينما اقتنيت الجهاز ومحاولاتي إلا أني لم أهتدي للطريقة المناسبة. ولا أدري هل العلة أنها لم تكن مكتوبة في الدعم الرسمي للجهاز في ذلك الوقت أم أني لم أبحث جيداً. المهم أن الطريقة بسيطة، وتشبه إلغاء قفل أجهزة الجوال القادمة من أمريكا لتعمل على شبكاتنا المحلية. لكني كنت أظن بعدما لم أجد إجابة في السابق بأنه ربما يجب الاتصال بقوقل لتقوم بذلك عن بعد، مثلما يفعل أخي حينما يأتي من أمريكا مع جواله الخاص. لكن تبين أن الطريقة بسيطة، سطر برمجي من الدعم الفني الرسمي للجهاز ويُلغَى القفل. حالما وضعت الشريحة عملت، وقد أذهلني هذا، لأنها لم تحتج إلى إعدادات كما يحدث مع الكونيكت، كان الأمر فائق السلاسة على نحو غير معتاد.
كنت قد عانيت إلى حد ما في الفترة التي سبقت هذا الإنجاز، ليس بسبب الجهاز، لكن بسبب الراوتر اللاسلكي الذي كنت أحمله معه، فتنتهي بطاريته أحيانا فأضطر للتوقف عن العمل، أو أحتاج إلى توصيله طوال الوقت بالحاسب ليشحن ويستنزف البطارية، أو أشحنه في السيارة وهذا أمر أنسى أحياناً القيام به مثلما أنسى شحنه بالمنزل، ولكونه ليس بالسرعة التي توقعتها رغم كونه معقولاً، لكني لم أفهم أبداً لماذا تزول إشارة الجيل الثالث حالما أتصل به. أما بوجود الشريحة الآن داخل الجهاز، فقد أذهلتني سرعة الانترنت، حتى في الأماكن التي لا يستقبل بها جيداً داخل المطعم ذلك الراوتر (في نفس المطعم تختلف الكفاءة من جهة إلى أخرى على نحو غريب)

الآن لا أدري ماذا سأصنع بالراوتر، الذي أقدر خدماته. فحينما فكرت بإعطائه اختي انتبهت بأنها يمكنها استخدام الكونيكت مباشرة، فلا فائدة منه. والمقرف أكثر في الوضع أن الجوال الجديد كان سيؤدي الغرض مثل الراوتر، فكنت سأوفر ثمنه لو كان لدي جوال أحدث.
لا أدري إن كنت سأبيعه، لا أتوقع بأن هناك من يحتاجه عموماً.

بعد شراء الجوال، علقت كما توقعت بدون إعدادات جيدة للانترنت أو رسائل الوسائط المتعددة. موبايلي لا ترسل الإعدادات الصحيحة إن أرسلت. بعد محاولات مضنية معهم، وإرسال إعدادات مختلفة عن بعضها  على نحو مريب في أكثر من مرة، فكرت أن أفعل الأمر يدوياً كما كنت أفعل مع جهازي الأخير، وعن طريق موقع سامسونق، حيث اعتقدت بأن الاعدادات ستكون واحدة طالما كانت الأجهزة بنفس النظام. اخترت القالاكسي اس2، لأن اصداره من نظام أندرويد مثل اصدار جهازي (رغم أن سعره عموماً حوالي الألفين وأحياناً أكثر وسعر جهازي 1300 ريال). وفوجئت بخدمة جديدة، إنهم يرسلون الإعدادات إلى جوالك مباشرة، ولا حاجة للإدخال يدوياً، وهذا أمر رائع، رغم أني اضطررت للتعديل على أحد الإدخالات، فنجح الأمر. وجدت متصفح الجوال يحول مباشرة إلى موقع سامسونق، لأنهم أرسلوا لي الإعدادات، شيء مثير للسخرية.




