الثلاثاء، 10 مايو 2011

خزائن النسيان (قصة،ألماني،قصيدة،المعتاد)

بسم الله الرحمن الرحيم












كان اليوم مميز بشكل ما، على نحو يشعر المرء بأن للأمور العادية مغزى آخر؛ لقد أصبح كل شيء حاث على التفكر فجأة.
رأيت اليوم شخص كان عزيزاً علي، لم أره منذ سنوات، وقبلها بسنوات لم نكن نتكلم، أو حتى نسلم أو نرد السلام. لقد أردت أن أقول شيئاً اليوم، دون أن أقوله حقيقة وفعلاً. كان الأمر صعباً. في البداية، قررت أن أنتظر منه مبادرة. وقفت لأكثر من ساعة، ليلاحظني، فإن تجاهلني، أمضي ببساطة فهو لا يريد السلام، وإن أشار إلي؛ جئت وسلمت، ومضيت. صعب علي أن أعرف إن كان قد لاحظني أم لا، كان المكان شديد الازدحام، وهو ضعيف الملاحظة بطبيعته. بعد حوالي الساعة والنصف، تذكرت شيئاً مهما؛ لا يمكنني أن أعتمد عليه، إذ لطالما شكل حالة استثنائية في حياتي، من حيث أنني كنت دوماً من يبادر. قررت أن أبادر، أيا كانت ردة فعله.
في آخر مرة بادرت بشيء تجاهه، كانت بسلام ألقيته على شخصين هو أحدهما، ولم يرده، لكنه ظل ينظر إلي طوال الوقت، بينما أوليته أنا ظهري في ذلك الحين؛ كنت أرد النظر إليه طوال الوقت أيضاً، من خلال سطح صقيل، دون أن يدرك ذلك.
مر وقت طويل حتى جاءت الفرصة اليوم. إني حينما أريد شيئاً، أثابر حتى أفشل على الأغلب.


جئت إليه وسلمت، ومددت يدي مصافحاً. بدا عليه الذهول، ربما الصدمة، وقد وقف ليسلم علي. تسائلت في نفسي إن كان قد عرفني؟ لم يأت على ذكر اسمي. سألني عن حالي وسألته عن حاله، وكان من الواضح أن كلينا ليس لديه ما يقوله في ذلك الظرف، لذا مضيت مودعاً حالما سكتنا، على نحو أعلم بأنه غريب. لكن ما قمت به لم يكن سلاماً بالأساس؛ كان رسالة سلام.
ولأهمية الأمر، بدأت بالشك بمعرفته لمن أكون، فقد مضت سنوات، ووجهه لم يبين شيئاً. أعلم بأنه بالأصل لم ينساني، لكن، ربما تغيرت كثيراً عما كنت عليه. 
عدت أدراجي لأراه، وأقيس نظرته إلي، التقت عينينا مرتين. كان يحادث أحدهم، وبدا من الواضح أنه مشغول الذهن، على خلاف ما كان عليه قبل السلام. لكان يمكنني أن أقول أنه بدا مشغول الذهن لأنه يحاول أن يتذكر من كان ذلك الرجل غريب الهيئة، لكن، اتضح أيضاً أنه كان متجهماً؛ لقد تذكرني إذاً.
التقت عينينا مرتين وأنا أمضي، وهو يشيح بنظره ويواصل التحدث إلى من أمامه.
غادرت المكان، وأنا أشعر بالرضا. لم أكن راضياً لأني حققت شيئاً، على العكس، لم أحقق شيئاً، ولم يتمخض الأمر عن شيء، ولم أتوقع أي شيء أصلاً، فقد كنت أنا من سيقوم بالأمر، وكنت أعلم بأنه لن يكون هناك ردة فعل مهمة في أفضل الأحوال. بل لعلي تأكدت أنه لا يزال يكرهني. لكني كنت راضياً لأني قمت بشيء نابع من قلبي، وبكل صفاء نية. لقد قلت شيئاً، قد لا يفهمه، لكنه قيل بأقصى ما أستطيع، وما يسمح به هو، والظرف، والماضي، من فصاحة.
حينما مضيت، تذكرت سوء الفهم الكبير الذي لف معرفتي به، ولا أقول صداقتنا، فلم نكن أصبحنا أصدقاء، لكننا نجحنا بالتوصل إلى أكبر سوء فهم مر في حياتي. تذكرت شخص واحد ساهم كثيراً بسوء الفهم هذا، ودعوت الله أن لا يوفقه. لكني ابتسمت، إذ أعلم بأن الله سبحانه لم يعد يستجيب لأدعيتي منذ زمن طويل، إذ لعلي أقوم دون أن أدري بما يمنع الاستجابة، أو لا أقوم بما يعززها.
إن التدخل في حياة الناس يكون أحياناً خطيراً عليهم، مغيراً للكثير من خططهم وطبيعة أيامهم.
لقد كانت صحته طيبة، وكانت السعادة الجلية تبدو على وجهه الحسن، وبعموم حضوره، كان يبدو أكثر سعادة بكثير مما كان عليه حينما كنت أراه ( أو يراني؟) أكثر...


في نفس اليوم، سيعود الدكتور الألماني من سفره، الذي امتد لثلاثة أسابيع من الوحدة. هذا كان الحدث الأهم من حيث الطبيعة، لكن الحدث الأول اكتسبت أهميته من عدم توقعه.










أفكر أحياناً في تراكمات الحياة، والأمور التي تحتاج إلى عناية ومتابعة مستمرة. أفكر بأني أريد الحصول على مساعدة؛ وحينما أفكر هكذا أفكر بالزواج تلقائياً. هذه أنانية، إني فقط أفكر بتخفيف الأعباء الحياتية عن نفسي. لكن، لا أعتقد أن فتاة أصلاً ستقبل بهذه الظروف.






قد يحدث أمر مهم بعد شهر او اثنين إن شاء الله.






سيارتي في الوكالة، التي رفضت استقبالها إلا بموعد مسبق (!!). الوكالة هي عبداللطيف جميل. وكأن الموعد يختلف، جاء أناس بلا موعد، ولم يتم تقدير الدور، وكان الأمر فوضوياً، ولم ينادوا بالأسماء كما أخبروني حينما حجزت، ولم يوزعوا أرقام للانتظار حتى.
عموماً، تعاملت مع مهندس سعودي هناك، وهو شاب لطيف، من ملامحه ولهجته بدا لي حجازياً. لكني لا أدري، لأني بعد يوم حينما تواصلت معه اعتذر عن عدم اتصاله أو رده في اليوم السابق، وأنه لديه ظرف طارئ اليوم وهو في طريقه إلى المجمعة. سألني إن كنت مستعجلاً، فيعود في اليوم نفسه. أخبرته بأن يأخذ وقته، فلست بمستعجل. في اليوم التالي، اتصل، وكان من الواضح أنه لا يريد أن يصدمني بالأسعار، رغم أني بالواقع أتوقع الأسوأ، ولدي خبرة معهم. لكنه كان نصوحاً، واقترح إجراءات قد تفي بالغرض وتكفيني شر التكاليف الزائدة، قائلاً بأنه قام بها لأجل سياراته. وثقت بنصائحه، بخصوص القير، وأخبرته بأن يفعل ما يراه ملائماً. بعد قليل اتصل، وأخبرني بأنه أيضاً طلب منهم التصرف وفق طريقة معينة مع المكيف، عكس ما تقوم به الوكالة بالعادة من تبديل النظام كاملاً، وأن هذا قد ينفع. كنت شاكر جداً لاهتمامه.
لا أدري لماذا مع ذلك، أشعر بأني يائس من عودة السيارة للعمل كما كانت. إنها أول سيارة أحبها إلى هذه الدرجة، وكنت أتمنى أن تستمر معي لسنوات، ولا زلت أتمنى ذلك، لكني أشك بأنها ستسمر.






ذهبت إلى معرض التعليم العالي، في آخر يوم قبل أن ينتهي. كنت أحسب ذلك اليوم هو اليوم الذي يبدأ به!!. بأي حال، سبب ذهابي الرئيسي كان لرؤية الألماني الأصغر، الذي يعرض هناك كما بالعام الفائت. كان معه زميل لأول مرة أراه، وهو قد جاء من ألمانيا خصيصاً للعرض بالمعرض. كان يتحدث العربية بطلاقة، وكان لطيفاً، ويريد أن يضحك باستمرار، مما أشعرني بأن الطيور حقاً على أشكالها تقع. عرفني صديقي الألماني إليه بكثير من المديح المحرج لي، شكرته، قائلاً بأني لم أكن لأطلق هذه الصفات على مثلي، لكنه أضاف بأني متواضع جداً. بالواقع؛ كان مديحه يكبرني بكثير.
رأيت الكثير من الناس الذين أعرف أو أرى في الجامعة، لكني لم أسلم على أحد منهم. أكثرهم لا علاقة لي بهم. دكتور تركي فقط هو من رغبت بالسلام عليه، لكنه بدا مشغولاً وبعيداً جداً.






التقيت الدكتور الألماني أخيراً، وقد مر شهر أو أكثر منذ آخر لقاء لظروف سفره. أحضر لي هدية صغيرة؛ علبة من راحة الحلقوم من تركيا. كان مشغولاً في رحلته هذه إلى درجة أني لم أرد حقاً أن يشغل نفسه بشراء هدية أياً كانت. 
قرأت له قصائد من كتابتي، وأخبرته عن قصة قصيرة أعمل عليها الآن، وأتمنى أن أتمكن من إنهائها. هي تتحدث عن مجتمع منكوب، وفي هذا المجتمع المنكوب يوجد مع ذلك من يعتبرون بالمقارنة سيئوا حظ، مثل البطلة.


تكلمنا عن مواضيع لا حصر لها، وبالواقع لم أتوقع أن نطيل البقاء إلى هذا الحد، وقد بقينا حتى أكثر من آخر مرة. كان هناك إزعاج في المقهى في منطقة العليا؛ كان هناك مباراة بين فريقين اسبانيين، في اسبانيا، والصياح والإزعاج لدينا هنا. هل يتخيلون بأنهم جزء من العالم حينما يشجعون فريق كرة قدم، أكثر مما يتخيلونه فيما لو تعلموا عن مختلف الشعوب وحياتها أكثر. كان المقهى، الذي أكرهه، تغشاه سحب الدخان المقيتة، فلا حياء لدى المدخنين. إن التدخين شكل من أشكال الإدمان، وهو محرم. عدم منعه أمر محير، إنه أصبح من المسلمات فيما كان يجب أن يعتبر بيعه واستهلاكه جريمة في رأيي. خرجنا لاحقاً في الجلسات الخارجية، وأكملنا أحاديثنا.
 هناك أمر مستجد، لكن الحديث مبكر حوله الآن بالنسبة للمدونة. أخبرته عنه، وأبدا اهتماماً كبيراً، أكبر من أن يفصل لي أفكاره حوله، فقط بدأ برسم بعض الخطط ويفكر بما سيمكنه القيام به فيما يخص الأمر.


طبعاً، أريته الننتندو المحمول الجديد، الذي أريه لكل أحد تقريباً، وقد أذهله جداً، ولم يعلق على تفاهة ألعاب الفيديو لحسن الحظ.


حكيت له عن مقابلة لأميرة سعودية مع مجلة أو جريدة اسبانية، وكيف أني تألمت لأسلوبها الذي تحدثت به عن الناس هنا. كان يبدو وكأنها تعتذر عن ما نحن عليه، وكأنما هم ينتمون إلى الغرب ولكنهم عالقون معنا. قالت بأنه لا يمكن دفع الناس إلى الأمام بسرعة (الأمام الذي يهم الغرب على ما يبدو) لكن لن يسمحوا لنا (!!) بالجمود. لم تكن أول مرة أطلع بها على مثل هذا الأسلوب. لكن لحداثة عهد اطلاعي على الأمر الأخير هذا، لا زلت غير قادر على تجاوز الألم الذي شعرت به، والرغبة بالانعزال. شعر الدكتور أيضاً بالألم للأمر. ما باليد حيلة...


تكلمنا عن رحلته الأخيرة، التي كانت متعبة جداً، ولكنه استمتع بها. قال بأنها كانت طويلة، لكنها مرت بسرعة. قلت بأنها مرت بسرعة عليه، لكنها بالنسبة لي كانت مملة وكأنها سنوات. لم أقابل أحداً خلال الفترة، من أرى؟ ومن أكلم؟. ما أكثر الناس حولي، وما أقلهم.


لقد ذهب إلى بعض بلدان آسيا، وأخبرني بأنه تمنى الاطلاع على سمرقند، التي يراها ملتقى للحضارات والقصص الخيالية. أخبرته بأنه يمكنه أن يرى أهلها في جدة على الأقل. تسائل مذهولاً، كيف؟ قلت بأن الكثير منهم ومن بخارى هاجروا إلينا منذ زمن طويل، وهم يحتفظون بأسمائهم هكذا: سمرقندي، بخاري، وهم كثر في الحجاز. وهم سعوديون الآن، لكن أشكالهم مختلفة بالطبع.


قلت بأني أتمنى أحياناً أن أغادر إلى مكان آخر. قال متحمساً بأنه يجدر بي ذلك، يجدر بي توسيع إطلاعي على العالم. قلت بأنه لم يفهم، إني لا أفكر بالإجازة، إني أتخيل الابتعاد إلى مكان أبسط، وأكثر عزلة وهدوءاً.
إلا أنه بعد وقت، قال بتفكر بأنه علي مغادرة البلد، وتغيير نظرتي للعالم، الذي أراه عدائياً. قلت بأني لا أرى كل العالم عدائياً، إنما الغرب فقط. أخبرته بأن أحد ما طلب مني أن نسافر معاً، إلى أي مكان أحبه. وهو نفس الشخص الذي تكلمت عنه في التدوينة السابقة،  وقلت بأني أقدر لطفه معي، لكني أجد صعوبة بالثقة في استمرارية هذا اللطف وعدم انقلابه. حضني الدكتور على الموافقة، لكن هذا مستحيل بالطبع. أخبرته بأني أود أن آخذ أمي، أريد حقاً أنا أسافر معها إلى مكان بعيد، وهذا أمر لن يحدث قريباً نظراً إلى صحتها.  أتمنى أن أتمكن من ذلك بالمستقبل، أتمنى لو أخذتها إلى نيوزيلاندا، وأن نمكث هناك في مكان ريفي، ونتمشى، وننظر إلى الأغنام، ونشرب من الماء الجاري في السهول. وربما نركب قطار الترانز ألباين في رحلة واحدة. لا يهم أن أرى أثاراً أو شعوباً أصلية أو أنشطة ثقافية في ذلك الوقت، المهم أن نرى معاً صورة كبيرة وجميلة عن ما وصفته من طفولتها(تزوجت والدي وهي في الثانية عشر تقريباً) دائماً بالثراء رغم فقره المدقع؛ الطبيعة الخضراء في المواسم والحياة في الريف والرعي، والمياه الجارية. بالطبع، لن نجد بدو هناك لنلعب مع أطفالهم في المراعي، ولن يمر الغجر من وقت إلى آخر ليتسولون أو يعرضون علاجاتهم، أو يحضرون الأخبار والقصص من الأماكن القصية، لكن التجربة ستفي بالغرض.


عودة إلى الدكتور العزيز، مضى وقت طويل على جلوسنا، ولم أتوقع بصراحة أن يجلس طوال هذا الوقت قبل أن يتعب ويرغب بالمغادرة، ولكنه استمر بالتحدث معي. 


شاهدنا المدونة، وقرأ العنوان، دون أن يفهم شيء تقريباً، كان يقرأ الكلمة وأنا أشرح له المراد. لكنه عرف "ألماني" وضحك ابتهاجاً. قفز كلمة "القصيم" في العنوان، فحسبت أنه بدأ يقرأ من اليسار إلى اليمين، كدت أن أضحك. خجلاً من تصحيح وضعه وإخباره بالملاحظة؛ نظرت إليه جانبياً، واضعاً أنفي إلى جانب الشاشة، إذ كنت أمسك بالجهاز في اتجاهه ليرى. قال بأنه يعرف لكنه قفز الكلمة بالخطأ، وقال ضاحكاً لابد أني أعتقد أنه غبي. بالطبع لا. نزل عن العنوان وتفرج على الصور، وضحك حينما رأى القبعة التي أحضرها من ألمانيا لي، وقال بأنه من المذهل صفي لصور أشياء غير متوقعة أو معتادة، أشياء بسيطة غير ذات أهمية كبيرة، وعرضها على هذا النحو المنسق. قلت، قاصداً تعبيره بالأشياء غير المهمة، بأن هذا كل ما لدي بالواقع. صدمته الفكرة، لكنه الواقع. قال بأنه لا يصدق هذا، لدي الكثير. قلت لا، ليس هناك سوا الأشياء الصغيرة. بدا أن الفكرة أزعجته.


