الأحد، 13 مارس 2011

غيبوبة اختيارية "2" (أحداث،دورات،قصة قصيرة،ألماني)

بسم الله الرحمن الرحيم










لطالما نظرت إلى أمي كنموذج ومقياس لأمور كثيرة. لقد شكلت مفاهيمي لأمور كثيرة في الحياة حينما كنت صغيراً، ولا زالت تلك المفاهيم التي توصل إليها عقلي الصغير في ذلك الوقت تؤثر على رؤيتي للحياة، ولا أبالغ إن قلت بأنها مفاهيم صاغت وتصوغ حياتي حتى الآن.
في نظري، كانت أمي دائما مثال على الحزن والبؤس، كانت كتلة من الحزن. كما كانت مثال على الطيبة الكاملة، والتسامح، واستيعاب المخطئين بمسامحتهم. بالإضافة، كانت تشكل مفهوماً بديلاً للتدين في نظري؛ ففي حين كان غالب الأشخاص المتدينين في حياتي حينما كنت صغيراً قساة وأنانيون، ولا زالوا على الأغلب، كانت هي شديدة التدين، ولكن تبدو وتتصرف على عكسهم، وكانت مشغولة بأمور مختلفة، وكانت رحيمة وتحض على الرحمة. صرت أتخيل دوماً بأن التدين الحقيقي إنما يمر عبر الحزن الدائم، والفضيلة الحقيقية إنما هي تضحيات بلا مقابل.
ولا زلت.
إني أقل تديناً الآن من أي وقت مضى مع الأسف. وبما أن التدين الذي كنت أسعى إليه هو تدين أمي، هل أنا أكثر سعادة؟ ليس بالضرورة.
هل أدعو لنفسي بالحزن، أي بالهداية؟. أم أدعو لنفسي بقسوة القلب، أي بالهداية أيضاً؟.
أعلم الآن يقيناً، مهما كان ما أحسست به، أن التدين والهداية ليسا حزناً ولا قسوة قلب بالضرورة، عليه، أعتقد أنه يجدر بي أن أدعو لنفسي بالهداية فقط.
كما أرجو أني لن أكون قاسي القلب أبداً. أما الحزن، فلا أحتاج أن أدعو به، وهو مما لا يدعى به أصلاً، ففي أبلغ حالات سعادتي، أعلم بأني حزين بالأساس، هذا ما أنا عليه.
على الأقل، لا زلت أحاول أن أكون رحيماً، أن أكون طيباً وإن لم أسامح طوال الوقت. إن حياتي لم تعد تسمح بخطأ الآخرين علي كي أسامحهم في أغلب الأحوال، فلم يعد من آخرين حقاً، لم يعد سوا القليل من الناس حولي، القليل من الثقات، ولم أعد أطمح منذ زمن بعيد بقرب أحد، مع استثناء واحد، وقد حصلت عليه.








لدي الكثير مما يجب علي القيام به، وربما بأسرع مما أستطيع بالواقع. سيارتي الأثيرة (والوحيدة) أصيبت بعطل مفاجئ منذ فترة، وهويجعلها لا تعود إلى الوراء مباشرة حينما أريد ذلك، بل علي أن أنتظر لفترة قد تصل إلى ٥ دقائق، وقد لا يطاوعني القير كذلك. وبذهابي إلى ميكانيكيي المفضل (وسوريي المفضل بالواقع)، اكتشفت أن الأمر لن يكون سهلاً تماماً. أرسلني لمتخصص يعرفه في منطقة بعيدة من المدينة، وهناك قيل لي بأن الإصلاح يستنزف الوقت والمال. أما سبب الخراب؛ فهو الحظ ببساطة. هكذا قال: الحظ. هذه الأمور تحدث هكذا فجأة، وأراني بضع سيارات بنفس الحالة وأسوأ، وأراني كذلك بأن الزيت المسئول عن هذا الأمر في سيارتي وضعه جيد وسليم، إذا فالأمر حظ. بالطبع، ورغم شيوع المشكلة، إلا أن الضمان لا يغطيها لدينا للفترة الكافية ككل دول العالم كما فهمت من أخي. لم أفاجأ بصراحة.
ماذا بوسعي أن أفعل؟ اقترح الميكانيكي السوري أن أعود إليه وأتجاهل الحلول التي طلبها المتخصص، حيث بدت غير منطقية إلى حد ما. يريدني الآن أن أشتري قير مستعمل، وهذا أمر لم ينصحني به شخص آخر، قائلاً بأن القير المستعمل لا يعمر حتى حينما يكون صالحاً، بسبب توقف السيارة لفترة طويلة، أو لأي سبب مجهول. أما شرائه من الوكالة فهو جنون كما وصف لي، وأنا أرجح الجنون في التعامل مع الوكالة عموماً (عبداللطيف جميل، وهذه آخر سيارة سأشتريها من عندهم).
ما العمل الآن؟ يقول أخي بأن علي أن أذهب إلى محلات متخصصة بالقير، وهو يعرف بعضها. أشعر بأني أرعى مريضاً.
أتمنى أن أتمكن من إصلاحها بأقل خسائر ممكنة، لا أشعر بأنه من المعقول أن أدفع الكثير لأن القير فسد دون خطأ مني.






أخيراً، انتهت إجازة منتصف العام للطلاب. وهذا خبر جيد، فسأتمكن من النوم أخيراً كما يجب بعد اسبوع من العذاب، إذ تحول منزلنا إلى ما يشبه محمية وحوش صيّاحة. صحيح أن الطريق إلى العمل سيعود إلى الازدحام، لكن لا بأس، فالنوم أغلى. . صحيح اني استمتعت  بصحبة محمدين، لكن الآخرين كادوا أن يميتوني بإزعاجهم وقلة إحساسهم.
لا أحب منزلنا صدقاً، حتى حينما يكون هادئاً، لا أحبه، لا أرتاح فيه، مسألة نفسيه ربما، لا أتقبله كمنزل.




ذهبت اليوم لقص شعري. وبينما الحلاق السوري يقص فيمنتصف المهمة، علق قائلاً: شعرك ثقيل مرة ما شاء الله!. فقال زبون تحت يدي الحلاق الآخر: طاح شعر الرجال!!. يمعنى أن الحلاق سيصيبني بعينه. ضحك الجميع. بالعادة، يتعامل مع شعري الحلاق الآخر، هكذا حظي، دائما ما يكون هذا مشغولاً حينما آتي. لكن أتذكر قبل فترة، حينما كان لوحده في المحل، علق على كثافة شعري بالمقدمة، أعتقد بأن شعري يعجبه، وهذا أمر نادر لدى الحلاقين. غالباً ما يعجب الحلاقون بشعر أنفسهم، فيقولون: لا لا يصلح ما تقول؛ لو كان شعري لربما أصبح ممكناً (!!). قال هذا لي حلاق أردني قبل زمن طويل.












مر قبل يومين عميد عمادتنا السابق، وهو دكتور أدعو الله أن يريه أيامه. ربما كان جيداً للبعض، لكنه أساء إلي وظلمني انتصاراً لدكتور آخر. السبب؟ ربما فقط لأنه دكتور مثله، ولن يضر إن كان أيضاً من نفس المنطقة، فكليهما من الحجاز. بعدما ظلمني بوضوح وبلا حياء، وبجرأة قال بأنه سيوقف شكواي هكذا، وإن كان لدي ما أريده فلأذهب إلى ديوان المظالم، وبعدما صار بعد فعلته هذه ينظر إلي بازدراء حينما تواتيه الفرصة، ويضحك بصبيانية، أستغرب الآن أنه لديه الجرأة لأن يلقي السلام بملئ فيه. رأيته في البداية في الطابق الأرضي أمام المصاعد، ثم تواجهنا في الأعلى حيث أعمل، في ممر يخلو إلا منا. نظرت إلى عينيه وأنا أمشي، وقال بترحاب غريب وصوت مرتفع، وكأنما يجرب: سلام. وكان سلام مبتور لسبب ما، ربما كان يريدني أن آتي إليه وأسلم؟ لكني عبرته وأنا أنظر إليه، ولم أجب سلامه. سمعته يمضي إلى مجموعة من الناس ويسلم عليهم. أخبرت مديري، الذي كان مطلع ومعايش لذلك الظلم، ولما أخبرته أني لم أجب السلام، أحنى رأسه وضحك. لن يلومني، لأنه يعرف. بالواقع، يسهل علي عدم رد السلام على الأشكال الخسيسة، ولدي فلسفة ووجهة نظر في الأمر، كنت قد تحدثت عنها في المدونة قبل زمن طويل.
هي باختصار أن المسألة تربوية؛ هؤلاء البشر حينما يعاملهم المرء وكأنهم لم يقوموا بشيء خاطئ، فإنهم سيصدقون هذا حتى لو كانوا يعتقدون في السابق بأنهم أخطأوا. هم يريدون مبرراً لما قاموا به، أو لا يريدون له أثراً على الأقل. ولكن حينما يرون أن الناس تتأثر بأفعالهم، وتحكم عليهم وتعاملهم على أساسها، قد يبدأون بالتفكير. وحينما يعاملهم المرء وكأنهم لم يخطئوا، بأي عذر كان، فإنه يساهم بتردي أوضاعهم، وظلمهم لآخرين. يتعذر بعض الناس بأنهم هم أنفسهم طيبون، وعاقلون، ومشغولون بأنفسهم بحيث ليس لديهم وقت لاتخاذ المواقف هذه تجاه الظالمين، لكن هذا فقط لأنهم يبحثون عن الترفع  داخل الهزيمة، وهذين ضدين. كان زميل لي قد قال بغباء وقلة ذوق بأن اتخاذ مواقف كهذه أمر سخيف، فمن سيربي العالم كله. لهذا كنت دائماً أقول له بأنه يربي عضلاته على حساب عقله، لكنه لن يفهم أبداً. لا يتعلق الأمر بالحقد، لا يتخذ المرء المواقف التي يعتقد أنها صحيحة على سياق ما أذكر هنا لأنه حاقد بالضرورة، لكن لأنها مسئولية.







تم قبولي في دورة في الجامعة، تستمر لمدة يومين، وهي عن إدارة الوقت. اليوم كان الأول، ولم يكن جيداً. الكل رجال راشدون، لكن يستغرب المرء من وصول الكثير من الناس إلى هذا العمر دون أن يعرفوا متى يتكلمون ومتى يصمتون، وما يمكن أن يقال وما لا يقال بأي حال من الأحوال. كما أستغرب لسطحية الكثيرين في الدورة، وضعف قدراتهم الفكرية، وقدراتهم على التنسيق والتواصل والتهذيب. رأيت الكثير ممن لا يراعون التفاصيل في تعاملهم مع الغرباء. والأسوأ من كل هذا؛ وجود ذلك الملتزم من الإدارة المالية، الذي يصعب أمور الناس ويسيء التعامل معهم. جلس إلى جانبي ملتزم من عمري، والكثير من هؤلاء يتجاهلونك حينما تكون غير ملتزم من فئتهم العمرية. لكن لا يهم، لقد اعتدت على هذا منهم. ربما سيتعلمون التصرف على نحو أفضل مع الوقت، حينما يضطرون للتعلم.
كان هناك رجل كبير خلفي، ملتزم وتبدو عليه التقليدية الشديدة. كان يتحدث بثقة غريبة عن أمور غير مطلوبة، تضعه في موقف لا يرجوه له أحد بالتأكيد، لكن يبدو أنه يعاني من علّه. وهو جلف التعامل، وحشري كذلك، أعانه الله على نفسه. تسائل المدرب؛ ما هي باعتقادنا أسباب الطلاق المتزايد؟ أجاب الرجل الملتزم:"الدشوش!." قد يكون للدشوش دور بشكل ما، لكنه أمر مضحك استخدام الدشوش كعذر بعدما أصبحت القنوات ذات التوجهات المحافظة تأتي عبرها مثل المجد. بالإضافة؛ كان حكم مطلق وغريب، وفي غير محله.
عموماً، كان الخروج سهل عن مجال الدورة، فالكثيرين فاقدين للقدرة على التركيز، وآخرين من أهل منتصف العمر يريدون استملاح أنفسهم وكسب الإعجاب والسيطرة على مجال الحديث باستمرار كالعادة.
ما وجدته محزناً، هو أنه حينما طلب منا تشكيل فرق من كل بضعة موظفين مع تعيين قائد، اتجه الجميع إلى تعيين الأكبر سناً كقادة. بدا الأمر كعينة صغيرة لأسباب فشلنا التلقائية.
لم أستطع المشاركة جيداً في النشاط، فقد فشلت بالتواصل، ثم كفيت.



حضرت اليوم التالي للدورة، نصفه الأول كان سيئاً، ونصفه الثاني كان أفضل إلى حد ما، لكني لا أعتقد بأني استفدت. ربما جرتني لا مبالاتي إلى المشاركة، عكس ما يتصوره المرء منطقياً. فقد صرت لا آبه كثيراً بالكيفية التي سيفهم فيها من أتواصل معهم ما أقول، خصوصاً أني أرجح أنهم لن يفهمون أكثر من نصفه، لأنهم لا يفكرون بما يقول الآخر قبل أن يجيبون عليه. المدرب المصري مسكين، يضطر للتعامل مع بعض الشخصيات الغريبة بصدر منشرح، ما أصبره. على أني كدت أن ألتهمه حياً في سياق تمرين أعطاه لنا، حيث طلب من الجميع تحديد استفادتهم من الوقت خلال أدائهم لمهامهم بالنسبة المئوية، أكثر الناس تراوحوا بين السبعين والثمانين، أنا وبضعة أشخاص قلنا تسعين. الملتزم في المالية قال ستين، مما حاز إعجاب المدرب، لكني أرجح أنها عشرة، وهذا كان ليكون أفضل، حيث أنه لو عمل لأكثر من 10 بالمئة من وقته لتعطلت كل أعمال الناس بسبب غبائه. المهم أن المدرب قال باستفزاز وسخرية مفاجئة: هل تريدون أن تخبروني بأنكم جيدون إلى هذه الدرجة فعلاً؟ قلت وريح الشراسة تتخلل صوتي: ولما لا؟ ما المشكلة يعني؟. فوجئ الرجل، وتدخل شاب آخر مبرراً سبب ارتفاع النسب بأن الأغلبية شباب، وإنتاجيتهم أعلى، فنظرت في تلك اللحظة إلى الملتزم في المالية لأرى وقع الملاحظة عليه، ولم يكن جيداً. البقية صمتوا، فبرر المدرب قنبلته بأنه أراد أن يستفزنا، فمن صمت فقد أعاد النظر في اعتقاده وصدق إجابته، ومن تكلم فهو واثق، ومن بين الأسباب فقد دعم بالحجة. تسائل، لماذا بعضنا شعر بالاستفزاز؟ وكان يعنيني، فأجبت بأن السبب هو أنه يقدح بمهنيتنا جميعاً هكذا، بينما طبيعتنا وظروف عملنا تختلف. بعد ذلك، لاحظت بأن تركيزه علي ازداد نوعاً ما.
لكن الدورة لم تكن موفقة برأيي. وأزعجني كثيراً تصويرنا بلا اهتمام بآرائنا بالأمر.





كنت في المستشفى يوم السبت، أطوف على بضع عيادات لتحديد المواعيد. في أحدها، في الدور الأول من المبنى الجديد، دخلت ووجدت رجل أسود، ضخم الجثة، مرتب الهندام، يغني للناس الجالسين في تزاحم، ويعلو وجوههم الوجوم. كان صوته جيداً، لكن كان الأمر الطاغي هو أنه مريض نفسي بوضوح. قال لي الرجل السوداني الطيب في استقبال العيادة، وهو واحد من حوالي خمسة موظفين فقط جيدين بالمستشفى، أقول قال وهو يكبت بصدق وجدية ابتسامة: الله يشفيه. أمنت على دعائه. حالما انتهت محاولته لتسجيل الموعد، إذ لم يتمكن لإقفال العيادة، وهممت بالمغادرة، قال الرجل الأسود لأحد الجلوس: صورتني؟؟ احذف احذف!!. رد الشاب ذو الهيئة المتعبة والمريضة: لا ما صورتك. لكن الرجل الأسود تحرك في إتجاهه، وبدا الأمر غير مريح، إذ لا يدري المرء بماذا سيأتي. كان الشاب يبدو متعباً جداً. لكن الأسود فاجئني بأنه غير طريقه، ووقف في الممر. كانت هناك منذ البداية امرأة طاعنة بالسن، ضئيلة الحجم، تستلقي على كرسي متحرك حوِّل إلى ما يشبه السرير بتنزيل ظهره على وضع مستلقي. كانت تبدو شديدة المرض شفاها الله، وكانت صامتة لا تأتي بحركة غير تقليب عينيها، الدامعتين من فرط الشيخوخة، بالمكان. وكانت معها امرأة كبيرة تهم بدفعها، وتناديها: يمه، إذ أنها ابنتها التي ترافقها بالمكان. تعاون رجل وممرضة بفتح الباب على مصراعيه للسماح بمرور العربة، بينما سأل الرجل الأسود الضخم ببهجة خفيفة المرأة: هذي أمك؟؟. أجابت المرأة: ايه هذي أمي. كانت وكأنها تجيب طفلاً، فمن الواضح أنها لاحظت حالته. لما تحررت العربة واتجهت إلى الخارج، استوقف الرجل الأسود العربة؛ ومال بجسده الضخم جداً، بكل حنان ورقة؛ وقبل المرأة العجوز، التي ازدادت ضآلتها بالمقارنة، على جبهتها قبلة حنونة، لا أدري إن كنت قد رأيت قبلة أصدق منها قط. ثم مضت المرأة تدفع أمها بعدما رفع الرجل رأسه وذهب. شعرت بتأثر شديد، تأثر يسيطر علي حتى الآن بعد أيام، أمام هذا الطفل الكبير، وهذه العجوز التي لا أدري إن كانت مدركة. كانت شابة صحيحة في يوم ما، وكان من الممكن أن يكون هو شاباً الآن، يتحرى المألوف والتقليد في حياته اليومية، لكنه مجرد طفل طاهر القلب محبوس في ذلك الجسد اللافت بضخامته.
لماذا ازداد عدد المرضى النفسيون الذين يعانون من علل جسيمة؟ أو هل الأمر أننا بتنا نخالطهم أكثر في بعض الاماكن، بينما يشاهدون في أماكن أخرى تسكنها فئات معينة؟ لماذا هذه الفئات مهمشة هكذا. الكثير من السود مهمشون، منسيون في أماكن سكنهم التي يخيم عليها الفقر والجهل، منسيون إلا من التهم والإزدراء.








أقرأ أحياناً في سياق ما أقرأ عن أصدقاء يعيشون في أماكن متباعدة، ويستضيفون بعضهم من وقت إلى آخر. كم أتمنى لو كان لدي أصدقاء من هذا النوع، وأنه يمكنني استضافتهم، ويمكنهم استضافتي. سيكون من الرائع أن أذهب إلى مدينة أخرى وأبقى لدى صديق لأسبوع مثلاً، ثم يزورني هو بعد فترة.
لكني بالأساس لا يسعني استقبال الناس في منزلنا هذا لأسباب كثيرة. 








تلقيت في الأسبوع الفائت مكالمة من شخص أجنبي، يسألني إذا ما كنت سعد الحوشان؟ تصلني إتصالات كهذه من وقت إلى آخر، وبالعادة تكون من هنود أو باكستانيون لتوهم وصلوا إلى السعودية للعمل في الجامعة، وقد أوصاهم أصدقائهم ممن لديهم رقمي بالاتصال بي حينما يريدون السؤال عن شيء. لكن هذه المرة كان الرجل صينياً، وهو لا يمت للجامعة بصلة. أخبرني بأنه صديق الدكتور فلان، الصديق الصيني الطيب الذي غادر السعودية بلا نية للعودة، وبلا وداع. قال بأنه يحمل هدية من ذلك الدكتور، أرسلها معه من الصين، وأنه يود أن يراني ليسلمها إلي. شكرته بذهول، لم أتوقع شيء كهذا، وقد غمرتني الفرحة أن ذلك الصديق يقدرني إلى هذا الحد. اتفقنا على اللقاء، وكان يعمل في شركة ليست بعيدة عن منزلنا. ذهبت إليه، ووجدت المبنى حيث يعمل أنيقاً، وفخم إلى حد ما. حينما جاء ليقابلني، رأيت فيه شاب بشوش، ضم يدي بكلتا يديه حينما تصافحنا، وحياني بحرارة. كان أنيقاً، وهيئته تذكرني بما نراه عن هونق كونق بالتلفاز. أعطيته صحن صغير، رتبت فوقه معجنات صنعتها أختي تواً. ومضينا ليعطيني هديتي. أراني فنيلتين مغلفتين، إحداهما صفراء بمقاس متوسط، والأخرى حمراء بمقاس كبير. الأحمر هو لوني المفضل، كما أن السعة أفضل من الضيق. شكرته، وحرص على أن أحملها بكيس أنيق تابع لشركتهم، قائلاً بأن الدكتور أوصاه أن يتأكد بأن يكون الكيس أنيقاً!. يا للطف. تمنينا أن نلتقي لاحقاً، وأكدنا على الأمر، ثم مضيت. في المنزل، أخرجنا الفنيله، وجدتها أديداس أصلية بلا شك، جميلة جداً، مخرمة بطريقة غريبة من الخلف، وطبع عليها في الزاوية العليا من الأمام: الصين. أعجبت أهلي كثيراً. أرسلت إليه أشكره، وأخبره من ضمن ما أخبرته بأن الهدية جائت في وقتها، حيث أنوي الانضمام إلى نادِ رياضي، فبدا على نحو غريب وكأنه يشعر بي ويشجعني. أخبرته بأني تمنيت لو لم أشكل عبئ عليه بهداياه الجميلة، وأنه يفسدني بتدليلي هكذا.
رد قائلاً بأن علي أن لا أقلق من ناحية قيمة الأشياء، فالأهم لديه هو أن أكون سعيداً. وقد بدا سعيداً بفكرة انضمامي إلى ناد رياضي، وشجعني على الأمر.
سعدت جداً بأنه لم ينسني، لقد ذهبت منذ فترة طويلة الآن...












اليوم، وصلني اتصال يخبرني بأنه يمكنني حضور الدورة التي تم قبولي بها كاحتياط!!. والله إني لا أدري لماذا قبلوني إحتياط أصلاً، فلو كنت أختبر نفسي لما قبلتها على أدائي في ذلك اليوم، صحيح أنهم فاجئوني بالمقابلة وأخذوني على حين غرة، إلا أني أستبعد أنهم وضعوا هذا في اعتبارهم. لكن الحمد لله، لم أتوقع أن كلمة احتياط لها معنى كبير، أنها قد تقود بالفعل لحضور الدورة، أنا سعيد جداً، وقلق جداً. اتصلوا بي حينما توقفت تماماً أمام المنزل عائداً من العمل. فرحت، واتصلت بعد قليل بمديري لأخبره بأني أريد إجازة لأنه تم قبولي بالدورة. كنت قد أخبرته من قبل بأمرها، ولحسن الحظ لم ينسى فهو كثير النسيان. شعرت بأنه لا يرغب تماماً بأن آخذ الإجازة الطويلة هذه (شهر)، ولكنه لن يرفض طلبي. ربما يريدني أن أراجع نفسي. فقد قال بهدوء، بأنه يمكنني أن آخذ الإجازة إذا كانت الدورة "تهمني كثيراً". قلت صادقاً بأنها تهمني كثيراً بالفعل. سألني إن كان لدي رصيد إجازات؟ فقلت بأن لدي الكثير. فسأل مستنكراً منذ متى أعمل؟ لعلي أقدم منه ولكني لا أقول؟ ضحكنا معاً. 
سيكون الدكتور الألماني قد عاد إن شاء الله. هل سيعجبه الخبر؟.


حظرت اليوم أول محاضرة، وقد انضممت إلى مجموعة من الشباب الذين أتوسم فيهم الخير، وكانوا لطفاء جداً. أرجو أن أكون مفيداً ضمن فريقهم، أتمنى ذلك من كل قلبي.
كان يوم طويل، كان علي الذهاب إلى القسم حيث أعمل، وأتقدم بطلب إجازة، وأسمع بعض التعليقات المازحة على شكلي بدون غترة، ثم أذهب إلى المستشفى (كتبت المستشقى، بالخطأ، لكن بالصح على ما يبدو)، وأتعامل مع الصيدلية وعيادة، ثم أعود أدراجي إلى الجامعة. كنت سعيداً عموماً.








واجهتني مشكلة جديدة مع القوقل دوكيومنتس، لم يعد يقبل التعديل على الملفات الكبيرة. وحتى البدائل من نفس النوع ترفض تخزين التعديل، ولا أدري ما المشكلة، كان في السابق يقبل.