وضعت أختي المولود، بعدما حقدتُ (أنا) عليه كثيراً بسبب المتاعب التي سببها. اتصلت أمي بي وأنا في العمل، في اليوم التالي، وكنت على وشك الخروج لانتهاء الدوام. أطلعتني على الخبر، وأمرتني بأن أذهب إلى المستشفى حالاً وأكافئ نيابة عنها الممرضة التي اتصلت بها (عادة البشارة لدينا)، وأطمئن على أختي والمولود إن استطعت، الذي لا زلنا نجهل جنسه بسبب التكتم المفروض في المستشفيات حالياً. تسترن الممرضات على من اتصلت، وقيل لي بأنه لم يتصل أحد ولا يوجد أحد بذلك الاسم. كدت أن أصدق، لكن علمت لاحقاً بأن الممرضة موجودة، لكنهن يخفن من الإخبار لأن الاتصال ممنوع بتلك الطريقة. كل هذا رغم شرحي بأن كل ما في الأمر هو هدية من أمي. قدرت الممرضة التي تكلمت معها هذا الشيء، لكن لم تخبرني بالحقيقة مع ذلك. طلبت مني أن أنتظر لنصف ساعة حتى يخرج اللئيم من غرفة الولادة، لأراه. ثم نادتني، ورأيته، وسألتني الممرضة التي معه بضع أسئلة لتتأكد من قرابتي، ثم سمحت لي بتصويره، وكان ولداً جميلاً جداً ما شاء الله، حالما رأيته شعرت بالبهجة تملأ قلبي، وتصالحنا. فتح عينيه في اتجاهي، كان رائعاً ما شاء الله.  سيعاني من قبلاتي لسنوات مقبلة، إن أحياني الله.
أريد أن أربيه عندي.
لحظة خروجه من غرفة الولادة





إذا، دخل المحمدين الروضة لهذه السنة، وتخلى أحدهم عنها مبكراً. أشعر بالحماس مع ذلك لأجل الآخر، رغم أنه متكتم على أسرار المدرسة والاصدقاء، ويرفض التحدث كثيراً. هذا ذو الشعر الخويتمات. أما الآخر فقد أحزنتني المصاعب التي واجهته وصغر عقل معلمته. هذا بالمناسبة مصر على أن لون شعر وجهي أخضر، ودائماً يتسائل باستنكار لماذا أصبغ شعر وجهي باللون الأخضر؟ أخبره بأني لا أصبغ لحيتي القصيرة، وأنها بالواقع سوداء، لكنه يوضح لي أن اللحية السوداء هي لحية والده، وليست لحيتي. أعتقد أن كون لون بشرتي أفتح يجعل اللون مخادعاً لعينيه، ويتعب نفسيته!!. إنه يستهجنني بوضوح لاختيار هذا اللون، الأخضر، وهذا أمر مضحك.




عاد همام، الصديق الصيني، من بلاده أخيراً. أرسل إلي رسالة يخبرني، وفي اليوم التالي جاء إلى المكتب لينهي إجراء صغير. صدمت حينما رأيته، كان مفتقر للحيوية، وكان يبدو عليه الضعف والانطفاء. شعرت بالألم للأمر. خمنت بأنه يريد أن ينهي ما جاء لأجله وينصرف، لأن التشتت كان باد عليه، لهذا قصرت سلامي من خلف حاجز الاستقبال، ولم أكثر الكلام، وصدق تخميني. ساعدته سريعاً بعمله، وقال بأنه يريد أن يراني قريباً، قلت بالتأكيد. اتفقنا أن نلتقي في الليل.
كان حاله أفضل قليلاً، لكن كان لا يزال غير مركز أو متزن تماماً، ويبدو عليه التعب عموماً. لم يشفى من المرض، واضطر للعودة إلى هنا حتى لا تنتهي تأشيرته. احضرت له حبوب، مكمل غذائي، استعملته في الفترة الأخيرة وشعرت بأن حالي أفضل بكثير. أتمنى أن يفيده. شعرت بالعجز عن المساعدة، وكان هو خجل من اهتمامي واقتراحاتي. رفض إكمال العلاج هنا، لأنه يريد أن يعالج على الطريقة التقليدية في الصين. كنت قد أخبرت والدتي بأنه جاء من بلاده، حيث كانت تدعو له ليشفى، وأخبرتها بأنه لم يشفى، وأنه بدى عليه الضعف الشديد. اقترحت أمي أن ترسل إليه ماء وزيت مقروء فيه القرآن. وافق على الاقتراح. أتمنى أن يشفيه الله إنه على ذلك قدير.
رغم كل شيء، لم ينسى المجيء بهدايا، مما أثر بي كثيراً. أحضر إشاربات من الحرير الأصلي لوالدتي وأخواتي. لم أرى قماشاً أجمل منها، إذ لم أرى في حياتي قماش يلمع على هذا النحو البديع، بدا سائلاً أكثر منه قماشاً. كان من الواضح بأنها غالية، بوجود علامة معلقة وتغليف جيد. تمنيت لو لم يتكلف هكذا. كانت والدته قد ساعدته بالاختيار كما خمنت، وعلقت بأنها لهذا تبدو جميلة.