ناقشنا قوله بأنه لا يشتاق كثيراً لأحد، خصوصاً حينما يكون بعيداً لسبب وجيه. كان قد أخبرني من قبل بهذا. قد يشتاق قليلاً لبعض الناس لأسباب محددة غالباً. قلت بأن هذا أمر نختلف فيه، إني أشتاق بسرعة. أنا بالواقع أشتاق إلى أمي في العمل أحياناً. أخبرته بأني اشتقت إلى كثير من الناس من قبل، لكني أعلم بأنه لم يشتق لي أحد من قبل. أيضاًً قال بأنه لا يصدق هذا. قلت بأن هذه حقيقة، ولسبب واقعي؛ إن الناس الذين أشتاق إليهم لا أبتعد عنهم كثيراً فلا يشتاقون إلي، أما الناس الذين أفترق عنهم فغالباً ما يكون الأمر بسبب مشكلة، فيكونون قد كرهوني، فلا يشتاقون إلي. لم يصدق، لكنه لم يجد حجة يجادل بها. بدا عليه شيء من الضيق للفكرة، وتأمل متفكراً وهو ينظر في اتجاه آخر.








هذا الأسبوع مر سريعاً، ورغم أن أيامي تمر سريعة جداً، ولعله أمر محمود، إلا أن هذا الأسبوع أشبه باللص المحترف.








اتصلت قبل يومين بالألماني الأصغر، وسألته إن كان لديه الوقت لنذهب إلى مقهى، كان الوقت لديه، وكان سعيداً بالاتصال. أي مقهى؟ سأل، كاريبو كافيه، كم سيستغرق قدومك؟ هكذا سألت، قال: لوضع الميك أب، ربما نصف ساعة، ضحكت على المزحة، وتخيلت شكله بلحيته الكثة وحاجبيه الثخينين، وقد وضع الحمرة والألوان. التقينا، وحينما نلتقي نبقى تقليدياً لوقت طويل نتكلم. لديه اهتمام كبير بالإسلام، لكنه شديد الجدلية، وهذا أمر لا آخذه بجدية. يذكرني أحياناً بالمثقفين السعوديين، ورغم أني أقدره كثيراً إلا أن هذا ليس مديحاً بالطبع. إن له سمات جيدة أخرى عموماً، لكن أعتقد أنها تتمركز حول الجوانب الحياتية الأقل عمقاً وأهمية بالنسبة لي. هو لطيف المعشر، ومتأقلم، ورغم أن بيئته الاجتماعية والثقافية مختلفة عن الدكتور الألماني الكبير، إلا أنه كريم أيضاً بطبيعته، رغم أنه لا يجيد التواصل من هذه الناحية جيداً، لكن كرمه واضح. بالواقع، وعلى نحو غير متوقع، أجد أن اصدقائي الأجانب بعمومهم كرماء جداً، وأواجه معهم غالباً مشاكل عند دفع الحساب، فيما السعوديون يتفاوت الأمر بينهم أكثر، ناهيك عن العرب. ربما كان الكرم حاله مثل حال النظافة لدينا، التي تحدثت عنها في إحدى آخر التدوينات؛ لا نشكك بكرمنا وكأنه من المسلمات.
يوجد مؤتمر أو شيء من هذا القبيل عن الحنفية، وهو متحمس له. لم أفهم بالبداية ما يريد أن يقول حينما أخبرني بأنه "حنيفة"، يريد أن يقول حنفياً. ثم شرح فهتفت: آه! حنفي!!. شرحت له الفرق. وسألني إن كان أكثر الناس هنا يفهمون الحنفية؟ قلت بالطبع. فابتسم مرتداً إلى الوراء على نحو متشكك، وقال: بالطبع؟ ليس كل الناس مثلك يا سعد، يوجد أناس أقل تعليماً. أخبرته بأن الكل مر بمراحل التعليم الأولية على الأقل، وهذه الأمور تشرح في تلك السنوات. إنه يتكلم دائما بمزيج من الأسف والسخرية عن ضعف اطلاع الناس هنا، وقلة قراءتهم للكتب. أحياناً يغلب الأسف كثيراً، خصوصاً حينما يتحدث عن صدمته تجاه موقف، مثل مستوى التعليم هنا ومخرجاته مقارنة بالعالم، حيث زودني بوثائق مؤسفة تتأخر فيها الدول العربية على نحو متوقع بالواقع، لكنه لم يعلم مثلي بأن الأمر بهذا السوء. وأحياناً تغلب السخرية المضحكة؛ مثل حينما قابلته في معرض الكتاب في الجناح الخاص بالتعليم في ألمانيا، وأراني الأوراق التي يوزعونها، ومن بينها كتاب، قال بأن الكتاب غير مهم، وأعطاني الكثير من المطويات. سألته لماذا الكتاب غير مهم؟! قال بأنه يعطي تفاصيل محشوة لا داعي لها، مع ذلك لا يطلب الناس غيره، وقلدهم بطريقة ساخرة وهم يطلبون الكتاب، وأضاف بمرارة: رغم أني لم أرهم يهتمون بالكتب الحقيقية!. ما أكثر ما ينتقد هذا الأمر، وهو أمر غريب، يبدو لي أحياناً أنه يهتم كثيراً بالصالح العام هنا أكثر من أهل البلد. وبالطبع؛ هذا ليس صحيحاً، لكن اهتمام الناس هنا محصور بنوعية وعيهم وحجمه. سوا أن اهتمامه يظل كبيراً. ناقش معي من قبل سبل زيادة إطلاع الناس على الكتب هنا، وناقش معي خططي العملية التي أخبرته بها، ولاحقاً أرسل إلي مقالات وهو يأمل أن تساعدني لمساعدة الناس هنا.








اليوم الاربعاء، وقد مر سريعاً، وليس حسب الخطة.


في العمل، سمعت زميلي الملتزم الكبير يتحدث منتقداً من اسمهم سعد، وهو أكثر اسم متكرر في قسمنا من العمادة، إن لم يكن في كل العمادة. كان يحاول إغاضة صديقه وزميلنا، ملتزم آخر. أنا أعلم عن وجهة نظره، نصف الجدية؛ إنه يعتقد أن من اسمهم سعد غالباً ما يكونون غريبي أطوار.
لاحقاً، وقفت بينه وبين زميل آخر، وهم على مكاتبهم، وسألته عن وجهة نظره تلك، التي أعرفها مسبقاً، لبدء محادثة فقط. أخبرني، أو بالواقع أخبرته. سألني إن كنت أوافقه؟ قلت ربما، وأوضحت أني بالأساس لا أحب اسمي، قلت بأن اسمي كان يجب أن يكون سعود. تسائل قائلاً بأن سعد اسم جميل، واجمل من سعود. هو أول من يعتقد أن هذا اسم جميل. ثم قال "لنناديك إذا بالكنية، أنت أبو ماذا؟" وهذا أمر أسوأ من اسمي برأيي. قلت له بأني لا أحب هذا، فليناديني باسمي فقط. أصر، وألح لأخبره أنا أبو ماذا؟؟. لما رفضت الاستجابة، قال وهو يعمل: "أجل نناديك أبو شكيب؟".
أنا: أبو شكيب؟!.
هو: "ايه، أبو شكيب!! وش فيه شكيب؟ شكيب اسم جميل.." ثم بدأ يسترسل بذكر أشخاص تاريخيون.
قاطعته بضيق: لحظة طيب، ليش أبو شكيب؟!
هو: عشان يعني شكلك سوري (هذا أبعد ما يكون عن شكلي، لست أبيضاً مثلهم، كما أن شكلي مختلف).
أنا: شكلي مهوب سوري، وين.
هو: شكلك سوري والا اسباني؟.
أنا: لأ!
هو: الا شكلك سوري والا اسباني؟ اسباني؟
يضايقني حينما يطرح الخيارات التي يراها ملائمة فقط لما يريد. وهو دائما ما يشبهني بأجناس جديدة في كل مرة.
أنا وقد هالني بُعد الخيارات: لا، لا شكلي هذا ولا هذا.
هو: أجل؟
أنا: شكلي قصيمي..
هو: بس لونك ابيض.
أنا: مهوب كثير، وكثير من القصمان ألوانهم فاتحة.
هو: مهوب كذا.
أنا: إلا.
هو: يمكن أهل الرس بس.
لا أكذب إن قلت بأني أتمنى أحياناً لو لكمته أو خنقته في مثل هذه اللحظات.
أنا: لا، اسأل فلان. 
أدركت خطأ اختياري متأخراً، فذلك الفلان فاقد للتركيز.
الملتزم الكبير: هذا أبيض؟! مفارقه.
أنا: مهوب هو... صح يا فلان واجد قصمان ألوانهم فاتحة؟
وقف ذلك الرجل ليبدأ محاضرة غير ذات علاقة: الأكل هو اللي يخلي الشكل حلو، الأكل الصحي، يخلي الواحد أبيض ووسيم.
الملتزم الكبير: لا؟ الأكل الصحي؟ وش تاكل يا سعد؟
أثار الأمر حنقي، قلت: ليش؟ بتكتب لي وصفة؟
كان الأجدر أن أسأل إن كان سحدد لي حمية.
هو: لا، عشان ناكل مثلك!
أنا: هاها.
ثم بدأ النقاش يسوده هرج ومرج، وباتت وجهات النظر الغريبة وغير المعقولة تتوارد. لكني ابتعدت سريعاً، قبل أن يجرفني النقاش الذي بدأ اعتباطياً أصلاً.
قبل يومين شبهته بدمبلدور، الساحر الكبير ذو اللحية مع هاري بوتر، ولحقني ليضربني بعدما علم أنه ساحر خيالي. ربما حسبه مثل اؤلائك الذين يجمعون الأظافر والشعر.
أحياناً يقودني للجنون حينما يعاملني بطريقة غريبة، طريقة تشبه تعامل المرء مع أطفاله. حينما أقول ما لا يعجبه، يرفض إكمال النقاش وهو يقاطعني قائلاً بصوت مداهن: طيب قل آسف! طيب أول قل آسف؟.
كنا أصدقاء على نحو أقرب بالسابق، لكني قلصت العلاقة، وكنت قد حكيت كثيراً عن الأمر في المدونة. لكني لنت مع الوقت مع تغيير أسلوبي تجاهه، بحيث أميل إلى إقلاقه من وقت إلى آخر، رغم أن الأمر يعجبه إلا أنه يخيفه بنفس الوقت بوضوح. أخبرته كذا مرة بصريح العبارة بأن هذا الأسلوب الناجع معه، أن يقسو المرء عليه، فيتحسن اسلوبه هو بالتالي. وهذا ما يحدث؛ لقد تحسن أسلوبه، ولم يعد يقوم بما يثير احتجاجي سابقاً. أعتقد بأني علمته أمراً، أو أعطيته درساً. أتمنى أن يكون قد قدر الفائدة.




وبذكر السوريين؛ قبل فترة ألقيت السلام عند المصعد، ولم يكن هناك سوا دكتور سوري مسن، ممن يلبسون مثلنا. لم يسمعني. حينما مر شخص آخر، سلم الدكتور عليه، لكن الرجل لم يجب. سألني الدكتور السوري لماذا الناس لا يجيبون السلام أو لا يسلمون، قلت بأنهم ربما لا يسمعون لانشغال بالهم أو لا يعطون الأمر أهمية. فابتسم وكأنه أمسك بي متلبساً، وقال: طيب أنت ليش ما سلمت؟ قلت بأني سلمت، قال بأني لم أفعل، فحلفت، وقلت لكنك لم تسمع. قال: إذا هيك، تستاهل مكافئة. وقال بأن معه حلو ودس يده في جيبه يبحث، فمددت يدي بانتظاره. وجدها ووضعها في يدي الممدوده، حلوى ليمون، وفككت الغلاف ووضعتها في فمي مباشرة.
أتمنى أن أجده وأن لا ينتبه لسلامي مرة أخرى، وعسى أن يكون حمل الحلوى عادة لا يتخلى عنها.


هذه قصة قصيرة كتبتها قبل سنوات، ونشرتها في مدونتي القديمة التي لم تعد موجودة الآن.
هي عن الحلول غير المتوقعة، أحياناً لأشخاص لا يبدو أنهم يبحثون عن حلول، إنما يريدون حلاً معيناً فقط. الأمر الساخر؛ أني في ذلك الوقت لم أتعلم من القصة، ولسنوات بعد ذلك.
أرجو أن تستمتعوا بها، ولمن لا يريد قرائتها، فليبحث عن الخط الأحمر في نهايتها ويتابع القراءة من هناك.




تعابير وجه دميم







هكذا خلقه الله، ذلك العبدالرحمن.

طفت ذات ليلة تعابير جميلة ورقيقة تأسر الناظر، على وجه دميم، وأبله، فيما يدعى بالإعجاز الإلهي...

 اليوم هوبعد شهر من توظف عبدالرحمن، بعيدا عن ممتلكات والده طبعا. واليوم أيضا، سيخرج مع أمه، ووالده، ليخطبوا هيفاء، إبنة، إبنة العم. كان والده الوسيم فاحش الثراء يلتفت إلى إبنه طوال الطريق مستمتعا بجماله وسعادته ذلك اليوم. عبدالرحمن دميم، هذا أمر لا شك فيه، ومن يشك فيه، فالامر أدعى أن يشك ببقية الثوابت. ولكنه جميل بعيني والده، الذي يخرج، رغم صرامته الشديدة، بمميزات في ولده يسرها باسما في أذن زوجته البدوية البسيطة، أم عبدالرحمن.

هيفا، يا جنى العمر ومناه     لفّا، تبز القمر في حلاه

كان عبدالرحمن جميل الروح، وينطق كثيرا بلسان قلمه بهكذا شعر، في دفاتره السرية. لا ينفي هذا بأنه ولد سطحي جدا رغم اطلاعه وتعليمه الجيد، وساذج جدا، رغم صرامة وحنكة والده.

كان يتذكر هيفاء قبل الغطاء. كانت أجمل الفتيات، وأرقهن،،، وأكثرهن عصبية. ولكنها كانت تلجأ إليه كثيرا حين اللعب، وكانت تخصه بمميزات ياما وياما تعرض لاضطهاد منافسيه من أجلها. كانوا أطفالا بالطبع، ولكن ألا يولد الحب مع المرء؟ هكذا كان يحدث نفسه، منذ أن أسر إليه صديقه القديم: ماذا لو نسيت هيفاء كل هذا؟ كان صديقا حكيما بالطبع، ويخاطب عبدالرحمن حسب مستواه الفكري كي لا يجرحه، ولكن كمصير جميع العقلاء في حياة عبدالرحمن، كان التشكيك والإحباط سبب كاف لإيقاف صداقة عند حدها باختلاقه أسباب أخرى للتمويه المكشوف. لم يمنع هذا أبدا، تلك التنهدات القائلة:" آه... الله يذكرك بالخير يا مساعد". ألم أخبركم بأن قلبه طيب؟ حتى أنه لم يخفي عني سر هذه التنهدات الصغيرة. ولم يخفي عني سر وعد هيفاء بالزواج مع تلك القبلة الصغيرة خلف الباب الحديدي أواخر أيام الطفولة، ولكني، ويا للندم، كنت نصف أذكى من مساعد، فلم أتكلم لألا أطرد من حياته، ولكن بالمقابل، لم أسعى إلى أن أكون مخلصا، نصف ما كان عليه مساعد. " والله انه دميم مساعد، لا ادري على أي أساس يحسب نفسه وسيم" علق هكذا عبدالرحمن بعد مدة قصيرة من اختفاء مساعد، لم يكن مساعد يقول بأنه وسيم، ولكن غيرة عبدالرحمن المسكين أدركت هذه الوسامة بذاتها. عفوا، ليست مواضيع جديرة بأن يتطرق إليها رجل شارف على الأربعين، يفترض بأنه فقد اهتمامه بالشكليات إلى حد بعيد، كما أنها لا تعطي صورة حقيقية عن عبدالرحمن، أرجو السماح.