اليوم، وبينما أنا أنزل الدرج في الكلية التي تعقد فيها الدورة، رأيت زملاء العمل يمشون في جماعة غير مألوفة، في ذلك المكان البعيد عن عمادتنا، فوجئت، وفرحت برؤيتهم، حينما رأوني فوجئوا بي، وألقوا ضحكة جماعية وأنا أنزل الدرجة بسرعة وأسألهم بنفس الوقت ماذا يفعلون هنا؟! ربما كان لشكلي بدون غترة ونزولي التلقائي وكأني في منزلي دور في ضحكهم. أخبروني بأنهم قادمون للخضوع لاختبار وظيفي، لكن ماذا أفعل أنا هنا؟!. أخبرتهم بأني في إجازة لمدة شهر، لأخضع لدورة. فوجئوا، سألوا عن الدورة، وأفهمتهم بأنه ليس لها علاقة بالعمل، تساءل بعضهم بذهول: "أخذت إجازة عشان تحضر دورة؟!، ما شاء الله عليك". ينظر البعض لهذه الفعلة على أنها مبالغة، ولم أكن أعلم صدقاً قبل أن أتخذ هذه الخطوة أنها ليست خطوة طبيعية حتى ووجهت باستغراب الناس أكثر من مرة. طلب مني زميلي في القسم، الذي كان ضمن المجموعة أن أدعو الله لهم.
في القاعة، استغرب زملاء الدورة من مجموعتي حصولي على إجازة لأجلها، وأعتبر أحدهم أن الأمر مضيعة، حيث كان يجب أن استمتع بالاجازة وأسافر. أخبرته بأني لا أسافر بالعادة، ولعلي استمتع هنا. هم شباب صغار، أصغر مني، بعضهم تخرج مؤخراً، والآخرين على أبواب التخرج. فوجئوا بتاريخ ميلادي (المذكور أعلى المدونةضمن معلوماتي)، ربما خدعتهم هيئتي، حضوري بحقيبة وبلا غترة. 






أحب الأطفال الصغار، والناس الذين يحبون الأطفال على نحو خاص كذلك. أفكر دائما ببعض أبناء إخواني، وأشتاق إلى نهاية الأسبوع لأراهم وأقبلهم.










برقر كنق، حيث أذهب كل يوم تقريباً لشرب الكولا بشكل أساسي، ركبوا انترنت لاسلكي لديهم، في خطوة لم أتخيل إطلاقاً حدوثها. الآن، لا فائدة حقيقية لجهاز الراوتر والكونيكت الذين أحمل، ولم أستفد منهما كثيراً. لكني متردد بالتخلص منهما مع ذلك. الانترنت في المطعم سريع جداً، خصوصاً أني الوحيد الذي يستخدمه. لم يكونوا يعلمون، حينما بشروني الأصدقاء العاملين في المطعم، أن الانترنت يحتاج إلى كلمة سر. قيل لهم بأنه بلا كلمة سر، لكن بالواقع، مثل بعض المقاهي، يمكن للمرء الدخول إلى الشبكة اللاسلكية، لكن تصفح الانترنت يحتاج إلى كلمة سر واسم مستخدم، إما يحصل عليها المرء من المطعم نفسه، أو باستخدام كلمة السر من الاتصالات الخاصة بالدي اس ال المنزلي من باقة شامل. وهذا سيعطل الكثير من الناس عن الدخول والاستفادة من الخدمة التي لا أعتقد بأن أحد سيعرف عنها أصلاً في المطعم فهم لم يعلنوا الأمر والناس لا يتوقعونها ليسألوا كما لو في مقهى.
توقف الانترنت لديهم عن العمل منذ 3 أيام... يا الله، حظي زي وجهي.


ثبت أن الانترنت في المطعم لا يمكن الاعتماد عليه..










يا الله، كم أجد صعوبة بالكتابة، وكأنما لا يوجد شيء لأكتب عنه. أعتقد أني تعودت على الكتابة عن الدكتور الألماني العزيز كثيراً، ولما غاب لبعض الوقت لم أجد شيئاً. فالكثير مما يوجد أعلاه هو مستقطع من التدوينة السابقة قبل نشرها، إذ وجدت أنها طويلة أكثر من العادة 
فقررت تأجيل بعض الأشياء لهذه التدوينة.
لكني سأرى الدكتور بعد غد إن شاء الله، وبعد ذلك سأنشر التدوينة.






أرسلت إليه اليوم قصة قصيرة كتبتها منذ زمن طويل، وترجمتها له مؤخراً على نحو سريع. أرسلتها لأني اعتقدت بأن قراءتها ستستنزف الوقت حينما نلتقي، وقد لا يكون أمراً ملائماً قراءة قصة طويلة نسبياً في جلسة. واخترتها لأنها قريبة إلى قلبي على نحو خاص. أخبرته بأن يقرأها حينما يجد الوقت، وأنا لا أتوقع أن يقرأها قبل أيام، لكني فوجئت برده مباشرة، إذ قرأها حالما وصلت ورد. قال بأنها مؤثرة جداً ومثيرة في لحظات، إلى جانب ما يعتقده عنها من أمور أخرى.
لكنه تمنى لو انتصرت الأخلاق العالية في النهاية، وأن الأخت انتصرت على الأخ. عموماً، أترككم مع القصة، وإن لم يكن لديكم اهتمام بقراءتها، فابحثوا عن الخط الأحمر في نهايتها. هاهي:


بسم الله الرحمن الرحيم






غيبوبة اختيارية




الكثير من الأمور اختيارية في الحياة، ونحن لا نحسبها كذلك. مهما بدت بعض الأمور عفوية، أو لها ظروفها الخاصة، تظل مدفوعة باختيار، بحافز ما، مهما قلنا. نحن نختار أن نضرب أو نصافح بذات اليد، نختار أن نقبل أو نشتم بذات الشفاه، نحب أو نكره بذات القلب. تبدو أحياناً بعض الأمور بلا خيارات، أو وكأننا لا نملك خيار آخر، ولكن بنفس الوقت، نظل نحاسب على ما حدث لأننا اخترناه بالحقيقة، وإن بدا وكأنه الخيار الوحيد، فهذا لأنه فقط يبدو لنا وكأنه الخيار الصائب.


بيد أن بعض الأمور لا تبدو وكأن الخيار متاح فيها أصلاً، ولكن هذا لأننا لا نتخيل بأن أحد سيختارها أصلاً، مثل الغيبوبة. يختار الناس الموت أو الاستمرار بالحياة في حالات معينة، ولكن لا أحد يختار مثل هذا الحل الوسط بالعادة.


كان هناك واحد اختار هذا الخيار. وكانت لديه أسبابه التي لم يعد تعدادها مهماً.


كان الجميع حوله بعد اختياره بساعات. قلقين ومذهولين مما جرا، غير مستوعبين لحقيقة الأمر. بعضهم حسب أن الأمر لن يطول.


" ولكن يا دكتور كيف يكون هذا؟ غيبوبة؟! وليس مجرد إغماء؟ ولكنه لم يشك من شيء طوال حياته!" 


هكذا قال أحدهم وهو ينظر بحزن إلى صاحب الخيار الذي يغمض عينيه برفق، ولكن بعزم داخل نفسه.


" ليس من المعقول بأنه لم يحدث أي شيء له يتسبب بهذا. هذا الشاب لا يعاني من أمراض مزمنة قد تتسبب بما حدث... ولكن هل تعرض إلى حادث ما؟ ربما ضربة بالخطأ على رأسه؟"


أنكر الجميع بأصوات عالية للذكور وبهمهمات للإناث للمرة العاشرة ربما. ولكن الجميع كان يعلم، دون أن يحكي، بأن الغيبوبة حدثت خلال مراقبة أخيهم لهم وهم يتشاجرون بعنف شديد على أمور تافهة، كانت لحظة يأس بالنسبة له، وقد كان يتهم بسبب هدوءه ومسالمته بأنه بارد الإحساس. كان سكوتهم سكوت خوف غير مبرر، خوف غير مسئول، وكانت لديهم تلك السمعة والخوف المرضي عليها.


كان يجلس على حجر كبير، قد شق بطن الأرض باتجاه البحر، ولم يصل إليه البحر، ولم يصل إلى البحر ذلك الحجر. بدا كل شيء ناقصاً، البحر لم يمتد على طول البصر، ويشوبه بياض في نهايته القريبة وكأنما لا يدري ما بقيته، الحجر الذي يجلس عليه تعلوه جسآت غريبة خشنة، وهو ملون بطيف ألوان في بعض أجزاءه، والرمل جميل، ليس شديد الرطوبة من حيث تمسه أقدامه وهو جالس على الحجر. كان صدره وبطنه عاريان، ولم يرتد سوا بنطال أبيض قصير بالكاد يمس ركبتيه. كان هذا بنطاله المفضل، والشيء الوحيد الذي أخذه من الواقع، إلى جانب نفسه. من حيث يجلس، كان يمكنه سماع إخوته من بعيد وهم يجادلون الطبيب أكثر من كونهم يستفسرون منه، وكأنه بغيبوبته قد أوقعهم بورطة، قد أشغلهم عن ما هو مهم  بالحقيقة. سأم حديثهم الذي لم يدركه كله، ووجده إزعاج، أصوات تتعدى الحد المؤدب المريح. فقام من مكانه مبتعداً بهدوء، وهو ينظر إلى البعيد، إلى نساء وأطفال يلعبون على الشاطئ، وضحكات الجميع يجلبها إليه الهواء، هادئة وجميلة. ذهب إلى الجميع، وتعرف عليهم، وكان قد سماهم قبل أن يصل إليهم فتسموا بتلقائية. الأطفال الأكبر بقليل يرتدون سراويل قطنية صغيرة، والصغار عراة، والنساء بدين وكأنهن يرتدين شراشف بحضوره بشكل مريح. كان الجميع لطيفاً، ولم يعبأ أحد منهم بوجوده على نحو استثنائي، وكأنه وجد هناك لدهور. أشارت إحداهن إلى نخلة عربية جميلة، وجدت بشكل لا يبدو خاطئا على الشاطئ، وقالت له بأن يزور تلك المرأة الجميلة الحلوة الجالسة تحتها. هناك وجد أمه، وقد كان يعلم بأنها متوفاة بالواقع. ولكنه سعد بوجودها هنا، وصدقه. قبلها وسلم عليها، وابتسمت له ابتسامة واسعة حتى بدت أسنانها، وكأنها تجامله وتدلـله. سألته عن أحواله بحب واضح كما كانت تسأل حينما كانت حية. جلس إلى جانبها، وظلا يتكلمان بهدوء، وبرِضا، وهذا ما لم يدعه أحد يحدث لهما حينما كانت على قيد الحياة. 


طال الأمر أكثر مما توقع الجميع. سنوات وسنوات حتى راح الشباب، دون أن يعلم هو. تباعدت الزيارات وإن لم تنعدم، وقلت الأسئلة وتكررت صيغتها حتى باتت بلا قيمة. حج عنه من حج، واعتمر الصغار عنه بطلب أمهاتهم، أما بعض الآباء فذبحوا له الأضاحي بالعيد بالتناوب، ودعا الله له بالشفاء بعض جيل غير الجيل الذي جعله يختار خياره.


تباشر الجميع ذات يوم باستيقاظه، الجميع، من عرفه ومن لم يعرفه من أبنائهم. انتشر الخبر أسرع مما يحدث بينهم بالعادة، كان حرصهم استثنائيا هذه المرة، وليس كحرصهم المتخاذل حين الدعوة إلى المناسبات، أو التبشير بالأحداث الطيبة المعتادة. 


كان شيء ما دفعه إلى الاستيقاظ، شيء جعله يعقد العزم على رؤية الواقع مرة أخرى.


تجمع الجميع حوله بالتدريج، في غرفته التي تكاد أن تكون مظلمة لألا يؤذي النور عينيه اللتين عاشتا في ظلام سنوات طويلة. سمع أول الحضور يتأسون بصمت على شبابه الضائع، وسمع همسات حزينة تحكي عن هذا العمر. ولكن حينما يتضح انتباهه تنقطع الهمسات وتواجهه الابتسامات وتضغط الكفوف على يديه بمحبة. سلم عليه أطباء شباب وضحكوا ببهجة، ودفعوه للابتسام بضعف. قال أحد الأطباء لإخوته الذكور خارج الغرفة، وأخت أنثى واحدة أصرت على السماع، بأن أخيهم يحتاج إلى تأهيل كامل، وربما لن يستعيد بعض قدراته، ولا يدرون حتى الآن عن مدى إدراكه لحقيقة وضعه. وحثهم على معاملته برفق، وإجابة أسئلته بروية، وعدم تعريضه للصخب والانفعالات، أو العدد الكبير من الناس. عاد الجميع حوله الآن. كان بعض أبناء وبنات إخوانه وأخواته ينظرون إليه بفضول، وبعضهم الآخر ينظرون إلى بعضهم. حكا أحد الإخوة تعليمات الدكتور بصفاقة أمامه، وهو يحاول بفشل أن لا يكشف كل ما قال الدكتور، وهو يحسب أن أخيه لا يفهم بشكل جيد. لم ينتظر حتى يتكلم فيما بعد، وكان سوء التدبير والحماقة طبع في معظم العائلة. لم يأبه، ولكنه قلب نظره بالجميع، ينظر للشباب والشابات الصغار، والقليل من الأطفال الذين أصر بعض إخوانه على جرجرتهم معهم إلى المستشفى بدافع التدليل. شد انتباهه شاب هزيل، في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره على ما يبدو. حلو القسمات، ينظر إليه باهتمام وتأثر. لم يعلم هل يكون خال هذا الولد أم عمه، ولكنه علم بأنه يشبهه، وشعر بأن هذا الولد قد سمع هذا كثيراً. فكر وقد تعود على طريقة غريبة بالتفكير، اعتباطية بالتعبير في غيبوبته:" هذا الولد حلو مثلي، يشبهني، قد يكون مسكيناً مثلي". هذا ما عناه الطبيب عندما تكلم عن إعادة التأهيل. أخرجتهم الممرضة ليرتاح حبيبهم جميعاً الآن. وخرجوا بعدما طبعن النساء والأبناء قبل على خده ذو النكهة الغريبة، نكهة الغياب الطويل.


عندما حضروا في اليوم التالي وجدوا هيئته أفضل بكثير، وقد قص شعره بشكل جيد وسرح فصار مليحاً، وزينت لحيته التي رشقها بعض البياض في أماكن مختلفة، فصارت قصيرة كما فضلها، ولكن لم يسمح له، بلطف، بالنظر إلى المرآة، مع إعلامه بأنه غاب طويلاً عن الوعي. بدا أمام الداخلين إليه وهو على سريره كعصفور جميل في عشه، ولكنه عصفور شائخ هزيل. كان الشاب الجميل يجلس قريباً منه الآن، وقد تجرأ ولمس يده. جلست قريباً أخته الكبرى التي صارت عجوزاً الآن، وابتسمت له طوال الوقت. تحدث الجميع حوله، وتكرر كثيراً قولهم السمج المفضوح بطريقتهم الثقيلة: "لا لا طيب إن شاء الله طيب". كانت نيتهم سليمة، ولكن لم يكن تعبيرهم عنها مؤثراً. قالت أخته الكبرى برقة حينما صمت الجميع للحظة:" سيطيب حبيبي قريباً، ويخرج من المستشفى ليقيم لدي، أخته حبيبته منذ أن كان صغيراً، أليس كذلك يا قلبي؟". ولكن أحد الإخوة الذكور، الذي كان له شكل عصبي، قال بصرامة ووقاحة:" لن يقيم لديك، أنت أكبر من أن ترعيه بالشكل المطلوب". تحرك الأخ الأكبر بما يوحي بأنه سيدلي بدلوه، وهو رجل مظهره يتوقد عزيمة وصرامة رغم كبر سنه ، وقال بثقة:" سيقيم لدي أنا، أنا أكبركم وأنا بمقام والده". انبرت أخت صغيرة نسبياً لتحتج بصوتها الرنان المثير للتوتر وقالت وهي تشير إلى أختهم الكبرى:"لست أكبر منها، هي من ربانا وهي من اهتم لأمرنا وهي حتى من زوجك، إنها أمنا بالفعل". كل هذا الجدل الذي يجري أمامه لم يكن بعد قد نفذ إلى مستوى فهمه وإدراكه، ولكنه استوعب أنهم يختلفون بشده، وأنهم لا زالوا يكرهون بعضهم. وكرد على هذه الأخت، زمجر شاب صغير بالثامنة عشرة من عمره وهو يصرخ بتحامل دفين على عمته، آخر من تحدث: "وما شأنك أنت وهو لن يقيم بحال عندك؟، إنك وراء كل خلاف وكل مشكلة بالعائلة، إن كانت هذه هي أمك فهي لم تحسن تربيتك". بقيت العمة المسكينة تنظر مصعوقة إلى ابن أخيها، وقد ألجمت وقاحته لسانها، وبدا بأنها لا تستطيع الرد لتجربة خاضتها في وقت سابق بخصوص ردة فعل إخوانها حين يتعرض أحد ما أبنائهم بشيء. وكان هذا ما استوعبه صاحبنا المسكين، إنهم ينقلون أمراضهم، كراهيتهم وغضبهم، وضاعتهم وقلة حشمتهم إلى أبنائهم، فلا أحد من هؤلاء الرجال، وحتى والده، قد أوقف هذا الشاب عند حده، أو أقام أدنى اعتبار للعمة. " يكفي!! بالله عليكم يكفي!! ليس هذا موضع ما تقومون به!" هكذا قال الشاب الصغير، شبيه صاحبنا، وهو يقف فجأة، وينتفض بانفعال، كان ولدا استثنائيا، لا يجرؤ شاب بعمره أن يتصرف مثله، ولكن أي الشباب عركه وسط كهذا حتى فقد الرهبة ممن أكبر منه. اختلطت المشاعر والأحاسيس لدى صاحبنا محل النزاع عندما وجد أنه لا رجاء بإخوانه، وأنّ أنين شديد مروع هو أول ما سمعوا منه بعد استيقاظه، وهو ينظر بذعر إلى كل مكان. لم يكن خائفاً منهم كما تخيلوا، ولكن لأن أمر ما دهمه، كانت عضلاته وأعصابه ونفسه، وجسمه وروحه ككل، على ضعف شديد بعد سنوات من عدم الحركة. صاح الجميع وجرى البعض إلى الخارج ليستدعوا الممرضات، جاء فريق منهن لأهمية الحالة، وأخرج بعضهن أقاربه بجلافة، كان آخر من خرج هو الشاب الصغير ذو الرابعة أو الخامسة عشرة، وهو ينظر إلى صاحبنا بخوف عليه لم يعش مثله من قبل، رغم أنه لم يعرفه إلا ليوم واحد، وقد كان خاله بالواقع.


لم يتح لهذا الرجل الاختيار هذه المرة، إذ اختاره غياب من نوع آخر بعد يوم من خياره الأخير،  غياب لا رجاء في الاستيقاظ منه. 






تمت بحمد الله


______________________________








لا أطيق انتظار الغد، حيث سأقابل الدكتور. إنه صديقي الوحيد بخلاف أمي وأخواتي. هو الأكثر مقاربة خارج المنزل لاهتماماتي ورؤيتي للحياة. وهو الشخص الوحيد الذين يهتم لشأني بصدق خارج المنزل. إنه الصديق الصدوق، وأفضل صداقة حضيت بها في حياتي. حضيت بصداقات جيدة، رغم أنه لا يحضرني غير واحدة، لكنها كانت مختلفة، كنت أحب ذلك الصديق لطيبته وقلبه الكبير، لكن فكرياً، وروحياً، كان بيننا حاجز كبير، أو مسافة طويلة.
الدكتور الألماني هو الصديق الذي لطالما حلمت به منذ أن كنت طفلاً صغيراً. بوسعي أن أقول: أتمنى لو عرفته قبل زمن طويل. لكن، قدري أن أصادقه بعد كل ما مررت به، ربما لأكون ما أنا عليه، بسيئاتي وحسناتي. إنه اللقية التي تركها الله سبحانه لي في طريقي، مكافئتي على صبري، وعزائي عن خيبات أملي، ومعيني على وحدتي، وغربتي الداخلية.
هل سيمن الله عليه بالإسلام يوماً ما؟.  سيكون يوم سعيد حتماً.








هل يمكن أن يشكل شراء حذاء أزمه لأي أحد؟ إنه يشكل أزمة لي منذ زمن. عموماً، إن كل ما أشتري تقريباً مما قد يدوم معي لبعض الوقت يشكل أزمة. لا زلت غير قادر على إيجاد حذاء جميل، وحينما أجد يفسد الأمر حينما لا يتوفر مقاسي، أو أجد علة لم أنتبه لها. إن وضعي مزري إلى حد بعيد.








أعتقد بأني اخترت العنوان المناسب للرواية من بين الترشيحات. تظل المشكلة التقنية هي المراجعة النهائية لها، حيث أواجه مشكلة مع خدمة مستندات قوقل. سيعين الله.










قابلت الدكتور اليوم، وياله من لقاء. أحضر لي القبعة التقليدية التي طلبت، ولم تكلف كما توقعنا، وقد وجدتها جميلة جداً، بملمسها المميز والحبل الجميل الذي يحيط بها. الاكسسوار الإضافي، البروش الجميل الذي يثبت بها والمحلى بنقش لوجه غزال بقرنين جميلين وشعر يجعله كالريشة، جاء به الدكتور على حسابه كهدية. بالإضافة إلى حلويات جميلة قضينا عليها بسرعة في المنزل أنا وأختي، وصفتها أختي بـ"المرعبة" لفرط لذتها.
لقد افتقدت رؤيته كثيراً. لم أعتد منذ زمن غابر أن يكون لي صديق أراه بشكل دوري.
كنت قد أحضرت إليه خبزة تقليدية، خبزتها له أمي من طحين البر مع بذور الشمر، وقسمتها إلى نصفين تحت طلبي، قسم بلا إضافات، وقسم مقطع ومفروك بخلطة من الطماطم والبصل والسمن. عجنت أمي الخبزة مع حبوب الشمر العطرية، وأنا أعلم بأنها من ألذ المخبوزات التي قد يتذوقها، مع أنه ألماني، وهم الأشهر بالخبز هناك.
أرسل إلي لاحقاً يخبرني بأن الخبزة من خارج العالم، وأنه استمتع بطعمها جداً. 
أما أنا، فأخبرته بأني سعيد بالقبعة، وأحببتها جداً، وأعجبت من حولي. وأخبرته بأنها أمنية طفولة تحققت أخيراً بفضل الله ثم بفضله.


تحدثنا حول مختلف الأمور كالعادة، وسعدت جداً حينما علمت بأن الفساتين أعجبت الطفلتين الصغيرتين، ووالدتهما، وهي ابنته. تكلمنا حول القصة القصيرة، التي يبدو أنها أشغلت باله بشكل ما. وكان مصراً على رأيه، كان يجب أن أجعل البطل يموت بعدما يثبت شيئا حسناً. لكني قلت بأني لا أعتقد بأن هذا أمر سليم أو صحيح، الطيبة والأخلاق الحسنة أشياء صعيفة وهشة، وقد لا تنتصر دائماً على القسوة، فهذا الواقع، ولكنها تظل موجودة، ويظل الأمل يصارع، حيث أن البطل توفي تاركاً خلفه ابن اخته الذي يشبهه، وهو من قد ينتصر للحق، أو ينجو بنفسه على الأقل. كان يضحك في بداية شرحي، فقطعت شرحي وسألته عما يضحكه؟ قال بأن طريقتي بالتعبير تعجبه، وطلب مني أن أكمل. في أحيان كثيرة أجد بأنه يضحك دون سبب واضح حينما أتحدث، لكني لم يساورني الشك أبداً بأنه يضحك علي، أو أنه يستخف بما أقول، ولن يساورني أبداً.