تناولنا العشاء، وأراني صور ابنة اخته التي أحضرها كما وعدني، كانت طفلة جميلة جداً ما شاء الله، ذات خدود كبيرة وفم فائق الصغر. وهي ليست ابنة اخته تماماً لأنهم في الصين لا ينجبون بشكل عام أكثر من طفل واحد، لكنها ابنة ابنة خالته، وهي كأخته.





اجتمعنا أنا والدكتور الألماني في الأسبوع الفائت لنشاهد فيلماً،Spirited Away، الذي أعتقد أن أسلم ترجمة لاسمه هي اختفاء أو تلاشي. وهو فيلم صنعه فناني المفضل هياو ميازاكي، أفضل فنان أعرفه على ما أعتقد، فهو أيضاً الذي صنع فيلم الأميرة مونونوكي Princess Mononoke. اختار الدكتور أن يراه لأنه مهتم بهذا الفنان أيضاً، فقد أحضرت خيار آخر.
كنت قد توقعت منذ البداية أن يعجبه أكثر من مونونوكي، فهو بالأساس، وبغض النظر عن تفضيلي لمونونوكي عليه، أعتبره من أروع ما قد يراه المرء؛ إنه فن خالص. أخبرت الدكتور عن تخميني، وسألني لماذا اعتقدت هذا؟  قلت بأن الناس إجمالاً لهم نفس الرؤية، وهي لها ما يبررها، هذا الفيلم مبهر أكثر ربما، وهو ليس سيء، بل إنه ثاني أفضل فيلم رأيته في حياتي بعد مونونوكي، ويقبع قريباً جداً من مونونوكي من حيث الجودة والروعة في رأيي. إنه لا يوصف. مع ذلك؛ يحتل مونونوكي مكان خاص في قلبي، لأنه ينطوي على فلسفة تعجبني، بينما هذا ينطوي على إنسانية محضة وخيال مجرد بمواضيع متعددة لا تركز على فلسفة؛ إنه أشبه بقصيدة بمقاطع مختلفة، كل مقطع مختلف ومؤثر، خصوصاً مشهد القطار والمسافرون عليه، والمحطات التي يمر بها، اؤلائك الناس المصنوعون من الظلال، بأشكالهم البائسة، وانتظارهم الذي لا ينتهي، كان هذا المشهد قصيدة. ابتسم الدكتور، وقال بأن هذا مشهد رائع جداً، وأنه يعتقد بأنه أعجبني هكذا لأنه يشبه حياتي. يرى الدكتور حياتي هكذا. ربما كان محقاً، لأني منذ أن رأيت هذا المشهد قبل زمن طويل، رأيت حياتي فيه.
أكملت بأن هذا الفيلم عبارة عن رؤية إنسانية، أو خيرية، أما مونونوكي فهو ينطوي على فلسفة، وهو أعمق. قلت بأن الناس بالعادة لا يتمكنون من الوصول إلى هذه الخلاصة مع مونونوكي، ووضع أيديهم على ما يريد صانعه أن يقول من خلاله. قال الدكتور بأنه يريد أن يراه مرة أخرى إذاً، ليفهمه على نحو أفضل.






تكتب امرأة في جريدة الرياض عن الابتعاث منذ فترة، والجدل الدائر حوله. اسمها حسناء القنيعير، وهي هجومية تجاه من لديه وجهة نظر سلبية عن الابتعاث أو بعض جوانب البرنامج، وتتحدث عن أصحاب وجهات النظر هذه بطريقة صفيقة وعلى جانب من الشراسة. شعرت بالحزن وأنا أقرأ بعض مقاطع مقالاتها. لماذا لا يمكن احترام وجهات نظر الناس وشعورهم. ألا يمكن التفكير بأن لهؤلاء الناس دوافعهم للإنتقاد والتخوف، إنهم لديهم ثقافة هم ملتزمين بها، وخائفون عليهم، سواء ظن المرء أن خوفهم في محله أم لا. لكن هذه المرأة، مثل الكثير من الكتاب، لا تعرف سوى أن تتفنن بالاحتقار واستصغار العقول. لا يأخذون حسن النوايا بالاعتبار لأنهم لا يحسنون النية تجاه الناس مع الأسف، ويظنون أنهم مصلحون. مثل هذه المرأة كثيرون، وهم أناس لا يبحثون عن الحقيقة أو أفضل الخيارات وأقربها إلى السلامة بقدر ما يبحثون عن تطبيق ما فيه مخيلتهم في الواقع، أو ليّ الواقع وتشكيله بكلماتهم بما يوافق ما يرونه في رؤوسهم، لهذا ترى شراستهم وانعدام السياسة والأخذ والعطاء في الحوار أو إعطاء وجهات النظر.
تجدها تقسو مرة بعد أخرى في التعاطي مع أمرهم، ولا تكتفي فيظن المرء بأنها تحمل حقداً كبيراً تجاه فئة معينة من الناس. وهذا أمر محزن، ويقوض مصداقيتها في عيناي، لأن المبالغة الجوهرية الزائدة عن الحد لا تعطيني انطباعاً بسلامة حكم من أقرأ له.