ما كان من الأمر، هو أن الرفض جاءهم باليوم التالي. في تلك اللحظات الغامقة، كانت ملامح والده الوسيمة، تنطق بكل تعاطف العالم مع ابنه الساذج، وكان جسده المرتخي، يكذب صورة ذلك الجسد الصحيح المشدود المعتاد، نعم، حتى أجسادنا تعبر بهذه القوة، لقد رأيت هذا بنفسي. بيد أنه لم يكن من قلة الحصافة بأن يقسم على تزويج ابنه أروع الفتيات، أو أن يعوضه بفتاة أخرى. لم يكن ممن يصطدمون مع حقيقة الزمن، وتأثيره إن لم يأخذ مجراه الصحيح. لم يذهب عبدالرحمن إلى العمل حتى فصل. كانت أخته غير الشقيقة من السذاجة أن حاولت أن تجعله يكره هيفاء بعد رفضها له. أخبرته بأنها أسرت لبقية الفتيات بأنها لا تريد أن تتزوج رجلا ضعيفا، يعيش تابعا لوالديه، وفوق هذا، دميم جدا، فهي لا تريد أن تورث أبناءها أنوفا بهذا الحجم. لم تكن تقصد أخته التي تكبره أن تجرحه، فهي قد جرحت عندما علمت بكلام هيفاء الصغيرة حتى خرجت من المناسبة التي جمعتهن وبكت بمرارة، وعادت بلا عشاء والحزن يقتلها بمهانة أخيها الحبيب، ولكنها ظنت أن الحقيقة ستكفي ليكره هيفاء... ويا إلهي، كم كره ذاته...

"لماذا أنفي بهذا الحجم؟" "لماذا أنا لا أشبه والدي؟ أو حتى أمي؟" كانت هذه هي أول مرة يتنبه فيها عبدالرحمن، أنه كان من الأجدر به حسب ما يتخيل لو كان يشبه والده، فهو لم يقارن بين الشكلين من قبل، لأن والده جزء منه حتى هذه اللحظة. أما عن تأجيله لشبهه بأمه، فأولا لأنها ليست أجمل من أبيه، وثانيا، أن أشباهه جاءت من طرفها وإن لم يكن مثلها لسوء الحظ، فقد صار نسخة من أخيها.


كانت والدته تدخل عليه الطعام وتجلس إلى جانبه على سريره  وهي تواسيه بأمور غير ذات صلة، بلهجة بدوية رفضت أن تتخلى عنها. بينما زارتهم اخته من بيت زوجها كثيرا، وجرحه لأول مرة بحياته، ان أحضرت له هدايا طفولية من الحلويات رغم أن هذا ما تفعله في كل مرة تزورهم بها بالعادة حتى آخر مرة قبل اسبوع. تودد إليه والده مما نكأ جرحه الخفي أكثر. أخبره بأنه يحتاج إلى من يدير بعض المعارض التجارية. ولكن كان رده الساهي والساذج أكثر من صفعة لوالده الذي حبس أنفاسه... " أريد أن أخضع لعملية تجميل". شرح له كل من يأبه حرمة هذا الأمر حينما لا يحتاج إليه المرء، وأن جمال روحه وأخلاقه هو ما عميت عنه تلك الحقيرة كما قالوا، وإن لم ترى هذا، فمن الأفضل أن لا يفعل شيئا آخر لتراه، فهي لم تعد تستحق. أخبرني بكل هذا، واستنتجت التفاصيل بنفسي. فضلا عن صداقة أختي وأخته المتأخرة، سآتي على ذكرها لاحقا. أطلعني على الأمر، فرفضت قطعا، ويبدو بأن غضبي من مجرد فكرة أن يغير شكله قد رفع من معنوياته، فلم أستند على الأساس الديني لأني لاحظت بأنه لم يعد يهتم كثيرا للصلاة حتى، ولكني أخبرته بأن جماله الروحي هو أكثر أنواع الجمال بريقا مما شاهدته بحياتي، وأن من يرى هذا، لا يأبه بالصورة، لم آت على ذكر هيفاء طبعا، مما أعطاه الأمل بالناس الآخرين.

ما استطعت أن أقنع به صاحبي المنطفئ لاحقا، هو أننا بإمكاننا أن نخرج للدراسة قليلا بالخارج، فلتونا تخرجنا تقريبا، أنا ثري، وهو ثري، فأين المشكلة؟ كان الأمر بالغ التعقيد إلى درجة تدعو للحنق ثم البكاء، فمجرد ذكر أي شيء، أي شيء على الإطلاق، يذهب عقله إلى هيفاء الحمقاء، ليخبرني بأنها ليست ثرية، ولا يدري بأي مستوى ستعيش لو لم تتزوج من يستحقها. أعتقد بأن قلوب حمقاء كهذه، يشترك بها العقلاء والأغبياء لو قدر الله، فلا شأن لها بمقدار الذكاء.

خرجنا، ودرسنا، كانت من أجمل سنوات العمر حقا. ولا يجدر بي التكلم عن حياتي الخاصة، وكيف افتقدت أصدقائي بالوطن، وكيف افتقدت أمي وأختي الوحيدة، وكذلك أخي صعب المراس بعيد القلب، ووالدي الطيب. لا يجدر بي حتى التكلم عن المغامرات التي يجترها الشوق، فهذا قد خصصته لعبدالرحمن، ولن أشاركه فيه.

عدنا بشهادات الماجستير. كانت المعاهد الحكومية تريدنا. كانت الرواتب عالية. ليس وكأننا نحتاجها حقا، فيمكننا التبرع لهذه المعاهد، ولكنه أمر يشيع الفخر بالنفس أن يحتاج إليك الآخرين إلى هذا الحد. لن أسهب بشرح الأسباب، ولكن رفض عبدالرحمن العمل... لقد تزوجت هيفاء حين عدنا.

ما علاقة هيفاء بالأمر؟ كان حتى لن يتقدم للزواج منها. اقترحت هيذر، صديقتنا الصدوقة في أمريكا، أن يعود ليتزوج هيفاء، فقد كبرت بالتأكيد وتفهمت الحياة. ولكني وبختها لاحقا. وأخبرتها بأن هيفاء مهما كبرت، تظل إنسانة حقيرة ومما يجرح الكرامة أن يعود إليها مرة أخرى خاطبا. لم تفهم هيذر، ولكنها تفهمت. مع أن ردة فعلي كانت أقوى، ولكن ردة فعل عبدالرحمن كانت أبلغ، حيث قال لهيذر" لقد كانت قصة وانتهت عند ذلك الحد، لا أريد حتى أن أختبر قواي العقلية مرة أخرى." بالتأكيد، كان إدراكه للأمور وذكاؤه قد زادا كثيرا.

لم تعد علاقتنا كما كانت. لقد صار عبدالرحمن منعزلا. رغم أني حين أزوره، أو حين لا يتعذر بكذبة حين أعرض الزيارة، كان يضحك ويتبسم. وكان وجهه ملؤه النور. كذلك، سلمت على والدته، كانت قد صارت عجوزا أكثر في ظل الثلاث سنوات التي قضيناها بالخارج، الشوق يعجل بالشيخوخة. اما والده، فكان من الناس الذين يزدادون بهاء مع العمر. صار رجلا لينا، رقيق الحاشية، سريع التأثر، وقوي التأثير كذلك. لو كنت يا عم أكثر شبابا، وبهذه المشاعر بنفس الوقت، لاختطفتك هيذر الحالمة. لم أتجرأ طبعا بنطق مثل هذا القول علانية.

أكثرنا الضرب على الحديد. زادت زياراتي. وكانت هيفاء حاضرة بلا حضور، وكأنها مؤامرة خفية حيكت ضد عبدالرحمن، حاكها أناس خفيون أيضا، أو لا وجود لهم حتى.

رغم ذلك، قاومت هذا الأمر، وبدأت التحدث كرجل كبير متزوج، إذ كنت قد تزوجت حقا. وماذا يمنعني؟ أخبرته بأني لم أعرف زوجتي قبل الزواج، ولكني اخترتها بطلبي لفتاة لها كذا من الأوصاف، وحتى هي اختارتني بنفس هذا المبدأ. كانت لدينا قريبة مطلقة. لا أعرف عنها الكثير شخصيا. ولكن أختي المتعاطفة كانت تتحدث دوما باقتراحها على صاحبي كزوجة. لم تجد استجابة، وهي من ذوو القلوب الرحيمة، قررت أن تحيك الأمر بنفسها. لم يطل الوقت حتى بدأ الأهل بتبادل الزيارات العائلية، رغم أنه من غير المستغرب أن زوجتي، التي ليست على وفاق تام مع أختي، امتنعت عن تكرار الزيارات الودية من بعد أول مرة. لم يطل الوقت حتى أصبحن الأختين، أختي وأخت صاحبي، صديقتين. بيد أن مساعي أختي في اقتراح تلك القريبة، لم تفلح إذ رفض عبدالرحمن الزواج جملة وتفصيلا. كان الزمن يتقدم بنا، وكنت أعيش قلقا لا يعيشه عبدالرحمن.

جميل أن صارت العلاقات العائلية بهذا العمق. فصار عبدالرحمن أكثر انفتاحا لما أطل بشكل أقرب على اختلاجات الناس الاجتماعية. صار يكثر التحدث. ولكني لم أكن أكف عن لوم نفسي بعد كل جلسة، بعد أن اعتادت عيني على الجمال أينما أكون إلا بحضرته. لقد فشلت أنا للأسف أيضا، أن أركز على الجمال الروحي الذي أنادي به. ليسامحني الله. كان ينظر إلي وهو يتحدث باسما عن أحداث دواماته القصيرة في محلات والده. أحداث صغيرة وسخيفة، أكثرها عن تبادل النظرات بينه وبين الناس فقط، وما يأتون به من ردات فعل، وما يفعلنه بعض اللعوبات. ولكني كنت أنسى نفسي كثيرا، فأبحر بعظمة أنفه، وعمق عينيه، أو لنقل محاجر عينيه لقول الحق، فكانت عينيه خاليتان من العمق حينها، ولكنهما عميقتان كخلقة، صغيرتان كالمسامير، ربما بسبب حجم أنفه. كان فمه صغيرا ومتجمعا بنقطة دائرية، مما يجعل وجه المسكين يوحي للمرء برؤيا مخجلة، تجعل وجهه مجرد " كيلون"، أو مقبض باب بسبب أنفه الشبيه بالمقبض، ووجهه الطويل الممتد النحيف، وفمه الصغير كمكان ثقب المفتاح، وعينيه اللتين لا يقام لهما اعتبار. ولكني رغم كل هذه الدمامة، لم أغفر أبدا، لتلك اللعينة المدعوة هيفاء. وكأن الله قد أراد الجبر بخاطري، تطلقت هيفاء.



مرت سنوات، أحداث كثيرة جرت بحياتي، وأنا لا زلت أعيش بصبيانية. ولكن ما يعنينا هنا، هو الجانب المتعلق من حياتي بحياة عبدالرحمن. لن أجعل أنانيتي تقودني إلى التحدث عن مأساتي الشخصية.

ولكن سيسعدكم بالطبع أن تعلموا بأن عبدالرحمن صار يزورني. ويداعب أطفالي. خرجنا ذات شتاء نتمشى على أقدامنا في الشوارع  المبللة، في باكورة أمطار ذلك الموسم. عدنا إلى بيتي جريا، ونحن نضحك ونتمازح، ونخلع القبعات الصوفية الشبابية في ذلك الممر الداخلي لمنزلي ونلقيها أرضا. كانت لائقة علي، لأني أبدو أصغر سنا، ولكن بالنسبة لعبدالرحمن، فلا شيء يليق عليه على ما يبدو. جعلت أتأمله وضميري يؤنبني. " لا يتعلق الأمر بالشكل، إن خاله يعيش حياة يتمناها الجميع، وهو محبوب" هذه المرة أنا حادثت نفسي وأنا أتأمل تلك المواسير التي تسمى جسدا تتخلص من ملابس الفراء والقفازات الثقيلة. نظر إلي فجئة، وبقينا ننظر إلى بعضنا. لقد انقطع حبل أفكاري، وأضعت حتى شعوري السابق. ولكنها كانت فرصة نادرة، يعبر فيها ذلك الوجه الدميم بتعابيره الجميلة، التي أفتقدها منذ زمن، دون أن يتكلم. كانت نظرة عميقة. تشبه سؤالا يوجهه عبدالرحمن، ليس لي، ولكنه يوجهه للحياة كلها، سؤال يقول: وماذا بعد؟. كانت لحظة يائسة، وجمال حزين يقطع نياط القلب. وبدت مشاعره واضحة المعالم لأول مرة منذ زمن طويل، تماما كجسده الذي بان هزاله بعد انتفاخ الصوف. شعرت بشعور غريب يتملكني. شعرت بأني أريد أن أواسيه، أن أعيش معه مأساته. شعرت بأني مذنب. لأن حياتي تخلو من هيفاء. كنت أعلم بأن جميع قصائده الرمزية موجهة لها. بدا لي في تلك اللحظة بأنه يقارن بين كل شيء في عالمينا، يقارن بين حظي وحظه، شكلي وشكله، حياتي وحياته، سخرتي له رغم تفوقي، وسخرته التي ليست لأحد، كان ملك نفسه تماما، وهذا ما يجعله يمتلك الآخرين أيضا. قطعت الصمت بنوع آخر من الصمت. ابتسامة حاولت أن تكون بريئة. ولكن حتى  فمه الذي كان مشدودا ارتخى بتعبير ناضج لم يكن يقدر عليه من قبل، وكأنه يقول: أنت السبب. إلهي ارحمني من هذا العذاب. لقد نضج أخيرا، هذا ما كنت أتمناه، وما كنت أخشاه بذات الوقت.

لاحقا، أخبرتني أختي، التي صارت تدعى في مناسبات بيت عبدالرحمن النسائية، أن الحديث يدور عن بحث هيفاء عن زوج للستر. لم أخفي ضحكتي بكل خبث. ضحكت بتشف عجيب. انتصرنا. أخبرت أختي بأن الحقيرة تستحق الطلاق، مؤكد أن زوجها اكتشف ما يغلفه جمالها من دناءة. لكن نظرة أختي كانت تقول أمرا آخر. لم تشأ الإفصاح عنه. ولم أشأ السؤال. ذلك أن الإجابة حتما ستقضي علي.

" حبيبي عبدالرحمن، هل أنت متأكد بأنك تريد هذه المرأة؟"
" هي تريدني الآن أيضا"

ذهب كل العمق الذي بناه الحزن. كنت أخاطب طفلا يلعب مع طفلي على سجادتي في مجلسي وعند أقدامي.

" لكن، ألم تثبت... أعني، ألم تتعلم من التجربة؟"

لا أخفيكم، بأن قلبي كاد أن يتوقف لأسباب كثيرة. أولها أني لم أسال ضميري هل هذا ما تلزمني الأمانة بقوله؟ وثانيها، أني تذكرت مساعد. بيد أن الرد جاء كتنهيدة، وكلمات مصفوفة بافتعال.

" وماذا أفعل يا سلطان؟ العمر يجري بي جريا. لم أعد صغيرا. وأريد أن أنجب أطفالا"
" أستطيع أن أجد ألف فتاة تتمناك يا صاحبي، فأنت شاب ومثقف، رجل بمعنى الكلمة"
" وماذا يضر لو تزوجت من احببت؟"
كانت لهجته هنا أكثر انفعالا، علمت بأن حدودا قد بدأت تنشأ.

" إذا على بركة الله، متى ستذهبون لخطبتها؟"


خطبوا المرأة. وكانت أيام مليئة بالتمتمات المحتقرة والغاضبة بالنسبة لي. فكما تعلمون، لم تصادق أختي أخت عبدالرحمن فقط بعدما تطلقت هيفاء، كانت أختي تعرفها، وتعرف تشفيها الحاقد بحالة عبدالرحمن لتغيض أخته. وهاقد عادت السافلة تستجديه، هو من أخفينا جميعا بتواطؤ خفي معرفتنا لموقفها منه قبل طلاقها بأيام، بأيام بلا مبالغة.