تحدثنا حول الطب هنا خصوصاً. أخبرته بقصة أمي حينما كانت حاملاً بي. كان وضعي في بطن أمي قد أصبح غامضاً فجأة، إذ توقفت عن الحركة، فظنوا بأني ربما مت. هناك، جائت ممرضة مصرية وقالت بأن الجنين (أنا) ميت، وأنه يجب إخراجي بالتوليد الاصطناعي. جاء طبيب غربي بصحبة مترجم، وأخبرته الممرضة المصرية برأيها، ولكنه فضل سؤال أمي، التي قالت بأنها تشعر بي أتقلب من جانب إلى آخر، ولكنها لا تشعر بحركة واضحة خلاف هذا. قال الطبيب الغربي بأن الجنين حي إذا، وطلب أن تترك أمي حتى تلدني. لكن الممرضة المصرية غضبت، إذ شعرت بالإهانة لأن الطبيب أخذ رأي أمي في الأمر (!!)، وتجاهل رأيها بالمخاطرة بالجنين. قالت هذا للطبيب بغضب واضح، ثم قذفت بقلم كانت تحمله بيدها على بطن أمي بشدة. طلب الطبيب مباشرة كتابة تقرير يفيد بما جرى، وأني لو مت، فإن الممرضة هي المسئولة، بسبب قذفها بشيء على بطن أمي، وطلب إبعاد الممرضة عن أمي في الحال. لكني بطبيعة الحال، لم أمت. حينما قلت هذا ضحك الدكتور، وقال بأن هذا الواضح، فهأنا أمامه، أحكي. قلت ربما لو حدث، لما اضطر للاستماع إلى هذري. قال بأني أستمع إليه أيضاً. أوضحت بأن الفرق هو أن حكاياته مبهجة، بينما حكاياتي أنا تجلب التعاسة لمن يسمع، وبالواقع، لا يوجد أحد خلافه ليسمع. كان رأيه هو أن التعاسة والأمور التي نمر بها هي ما يلهمنا للقيام ببعض الأشياء، فلو لم أمر بأمور صعبة، لما تمكنت من كتابة هذه القصائد والقصص. قال بأننا لو كنا دوماً سعداء لكان الأمر جميلاً، لكن لما قمنا بالكثير من الأمور.




خرجنا لاحقاً، كان أمامنا خيارين، إما أن نذهب إلى سوق لشراء حذاء لي، أو نذهب لشراء مؤونته من الطعام. الطعام أهم، رفضت الذهاب إلى السوق. لكن للأسف، انكسرت زجاجة زيت الزيتون بسبب سوء تدبيري، إذ حملته الكثير من الأكياس ولم أُقدر، وأطعته حينما قال بأنه لا حاجة لحملي الأكياس معه عند منزله. لكن ربما كان هذا للأفضل، قد أجد له زيت زيتون من الإنتاج المحلي، حيث بحثنا عنه بلا جدوى، فهو يفضل شراء الأشياء المحلية.


 هاهي القبعة على رأسي، وقد جلبت معها ضباب غابات الألب...
(والحرف اللي بالهوا بعد)








تعشيت مع همام اليوم، دعاني للعشاء للمرة الثانية على التوالي، ورفض تركي أدفع الحساب بالطبع، وهذا أمر محرج جداً. وما زاد الطين بله، هو أنه جاء بهدايا من الصين. شاي ياسمين بتغليف فاخر، وشكلين من الفطر الصيني المجفف، إذ يعلم بأني أحبه في المطاعم الصينية.
كان العشاء في مطعم تايلندي. لقد بدأت أفهم ذوقه جيداً، وهو مختلف إلى حد ما عن ذوقي. أتوا بمرق له رائحة نفاذة، وفيه قطع من السرطان والأسماك وما بدا أنه دجاج. شربت منها طاستين، رغم أنها بالواقع لم تعجبني. لكنه كان يتوعد بها، وكان علي أن أجامله وأن لا أشعره بالسوء. ثم جيء بلحم البط، وسلطة مسلوقة من الخضار الورقية، والأرز المقلي الذي لا يختلف عن الأرز في المطاعم الصينية. لحم البط أجربه للمرة الثانية، الأولى لم تكن موفقة، مع صديقي طلال البحريني حينما زار الرياض. أما هذه المرة فكان طعمه لذيذاً. إن لحمه غريب، أحمر، وقد تحسبه لحم بقرة لولا قوامه وشكله المختلف. إنه أقسى من لحم البقرة، والشحم يلتصق به بطريقة مختلفة ودقيقة من جهة واحدة، والشحم يبدو محتفظاً بدهنه وقسوته رغم الطبخ، فيسهل نزعه إلى حد ما والتخلص من الدهون. وهو رغم قوامه المتماسك ومرونته، لا يشبه لحم النعام، الذي يعتبر أقسى وأقوى، وأكثر خلواً من الدهون، وأقرب إلى العصب منه إلى اللحم لخلوه من الطراوة.
كان عشاء لذيذ عموماً، باستثناء الشوربة.


ثم دعوته إلى مقهى صدى التحلية، ليجرب حلوى السوفليه، لم أجربها منذ سنوات. وشربنا شراب السحلب معها، ولم يكن لذيذاً، كان مثل مهلبية غير ناجحة.


كنت محرجاً مع ذلك، إن أصدقائي يبالغون بتكريمي وهذا شيء محرج. كنت أنوي دعوة الجميع في الإجازة النصفية الفائتة، ولكن رغم أنها قصيرة إلا أن الجميع فر من البلاد فجأة.








في الدورة تسير الأمور على نحو متباين. يعتمد الأمر على جوانب كثيرة. المدرسين مختلفين، وهم يتبدلون حسب فصول المقرر. أحدهم كان جاداً ومفيداً حقاً رغم أن الفصول التي أعطاها لم تكن مفيدة كثيراً بطبيعتها. لكني فوجئت بفجاجة البعض بالتعامل. إن بعض الطلاب يتصرفون بمنة على منظمي الدورة لأنهم حاضرون!! يقول أحدهم للمدرس حينما طلب منه الانتباه بترجٍ مُحرج:" يلله يلله طيب بننتبه لك." هل تمنيت أن أصفعه؟. بالواقع، الكثير من الطلاب يتصرفون بضيق ويحاسبون المدرسين بالدقيقة حتى ينتهي الدرس. يقول أحدهم بعدما وعد مدرس آخر أن ينهي الدرس خلال ١٠ دقائق: "العشر دقايق تدبلت وصارت عشرين!!". كلنا كنا متضايقون بالواقع، لأن مادة الفصل والمدرس أحياناً لا يصلحون لما نريد حقاً، إلا أنه من الوقاحة والإساءة للصورة العامة أن نتصرف على هذا النحو.






مرضت في اليومين الأخيرين بشدة، ولم يكن هناك مقدمات، فجأة بدأت بالارتجاف وارتفعت حرارتي، وظللت طريح الفراش معظم الوقت. لم تكن أمي مقتنعة تماماً بأني مريض في البداية، حيث أنها سألت لماذا لم أذهب إلى الدورة؟ قلت بأني مريض جداً، فردت: أو بك نوم؟. كنت مريض جداً بالفعل. لاحظت لاحقاً بأن الأمر جدي، وأنه ليس مجرد عذر. تغيبت الآن ليومين  عن الدورة، الثلاثاء والاربعاء، وهذين اليومين قد ينهيان مشاركتي في الدورة... لكن الحمد لله أني تعبت الثلاثاء، فلو تعبت الاثنين او قبله لكان أملي قد انتهى تماماً باكمال الدورة. لم أذهب إلى طبيب، والدورة مضغوطة جداً إلى درجة أنهم قد لا يتسامحون مع غياب كهذا. أرجو على الأقل أن أشفى بسرعة، يا رب. خصوصاً أني يفترض أن أرى الدكتور الألماني غداً، وإذا ظللت متعباً، فلن أتمكن من رؤيته. هل سأتحسن غداً في الوقت المطلوب قبل اللقاء؟. لقد تحسنت بالواقع اليوم، إلى حد جيد، والحمد لله.
كم أكره المرض، لكن هل يحبه أحد؟!. يدرك المرء قيمة الصحة بقمة وعيه حينما يمرض.
لم أترك لأرتاح عموماً، فقد تسلطت المكالمات علي. وامتحنني دكتور أردني في الدورة يريد مساعدتي في القسم حيث أعمل، ولم يعلم بأني مريض لم أحضر الدورة حتى إلا في اليوم التالي. أرجو أن يكون قد تفهم عدم قدرتي على متابعة مشكلته كما يجب.
أعلم بأن حالي أفضل الآن، لكن لا أدري لماذا في النهار يكون حالي أسوأ.


أكتب بعد أيام، بعدما شفيت ولله الحمد. بيد أن نفسي لم تشفى إلى حد ما. لقد أثر المرض على معنوياتي على نحو غريب، ولم أعتده، ولا زلت أجر الأفكار المتعبة والهادّة في نفسي. إني أفضل عموماً، والحمد لله. في الدورة، لم يقولوا لي شيء، لعل الدكتور الأردني أخبرهم، لأن المدرس الآخر، الذي كان الجميع ينتظر دروسه، وهو على الأغلب من ساند تسجيلي في الدورة، سألني إن كانت صحتي أفضل الآن؟. هو شاب كويتي الأصل، أمريكي الجنسية. حينما رأيته لأول مرة لم أتمكن من تحديد هويته، فهو رجل طويل وجسيم ما شاء الله، وملامحه غريبة على أنها جميلة. فكرت بأنه ربما عراقي الأصل، أو ربما أردني، رغم أن كونه أردني أمر مستبعد، لكن من يدري. حينما ذهبت للتقدم لأجل الدورة، كلمته هو، وقال بأنه رآني في وقت سابق. أخبرته بأنه رآني على الأغلب في القسم حيث أعمل، فتذكر ذلك، وتذكر بأني الشاب الذي لاحظ بأنه يتكلم اللغة الانقليزية. أخبرته بأني مترجم بالواقع. أبدى اهتماماً بأمري، وسألني إن كنت أعرف شخص آخر من الحوشان، أخبرته بأنه ليس من أقاربي، ولكنه صديق أخي على الأغلب. فلأخي صديق من حوشان آخرين، من القصيم أيضاً، لكن لا ينتمون إلينا. الإشكال كان أن الدورة هذه المرة مخصصة لطلاب الجامعة. ولكنه بذل جهده لمساعدتي للانضمام، وأخذ بياناتي على نحو مستقل. لم أتوقع أن تثمر جهوده رغم أني قدرتها كثيراً، قدرت عفويته واهتمامه. مع ذلك، لم أتمكن من معرفة إلى أين ينتمي. قال في سياق حديثه: عَجل، يريد أن يقول: أجل. الكويتيين يقولون: عيل. أما الدمج بين النطقين فكان جديداً علي. فكرت إذا ما كان العراقيون يتحدثون هكذا؟ قد يكون عراقياً، فلو كان كويتياً لبدا سعودياً أصلاً. لاحقاً عرفت بأنه كويتي الأصل، ولكنه عاش في أمريكا لفترة طويلة، ولديه الجنسية. لم يخفى علي مع الوقت أنني على الأغلب انضممت للدورة بفضل الله ثم بفضل جهوده، فالمسئول الآخر عن التسجيل لم يبدو أنه كان راضياً عن وجودي تماماً. هل فُرضت عليهم؟ لماذا؟ لا أخفي بأني سعيد بالأمر، لكن هل أستحق هذا حقاً. حينما اتصل بي المسئول الآخر ليخبرني بأن آتي غداً لحضور الدورة، فرحت كثيراً. في الصباح التالي، اتصل الرجل الكويتي نفسه، الذي يكون اسمه الاخير اسم قبيلة عريقة، وبعد سلام قصير قال بالانقليزية بأنه لا يريد أن يطيل، هل علمت بأني قبلت بالدورة؟ وهل سآتي؟ أخبرته أني في الجامعة الآن، وشكرته على اهتمامه. لقد تعجبت وسعدت بأنه اهتم بالاتصال والاطمئنان للأمر. إني لا علاقة لي بصديق أخي، وحتى أخي  المعني لا علاقة له بشئون حياتي بالواقع، شأنه شأن كل إخواني الذكور.
أرجو أن لا أخيب الظن.




في الدورة، حصل موقف سخيف جداً. وفي ذلك اليوم عدت إلى المنزل بشعور بالانطفاء والتعاسة. كان الأمر أن مجموعة من الطلاب كانت تضيع وقت المحاضرة القصير بالجدل العقيم، ومحاولة استخفاف الدم وإغاضة الدكتور، وهو دكتور أردني طيب وبريء بخلاف الآخرين، وربما لهذا تجرأوا عليه كالأطفال. أضاعوا وقت طويل، وقد سئمت ومن حولي الأمر، فتدخلت سائلاً إياهم ترك المحاضرة تمضي. على نحو غريب، هجموا علي معاً بشراسة قائلين بأنهم يناقشون، ويوحون بأن لا دخل لي. كان سلوك طفولي. لكني لم أتوقف، وقلت بأنهم طرحوا وجهة نظرهم والدكتور طرح وجهة نظره والكل حر، ولسنا معنيين بسماع المزيد حول هذه النقطة، فللبقية حق من المحاضرة أيضاً ويريدون تعلم أشياء مختلفة. حاول الدكتور تهدئة التوتر بلا جدوى، فقد ظنوا تدخلي مهيناً لهم، رغم أن طلاب آخرين وقفوا في صفي أيضاً. حينما بدأ الدكتور بإكمال المحاضرة، صاروا كالعادة يتكلمون ويتمازحون، ويسخرون مني بوضوح لا يخفونه، ويطل أحدهم كل بضع لحظات من فوق الحاجز ليراني ثم ينزل. لما انتهت المحاضرة، سأل أحدهم الدكتور إن كانوا قد أضاعوا وقته؟ قال بطيبته بأنهم لم يضيعوه، لكن لكل وجهة نظره، وأن سعد، يقصدني، له الحق بقول وجهة نظره بالأمر أيضاً. قالوا بأن من حقهم النقاش، وإلا فسيكفي أن يبقوا بالمنزل ليقرأوا الكتاب بدلاً عن قراءة الدكتور للكتاب لهم (!!). تدخلت قائلاً بهدوء بأن من حق الجميع النقاش والسؤال، لكن ما قاموا به لم يكن نقاشاً، فقد كان جدالاً. كانت هذه إهانة أخرى حسب فهمهم، وصاروا بعد ذلك يحاولون استفزازي أحياناً. في اليوم التالي حينما دخلت القاعة لم يتواجد سوا واحد منهم، وقد رد سلامي الذي وجهته للكل كاملاً، وبما يشبه الحفاوة، لكني لم أنظر إليه. عرفت أنهم حاولوا جري مرة أخرى إلى نفس الموقف، لكن بعدما تبين حجم عقولهم، قررت أن أنأى بنفسي بقدر الإمكان. أحدهم على وجه الخصوص يقوم بتصرفات طفولية لم أتصور أن أرى شاب بعمره يأتي بها.




يصر زميل عزيز ضمن مجموعتي بالدورة، وهو ملح المجموعة، على التعليق على عمري على نحو مفاجئ ومحرج، أمام الآخرين حتى. كان قد انصدم أني أكبره بكثير، وهو يحسبني من عمره. وهذا شيء محرج. ليس فقط ما يقول (أحياناً يقول بأني "شايب")، إنما الأمر برمته، لا أحب مفاجئة الناس بحقيقة غير متوقعة حولي، أو تعليقاتهم حتى لو تخيلوا بأنها إيجابية. قال دكتور أردني ممن أجهدنا بتحدثه عن الأردن في الدورة، بأن عمري لا يبين على وجهي، بعدما سألني منذ متى أعمل في الجامعة. كان متفاجئاً. وفي ذلك اليوم خرجت ووقعت وشقت وجهي حديدة... لا، أكذب، لكني مرضت بالواقع، ولا أتوقع أن لعينه صلة بالأمر.
شكلي عموماً ليس صغيراً، إنما هيئتي قد تعطي إنطباعاً خاطئاً.
إني عموماً أسامح زميلي هذا على تعليقاته، حيث أن له قبول كبير لدي. وربما عدم هضمه للحقيقة يطيل من ذهوله منها.






اليوم كان استثنائياً إلى حد ما في الدورة. شارفت على الانتهاء، وكانت كل مجموعة تعمل على مشروعها الافتراضي. في مجموعتي، كل الأعضاء محبطون، لأن الدورة أتت مخيبة للأمر، ومضيعة للوقت. الفكرة جيدة، لكن التنفيذ سيء جداً عموماً. ضاع الكثير من الوقت على أمور غير مجدية، وانضغطت الأمور الأكثر أهمية ولم تقدم على نحو مفيد.
رأينا بعض الأشخاص يأتون بصحون في أكياس من محل معجنات وحلويات شهير، وقد تمنى زميلي خفيف الدم أنها لنا. لم أتوقع، لكنها بالفعل لنا. فوجئت، فسألت المدرب المتواجد في تلك اللحظة، وهو كويتي الأصل، سألته باستغراب ما المناسبة؟!. لم يبدو أن سؤالي مثير للإعجاب، لكني أردت أن أعلم، لا أن أذهب فقط لآكل. لكن بدا أنه لا يوجد مناسبة حقيقية، فقط اقتربت الدورة من نهايتها. أنبني زميلائي على سؤالي. ذهبنا إلى الغرفة الأخرى، في طريقي، صادفت اثنين من تلك المجموعة التعالية على الكل، وكان أحدهم من من رد سلامي بحفاوة قبل أيام، بينما الآخر هو ذو التصرفات الطفولية، وقد كان ماطاً شدقيه وكأنه ضبع. مررت وهما يتابعاني وكأنهما كاميرتي مراقبة. ألقيت بالسلام، فرد الأول السلام بحفاوة وصوت مرتفع. في الغرفة، علمت أن الشراكة الطلابية هي من أتى بالوليمة الصغيرة، إذ يفترض بأن الدورة خاصة بالطلاب مع بعض الاستثناءات التي أقع من ضمنها. ما لبثنا إلا قليلاً حتى جاء بعض المدربين. صافحنا أعقلهم جيداً، وهو اردني فلسطيني من جرش، ولما صافحني قال: "آه! سعد المترجم! انت تترجم بين لغتين والا بين لغة الإشار..." قاطع المزحة مسئول كبير في المركز الذي يعطي الدورة، وانشغل الجميع بالتحدث والأكل، بينما قدم العصير زميلي خفيف الدم في المجموعة، وهو شاب ملتزم من أظرف من قابلت في حياتي. كان أحياناً يعطي مزحات ثقيلة على المدربين، لكن حسن نيته لا حد له.
حينما فرغت، حملت صحني البلاستيك والكأس، باحثاً عن قمامة، لم أجد، ولكني لاحظت بأن الكويتي يراقبني بطريقة خفية، كان يريد أن يرى ماذا سأصنع بالصحن والكأس، إذ أني تجاوزت صواني الطعام على الطاولة. وجدت كيس في الخارج، تركت الأشياء فيه إلى جانب بعض القراطيس، ومضيت إلى كلية اللغات المقابلة، حيث أذهب كل يوم لشراء قهوة فانيلا تنشطني من المكينة.
تساءل قبل يومين الملتزم الظريف في المجموعة، إذا ما كنت قد ندمت على مشاركتي في الدورة؟. قلت بأنها لم تكن مفيدة، لكن لو لم أشترك بها لما عرفتهم. قلت هذا صادقاً من قلبي. وافقني، وقد سعد بهذه الإيجابية.
أرجو أن تكون لديهم نفس الرغبة التي لدي، أرجو أن لا تنقطع الصلات بعد نهاية الدورة.






أكتب بعدما انتهت الدورة، وكان هناك الكثير من الإحباط، لم أستفد منها، ولم يستفد كذلك الزملاء في المجموعة، وفوق هذا، صادفنا بعض التحطيم وعدم التقدير من مدير قاس في الدورة. أولموا لنا بالفطائر والكيك احتفالاً بانتهاء الدورة، وحتى في الحفلة لم يكف ذلك الطفل الكبير عن السخرية بي حينما لا أنظر، ثم التصدد حينما ألتفت!! كما لم يكف صديقه المقرب من التلطف تجاهي ومحاولة إفتعال المواقف. الشهادات كانت تحوي خطأ مطبعي، فسحبت لتعدل.
في اليوم السابق للدورة ذهبت تلبية لطلب همام إلى معرض لم أعلم عنه في البهو الرئيسي، معرض فيه لكل دولة من دول الطلاب الأجانب جناح، تقريباً لكل دولة. كان معرضاً رائعاً، ولكن كان ما يهم همام أن أذهب إلى جناح الصين. سألت همام إذا ما كان خالد في الجناح؟ قال بأنه هناك. يا لحسن الحظ، خالد هو الصيني الطالب الصيني الذي أسلم مؤخراً، وأجد أني أحبه كثيراً. ذهبت، ووجدت أن خالد أعطي مهمة بديعة في الجناح؛ كان يخط أسماء الناس باللغة الصينية على الأوراق، بريشة الخط الصينية التقليدية، والحبر الأسود القاتم. ما رأيته كان جميلاً جداً، جداً، لكن هل هو جميل لدى الصينيون أم لأني لا أميز المقاطع فقط وأراها كالزخرفة؟. حينما سلمت عليه كان منشغلاً إلى درجة أنه لم يتعرف علي مباشرة، ثم صاح عالياً، وترك يدي وأخرج ورقة، وخط عليها اسمي، كنت مستغرباً من ردة فعله، إذ لم أفهم أنه يكتب اسمي بالطبع. فرحت كثيراً حينما مدت إلي الورقة، ولكن أحرجت لأني سبقت الناس عن غير قصد.


تفرجت قليلاً فقط، لم يكن الوقت يسمح، وعدت.
لكن في آخر يوم، اقترحت على الزملاء الذهاب إلى المعرض بعد الحفل. كان الوقت متأخراً، وتلكأ البعض كذلك. حينما ذهبنا بالسيارات، رفض الحارس أن يدخلنا، جادلوه، ولكن قال إن كانوا موظفين فليدخلوا، وهذا قانون من عنده. بالواقع، كان المعرض في ختامه، وكان اليمنيون يعرضون فلكلورهم. لم أكلم الحارس، ذهبت لوحدي إلى خلف أسوار المعرض وأتصلت بزملائي فحضروا، يوجد مدخل مسدود بعلامة منع، وبأحواض دائرية فيها نخيلات صغيرة. أزحت عسيب نخلة عن طريقي ودخلت بصمت، كنا بجانب جناح بنقلاديش.
كانت الأجنحة تحزم أغراضها. لكني التقطت صورة برداء صيني ومروحة أعطاني إياها خالد، سألت إن كانت هذه المروحة للنساء؟ لكنه رد باستغراب بأنها لكل أحد، رجال ونساء. أمسكت المروحة كما قال لي، وصورنا زميلي صورة لعلها أفضل صورة ظهرت بها.




كان أخ مديري العزيز أبو عمر يعرض مع اليمنيون في فلكلورهم، وكان زفة للعريس، صورته وسلمت عليه، وقد لبس ملابس يمنية جميلة. أنوي أن أريها مديري لاحقاً.


افترقنا لاحقاً، إلى لقاء قريب إن شاء الله.






قابلت الدكتور الألماني اليوم مرة أخرى، بعد مضي أسبوعين دون أن نرى بعضنا.  كان متعباً بوضوح، ويعاني من صداع. لكن وضعه تحسن مع الوقت ونحن نتحدث. أخبرته عن الدورة وأخبرني عن عمله ومشاغله. بعد قليل شكرني، قائلاً بأني بطريقة ما أزلت صداعه. حاولت إقناعه بتجربة الكولا، ولكنه عدد لي مضاره، مع ذلك، جادلته في الأمر. سألني لماذا أريده أن يشرب الكولا؟ أخبرته بأن هذا لأني أعتقد بأنه يصيع على نفسه الكثير من المتعة حينما لا يتذوقه. ربما لم يتذوقه منذ أربعين سنة.
حينما كدنا أن نخرج، حدث الجدل المعهود حول دفع الحساب. يصبح أكثر عناداً في كل مرة. قال بأني لو كفيت عن محاولة دفع الحساب معه، ربما سيتذوق الكولا. ثم قال بأنه في في عمر والدي أو عمي أو حتى جدي، فلا يجب أن يدعني أدفع الحساب. ثم قال بأنه يدفع الحساب لأن ماله أكثر مني، سألته كيف يعرف، فابتسم،، هاها. ثم قال بأني أزلت صداعه عنه، ولهذا سيدفع الحساب كأتعاب لي. دفع الحساب بالنهاية، ساحباً بوك الفاتورة من بين أصابعي بسرعة.
حينما أوصلته إلى بيته، أعطيته ما أحضرت له؛ زجاجة زيت زيتون من منطقة الجوف في شمال البلاد، فرح بها كثيراً، ولكنه أراد سداد ثمنها. بالطبع هذا أمر غير قابل للنقاش، فشكرني وأخذ الزجاجة، وودعني شاكراً إزالتي لصداعه، قائلاً وهو يبتسم بأنه سينصح بي لأصدقائه، يقصد وكأني دواء. كان ممنوناً للأمر.
إذاً، أزلت صداعه، لكن، هل يدري هو ما أزال عني؟.
بنفس الوقت، ضحكت وأنا أفكر بامتنانه وفرحه بزوال الصداع؛ على الأغلب أني بقدر ما أزلت صداعه بشكل ما، ربما بالتكلم والضحك، بقدر ما سببته لأحد آخر بالسابق؛ لعله لا زال حينما يتذكرني يشعر بالصداع.