كنت قبل فترة طويلة قد رددت في مدونة دكتور سعودي من النوع الذي وصل إلى منتصف العمر وبات يستخف دمه بلا مراجعة لما يقول، أو كما نعبر: يتميلح، مثلما يفعل هذا الذي يكتب زاوية سوانح طبيب في جريدة الرياض اسمه بن سعيد، على ان بن سعيد أكثر تعقل وتهذيب. اسم الدكتور الذي أتحدث عن ردي في مدونته هو العبدالكريم، وكان يسخر ممن يقرأون الروايات، ويتهمهم بنقص العقل والفراغ. حاولت مناقشته في الأمر، فتبين بأن كل ما يريد الوصول إليه هو إثبات وجهة نظره، وتصيد التفاصيل الصغيرة غير المهم والبعد عن الجوهر. لما أخبرته بهذا، قال بأن محاولة البحث عن شتى الطرق لإثبات أن وجهة النظر صحيحة أمر طبيعي. أخبرته بأن ما أبحث عنه حينما أناقش هو الحقيقة، والآن بعدما تحول الأمر إلى جدل، لم يعد يلائمني. حاول إطالة الأمر، إلا أني أوضحت وجهة نظري، حيث أننا نبحث عن أمور مختلفة. كنت قد أفحمته بالواقع، ربما لهذا لجأ إلى الأساليب الملتوية، وقد لجأ إلى السخرية في النهاية، ولما لم يجد نتيجة، وضع وجهاً حزيناً. كان يصادر وجهات نظر الناس بلا حياء، وربما لم يتوقع بما أنه دكتور أن يبين له أحد ما بأنه لا يقدر أفكاره عن الناس وأسلوبه في طرحها. حينما أعود إلى مدونته المستضافة على خدمة مدونات الجامعة، أجد أنه كل فترة وأخرى يحذف رداً من حوارنا. لكن لا يهم، لأني أتمنى أن يكون قد استفاد، وتعلم أن يتأدب مع اهتمامات الناس ومشاعرهم.

هذا الدكتور العبدالكريم، وتلك حسناء القنيعير، وهي دكتورة أيضاً (هذا يفسر الكثير على ما أعتقد)، كثرة أمثالهم ووصولهم للناصب ومنابر الرأي هي من أسباب تراجعنا في رأيي.

لست ضد الابتعاث، ولا أعتقد بأن هناك من كان ضده قبل زمن، قبل أن يفتح الباب له بطريقة مفاجئة وغير مريحة، لفئات سنية صغيرة ولعدد كبير جداً منهم. الابتعاث كان موجود منذ عقود دون أن يثير جدلاً، على العكس، كان مجهود يحترمه الناس لتطوير البلاد. إذا الخلل والاعتراض ليس على الفكرة في حد ذاتها.
أعتقد بأن فكرة الابتعاث تنطوي على شيء من الظلم للبلد، ففضلاً عن إرسال شباب صغار دون معايير كافية للانتقاء هو أمر قد يسيء لثقافة البلد على الأغلب. الانتقاء ضروري في كل شيء. إرسال أشخاص ناضجون سيساعد كثيراً على عودة خبرات متزنة إلى حد بعيد. من الممكن إرسال شباب صغار بأعداد تسهل متابعتها في الخارج إن كان هذا ضرورياً، وبعد اختيار الملائم منهم بصرامة، وحتى هذا أمر غير مريح بالنسبة لي.
كما أني أرى بأن ميزانية الابتعاث الضخمة تظلم من سيتابع تعليمه داخل البلاد. رأيي هو أن الأجدى قسم الميزانية وإحضار أساتذة أكفاء من الخارج بأعداد كبيرة، من دول متقدمة حقاً، ليعلموا أكبر عدد ممكن من أبنائنا، وليس بعضهم ممن سيتعبوننا بمصاريف كل شيء في الخارج بأعدادهم الضخمة.
وبصراحة، لو كان الأمر بيدي، لما قسمت المال المخصص للأمر أصلاً، لجعلته كله ينحصر بإحضار الأساتذة الأجانب من الخارج، حتى للتعليم العام، وإحضار الخبراء لتطوير التعليم وإدارة الجامعات من الناحية الأكاديمية في أقل الأحوال. ويمكن ابتعاث من يستحق من الكبار إلى الخارج مثلما كان الحال في السابق في نفس الوقت.