طرق بابي عبدالرحمن بعد أسابيع من إزعاجه بحكايات هيفاء وطلباتها، وتدبيره لعرس فخم. لم يطرق بابي بوقت مناسب على أي حال، مما جعلني أتوجس. لم يدخل، ولكننا خرجنا معا. ونزلنا في ذلك الحي المثالي حيث نمشي دائما وهو يرفض الكلام حتى ذلك الحين.

" هيفاء، لقد غيرت رأيها"

لقد فهمت ما قال، ولكني لم أدرك أبعاده، وكأني لم أستوعب بأن قلب صاحبي قد استحال أشلاء نابضة كثوب عجوز فقيرة علق ليجف في مهب الريح. بدأ ينتفض ويكرر ما قاله وهو يمشي. استوقفته ولم يقف. مررنا بالقرب من دكان صغير فحاولت أخذ بعض الماء منه لأسعف الموقف، ليشرب منه، لأرشه عليه، فقد كان يمشي متشنجا، أقسم على ذلك، ولا أدري كيف يكون هذا. لم يتوقف، استمر ولحقته مسرعا لأوقفه قبل أن ينتهي الرصيف. وكأن حياته تحتاج إلى المزيد من الدراما، وكأن حكاية هيفاء الأخيلية تلك تخلو من العجائب وما يشبه الافتعالات من واقع، كانت هناك سيارة تمر. صحت بأعلى صوتي وأنا أجري وكأن سكينا خفيا غرس في بطني حينما ارتطمت به السيارة المنعطفة، ومرت على فخذيه وهو ساقط، توقفت عند هذا المشهد وأغمضت عيناي ومزقت شعري بقبضتين لا أعرفهما بفجيعة. كان رأسه، بفضل ارتباك السائق وميلانه على الرصيف لسبب أجهله، محشور بين إطار السيارة والرصيف، حتى تكاد رقبته أن تكسر. كان مشهدا مخيفا، ومثيرا للسخرية في آن، شأنه شأن كل شيء بحياة هذا الرجل. لا أعلم من أين أتوا الناس، هدأني بعض الأجانب وسكبوا علي الماء وأنا عيناي لا ترفان. أخيرا، بعدما قاموا بالعمل المجهد أولائك الإخوة، نهضت وأدخلت ذراعي من تحت ذلك الجسد المحرر، ورفعته.

بقي الرجل لأسابيع بالمستشفى، ولم تكن زوجتي رغم مشاكلنا حينها، إلا داعمة لي. أرادتني أن أبقى بجانبه طوال الوقت. أعيد هذا  إلى أنها تحبني أكثر من كونها  تتعاطف معه، فعلمها بفشلي بجهات كثيرة بحياتي، يجعلها تتخيل بأني أحقق ذاتي باعتنائي بهذا الصديق المتطلب على ما يبدو. كانت أمه وأخته غير الشقيقة هناك على الدوام بالمستشفى، وكذالك والده كبير الجسم جميل الهيئة، من ينظر إليهم ما كان ليتصور بأن بينهم قرابة سوا حينما يرى التشوه بقدمي الرجلين، من أثر استئصال إصبع سادس. سمعت عبدالرحمن يبكي ويقول لامه:" لماذا حظي كذا يا يمه؟ لماذا حظي كذا يا يمه؟" بصوت أجش وشهيق وزفير، بينما تتواصل الآيات القرآنية من فم أخته.

رأيت خاله كثيرا، وأولاده الكثيرون، الذين يسلمون علي باحترام مفتعل لا يظهر تجاه من لا يعرفونهم. كانت سمعتي تسبقني بتلك العائلة. جلست ذات مرة بالقرب من عبدالرحمن، بينما كان خاله واقفا. كان عبدالرحمن منفعلا أكثر من كونه حزينا لأمر قيل له، أجهله حتى هذا اليوم. قال له خاله: لا تزعل يا ولدي، العوض عندي وأنا أبو هيف!"

رد عبدالرحمن بصوت خافت: " ما نبي لك عوض الله يلعنك"

صدمني هذا القول حتى جحظت عيناي، وحمدت الله كثيرا أن أحدا غيري لم يسمع سوا التمتمات. تعاطفت مع صديقي أكثر وأكثر، بيد أني أرخيت السمع أكثر لأسمع ما قد يقوله عني بصوت أخفت.

بعد أيام، جئت إلى جناحه بالمستشفى مسرعا، إذ أني تأخرت. ولكني شاهدت فتيانا من أقارب عبدالرحمن البدو يقفون بانفعال، بينما يعبرهم طيف عباءة. اقتربت وسلمت، وقيل لي بأن أهله بالداخل فوقفت. سمعت صوتا شجيا، ناعما وصادقا، أعماقه ضاربة بالرزانة، بحيث أنه لولا رنته العشرينية الجذابة، لقلت بانه صوت عجوز فاضلة.

" مساك الله بالخار يا عبدالرحمن"

أعدت ترتيب كلمة الخير، التي نطقتها قريبته البدوية بطريقة أخرى، وأنا أفترض بأن عبدالرحمن هكذا رد، بأن أبدل أماكن ألف وراء " الخار". وانتظرت انفجارا طفوليا. كنت أرجو الله كثيرا أن ينهي هذه الكوابيس منذ أن عدنا من أمريكا، وتزوجت هيفاء. كان هذا هو عوض خاله، وكان عبدالرحمن حسب ما أعرف لا يريد عوضا. ولكني لم اسمع سوا تمتمات تتواصل بين الصوتين. والإخوة يتبسم أصغرهم ويزجره الآخر. خرجت الفتاة، وكانت بحق حتى من خلف خمارها جمالا متجسدا. ولما لمحت هذا الجمال قبل أن أوليها ظهري، بدأت أنظر إلى إخوتها، بالتأكيد بأن الخال الدميم، قد اختار جمالا يكفيه ويكفي كل دميم بعائلته في آن.

أخبرت أختي، التي أخبرتني بأنها تعرف الفتاة. وأمسكت برأسي حينما علمت عن حياة هذه الفتاة كيف تكون. إن شخصيتها قوية. وهي تعمل كذلك، في صيدلية مستشفى. لم تكن بدوية خالصة على أي حال، كان أصلها ولهجتها فقط هو البدوي فيها. والأهم، أنها تبز هيفاء بجمالها وأخلاقها.

لم يكن صديقي يحتاج إلا أن يطلع على العالم أكثر. لم ينفع تعاطفي، لم تنفع نصائحي بالنسيان. ولكن قلبا رقيقا من نوع خاص أدى الغرض في لحظات. بدأ الأمل يعاود الظهور في حياة عبدالرحمن المكابر. وتذوقت في حياتي سعادة لم أشعر بمثلها منذ مأساة هيفاء. لا أبالغ. لماذا إذا انتهت كل مشاكلي، بعدما دخلت على عبدالرحمن، بعد خروج البدوية؟ لماذا نمت ليلتي باسما، أتهامس أخيرا كلمات الحب مع زوجتي العزيزة... أخيرا أدركت بأني أنهيت مهمة صعبة بحياتي، بغض النظر عن كون شخص آخر هو من أنهاها فعليا. اطمأننت على حياة شخص اعتمد علي كثيرا ليعيش فقط، كمجرد علاج، حتى يدخل الشفاء ساعيا إليه من حيث لم ندري، في غرفته بالمستشفى. الحمد لله بأن السيارة صنعت به ما صنعت، الحمد لله أن ذلك الموقف لم يعد يحبس أنفاسي حين أتذكره، لقد اكتشفت أن مأساتي هي أني  لم أنظر إلى البعد الكافي، في حين كان يجب أن أنظر من أجل نفسي، ومن أجل عبدالرحمن، أعمى البصيرة، حتى يجد من ينظر من أجله.



يؤسفني أن قلبي رغم كل الأحداث التي جعلت منه هشا، لا زال على جانب من السواد. لا زلت أتساءل دائما، هل سيعاقب الله هيفاء؟ هل لعبدالرحمن حق عليها؟ أم أن الله فقط شاء أن نكون أشقياء حتى أجل مسمى؟ تزوجت هيفاء على أي حال. وعاشت بسعادة هي الأخرى رغم كل دعواتي. ولكن حسبي من كل هذا الأمر، أن الله استجاب دعواتي لأكون وصديقي وكل من نحب سعيدا. أليس السر إذا، في شرط : كل من نحب؟ قلوب كقلب عبدالرحمن لا تكره، إنها كقلوب الطيور، لقد كان خطأ بلاغيا إذا بدعائي، ولكن لعل حكمة الله قد اقتضت هذا الخطأ، فاليد التي كتبت كرهي لهيفاء، قد كتبت محبة صاحبي لأكثر من امرأة.


تمت.
_______________________________________



كم أشعر بالقهر والحزن حينما أقرأ عن فضائع شنت ضد مسالمين في حروب غير عادلة. ما أخس الإنسان إذا ما أراد هذا؛ إنه أخس من الحيوان في بعض الأحيان، ولا ينفع أن الله سبحانه خلقه بالأساس أكرم مخلوقاته، فهو يصر على الإنحطاط.
أعلم أن الحروب ليست لعباً، وهي بكل الأحوال مؤلمة. لكن، لها أخلاقيات، على أن الأمر السائد هو تجاوزها. ورغم أن المسلمين كانوا دائماً لديهم الرادع في دينهم، إلا أني أتسائل أحياناً إذا ما كنا سنختلف عن سوانا مع ضعف ديننا في أنفسنا، وسوء فهمنا له في الوقت الحالي.
قرأت عن أمور مؤلمة كثيرة، في أماكن مختلفة من العالم. لكن؛ تتعدى الوحشية مستوى إدراكي، وتجعلني أتسائل إن كان بعض البشر بالواقع شياطين.
ما البشر؟ هل يعتمد هذا على ما يقومون به، أم أنه مجرد تصنيف علمي.
أمور كثيرة فضيعة قرأت عنها، ولحسن الحظ أن المسلمين لا علاقة لهم غالباً بهذه الفضائع إلا اللهم حينما يكونون الضحايا.
قرأت اليوم عن ما فعله اليابانيون حينما اجتاحوا العاصمة الصينية في وقت من الأوقات، نيانكينق. كان القادة يقيمون المنافسات فيما بينها أيهم أول من يصل قتلاه إلى مئة في وقت معين. والأسوأ، هو البحث عن الإناث من باب إلى باب لإغتصابهن وقتلهن، وقلت الإناث لإن الأمر تم بحق جميع النساء، في فعل هو أبعد في شروره من غريزة حيوانية بلا رادع، تعدى الأمر هذا. فلم يفرق بين عجوز طاعنة ورضيعة تشق لتوسع فيتمكنون من اغتصابها. ثم تطعن الأنثى في منطقة العفة بعد الانتهاء منها بحربة أو أي أداة تصلح للأمر، وتولج فيها القوارير. ومن يعترض أو يتحدث فهو يقتل مباشرة. في الموسوعة صورة قديمة لفتاة مقتولة بهذه الطريقة الخسيسة والمتوحشة.
كما لم يسلم الرجال من الاغتصاب.
وليس وكأن المسلمين لم يعانوا الأمرين في ذلك البلد، فهو مليء بهم تاريخياً.
تسائلت بعدما قرأت وقلبي يعتصره الألم؛ هل قنبلة أو حتى قنبلتين ذريتين هما أسوأ ما قد يواجهه الناس؟. ليس أني أقلل من معاناة الأبرياء في اليابان من تلك القنابل، لكن الأمر يدعو للتأمل...
بيد أني شعرت بالفخر بالمسلمين هناك، خصوصاً في الحرب التي شنتها ثمان دول على الصين الامبراطورية، ودافع المسلمون عنها ببسالة وشجاعة يصعب تخيلها. وكانت الخيانة من قائد غير مسلم. كاد المسلمين أن يدحروا الأعداء، وكان الأمر ممكناً.
أنظر إلى وجوه القادة المسلمين من هناك، صورهم الجميلة بلحاهم الفاضلة وملامحهم المغولية، فأرى نبل لا تخطئه عين.
ولكن ما تركني في حيرة هو استجابة السلطان عبدالحميد الثاني لألمانيا، التي طلبت منه أن يقنع المسلمين بالتوقف عن المقاومة، فاستجاب وأرسل مرسولاً، ولكنه وصل بعدما انتهت المقاومة بفضل الخيانة. لماذا؟ ماذا كان الدافع؟ ما السبب بالضبط؟. أتمنى لو عرفت.
المفارقة المؤلمة هي أن أفدح عمليات الاغتصاب المنهجي تمت على أيدي الألمان والروس، وكانوا من بين جنود تلك الدول هم من يطعنون النساء بعدما يفرغون منهن.










كنا أغرار وأبرياء...
حينما كان كل الناس لنا أصدقاء...
والقلوب نحسبها لا تنكسر...
والحب بحر لا ينحسر...
واليأس بركان لن ينفجر...
والعصافير أطفال...
ربما يزورون الجنة كل فجر...
والناس حنونين...
كلهم طيبين...
حيث الأشرار بقوا فقط بين طيات كتاب...
ما بين ساحرات وذئاب...
والأماني تستبدل وتغسل كالثياب...
والأحلام الساذجة لا تستعاب...
ولا تكلف شيئاً...
إذ كان العيش بالقليل قد طاب...
ثم مع الأيام صار القليل علي كثيراً...
وبعدما كانت القلوب تسع الجميع...
صارت تحية من غريب معروفاً جزيلاً..
وقد كانت الأحزان تغسل بالبكا...
والآن لا يتذكر المرء آخر مرة بكى...
إذ صارت الأيام كالسنين...
والحياة دوماً كدر وشقا...
لا شيء يستحق النحيب...
ولا حتى وداع يائس لحبيب...
إذ صار الأمر سيان...
وبعدما كنا نبحث عن النسيان...
عرفنا أن الآخرين نسونا...
وفي خزائن وعيهم القصية تركونا...
نأسف في العزلة على أحلامنا...
ثم ننسى بالتدريج طموحاتنا...
ثم نتساءل إن كنا في يوم قد كنا...
أم أننا في النسيان وُلدنا...
وبذات اللحظة فيه دُفنّا...






سعد الحوشان

الاثنين، 18 أبريل 2011

شعر السعيد يطول (ألماني،جهاز،القصيم،قصائد،أحداث)

بسم الله الرحمن الرحيم












ينظر المرء لأمور مختلفة بأعين مختلفة. لكن مع الأسف، لاستبدال المنظور، يجب أن يتغير الوقت، فلا يستطيع المرء أغلب الأحيان رؤية بعض الأمور من أكثر من منظور بنفس الوقت، أحياناً لا يفطن المرء في خضم الحياة لضرورة هذا الأمر، فكل ما يرجوه الإنسان هو أن يختار المنظور الصحيح في كل مرة ينسى رؤية الصورة كاملة. قد لا يمتلك الخبرة كذلك، قد لا يدري بوجود أكثر من منظور للأمر الواحد في معظم الأحيان.


نظرت من مناظير غير ملائمة لوقت طويل، إلى مختلف الأمور. إني أفضل قدرة الآن على اختيار المنظور السليم، وهو المنظور الأشمل، ربما أكثر من منظور للأمر الواحد.
لكن، يظل اللبن المسكوب مسكوباً.
إني أود أحياناً أن أحذر بعض الناس، كثير منهم غرباء، من سوء عاقبة نظرتهم للأمور، التي يحسبون بأنها إيجابية، إذ أني مضيت سابقاً على نفس الدرب، وأعرف نهايته.


لكن هذا يجرني لأمر مهم؛ إنه يتعلق بأخ بعث إلي بكلام، ليخبرني من خلاله ببضعة أمور، وكم أشكره على ذلك. مع ذلك، لم يتح لي الرد عليه.
هذا الأخ أراد أن يلفت انتباهي إلى كتابات امرأة غير سوية بوضوح؛ ويحسن بالمرء تجنبها حينما يعرف هذه الحقيقة، لألا تسحبه إلى انحطاطها. إن أمرها يشبه المصيدة أو الفخ، قد يقع المرء بالفخ لأول مرة، لكن يجب أن يتفاداه في المرات القادمة، فالمؤمن لا يجب أن يلدغ مرتين من ذات الجحر، كما يحث الرسول عليه الصلاة والسلام.