 ذهبنا صباح يوم في الأسبوع الفائت إلى مدينة الملك فهد الطبية، في أول موعد حقيقي لأمي هناك. هذه المرة الأولى التي أزورها على هذا النحو، إذ كانت المرة الأولى حينما ذهبت لوحدي ببعض أوراق أمي منذ زمن بعيد لأخذ استشارة من طبيب على نحو سريع. أما اليوم، فقد كنا نراجع معاً، وذهبنا إلى عيادة وانتظرنا كما يفعل الناس. ذهلت من كل شيء، فبعد جحيم مستشفى الملك خالد الجامعي، رأيت النعيم أخيراً في مستشفى حكومي.
كان الموظفون عموماً متعاونون، ومهذبون، عكس معظم موظفي الملك خالد، والممرضات أكثر احتراماً للناس بكثير، رغم أني لم أخاطبهن كثيراً، فلم أضطر لهذا لحسن الحظ، عكس ما يجري دائما في الجامعي. حينما جئنا لغرفة الانتظار، لم يسعني تصديق أنها استراحة للمراجعين والمرضى بالفعل، لم يبدو الأمر واقعياً. يوجد طاولة في المدخل، تحوي صواني من الأطعمة المختلفة، وأكثر من صينية لكل نوع من الأكل. يوجد صينيتين تحويان قطع من التوست بحشوتين مختلفتين، وصينية للفطائر والكروسون، وصينية للبسكوت والحلويات، وصينية تحوي تمور مغلفة، إلى جانب السكر، وغلاية الماء، وعلب عصير التفاح، وعلب الماء، وزمزمية (ثلاجة) قهوة عربية.  يعامل الناس هناك كأوادم، ويفهم أهل المستشفى أن المرضى والمراجعين بحاجة إلى الشعور بالتقدير والتعاطف والاهتمام. لم يأكل الناس كل شيء، بل بالكاد مس أحد الطعام، إن الناس ليسوا جوعى، إنهم لا يعانون من مجاعة، فهم لن يسببوا الخسارة للمستشفى، إنهم فقط يحتاجون إلى التقدير.
يوجد من يأتي بالطبع، وهو بحاجة ماسة لأكل شيء، وأنا أثق بنفس الوقت أن هذا ليس بتبذير، وأنه في نهاية اليوم، سيكون معظمه قد أكل.
كنا ننتظر دورنا، وأحياناً أخرج للاستكشاف، وقد وجدت طريقاً مختصراً جداً للخروج، ليتنا علمنا عنه حينما جئنا لنسلكه. وفي ممر العيادة، رأيت طبيبين، وتسائلت إذا ما كان أحدهما هو طبيبنا الذي جئنا لأجله. طبيبنا جنوبي، وكان لدى أمي إصرار للذهاب إليه دوناً عن غيره، حيث كانت قد عالجت لديه قبل سنوات. لم أره في ذلك الحين، حيث كان في مستشفى الحرس، وكانت تذهب برفقة أختي للمبيت هناك حيث كانت حالتها سيئة جداً في ذلك الحين، والحمد لله على كل حال. كان الرجل الذي رأيت في الممر كبير بالسن قليلاً، ذو لحية طويلة وجسد عريض، وملامحه يمكن القول عنها أنها جنوبية، فهي حلوة، وبشرته نظرة ما شاء الله، وخديه ورديين. كل هذه دلائل قالت بأنه جنوبي، لكن كان هناك مشكلة واحدة، حيرتني في أمره، كان رأسه ضخماً، وهذا قد يجعله سورياً، فلا يتسم أهل الجزيرة العربية عموماً بالرؤوس الضخمة، ورغم أن ملامحه ليست جلفة طبعاً كالسوريين، فهي كما أسلفت حلوة ولطيفة، إلا أن ضخامة رأسه أبعدته عن الترشيح. يجب أن أرى هذا الطبيب الذي أصرت أمي على طبيبنا في الجامعي على أن يرسلنا إليه، طالما سيرسلنا إلى مستشفى آخر، ولم يكن يمكنني قراءة شارته الذهبية، رغم أني بصراحة لم أهتم برؤيتها، لأن رأسه الكبير كفاني (فراسة).


المهم أننا دخلنا لاحقاً، ورغم أن الانتظار طال إلا أنه ليس كما توقعت وكما يجري في الجامعي، مع الاخذ بالاعتبار كثرة المرضى المنتظرين.
وكان في الغرفة هذا الطبيب ذا الرأس الكبير. وسألنا عن حالتنا، وراجع الملف أمامه وسأل عن بعض التفاصيل. سأل إن كنا أخذنا علاجنا سابقاً في مستشىفى الحرس؟ قلت نعم، أخذناه هناك، تسائل لماذا جئنا هنا هذه المرة؟ انبريت أشرح، وقد استبد بي القلق أن لا يجعلونا نرى طبيب أمي المرغوب، حيث أني أحمل ورقة حتى من طبيبنا في الجامعي لأجله، وقلت بأن أمي عالجت في الحرس لدى الدكتور مشبب العسيري، وقد انتقل إلى هنا الآن، لذلك طلبنا  أن نرسل إلى هنا لأننا نريده هو، نريد أن نرى هذا الدكتور. كان هذا تلميح ليجلبه لنا، أو لينصرف أو يصرفنا إليه. سأل باهتمام إن كنا قد قابلنا الدكتور مشبب العسيري؟ قلت لا، لم نقابله. فابتسم وقال بأنه هو. بدا من الواضح أنه سعيد بأننا لحقناه، وأن أمي لم تنسى أنه طبيبها، وظلت ابتسامته عريضة طوال الوقت. ضحكت، إذاً عسيرينا رأسه كبير. طمئننا على حالة أمي، وفرض إجراءات جديدة في علاجها، وطلب أن يرانا خلال مدة معينة. لكن أمي استعجلت، وقالت بأنها تريد أن تجري تحاليل الدم المطلوبة الآن، لأنها عطلتني عن عملي بما يكفي. كان لدى الدكتور الوقت ليتجاوب مع أمي، وهو ربما الدكتور السعودي الأول الذي يتعامل بهذه الإنسانية، أو الثاني بعد الدكتور خالد الغامدي. كليهما من الجنوب، أليس هذا مميزاً ودالاً؟. 
كنت محرجاً، وقد سأل أمي إن كنت وحيدها؟ قالت لا، قال إذاً هو الأصغر! قالت نعم، قال وأين الآخرين؟ قالت بأنهم لاهون مع زوجاتهم، وأني أنا من "أمسكوا بي" (!!). ثم سألني ماذا أفعل؟ قلت في الجامعة مترجماً. صمت قليلاً، بدا مشوشاً، ثم قال في السنة التحضيرية؟. قلت لا لا، أنا مترجم في الجامعة. أين؟ في القسم الفلاني. سأل إن كان مديري نذلاً؟ قلت  بعاطفة صادقة وجياشة لا، إنه رائع. ثم التفت إلى أمي وأخبرها بأنهم سيعطونني الأوراق اللازمة حينما أراجع معها، أو حتى إجازة، ولعلي أريد أن أغيب أصلاً!.
عرفت لماذا أمي أصرت على رؤيته، لقد عاملها كما يجب أن يعامل الطبيب مرضاه. والحمد لله أننا لحقنا به إلى هناك، فقد سعدت برؤية شخص مثله، ولو كان دكتوراً سعودياً في النهاية. لن أبالغ وأقول أنه جعلني أعيد النظر في الدكاترة السعوديون، لا، لكنه استثناء رائع.
كان مرن في نقاش الحالة، واستمع لكل ما أردنا قوله. وناقش كل شيء حتى رغم صعوبة تعبيري عن الأعراض كما يجب وبالمسميات الصحيحة.


خرجت من المستشفى وأنا سعيد وحزين بذات الوقت. لماذا لا يتاح لنا أن نراجع هنا دائماً، حيث نعامل كأناس؟. لن يكون لعملي في الجامعة حينها ميزة كبيرة جداً من ناحية قرب المستشفى، سوا أن مديري سيظل متفهماً، وستكون مراجعاتنا أقصر كذلك.
أشعر بالأسف الآن حينما أتذكر بأنه لن يكون مستشفانا أبداً، وأننا سنعود إلى المستشفى الجامعي، حيث الكل تقريباً وضيع. إني أحب المستشفى الجامعي، لأن أمي تحسنت بقدر معين لديهم، رغم أنهم أفسدوا بعض الأمور كذلك لديها، لكن، يا الله، كم أتمنى، أتمنى، أتمنى لو نراجع في مدينة الملك فهد الطبية لأجل كل شيء، كل شيء على الإطلاق، كم سيحسن هذا من واقعنا، بعون الله. على الأقل لن تراجع أمي لدى قسم العظام في الجامعي، اؤلائك الأنذال والقساة والجهلة الذين أفسدوا فقرات ظهرها.
لقد شعرت بمرارة أن تجرب شيئاً لن يمكنك الاستمرار عليه، مجرد تجربة، لتعود  بعد ذلك إلى ما لديك من واقع مقرف.
لقد بدأت أتخيل وأصنع القصص في ذهني؛ أتخيل بأننا صرنا نراجع هناك دائماً، وأن صحة أمي صارت أفضل، وأنهم ضحكوا حينما رأوا علّة ظهرها، وقالوا: ها! سهلة!!.








سعد الحوشان

الأربعاء، 2 فبراير 2011

السير تحت عتمة الكفوف (أحداث،قصائد،ألماني،جهاز)

بسم الله الرحمن الرحيم






هل بررت بكل أقسامي؟. لا يساورني شك على بري بها، أو تكفيري عنها، سوا قسم واحد. بشكل أو بآخر، أقسمت أن لا أنسى أمراً معيناً، أي؛ أقسمت أن أحقد على أحد ما.


أما شكي فليس بسبب كبر حجم قلبي، وليس بسبب طبيعته الطيبة المترفعة عن الكراهية والغضب. الأمر ببساطة ذو علاقة بالنسيان، وضعف التوثيق. بعدما كان لدي دائما مرجع للحقد، تخلصت منه بخدعة، ولم يعد لدي ما يذكرني بالأمر. كل ما أتذكره هو أني لا أريد أن أسامح شخص على فعلته. لا زلت أتذكر الكثير، لكني أنسى أسرع مما يجب، كما هي طبيعتي.
بيد أن الزمن والتجربة علماني كم هي طبيعة سيئة تلك التي تنسى، وتسامح لأنها تنسى. لأن الناس لا ينسون، ولا يقدرون النسيان والتجاوز. لم أعرف الراحة حتى كفيت عن مسامحة الكثير من الناس. فالآن؛ لا قهر من عدم التقدير، ولا قهر من الخيانة، ولا قهر من إعادة التجربة، وعدم التعلم من الماضي. يمكنك وضع كل شيء خلفك حينما لا تسامح، وتقطع الأواصر، في حين كانوا يقولون لنا دائما بأن المسامحة هي ما يترك الأمور خلف المرء، لكن، من يدرك أنه اناني يستبق بالتبرير، وهكذا هم الناس، يجب أن يقولون لك شيء، حتى لا يجدوا الوقت أو المبرر ليقولون لأنفسهم عن انانيتهم، وقسوتهم.


أتذكر صديق لي، جمعتني به صداقة مخلصة، يوبخني في وقت مأزوم من حياتي: "ما بالك يا سعد؟! ماذا جرى لك وتغيرت؟! لم تكن ضعيفاً هكذا! كنت قوياً، كنت أنت من يدعمني ويمدني بالقوة! أتتذكر؟؟"
قال هذا بينما وقفت أمامه مكسور القلب، شاعراً بضعف لم يبدو أن منه فكاك. ذكرني بما لم أنسى، لكني كنت أحسب بأن قوتي ذهبت إلى الأبد. كان تغيري مزعجاً، وجذرياً، وقد عانى هو منه كثيراً. كان الأمر ناتج عن صدمة قوية، هزت كياني كله. أصبحت بعدها متعباً، وقلقاً باستمرار، والأسوأ، محزوناً طوال الوقت.


كان هو الصديق الوحيد، من بين ثلاثة، الذي دعمني وأعطاني في ظروفي تلك. يا الله، كم كان رائعاً. الصداقة الحقيقية غالية جداً، حينما تفقدها لا يمكنك أن  تقيِّمها ببساطة، لقد خسرت َشيئاً فريداً، ولو حصلت على صداقة أخرى جيدة، لا يمكنك أن تقارنها بما خسرت، ليس أنها أفضل أو أسوأ، فالأمر لايخضع للمقارنة، فكل صداقة جيدة فريدة لا غنى عنها بأخرى، كالأبناء. والأسوأ، أن الأفضل حدث ونحن لم نعد أصدقاء ليراه؛ لقد عدت قوياً، قادراً على دعمه في حياته الصعبة حد المأساة أحياناً، والوقوف معه، قادر على الأخذ والعطاء، الشيء الذي انفردت به صداقتي معه دوناً عن صداقاتي الأخرى، التي كانت إحداها تستنزفني كما تستنزف الآفة النبات.


ذاك الصديق المخلص؛ يمكننا أن نتصافح ليل نهار، دون أن نعود أصدقاء. عسى الله أن يحاسب من تسبب بهذا.








غداً، أودع جهازي الجديد، الذي سأرسله إلى الدمام لبضعة أيام، لتتم مراجعته من قبل موقع متخصص. أجد أني تعلقت به كثيراً، إلى درجة أني لا أدري كيف سأتحمل الفراق صدقاً!!.


اسخدامه ممتع، وأجمل ميزة فيه هي السرعة، سرعة التشغيل والعمل. اشتريت موزع لاسلكي صغير، لأوصل فيه الكونيكت التي كنت أستخدمها في جهازي السابق خارج المنزل، حيث لا يتعرف عليها الجهاز الجديد، ولاحظت مفارقة اليوم؛ ففي حين أن الوضع المعتاد أن تشغيل الكمبيوتر يتم قبل تشغيل الموزع، لأن الكمبيوتر بالعادة يأخذ وقتاً طويلاً ليبدأ العمل، يحدث العكس، لأن هذا الكمبيوتر يشتغل مباشرة تقريباً.










قبل قليل، في برقر كنق، أجفلت عن قراءة الجريدة، حينما رأيت فجأة شخص رث الهيئة على نحو لا يوصف، وقف أمامي مباشرة، مطالباً إياي بشراء طعام له. ألجمت المفاجئة لساني، كنت أحتاج إلى وقت لأفهم ماذا يريد بالضبط، وما أمره. ابتعد عني، وقد دعاه عمرو، العامل المصري بالمطعم، أن يأتي ليعطيه طعام، دعاه بحنان بالغ. لكن الشاب الصغير توجه إلى شاب سعودي آخر، وقف يعبئ كؤوسه من الكولا، وطلب منه ببساطة أن يشتري له "نقتس". كيف أجابه الشاب الآخر؟ نظر إليه باحتقار وانفعال غير مفهوم، وطرده متوعداً إياه. صدمني المشهد. اتضح بأن الشاب رث الهيئة مريض نفسي. بعد التوبيخ اتجه مسرعاً ليخرج من المطعم. قفزت من كرسيي، لأنه سريع، ولحقت به، استوقفته عند الباب، وأخبرته بأني سأشتري له ما يريد. نظر إلي بعدم ثقة، سألته: تبي نقتس؟ تعال، أنا اشتريها لك. لحقني. طالبني عمرو بالرجوع لتناول طعامي، وأنه سيهتم بالأمر، فسيعطيه وجبته الخاصة. وطالبني مدير المطعم بالرجوع كذلك، ولكن أمام إصراري، رفض هو اخذ مبلغ الوجبة التي يريدها الصبي كاملاً. 
بعد الدفع، صار الصبي يروح ويجيء بالمطعم بانتظار وجبته، وهو يحدث نفسه دون صوت، ويقوم بحركات غريبة، وعلى جانب مفاجئ من العنف في بعض اللحظات. بينما وقف الشاب المقرف الذي نهره بالبداية، ينظر إليه بعصبية، وكأنما يريد ضربه. كانت تعابير وجهه الخالية من الرحمة مثيرة للاشمئزاز، تسائلت إن كان بالواقع يحترم نفسه.
كان الصبي لسبب ما يتفادى عمرو، بعنف حتى، وفي انتظار وجبته، جاء إلي وقال بأنه يريد أن يأكل بعض مما لدي. كان من الواضح أنه يتضور جوعاً. وبينما هو يأكل جاء عمرو لثنيه، فألقى بسرعة بما كان في يده وابتعد، متفادياً عمرو. كنت أريد أن أسأله عن بعض الأمور، عن بيته أو أهله، فالوقت متأخر، لكن عمرو أفسد علي دون أن يدري. لما جهزت الوجبة، وقد وضعوها له في كيس، انتحى في طاولة، وبدأ يأكل، بينما وقف عمرو قريباً، في تصرف خاطئ، يراقبه. كان وجه عمرو ينضح بالشفقة، وكان يخاطبه بحنية وهدوء، ويناديه بـحبيبي، لكنه كان يريد التأكد من أن الصبي لن يقوم بشيء خاطئ أو عنيف. حيث أن الولد أصلاً رفض بالبداية أخذ الكولا من عمرو، وكشر عن أنيابه كقط، تماماً، وهرب مبتعداً عنه. رفض عمرو أن يتركني أساعده، وقال بأنه ربما يكون عدوانياً. كان من الواضح أنه لا يرتاح إلى عمرو، وكنت أريد أن أتعاون بما أنه لا يمانع الاقتراب مني.
خرج بسرعة من المطعم لما فرغ. لحقته، وحادثته برفق سائلاً عن بيته أو أهله، وعرضت أن أوصله، أو أتصل بأهله. لكنه ابتعد هاربأ مني، وقد كشر عن أنيابه كقط، كما كشر لعمرو. بعد حوالي نصف ساعة عاد، بينما لازلت أقرأ، وجاء إلي يريدني أن أشتري له كولا.
كان الوضع لا يسكت عنه. كنت أفترض أنه ربما عاد لبيته، لكن لما عاد، بدأت أتسائل إن كان بيته قريباً، ربما هرب من أهله أو شيء من هذا القبيل. اتصلت بالهلال الأحمر، وقالوا لي بأني في مثل هذه الحالة يجب أن أتصل بالشرطة، والشرطة حينما خابرتها قالت بأن علي أن أتصل على الهلال الاحمر!!. أخبرته بأنهم هم من طلب أن أتصل بهم، فقال بأن الاتصال بهم يجب أن يأتي من الهلال الأحمر. عاودت الاتصال بالهلال الأحمر، فأضاعوا وقتي يحاولون إقناعي أن هذا عمل الشرطة!! وأنها هي من يجب أن يتصل بهم. اتصلت بالشرطة مرة أخرى، وشرحت الأمر، وقلت أن الصبي وضعه صعب، ويجب أن يهتم أحد بالأمر. قال الشرطي بأن المفترض أن الهلال الأحمر هو من يهتم بالأمر، ولكنه سيرى ما يمكن فعله، وتركني قليلاً على الخط، وعاد واعداً بأنهم سيرسلون أحداً. أخذ الوصف بدقه، وودعني. بعد قليل، رأيت سيارة الشرطة بأضوائها الدوارة تسير بسرعة. لا أدري إن كانوا قد وجدوه. على الأقل، يجب أن يأخذه أحد بعيداً عن البرد.


يبدو أن هذا لم يحدث. ربما لم يجدوه أمس. أنا في اليوم التالي، وقد جائني أحد عمال المطعم وأخبرني بأن الصبي تسلل إلى الدور الثاني حيث قسم العوائل. يبدو أنه تائه، أو ليس لديه مكان يعود إليه. اتصلت بالشرطة، وبشكل غريب استجاب المسئول مباشرة، ولم يطلب مني الاتصال بجهة أخرى. بعد القليل من أخذ المعلومات، وعدني بتواجد الشرطة خلال دقائق. أتمنى أن يمسكوه هذه المرة، ويودعوه حيث يجد من يعتني به حتى يجدوا أهله.
لقد جاءوا.
لم يأخذوه مع ذلك. يقولون بأنه مريض نفسي فقط، ولا يوجد ضده دعوى، فيكفي إخراجه من قسم العوائل. إن الأمر محزن، محزن جداً. كان الشرطي متعاطف رغم جلافته، وقد حاول أن يجد حلاً آخر. لكنه يقول بأن الخفر لن يستلمه دون إدعاء ضده، بينما المصحة النفسية لن تستلمه بلا إثبات، وقد بحث عن الإثبات في جيوب الصبي ولم يجد. هرب الصبي بالنهاية، رافضاً التحدث أو الرد. 
هل يترك هؤلاء المساكين إذا في الشوارع؟ هل يجدهم أحد ميتين في الليالي الباردة، وحدهم، لا أحد يعرف عنهم شيئا، أو يهتم بأكثر من دفنهم؟ هل يوجد فرق بينهم وبين القطط في الشوارع من حيث الأنظمة؟.
كانت رائحته القوية تعبق بالمكان، وملابسه الرثة مشققة تكشف عن عورته، التي يغطيها بمسمسة ردائه فوقها. شعرت وبمزيج جارف من الاشمئزاز والرحمة.










اطلعت على موقف سخيف جداً، أداه أحد المدونين. كان الرجل قد كتب نص أدبي، لم يعجبني شخصياً، ولكن أعجب الكثير من الناس على ما يبدو، فنال الكثير من المديح والمجاملات. لكن معلقة واحدة أعلنت بأن النص لم يعجبها. ولما سألها أن تفصل رأيها، ردت بعفوية تشرح رأيها، وقد استرسلت، حيث أمنت جانبه، وأوضحت بحميمية من يخاطب صديقاً أو زميلاً أن أسلوبه في القصة لا يشبه عفويته المعتادة، إنما يشبه أسلوب الخطباء والدعاة من حيث السجع، وهي تعتبرهم مزعجين ولا تحبهم كما فهمت. أنا أيضاً لا أحب السجع المبالغ فيه، إن لم أقل كل السجع، ولا أحب أساليب الخطباء الممتلئة بالسجع، والكتيبات التي يؤلفها الدعاة وكأنما شخص واحد يكتبها، بالسجع الممجوج، بغصب الكلمات والتعابير. كل هذا؛ بغض النظر عن قيمة المادة التي يقدمونها. حيث يوجد شقين في الأمر، حيث لا إشكال أبداً حول انتقاد اسلوبهم الأدبي، فالأمر يخضع للذائقة، وبالتأكيد ليسو كلهم أدباء، أما عن انتقادها لهم كأشخاص، فرغم أنها لم تذهب بعيداً، وهي حرة بما تشعر، ولا يجب إرغامها على التظاهر بعكس ما تشعر، إلا أن من لديه رأي حول مشاعرها فيجب أن يحترمها طالما لم تخطئ عليه، أن يناصحها إن كان يجدها مخطئة، أن يناقشها بالحسنى. وهذا ما لم يقم به المدون متوقد الذكاء.
كان رده عليها هجومياً، ساخراً، موحياً بأنها شر مغلف، أنها ليست إلا دسيسة ضد الدعاة والشيوخ. وهذا أبعد مما ذهبت إليه هي، فبغض النظر عن كل شيء، هي لم تسئ إلى شخص أحد، خصوصاً المدون نفسه، هي تحدثت فقط عن شعورها تجاه الأشياء، وهذا أمر شخصي، وإن لم يعجبنا، فلن يغير التنكيل في معنوياتها من رأيها شيئاً، إنما سيزيد الطين بله.
ذهلت للهجته، في حين أنه يتظاهر دائماً بأنه بمنتهى الرقة والطيبة، وشعرت بأني حينما لم أجده مريحاً كنت محقاً. لقد أساء إلى موقفه بالواقع أكثر مما أساء إليها، حتى على المستوى الاحترافي. فهو إن كان يريد أن يكتب الأدب، ويسمع الانتقاد حوله، فلا يكفي أن يقول بأن صدره رحب، ويستقبل الأمور بصدر رحب فعلاً، لكن ظاهرياً، ثم يسعى للطعن والانتقام في اتجاه آخر. لو لم يفكر إلا بنفسه، لو كان ذكياً رغم أسلوبه الشرير، لما كان قد أخطأ بحقها وحاول جرحها مقابل حسن نيتها، لفكر بأن الناس قد يقولون بأنه حقد عليها وسعى إلى جرحها إنتقاماً لنفسه، حينما وجد فرصة حسبها مشروعة، بعيداً عن نصه. إنه لم يخالف نقدها، إنما خالف شخصها، فقد أخذ النقد على محمل شخصي. كان حسبه أن لا ينشر ردها فقط إن لم يشأ الرد عليها بما يكافئ إحسانها الظن به، وائتمانها لجانبه. هي مدونته، يحق له أن ينشرما يريد وأن يهمل ما لا يريد، لكن لا يجب أن يسيء للناس، فهم ليسو بجزء من المدونة.
لو استنصحني، لنصحته بأن يحذف ما قد يشعل الجدل، ما يعتقد بأنه يجرحها أو يجرح غيرها من طرفها، ويكف الشر ولا يجرح الناس وينفرهم أكثر من معتقده حول الأمور. هل أراد أن يبدو بطلاً أمام أحد آخر؟ كانت غلطة كبيرة. كنت أريد أن أرى بماذا ستجيب الفتاة. ولكنها لم تظهر في مدونته إلا في صندوق المحادثات، أفترض أنها لم ترى التعليقات، إذ أني لم أجدها في ذلك الوقت، ثم وجدتها لاحقاً.