هذه صورة لبطاقة مراسلة اشتريتها ضمن بطاقات أخرى، لأرسلها إلى بعض الأصدقاء في الخارج. كلها تحتوي على صور لمنازل قديمة في السعودية، وكلها جميلة، كل المنازل أجمل من أي منزل يسكنه الناس الآن في المدن الحديثة هنا.

هذا البيت في الصورة أعلاه يقع في عسير، وهذا واضح من طراز البناء. ربما هو أجمل البيوت في الصور لدي، رغم أن الحكم صعب حقاً، فهي كلها جميلة بنفس القدر تقريباً. لكن، هذا البيت الذي حالما رأيته؛ تمنيت بشدة لو كنت أعيش فيه. ولا أدري ما السبب تماماً، ربما لأنه الأكثر موافقة لذوقي، مع أن البيوت الجميلة الأخرى تقع في مزارع وجنات. 
إنها صور متقنة، تلك المطبوعة على هذه الكروت، ويوجد توضيح باللغة العربية والانقليزية حولها في الخلف، فوق مساحة كتابة الرسالة.
حينما أرى هذا المنزل، أفكر بالذوق الراقي للأجداد في عسير ونجد، والجزيرة عموماً، لم يكونوا بالبساطة التي نتصورها، ولسنا أفضل منهم بالواقع بالكثير من النواحي الحياتية؛ فقط قارن بين مساكننا ومساكنهم الأكثر منطقية وجمال في بيئتهم.
هذه البطاقات تطبع في الرياض، وتباع في أماكن متعددة؛ يمكن إيجادها في سوق التميمي، وفي محل صغير لبيع الكتب والكماليات داخل يورومارشيه، وأتصور في المكتبات كذلك.

لا يحتاج المرء إلى أحد ليرسلها إليه، لأن جمال الصور سبب كاف للشراء، أحب تأملها، وقد اشتريت نسختين من الصورة في الأعلى بالذات، واحدة لأرسلها والأخرى لأتأملها وأتفكر بها. ويمكن كذلك إلصاقها في مكتب، أو وضعها في إطار.





هذا الأسبوع، كتب رئيس تحرير جريدة الجامعة عموده المعتاد، ولست أقرأه بالعادة بصراحة، لأنه لا يقدم ما يفيد، كل ما في الأمر غالباً هو مديح وخلافه. لكن هذه المرة لفتت انتباهي عبارة، أرسلت إليه أطلعه عن رأيي في إيرادها في المقال، وعنواتها: الأولويات المختلفة. هذه هي الرسالة متضمنة العبارة:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قرأت عمودك في رسالة الجامعة هذا الصباح، وبغض النظر عن رؤيتك لما تحدثت عنه، أعتقد بأني رأيت أمر آخر جدير بالانتباه. إنك يا دكتور تنتقد غفلة عضو هيئة تدريس عن معمل على بعد أمتار قليلة من مكتبه، لكن الواضح أنك تغفل بأن أهم عنصر في الجامعة هو الطالب. يمكن رؤية أنك تحمل هم أعضاء هيئة التدريس أكثر من الطلاب والموظفين، وذلك عند قولك: (فمن يرى أن عضو هيئة التدريس أو "حتى" الموظف والطالب إذا لم نتح... إلى آخره). إن ما يجذب انتباهي دائماً هو غفلة أعضاء هيئة التدريس، السعوديين على وجه الخصوص، عن رؤية الأولويات الحقيقية التي تهم الناس. وقد تكون عبّرت على هذا النحو دون قصد، أو بإلهام مما يشغل بالك من الرسائل غير الدقيقة التي تصل من أعضاء هيئة التدريس، أو أنها فكرة متأصلة في وعيك. لكن هذه مجرد خواطر مرقت في خاطري، وأحببت إطلاعك عليها، فأرجو أن لا تجد فيها ما ينغص.

أشكرك على سعة صدرك مقدماً.

سعد الحوشان"
انتهت.

لم أتوقع منه رداً، كما أني أشك بأنه يطالع البريد على أي حال، لكن ربما تعلم شيئاً جديداً، وصار أكثر وعياً، مع أني أشك في ذلك أيضاً.



سعد الحوشان