لأكون صادقاً، لم أكن أريد أن أسمع، أو أقرأ، شيء عن الموضوع، مهما كان الغرض، لأنه مضيعة للوقت، أمر غير مهم بأي طريقة قلبته، إنه فقط مثال مؤسف، سبق وأن اطلعت عليه، على حدود الرداءة القصوى وسوء الخلق والتربية، والانحدار المستمر. 
لم استطع التواصل مع الذي أرسل إلي الأمر، إذ كنت أريد أن أخبره بوجهة نظري التي سأقولها الآن.
ما كنت أريد أن أقوله له هو نصيحة؛ أن لا يتفاعل مع تلك المرأة، ولا حتى أن يطلع على ما تقول، أياً كان. فتلك المرأة على جانب كبير من الخساسة وحب الأذية، وهي لا تستريح من المحاولة لجر الآخرين إلى مستواها الخفيض، ولا تهنأ إلا بالإسائة، وجرح الآخرين، حتى حينما يكونون غافلين عنها، وهي ليست من الذين يسلم المسلمين من ألسنتهم بسبب أو بدونه، هي مؤذية باختصار.


إن اختلاف البيئة، أو على الأصح اختلاف مستواها، يجب أن يؤخذ بالاعتبار. فهذا يجر أمور كثيرة، مثل نوعية التربية، ومستوى الرادع الذاتي لدى الناس. إن بعض الناس يخطئون على الآخرين ويجرحونهم كردة فعل، ردة فعل ليست بالضرورة على أذى أو شيء خاطئ، قد يكون اختلاف وجهات نظر أو حتى مجرد مجاملة، لكن هذا أفضل ما يحسنونه، فالخبيث لا يأتي منه إلا الخبث. وبعض الناس يذهبون إلى أبعد من هذا، إنهم يلاحقون الناس ليخطئوا عليهم، ليعاقبوهم على معرفتهم بهم، ليشعروهم بأنهم قادرين على الأذى والجرح والاستمرار به، دون كلل أو شعور بالندم.
إن بعض الناس خاوون، يعيشون حياتهم من خلال حياة الآخرين، فهم غير قادرين على الانشغال بأنفسهم، وغير مالكين لسمات تمنحهم القبول لدى الناس، فيحاولون إقتحام حياة الناس رغماً عنهم، وإيذائهم، لإشغال أنفسهم، وإشغال الآخرين بهم. وهؤلاء، أفضل ما يمكن للمرء أن يقوم به هو أن لا يراهم، أن يختفون من الوجود بالنسبة إليه بعدما يكتشفهم، ولو اضطره هذا لاتخاذ موقف مضاد ولكن حاسم، حتى لو كان على بعض القوة والحزم وربما شيء من القسوة، فهو يدافع عن نوعية حياته، ويدفع عنها الأذى الذي من الممكن أن يشغله ويقلقه بلا داع. المهم أن يجعل الأمور واضحة، حتى تقف عند حد معين على الأقل، وقد يتبع الأمر بعض الإزعاج، لكنه سيظل بسيطاً ويائساً.
لقد عايشت بعض الأشخاص من هذه النوعية، أو جمعتني بهم مواقف ومسائل. لقد عيشت حياتي عني أيضاً لبعض الوقت، أو اقتسمت معي، وإن يكن معنوياً.
إني صاحب تجربة، وقد يلومني رقيق لا يعرف بطانة الأمور ولم يعايشها، لأنه سعيد حظ.












فرحت اليوم، في قلبي، حينما علمت أن زميل لي كان ينوي أن يسألني سؤال سألته إياه، أي أنه كان لديه نفس الاهتمام والنية. سألته أين يصلي الظهر بالعادة؟ حيث نكون في العمل، فضحك، وقال بأنه كان سيسألني نفس السؤال، أخبرته، وسألته إن كان سيأتي معي اليوم للصلاة؟ وافق مباشرة، وبدا لي أن هذا كان غرضه منذ البداية.
صلينا في كلية الآداب، حيث ذكرياتي الكثيرة تقيم، حيثما كانت كلية اللغات والترجمة في نفس المبنى. المصلى جميل، ويحوي ذكريات كثيرة على وجه الخصوص. أتذكر حتى حينما جئت مع أخي للعمل على إجراءات تحويلي من قسم إلى قسم، وكان كل لحظة والأخرى يخرجنا ويدخلنا في المصلى، حتى أخبرني لاحقاً وهو يضحك أنه يقوم بهذا ليتعبني بخلع ولبس حذائي الصعب.
ثم في سنوات لاحقة، بعدما تخرج أخي من الكلية، واستقامت أموري بعد ذلك بفترة، بدأ المصلى يستهويني أكثر فأكثر، حيث يلتقي الناس للصلاة والجلوس للتحدث أو قراءة القرآن، أو التفكر والتأمل. حينما كنت أجلس متكئاً على عمود، ماداً رجلي أمامي، حقيبتي البريدية إلى جانبي، أفكر، وأتطلع للناس وللنخيل خلف الزجاج والشرفة، ونور الشمس من الجدران الزجاجية العالية يهيمن على المكان بمن فيه. ثم، يمر أحدهم ويحدثني بود وهو واقف أمامي، نبتسم ونحن نتحدث، ثم تقع عيني على شخص آخر، ينظر إلي بتركيز وهو يمر متباطئاً، وقد أضاق عينيه على نحو طفيف، واكتشافي لا يثنيه عن الاستمرار بالنظر، إنه يتجرأ على نحو غير مألوف.


تلك المرات التي أصف فيها للصلاة، فيود شخص أن يلفت انتباهي إلى تواجده على مقربة، يتنحنح، يمر من خلفي، ويصف ببطء، وبيني وبينه واحد. إنه يريد أن يثبت شيئاً، أن يخبرني بأني لا معنى لي بعدما أهنته في وقت سابق، أن ما قمت به لم يؤثر، فهاهو لا يبالي بوجودي. لكن الإمام يسلم منهياً الصلاة، ويتبقى لي ركعة او اثنتين، ويتبقى له كذلك ما لا أدريه من ركعات، لكن، وكانت صلاة مليئة بالترقب والسهو بفضله، أجده يسرع في أداء صلاته، على نحو غير مألوف، يريد أن ينهيها قبلي، ليتجاهلني فقط، بعدما يلفت انتباهي وكأنه لا يدري، كما يفعل حينما تسنح الفرصة. مع ذلك، يشاء الله أن يكون الرجل أكثر إخلاصاً، ولا ينهي صلاته قبل أن يتمها بالفعل، فيفاجأ بأني سلمت بعد إتمام صلاتي، كانت ركعة أو ركعتين فقط تنقصني، فيقوم من التحيات التي كانت الأولى له متباطئاً عكس قيامه في السابق، يائساً، إذ لم يعد للإسراع فائدة. أقوم وأنا أعلم بوعيه بي، لكني أمضي وقد وقف بعد قيامه البطيء على نحو متناقض بشدة مع سير صلاته السريع قبل انتهائي. حينما ابتعدت قليلاً التفت إليه، ووجدته واقفاً، مغطياً وجهه بكلتا يديه، لوقت طال.
كان يهتم كثيراً ليريني أنه لا يراني في مثل تلك الظروف، أني لا أساوي شيئاً. ربما أنه كان يريد أن يثبت لنفسه قبل أن يثبت لي، أن إهانتي القوية له لم تهزه.












على نحو مخالف للخطة المتفق عليها، قابلت الدكتور الألماني قبل قليل، لأول مرة في  المساء منذ زمن طويل. كنا سنلتقي في صباح الغد، ولكني ذهبت قرب بيته في مهمة، ولما فرغت اتصلت به، كان في البيت، فذهبنا إلى المقهى القريب.
كان يريد أن يعرف ماذا ردني الأسبوع الفائت عن لقائه. كان جاثوم تعرضت له قد أفسد خطط اليوم كاملة حينما حدث في وقت مبكر من نومي. حكيت له كل شيء، من دون أن أتوقع منه الاستيعاب أو التصديق. تناقشنا حول الأمر، وبما أني تعرضت له خلال حياتي لمرات متعددة، كانت لدي خلفية جيدة، وتفسيرات مختلفة قرأتها، وتفسير أعتقده.
كان قد حدث لأول مرة منذ سكننا في منزلنا هذا، في حين كان يتكرر علي في منزلنا القديم، وكانت تلك المرات أكثر شناعة وتأثيراً من المرة الأخيرة، بحكم أني أكبر الآن وأكثر تفهماً وشجاعة. 
يقول أناس بأنه الشيطان يجثم على صدر المرء ويخيفه ويشل حركته، ويقول آخرون بأنها عملية حيوية عبارة عن شلل مؤقت مثير للفزع والتهيؤات، أما أنا فأقول بأنه الأمرين على الأغلب. أعلم بوجود كيان آخر واع ومدبر في الأمر، وبنفس الوقت قد يكون كائن حي ينتهز الإشكال الحيوي ولا يسببه.
هذا جنون؛ لكن لمن لم يمر بالتجربة فقط، أو كما مررت بها. وأتمنى أن يظل جنوناً في نظر الآخرين، فهذا خير من أن يمروا بهذه التجربة.
إن الأمر في نظري هو تجاوز حد لا يجب أن يتجاوزه المرء، لأنه شيء غير طبيعي.


أخبرته بأمر مضحك؛ كان أحدهم قد اتصل بي في اليوم الفائت، فأخبرته بأني كنت أفكر به قبل أن يتصل، ففرح جداً. ضحكت وقلت ربما يجدر بي تقدير لطفه أكثر مما أفعل، فقال متحمساً بأنه يجدر بي ذلك. ليست أول مرة نتحدث عن هذا الشخص، والدكتور يحضني غالباً على إعادة النظر في نظرتي إلى هذا الشخص قليلاً. لكني أخبرته بأن المشكلة ليست في لطفه، لكن في ثقتي في هذا اللطف، الذي قد يتبدل بسرعة، لأي سبب. قال بأنه لاحظ بأن الناس هنا يعانون من مشكلة الثقة ببعضهم، بالتفكير بما ينويه الآخرين. أخبرته بأني لست هكذا؛ فلا يهمني ما يفكر به الآخرين طالما لم أواجه منهم مشكلة أو خطأ جسيم، فبعد الخطأ، أبدأ بالتفكير بتلك الطريقة. غني عن القول أن مرد عدم تقديري بشكل كبير للطف ذلك الشخص هو أنه أثبت في وقت سابق أنه لا يمكنني الاعتماد كثيراً على عاطفته الفياضة. أخبرت الدكتور بأني خاب ظني كثيراً، ربما بسبب هذه الطريقة التي أسير عليها، إحسان الظن.


حكيت له عن جانب من حياتي. رغم أني حكيت له الكثير من قبل، إلا أنه دائماً ما يظل لدي الكثير. كثيراً ما يذهله ما يسمع؛ ما مررت به، ما فكرت به، ما قلت، ما قيل لي. قال بأن حياتي مليئة بالكثير من الأمور المختلفة. ويقول بأن حياتي ضاغطة، أني أتحمل أكثر مما يجب. لكن، هذا هو الحال، ولا مجال لغيره.


حينما أوصلته إلى المنزل، شكرني على قدومي، وقال متفكراً، وهو ينظر إلى البعيد بأنه تعلم الكثير اليوم، أكثر مما حلم به. ضحكت وقلت بأنه لم يتعلم شيئاً، إلا أنه قال بأنه تعلم الكثير، وهو دائماً يتعلم مني. ثم قال، وكأنه يحدث نفسه بقدر ما يحدثني، بأن حياتي كون قائم، لا أحتاج إلى السفر لتعلم شيء، فحولي كل شيء. رددت بأني ربما أود لو سافرت، أود لو استرحت في بعض الأحيان من هذا الكون، لكني بالواقع صرت أستريح أخيراً حينما أراه، وهكذا أسافر خارج كوني.












ذهبت اليوم وأخي إلى وكالة رينو. كنت قد حجزت لديهم موعداً لتجربة سيارة. أعلنوا بأن من يجربها يحصل على ذاكرة فلاش (!!)، ومن يشتريها يحصل على آيباد (!!!). هي من صناعة أو تجميع كوري، وهي ليست من سياراتهم المشهورة، حيث أنهم لا يريدون بيع سياراتهم المشهورة هنا، لأن سعرها سيكون مرتفعاً كما قيل لي، مما أحزنني. اسمها فلوينس، وهي جميلة جداً من الخارج، رغم أني لا أحب الشكل العام لها، سيدان، وهو المنتشر بين السيارات مثل كابريس وكامري وخلافها، إلا أن خطوطها جميلة جداً برأيي. مريحة من الداخل، وتحتوي على تقنيات رائعة جداً. وسعرها أكثر من ممتاز بالمقارنة. أخبرني مسئول المبيعات بأن ذاكرات الفلاش منتهية من عندهم، وأني يمكنني المرور يوم السبت للحصول على واحدة. يعرف أني لن أعود من أجل فلاش، لكن ما أردته هو تجربة السيارة. خرجنا لتجربتها. الجلوس فيها مريح، إحساس التحكم بالمقود جيد، لكن عزم السيارة صدمني بسوءه. لا يمكن أبداً وصفه بأنه جيد، إنه مخجل بالواقع.
قال لي الرجل بأنهم لن يحضروا سيارة لاقونا، سيارتي الحلم، للبيع هنا. قال بأنها مكلفة، وأنهم أحضروا سيارات أخرى من سيارات رينو الشهيرة المصنوعة في فرنسا، وأصبحت مكلفة أكثر من اللازم. يا للخسارة؛ قطيعة، ولا عوض.
عموماً، الغريب أن الرجل دعاني للدخول بعد التجربة، وسأل مسئول آخر، يبدو أنه مديرهم: هل لدينا فلاشات؟. قال الرجل، وكأنه لم يتوقع سؤال كهذا: "نعم، لدينا." لا أدري لماذا قال في البداية أنه لا يوجد فلاشات. أخي يقول بأنهم يوفرونها ربما لأصدقائهم، وربما افترض بأني اقتنعت بالسيارة. أخذت الفلاش، وبصراحة، لا يمكن للمرء أن يتمنى فلاش يمكنه شراءه بعشرين ريالاً في بعض الأحوال، لكن كنت آمل أن يكون مطبوعاً بشعار الشركة، ولم يخب ظني. صغير جداً وموصول بطريقة معينة بقطعة بلاستيك تشبه الكرت، يندمج فيها حينما يطوى، فيكون قابلاً للوضع في المحفظة.




رينو،،، لاقونا كانت الحلم، وهو حلم لن يتحقق الآن.
فورد إذاً، إن شاء الله، بعد سنوات.












حضر قبل أسبوع تقريباً مدير المركز الذي أخذت الدورة منه في الجامعة، الدورة التي استمرت لمدة شهر بلا فائدة للأسف. كان أهدى طباعاً، وشعرت بالتوجس من أسلوبه. كان قد جاء لعمل له. اقترح علي المرور على مكتبهم، الذي أمر من أمام المبنى الذي يحتويه كل يوم وأنا أسير إلى الصلاة وأعود منها، لأخذ الشهادة المصححة. أخبرته بأني سأفعل. لم أنوي أن أفعل بصدق، فلم أكن أريد شهادة على دورة لم أستفد منها شيء. 
لكن اللافت هذا الأسبوع هو قدوم الكويتي ذو الجنسية الأمريكية، وهو رجل طيب ومثير للاهتمام، وكان ممن أعطونا بعض التدريبات في الدورة، والوحيد الذي اتفق كل من أعرف على فائدة وجوده وجودة أسلوبه. لكن كان حضوره في قسمنا غريباً. أعني طريقته بالتصرف، أما مظهره، فقد تغير قليلاً، لكنه يظل صاحب شكل صبياني محبب رغم جسده الكبير. كان شعره مقصوصاً بدقة حول رأسه، وكانت أذناه لافتتان للنظر كالعادة ببروزهما، وإن لم تكونا كبيرتين، مما يجعله يبدو كطفل كبير.


كان ينظر إلي بطريقة غير معتادة، وقد اقتضب السلام معي، وكنت أشعر بأنه يمر بحالة ذهول أو صدمة. بالطبع، يعرف هو أني أعمل هنا. أسلوبه كان مغاير لأسلوبه المعتاد معي، الأسلوب الذي يظهر منه الاهتمام والتقدير والرغبة بالتواصل. كان قد أخبرني في آخر يوم بعد الحفلة بأن أمر على مكتبهم من وقت إلى آخر للسلام، وهو سيراني في مكتبنا.
لكنه اقتضب تواصله بوضوح في قسمنا أمس، وقبل أن يذهب، أخبرني بأن آتي لآخذ الشهادة من عندهم، ومضى بهدوء.
الهدوء البارد أو الحذر الذي ظهر واختفى به كان مثير للتساؤل.