مفاجئة غير عادية حدثت اليوم. الصديق الصيني الأصغر، اسمه الحركي هنا همام، بينما اسمه الحقيقي صيني، كان قد اتصل بي قبل فترة يدعوني للذهاب معه إلى معرض ثقافي صيني. لم تسر الأمور كما أراد، فلم نذهب. اتصل بي اليوم في العصر، وقال بأنه يود أن يدعوني إلى العشاء، حيث يريد أن يريني لصديق له جديد هنا. وافقت، واتفقنا على المكان والوقت؛ مطعم صيني متوسط الحجم في العليا في الساعة الثامنة. حينما وصلت وجدته ينتظرني أمام المطعم، سلمنا ودخلت. كانت أعين العاملين تحملق تجاهي، ربما لأني مع شخص صيني، نسير كأصدقاء بحميمية واضحة. وصلنا إلى الطاولة في غرفة جانبية حيث ينتظرنا صديقه. كان شاب صيني صغير في الخامسة أو الرابعة والعشرون من عمره، مثل همام، لكن بشرته خمرية مشربة بحمرة، وكأنه من منغوليا، وكان وسيم الملامح عموماً، ضخم الجثه. بينما همام شديد البياض، ضئيل البنية، ذو عينين صغيرتين لطيفتين، كأشد ما تكون عليه الأعين المغولية من ملاحة وظرف. سلمت على الرجل، عرفني همام باسمه الصيني، ثم باسمه العربي الذي اتخذه لنفسه هنا، خالد، كعادة غالبية الصينيون. أثنيت مجاملاً على جمال الاسم. عرفت أن الرجل لا يعرف الكثير من اللغة الانجليزية، ولا يزال يتعلم العربية في بداياته. كان همام عموماً يترجم بيننا. قلت بأنه يبدو شبيهاً بممثل أراه في الأفلام الصينية. ضحكوا. اقترحوا أسماء، لكني قلت بأني لا أعرف اسمه. حان دوره ليعلق على شكلي، فقال مجاملاً بأني وسيم جداً. كانت من دعايات همام بوضوح، مما أحرجني حقاً. ضحكت وقلت بأن هذا لطف منه. تدخل همام، وتكلم عن تلك الصورة التي التقطوها لي لتنشر في وكالة الأنباء. ضحكت وقلت بأنها كانت فضيعة. لكن همام أصر على المديح، والتعليق على الأمر في محاولة لإحراجي أكثر، ضحكنا كثيراً. ثم قال همام بأن خالد مسلم. ابتسمت وذكرت الله. ثم فاجأني قائلاً بأنه هو أيضاً دخل في الإسلام مؤخراً، في رحلته قبل أشهر إلى الصين. شعرت باضطراب عنيف في قلبي، وشهقت متفاجئاً. وقبضت على يده. باركت له وحمدت الله. وسألته لماذا لم يخبرني من قبل. قال بأنه أراد أن يلقاني ليخبرني، لكني كنت مشغولاً في الفترة الأخيرة. سألته عن الدافع، ماذا جعله يدخل الإسلام؟. قال بأنه قرأ القرآن كثيراً من قبل، وأنه كان يشعر شيئاً فشيئاً بأن هذا هو الحق. وقال بأنه حينما جاء إلى السعودية تأثر بتعامل الناس. ثم أضاف بأنه بعد الله، كنت أنا إلى حد ما دافع لدخوله في الإسلام، فقد تأثر بي كثيراً. كرر هذا أكثر من مرة، مما أشعرني بمزيج غريب من المشاعر، مشاعر تدور في معظمها حول الحيرة، وهي مستقلة عن مشاعري بالفرح له، إنما أشعر بالحيرة تجاه ما يخصني من القصة. كان قد أخبرني منذ فترة طويلة مع الدكتور الصيني الأكبر بأنهم يرون أن أسلوب حياتي جميل ورؤيتي للأمور تعجبهم. لكن، أكثر من الصداقة والمحبة، هل يوجد ما يمكنني تقديمه؟. كنت قد سألت وبحثت عن أماكن تعطي دورات في الدعوة. لا أفكر بأني سأسير على منهجها، لكنها قد تجيب على بعض أسئلتي الخاصة، وقد أستلهم منها الأفكار، والأهم، أريد أن أطلع على الرؤية المنهجية أو غير المنهجية السائدة عن أخلاقيات الدعوة وتناولها، وماذا يفعل الدعاة، وكيف يعملون، وما هي رؤيتهم للأمور. لا أشعر بأني سأتفق بالضرورة، لكني أريد أن أطلع. عموماً، لعل همام يجاملني فقط فيما يخص دوري في إسلامه.
سألت عن خالد، كيف أسلم؟. خالد أسلم من تلقاء ذاته. كان سيأتي للسعودية لدراسة اللغة العربية، لهذا بدأ يقرأ عن الثقافة السائدة هنا، وعن الإسلام. فدخل قلبه، وأسلم ببساطة. ما شاء الله، هذه الثقة والإقدام، كم هي مثيرة للإعجاب.


حكينا عن شتى الأمور، عن رحلة همام إلى ابو رقيبه، مكان بعيد تقام فيه مسابقات الجمال للإبل. أراني صورة له وهو يحمل صقراً، حيث دعاه رجل هناك إلى حمله. أما من صوره، فهو مدير وكالة الأنباء الصينية هنا، وهو نفس الشخص الذي صورني من قبل وأنا أستخدم السواك، لتنشر الصورة لاحقاً في موقع وكالة الأنباء الصينية، أخبرني مذكراً إياي؛ يبدو أن هذه الذكرى تشعره بالسعادة. ضحكت متذكراً الصورة، قال همام بأنها كانت جميلة، وعلق بأني لدي ابتسامة جميلة، وهم يريدون أخذ المزيد من الصور لي. أخبرته بأنه يقول هذا لأنه طيب، حيث كانت نظرتي في الصورة أقرب ما تكون إلى الشريرة. ضحكنا. أخبرته بما قاله لي أحدهم مازحاً، أني سأجد صورتي في غرفة كل فتاة صينية الآن. وقد استفاد من هذه الذكرى حينما أخبرتهم بأنه قبل زمن طويل ذهب سعوديون إلى الصين، ولم يكن الناس قد اعتادوا بعد على رؤية الأجانب هناك. فتصادف أن التقوا أطفال مع معلمتهم في رحلة مدرسية إلى منطقة أثرية. دهش الأطفال لرؤيتهم، فجائت المعلمة إلى الرجال السعوديون وقالت بأن الأطفال يودون الحصول على صورة معهم. وافقوا بالطبع، فتجمع الاطفال حولهم وجلسوا في حجورهم وتعلقوا في رقابهم، وأخذت صورة مضحكة. قال همام بأني لو ذهبت الآن إلى الصين، فلن يجتمع الأطفال علي ليأخذوا صورة، إنما سيتجمعن الفتيات لطلب صورة. ضحكنا، كانت محاولة جيدة لإحراجي، قلت: ربما في الجنة، لكن ليس في الصين.
تحدثنا عن الممثلات الصينيات الجميلات. 


وتحدثنا كذلك عن السوق الصيني الجديد في الرياض، الذي لم أرى أحد معجب به ممن زاروه، لا بالباعة ولا بالبضاعة. ذهبت يوم الخميس إليه، لآكل في المطعم الجديد فيه. غالب العاملين صينيون. ولسبب ما لا يوجد قسم للعوائل، يوجد فقط بضع غريفات يمكنهم الجلوس فيها لو أرادوا. التعامل فيه جاف وغير مرحب أبداً، والأسعار غالية، والطعام يميل للسوء أكثر مما يميل للجودة. كانت تجربة فاشلة على كل المقاييس. حالما أتيت على ذكر السوق والمطعم أنّ همام بألم، وحادث خالد باستياء باللغة الصينية. ثم أخبرني بأن السوق والمطعم بمن فيهما كارثة. أخبرته عن خيبة أمل الناس. وجهة نظري التي قلتها أنه يوجد سوء فهم واضح بين الناس والباعة الصينيون، فالناس لا يأتون للسوق لمجرد التسوق، حيث أنهم يتوقعون أن للأمر بعد ثقافي، يتوقعون الإطلاع عليه، ويتوقعون التعرف على الصينيون الذين لا يزال الناس لا يعرفونهم هنا، فكل ما يعرفه الناس هو الصداقة الحديثة والحميمة بين حكومتنا وحكومتهم، وكياسة وتواضع حكومتهم مع حكومتنا رغم قوتها، وهم يتوقعون نفس الودية، لكن يخيب ظنهم أمام التعامل السيء للباعة. قلت بأني أفترض بأن تعليمهم ضعيف، ولا يفهمون تمثيلهم لبعد ثقافي، إنما الأمر بالنسبة لهم مجرد تجارة بحتة، وهذا خطأ لن ينتج عنه نظرة جيدة للناس هنا، رغم جهود السفارة. فكر بوجهة نظري وقال بأنه يوافقني، وأن السفارة يجب أن تعلم بالفعل عن الوضع السيء هناك، فهي مهتمة بالأمر، وهمام له صداقات في السفارة. أخبرني عن تجربة خالد، الذي شعر بالسعادة حينما جاء بوجود سوق صيني يمكنه الذهاب إليه حينما يشعر بالحنين، لكنه حينما زاره كرهه وشعر بالفوضى والغباء هناك.




همام يريد أن يأخذني لاحقاً لرؤية أصدقاء آخرين. إني أؤخذ كثيراً ليراني الناس أكثر مما أؤخذ لأراهم، مع أغلب الأصدقاء الأجانب، مما يشعرني أحياناً بأني قشري الوجود. أي أني أقرب للفرجة، شيء طريف مثير للاهتمام، لكن رأيه ليس بنفس القدر من الأهمية. لست أنقم بالطبع، لأني مدرك لحسن النوايا والمقاصد. لكن، أشعر فقط بأن أهميتي تنتهي بسرعة عند هذا الغرض، أي أني أحزن على نفسي.










قرأت اليوم عن طبيبة صومالية بطلة، اسمها حواء عبدي (أحب اسم حواء). هي امرأة كبيرة، أنشأت في فوضى الصومال مستشفى كبير ومدرسة وما يمكن أن يطلق عليه مدينة. بطبيعة الحال، ونظراً للظروف، تعتمد كثيراً على المساعدات الخارجية، التي تكون شحيحة، وقد لا تصل لأسباب كثيرة، ليس أقلها فوضى البلد والأخطار التي تموج به.
لا أدري لماذا لا تمنعنا فوضى لبنان عن مساعدته في كل الظروف، بمسلميه ونصاراه، في حين أن مسلمي أفريقيا لا نظهر في حياتهم إلا على مستوى بعض المنظمات الخيرية، التي لا حول ولا قوة لديها في مثل ظروف الصومال. لماذا نفتقر إلى روح المبادرة حينما يتعلق الأمر بإخواننا المسلمين الزنوج في أفريقيا. هل لأنهم زنوج؟ هل هذا يجعلهم أقل قيمة؟ هذا الواضح. فلون البشرة لا يجعل أفشل الدول تحتقر نفسها حينما تكون بيضاء. فقد سمعت سياسيي لبنان، أعان الله أهلها عليهم فما أكرههم من سياسيين، أكثر من مرة يسخرون ويمثلون بالأفارقة ودولهم بالفشل والعجز الذي هم ليسوا عليه (!!). لا يعطي هذا إنطباع إلا بعظم مصيبة أهل لبنان، الذي يديره أناس جهلة ضيعفوا الثقافة، مع بعض الاستثناءات. مع ذلك، مصيبة الصومال ليست أقل، ولم تكن مصيبة غينيا أقل فداحة على أي مستوى. نسمع عن الصومال، وقد يظهر تصريح حولها. لكن هل سمعتم بما جرى في غينيا قبل فترة؟، هل تعرفون ما هي غينيا؟ غينيا بلد أكثر سكانه مسلمون، أكثر من 80%، مثل اندونيسيا. لديهم حاكم مستبد، أطلق قبل فترة جنوده الذين لا يخافون الله على متظاهرين سلميين، حيث أعملوا أسلحتهم على الناس وقتلوا العشرات، واغتصبوا العشرات من النساء أمام الناس في الشوارع، كعقاب، وقد تم تصوير هذه الاغتصابات، وظهرن نساء ينهضن عن الأرض مكسورات، يرتدين ملابسهن المنزوعة في الشوارع أمام الملأ ليغطين عوراتهن بعد الإغتصاب. بينما زرن العشرات منهن العيادات والمنظمات الخيرية للعلاج مما لحقهن من أضرار وعنف، سراً لأسباب كثيرة. بالطبع، شرفهن وشرف عوائلهن غير مهم بالنسبة لباقي المسلمين، فهن لسن بيضاوات، ولا يختلف إن كن بائعات هوى أم نساء عفيفات، فهن سوداوات في النهاية. لكن، إن لم نكن نغار، فالله يغار، والكل يعلم بأنه يساوي، حتى لو لم نساوي نحن.
كان يجدر بدولنا كلها أن تحتج وتضطرب وتفعل المستحيل لما جرى في غينيا، لكن لم يحدث أي من هذا، وليس بدافع الخوف بوضوح، فلا علاقة للغرب بما جرى، كان الأمر فقط أنهم لا يهتمون، الأمر لا يعنيهم ببساطة، وكأنما إنسانية الناس هناك محل شك، ناهيك عن إسلامهم. كان يجب ربما أن يحدث في لبنان، أو فلسطين، أو البوسنة، أو أفغانستان حتى نشعر بالإهانة. لكن القدر لا يميز، هل نضمن أبداً أنه لن يحدث في أي مكان آخر "حيث يعشن البيضاوات"؟. لا حول ولا قوة إلا بالله. كن الدول الغربية هن من قرأت احتجاجاتهن، وهن من هدد باتخاذ الإجراءات.
لطالما كان المسلمين الزنوج مُهملين، متروكين لشأنهم البائس.










في الخميس الفائت، كنا قد اتفقنا على اللقاء، أنا والدكتور الألماني. لكنه اقترح وقت أبكر من المعتاد. علمت حينما وصلت أنه يريد أن يدعوني إلى الغداء. اختار مطعماً قريباً، من المطاعم التي تجمع بين صفة المقهى والمطعم التي تكثر على شارع التحلية. لم أعرف ماذا يبيع المطعم، لكن لسوء الحظ؛ كان أكثر ما يبيع هو أكلات وسندويتشات على الطريقة اللبنانية. ولم يكن رخيصاً أيضاً، بقدر ما كان ما تذوقت من طعامه غير مميز حقاً. تلك الخبزة النحيلة التي يسمونها صفيحة، وهي مملوءة حتى تكاد أن تنفجر باللحم الممتزج بالخضار والصلصات والجبن، دون أن تشعر بأنه يمكنك أن تفصل مكون عن الآخر ولو على نحو يسير. كانت الكمية كبيرة، لكن غير لذيذة. ربما تعجب أحد آخر، لكني غير معجب بالمطبخ اللبناني بقدر ما يعجبني تهذيب أهله.


تكلمنا حول الكثير من الأمور كالعادة، وكان حديث ممتع. لكني رأيت أنه لا يزال يقلب تركي لبرنامج الماجستير في ذهنه، وربما يشعر بالمرارة أو الغبن لتركي إياه. لكني واسيته بأن أخبرته، وكنت أحتفظ بالأمر كشبه مفاجئة، بأني أسعى على نحو جاد ومثابر في أمر آخر مثير للاهتمام. اسعده الأمر، وجعلني أحكي له القصة، وناقشنا التفاصيل.
لعل ما لا يعجبه هو أنه يتخيل بأني هربت من البرنامج. قلت له باسماً: بأنه لديه مشكلة مع الهروب من الأمور، لكني ليس لدي مشكلة مثله، لا خلاف لدي بالهروب حينما لا أشعر بأني حيث يجب أن أكون، ولا مشكلة لدي بالهروب حينما يكون هذا الخيار الأفضل. فوجئ، وقال بأنه ليس لديه مشكلة مع الهروب حينما يشعر المرء بأن الأمر لم يعد يصلح، بل إنه يسمي الأمر اختصار للخسائر، حيث توقفت قبل أن أخسر أكثر. إذاً، هو فقط حزين للأمر، وليس معارض له تماماً.
قرأت له ترجمة لقصيدة كتبتها مؤخراً، وهي قد لا تبدو مفهومة أو واضحة المعالم. وهي مبنية على انطباعات قديمة، على ذكريات لم يعد لها تأثير على ما أتصور. هاهي:



أحببت شكل قلبك...
بدا لي أنه جميل...
أعجبني شكلك...
حسبت أنه جليل...
لم تتغير...
أعجز الله فيك...
كأنك تمثال...
وقد قدّ قلبك...
من خاصرة حجر...
كنت غال...
ولكنك الآن فرجة...
كنت عالٍ...
ولكنك الآن سُخرة...
روح تمثال حجرية...
لطول السهر...
لم تغادر كالمؤمنين جسمه...
فمن سمع عن تمثال تغفو عينه...
أو لقلبه خفقه...
مع ذلك...
أعلم أن التماثيل ترى...
وأني كنت لعينيك تحفة...
كانت معجزة قلبي الخافق بدعة...
وتبدل تعابير وجهي خدعة...
كنت حقيقياً...
حياً وحيوياً...
سوا عيب صغير...
إذ حين كان قلبك نحت من حجارة...
فقد شكل قلبي من زجاجة...
نُفخ من قوارير شفافة...
تظل الحجارة على القسوة...
أما الزجاج فيتحطم من دفعة...
أو تدمره صدمة...
كعناق للحظة...
من تمثال متعثر...
قلبه المشفق قاس...
أجتزءَ من جلمود صخرة...

حينما فرغت، كان يستمع بابتسامة وضحكة، يقول بأن سببها أنه يتعلم كيف يعمل عقلي؛ طلب مني إعادة القصيدة، جزء تلو الآخر، مع التوقف لدى كل جزء، والنقاش حوله. أوضحت له الأمور المتعلقة بالثقافة والمعتقد، كفكرة مغادرة الروح للجسد وقت النوم.
امتنعت عن قراءة قصيدة أخرى ترجمتها له، شعرت بأنه لن يفهمها، حاول اقناعي، لكني قلت لا. أما القصيدة الثالثة، وهي عن أمي، فلم أقرأها لأني لم أترجمها بعد، رغم أنه أراد أن يسمعها بشدة.

بحثنا عن صور لأفراد عائلته على الانترنت. رأيت صورة لابنه، وهو شاب في عمري، فائق الوسامة، ويعمل موسيقاراً. وهو الآن يستمتع بمنحة في البندقية، بعدما أدى جيداً في تأليف الموسيقى.

وبذكر الصور، صرت أجد من وقت إلى آخر، من خلال إحصائيات المدونة، من يبحث عن صورتي على الانترنت. لن يجدها. ربما ترونها في وقت ما، من يعلم. لكن؛ صورة الأفاتار في أعلى الصفحة تشبهني، قال هذا أيضاً مدير الجمعية الذي تحدثت عنه في التدوينة الفائتة.


تكلمنا عن الحيوانات، هو يحب البعير. وأنا لا أحبه. أخبرته بأني أحب الأوركا، والدقونق (بقر البحر) والجاموس الأمريكي، والطير الطنان. للأسف؛ لم أرى هذه الحيوانات على الطبيعة، ولن أراها على الأغلب أبداً. سأظل أحبها من بعيد، شأنها شأن الكثير من الأمور الأخرى. ذكرت له بأني أحب الغنم النجدي، وسألته إن كان قد رآه؟ قال بأنه رآه، وأنه جميل بالفعل. هو جميل جداً، لكن ليس هذا كل شيء، فهو مختلف عن الخرفان الأخرى، يتحرك بأناقة ورشاقة، ولا يبدو غبياً كالخرفان الأخرى، وينظر برقة. أخبرته بوجهة النظر هذه، فوافقني، قائلاً بأن هذا وصف حسن. يكفي النظر إلى طول الخرفان النجدية وبنيتها الأنيقة، ليعلم الإنسان أن الله خلقها الاجمل في جنسها. لطالما أردت الاحتفاظ بحمل نجدي في المنزل، أردت أن يكون لي، قرب غرفتي في السطح حينما كانت غرفتي الرئيسية، لكن أمي كانت ترفض.

أخبرته بأمر الشاب المريض المشرد، وقصته. اقترح طرق للمساعدة، وقال بأنه يريد أن يساهم في الأمر معي، لنساعد الصبي، اقترح بأن نشتري له ملابس وأشياء. لا أدري إن كنت سأرى الصبي مرة أخرى. سأل إن كان لدينا دور للأيتام؟ قلت بأننا لدينا، لكنه كبير عليها. قال بأنه سيحادث جهة خيرية هنا لها علاقة في نشاط يشرف عليه في الجامعة، ليرى إن كان يمكنهم عمل شيء.
سألني، لماذا لا أكتب عن الأمر، وألفت الانتباه؟ قلت بأني أكتب عن أمور مثيلة، لكن لا يوجد تأثير لما أكتب، بأي شكل، وأني لا أتوقع له تأثيراً على أي أحد. ثم أعقبت: يجب أن أكون دكتوراً ليسمعني أحد هنا. قال: إذا كن دكتوراً، ادرس وأصبح دكتوراً. ابتسمت.

اليوم، أرسلت إليه أخبره عن معرض الحدائق الأندلسية، الذي أتت به اسبانيا إلى الرياض. قلت بأن الأسبان يصفون المعرض بأنه هجرة عكسية، وهو ما اعتقدت بأنه سخرية غير مقصودة، أو شعرت. أخبرته بأني مفتون بالحدائق في كل الأحوال، وأني أود الذهاب، وأريده أن يأتي معي. واقترحت أوقات مطاطة ليختار منها.





كل يوم أريد الكتابة عن شيء، وحينما أبدأ، أنسى.






لدي طفرة هذه الأيام بالمواد الجيدة، على ما يبدو، للقراءة. حتى أني لم أعد أجد الوقت الكافي. لدي روايتين، إحداها اكتشفت أني اشتريتها قبل مدة ونسيتها. ولدي مجلتين ناشونال جيوقرافيك لم أفتحهما، والكثير من المقالات والبروشورات المحفوظة، حول أمر أريد أن أنشغل به إن أعان الله.
في بعض الأوقات، أتمنى أن أقرأ شيء مثير للاهتمام فلا أجد. يوجد الكثير بالطبع في مكتبة المنزل، رغم ما طالها ويطالها من نهب، وعلى الانترنت، لكنه لا يوافق مزاجي في تلك الفترات.