في اليوم التالي، جاء مرة أخرى، كان يريد إكمال عمل يخصه. سلم علي، وأخبرني من خلف الحاجز بأن أمر لآخذ الشهادة، أو بإمكانه أن يحضرها لي. كان هذا شيء محرج. أخبرته بأني أمر دائما قربهم وسآتي لآخذ الشهادة.
لأنه يعلم بأني مترجم، يحدثني باللغة الانقليزية، لكني أرد عليه دائما بالعربية.
في نفس اليوم، وأنا عائد من الصلاة، ذهبت إلى مكتبه، وفي نفس المكتب يجلس الشخص الأردني بالعادة، لكن لحسن الحظ لم يكن موجوداً، كان هناك فقط شخص آخر لم يبدو أنه مهم جداً بالنسبة إلى الكويتي الطيب. سلمت، ووقف ليعطيني شهادتي، كنت ألاحظ كل شيء، وقد تأكدت بأنه ليس نفس الرجل الذي كان يستقبلني بود وحماس من قبل، أو يتواصل معي بنفس الشعور. مع ذلك، لا يمكنني أن أقول بأن اهتمامه كان منقوصاً، إنما كان مختلفاً، إنه اهتمام أشبه بمن عرف أن للشيء الذي كان يثير اهتمامه وجه آخر، قد يكون مقلقاً، لكنه يريد أن يستكشفه، رغم حذره. وهذا أمر محمود، ففي نفس الموقف، يفقد الآخرين الأكثر سطحية الاهتمام. لم يكن لدي أدنى شك في تلك اللحظة بأنهم يعرفون بأن رأيي في الدورة شديد السلبية، لكن هل يعرفون أنه أنا من كتب الانتقاد القاسي واللاذع الذي وصلهم مع غيره؟ ربما. من المفترض أن لا يهتمون بمن كتبه، لأن أغلب من أعرف انتقدوا سلباً أشياء كثيرة، لكن قد يكون لديهم أسباب مجهولة للرغبة بمعرفة ماذا كتبت طالما لم أكتب أسمي، في حين أن آخرين كتبوا أسمائهم. كتابة البعض لأسمائهم أمر يضيق الخيارات في تحديد من كتب ماذا، ممن اختاروا إخفاء هويتهم في الاستبيان. لكن هل يهتمون بمعرفتهم؟!. هذا ما لم أستطع البت فيه. قال الرجل وقد عرفت أنه أعد التساؤل وأضمر النية معي سلفاً، قال باللغة الانقليزية بأنه يريد أن يعرف رأيي الصادق بالدورة. شعرت بأنه ربما ألح على حضوري لأجل هذا السؤال، وأنه على الأغلب انتظرني. هل خاب أمله حينما لم آتي أمس؟، لكن لديهم الاستبيانات، لماذا يسألني؟، ما أعتقده هو أن الدورة كانت كارثة بالنسبة إليهم، وقد تكون أفقدتهم توازنهم إدارياً، فقد كانوا يعاملون الأمر بحرص كبير، وقد أفردوا محاضرة حتى في الغرفة التجارية للدعاية لأنشطتهم وأفكارهم.
قلت بأني أعتقد بأن الكل لم يكن راضياً عن الدورة. رد بأنهم رأوا هذا بالاستبيانات. سألني عن الخلل. أخبرته بأنه ترتيب الأوليات في المادة، وسيطرة المدربين السيئة، وسوء اختيار المتدربين، وأشياء من هذا القبيل. كان يحثني على شرح النقاط، وكنت أشرحها، وكان يوافقني. 
الغريب بالأمر هو أنه طلب مني كتابة أني استلمت أصل الشهادة، وأن أوقع على صورة الشهادة، مع أنهم لم يطلبوا نفس الأمر في نهاية الدورة. ربما لأن التسليم كان احتفالياً؟. أو ربما كان أحد ما قد كتب شيئاً، ويهمهم أن يعرفون من هو، فيقارنون الخطوط؟. لا أدري. بعدما سمع كل ما يريد، دعا لي بالتوفيق وخرجت.















لن تتخيل...
لأني فعلت...
كيت وكيت...
وقلت...
كيت وكيت...
وربما أسرفت...
وأقمت وأقعدت...
لكن لن تتخيل...
أنك كنت عزيزي ولا زلت...
أني بعد نشوة جرحك حزنت...
أني للسعادة اعتزلت...
أني في الندامة المستدامة استكنت...



هذه قصيدة كتبتها قبل فترة طويلة. لا أعتقد بأن آخر بيتين يصحان على حالي الآن، أو على الأقل ليس لنفس الأسباب التي كتبت لأجلها القصيدة.














اليوم، جاء الدكتور الألماني إلى مكتبنا سعيداً، هو سعيد لأننا أنجزنا موضوع له بسرعة غير معتادة. هو حظه سيء معنا دائما،،، بالواقع؛ حظه ليس سيء، لكن لأن الأمور تتم عن طريقي، يؤثر حظي على الأمر. هذه المرة مرت الأمور على نحو ممتاز. تابعت الأمر وتحدثت مع كل من له علاقة بالأمر. 
أحضر الدكتور معه هدية، علبة كبيرة من الحلوى البلجيكية، وطلب أن توزع على الجميع، مزح زميلي بأنها لن توزع ولكن سيقتسمها معي، فنحن من اهتم بالأمر. طلب الدكتور أن تكون مسؤولية التوزيع علي إذاً. وزعت الحلوى، وللأسف أن بعض الناس لديهم نهم لا يخفونه، وهم قد يأخذون صف كامل من الحلوى في المرة الواحدة، رغم محدودية العدد وكثرة الناس. بالكاد احتفظت بثلاث لمن لم يأخذوا، وحافظت على الأخيرة حتى يأتي من تعب بالفعل في أمر المعاملة. أما أنا فلم أتذوقها، مما صدم الدكتور حين سأل عن رأيي، ثم أضحكه. قال بأنه أحضر العلبة لي بالأساس، لكن نظراً للموقف وحضور زميل آخر طلب توزيعها. قال بأنه سيحضر لي علبة خاصة لاحقاً.
















رأيت فيديو كرتون من سلسلة يصنعها شاب سعودي اشتهر منذ فترة بهذه الأمور. الفيديو الأخير ينتقد النظر بالأنساب عند الزواج. هذه وجهة نظر هو حر بها. لكن، كان الأمر الغريب هو الإهانات المبطنة والموجهة إلى أهل القصيم بالفيديو. الرجل بدوي، وكبعض البدو، يبدو أنه يحقد على أهل القصيم حقد أعمى. بالواقع، فرح الكثير من الناس بالأمر، والكثير من الناس يفرحون بالإهانات الموجهة إلى غيرهم لدوافع مختلفة، قد تكون تجربة سيئة مع فرد، أو تكون الغيرة، أو الاتجاه العام وأسلوب القطيع. جادل بعض الناس بأن الرجل استعرض البدو بانتقاداته في كرتون آخر من صنعه. رأيت كل ما صنع قبل الفيلم الأخير، وأرى الفرق بين الانتقاد والانتقاص الحاقد. حينما تنتقد مثلاً الشعراء المتملقون، فإنك تنتقد الشعراء فقط من ذلك الجنس من الناس، أما حينما تنتقد أهل الفتيات الذين يسألون عن الأصل عند الزواج، ولا يسألون عند توفر المال حتى لو كان المتقدم أجنبياً، فأنت تقدح بأنساب ومبادئ مجموعة كاملة متباينة من الناس. كان الأمر بعيد كل البعد عن حسن النية بوضوح، واستغلال واضح لإعجاب الناس ضعيفو الوعي، بإذكاء عداء قائم على ادعائات خبيثة حقاً أيما خبث. المحير أنه شاب صغير، ويحاول أن يبدو مثقفاً ومتعلماً. كيف طاوعته نفسه على الإساءة للناس هكذا؟ بهذا الوضوح والجرأة والخبث؟ إنه لأمر محير، فكونه صغير السن يجعلني أحسن الظن بالعادة، الصغار قلوبهم أطيب، ولم يتعرضوا بعد إلى الكثير من مساوئ الحياة، ولا يريدون عداء الناس إلى هذه الدرجة وهم لم يتعرفوا عليهم تماماً، في الأحوال العادية.
إن أول ما خطر على بالي حينما رأيت الفيديو هو أني تذكرت لورنس، ذلك الشاب قذيع اللسان الذي امتلأ الوب بمقاطعه الصوتية وهو يسيء لمختلف أنواع البشر والعوائل بأسوأ ما يمكن أن يقال، حيث خرج لاحقاً في الجرائد وقال، ويا للعجب، أنه إصلاحي، يريد تحسين المجتمع. لا فرق على الإطلاق، إنهما متماثلان من حيث المبادئ بغض النظر عن الأسلوب، لكن هذا الشاب أذكى بكثير، فقد انتقد أهله انتقادات بسيطة، حتى يظهر بمظهر المحايد الباحث عن الحق، ثم أخرج حقده بأسوأ طريقة ممكنة على أهل منطقة لعل الكثير منهم يهوون أعماله. إن الأمر يبدو لي مخططاً له، فأنا أتحدى أن يقول نفس الأمور تجاه أهله، وإلا لما انتقدهم بتلك الأمور التافهة فقط ليختار غيرهم لأجل الإساءة والإهانة والقدح في المبادئ والأنساب. هو لورنس القذيع بنسخة أخرى فقط.


يمكن لنا كلنا أن نقول مختلف الأشياء عن الآخرين، ويمكن للكثيرين أن يبدأوا فيديو بحديث شريف، ثم يشوهون أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام بالإساءة لأناس يؤمنون به، الإساءة لمبادئهم وشرفهم وأعراقهم ومواقفهم. لكن خوف الله والانشغال بأمور أحسن هي الفارق.
لقد أصبح كل من ظن نفسه يعرف كل شيء يتظاهر بالبحث عن الإصلاح ولو أساء للناس وجرحهم.
فلا أقول إلا حسبنا الله، وهو نعم الوكيل.
هذا الشاب اسمه مالك نجر، وهو يصنع حالياً فيديوات مسامير لصالح صحيفة سبق الالكترونية.












مؤخراً، لم أعد أجد ما يمكنني قراءته. في المكتبة لا أجد ما يعجبني، وحينما وجدت اليوم اكتشفت أني لم أصرف ما يكفي من مال.
بيد أن متابعة مجلة ناشونال جيوقرافيك العربية سدت فجوة كبيرة لدي. صحيح أنهم يتعاطون مع بعض الأمور بسطحية نوعاً ما أو على نحو غير وافٍ، لكنهم يتعاطون مع أمور أخرى بجدية كافية، مع أنها تكون غالباً الأمور الأقل إثارة لاهتمامي الخاص للأسف. هي تترجم عن النسخة الانقليزية، ولا أعتقد أنهم يتصرفون بها كثيراً بالتغيير والانتقاء خلال التحرير، لأنها احترافية. لكن بعض القراء لا يدركون أن مجرد كونها تترجم إلى اللغة العربية لن يجعل منها صافية النوايا تجاه بعض القضايا، فلا يقرأونها على أساس أنها مترجمة وأمريكية بالنهاية، فيغضبون تجاه بعض وجهات النظر التي نعلم أنها وجهات نظرهم هناك، ونعلم أن المجلة مترجمة، فماذا يتوقعون؟! وجهة نظر مفتي المملكة؟!.
العدد الأخير عموماً كان سيئاً، لم يحوي الكثير من المقالات، ورغم أن الذي قبله لم يكن مثيراً جداً للاهتمام إلا أنه كان أفضل. لكن أتصور بأن العدد المقبل سيكون بمثابة المكافئة بالنسبة إلي؛ حيث أن العدد الانقليزي الآن يحتوي على تقرير عن حضارة الإنكا، الحضارة الأكثر اثارة لاهتمامي، وبالتأكيد، إن شاء الله، سيترجمونه. في عدد سابق تحدثوا عن حضارة الازتك، وكان أمرها مذهلاً، ومروعاً في نفس الوقت. لم أقرأ الكثير من الأمور الجديدة عنها، لكن كان هناك بعض الجديد نوعاً ما، وبعض الصور الجميلة.








التقيت الدكتور الألماني مؤخراً، وكان لقاء أطول من المعتاد بكثير، لأنه سيسافر لفترة. لديه أعمال تتعلق بالمجتمع هنا، يقوم بها لصالح الجامعة. كان مهتماً بآرائي، التي أحياناً تصدمه، لكنه يقتنع بها بالنهاية. النساء هنا، البطالة، وهذه الأمور. يأخذ آرائي على محمل الجد، ويتأملها، لكني أحياناً أفكر إذا ما كانت آرائي بالفعل تمثل شيئاً مهماً. يعد غالباً مواضيعه ويخبرني بأنه لديه بضعة أمور يريد أن يسمع رأيي فيها، بعدما يخبرني عن العمل الذي يتعلق بها.
دعاني إلى مطعم، رغم أن كلينا لم يكن جائعاً. حسب أني سآكل بأي حال. ولم أرغب صدقاً، لكن أمام إصراره وتلهفه، وخوفي من خيبة أمله، طلبت سلطة، فكرت بأنه مطعم كبير ولابد أنه أنظف من سواه. هو مطعم فابيانو الإيطالي.


تحدثنا عن أمور كثيرة جداً كالعادة، وهو لا خلاف لديه حول سماع سخافاتي عموماً. إنها سخرة من الله، أن ترزق بمستمع ومتحدث جيد دون سبب وجيه، دون ميزة حقيقية تقدمها في المقابل.
بما أنه كان يوم أربعاء، كان الإزعاج على أشده، وقد جلسنا في الخارج لأن هواء الليلة كان رائقاً. كان هناك شبان يدورون كالقطط الضالة، ويصرخون كالبابونات الجائعة. تناقشنا حولهم. قال بأن الشبان يفعلون هذا في كل مكان. اعترضت، قلت بأني ذهبت إلى الخارج؛ ماليزيا والهند، وكان الشبان هناك مختلفون. قال بأنهم مساكين هنا، لا مكان للترفيه أو أنشطة تشغلهم. قلت بأن هذا ليس سبب وجيه، ويوجد ما يشغلهم لو أرادوا، كما أنه لا يوجد مبرر لما يقومون به، هم فقط يريدون السيطرة على الحيز كاملاً لأنفسهم، وكأنما لا يوجد أحد آخر، الكل في الهامش، الكل فقط موجود لينتبه إليهم. لم ننتهي من هذا النقاش إلا وازداد الطين بلة؛ جائت مجموعة من الفتيات المتبرجات وجلسن خلفنا. وهو أمر غريب، أتوقع أنه يوجد قسم للنساء. لكن عموماً، لو جلسن صامتات لما أضارني وجودهن، لكن كان علينا سماع نعيقهن كلما قالت واحدة منهن نكتة أو شيء. كان أمر لا يحتمل، في لحظات كنا لا نسمع بعضنا رغم بعدهن النسبي. زعقت إحداهن بلا حياء، فالتفت في اتجاههن مكشراً فصمتت، وصمتن جميعاً، ثم عدت بنظري إلى الدكتور ليكمل، إذ توقف مجفلاً من الصرخة. لكنه لم يكمل، إنما ابتسم، ثم ضحك، ووصمني بأني أقسو على البشر. 
حكيت عن يأس الناس الذي لا يشعرون به بوضوح غالباً، إنه جزء من الحياة. حينما يعتقدون بأن كل شيء جيد ويعجبهم جدير بمكان آخر ومجتمع آخر. حينما يعجبهم أحدهم مثلاً، فيخبرونه: أنت لا تنتمي إلى هنا، أنت تنتمي إلى الغرب، أو يجب أن تعيش في الغرب، أو "شغل أمريكان". لم أخبره بالأخيرة عموماً. ونفس الشيء لدى شعوب أخرى؛ قد يقول لك غربي: أنت أذكى من أن تكون عربي أو سعودي، أو لماذا لا تأتي لتعيش هنا؟ ستبقى مع عائلتنا في المنزل وتكمل دراستك.