يقول مديري الحبيب بأن طبعة شكلي: "شقراوية" نسبة إلى شقراء، حيث ينتمي. بالطبع يمزح ويجامل. لكني سعدت بهذه المزحة، وبمجاملته وكأنه يقدرني إلى حد أنه يحب لو انتميت إلى نفس المكان. طبعاً، لديه ما يستند إليه، فعائلة جدتي رحمها الله تنتمي إلى هناك قبل أن تأتي إلى القصيم، قبل زمن طويل، ولا يزال أقاربهم هناك.
أتذكر أقارب لنا قبل فترة ليست بالبعيدة زارونا بالمنزل. حينما دخلت المنزل راجعاً من مشوار، ولم أكن أعلم من الضيوف، أُخذت حينما رأيت أشكالهم؛ كانوا أقرب شبه إلي مما أرى في أقاربي الأقرب، أبناء العمومة والخؤولة. شعرت بأني بالواقع من هؤلاء الناس. حينما علمت من يكونون، شعرت بأن الأمر منطقي. والدي يشبههم ولا يشبه عائلتنا، وإن لم أتشابه مع والدي، ولكني ورثت جينات يغلب عليها طابعهم ربما. أخي الأكبر يشبه أهلنا أكثر من والدي، بل إنه لا يشبه سواهم، حيث يشبه جدي رحمه الله كما يقال عنه. أعتقد أن عائلتنا غريبة. المهم أن كبيرهم كان ودوداً جداً معي في ذلك اليوم، وتكلم معي وسألني عن أمور مختلفة.
لكنه سأل والدي أن يحضرني معه حينما يحضر إلى القصيم، و قال بأنهم سيزوجونني. كان أمر محرج، وكان سيكفي لو قيل لمرة واحدة، لكنه كرر بأكثر من صيغة، وتكلم بجدية. حينما أخبرت أختي الكبرى وأنا أضحك، ضحكت معي (طبعاً). لكنها تسائلت بجدية، لماذا لا أتزوج منهم بالفعل؟ فهم عائلة جميلة. بالطبع، لا أعتقد أني سأتعداهم لو رغبت بأحد من الأقارب أو الجماعة، لكن، هل أرغب بذلك؟ إني أفضل التعرف على أناس جدد.
جاء أخي الكبير ذات مرة إلى العمادة حيث أعمل، كان لديه شأن يتطلب حضوره. طلبت منه أن يأتي ليسلم على مديري. دخل وسلم، جاملا بعضهما برسمية زائدة في نظري. هل لأنهما في أعمار متقاربة؛ يحذرون من بعضهم؟. حينما خرج أخي، كان مديري يبتسم بطريقة غريبة. كأنما يريد أن يضحك. استغربت. سألني إن كان هذا أخي من من أمي وأبي؟ قلت باستغراب: نعم، ما الأمر؟ قال بأنه يسأل فقط. لا يجب أن يكون الإخوة نسخ كربونية، لكن بعض الناس لم يتعودوا. وربما لمحدودية أفراد عوائلهم دور. أنا لا أعتقد أن بيننا اثنين يتشابهون في العائلة. أتهم أنا بأني أشبه أحد إخواني الكبار، لكن بموضوعية، ربما لدينا لون بشرة متقارب إلى حد ما، لكن الاختلافات واضحة. عينيه أصغر، وكذا شفتيه( ما لدي هو من النوع الذي يسمى براطم. كولاجين طبيعي كما كان يصفها أحد الأصدقاء وهو يضحك)، في حين أن الأنف مختلف. المضحك أن كل أبناءه ورثوا عني صفة عجيبة، كانت خالتي العزيزة، زوجة خالي ووالدة زوجة أخي، قد نبهت إليها؛ لديهم ميزة في أرنبة الأنف، وكأنما نتوء جانبي صغير لا يكاد يلحظ، في حين أن هذا الأمر لا يتواجد لدى أخي. بالطبع، أفرح بأنهم ورثوا عني هذا الشيء الخاص جداً، الذي لا يتواجد لدى أحد آخر في العائلة سواي. ربما حينما ينظرون في المرايا لاحقاً ويتفحصون وجوههم، يتذكرونني. وربما ورثوها لأبنائهم، تلك الميزة التي لم توجد لدى غيري في العائلة، ولا أدري عن الأسلاف طبعاً. يقول صديقي سيد أمس: أنفك جميل، لهذا النظارة الشمسية تبدو عليك جميلة. أعتقد أن أنفي غريب، وكأنه صلصال، لكنه ليس جميل بالضرورة، ولا قبيح، لكني أرجو أن يكون أبناء أخي المذكور أعلاه راضون عن أنفي أيضاً. تفحصت أنف أصغرهم، بالكاد عمرها سنة، وهي مدمجة الحجم، لذيذة الخدين، ووجدت أنفها كأنفي. فرحت. لا أريد بالطبع لأي من أبناء إخواني أو أخواتي أن يشبهوني، أريدهم أن يكونون جميلين، لكن، مجرد شيء صغير لا يضر للتذكير أعتبره أمر جيد.
وبذكر أبناء أخي هؤلاء، عاد ابن اخي من كندا، قبل فترة، خائب الأمر. ماذا بوسع المرء أن يفعل...









كان محمد ابن أختي، المحمد ذو الشعر المتموج، يتبعني إلى غرفتي كالعادة. لكن، حدث أمر غريب هذه المرة. حينما دخلت، أخذت المعطر لأصبغ غرفتي بالرائحة التي أعشق، الفانيلا، فهرب محمد بسرعة من الغرفة ووقف يتابع أمام الباب على نحو غريب. بدأت بالرش، ثم أمرني بعصبية أن أرش في اتجاهه، بينما تراجع إلى الوراء!. رششت، فاقترب ببطء، وتوقف، ثم سمعته يتشمم الجو كجرو صغير!. ثم أطلق زفرة ارتياح أمام دهشتي!.
لديه موهبة رائعة بالتصوير ما شاء الله، رغم أن عمره 4 سنوات. كثيراً ما يذهلنا.



السهر نقيض النوم، مع ذلك، ما أجمل الاثنين. أقدر النوم كثيراً، خصوصاً قبل أيام نهاية الأسبوع وخارج الإجازات، حيث يأتي الأطفال في نهاية الأسبوع ويسببون لي انهيارات عصبية كلما صرخوا يلعبون وانا أحاول النوم، نهاراً أو ليلاً. أما السهر، فقيمته بالنسبة لي تكمن بالخلوة، والانشغال بالذات، ألا تكفي هذه كأسباب وجيهة؟.



قرأت رواية أفريقية مؤخراً. لا يجب أن نتوقع أن رواية ستكون جيدة بسبب موضوعها أو مكان انتمائها. كنت قد قرأت رواية: أشياء تتداعى، للكاتب تشنوا أتشيبي، وهو أفريقي وأجواء الرواية أفريقية، وأعتبرها من أروع وأجمل وأكمل ما قرأت من الروايات. أما الاخيرة، واسمها: مذبحة ويريامو، فهي في رأيي راحت ضحية المبالغات والسذاجة، وعدم ضبط الشخصيات وضعف المنطق خلفها، أضف إلى هذا إقحام الفلسفة على نحو زائد عن الحد، وفي أماكن وعلى ألسنة غير ملائمة، وحيث لا يتوقعها المرء ولا يريدها، مما يثير ازدراء القارئ، بدلاً عن التأثير عليه. إن موضوعها يتعلق بالمستعمر الأوروبي، مقاومته أو مداهنته، كراهيته أو الانبهار به، عبر شخصيات كثيرة. كل هذه مقومات كانت لتصنع رواية مثيرة للاهتمام، ويوجد شخصيات كانت لديها الامكانية لتصبح مؤثرة، لكنها لم تستثمر، وعولجت بسذاجة وسطحية. كان وصف المآسي أحياناً يشعر المرء بالضيق والاستنكار، ليس لإتقان الوصف، لكن للحط من قدر الموقف المؤلم بسبب ضعف الأسلوب، الأمر الذي جعل المأساة على جانب من الكوميديا أحياناً، مما يثير الغيظ. 
فشل بالأسلوب، وليس في النوايا، لكنه فشل.

هذا رأيي بها. للأسف، لا أدري إن كنت سأقرأ مرة أخرى شيء بجودة رواية أشياء تتداعى، تلك الرائعة فوق الوصف. لم يكن الأمر مجرد جمال وإثارة قشرية بالنسبة لرواية "أشياء تتداعى"، إنما كان هناك مغزى عميق جداً، يمكن إسقاطه على الكثير من الشعوب والامم. نفكر بتشابه الامراض، وقد يكون ما نتحدث عنه هنا هو مرض واحد أو علة واحدة، لكننا ننسى أن الاجساد التي تستقبل نفس المرض متشابهة، وإن باعدت عنها المسافات. في رواية تشنوا أتشيبي، يرى المرء الإرادة القوية وهي تتحطم، والموت الذي نهرب منه بغريزتنا، بينما هو يزحف إلينا من كل اتجاه، نجد أنفسنا مدفوعين باليأس والخيبة إلى إحتضان هذا الموت.






اليوم الخميس، وهو يوم جميل. ذهبت مع الدكتور إلى المتحف الوطني، لنرى في أحد صالاته معرض الحدائق الأندلسية.
في السيارة، تكلمنا حول رؤيتنا للناس وأنواعهم، فلسفنا الأمور
في الطريق سائرين قرب المعرض، تكلمنا عن أوروبا، وتسائلت إن كانت سويسرا تشبه جنوب ألمانيا. شرح لي الإختلافات والتشابهات. قلت بأن سويسرا كانت دائما مثال هنا على الجمال. لكني أعقبت بأني لسبب ما، منذ أن كنت صغيراً، لم تثر أوروبا اهتمامي، رغم أني أعلم بأنها جميلة، وأني لو ذهبت إلى هناك، فلن أنسى التجربة، إلا أني لا أشعر حقاً بالاهتمام كثيراً. قال بأن هذا شيء متوقع، فهي مختلفة عن هنا كلياً. قلت لكن الناس الذين يذهبون إليها يحبونها كثيراً، كل من أعرف أحبها حينما ذهب. قال بأنهم "ربما يحبون الحرية هناك، ولكني لا أعتقد بأن الحرية هي الأمر الذي تشعر أنت بأنه ينقصك هنا، أو تبحث عنه، إنك لديك أشياء أخرى تبحث عنها، لذلك لا أتصور بأن أوروبا ستبهجك كثيراً".
لا أشعر بأني مفتقد للحرية هنا، لكني مفتقد للماء الجاري على الأرض، وانشغال الناس بأنفسهم. مع ذلك، استشعرت مباشرة بأنه بدأ يعرف خبايا نفسي بسرعة، دون أن آتي على ذكرها، ولو من بعيد.


لمن يريد أن يعرف؛ المعرض تافه جداً. إنه أشبه بعذر عن شغل المكان، وتنفيذ لمجاملة قيلت، عنه عرض لحدائق وأساليب تنسيقها أو أسباب اختلافها عما لدى العالم. لن يرى الزائر نماذج لحدائق، ولا حتى صور كافية عنها، إنما صور عابرة. ما سيرى المرء هو علب يستنشق منها روائح النباتات التي كانت تزرع هناك، وأكثرها مألوف، رغم أنه ربما يكون هذا هو المغزى. المرة، وأكليل الجبل، الذي حينما شممته عرفت أنه دواء تعطيه أمي لمن يمرض لكن باسم مختلف، والكمون، وأشياء عادية في مجملها. كما يوجد نماذج لآلات الري والطحن، نواعير وتروس جميلة، لكن، أليست النواعير تملأ الشام؟ وأليست التروس تملأ مزارعنا سابقاً على هيئة السواني؟. أتفهم أن وجودها ضروري بالمعرض، ليخبرنا أن الناس هناك كانوا امتداد لنا ولثقافتنا، لكن هذا التهافت لإيصال هذه الفكرة الوحيدة، وإهمال الجانب العملي والمتوقع من عنوان المعرض، كان أمر مثير للضيق، وكأنما كان خدعة.
ترى نموذج صغير في المدخل لأصص يفترض أن تعطي انطباع عن حديقة بمساحة مترين أو ثلاثة. ثم بعض الروائح بالطريق إلى الصالة، محبوسة في علب بلاستيكية بمقابض جانبية حينما تحركها يتحرك الهواء في الداخل فيخرج من فتحات الاستنشاق، حيث تقرب أنفك. ثم نموذج لناعور، وهو نموذج متقن وجميل. ثم الكثير من الروائح، وعرض جانبي للبذور والأوراق، ثم مدخل الصالة الصغيرة. يوجد منصة لأجهزة حاسب تعرض برامج، أعتقد أن كلها باللغة الاسبانية، وزجاجة تحوي كتابين قديمين أحدها بلغة أوروبية والآخر بالتركية بخط عربي، وكلها مترجمة عن كتب عربية عن الصحة وطيب العيش والزراعة على ما أتذكر. المزيد من الروائح والنماذج الصغيرة، وهكذا دواليك. لم تكن المعروضات عموماً كثيرة أو مثيرة للاهتمام. بعد قليل من دخولنا، سمعنا صوت مرتفع لعزف على عود. صمت وأنا أحاول أن أستوعب، هل هو نغمة لجوال، أم شخص يعزف فعلاً، أم تسجيل؟. أكمل العزف، فعرفت أنه تسجيل لإضفاء الجو للمعرض. ضحكت وقلت: "قبل بضع سنوات، لم يكونوا ليجرؤوا على هذا."
استدار إلي الدكتور، وقد شد هذا التعليق انتباهه، واجهني جانبياً، حاثاً إياي على التوقف بهذه الطريقة، وسأل: "هل تعتقد أنه من الأفضل أن يكونون أكثر تشدداً؟"
أجبت: "أعتقد أن القرار يجب أن يعود للناس. إن أرادوا تشدداً أقل، فليكن، وإن لم يريدوا، فليكن، فالأمر يجب أن يرجع لهم، يجب أن يكون قرارهم، لا أن يرغموا على الأمر. أعلم بأن الكثيرين سيعجبهم تخفيف التشدد، كسماع الموسيقى هكذا، لكنهم لن يريدوا أن يرغموا على القبول بالأمر، بينما سيعجب آخرين الإرغام على الأمر، لمجرد أنه وافق هواهم، دون اكتراث بالآخرين."
صمت الدكتور، وقلب نظره متأملاً. ثم قال بأن هذا صحيح.


كنت خائب الظن بالمعرض أكثر من الدكتور، الذي ربما أخفى خيبة ظنه حتى لا أندم على جرجرته إلى هناك. لما كدنا أن نخرج اقترحت أن نزور المتحف الوطني نفسه. حينما وصلنا لشراء التذاكر، عشرة لكل واحد منا، قال ببساطة أنه هو من سيدفع، وثناني بهدوء. ابتسمت، قلت بأنه لا يهتم بالمال. لاحظت منذ البداية أنه كريم جداً. وهذا أمر مبهر، لأننا في الجزيرة العربية نتخيل بشكل لا واعي بأننا وحدنا الكرماء، محاطون بأناس يقدرون المال أكثر من المطلوب في محيطنا العربي. أما باقي العالم، فلا نعرف عنه غير الحكايات الفردية، التي تكرس لبخل الأوروبيين مثلاً.
دخلنا، في البداية كان هناك أحجار ومعادن، ثم هيكل ضخم لنوع من الفيلة كانت تجوب الجزيرة العربية قبل ملايين السنين. كان المتحف جميلاً، يوجد فيه الكثير مما يثير الاهتمام. لكني أعتقد أنه من الممكن أن يكون أفضل. أكثر ما أسعدني هو أني رأيت على الطبيعة قناع ذهبي صغير، وقفاز طويل ذهبي أيضاً، أقرب ما يكون غطاء للذراع، وأشياء أخرى، وهي كلها بمقاس يلائم طفل بعمر السادسة إلى الثامنة. هذه الأشياء أكتشفت في المنطقة الشرقية، في قبر فتاة ماتت قبل آلاف السنين، أكتشف القبر قبل حوالي سنتين، وقد قرأت الخبر ونظرت إلى الصور باهتمام كبير في ذلك الحين. قيل في الخبر أن الفتاة على الأغلب هي أميرة يونانية. القناع بدا لي يوناني الطابع إلى حد بعيد. كثيراً ما خطرت في بالي هذه المكتشفات، لكني لم أتوقع أن أجدها هنا في المتحف.
للأسف، هذرت على رأس الدكتور أكثر مما أردت، لم أصمت أبداً. شعرت بالأسف، لأني فكرت لاحقاً بأني ربما أفسدت تجربته دون أن أريد. أخبرته عن الكثير من الأشياء التي أعرف عنها في المتحف، وحكيت له القصص، وأشغلته كثيراً. هي الزيارة الأولى لكلينا. تكلمت بحماس عن قرية الفاو، وقد غاب عني أننا على الأغلب سنصل إلى أمور معروضة عنها. لكن خاب ظني كثيراً حينما لم أجد تمثال مجنح بديع، كان قد وجد في الفاو. أين يمكن أن يكون؟.
كانت أشكال الكتابات العربية القديمة تخلب اللب، حيث أنها لا تشبه كتابتنا هذه، بل هي حروف مختلفة كلياً، إنها جميلة وتشعر المرء بأنها تحمل إحساساً راقياً ومتطوراً. كنت قد قرأت أن أهل الفاو قد شغفوا بالكتابة حد الجنون، بحيث تجد الكثير من الكتابات لهم على كل شيء حول كل الأمور. يا للروعة والرقي والحس بأهمية التعبير. أخبرت الدكتور بهذه المعلومة، وضحكت، قائلاً بأني أتمنى لو كنا قد ورثنا هذا عنهم. ثم رأينا صورة أعرفها، أخذت عن رسمة وجدت في الفاو. صورة لأمير أو شخص مهم، شاب وسيم مكحول العينين، ينظر نظرة جادة، بينما حوله فتاتين يقمن بطقس معين، غير واضحات المعالم، والصورة جميلة، ملونة بألوان زاهية لا يدري المرء من أين حصلوا عليها. للأسف، لم أرى من تماثيلهم شيئاً، رغم وجود تمثالين صغيرين مع عدة الفتاة اليونانية، ورغم أني أعلم بأن أهل الفاو كانوا متطورين جداً في صنع التماثيل، وقد ضاهوا اليونانيون إلى حد بعيد، كما أنهم كانوا وثنيون.
في أحد الأقسام، رأيت إبر معدنية كبيرة، مصنوعة بإتقان. فتذكرت قصة قديمة كنت أحبها حينما كنت صغيراً. قصيتها على الدكتور. وهي عن فتاة بدوية جميلة، ذهب أهلها لتلبية دعوة وتركوها لوحدها في الخيمة. حينما خيم الظلام ولم يعد ذووها، خافت، فهي لا تعرف كيف تشعل النار، رأت خيمة بعيدة وأمامها نار. ذهبت إلى الخيمة، ووجدت رجل مسن عند النار. استأذنت لتأخذ من ناره، لكنه رفض. حاولت إقناعه، لكنه رفض مع ذلك بعناد. فقدت أعصابها، فضربت الشيخ وأخذت بعض النار ومضت. لم يكن الشيخ وحيداً، فقد عدن بناته ووجدنه يبكي، ولما أخبرهن ذهبن إلى خيمة البدوية الجميلة، وهي اسمها نجلاء في النسخة التي سمعت، وضربنها، ووخزن فروة رأسها بإبر نحيلة لا ترى، وسحرية، بحيث جعلتها تذهب في غيبوبة. وتركنها هكذا. حينما عاد أهلها، فوجئوا بالمصاب، وطلبوا عون الأطباء والغجر، لكن لم يستطع أحد أن يعرف العلة، فلا أحد يمكنه رؤية الإبر السحرية فيعلم بوجودها. ربطها أهلها فوق جملهم الأثير، وأطلقوه ليهيم بالصحراء، ولتواجه ابنتهم قدرها، أو يتولاها الله برحمته، بعدما لم يعد في يديهم حيلة. لكن الجمل اقترب لاحقاً من قرية للحاضرة، ولم يتمكن الناس من الإمساك به، سوا أن شاب جميل تذكر بأنه رأى هذا الجمل مع أهله البدو عند أحد السواقي، وتذكر أن اسمه: سيف. نادى الجمل، فتوقف الجمل، وعاد إليه. حينما فلوا القماش الذي يحمله، وجدوا نجلاء في الداخل، لا تستيقظ. أخذت إلى منزل أهل هذا الشاب، ولم يتمكنوا من مساعدتها. بعد حين، وصلتهم دعوة إلى وليمة، وكانوا بالعادة يتركون أحدهم للعناية بجدتهم الطاعنة بالسن، والعمياء. لكنهم قرروا أن يذهبون جميعاً، ويتركون نجلاء إلى جانب الجدة الخرفة، لتجسرها فلا تخاف، وهي لن تعلم بأن الفتاة لا تعي ما حولها. بدأت الجدة حينما غادروا تمسد رأس نجلاء الجميل، وتحكي لها الحكايات، ولكنها شعرت بالإبر، وانتزعتها واحدة واحدة، فرغم أن كل من عاينوا نجلاء مبصرين، إلا أن هذه العجوز العمياء هي الوحيدة التي توصلت إلى الإبر. فتحت عينيها نجلاء، وأفاقت من غيبوبتها. لما عاد الأهل، وقع الإبن في حب نجلاء، وتزوجها.
ضحك الدكتور في نهاية هذه القصة. إنها طفولية وساذجة، لكنها جميلة جداً ومعبرة، لهذا لا زلت أحبها. فهذه العجوز الضريرة سخرها الله لتفعل ما لم يفعله المبصرون دون أن تدري، لأنها حنونة.




وصلنا إلى قسم الحج، ولما خرجنا، سألني إن كنت قد ذهبت إلى مكة؟ ضحكت، وأخبرته بأني ذهبت كثيراً، ولكني أفضل المدينة المنورة عليها. قال بأنه يعتقد أن المدينة أجمل بالفعل. بالتأكيد، رأى هذه المدن المقدسة بالصور. قلت له، بأن الأمر لو ترك في يدي،،، ثم لم أكمل، فقد فطنت أنه علي إيضاح الأولويات. قلت بأني لو كنت سأنتقل من الرياض، فسأذهب إلى المدينة المنورة بأمي وأبي. ثم أعقبت؛ لكن، لو ترك الأمر بيدي، أو لنقل لو أرغمت على مغادرة المكان، لاخترت العيش في عمان، وأخذت أمي معي.
قال متفاجئاً: عمان؟
قلت: نعم، عمان، فأهلها طيبون، ومتحضرون بطبيعتهم، وأتصور بأن العيش سيطيب لي هناك.
قال بأنها بلد جميل، وأهلها بالفعل طيبون ومتحضرون، وأن الحضارة ضاربة بجذورها هناك، إذ أنه زارها.




خرجنا، ومشينا بالحدائق الخارجية المزدحمة، وكان هناك بعض المياه الجارية اصطناعياً. أخبرته بأن النوافير هي من أكثر الأشياء التي أحب في حياتي، رغم أني لم أرى نوافير جيدة هنا، أو نظيفة. وحينما تكون مقبولة، تكون مهملة وقذرة، كلها هكذا هنا. وافقني، قائلاً بأن هذه هي مشكلة كل الدول العربية، فالأمور تهمل بسهولة. وقال بأن النوافير جزء متأصل في حضارتنا نحن، ويمكن رؤيتها في المدن القديمة، دمشق، القاهرة، وخلافها. سألته عن النوافير في ألمانيا؟ قال بأنها كثيرة جداً، بدا الأمر وكأنه يغريني، أو يشعرني بالأسف، سألته إن كان قد شرب منها؟ قال بأنه يشرب منها، فهي صافية ومنعشة، والشرب منها طيب. أخبرته بأني أتمنى لو وجدت نافورة جميلة، ونظيفة، لأنام فيها. أجاب بأنه لن يمكنني أن أطيل النوم، فستكون المياه باردة على الأغلب. صَمَتّ.


سألته إلى أين يود أن يسافر، كانت دولة آسيوية. قلت بأني لو سافرت، ولست بشخص مسافر، لذهبت إلى البيرو. فوجئ، وابتسم، وقال نعم، البيرو تلائمك، وخذ معك هذا البونشو. يقصد التشادر الأبيض الكريمي الذي أتلفع به اتقاء للبرد. ضحكت، وقلت بأني لو ذهبت بناء على ما ألبس، لذهبت إلى أفغانستان. استغرب، فشرحت له أن هذا اللبس يأتي من هناك، ومن باكستان. التشادر هو قطعة قماش مستطيلة، طويلة جداً وعريضة، ترى كثيراً على أهل تلك المناطق.


حينما اقتربنا من السيارة، سألته عن أفضل الروائح التي يحب. قال بأنها كثيرة، ولكن لا شيء محدد، فهو يحب الروائح المتجمعة بعدما يهبط المطر في الغابات في ألمانيا، ويبرز روائح كل شيء، الأرض، النباتات، الأشجار. قلت بأني أحب الفانيلا. ضحك، متذكراً بأني أعطيته قارورة صغيرة من زيتها. أخبرته بأسف بأنها لم تكن من أفضل نوع، حيث أن النوع الرائع الذي كنت أشتريه لم يعد يأتي به المحل، فاضطررت بعد بحث إلى هذا النوع الذي لم أجد غيره، وأعطيته منه. ابتسم، قائلاً ونحن نمشي: دائماً تبحث عن أفضل شيء. قلت بأن غيره يقولون بأني غريب يبحث عن أغرب الأشياء.

حينما اقتربنا من منزله، سألته؛ لو كان سعودياً، فماذا يحب أن يكون اسمه؟. هذه الأسئلة السخيفة التي أحب أن آتي بها من وقت إلى آخر، وهو لا يمانع سخافتي. فكر طويلاً، ثم قال: طارق. لا أحب هذا الاسم، لكني لم أقل شيئاً. إلا أنه استمر بالتفكير، قائلاً بأن هناك اسم يحبه حقاً، ولكنه لم يستطع تذكره. اقترحت: لماذا لا تسمي نفسك هادي؟. تسائل: هادي؟ قلت: نعم، هو اسم جنوبي، وأنت من جنوب ألمانيا، هذا يجعل الأمر معقولاً. ضحك، وسألني عن معنى الاسم؟ لما شرحته تفكر قائلاً: "ااه، هاديه! مثل هاديه! ولكنه مذكر." قال هاديه بلكنة مصرية، حيث عاش هناك لوقت ليس بالقصير، وكل أصدقاءه هنا من المصريين على حد علمي. أما أنا؛ حينما سألني ماذا قد أختار لنفسي (لم يقل لو كنت سعودياً بالطبع). قلت بأني لست متأكداً، ولكني حاولت قبل زمن طويل أن أغير اسمي، حيث لم يعجبني، ولكن والدي عارض الفكرة بقوة، حيث سماني على عمه، الذي لم أصبح مثله بالنهاية. الآن، نسيت ما كنت أريد أن أختار لنفسي. مع ذلك، لو غيرت اسمي الآن، لاخترت اسم: سعود. تسائل: سعود؟ لم ينطقه بشكل صحيح، فصححت له، وشرحت: "أريد أن أسمي نفسي سعود لأن هذا ما رغبت أمي أن تسميني به، حيث أنها تقدر أمير اسمه سعود الفيصل كثيراً، وهو وزير الخارجية، وتعتقد بأنه ذكي جداً ومحنك، فأرادت أن تسميني سعود تيمناً به، لكن والدي رفض" قال الدكتور بأنه لم يكن ليرفض هذا.



في الليل، تناولت العشاء مع خالد، زميلي في العمل، وهو مؤذن مسجد الآن، انتقل إلى شمال الرياض في الشهور الأخيرة. تعشينا في مطعم طوكيو. كان عشاء طيب وممتع، وتندر خالد كثيراً على التشادر. كنت قد رأيت من خلف الحواجز الحصيرية وجه مألوف حينما دخلنا للمطعم، فاستأذنت من خالد، وذهبت إلى خلف الحاجز، وسلمت على زميلين من أيام الجامعة. أحدهما كان ليس أقل من صديق في بداية الجامعة. تندر بأنه كان يجب أن يعرف أنه سيجدني في هذه الأماكن إن اختفيت. كنت أتهم في الجامعة بالكثير من الأشياء، بأني لي طابع ياباني، وأحياناً بأني أبدو كرسمة أنيمي (الشخصيات الكرتوني اليابانية) وأحياناً كفنان أوروبي (حسب القبعة)، أحيانا أشياء كثيرة أخرى. دعوني للبقاء معهم، ولكني استأذنت بأن معي أحد. حالما غادرت الغرفة نسيتهم، والغريب أن خالد هو من ظل يتذكرهم ويسأل عنهم!! خالد عجيب. حكيت للدكتور الألماني عنه، قلت: لدي زميل في الجامعة، سألني ذات مرة: لماذا تحب الأشياء الغريبة؟ فرددت: يجب أن تسأل نفسك هذا السؤال، فأنا أحبك. ضحك الدكتور الألماني كثيراً. وكان هذا في تتمة النقاش حول كوني أبحث عن أفضل الأشياء أم أغربها. وصفت خالد بأنه رجل طيب جداً، مؤذن للصلاة، شديد البراءة والبساطة، حتى أنه يبدو لي كطفل في معظم الأحيان (في النصف الثاني من ثلاثيناته بالواقع). قال الدكتور: إذاً، هو لا يستوعب عمق شخصيتك وحساسيتك. يصفني الدكتور أحياناً بأوصاف من هذا القبيل، حتى يشجعني ويجعلني أشعر بأني شيء مميز.
عودة إلى العشاء مع خالد؛ فوجئنا بأن كل أماكن المطعم تسمح بالتدخين، وكان هذا شيئاً سخيفاً، لكن خالد طلب من الأشخاص بجانبنا عدم التدخين.
ثابر خالد في محاولة استخدام عيدان الأكل، ولم يعطني الفرصة الكافية لتعليمه، أو يدقق كثيراً على تعليمات استخدامها على الغلاف. لكنه نجح على نحو مقبول. أحضرنا لاحقاً الأدوات المعتادة للأكل، وأكلنا بأيدينا حتى.
قلت لخالد، بأن المرة القادمة سنذهب لتناول السوفليه في مقهى قريب. وصفت السوفليه بأنه حلوى لذيذة، لها شكل بطن خالد، خصوصاً أنه كان يرتدي ثوباً بنياً في تلك الليلة.


حينما خرجنا من المطعم، قال خالد بأنه يريد أن يمشي في ممشى الملك عبدالله. ذهبنا ومشينا، وتكلمنا كثيراً. بائع عطور هناك، حينما علم أن خالد يريد شراء البخور لتعطير مسجده، رفض أخذ المال، وثاوب به لأمه رحمها الله. أما أنا، فلم يعجبني عطر الفانيلا لديه أبداً، ولا أدري كيف بعض المحلات تسمي الرائحة التي لديها بالفانيلا، هل يعرفون الفانيلا حقاً؟.


ثم دخلنا بيته الجميل، وأراني إصلاحاته، وهو بيت المسجد. بيت فريد، لا فناء يحيط به، إنما فناء خلفي مستطيل فقط. وقد أعجبني هذا كثيراً. كانت إصلاحات خالد رائعة، وذوقه جميل بالاختيارات، مع زوجته بالطبع.






وجدت اتصالات من همام الصيني، وعرفت منه لاحقاً، وهو يكاد أن يكون منقطع الأنفاس من فرط الجدية، أنه يحتاج لرؤيتي الليلة لأساعده بتحرير ترجمته لنص صيني ضروري لجهة رسمية. وجدت ترجمته ممتازة، رائعة جداً ما شاء الله. لكنه فعلها في يوم واحد والنص طويل، وكان يحتاج إلى اختصار الوقت في التحرير. حررناها في ساعتين في مقهى جافا تايم، بعد صلاة العشاء. ثم مكثنا نتكلم عن شتى الأمور.






هاقد عاد جهازي العزيز من الدمام، كم اشتقت إليه. قرأت نتيجة دراسة أجنبية في الجريدة حينما كنت صغيراً، تقول بأن الرجال أشد تعلقاً بممتلكاتهم من أدوات وآلات من النساء اللائي لا يتعلقن بها عاطفياً مثل الرجال. يعني أن الرجل مثلاً قد يتعلق عاطفياً بسيارته أو ساعته، في حين أن المرأة تنظر إلى هذه الأشياء بطريقة عملية، وسائل يمكن استبدالها، قيمتها مادية لا معنوية. لكن من يدري، لعل الدراسة مخطئة.




الجو اليوم استثنائي بمعنى الكلمة. في الصباح كان ممطراً ومنعشاً. وقد لبست الجكيت لأول مرة للعمل هذا الشتاء. فرحت بالواقع، فأنا كنت أود أن ألبسه في العمل، لا في المساء فقط. من المؤسف أني لا أستطيع جلب التشادر إلى العمل، حيث لن يبدو جيداً مع الغترة. الجكيت الذي ألبس كثيراً ما كان محل اعتراض امي، حيث تعتقد بأنه لا يجلب الدفء، لأنه يخلو من الفرو أو البطانة الثقيلة في الداخل. لكني أشعر بأنه دافئ بما يكفي. اشتريته قبل سنوات من برناردي قبل أن يغلق، بسعر أقرب للبخس في وقت تخفيضات. أتلقى حوله عموماً تعليقات إيجابية حتى الآن رغم مرور سنوات وهو لدي، خصوصاً للونه المميز، الذي لا أدري ما اسمه. كيف يمكن للنساء تسمية كل الألوان؟!.

عموماً، لدي شغف بالحفاظ على الملابس لفترة طويلة. لست من النوع الذي يميل لشراء الملابس كثيراً، سوا حينما أجد شيء مختلف واستثنائي حقاً. وكلما ازداد تقادم القطعة التي أحب، كلما ازدادت قيمتها لدي. ليس الأمر بخلاً، لكني أحب الوفاء لما أحب من الأشياء غير الالكترونية. فالملابس وما شاكلها من هندام وخلافه أرى بأنها تعكس شخصيتي، لهذا أحرص وقت الاختيار ولا أشتري كثيراً، أرى بأن هذه الأشياء تصطبغ بالشخصية مع الوقت، وتصبح شبه قطعة من المرء. أعترف عموماً أن الأمر حينما يداخل الثياب البيضاء والغتر، لا أهتم بأمرها كثيراً. لأني لا أرى فيها تميزاً كبيراً فيما بينها، وأشعر بأنها استهلاكية، حتى جودتها مهما دفعت تظل متدنية ولا تعيش طويلاً. وهنا يطل التكاسل برأسه، بالإضافة إلى عدم الرغبة بالتبذير، فلا أفصل أو أشتري الثياب إلا على فترات أبعد من اللازم. لكن قد يحسب البعض أن هذا هو السبب الذي لا يجعلني أمانع خياطة الشقوق غير الكبيرة متى ما كان هذا ممكناً، حيث تخيطها لي أمي، لكن هذا غير صحيح. أنا أهتم بخياطة الثياب وإصلاحها بعداً عن التبذير، حتى لو اشتريت ثياباً جديدة، لا أحب التخلص من ثوب لأنه انقطع على نحو يسير، أو لأن البعض قد يضحك حينما يرى الخياطة، فمن يضحك على أمر كهذا يسعدني أنه يضحك علي وليس لي، لأن مقاييسه مقلوبة وشخصيته غير عميقة، فحكمه حينما يأتي معاكساً فهذا مما أعده بشارة. لا أحب الكِبر، يمكن للمرء أن يظهر أنيقاً وحسناً حتى لو كانت ثيابه مخيوطة الشقوق الصغيرة على نحو معقول، طالما أنها ليست رثه أو مهترئة تماماً، وطالما أنها نظيفة. فوجئت بسيد، صديقي الهندي، يُشده حينما رأى بأن ثوبي مشقوق ومخيط من عند باطن الكوع. ذكر الله، وتأمل الثوب ممسكاً بيدي، وقد استغربت كثيراً. لكنه قال بأني أول سعودي يراه يخيط ثيابه، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان هكذا. لست أدري عن صدق الادعاء هذا، لكني حزنت على كون خياطة الثياب المشقوقة ليست بالأمر الدارج.
كما أني أهتم بإصلاح ما أحب من الملابس وما أجده أثيراً بنفس القدر. لدي صديرية فرو، أصلحتها ذات مرة بدبوس حتى لا يقع الكتف، وظلت جميلة ومميزة، أسئل عنها في بعض الأماكن.






رأيت الدكتور الألماني اليوم، كانت لدينا مهمة؛ شراء فساتين لحفيداته الصغيرات. فساتين ملكة سبأ. لم أفهم بالبداية ما حكاية ملكة سبأ، حينما أخبرني في منتصف الأسبوع عبر البريد. شرح بأنها فقط فساتين جميلة. أخبرني القصة اليوم؛ الطفلتين الصغيرتين رأين خالتهن تمثل في مسرحية دور ملكة سبأ، فأعجبن بفستانها. أعمارهن ٦ و٧ سنوات. دخلنا محل، ولم ينتبه كثيراً لما اقترحته بثقة منذ البداية؛ كان فستان غريب وبسيط بنفس الوقت، له رقبة زرقاء مطاطية عريضة وطويلة تغطي الرقبة (الأزرق شرط مهم) بينما الفستان أبيض ومنسدل بثنيات واسعة، بلا أكمام أو حتى كتوف. لم تبدو لي الفساتين التي لفتت انتباهه وشرع بقياسها بالمتر جميلة أبداً، لهذا كان علي أن أخبره بسبب اختياري حتى يكون على بينة. قلت بأن الفساتين التي اختار عادية ومعاصرة، بينما الفساتين التي اخترتها أنا للفتيات غريبة وغير تقليدية لهذا الزمن، وكأنما صممت في حضارة قديمة مختلفة وتوحي بالفخامة البسيطة والقدم، فسيبدين كملكات قديمات بها. دقق النظر بالفساتين، وفرح جداً، استوعب الفكرة. مع ذلك، أقنعته بالانتظار، لنرى المحلات الأخرى، لم يبدو أنه صار يريد غير هذه الفساتين لحفيداته، فتوصلنا إلى الاتفاق على إبقائها محجوزة لدى البائع ريثما نعود. خرجنا وهو يتكلم بأنه سعيد لأنه لقي الفستان المناسب، رغم أنه لم يدرك هذا في البداية، إلا أن رؤيتي للأمر أعجبته. تكلم عن حمله لهمّ الفساتين، الذي سقط الآن، واعتبرني منقذ. عرفت أن دوراننا على المحلات الأخرى لن يكون له طائل، طالما هو معجب بتلك الفساتين الصغيرة إلى هذه الدرجة. لكنه على الأقل وجد أكاليل من زهور صناعية، واصر على شراءها، واشترى كذلك طرحات سوداء مزينة لهن.
عدنا للمحل، فاصلت الرجل، وبالكاد أنزل بعض السعر. في المحلات الأخرى، كان لا يعجبه ما يصفه بالتصاميم الأمريكية الطابع.
صاحب محل حسب أنه أمريكي، ودلنا على محل يحتوي موديلات أمريكية، وكان هذا آخر ما يبحث عنه الدكتور.


عرفت أنه معارض كبير للألعاب الالكترونية، وتناقشنا حول الأمر. قلت بعدما لم أتمكن من إقناعه: أعرف ما العلة، لأنك لا تستمتع بها ولا تعرف استخدامها تحاربها مثل الكثير من الناس. صمت مبتسماً، ثم قال بأن هذا صحيح. صحت: أرأيت؟!. لكنه قال سأسمح لك إذا باللعب. عرفت أنه يمزح، فضحكت.


سألته إن كان سيذهب إلى أمريكا؟ حيث أن ابنه باحث هناك على مستوى عال. فوجئت بأنه يخطط للذهاب بعد فترة. سألني لماذا أسأل؟ قلت لأجعله يشتري لأجلي أشياء من هناك. سألني ماذا أريد؟ وأضاف باسماً: ألعاب فيديو؟ قلت: لا، أريد دمية مضحكة تباع هناك، لها شفتين وأسنان، أريد أن ألاعب بها أبناء إخواني (أريد أن ألعب بها وحدي أكثر لقول الحقيقة، فهي شكلت صرعة في الفترة الفائتة حتى على مستوى الكبار هناك، لأنها كوميدية ومضحكة).
لكن لاحقاً، تم الإعلان عن جهاز ألعاب محمول جديد، وأشعر بأني تورطت لأني أريده. لو كان شيء آخر لطلبته أيضاً لاحقاً، لكن هذا جهاز ألعاب، وربما لن يعجبه أن يحضره معه. بالطبع، سأعطيه ثمن كل شيء، لكن هل سيتضايق لو طلبت شيء لا يشعر بالارتياح تجاهه؟.


تأخر الوقت، ولم يعد بأمكاننا الجلوس وشرب القهوة والتحدث لأن الصلاة حلّت، لكن لا بأس، في الأسبوع القادم إن شاء الله. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء في المرة القادمة، فيما يشبه التعويض.


ما أسرع مرور نهاية الأسبوع هذه، رغم امتلائها بالأحداث. ليس بالأمر المعتاد بالنسبة لي.




وصلتني رسالة من باكستاني طيب يعمل في الجامعة. هي للسلام، وهي مشوبة بالمرارة كذلك. يقول بأنه حينما يأتي إلى الإدارة لأجل عمل فإنه يواجه بوقاحة الموظفين. بعض الموظفين فعلاً قساة، ولكن عن ضعف بالوعي، وهي مشكلة خطيرة واسعة النطاق في المجتمع. كذلك أعلم بأنه يعاني من جهة أخرى من الدكاترة السعوديين. قال لي متعاقد قبل فترة أنهم يبحثون طوال الوقت ويقدمون الأوراق التي يجب أن تشتمل على اسم دكتور سعودي، الذي لا يقوم بشيء، حتى يترقى إلى مرتبة علمية أعلى.
قال الباكستاني بأني الاستثناء الوحيد في العالم العربي كله. فعرفت بأن زملائه من العرب أيضاً يشكلون معضلة. سمعت الكثير من الشكاوي عن الأساتذة المصريون وخلافهم وسوء معاملتهم للهنود وبقية الآسيويون. وهذا أمر يسيء إلينا كثيراً. بخلاف المال، هل يجد هؤلاء القوم إيجابية لدينا؟.
رددت عليه أشكره، وأخبره بأني أخشى بأني مخادع أو أعرض أصدقائي لسوء الفهم حينما يفاجئونني بمثل هذا المديح. وناقشت رؤيته للعرب، وطلبت منه أن يتحلى بحسن الظن، لمعرفتي بقلبه الكبير.
كان من المتحمسين للعرب حينما جاء في بادئ الأمر. أتذكر هذا جيداً.





أتساءل مؤخراً عن دور المدارس في التربية أكثر فأكثر. كل ما ينتقده الناس هو المواد العلمية السيئة، والإختصار المخزي للعلوم الدينية واللغة العربية، والمدرسون السيئون. لكن بدون النظر إلى عناصر المدرسة هذه، هل نحتاج إلى إضافة عناصر جديدة ونصممها دون ماض أسود لسوء التدبير؟. حينما أرى الشباب الصغار هذه الأيام، وحتى الكبار، فإني أتمنى لو صحت بأقصى صوتي طالباً أن يعلمون بعض الأساسيات الحياتيه.
لن أتكلم عن المناهج القائمة، فهذا نقاش يجلب لي الغثيان، ويشعرني بالملل، وأنه دون الأولويات بالنظر إلى ما سأتحدث عنه.
ما سأتحدث عنه؟ سأتحدث عن ماذا كنت سأضيف وسأعلم هؤلاء الطلاب لو كان لي من الأمر شيء.
أول مادة ستكون النظافة الشخصية. لماذا نأخذ في اعتبارنا دائما أن مجرد كوننا مسلمين هو شهادة صحية لنا، بأننا أنظف أناس بالعالم؟. لدينا الأساسات بالدين، لكن من المضحك أننا نظل مع ذلك غير نظيفين تماماً، والمبكي في الأمر أننا لا نشكك بحقيقة نظافتنا مهما كان ما فعلناه أو لم نفعله. أتذكر ذات مرة أني تكلمت مع مدير مطعم عن موظفه الذي خرج من الحمام دون غسل يده، وكانا كليهما مصريين(هارديز على ما أتذكر)، فقال المدير من ضمن حججه بأن الرجل مسلم!!!. يا إلهي، هل قذارة المسلم طاهرة إذاً؟!. بالواقع، حتى مع توفير الجامعة مؤخراً بعد انفلونزا الخنازير للصابون في "بعض" حماماتها وكأنما للاختبار، لا أتذكر بأني رأيت شخص يغسل يديه بالصابون بعد الخروج من الحمام سوا مرة أو اثنتين، مهما كانت جنسيته، لكن أغلب المستخدمين للمرافق هم السعوديين، بحكم المكان طبعاً. لماذا؟ الأمر غير مهم إذ لم يتعودوا، لا يعرفون ضرورته. حتى معقمات الأيدي التي لا تحتاج إلى الماء، التي وزعت على المكاتب، حالما خف زخم الحمى صارت فتحاتها تنسد لانعدام الاستخدام.
كما أن الناس أنفسهم تكون روائحهم أحياناً جالبه للمرض. يمكنني قول أن بعض الأجانب روائح أفواههم سيئة نتيجة لنوعية طعامهم، وعدم مراعاتهم لعدم تعودنا، وربما حتى روائح أجسادهم بالنسبة للبعض، وهذا راجع على الأغلب لخلفياتهم الحياتية في بلدانهم. لكن نحن، من نتأذى، هل نحن أفضل منهم أم أن ثيابنا فقط هي النظيفة؟. تفوح أحياناً روائح العرق، حتى لتتسائل هل يستحم من أمامك أبداً؟ هل يضع على جسمه ما يسيطر على الروائح الطبيعية حال الإجهاد؟ هل يعرف العطر بخلاف وضعه عند الدعوات والولائم؟. هل يعرف كم أسنانه قذره ومثيرة للاشمئزاز؟. هل يهمه أصلاً؟ ترى كتل الطعام متراكمة منذ، يعلم الله، أيام الأسنان اللبنية التي سقطت عن الأوساخ لتلبسها الأسنان الدائمة.
أما استخدام الأدوات العامة، فهذه طامة. وهي تزداد سوء مع الوقت، بمعنى أن الأجيال تتردى. إن الدخول إلى حمام عام هو بمثابة سبب من أسباب الحنق والحقد على المجتمع. ليس الأمر فقط من غلط الجهات الرسمية، التي لا توفر أحداً لتنظيف الحمامات، لا، بل حتى حينما يوفر هؤلاء العاملين لا يتحسن الوضع كثيراً. إذ قد تدخل حماماً تعلم يقيناً بأنه حديث عهد بالغسل والتعقيم، سوا أن من قبلك لم ينظفه بعد استخدامه له قبل أن يخرج. لا أريد أن أقرف من يقرأ، لكن الأمر خطير من جهات كثيرة؛ صحية، وأدبية، واجتماعية، وحتى دينية، فلو كنت كافراً لا قدر الله لا أدري هل كنت سأسلم بعد دخول حمام بعد شخص مسلم هنا؟! هؤلاء الذين يتغنون بالوضوء خمس مرات باليوم، والاستحمام عن الجنابة، والتطهر عن النجاسة، هؤلاء لا يعرفون تنظيف الحمام قبل الخروج منه. بل إنهم يتصرفون كالأطفال أو أسوأ، إنك تجد نجاستهم قد ارتشقت على أرضية الحمام وجدرانه وهم "يطهرون" أنفسهم.
لا أدري ما مرد الأمر، ولماذا ساء أكثر في حين أن الوضع الطبيعي هو ازدياد الوعي. هل لأن تربية الأبناء تركت للخادمات الجاهلات؟.



أما المادة الثانية، فستكون أداب التعامل مع الناس وأصول التهذيب، ومتى تتحدث أيها المرء ومتى تصمت، وما يقال وما لا يقال، وما يتوقع منك وما لا يتوقع. للأسف، لم يعد ممكناً الاعتماد على الآباء والأمهات في هذا الزمان الكسيف أخلاقياً، فهؤلاء الأباء والأمهات هم بأنفسهم يجهلون هذه الأمور. كل هذا بعدما أصبحت التربية منذ زمن بعيد عبارة عن مجرد شراء الخبز والجبن، وزاد عليها الآن شراء البلاكبيري.


أما المادة الثالثة؛ فستكون لتعليم الهوية وتقدير الذات على النحو الصحيح لهؤلاء الصغار الذين يزدادون حماقة على نحو يحطم القلب؛ بشعورهم المنفوشة، وألسنتهم العيية، و جهلهم بمعنى وجودهم أو إمكانية إضافتهم لشيء. ولتعريفهم بالآخرين كذلك، وكيف يجب أن ينظرون إليهم كأناس مختلفون، ولكن أناس يستحقون الاحترام.
ولن يقتصر الأمر على هذا، يجب أن يفهموا أموراً أكثر تعقيداً، هويتهم كمسلمين كيف يتعاملون معها، ويظهرونها بفخر وتحضر. كما أني أود كثيراً لو يتعلم الصغار عن هوياتهم الجنسية كذلك، كيف يجب أن يشعروا تجاه أنفسهم والآخرين، كيف تتم الأمور بشكل منطقي، وحاجة الجنس للآخر بأي شكل يجب أن تكون لتصبح سليمة. بالتأكيد، سيهمني أن تتم الأمور على نحو يخلو من الإسفاف والمخاطرة، باستمداد الأخلاقية من التقيد بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية وتجارب السلف الصالح، مع جعل الأمور ذات طابع حديث.



يا لسخافاتي، طموح مضحك، وحتى لو كان لي من الأمر شيئاً، لن يرغب الناس بمثل هذه الإضافات.





بلغتني رسالة اليوم من جهة تقدمت إليها للإنضمام إلى نشاط تعليمي فيها، هناك مقابلات، وقد وصلت إلى هذه المرحلة والحمد لله، ما لم يكن هنالك خطأ في الأمر.
لو انضممت، سيكون هذا أمر طيب. لقد حاولت الانضمام قبل سنتين تقريباً، في بداية نشاط الجهة في مجال اهتمامها. وقد قابلني رئيسها، وقد كان متحمس لي ولورقتي التي تقدمت بها، بسبب سوء فهم!!. لقد أساء فهم مشروعي. وفي حين أني كان لدي مشروع احتياطي، إلا أن تأثير خيبة الظن قضى على أي فرصة. لكني على الأقل، خرجت دون أن أفقد الأمل في نفسي؛ وكان السبب أن الدكتور الذي قابلني، رغم خيبة ظنه، إلا أنه أطال التحدث معي، وبدا آسفاً على كوني لن ألتحق، لأنه رأى كما يقول الإمكانيات لدي.
الآن، ما سأتحدث عنه هو مشروعي البديل، الذي صار الأهم. وعسى الله أن يكتب الخير والصالح.


أكتب بعد يوم،
لقد كانت المقابلة كارثة.

مع ذلك، وصلتني بعد أيام رسالة بقبولي "إحتياطياً". هذا عزاء، بالنظر لأدائي السيء. لا أعتقد بأن هناك من أدى أسوأ، لكن ربما أخذ بالاعتبار كوني موظف في الجامعة، وربما أشفقوا علي.