علق على شعري الذي طال قليلاً، هو يطول بسرعة، قال بأنه جيد. أخبرته بأن هذا الشعر الذي يعجبه كان مثار للسخرية لدى البعض، كان أخي يقول لأمي دائماً: يمه، انسجي لي بطانية من شعر سعد. ضحك على القصة وهو ينظر إلى شعري.
وأخبرته بأني في السابق حينما أحزن كثيراً، كنت أقص شعري في كل مرة، أذهب إلى الحلاق وأقصر شعري.
لا زالت مثل هذه الأفعال قابلة للتطبيق، وإن لم أكن أعلم مبرر الرغبة الملحة بقص شعري حال الحزن الشديد. ربما كان قلة الحيلة. ولكني لم أقصه بسبب الحزن منذ وقت طويل؛ أي أني لم أحزن حزناً بالقدر القديم منذ زمن الآن.
هل يَعجب أحد حينما أقول عندما أُسأل: لا أريد للزمن أن يعود؟.


قال بأن زيت زيتون الجوف، وهو زيت زيتون منتج محلياً في منطقة الجوف، هو أجود ما تذوق من زيت الزيتون هنا في السعودية. لم يكن لدي شك بأنه سيعجبه.




الآن، لن أراه لثلاثة أسابيع على الأقل. فكرت في البداية ماذا سأفعل في نهايات الأسبوع القادمة. لكني توصلت إلى أني يمكنني أن ألقى أصدقاء آخرين من الجامعة حتى يعود.








معاملة الناس وكأنهم أقل من ناس لأسباب غريبة، ولكن لا تقال، هو الأمر السائد هنا. إني أفقد قدرتي على الاحتمال مع الوقت أكثر فأكثر.
رفعت اليوم ممرضة هندية في المستشفى صوتها علي، وبطلب من زميلتها السودانية، صفقت الباب بوجهي. كنت أكلمها بهدوء محاولاً إفهامها بأن أمي لا يمكنها أخذ الطريق الطويل، بينما كانت تريد أن تمنعها عن المرور دوناً عن نساء أخريات.
ذهبت مجرجراً الإهانة التي يتعرض لها الجميع في المستشفى الجامعي حتى تعودوا عليها، دون أن يجدون من يشتكون إليه، ويفهم عمق الإهانة في التعامل مع العاملين في المستشفى، أجانب وسعوديون. حاولت الحصول لأمي على موعد جديد، لكن كان المكان مزدحماً بالنساء، مما اضطر أمي للقيام وأخذ الموعد لتجهزه بنفسها على خلاف العادة، مع العلم أنها تتعب طوال اليوم بعد السير لخطوات قليلة في المستشفى. عدت إلى الممرضة الهندية، وسألتها لماذا رفعت صوتها علي وصفقت الباب بوجهي؟ قالت بأنها لم تصفق الباب ولم ترفع صوتها، وأنها أخبرتنا بأن المرور ممنوع من تلك الجهة. والنساء الأخريات؟. سألتها لماذا لم تتركني أشرح لها، حيث أن أمي مريضة ولا تستطيع قطع مسافة طويلة، لماذا لم تستمع، ولماذا أهانتني بهذا الشكل؟ قد يكون صفق الباب ورفع الصوت مقبول في ثقافتها، ولكن ليس هنا، كانت تبتسم أحياناً بلا مبالاة. اعتذرت حتى تنهي الموضوع، قالت بأنها آسفة، قلت بأنها ليست آسفة حقاً، إلا أنها ردت بأنها آسفة بصدق، لكني لا أصدقها. كانت تحاول طوال الوقت أخذ الوصفة والموعد من يدي تريد قراءة أسم والدتي، وأنا أرفض، تقول بأنها تريد المساعدة بكتابة اسم أمي على الموعد، حيث لا يكتبه الطبيب على نفس الورقة. أخبرتها بأني سأهتم بالأمر بنفسي، ولكنها كانت مصرة. طبعاً، لم أعطها إياه، لقد أتيت هنا عبر السنين، وأعرف كيف تتم الأمور، فالوصفة تقدم مع الورقة وفيها الرقم والاسم، فيسجل الموعد على هذا الأساس. ذهبْت، وهي تحاول أن تتصرف وكأنها تصحح ما قامت به، لكن أسلوبها التمثيلي أقنعني بأنها تقوم بهذا تظاهراً فقط، وابتساماتها التي لم تغب أشعرتني بأنها لا ترى بأننا قابلون للإهانة، فنحن بلا كرامة في نظرها أساساً.
وجدت الطبيب الذي رأيناه في المراجعة، وهو شاب سعودي متوسط العمر، تعامله جيد مع أمي لكنه يحسب نفسه يفهم كل شيء، ويتصرف على هذا النحو، ويحكم على هذا الأساس على نحو لم يشعرني بالراحة تجاه آرائه حول صحة أمي. أخبرته بما حصل من الممرضات، بالإهانة وما جرى منهن، وسأل أي الممرضات، أخبرته أنها الهندية والسودانية البدينة فلانة. ابتسم ابتسامة واسعة وقال بهدوء بأنه سيكلمهن، وكأني كنت أطلب منه واسطة. وظلت ابتسامته تطفو على وجهه، وكأنه موظف خدمة عملاء مرائي، وكأنما يعتقد بأن الابتسامة هي المعروف الذي انتظرته بفارغ الصبر، في حين كنت أشعر بالإهانة الشديدة، التي تراكمت عبر وقت طويل ومواقف متقاربة في مختلف الأقسام. هل كان يريد مني أن أشكره؟ أن أقول جزاك الله خيراً وأمضي؟ ظل ينظر وهو يبتسم بذلك الشكل المصطنع، بينما تأملته وأنا أشعر بيأس ممزوج بالاشمئزاز، أوليته ظهري فجأة ومضيت بلا كلمة. قال: المَخرج من... لكني مضيت دون التفاتة. فوجئ بالطبع؛ إنه دكتور، ودكتور سعودي، وقد انعم علي بابتسامة، كيف لي أن أفعل هذا؟. هتف: سعد!. لكني تجاهلته ومضيت، لم يتوقف، لحقني وهتف بصوت أعلى، إذ كنت قد ابتعدت: سعد!. كذلك، تجاهلته. مشى خلفي، وهتف مرة أخرى: سعد!. لم أجب، انعطفت إلى ممر، كنت ذاهب إلى أمي، التي ظلت واقفة تنتظر فرصة بين النساء للحصول على موعد. أطل من نهاية الممر، وسألني سؤال غريب: سعد، أين أمك؟. لم يكن بوسعي أن أتجاهله في ممر له نهاية لا أستطيع تجاوزها، إذ تجلس النساء قربها. أشرت إلى أمي بإصبعي. فقال طيب، وكأنه اطمئن، رغم أنه يعلم بأني لن أضيع أمي بطبيعة الحال، هل سيكون أحرص مني عليها؟.
في طريقي للخروج رأيته في مكتبه يكتب؛ لم يخالجني شك بأنه نسي الأمر برمته.
خرجت من المستشفى كئيباً، شاعراً بقهر كبير، شاعراً بأني تحملت سوء التعامل والحط من الكرامة أكثر من اللازم. شعرت بكراهية تجاه مستشفى لطالما كافحت لأحبه.


وقبل أسبوع أو أكثر قليلاً من الحادثة هذه، كانت ممرضة في قسم آخر تتجاهل أمي، ولا تنظر إليها حتى وهي تكلمها. الممرضة كانت فلبينية. سألت الممرضة لماذا لا ترد على أمي أو تنظر إليها على الأقل؟ أم يجب أن تتحدث بالانقليزية؟ قالت بأنها أخبرتني من قبل بما تريد أمي معرفته، أجبت بأنها لم تخبر والدتي، وطالما والدتي تكلمها فيجب أن تنظر إليها وتبدي بعض الإحترام، فالكل يستحق الإحترام.  لم تجب بالطبع، ظنت أن الأمر إنتهى عند هذا الحد. وأصلاً هي وسواها كلهن اعتدن على هذا، لا أتذكر مرة واحدة جئنا فيها في مراجعة ولم نتعرض لنفس الموقف المتكبر. أما الموعد نفسه، فظلوا يدخلون زملائهم بالمستشفى قبلنا، ومن يعرفون من الناس، رغم حضورنا قبل الجميع، حتى مرت حوالي ساعتين من الانتظار. توترت أمي. وهي تتوتر في مثل هذه الحالات، وبالعادة أظل أنا رابط الجأش، سوا أني مؤخراً صرت على شفى الانهيار في مثل هذه المواقف، ولم أعد أحتمل، لم أعد أحتمل، لقد تلفت.
بالنهاية، اقترحت على أمي أن نأخذ ورقة الموعد لنعود بها إلى من حولنا بالأساس، أو حتى نذهب إلى مستشفى خاص. أمي ترفض هذه المقترحات دائماً، التي أقولها بالعادة لمعالجة توترها، لكن يبدو أنها أدركت هذه المرة أني أنا من يعاني، خصوصاً بعد موقف الممرضة، فوافقت. حاولت موظفة حجازية إقناعنا بالانتظار، لكني أصريت بأن تسحب ورقتنا التي جئنا بها، وشكرتها على اهتمامها. في طريق الخروج، مررت بالممرضة الفلبينية، وقلت لها بأني لدي نصيحة؛ أن تنظر إلى الناس على الأقل حينما يكلمونها، فهذا احترام يستحقونه. قالت بأنها تحترم الكل، ولم تقم بشيء خطأ، قلت بأن ما قامت به لم يكن إحتراماً. قال بأنها محترمة، أياً كانت وجهة نظري عن الأمر، وأنها لا تريد أن تناقش. رددت بأن الأمر لا يعود لي، فليست وجهة نظري مبنية على لا شيء، فإذا كانت تعتقد بأنها محترمة فلتتصرف على هذا الأساس، وحينها سيظهر بأنها محترمة وستكون وجهة نظري مغايرة. قالت بأنها لا تريد أن تناقش أحداً، وأنها تحترم الكل رغم كل شيء. كانت لا تنظر إلي، وكانت يديها تنتفضان توتراً. قلت بأنها ليست حرة بالإساءة إلى الناس ثم رفض النقاش، وإن كانت تعتقد بأنها محترمة، فلتظهر الاحترام الآن. حينما صارت تصر على نفس الكلمة، بأنها تحترم الكل، قلت لها بأني سأمضي، ولكن قبل أن أمضي، وطالما أنها لدينا هنا، فلتتعلم بعض الأخلاق الحسنة. سمعتها خلفي تقول بأنها لديها أخلاق، فالتفت وقلت: لماذا لم تظهر الأخلاق إذاً؟ أين هي أخلاقك؟. ومضيت.
تعبت في ذلك اليوم كثيراً في نفسي. إني عاجز عن توفير الاحترام الذي تستحقه أمي في المستشفى.












نزل العدد الأخير من مجلة ناشونال جيوقرافيك، الذي يحوي المقال عن حضارة الإنكا، الحضارة القديمة الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة إلي، إلى جانب الحضارات الأمريكية القديمة، قبل وصول الهمجيون.
رغم أن الغلاف يعرض صورة جميلة من مباني ماتشو بيكتشو العظيمة فوق القمة الشاهقة لجبل، إلا أن المقال خيب أملي كثيراً، ولم يكن بنصف جودة المقال عن الأزتك قبل بضعة أشهر. تحدث عن جوانب وأحداث تاريخية بتركيز أكبر من إنجازات الحضارة وتفردها  وأساليب العيش فيها. ركز عموماً على الملوك، ورغم أنهم مثيرون للاهتمام، إلا أنه لم يتطرق لأكثر من حروبهم بكثير.
خاب ظني كثيراً.










اليوم سأشتري جهاز ترددت كثيراً في شراءه إن شاء الله، وهو جهاز مذهل جداً. ساعدني على اتخاذ قراري شاب في المنتدى الذي أتابعه، اهتم باستشارتي للجميع بصدق، وأخذني بجدية. أنا ممتن.


اشتريت الجهاز، وهو رائع جداً ومتطور، شيء غير مسبوق فعلاً. هو جهاز محمول، للألعاب أساساً، لكن يمكن القول أنه متعدد الأغرض، حيث يمكنه عرض الفيديو وتشغيل الموسيقى وتصفح الانترنت والكثير خلاف هذا. هذا لا يختلف عن المعتاد بالطبع، لكن المميز أن الجهاز يحوي شاشة ثلاثية الأبعاد، أي أنها تختلف عن أي شاشة تعرفونها. حينما تنظر في الشاشة؛ تشعر بأنك تطل على بعد حقيقي في الداخل، يوجد عمق في الصورة، الأشياء تبدو مجسدة على نحو طبيعي، وليست مسطحة كما في الشاشات والصور والكتب. هذا لأنه يعرض صورة لكل عين، والمرء لا يدرك هذا، لكن هذا ما يجعله يرى الأمور بشكل جديد، مثل الواقع، فنحن نحدد أبعاد الأشياء لأن لنا عينين ثبتهما الخالق سبحانه في تباعد محسوب يدعم قدرتنا على تجسيد الأشياء وتقدير تباعدها عن بعضها. كما يحوي الجهاز، على كاميرا مثل العينين، حيث أن لها عدستين، فتصور صوراً ثلاثية الأبعاد. بالطبع، لا يمكن عرض هذه الصور على شاشات لا تدعم التقنية، مثلا لا يمكنكم رؤية الصور بشكل ثلاثي الأبعاد لو نشرتها على المدونة. لكنها صور رائعة جداً، لو مثلاً صورت شخص وهو يمد كوباً أو ورقة في إتجاهك، فسترى بوضوح أن الكوب يتقدم جسمه بواقعية.
الأمر مثل أجهزة التلفاز الغالية التي يعلنون عنها في الجرائد وفي كل مكان، لكن الفرق أنكم لا تحتاجون إلى نظارة خاصة لرؤية الصورة بشكل ثلاثي الأبعاد، إنما عينيكم فقط.
اسم الجهاز ننتندو ثري دي اس 3DS.






أما المؤسف، فهو أن جوالي، غير العزيز، قد فسد. وقد مللت حقاً من مشاكله مؤخراً. وقد قذفت به، لأول مرة، قبل فترة حينما لم يسمح لي بالرد على مكالمة. لكني أعتمد عليه كثيراً، أراجع وأسجل من خلاله مواعيد أمي وأبي ومواعيدي الخاصة، وأصور وأرفع الصور من خلاله، وأكتب الملاحظات، وأتابع بريدي أولاً بأول وأكتب عبره الرسائل، أقرأ، أراسل، أمسح الوثائق (سكانر)، أصور النصوص المهمة...
الآن، أنا عالق مع جوال أمي السابق، حيث كلما بحثت عن اسم ظهرت لي صديقتها والجارات؛ أم العتيبي وأم عبدالرحمن، وأم السماثى (جيراننا حينما كنا في فلوريدا... خخخخخخخ أمزح). كما لم أعرف كيف أخفض الصوت، فيكاد أن يسكت قلبي من الفزع حينما يجيب أحد مكالماتي.


المشكلة هي أني لا أجد جوال أريد أن أشتريه. يوجد جوال موتورولا الجميل، الذي وضعت فيديو عنه قبل فترة طويلة، لكنه أصبح قديماً الآن، ولن يستقبل بالتأكيد تحديثات جديدة، هذا إذا كان قد استقبل أبداً. ربما لو يظهر الجيل الجديد منه أشتريه. لكن ما أتمناه حقاً هو أن تعرب اتش بي أجهزة بالم بري وتنزلها هنا، أتصور بأني سأشتريها بلا تفكير، خصوصاً أني أرغب بتجريب شيء مختلف عن الأندرويد الآن.