اليوم، رجع بعض الزملاء الذين غادرونا بأوقات متفاوته خلال الشهر الفائت، لأجل الاستعداد للاختبارات وأدائها، فهم يدرسون الآن انتساباً. بقي واحد فقط لم يعد. أما من عادوا، فوجئت بأني بشكل ما اشتقت إليهم، ليس كلهم بالطبع، ولا يعني هذا أني أكره أحدهم، لكني اشتقت على وجه الخصوص إلى اثنين. بالواقع، كنت أعلم بأني أنتظر عودتهم، ولكني لم أعلم بأني سأفرح وأشعر بالراحة للأمر. وهذه مشاعر ساذجة، لا تليق. لكن، لا تضر ما دمت واعياً لها.







وقعت ضحية سوء تصرفي، واضطررت لشراء شيء بسعر مرتفع. كان الأمر أني وجدت قلم للكتابة على شاشات اللمس، التي لا تعمل إلا بالاصابع بالعادة، وهو أنيق وبألوان مختلفة. أردت الأخضر. لكن البائع على موقع سوق يطلب سعر مرتفع، فوق سعر التوصيل من الموقع الذي سيأخذ عشرة ريالات أكثر، رغم أن البائع في الرياض، فيصبح المجموع لأجل قلم أعرف بأنه لن يكلف أكثر من خمسة في سعر الجملة ٣٢ من الموقع. أخبرته بأني أود أن أقابله وأشتريه منه، فقال بأن الموقع سيوصله لي وأنا مرتاح. كان رفض مؤدب. فقلت لا، أنت من سيرتاح فأنت لن تدفع العشرة! وخضنا جدل عقيم، حول عدم عدالة الأمر، وتسببت بإحراج البائع، ولم أنتبه إلا بعد وقوع الفأس بالرأس. والمشكلة أنه لا يمكن حذف الحوار الظاهر على صفحة السلعة. اعتذرت، وقلت بأنه ما كان علي أن أطيل الجدل، وشكرته على سعة صدره، و طلبت اللون الأخضر!. أردت تصحيح غلطتي، رغم أني لا زلت غير مقتنع بعدالة الأمر، لكن لم يرغمني أحد حتى أحرج الناس، لو كان الأمر على البريد خفية لكان أفضل، لكنه أمام الناس وقد يسيء لحظ التاجر. سارع البائع مشكوراً بإرسال القلم. ولما استلمته بدا صغيراً، ولكن جميل، و، لم يعمل على هاتفي!!. رغم أنه يفترض أن يعمل على الشاشات التي تتعامل مع الأصابع (كباستف). خاب ظني، فذهبت وبحثت عن أحد لديه جوال بنفس تقنية اللمس، إذ وصلني في مقر العمل. جربته على آيفون٤، وعمل بأفضل حال. هل العلة من تغييري للملصق الواقي للشاشة؟ لكنه يعمل بأصابعي بشكل ممتاز. أعتقد أن الله يؤدبني فقط.




لم أذهب اليوم إلى العمل كما خططت، كان لدى أمي موعد في المستشفى، وكنت لم أنم تقريباً أبداً في الليلة الفائتة، رغم نعاسي الشديد. وهذه مشكلة، حيث أني لا خلاف لدي حول الذهاب إلى العمل دون نوم حينما لا أكون ناعساً جداً، لكن أن اكون ناعساً ولا أقوى على النوم طوال الليل فهذه مشكلة. خصوصاً أني ملتزم بتدريس ابن اخي مادة الانقليزي قبل امتحانه. قررت إخبار مديري الأصغر بأني لن أحضر وسأحتسب الأمر كإجازة اضطرارية. خصوصاً أني لو ذهبت وعدت من العمل لا أدري إن كنت سأستيقظ لإكمال تدريس ابن أخي، وهذه أولوية. تدريس أبناء إخواني يقصر عمري على فكرة في كل مرة، وإن تباعدت الفترات. لأني أشعر بالأسف كثيراً على إهمالهم طوال السنة ثم توقع أن الأمور ستسير على ما يرام حينما أعلمهم قبل الاختبار بيوم أو اثنين. لماذا لا يطلبون المساعدة مني خلال أوقات الدراسة على امتداد السنة؟. لا، هذا سيطيل بعمري، لعلهم لا يريدون هذا. كدت أن أموت اليوم حينما أخبرني بأنه لم يراجع ويحفظ ما حددته له البارحة، رغم وجود اليوم بطوله وتأخره في الحضور في اليوم التالي، بأعذار واهية، في حين أن الوقت أضيق من أن أضيعه بالتوبيخ.


عموماً، في المستشفى اضطررت للشراء من د.كيف اللص حتى تخرج أمي من العيادة، حيث لا يسمح لي بالدخول معها على خلاف العادة. أردت شوكولاته ساخنة، لكن ليس لديهم منها، وهذا غريب. طلبت كأس شاي صغير جداً بـ٥ ريالات، وأنا من يشتكي من بيع المكينة للشاي العدني بـريالين. المشكلة هي أني لا أريد لا شاي ولا قهوة، حتى الشاي العدني أجبر عليه في بعض الأيام حينما أكون ناعساً جداً، لكن كان يجب أن أشرب شيء دافئ ومنشط حتى العودة إلى المنزل. أضفت إلى الشاي سكر بني، وهو لم يحليه بأي شكل، فكرت بأن السكر البني ربما مزحة أو قطع زجاج أو شيء. أضفت بودرة القرفة، والسكر الأبيض، فأصبح الشاي جيداً حقاً. 
كتبت هناك قصيدة، حيث أن الجو بشكله وطبيعته هذه الأيام يكثف مشاعري كما يكثف ألوان الأشياء، حيث أرى الأشجار حول المنزل أغمق خضرة، والبيوت أجمل وأكثر جذباً للانتباه، ولون كل شيء مضاعف، وكأنما كان كل شيء ميتاً ثم عاد إلى الحياة.



تلك الظروف...
التي تتلف القلب...
تلك الحياة...
التي تعتاش على الكلل...
تلك الظلمة الفاحمة...
حيث أسير...
تحت ظلمة كفيّ خائبي الأمل...
ظلمة المعاناة...
تلك الظلمة المتمددة أبداً...
حيث خيال النور يتبادى في البعيد...
في تلك اللحيظات...
حينما أرفع عن وجهي كفوف الهزيمة...
فأرى نهاراً بعيداً...
كساحل ينحسر أبداً...
أو كمؤمن محرم...
راح يسعى خلف مروىً...
لن يبلغها يوماً...
تاركني لوحدي...
في ظلمة موحشة...
حيث تعمى البصيرة...
ويقتل الأمل...
بلا جريرة...



القصيدة بائسة، ولعلها تتناقض للرائي مع شعوري بالحياة الذي شرحته قبلها. لكن بالواقع؛ هذا سوء فهم، لأن الحياة في الحقيقة كلما ازدادت تجلياً، ازدادت بؤساً.






جاء قبل قليل عمرو، الصديق المصري الطيب في برقركنق. رأى جهازي الجديد من قوقل، وعلق على جماله. عمرو يسأل دائماً عن الأجهزة، وكان معجباً بالنتبوك من لينوفو الذي آل لشخص آخر الآن. أعجبه شكل هذا أكثر، وسأل عن سعره. أعجبه أنه مجاني.
شكل الجهاز جميل عموماً، كل المراجعات التي قرأتها امتدحت تصميمه، لأنه بسيط ويخلو من البهرجة، ويشبه أجهزة أبل. لا يجتذب سطحة أو سطح شاشته البصمات، لأن كليهما ليسا بخامة لامعة ملساء، إنما بخامة مضببه. هذا يجعل شكله أقل لمعاناً، وأكثر تميزاً، ولكن بالنسبة للشاشة، هذا أمر فارق وحاسم. فالشاشة الملساء اللامعة هي الأفضل والأجود لمتابعة الأفلام والألعاب، بينما الشاشة المضببة هي الأفضل للكتابة والقراءة. وكأنما الأمرين نقيضين، وهذا أمر مضحك وساخر. لكني سعيد بأن شاشته من هذا النوع الجيد للكتابة والقراءة، فهذا ما أقوم به أنا بشكل أساسي.


الجهاز مفتوح على صفحة البرامج والروابط المفضلة والمغلقة مؤخراً

في حين يلفت انتباه الناس أول ما يلفته أن الجهاز مجاني، كما يقول أحدهم: البلاش ربحه بين، أنسى دائماً أنه مجاني لسبب ما، ربما لأني لا أفكر كثيراً بقيمة الأشياء بعد أن أشتريها، فهي تصبح غالية بالتساوي لدي. وبقول: البلاش ربحه بين، يظهر أن الكثير من الناس لا تهمهم مواصفات الشيء طالما أنه مجاني.
للجهاز ميزات كثيرة، وهي ستزداد مع الوقت إن شاء الله، فالنظام حالياً غير مكتمل تماماً، ويخضع للتحسين باستمرار. الجميل هو أن التحديثات تلقائية. ويوجد كذلك سوق البرامج. وهو حالياً غير متطور تماماً لأسباب كثيرة، لعلها تختلف مع الوقت إن شاء الله. لكن يوجد ما يفي بالغرض عموماً.
الشيء الذي أنتظره بفارغ الصبر هو تفعيل العمل على مستندات قوقل، وربما حتى بلوقر، بدون الاتصال على الانترنت. كان الأمر قابل للتطبيق قبل فترة، ولكن قوقل أوقفته لتطور التقنية وتحسنها، بالاعتماد على لغة برمجية متطورة.


الخط العربي على الجهاز لا يزال غير قابل للتغيير
 لكن من الجيد أن اللغة العربية تتوفر منذ البداية والنظام تجريبي
الجهاز جيد ورائع لمن يقضي وقته على الانترنت في معظم استخداماته، أي كأغلب المستخدمين العاديين، وهو جيد على وجه الخصوص لمن لديهم رؤية تقدمية وعملية في استخدام التقنية، فأنت ستحصل على ميزات، ولكن يجب أن تتأقلم مع بعض التغيرات. فأنت لن تستخدم مثلاً مايكروسوفت أوفيس بالشكل المعتاد، وستلجأ على الأغلب إلى مستندات قوقل، وهي من البدائل المجانية للأوفس بمميزات مشابهة وأخرى متقدمة. ولن تلعب الألعاب إن كنت من اللاعبين الجادين على الكمبيوتر سوا إن كانت من ألعاب الشبكة مثل ترافيان وخلافها. وستحصل على ألعاب مطورة خصيصاً للكروم، متصفح ونظام تشغيل، لكنها بسيطة حالياً. ولن تتمكن من وضع الاسطوانات، فلا يوجد لها مكان، لأن قوقل تريد أن تدفع بالمستخدم نحو المستقبل، بحيث يعتمد على الشبكة في تخزين ملفاته واستعادتها. وهذا أمر أروع مما تتخيليون. لا احمل ذاكرة فلاش معي لأعمل على كتاباتي، فأنا أدخل عليها وأكملها من أي جهاز حاسب.


هذا المودم الكونيكت(باللون الأسود) موصولاً بالراوتر الذي يجعل الانترنت لا سلكي
 وقابل للاستخدام من أكثر من جهاز


النقطة الأخرى هي أنكم ستضطرون إلى إعادة صياغة أوقاتكم عند تشغيل الحاسب، لكن على نحو إيجابي. فلن تنتظر وقتاً طويلاً يجب أن تملأه بالتأفف أو تقليب الأوراق حتى يعمل الجهاز، فهو يعمل تقريباً مباشرة عند التشغيل، وعند إيقاظه من وضع الإنتظار يعمل فعلياً مباشرة، فلا وقت لتضييعه وهذا أمر مبهج. تخيل أنك تريد أن ترى البريد في ساعة متأخرة قبل أن تنام، أو تريد أن تقرأ شيئاً أو تتأكد من شيء، لن تحمل هم تشغيل الجهاز بعد الآن.


صورة مقربة لصفحة البرامج والروابط، يمكن تغيير شكل الطابع العام للجهاز
 بأشكال كثيرة من متجر كروم

أصفه كجهاز العارفين ماذا يريدون تماماً، العمليون الذين لا يريدون خلاف ما يقدم، ولا يريدون الدفع لخلاف هذا أيضاً. فمعلمة مثلاً، لماذا تشتري جهازاً غالياً، يفسده أبناؤها باللعب ووضع الاسطوانات المعارة عليه، وتفسده فيروسات ملفات بناتها (الطلبات) معظم الوقت، حينما يحضرن النشاط على ذاكرة فلاش من بيوتهن. ولا تعرف كيف تحميه من الفيروسات ولا كيف تحدث مضادات الفيروسات، ولا ماذا يقول لها مضاد الفيروسات أصلاً. لماذا كل هذا، وهي تريد فقط أن تكتب الأسئلة، وتستخدم الباوربوينت، وتجمع المعلومات من الشبكة؟.

أماكن الحروف لا تختلف عن لوحة المفاتيح العادية، بيد أنه لا يوجد حروف عربية مطبوعة، وهذه ليست مشكلة لمن يطبع دون نظر، ويمكن حلها مع ذلك بملصقات للحروف تباع بالسوق، أزرار فنكشن في الأعلى غير موجودة، يوجد بدلاً عنها بعض الأزرار التي تساعد في التعامل مع المتصفح كالتقديم والرجوع والجهاز كالتحكم بالصوت واللإضائة. وتم استبدال زر الكابس، الذي يجعل الحروف أكبر، بزر للبحث، ولكن هذا خيار يمكن تعديله.


كذلك، هو لذوي الشجاعة على الاختلاف وفهم الأشياء المختلفة عن المعتاد، الذين لا يشعرهم مجرد الحصول على ما يحصل عليه الآخرين بالأمان، فأي أمان والأجهزة المعتادة دائماً معرضة للفيروسات، بينما هذا لا؟ فهذا النظام حتى إن أصابه العطل، فإن قوقل أعدته على ترميم نفسه عند الحاجة عن طريق الشبكة، فحتى هذا لا يجب أن تحمل همه. إن كل ما عليك القيام به هو استخدام الجهاز فقط، متابعة شئون حياتك عليه، لا رعايته والخوف من تحمل مسئولية أي خطوة لا تعرفها على حساب عمل الجهاز.


شكل الجهاز جميل بخامته المطفية وتصميمه البسيط بلا شعار

وهو لمن يريد العمل بسرعة، الوصول إلى ما يريد بسرعة. فليست الأجهزة للنظر إليها دون عمل حتى تشتغل، سيصبح الجهاز بعد فترة مملاً، ويصبح العمل المتأخر هو الأهم، لا شكل الجهاز.



إني سعيد جداً بالجهاز، والحمد لله أني حصلت عليه، فلست أتخيل انتظار إصداره للبيع.

قوقل تحب من يحبها بوضوح. هل يا ترى ستحبني رينو في يوم من الأيام؟ آآآآه لاقونا...







اتصلت بالدكتور الألماني اليوم، كان مرهقاً، لتوه خرج من منتدى التنافسية الدولي المعقود في الرياض. لم أكن أعلم بأنه سيذهب، رغم أنه كان يجدر بي توقع ذلك. ما دفعني للاتصال هو أنه لم يجب رسالتي هذا الصباح، حيث أرسل عادةً في منتصف الأسبوع لأنسق لموعدنا في نهاية الأسبوع إن كان بإمكانه رؤيتي. لحسن الحظ، لن يسافر نهاية هذا الأسبوع. قال بأنه يريد أن يدعوني للغداء، كالمرة ما قبل الفائتة. لم ينسى أنه أراد هذا، من الواضح أنه يريد أن يعوضني عن المرة الأخيرة حينما لم نتمكن من الجلوس للتحدث، إذ قال في ذلك الحين أنه يريد أن يدعوني للغداء. وقال بأنه يريد أن يسمع نصوصي كذلك، حيث كانت الخطة هي أن أقرأها له بأنانية في المرة الفائتة. للأسف، لم يعطوه جهاز آيباد، ومن الواضح أنه لم يسعى للأمر. حزنت حد التلوي، مما أضحكه.







غداً سيكون يوم متعب لأمي في المستشفى، عسى الله أن يعينها ويهون تعبها.

تذكري رأسي الصغير في حضنك ذياك المساء...
حيثما كان البرد والندى لنا غطاء...
حينما هدهدتي ضعفي دون نوم بينما الوقت سرى...
بين ذلك اليوم والآن عمر انقضى...
وكأنما الزمان تعدانا إذ جرى...
إذ ظللنا نفتش في جال المطاريق عن أمل انتهى...
وما انتبهنا إلا والحياة كخرز إذ همى...
تفرق شمله لا يتلامس كالنجم في السما...
والقلب ما عاد بطاقته الحزن والبكا...
ما عاد بالقلب حيز إلا لخيال قد غفى...
إيه يا أمي إذ القدر انقضى...
كتب علينا الله الرحيم البؤس والشقا...
لتغفي الآن على كتفي...
عسى أن لا يوقضك نبض صخيب في قلبي...
أنا أحميك...
فاحلمي...
دعي الذكريات تسري وللهم لا تحملي...
تذكري...
طفلة يتيمة...
كانت محاطة بقلوب رحيمة...
وجنة برّية...
وسلة صغيرة تملأها بالكمأ...
وتستطعم الفطر على جال صافي السواقي...
كان زمان بكل شيء امتلأ...
صحراء وكلا..
حنان وجفا...
ولكنه لم يطل...
حتى لم يعد سوا نصفه...
كراهية وشقا...
قهر وبكا...
ثم بعد حين...
أنا...
ولم أكن كثيراً...
لكن ها أنا...
اطمئني...
فأنا هنا...
لعل حبي يا أمي يغسل الشقا...
وإن كان قلبي أيضاً مثقل بالعنا...
لكن حبي صافٍ...
كبئر خبرتيها...
كان الناس يقصدونها للارتوا...
لم أكفك...
ولن أكفيك...
لن أنسيك...
ليتني ولكن  حتى لن أعزيك...
لكن ها أنا...
سأظل هنا...
سأظل هنا...





أتنبأ بأني سأقع على وجهي قريباً. حذائي تالف، وويلتوي للأسفل أحياناً فأدوسه متعثراً. المشكلة أني لم أجد الحذاء المناسب رغم أني بحثت جيداً. ربما سأذهب مع أختي إلى سوق كبير وأرى. أفكر في ماركة تودز، لكني أعتقد أنها ستكون مرتفعة السعر جداً.




لسبب ما يتمكن مدير الجامعة من سحر الكثير من طيبي القلوب. كان أمس موعد لقاءه مع الموظفين والدكاترة، وقد أتى ببعض الأفكار الصادمة كما سمعت، لكني لا زلت لا أثق به. وكأن هذا سيصنع فرقاً.





يرصف الآن طريق الملك عبدالله قرب جامعة الملك سعود. تابعت الأمر من أمام برقر كنق، حيث أحصل على جرعتي اليومية من الكولا العالي الجودة.
الرصف أنيق وجميل، وبعد يومين من انتهائهم منه، تم تفكيك أجزاء كبيرة منه! حفر مربعة خطيرة، تظهر مواسير في باطن الأرض. الواضح هو أن المقاول الذي كلف بالرصف، كلف بهذا قبل المقاول الذي كلف بالأعمال تحت الرصيف، في خطوة غير منطقية، بل تعبر عن غباء مطبق، لا يحتج عليه أحد، رغم أنه يحدث في كل الأحياء وفي كافة المشاريع.







قابلت الدكتور الألماني أمس. وقضينا وقتاً ممتعاً. أخبرني عن منتدى التنافسية، حيث كان أكثر متحدث أثار إعجابه هو بِل كلنتون، رئيس أمريكا لفترتين في وقت سابق. حكى لي عن أفكار الرئيس الجيدة، وعن كونه شخص ذكي جداً، وملاحظ دقيق، وذو نوايا طيبة. قلت بأني أعتقد بأنه ذكي بالفعل، لكن لا أظن بأن نواياه طيبة، لقد حكم لفترتين، ولم يصحح الكثير من الأشياء، فأمريكا، والغرب بعمومه، لا يمكن أن ينوي الخير لنا أبداً، هذا ما أعتقده، لأن هذه هي طبيعة الأمور، يجب أن ينوي المرء الخير لنفسه، لا أن ينتظر الأخرين لينووه عنه. قلت هذا ثم واصلت: ما يجري هو أننا نعتمد كثيراً على الغرب في تصحيح الأمور، ننتظر الآخرين دوماً ليقوموا بالأمور لأجلنا، ونتوقع أن هذا واجبهم لا واجبنا نحن. لقد خرج مفتي من أحد الدول العربية، حينما شجب بابا الفاتيكان تفجير المسيحيين في بلداننا، ولام البابا على الأمر، متسائلاً لماذا لم يشجب البابا التفجيرات التي تطال المسلمين، وهو يعتقد أنه يفضح البابا هكذا، بينما هو يفضح غباؤه، فالمسلمين ليسوا رعايا البابا، لماذا نتوقع من الآخرين دوماً العناية بنا والاهتمام لأمرنا؟!. إني أشعر بالقرف من إعتمادنا المعنوي على الآخرين، الذين لا يهمهم صلاحنا.
بعد هذه الخطبة المشحونة، تفكر الدكتور للحظات، ثم قال بأني محق، إن الاعتماد على الآخرين الذين لا يملكون النوايا لتصحيح الأمور أمر سيء.


رفض الدكتور أن يتركني أحاسب، وهذا أمر مقلق، ففي المرات الأخيرة كلها يرفض قطعاً أن أدفع الحساب، وهو يقول دائما عند هذا الموقف بعدما يفرض رأيه ويبدأ بإخراج المال، وكأنما يحدث نفسه:"لم يكن يجب أن أدعك تدفع الحساب من قبل". وكلما سألت لماذا؟ تأتيني الإجابة المعتادة؛ هو أكبر مني، ومن واجبه أن يدفع. لكن في المرة الأخيرة اختلفت الإجابة، واكتسبت تفاصيلاً أكثر: ففضلاً عن كونه أكبر، هو يملك مال أكثر، وهو يأخذ هذا المال من بلادي!. ناقشته بالأمر بلا فائدة. يجب أن أجد حلاً، لا يمكنني أن أكون عالة عليه حينما أراه. في المقهى، بعد الغداء، بعد أخذ ورد حول دفع الفاتورة، لم يستطع قرائتها، فقد كتبت بخط باهت، فسلمني إياها، واحتفظ بمحفظة الفاتورة بيده. كانت حيلة مضحكة.


سألته في وقت لاحق، إن كان بإمكانه إحضار شيء لي من ألمانيا؟ قال بالتأكيد، وسألني ماذا أريد؟ أخرجت مبلغ من المال، ورفض أخذه، فرفضت التحدث. ولم استمر بالعناد، فقط قلت لا حاجة إذا للأمر، وصَمَتُ، موحياً بأني لا أنوي متابعة الأمر. تغيرت تعابير وجهه، ورغم أنها لطيفة دائماً إلا أنها أصبحت ألطف، حثني على أن أتحدث، ولكني قلت بأنه لم يكن شيئا مهماً، وطلبت منه أن لا يحمل همه، فبدت عليه خيبة الأمل، وسألني بلطف أكثر أيضاً، وكأنه بالواقع قد جرحني ويريد تطييب خاطري، وحثني باهتمام صادق وحثيث بأن أخبره بما كنت أريد. وشرح لي بأن الأصدقاء لا يعطون بعضهم المال هكذا، فحينما يأتي بما أريد منه يمكننا التحدث حول المال، لكن إعطائه المال منذ الآن يجعل الأمر وكأني أشتري منه، وكأنه بائع وليس صديق، كما أنه سيأخذ مني المبلغ حتى لا أكف عن طلب الأشياء منه. شوشني كلامه، ولكني التزمت الصمت. ثم ابتسم وسأل إن كان شيء الكتروني؟ قلت لا، قال شيء يؤكل؟ قلت لا، ثم ابتسم وكأنما يمزح وقال: قبعة بافارية؟ قلت نعم. فاتسعت عينيه وقد فوجئ، وقال: هذا ما تريد؟ قبعة بافارية فقط؟ قلت نعم. كنت قد أخبرته بوقت قديم بأني أعتقد بأنها قبعات جميلة. شرحت له هذه المرة بأنها كانت أمنيتي منذ أن كنت طفلاً صغيراً، أن أحصل على واحدة. وسألني أي شكل أريد؟ قلت بأني لا أعرف، لم أفكر من قبل بالأشكال المختلفة، لأنها كانت تبدو لي دائما ذات طابع موحد باختلافات يسيرة، بيد أني ملت إلى ذات الريشة، لكني لم أكن متأكداً. اقترح علي بضعة اقتراحات، ثم اتفقنا على أن يختار ما يراه ملائماً.


خرجنا بعدما قرأت له بعض القصائد التي كتبت، لكن كانت إحداها قصيدة قالتها أمي، وهي قصيدة رقيقة وحزينة ككل قصائدها الجميلة والمؤثرة تأثير المنامات الكاشفة.







سعد الحوشان