أخذت الجهاز الجديد اليوم إلى العمل، وقد ذهل الناس به، إنه لشيء عجيب حقاً. يصعب وصفه على خلاف التقنيات الأخرى، ولا يتعلق الأمر بمجرد وجود الشاشة ثلاثية الأبعاد. إن دمج الجهاز في بعض تطبيقاته بين الواقع والخيال لهو أمر جدير بجعل أكثر الناس بروداً يحترقون حماساً وذهولاً. لم يسلم مديري من التأثير. وبالواقع، أثار مديري العزيز إعجابي لأنه لم يحتج الكثير من الشرح ليدرك الأمور، وقد أدرك أمر الشاشة مباشرة من تلقاء ذاته. جعلت مديري يصطاد السمك على مكتبه، وفوق أوراقه التي تنتظر توقيعه. الجهاز يضيف إلى الواقع في هذا التطبيق أشياء تتواجد على نحو واقعي وملموس في الشاشة، بحيث يشعر المرء بأنها بالفعل جزء من المكان. كانت الطاولة تتموج بواقعية وكأنها مغطاة بالماء، بينما قرب المدير الجهاز لينزل السنارة في الماء، ثم بعدما علقت سمكة سحبها سريعاً واصطادها. في تطبيق آخر، يظهر في الطاولة ما يشبه الحفرة، تطل فيها من مختلف الاتجاهات، وقد تضطر للوقوف والدوران لترى ما بداخل الحفرة وتجد أهدافك، وستقاتل تنيناً ينبثق من الطاولة على نحو مذهل.
حينما يترك المرء الجهاز في جيبه، في وضع شبه مغلق توفيراً للطاقة، يحسب الجهاز خطوات المستخدم، ويكافئه بنقاط عليها، يستفيد منها في فتح بعض الألعاب والتطبيقات. مشيت كالعادة إلى الصلاة وحزت سبع نقاط. في وقت لاحق، تركت جهازي في جيب زميل في المكتب كثير الحركة، لكن حد المرء في اليوم الواحد من النقاط هو عشرة.


ربما الميزة التي تصعق المرء في بدايات الجهاز هي التصوير والعرض ثلاثي الأبعاد وكل ما يتعلق بها. أخذت الجهاز اليوم معي إلى كلية الآداب، وقمت بتصوير بعض الأشياء، أعمدة متباينة البعد، نباتات مصطفة بأحجام مختلفة في الخارج، وأشياء من هذا القبيل. منظر الصور مذهل، ترى العمود الأقرب أقرب بالفعل، في مقدمة الشاشة، بينما الأعمدة الأبعد في عمق الشاشة، كل حسب بعده. لا أكف عن الشعور بالذهول. تصوير الناس والأشياء الصغيرة بالقرب منك أمر مذهل، لكن ليس بروعة تصوير أشياء كبيرة ومتباعدة. 
أتمنى لو كان بإمكاني عرض الصور عليكم كما أراها، فلا يمكنكم تخيل الأمر مهما حاولتم. لكن لو عرضتها لرأيتوها مجرد صور عادية، لأن شاشاتكم ليست ثلاثية الأبعاد.
أتمنى أن يصدر تطبيق لتبادل الصور على الجهاز، سيكون رائعاً.
كما يوجد تطبيق جميل للتعديل على الصور على نحو غريب، يمكنك رفع اجزاء من الأرضية مثلاً.
إني نادم لأني ترددت في شرائه.












قلت لزميلي بأني رأيت شخص يشبهه كثيراً في القسم الآخر، فقال بأنه "حلو" مثله بالتأكيد. ضحكت على ثقته، ما شاء الله، ولكنه سأل مازحاً لماذا أضحك؟ فهو يسمع كثيراً بأنه وسيم. كان يمزح، لكن ليس لدي شك بأنه صادق ما شاء الله. كدت أن أهتف:أتمنى لو كانت لدي مثل هذه الثقة.










وصلتني دعوة محولة إلى ندوة تنظمها السفارة النمساوية، عن مسلم نمساوي قديم ترجم معاني القرآن إلى اللغة الانقليزية.
هي بالأساس للصديق الألماني الأصغر، لكنه لا يستطيع الحضور، وقد تحدث مع المنظمين بشأني ويقول بأنهم لا خلاف لديهم بحضور شخص ذكي (مجاملة). الموضوع مثير للاهتمام، لكن، حتى أنا لا أدري إن كان لدي الوقت، فمعظم النشاط يدور في الصباح، حيث اكون في العمل.












مفاجئة غريبة وأمر غير مخطط له. سأذهب غداً إلى القصيم مع بعض أهلي. لا أدري لماذا شعرت بالإثارة، هل لأن الأمر لم يخطط له، أو لأنه يتعلق بمهمة غير اعتيادية في تلك الوجهة؟ فنحن ذاهبون لرؤية طبيب ألماني هناك. أخذت إجازة قبل خروجي من العمل، بعد الساعة الرابعة.  بالعادة، يأخذ التخطيط وقتاً طويلاً قبل أي رحلة بالنسبة لي.











في القصيم...
حيث يطيب الهواء...
ويخفق أخيراً القلب السقيم...
حيث تحل ذكرى محل الخواء...
ذكرى أناس باتوا الآن تحت الأديم...





أكتب الآن من المستشفى القصيم، حيث رأينا قبل قليل دكتور ألماني لأجل أمي وابنة أختي، الاثنتين اللائي ذهبنا بهن إلى الهند للعلاج العام الفائت... هل مرت سنة؟.


الطبيب الألماني يعرف الدكتور الألماني الكبير صديقي، بالواقع، يبدو أن كل الأطباء الألمان يعرفونه هنا، وسيرونه قريباً حسبما فهمت. كان الدكتور ودوداً، حتى قبل أن ندخل عنده. رأيته عند الاستقبال، حيث ابتسم لي، ولابن أختي حمودي(ذو الشعر الخويتمات)، الذي خاف منه واختبأ خلفي، مما أضحك الطبيب. وجدته مصراً على الابتسام والتأمل. بدا رجلاً مريحاً بشكل عام. حينما دخلنا عنده لم أتوقع أن يكون هو من سيرانا، توقعت آخر يبدو جافاً.
صافحني، وقال شيء باللهجة الشعبية لم أدركه تماماً. ثم سألتني ممرضة آسيوية إذا ما كنت أتحدث الانقليزية، حينما أجبت بدا أن هماً انزاح عنها، إذ كانت الممرضة الأخرى الألمانية لا تتحدث العربية. بدا أنه لم يسمع هذا، حيث سألني بعد قليل نفس السؤال. تحدثنا عن ما جئنا لأجله، ولم يبدو أنه قادر على مساعدة ابنة أختي لاختلاف التخصص، لكنه عرض أن يراسل مركزاً في ألمانيا، ليرى الإمكانيات هناك. بعد قليل سألت عن طبيب أوصاني الدكتور الألماني الكبير للسؤال عنه والسلام عليه، والقول بأني صديقه كتوصية. ذلك الدكتور ليس موجوداً، شرحت له سبب سؤالي، عرف دكتوري، وبدا عليه الاهتمام. تحدثنا قليلاً حول الأمر.


غادرنا ببعض التوصيات، والطلبات كذلك. يجب أن نقوم ببعض الإجراءات الطبية هنا في الرياض، لأرسل إليه النتائج.


حينما خرجنا من المستشفى، كان الليل قد حل، وكنا سنغادر القصيم.
في طريق العودة ونحن نعبر  الطريق الصحراوي، دخلت من النافذة رائحة صدمتني؛ كانت الصحراء تعج برائحة جميلة، يخيل للمرء حينما تحاصره أنه عرف طيب العيش أخيراً. وبدون أدنى مبالغة، كان الأمر كما لو كنا في داخل محل للورد والزهور ونحن في سيارتنا. قالت أختي بأن هذه على الأغلب رائحة الخزامى التي تنبت في هذه النواحي. كانت رائحة سحرية. ولم أتخيل أبداً أنه قد يكون للصحراء رائحة جميلة، ناهيك عن أن تكون قوية. أعلم بوجود بعض الأزهار الرائعة، لكن، كنت دوماً أتخيل بأن رائحتها محدودة فيها. ما كنت أتخيله دائماً هو التنزه في مكان أخضر مزهر في الخارج، والحصول على نحو المتوقع على نفس التجربة التي حصلت عليها في صحراء القصيم على نحو مداهم.


في طريق العودة، كما في طريق الذهاب، أشغلت نفسي بالجهاز الجديد، وقد بدد الوقت جيداً. أحضرت معي لعبتين، وهما ليستا مما أصدر خصيصاً للجهاز، حيث لم تعجبني الألعاب التي صدرت حتى الآن وقررت أن أنتظر ألعاب القادمة، إنما لعبت ألعاب الجهاز الذي سبقه، وهي تعمل عليه.


كانت رحلة ممتعة ومفاجئة، سوا أني تعبت لأني لم آكل جيداً.












قبل فترة، جلست مع صديق أجنبي من آسيا، وأتينا على ذكر قوات درع الجزيرة المرسلة إلى البحرين. قال بأنه رأى بالتلفاز مقابلة مع دبلوماسي سعودي، سأله فلسطيني لماذا لم يرسلوا قواتهم إلى فلسطين طالما أرسلوها إلى البحرين. قال بأن الدبلوماسي السعودي قام بما هو صحيح، ولم يجب. بينما يعتقد هذا الصديق بأن السؤال مشروع؛ لماذا لم نرسل قواتنا إلى فلسطين؟. قلت له بأن هذا سؤال غبي بالواقع، فليس لأن فلسطين في ورطة نضحي بأنفسنا وحياتنا بغباء لأجل العاطفة. كما أنهم لا يستحقون المساعدة في الوقت الحالي، حاولنا أن نساعدهم كثيراً من قبل، لكنهم لم يساعدوا أنفسهم، ولا حيلة لنا بهم. جمعناهم في مكة للإصلاح، وتظاهروا بالاتفاق، وعلى الأغلب أنهم عادوا بأموال طائلة معهم، وما أن وصلوا إلى هناك حتى استئنفوا القتال فيما بينهم، والتنكيد على قومهم البائسون. كيف نساعد أناس هكذا؟ كيف نساعد أناس لا يريدون مساعدة أنفسهم، منقسمون ويكذبون؟ هل نجابه دولة نووية، ومن خلفها أمريكا، لأجل أناس هكذا؟ مع علمنا بأننا لن نربح؟ هل نضحي بحياتنا ودولنا في الخليج لأجل لا شيء؟. وأضفت بأنه لا يمكن مساعدة أناس لا يريدون مساعدة أنفسهم، ويريدون أن يتكلون عليك في كل شيء، لهذا، السؤال غبي. نحن نتدخل حيث يمكننا التدخل وتصحيح الأمور، ولا ننتحر ونضحي تضحيات بهذا الحجم لأجل أناس ليس لديهم نية للاتفاق أو مساعدة أنفسهم.
اقتنع برأيي، أو هكذا أبدى، قائلاً بأنه بالفعل لا يمكن مساعدة من لا يريد مساعدة نفسه. كنت أعلم منذ البداية بأنه يريد أن يسمع رأيي في موضوع جدلي كهذا كالعادة. العاطفية الكبيرة لدى بعض العرب، والحقد لدى بعضهم الذي يريد منفذاً مهما كان ليتسرب منه حتى لو كان ضد أخيه، هو ما يسيء لقضايا الناس. ليس من المنطق أن نخسر كل شيء مرة واحدة، ونحن بوضوح الطرف الأضعف في المعادلة في كل النواحي المنطقية. إننا نساعد بقدر ما نستطيع، فيجب أن تصفى النوايا أكثر من جهة الآخرين المتربصين، وأن يقدروا الواقع أكثر بعيداً عن الحقد والكراهية التي لن تنفع أحداً. يجب أن يكونوا منطقيين فيما يتوقعون، وأن يقدروا ما يحصلون عليه معنوياً ومادياً.


إن الكثير منهم يعلق علينا كل مشاكله ومآسيه وفشله بعدما لاحظ وجودنا. لكن، لماذا لم يلاحظ وجودنا أحد حينما كنا نحن الفقراء، التعساء؟.


ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ كنت اليوم أطالع خبر عن اعتقال رئيس ساحل العاج قباقبو أخيراً، بعد المشاكل التي اختلقها وعضه على الكرسي الذي لم يعد مشروعاً له. مر زميلي الملتزم الكبير، وقال بأنه يستغرب بأني أصبحت أطالع السياسة، قلت بأن بعض الأخبار تشد انتباهي أحياناً. قال بأسلوب متوقع: "كان فتحت على الأقل على أخبار ليبيا". قلت بأن المرء يمل هذه الأخبار، وإلى ماذا سينتهي أمرهم، كيفما انتهى؟ سيعود بائساً ومنقسماً. بالطبع، أتمنى أن يزول الألم والظلم عنهم، وأن يتخلصون من مشاكل القذافي، لكن، ماذا بعد ذلك؟. لو استمر القذافي بالتواجد وامتلك زمام الأمور من جديد، فسيعودون كما كانوا وأسوأ، ولو ذهب، فلست أتوقع بأنهم سينجحون بتنظيم أنفسهم وإنهاء المشاكل. قلت بأن العرب ومن لف لفهم من أفغان وباكستان مقرفين في هذه المواضيع، لا يصلحون للمساعدة أو الاهتمام بهذه الطريقة طالما كانت أساليبهم هي ما نرى. صدمه الأمر. وسألني ألست عربي؟ ألست مسلم؟ قلت بأنه يعرف هذا دون أن يسأل، لكن المرء يجب أن يقول الحق ولو على نفسه، فما بالك بالآخرين. نحن بطبيعة الحال نستخدم صيغة العرب حينما نريد التحدث عن الناس خارج الخليج لمجرد التفريق والمقارنة، مع علمنا بأننا أصل العرب. وأخبرته بأن ساحل العاج أصلاً مليئة بالمسلمين، فلماذا لا نهتم بها؟ هل لأنهم سود؟ ولماذا لم يفتح أحد فمه حول ما حدث في غينيا؟ ولا دولة مسلمة قالت شيئا بينما النساء هناك يغتصبن في الشوارع، والرجال يقتلون بالمئات، هل لأنهم لا يشبهوننا؟ هل إذا كانت المرأة سوداء لا تكون مسلمة؟ او حتى إنسانة؟ هل لا تكون عفيفة؟ هل يجب أن يحدث الأمر في افغانستان أو خلافها لنهتم؟. صمت. وأضفت بأن كل من ساعدناهم من قبل أثبتوا بأنهم لا يستحقون المساعدة، أنظر إلى أفغانستان بعد طرد الاتحاد السوفييتي ماذا صنعوا ببعضهم، حروب وفساد ولواط واستغلال للأطفال، وانظر إلى فلسطين التي جمعنا قادتها لدينا للإصلاح وخدعونا وأحرجونا وكأننا لم نفعل شيئاً. يوجد نماذج جيدة نسبياً مع ذلك، وإن كانت بطيئة التقدم، مثل البوسنة، أنظر كيف استقروا بعد الحرب، هؤلاء يستحقون المساعدة. وأضفت بأن الأجدر في رأيي هو الالتفات إلى أمم، مسلمة بالطبع، لم نلتفت إليها من قبل، بعدما أثبت من اهتممنا بأمرهم فشلهم وعدم جدارتهم. لم يعجبه كلامي كالعادة، وقال بأن دماغي مغسول، وأنه سيعيد غسله. قلت بأن هذه وجهة نظري، ودماغي ليس مغسولاً، كما أن له وجهة نظره.


بطبيعة الحال، لم أكن أبداً ضد مساعدة الدول العربية، لكني ضد تركهم ليفعلوا ما يشائون بمساعداتنا، أو أن تكون مساعداتنا بلا مقابل. إن كنا سنساعد بالمال، فيجب أن نمتلك الشجاعة لنوصل المال إلى من يستحقه وبالطريقة الصحيحة، فإن لم نمتلك الشجاعة فلا حاجة للمساعدة. وإن كنا سندعم تنمية الآخرين، فيجب أن يتم الأمر تحت إشرافنا المباشر، ورقابتنا، وبشروطنا ورؤانا، وبمقابل تسهيلات لنا إن كان ذلك مهماً، وأن لا ندع الأمور في أيد جاهلة أو أنانية لا يهمها صالح شعبها، فإن كان لا مناص منهم، فلا حاجة للمساعدة في هذا الوقت.
إني أتمنى الأصلح لكل المسلمين على الإطلاق، لكني لا أعتقد أن الكثير من متخذي القرار والمؤثرين في تلك الأقطار هم ممن يعتمد عليهم أو يجدر احترامهم. ما نحتاج أن نلتفت إليه ونقيمه هو حاجة تلك الشعوب المسلمة والعربية الحقيقية، والمناقشة والمجادلة حول حاجة تلك الشعوب، وليس وجهات نظر فئة صغيرة وغير جديرة منها.









سعد الحوشان